تفسير من وحي القرآن - ج ٤

السيد محمد حسين فضل الله

ولذلك كان من الضروري أن يفكر المسلم أو المسلمة بالعناصر الروحية الداخلية التي تثير الإعجاب الإيماني والعقلي بالإضافة إلى العناصر الخارجية.

(أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) لأنهم يدعون إلى الشرك في العقيدة أو العبادة ، الذي لا يغفره الله لصاحبه إلا إذا تراجع عنه ، ويتحركون في حياتهم من دون أية قاعدة فكرية عاصمة من الانحراف الأخلاقي أو الاجتماعي ، مما يدفعهم إلى التمرد على كل القيم الإنسانية المنفتحة على التعاليم الإلهية ، التي ترتفع بالإنسان إلى الدرجات العليا في السمو الروحي الذي يقترب به الإنسان من الله ، وبذلك يستحقون دخول النار فيجرّون معهم أزواجهم وذرياتهم وكل الناس الذين يعيشون معهم ، ويلتزمون بخطّهم الذي يقودهم إلى الضلال المندفع نحو النار.

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) أي بأمره ، من خلال معنى الإيمان الذي ينفتح على الله ، وعلى كل مواقع رضاه ومواقع القرب منه ، الأمر الذي يقود إلى المغفرة في خط التوبة ، وإلى الجنة في خط الإيمان والعمل الصالح ، فيلتقي عليه الناس الذين يلتزمون الإيمان ، ليدخلوا في رحمة الله وجنته ، كما قال الله سبحانه (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤]. وهذا ما ينبغي للإنسان المؤمن أو الإنسانة المؤمنة مراعاته في اختيار الزوجة أو الزوج ، حتى تقوده أو يقودها إلى الجنة لا إلى النار ، ليقتربا من الله ـ سبحانه ـ الذي يهديهم سواء السبيل.

(وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ليقربهم إليه من خلال تقريبهم إلى الإيمان به من خلال آياته الظاهرة البينة التي تؤدي إلى القناعة ، وترتكز على الحجة الواضحة التي لا تسمح لأي لبس أو اشتباه. وذلك هو دور الآيات ، فإنها تنقذ الإنسان من غفلته ، وتدفعه إلى أن يتذكر كل القضايا الحية

٢٤١

المتصلة بحياته وبمصيره ، ليتوازن في نظراته إليها وفي التزامه بها في الواقع العملي.

* * *

الفارق بين أهل الكتاب والمشركين

وقد يستدل بعض الفقهاء بكلمة (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) على حرمة الزواج بغير المسلمين ، لأن أي دين أو اتجاه آخر غير الإسلام ليس مقبولا عند الله وهو خاسر في الآخرة ، مما يعني أنه يدعو إلى النار. وفي ضوء ذلك ، فإنها تدل على حرمة الزواج بأي كافر أو كافرة ، سواء كان كفرا بالله أو بوحدانيته أو برسوله أو باليوم الآخر ، حتى لو كان الكافر كتابيا.

ولكن الظاهر من الدعوة إلى النار ، أنها منفتحة على الشرك الذي لا يغفره الله وعلى الخط الفكري الذي لا يؤمن باليوم الآخر. وهذا قد لا ينطبق على الكافرين بالرسول الذين يلتزمون دينا آخر كاليهود والنصارى ، لأن لديهم عناوين توحيدية دينية خاضعة للإيمان باليوم الآخر ، الذي تتحدد فيه مواقع أهل النار وأهل الجنة عندهم ، مما لا يجعل الموقف لديهم مصداقا للدعوة إلى النار ، بقطع النظر عما إذا كانت دعوتهم الدينية مقبولة عند الله أو غير مقبولة. ولعل ذلك هو ما جعل الإسلام يفرق في أحكامه بين المحلدين والمشركين من جهة ، وأهل الكتاب من جهة أخرى ، لوجود كلمة سواء مع أهل الكتاب ليست موجودة عند الملحدين والمشركين ، وهي توحيد الله والإيمان بالرسالات ، مع الاختلاف في بعض التصورات اللاهوتية والمفاهيم العقيدية والأخلاقية.

* * *

٢٤٢

الآيتان

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٢٣)

* * *

معاني المفردات

(الْمَحِيضِ) : المحيض : كالمعيش ، أي : العيش. وهو لغة : السيلان. وشرعا الدم الخارج من أقصى الرحم في وصف مخصوص في زمن مخصوص. وقد يراد به مكانه ، كما قد يطلق على زمانه ، وذلك من خلال تفسير المحيض في قوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) بذلك.

(أَذىً) : الأذى : الضرر النفسي أو الجسدي ، الدنيوي أو الأخروي. قال الراغب : فسمي المحيض أذى باعتبار الشرع وباعتبار الطب (١) ، وربما كان

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ١١.

٢٤٣

ذلك باعتبار القذارة والرائحة الكريهة.

