تفسير من وحي القرآن - ج ٤

السيد محمد حسين فضل الله

الذي يدعوهم إلى الرجوع إلى الإسلام من جديد.

وقد لا نستطيع أن نتعقل رفض الله إسلام المرتد ، بعد رجوعه عن الارتداد ، لا سيما إذا كان ارتداده لشبهة أو لنزوة أو لخضوعه لضغط عام أو خاص ، فإن الله يريد للناس أن يرجعوا إليه ، ويؤمنوا به ، ويلتزموا خطه في جميع الحالات ، ولا معنى للحديث عن قبول التوبة في الآخرة وعدم قبولها في الدنيا ، لأن التوبة في الدنيا هي الأساس في نتائج الآخرة ، حسب المستفاد من المنهج العام في القرآن في هذه الأمور.

وقد جاءت في السنة أحاديث كثيرة تدل على عدم قبول توبة المرتد إذا كان فطريا وقبولها إذا كان مليا ، وهناك نظرية فقهية تقول بعدم سقوط الحدّ عن المرتد الفطري ، حتى مع قبول توبته ، لأن ذلك مرتبط بفعلية ثبوت الحد عليه ، فيمكن إبقاء مسألة بينونة زوجته وتقسيم تركته وقتله على حالها حتى بعد التوبة ، فلو بقي على قيد الحياة ولم ينفذ فيه الحد ، كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم من الحقوق والواجبات. وهناك قول بقبول توبته ، بعد استتابته ، سواء كان فطريا أم مليا ، ويبقى إجراء الأحكام عليه في حال الإصرار على الارتداد ، وهذا بحث فقهي لا بد من أن يرجع فيه إلى الفقه ، فنحن هنا بصدد البحث التفسيري الذي يحاول استنطاق القرآن في المفهوم الإسلامي في هذه المسألة أو غيرها.

* * *

الدلالات والإيحاءات

ونريد هنا ـ في نهاية المطاف ـ أن نستوحي بعض ما يمكن استيحاؤه من هاتين الآيتين ، لتتحرك الفكرة في حياتنا كما تحركت في حياة المسلمين الأولين ، وذلك في ضمن نقاط :

٢٠١

زمن السّلام

١ ـ إن الإسلام قد أقرّ فكرة «زمن السّلام» كحقيقة دينية مقدسة ، لتكون واحة زمنية يستريح فيها الناس من المشاكل والخلافات والحروب ، ويعيدون النظر في ما عاشوه ومارسوه في ضوء النتائج المرعبة التي تؤدي إلى إزهاق النفوس ، وتلف الأموال ، وتحطيم العلاقات الإنسانية على أساس الحقد والبغضاء. وبذلك ، تنفتح هذه العلاقات في اتجاه سليم يركز قواعد المحبة والسّلام ما أمكن ذلك ، وهكذا يمكن لهم أن يحصلوا في فرص السّلام على ما لم يحصلوا عليه في فرص الحرب. ولا بد للمسلمين من أن يأخذوا بهذا التشريع في علاقات الحرب والسّلام في المجالات التي يملكون فيها أمر تقرير أحدهما في المعركة ، ما لم يكن هناك ظروف ضاغطة تفرض فيها طبيعة الموقف أن يستمر القتال من أجل الوصول إلى نتائج حاسمة في نطاق القضية الإسلامية الكبرى.

* * *

التزاحم بين الحكمين

٢ ـ إن القاعدة العقلية التي أقرّها الفكر الإسلامي الفقيه ، انطلاقا من آيات الله وسنة رسوله ، تفرض اختيار الجانب الأهم في حسابات المصالح والمفاسد إذا تعارض حكمان شرعيان يأمرنا أحدهما بشيء وينهانا الآخر عنه ولم يكن هناك مجال لامتثالهما معا ، لأن الحكم الشرعي ينطلق من المصلحة الأساسية للإنسان ، من خلال ما ثبت لدينا من أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها. فإذا رأينا المصلحة الأهم في جانب ، فمعنى ذلك أن الحكم الذي لا يصل الموقف فيه إلى هذا المستوى من الأهمية ، يفقد معناه في

٢٠٢

حدود ذلك ، وتكون النتيجة تقييد فاعلية الحكم الشرعي وحركته في غير هذا المجال.