وقد ناقش العلامة الطباطبائي في إطلاق الضرر على الأذى ، قال : فإنه لو كان هو الضرر بعينه ، لصح مقابلته بالنفع ، كما أن الضرر مقابل النفع ، وليس بصحيح. يقال : دواء مضرّ وضار ، ولو قيل دواء مؤذ أفاد معنى آخر. وأيضا قوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) [آل عمران : ١١١] ، ولو قيل : لن يضروكم إلا ضررا لفسد الكلام ، وأيضا كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في أمثال قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) [الأحزاب : ٥٧] ، وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [الصف : ٥] ، فالظاهر أن الأذى هو الطارئ على الشيء غير الملائم لطبعه ، فينطبق عليه معنى الضرر بوجه (١).

وقد يخطر في البال أن الترادف بين الألفاظ لا يوجب استعمال أحد اللفظين في مقابل الآخر ، لأن من الممكن أن يكون للمعنى الواحد في لفظ بعض الخصوصيات التي لم تلاحظ في اللفظ الآخر الذي يختزن خصوصية أخرى ، كما في كلمة إنسان التي تقال في مقابل الحيوان أو الجن ، وكلمة بشر التي تقال في مقابل الملك ، مع ملاحظة أن الأذى يمثل جانبا من الضرر ، وذلك من خلال النتائج النفسية والجسدية.

(فَاعْتَزِلُوا) : اجتنبوا. والاعتزال : أخذ العزلة ، والتجنب عن المخالصة والمعاشرة ، والمراد به في الآية : ترك الاتصال الجنسي بالحائض.

(يَطْهُرْنَ) : التطهر : النقاء وانقطاع الدم. أما على قراءة التشديد (يطّهرن) فقد تعني الغسل.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ٢١١.

٢٤٤

(تَطَهَّرْنَ) : قد يراد به النقاء : من الحيض ، باعتبار أنه يؤدي إلى طهارتها منه ، وقد يراد به : الاغتسال بعد النقاء.

(حَيْثُ) : ظرف مكان يوضحه ما بعده. واختلف في تشخيص المراد ، هل هو المكان الذي أمر الله بتجنبه وهو الفرج ، أو الجهات التي يحل فيها مقاربة المرأة في مقابل الجهات التي لا يحل فيها مقاربتها كما إذا كنّ محرمات أو صائمات.

(أَنَّى) : من أين شئتم ، أو متى شئتم. فإن (أَنَّى) من أسماء الشرط ، الذي يستعمل في المكان ، ويستعمل في الزمان. وذكر الراغب في مفرداته أنها تأتي للبحث عن الحال والمكان ، ولذلك قيل : هو بمعنى أين وكيف (١). وأضاف إليها في تاج العروس (حيث) وذكر احتمال الآية للوجوه الثلاثة (٢).

(حَرْثٌ) : موضع الحرث كالأرض التي تستنبت. شبهت بها النساء ، لأنها منبت الولد كالأرض للنبات : فبالنساء زرع ما فيه بقاء الإنسان كما أن الأرض زرع ما فيه بقاء أشخاصهم. قال الراغب في المفردات : الحرث : إلقاء البذر في الأرض وتهيّؤها للزرع ، ويسمى المحروث حرثا. قال الله تعالى : (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) (٣) [القلم : ٢٢].

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٢٥.

(٢) الزّبيدي ، محمد مرتضى الحسيني ، تاج العروس من جوهر القاموس ، ت : إبراهيم الترزي ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ١٣٨٥ ه‍ ـ ١٩٦٥ م ، مادة : أنى.

(٣) مفردات الراغب ، ص : ١١١.

٢٤٥

مناسبة النزول

روى مسلم والترمذي ، عن أنس بن مالك ، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ، ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ، فأنزل الله عزوجل : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «جامعوهنّ في البيوت ، واصنعوا كل شيء إلا النكاح» (١).

وروى الشيخان ـ البخاري ومسلم ـ وأبو داود الترمذي عن جابر قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها ، أي يأتي امرأته من ناحية دبرها في قبلها : إن الولد يكون أحول ، فنزلت : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الآية وقال مجاهد : كانوا يتجنبون النساء في الحيض ، ويأتونهن في أدبارهن مدة زمن الحيض ، فنزلت الآية. وروى الحاكم عن ابن عباس قال : إن هذا الحي من قريش كانوا يتزوجون النساء ، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات. فلما قدموا المدينة ، تزوجوا من الأنصار ، فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا يفعلون بمكة ، فأنكرن ذلك وقلن : هذا شيء لم نكن نؤتى عليه ، فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنزل الله تعالى في ذلك : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الآية (٢).

وربما اختلف الفقهاء والمفسرون في استيحاء الآية في مسألة الوطء في الدبر ، من ملاحظة روايات سبب النزول ، بالإضافة إلى ما فهموه من كلمة (أَنَّى) أو كلمة (حَرْثٌ) ، لأن الآية نزلت من أجل معالجة الواقع اليهودي ، مما كان يعتقده اليهود من إتيان المرأة في القبل من جهة الدبر ، أو الواقع

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ١ ، ص : ٦١٨.

(٢) انظر : م. ن. ، ج : ١ ، ص : ٦١٨ ـ ٦١٩.

٢٤٦

القرشي المكي من إتيان النساء في أدبارهن زمن الحيض ، فإن استيحاء الآية في هذا الجانب أو ذاك على نحو التعيين ، يتوقف على تحديد سبب النزول ، وليس ذلك من جهة أن أسباب النزول تحدّد مدلول الآية ، بل لأنها ـ في بعض الحالات ـ قد تفسر بعض إجمالها كما في مثل هذه الآية.

* * *

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ)

كانت هناك مشكلة تراود المسلمين في علاقتهم بالنساء في حالة الحيض ، ـ وهو الدم الذي تراه المرأة بشكل دوري في موعد معين من الشهر ـ فقد كانت هناك بعض التصورات والعادات التي تعتقد أن المرأة تتحول ـ في هذا الوقت ـ إلى إنسان نجس ، فكانوا يمتنعون عن مخالطتها ومؤاكلتها ومشاربتها ... مما يجعل منها عنصرا معزولا عن المجتمع ، في ما تذكره بعض الأخبار ، وقد كان هذا مصدر حرج شديد على الناس. وجاء الإسلام بتشريعاته المتنوعة في شؤون الحياة ، وعاش المسلمون هذه المشكلة في هاجس يلح على الحل الأمثل الذي يخلّصهم من هذا الإزعاج ، فكان هذا السؤال تعبيرا عن ذلك.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) عن الموقف الذي يتخذونه من هذا الدم ، الذي تراه المرأة ، الخارج منها في العادة الشهرية المعروفة لدى سائر النساء ، وهو الدم الذي يتجمع شهريا في العروق الداخلية للرحم من أجل تقديم الغذاء للجنين المحتمل ، ذلك لأن مبيض المرأة يدفع كل شهر بويضته إلى الرحم ، وفي الوقت نفسه تمتلئ عروق الرحم بالدم استعدادا لتغذية الجنين ، فإذا انعقد الجنين ، يستهلك الدم لتغذيته وإلا يخرج بشكل دم حيض.

هل تتحول المرأة إلى إنسان قذر لا بد من اجتنابه والابتعاد عنه من

٢٤٧

خلال قذارة الدم؟ وكيف يعالجون أوضاعهم مع نسائهم في مثل هذه الحال؟.

فقد كان اليهود يتشددون ـ كما ذكرنا في أول الفصل ـ ويفارقون النساء في المحيض في عملية عزل ومقاطعة في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع. وهناك في التوراة أحكام شديدة في أمرهن في هذه الحال ، وحرّمت التقرب منهن في المجلس والمضجع والمس ونحو ذلك ... وأما النصارى فلم تكن لديهم مشكلة في أي جانب من هذه الجوانب بل يجدون حالهن في هذه الحال كبقية الحالات الأخرى.

وجاء الجواب حاسما يضع القضية في نطاقها الطبيعي (قُلْ هُوَ أَذىً) فإن هذه الحالة لا تزيد عن أية حالة طبيعية من حالات الجسم التي يقتضيها نظامه المحدّد ، ولكنها تختلف عن الحالات الأخرى بأنها تتمثل في نزول الدم الذي يحدث حالة من الأذى ، التي تلتقي ببعض آلام العادة الشهرية من جهة ، وبالقذارة التي تصيب الجسد في هذه الحالة ، وببعض الجوانب النفسية الأخرى ... ولذلك فإنها لا تحدث أي تأثير سلبي في الوضع العام للمرأة في المجتمع ، فلا توجب نجاسة جسدها ، ولا تؤثر في الجو الذاتي لشخصيتها ، بل كل ما هناك أنها تجعل من العلاقة الجنسية شيئا غير مرغوب فيه ، من خلال قذارة المحل من جهة ، أو من خلال استعداد الجسد لدخول الميكروبات ـ كما يقول البعض ـ من جهة أخرى ... وربما كانت هناك جوانب أخرى تتصل بالحالة النفسية غير المريحة في هذا الوقت. وقد أجمل القرآن هذه المعاني بكلمة (أَذىً) التي تشير إلى الجوانب الصحية والمعنوية.

فقد ذكر البعض ـ في الطب المعاصر ـ أن المقاربة ، في حال الحيض ، قد تؤدي إلى عقم الرجل أو المرأة ، وإلى إيجاد محيط لتكاثر جراثيم الأمراض الجنسية مثل السفلس والالتهابات الداخلية للأعضاء التناسلية للرجل والمرأة ، ودخول مواد الحيض المليئة بميكروبات الجسم في عضو الرجل. هذا بالإضافة إلى أن الحيض يحدث آلاما والتهابات حادة في أعضاء التناسل لدى

٢٤٨

الأنثى ، مما يجعل من الجماع إيذاء لها من خلال ما يضفيه من الآلام وغير ذلك.

وعلى هذا الأساس ، كان الأمر الإلهي باعتزال النساء في حالة الحيض : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ، لأن المقاربة بين الزوج وزوجته لا بدّ من أن تكون في وضع طبيعي من الناحية الجسدية بحيث لا تؤدي إلى ضرر لأيّ منهما ، ومن الناحية الروحية بحيث تنفتح على الراحة النفسية المزاجية في انفعال كل منهما بأجواء الرغبة الجنسية ، من دون أية حالة منفّرة. وهذا مما لا يتناسب مع حالة النساء في حال الحيض التي تترك أكثر من تأثير سلبي على الطرفين معا.