وهذا ما واجهناه في الآيات السابقة التي تتحدث عن القتال في المسجد الحرام في ما إذا قاتل المشركون المسلمين فيه ، وفي هذه الآية التي تتحدث عن القتال في الشهر الحرام في صور مبرراته الإسلامية. فلو دار الأمر بين أن تهتك حرمة الشهر أو المكان وبين أن تهتك حرمة الإسلام ويسقط صريعا أو مهزوما أمام ضربات الكفر ، فإن من الممكن أن نتجاوز حرمة الشهر والمكان لمصلحة حرمة الإسلام العليا ، بل قد يجب ذلك في بعض المجالات ، إذ وإن كانت حرمتهما جزءا من التشريع الإسلامي ، لكن لا يمكن أن تتقدم على سلامة الإسلام نفسه. وهذا ما يعبر عنه علماء الأصول ، بحالة «التزاحم بين الحكمين» ، وقد نجد هذه القاعدة متمثلة في أكثر من مسألة فقهية في نطاق المحرمات الشرعية ، التي جاءت الرخصة فيها في بعض مواردها ، وقد تعددت نماذجها حتى أصبحت بمثابة «القاعدة الثانوية الاستثنائية» ، حتى قال الأصوليون : «ما من عام إلا وقد خصّ» ، مما يوحي بأن التخصيصات الواردة في العموميّات القرآنية والنبوية تحولت إلى ظاهرة شرعية من خلال تزاحم المصالح العامة ، والتي يعبّر عنها بالخاص في دائرة الخصوصيات الحاكمة على العنوان العام.

وهذا ما نراه في الغيبة التي جاء الاستثناء فيها في قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) [النساء : ١٤٨] فجعل حالة الظلم استثناء من حرمة الغيبة التي جاء فيها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات : ١٢] فأطلق للمظلوم الحرية في أن يتحدث عن ظالمة بالسوء من أجل الضغط عليه لرفع ظلمه ، باعتبار أن مصلحة رفع الظلم عن المظلوم أكبر من مفسدة

٢٠٣

الغيبة في إظهار عيب الظالم ، كما جاء الاستثناء في مقام النصيحة للمؤمنين ، لأن إغلاق باب النصيحة في التحدث عن عيوب الإنسان الذي قد يقع الناس في مشاكل كثيرة نتيجة كتمان عيوبه ، أكثر من مشاكل الحديث السلبي عنه ، وفي مقام تجاهر الإنسان بالفسق الذي تمثل الغيبة وسيلة من وسائل الضغط عليه ، وإبعاد الناس عن التأثر به من أجل إصلاحه أو إنقاذ الناس من أضراره ، وفي مقام تترّس الكفار في الحرب بأسرى المسلمين ، ليمنعوهم من الهجوم عليهم ، خوفا من تأدية ذلك إلى قتل إخوانهم ، وبذلك يفقد المسلمون فرصة النصر ، فأجاز الإسلام قتل الأسرى المسلمين إذا توقف النصر أو الدفاع على ذلك ، وهكذا نجد ذلك في كثير من الموارد الشرعية.

وهذا باب ينفتح على أكثر من قضية من قضايا الناس العامة والخاصة ، التي قد تؤكد الكفرة القائلة بأن الغاية الكبرى تبرر الوسيلة المحرمة ، بمعنى أنها تجمدها وتنظفها من خلال ارتباطها بسلامة الخط العام ، فلا يتجمد الإنسان المسلم في أخلاقياته إذا تحولت إلى خطر على حياته أو على مصير الإسلام والمسلمين ، كما لو أريد له أن يتحدث ، وهو في سجن الكافرين والمستكبرين ، عن أسرار المسلمين السياسية والأمنية والاقتصادية التي يمثل إظهارها خطرا على السلامة العامة ، فيجب عليه في هذه الحالة ، أن يكذب من أجل حماية القضية الكبرى ، ويحرم عليه الصدق الذي يؤدي إلى السقوط الكبير ، لأن الكذب يمثل القيمة السلبية الأخلاقية ، كما يمثل الصدق القيمة الإيجابية الأخلاقية في الخط العام.