(وَلا تَقْرَبُوهُنَ) وهو كناية عن الترك بأسلوب أكثر تأكيدا ، لأن النهي عن القرب أمر ضمني بالابتعاد الذي يوحي بالمقاطعة ، ولكنها ليست القطيعة الكلية في عزل المرأة عن المجتمع ، بل الاجتناب عن مواقعتها في العلاقة الجنسية ، فليس لهم أن يمارسوا العلاقة معهن. وبذلك فقد اقتصر الإسلام على تحديد هذه العلاقة من خلال هذا الأذى الطبيعي ، الذي قد يتحول إلى أذى جسدي ومعنوي للرجل والمرأة ، وأبقى للمرأة وضعها الاجتماعي مع زوجها وأولادها وسائر الناس ، فاحترم إنسانيتها لأن هذه الحالة لا تترك أي تأثير على أي عنصر ذاتي من عناصر شخصيتها الفردية والاجتماعية ، لأن قذارة عضو في الجسد لا تعني قذارة الإنسان في تفاعله مع المجتمع وتفاعل المجتمع معه ، لا سيما في الحالات الطبيعية التي لا تمثل أية حالة سلبية في الإنسان من حيث عقله وحركته الخاصة والعامة ...

فليس هناك إلا الاعتزال لهن في حال الحيض في العلاقة الجنسية (حَتَّى يَطْهُرْنَ). والطهر : النقاء من الدم ، باعتبار زوال المسبب بزوال السبب ، فإذا كان دم الحيض هو الأساس في حرمة الجماع ، فلا بد من زوال الحكم بنقاء المرأة من الدم. (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) وقد يراد به تأكيد القضية الواردة في الفقرة

٢٤٩

السابقة باعتبار أن نقاء المرأة من الدم طهور لها ، فكأنها تتطهر بالنقاء كحالة طبيعية في الواقع الجسدي وبذلك يجوز للإنسان ، على هذا الوجه ، مقاربة زوجته بعد النقاء وقبل الغسل. وربما يراد من التطهر الغسل ، غسل الحيض ، أو غسل الفرج لإزالة القذارة. ولكن الأقرب إلى أجواء الآية ، هو المعنى الأول ، باعتبار أنها ظاهرة في الرخصة بعد المنع على أساس ارتفاع المانع الموجب للحرمة. أما مسألة غسل موضع الفرج أو الاغتسال ، فقد تقتضيهما طبيعة الحالة النفسية التي لا تقبل على الموضع القذر إلا بعد غسله. لأن الناس قد يتعاملون مع آثار القذارة في المحل كتعاملهم مع القذارة نفسها ، لذلك تراهم يعملون على إزالة الأثر حتى بعد زوال العين. وفي ضوء ذلك ، يمكن أن تكون إرادة هذا المعنى ـ على التقدير الآخر ـ مطلقة من الحالة الطبيعية للإنسان ، لا من خلال الشرط الشرعي للرخصة. وعلى كل حال ، فإن الحرمة ترتفع بارتفاع هذا الأدنى وزوال تلك القذارة ، فيمكن للناس العودة إلى الوضع الطبيعي في علاقتهم بالنساء.

(فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ). وهذا أمر وارد على سبيل رفع الحرمة ، فلا دلالة فيه على الوجوب ، تماما كما في كل أمر وارد بعد الحظر أو في مقام توهمه. أما تحديد الإتيان بكونه (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) فقد يكون المراد منه الإشارة إلى الفرج الذي أمر بتجنبه ، وقد يفسر بأنه إشارة إلى طبيعة الجماع الذي أمر الله به في تقرير النظام في حياة النوع الإنساني ، فليس هو من قبيل الأفعال التي تعيش في هامش الوجود الإنساني ، كبعض الأفعال الصادرة منه على سبيل اللغو واللهو ، باعتبار أن امتداد هذا الوجود وحيويته متوقفان على ذلك فهو من النواميس الكونية. وفي ضوء ذلك ، يكون المراد بالأمر بالإتيان في الآية ، الأمر التكويني المدلول عليه بتجهيز الإنسان بالأعضاء والقوى الهادية إلى التوليد ، كما ذكره صاحب الميزان (١). وقد يراد به ـ كما عن ابن

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ٢١٥.

٢٥٠

الحنفية ـ من قبل النكاح دون الفجور. وقال الزجاج : معناه ، من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة. ولا تقربوهن من حيث لا يجب. أي لا تقربوهن وهن صائمات أو محرمات أو معتكفات. وقال الفراء : ولو أراد الفرج ، لقال : «في حيث». فلما قال : (مِنْ حَيْثُ) علمنا أنه أراد من الجهة التي أمركم الله بها. وقال غيره : إنما قال : (مِنْ حَيْثُ) لأن (من) لابتداء الغاية في الفعل نحو قولك : ائت زيدا من مأتاه ، أي من الوجه الذي يؤتى منه (١).

وربما كان هذا الاختلاف في تفسير القيد ناشئا من قابلية التعبير لأكثر من وجه ، مما جعل للاجتهاد في استيحاء الآية مجالا واسعا. ولكننا نلاحظ ، في هذه المسألة ، أن القيد لا بد من أن يكون واردا لإفادة معنى جديد مما لا يلتفت الناس إليه غالبا ، أو مما يحتاج الناس إلى معرفته ويقتضي التنبيه عليه.

وفي ضوء ذلك ، نجد الحديث عن «الفرج» كموضع للإتيان ليس من الأمور التي تمس الحاجة إلى تقريره ، لأنه المكان الطبيعي للجماع في الواقع الإنساني العام ، سواء كان ذلك من جهة الحصول على اللذة أو جهة طلب الولد ، فهو المكان الذي يتجه إليه الناس بفطرتهم وطبيعتم الذاتية. أما القول بأنه وارد في مورد التحذير عن «الإتيان في الدبر» ، فهو غير دقيق ، أولا : لأن ذلك موقوف على ورود التعبير بأسلوب الحصر ، الذي لا دليل عليه في هذه الفقرة ، لا من اللفظ ولا من السياق ، فهي واردة ـ على أساس هذا الاحتمال ـ للرخصة ـ بعد زوال المانع ـ في الإتيان في الفرج الذي هو موضع الحيض.

وهذا لا مفهوم له ، لأن الأمر بشيء لا يقتضي النهي عن غيره. وقد قرر علماء الأصول أن اللقب لا مفهوم له ، وأن الأمر بشيء لا يدل على النهي عن

__________________

(١) انظر : مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٦٣.

٢٥١

الضد الخاص.

وثانيا : فإن الحديث عما أمر الله به لا بد من أن يكون ـ على تقدير إرادته ـ إشارة إلى أمر سابق بالإتيان في الفرج لا في الدبر ، وهو مما لا دلالة عليه في القرآن. أمّا ما ذكره العلامة الطباطبائي من إرادة الأمر التكويني في نظام النوع الإنساني في تقرير الزواج ، فليس للفظ ظهور فيه ، ولا باعتبار أن هذا النظام جار على سبيل الفطرة الإنسانية الذي ينطلق الناس إليه ويأخذون به من خلال الحاجة الطبيعية التي يريدون تحقيقها في حياتهم لإرادة الشهوة ولطلب الولد ، تماما كما يأكلون ويشربون ويلبسون ، لا من خلال اللهو واللغو الذي لا معنى له ، مما يجعل الحديث عنه لغوا لا فائدة منه ، لأنه تقرير لحقيقة واضحة لدى الناس أكثر من وضوح الكلمة في الآية.

وثالثا : استبعاد إرادة الأمر التكويني في نطاق السياق التشريعي الذي يتحدث عن الأمر والنهي ، من الناحية المتصلة بالتشريع في الرخصة والمنع كما هو سياق الآية ، بل الظاهر منه الأمر المتصل بالنظام الشرعي للعملية الجنسية.

وربما كان الاحتمال الثالث هو الأقرب إلى الاعتبار وإلى الظهور من خلال القرينة السياقية ، وذلك لأن الآية واردة في بيان الحدود التي فرضها الله في علاقة الرجال بالنساء من الناحية الجنسية. فإذا كان الله قد حرّم إتيانهن في حال الحيض ، وأمر باعتزالهن ، وأراد للناس أن يقفوا عند هذا الحد ، فإنه يريد لهم ، بعد زوال الحيض ، أن يعودوا إلى حالتهم الطبيعية السابقة التي وضع الله لها نظاما في أوامره ونواهيه ، فلا يبتعدوا عن نهج الله في شرعه ، فيدخل في مدلول الفقرة كل الأوامر المتعلقة بالأفعال والتروك. أي : فأتوهن من الجانب المرتبط بأمر الله ، وليس لكم إتيانهن من طريق الحرام. ولعل الفقرة التالية التي تتحدث عن التوّابين والمتطهرين توحي بذلك ، ولو من بعيد ، والله العالم.

٢٥٢

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) الذين إذا وقعوا في المعصية وطاف بهم الشيطان فأبعدهم عن الله ، ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ، وتابوا منها ، وأنابوا إليه ، ولم يصروا على ما فعلوا ... فهؤلاء هم الذين يختزنون في أعماقهم الإيمان بالله والمحبة له والالتزام بطاعته ، من دون أية حالة للتمرّد التي تتنافى مع الإحساس بالعبودية. وهم الذين لم تنطلق معصيتهم في خطيئاتهم من جحود بالله ، ولا استهانة بعقوبته ، ولا تهاون بوعيده ، ولا استخفاف بأمره ونهيه ... بل انطلقت من غفلة العمل وثورة الغريزة ، ونداء الجسد ووسوسة الشيطان ، فهي حدث عارض في حركة العمق الإيماني في الذات ، وليست حالة عميقة مستقرة. ولذلك كانوا أهلا لمحبة الله من خلال محبتهم له. (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) الذين يتطهرون من قذارة الكفر والضلال والذنوب الكبيرة والصغيرة ، فيلتقون بالتوّابين الذين تمثل التوبة لديهم حالة من التطهر الروحي ، الذي يتحول إلى حالة من التطهر الجسدي.

والله يريد للإنسان أن يعيش حالة التطهر الجسدي كما يريد له أن يعيش حالة التطهر الروحي ، لأن الحياة المستقيمة الطاهرة في نظامها الطبيعي المتوازن في الجانب الفردي والاجتماعي ، بحاجة إلى الطهارتين معا ، ولذلك أمر الله بهما معا ، فقد تحدث عن الطهارة المادية في أكثر من آية : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر : ٤] ، وقوله : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) [الأنفال : ١١] ، وقوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) ...

وعن طهارة القلب في قوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ

٢٥٣

فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [المائدة : ٤١]. وعن الطهارة الروحية والنفسية : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣].

وعن طهارة المال : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [التوبة : ١٠٣] ، وطهارة المسجد من الأوثان والشرك : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج : ٢٦] ، وطهارة الماء : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) [الفرقان : ٤٨] ، وطهارة الشراب : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) [الإنسان : ٢١] ، وغير ذلك ، مما يوحي بأن الله يريد للإنسان أن يعيش في حياته الطهارة المادية التي تتحول إلى حالة نفسية ترفض القذارة الخبيثة ، وتتحول إلى حالة عبادية ترفض التأثيرات المعنوية السلبية الناتجة عن الحدث الأكبر والأصغر ، وإلى محيط طاهر نظيف يبتعد به الإنسان عن الأمراض والأوضاع المنفرة الناشئة من القذارات في جسده وفي طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه وفي ما حوله ومن حوله ... كما يريد له أن يعيش الطهارة الروحية في الفكر الطاهر ، والقلب الطاهر ، والعمل النظيف ، والقول الطاهر ... لتجتمع له في وجدانه الحضاري ، وفي نظامه الفردي والاجتماعي كل عناصر الطهارة. وفي ضوء ذلك ، كانت محبة الله للمتطهرين ، لأنهم أخذوا بأسباب الطهارة التي أمرهم بها في حياتهم الداخلية والخارجية ، مما يوحي بأنهم يعيشون في عمق الحب لله ، من حيث يتحركون في خط طاعته وموقع رضاه.

ولعل مناسبة الحديث عن التوابين والمتطهرين في هذه الآية ، في سياق

٢٥٤

الحديث عن اعتزال النساء في الحيض ، هو أن لا يتعقد الناس مما قد تدفعهم إليه الغريزة من إتيان النساء في حال الحيض ، فيرتكبون ما حرمه الله ، فيسقطون تحت تأثير الذنب كما لو كان ذنبا لا يغتفر. فانطلقت الآية ، لتؤكد لهم أن الله قد فتح لهم باب التوبة ، فإذا ندموا على ذلك وعزموا على عدم العودة إليه ، فإنه يمنحهم محبته التي تنفتح على مغفرته وعفوه ورضوانه. وإذا تراجعوا عن البقاء في القذر المادي والروحي ، أحبهم الله ومنحهم مغفرته.

وإذا تحقق للمرأة الطهر ، وهو النقاء في تفسير البعض ، والاغتسال في تفسير آخرين ، فيمكن الرجوع إلى العلاقة الجنسية من حيث أمرهم الله. ويختلف المفسرون في هذه الكلمة ، فيرى البعض أن ذلك إشارة إلى المكان الطبيعي للجماع ، ويرى البعض أنه يعني الوجه الذي أمر الله أن يؤتى منه ، من دون ملاحظة لموضوع المحل الخاص ، بل يتصل بالحدود التي جعلها الله لذلك. وتختم الآية الحكم الشرعي بالإيحاء بضرورة التوبة في حالة الانحراف عن الخط الإسلامي في الأحكام الشرعية ، وبضرورة التطهر بالابتعاد عن كل الأوضاع التي توجب القذارة الجسدية والروحية ، وذلك للحصول على محبة الله الذي يحب التوابين ، باعتبار أن التوبة تمثل الشعور بالحاجة إلى رضى الله بعد التعرض لغضبه ، ويحب المتطهرين الذين يريدون أن يعيشوا الحياة في طهر جسدي وروحي ، ليحصلوا على رضى الله في ذلك.

* * *

المفسرون والفقهاء واختلافهم في كلمة «الحرث»

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ). أثار المفسرون والفقهاء في هذه الآية موضوع إباحة العلاقة الجنسية الشاذة بين الرجل والمرأة في نطاق العلاقة الزوجية ، فأباحه بعضهم انطلاقا من هذه الآية التي تبيح إتيان النساء في أي

٢٥٥

مكان أرادوه ، على أساس تفسير كلمة (أَنَّى) بمعنى من أي مكان ، ومنعه آخرون. واختلفوا في وجه المنع ، فذهب بعضهم إلى أن كلمة (أَنَّى) بمعنى متى ، فتكون واردة لإطلاق الإباحة من ناحية الزمان ، بعد أن جاء المنع في زمن معين.

ولكن بعض أهل اللغة يدّعي أن هذه الكلمة لم تأت إلا بمعنى من أين. وذهب بعضهم إلى اعتماد كلمة الحرث دليلا على أن الإباحة مختصة بالمكان الطبيعي ، لأن هذه الكلمة توحي بالزرع الذي يعني الولد في هذا المجال. وحمل كلمة «من أين» التي هي معنى (أَنَّى) على إرادة إتيان المرأة في المحل الطبيعي ، ولكن بطريقة معاكسة من الخلف ، كما روي أن اليهود كانوا يعتقدون أن الرجل إذا أتى المرأة من خلفها في قبلها ، خرج الولد أحول ، فكذّبهم الله عن ابن عباس وجابر. وناقشهم بعض الفقهاء في ذلك ، فقالوا إن استعارة كلمة الحرث لا تتعين بالحمل على الجماع لطلب الولد ، فيمكن أن يكون لها معنى آخر.

واختلفت الروايات المفسرة لهذه الآية ، واختلفت آراء الفقهاء تبعا لذلك ... ولا يملك الإنسان حجة واضحة في الجانب التفسيري للآية بين هذين الاتجاهين ، وإن كان من الممكن أن توجه دلالة المنع في الآية الأولى ، على أن القضية في المنع والإباحة هي قضية الزمان لا المكان ، لأنه لم يكن مشكلة في هذا الموضوع ، إن كانت الآية الثانية مرتبطة بالآية الأولى كما يبدو ... إنه مجرد احتمال نثيره ، وربما يخطر في البال أن كلمة (أَذىً) ، التي كانت عنوان المنع في الجماع في الحيض ، قد تكون أكثر صدقا وتأثيرا في الوطء في الدبر من حيث الإيحاء بالقذارة من جهة ، وإيذاء المرأة من جهة أخرى ، فإن الله لم يجعله في تكوينه العضوي معدّا لذلك من خلال عضلاته ، كما هو الحال في الفرج.

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن وجه الشبه لا بد من أن يكون

٢٥٦

ملحوظا في المشبه والمشبّه به في أسلوب الاستعارة. وهذا غير متحقق إلا في الموضع الطبيعي ، لأنه موضع النطفة ، تماما كما هي الأرض موضع البذرة ، مما يوحي بالإعداد النوعي بعيدا عن الغرض الشخصي للرجال. فإن المسألة المطروحة ليست في إرادة الرجل للولد وعدم إرادته له من خلال عملية الجماع ، ليقال إن الجماع أعم من ذلك ، فيمكن ـ على هذا ـ إرادة الحرث بمعنى حركة المحراث في الأرض المستعارة لحركة الذكر في الفرج ، بعيدا عن النتائج ، بل المسألة هي في طبيعة كلمة الحرث التي تختزن معنى إلقاء البذر في المحل ، من حيث وضعها اللغوي ، مما لا ينسجم إلا مع الموضع الطبيعي للجماع ، فلا انسجام من الناحية البلاغية للاستعارة بدونه.

أما توجيه كلمة : (أَنَّى شِئْتُمْ) على هذا الاحتمال ، فقد يكون المراد به «من أين». أي : من أية جهة شئتم ، في مقابل قول اليهود على ما جاءت به رواية سبب النزول المتقدمة ، وقد يكون المراد به «كيف شئتم» ، أي : على أية حالة تحبونها في كيفية الجماع ، من الخلف ، أو الأمام ، أو بأسلوب معين ... يتنوع حسب تنوع الأوضاع التي قد تتعدد بأشكال مختلفة لدى الناس ، الذين يعملون على تطوير أساليب الجماع بطريقة بأخرى ، مما يتفنن الناس في اختراعه طلبا لتجديد فيه. وقد يكون المراد به «حيث شئتم» ، بمعنى في أي مكان شئتم ، على أساس حرية الإنسان في ممارسة هذا العمل في أي مكان. ويجمع هذه الوجوه إطلاق الحرية للإنسان في اختيار الوضع الذي يحبه ، أو الجهة التي ينطلق منها ، أو المكان الذي يمارس فيه ، بعيدا عن موضع الجماع لأنه مما لا يحتاج إلى بيانه في المجرى العملي العام ، باعتبار أن الحالة الشاذة قد تكون موضع رغبة ، ولكنها لا تمثل الرغبة العامة في الوضع الطبيعي. والله العالم.

* * *

٢٥٧

المرأة بين الوطء والحرث

وربما يوحي هذا التعبير عن المرأة بأنها «حرث للرجل» بعض الشعور بالانزعاج لدى النساء ، لأنه يصورها بصورة الأرض التي تتلقى البذور من خلال آلية الزرع ، فتكون البذور هي سر الحياة ، بينما لا دور للأرض إلا الانفعال الذي لا يعبر عن ذاتية حيوية في تلك العملية.

وقد يتحدث البعض عن التعبير عن عملية الجنس بالوطء ـ كما هو التعبير الفقهي للمسألة ـ الذي يوحي بأن المرأة موطوءة تماما كما هي الأرض التي توطأ بالأقدام ، لتكون صورتها صورة المنسحقة تحت الرجل ، مما يحمل أكثر من إيحاء بالمهانة المعنوية ، فهي شيء «يحرث» و «يوطأ» ويبقى «تحت الرجل».

ولكننا نتصور ، في التعليق على ذلك ، أن المسألة التعبيرية لا تتجه هذا الاتجاه ، لأن القضية تتصور بالصورة في تشبيه المرأة بالأرض التي تتلقى البذور ، لتمنحها كل عناصرها الحية في عملية تفاعل حيّ ، فتتحول البذور إلى كائن يمتلئ بالحياة وبالنمو المتحرك الفاعل الذي يتطور في الأرض ، ليكون شجرة تنتج ما لذ وطاب من الفواكه والثمار ، ويتحرك في المرأة ليكون إنسانا سويّا ممتلئا بالحيوية والحركة والإرادة والعطاء المميز للحياة. فليس الإنسان وليد البذرة التي يضعها الرجل في رحم المرأة ، بل هو وليد المزيج من نطفة الرجل وبويضة المرأة ، ثم الغذاء المتنوع الذي تمنحه المرأة للمخلوق المتحرك في رحلة الحياة ، تماما كما هي الأرض في عطائها المستمر للنبتة الوليدة حتى تكون شجرة. ويبقى العطاء بعد ذلك للشجرة.

كما يبقى العطاء للوليد بعد الولادة من خلال إرضاع الأم له ، الأمر الذي قد يوحي بأن الأم هي التي تعطى الوليد ـ الإنسان أكثر عناصر وجوده ـ ولذلك فإن عملية «الحرث» لم تكن عملية انفعال ، بل هي عملية تفاعل بين

٢٥٨

الرجل والمرأة. مما يجعل من كلمة «الحرث» تعبيرا عن هذا المزيج المركب من عنصر الحياة في الرجل والمرأة.

وربما كان من الضروري أن ندرس الكلمة في إيحاءاتها الإيجابية في المضمون والمعنى ، بدلا من الإيحاءات السلبية في الشكل والصورة.

أما كلمة «الوطء» أو «تحت الرجل» ، فإنها تمثل الوضع الطبيعي لعملية الجماع الذي ينحني فيه جسد الرجل على جسد المرأة ، فليست القضية قضية وطء للإنسانية ، أو تحتية معنوية للمرأة ، بل هي قضية شكل عادي من أشكال العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة من خلال الخصوصيات الذاتية للمسألة ، من دون أن يكون لذلك أي مدلول سلبي في المسألة الإنسانية المعنوية التي تنتقص من مكانة المرأة ، فربما يكون «الفوق» في المادة «تحتا» في الروح وفي المعنى ، بينما يكون «التحت» في الواقع «فوقا» في القيمة ، وقد يتساويان.

إن قيمة النص القرآني ، هو أنه يعمل على أن يسمّي الأشياء بأسمائها ، تدليلا على واقعية الحياة الإنسانية بصورتها الطبيعية في حركة الإنسان في نفسه وفي العلاقات الإنسانية بين الناس. فهو يتحدث عن الجنس كما يتحدث عن الطعام والشراب ، مع بعض ألوان الاستعارة والكناية في أسلوب التعبير ، للتخلص من بعض المشاعر الحادّة السلبية في بعض التعابير.

ولكن بعض الكتّاب يحاولون التفلسف في بعض الإيحاءات التي لا توحي بها الكلمة ، من خلال العقدة اللاشعورية تجاه الدين.

إننا نحب أن نقول لهم : إن الكلمة عند ما تنطلق من وجدان قائلها ، فقد ينفتح على أفق معين في بعض الحالات ، كما ينفتح على أفق آخر في حالة أخرى ، فلا بد ـ في استيحاء الكلمة ـ من قراءة الكلام من الأفق الذي ينطلق من عمق الوجدان النفسي والفكري للمتكلم ، لا من الأفق المملوء بالضباب في وجدان القارئ أو السامع الذي ينتقل من عقدة إلى عقدة في الفهم ، حتى

٢٥٩

يحوّل المعنى البسيط إلى معنى معقّد.

ولا بد في هذه الأمور من الرجوع إلى السنة والتمييز بين صحيح الحديث وضعيفة ، لنخلص إلى النتيجة الحاسمة في معرفة الحكم الشرعي ، والله أعلم بحقائق أحكامه.

* * *

بين الأسلوب القراني وصلة الإنسان بالله

(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) لا يبعد أن تكون هذه الفقرة من الآية جارية على الأسلوب القرآني ، الذي جرى في أكثر من مجال ، على اتباع الحكم الشرعي بالإيحاء للإنسان بالجانب الروحي الأخروي الذي يتعلق بقضية المصير ، من أجل أن يتحقق له إلا الانضباط الواعي ، الذي يدفعه إلى مواجهة الطاعة بقوّة وإيمان ووعي وامتثال ... فقد تحدثت الآيتان عن بعض جوانب التحليل والتحريم ، فكان من المناسب أن يطلب من المكلف أن يقدم لنفسه ما يشاء من الأعمال الصالحة التي ترفع درجته عند الله ، وأن يتقي الله في نفسه فلا يرتكب ما حرمه الله عليه ، وأن يعلم أنه سيلاقي الله غدا ليحاسبه على ما عمل من خير أو شر.

ثم أطلق البشارة للمؤمنين ، لأنهم الذين استطاعوا أن يسيروا على الخط المستقيم في عقيدتهم ، وعملهم فحصلوا على خير الدنيا والآخرة. وذهب البعض إلى أن معنى التقديم هنا طلب الولد ، فإن في اقتناء الولد الصالح يكون تقديما عظيما لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا مات المؤمن ، انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له» (١). وذهب بعض آخر إلى غير ذلك ، مثل الدعاء عند الجماع ، أو التسمية عنده ، أو التزوج

__________________

(١) البحار ، م : ١ ، ج : ٢ ، ص : ٣٤٩ ، باب : ٨. رواية : ٦٥.

٢٦٠