لا يجوز للإنسان أن يكذب باختياره ، بل يجب عليه أن يأخذ بالصدق في أحاديثه في الحالة الطبيعية العامة ، لكن الحالات الطارئة الضاغطة تفقد الكذب سلبيته ليكون قيمة إيجابية كما تفقد الصدق إيجابيته ليكون قيمة سلبية ، لأن المسألة في السلب والإيجاب لا تنطلق من الطبيعة الذاتية للصدق والكذب ، بحيث يكون علة تامة للسلب هنا أو للإيجاب هناك ، بل تنطلق من

٢٠٤

الحالة الاقتضائية المنفتحة على النتائج بشكل عام ، ولكنها قد تصطدم ببعض الموانع التي تمنعها عن التأثير في المقتضى بدرجة فعلية. وهذا ما يجعلنا نؤكّد أن الأخلاق في الإسلام لا تمثل قيمة إيجابية ، بل تمثل قيمة سلبية قابلة للتغير في حركتها في الواقع الإنساني تبعا للعناوين الثانوية الطارئة التي تختلف الأحكام الشرعية باختلافها.

ولا بد في هذه الحالة من التدقيق كثيرا في المواقف والقضايا قبل الدخول في عملية الموازنة بين الأحكام ، لأن المسألة تحتاج إلى وعي عميق واسع في فهم أسس الحكم الشرعي وفي فهم الواقع الذي يتحرك فيه ، ولا يمكن إخضاعها للأفكار السريعة الانفعالية في مواجهة الواقع في ضغوطه العملية على حركة الإنسان في الحياة.

* * *

صراع المسلمين مع قوى الكفر مستمر

٣ ـ إن الآية توحي للمسلمين بأن عليهم أن ينطلقوا في الحياة على أساس وعي الحقيقة التالية ، وهي أن قوى الكفر والشرك تخطط لإخراج المؤمنين عن دينهم بكل الوسائل والقدرات التي يملكونها ، بحيث انهم يبادرون إلى الدخول في قتال مستمر لتحقيق هذه الغاية ، (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) فلا بد لهم من أن يستعدوا لمواجهة هذه الخطط بالوسائل الوقائية والدفاعية ، ليحفظوا إيمانهم الذي يمثل القاعدة الصلبة لنجاتهم في الدنيا والآخرة ، لأن القضية التي يعالجها القرآن ليست قضية تاريخية تخضع للظروف المحدودة الموجودة في التاريخ ، بل هي قضية مستمرة ما دام هناك كفر وإسلام ، وحق وباطل ، وما دامت التحديات تفرض نفسها على الساحة ، مما يجعل من هدف إضعاف الكفار للدين بإضعاف

٢٠٥

القاعدة الدينية ، وبإخراج الناس من دينهم وإضلالهم وإبعادهم عن الخط المستقيم ، هدفا يوميا لكل القوى المعارضة للدين ، من خلال الوسائل المتنوعة المادية والمعنوية ، مما يجعل من عملية الاستعداد للمواجهة عملا يوميا للمؤمنين لا مجال فيه للشعور بالأمن ، ولا للاستسلام والاسترخاء ، ولا للوقوف فيه على موقع هدنة.

وهذا ما واجهه المسلمون ، ولا يزالون يواجهونه ، من مخططات الكفر الذي يستهدف عزتهم وكرامتهم ومواردهم الطبيعية وثقافتهم ووعيهم الشامل للامتداد الديني في خط الحياة ، بمختلف الوسائل الثقافية والتربوية والسياسية والاجتماعية والعسكرية. وقد ساهم ذلك في كثير من الفجوات الواسعة في حاضر المسلمين ومستقبلهم ، وأدى إلى إحداث بعض الأوضاع الشديدة الباعثة على الاهتزاز والانحراف.

وقد يختلف الحال ، في ما لدينا من وسائل العمل ، عما كان الأمر عليه في صدر الدعوة الإسلامية ، ولكن المبدأ لا يزال واحدا من حيث الدوافع والأعمال. وذلك هو سبيل الوعي الإسلامي الذي ينطلق من فهم المسؤولية وفهم الواقع الذي يحيط به ، في ما يريده الله لعباده المؤمنين في الحياة.

* * *

الإيمان قيمة كبري

٤ ـ إن قضية الإيمان والكفر هي قضية الحياة الواسعة بكل امتدادها وعمقها ، فلا يمكن للإنسان أن يتسامح بها ، أو يعيش أجواء اللامبالاة معها ، أو يعتمد على عمل صالح بعيد عن خط الإيمان ، كما يفعله البعض ممن ينطلقون في تقييم الأعمال من موقعها الذاتي لا من موقعها الإيماني ، فيتحركون على أساس اعتبار الإيمان شيئا غير ذي قيمة كبيرة ، وقد يدفعهم

٢٠٦

ذلك إلى تفضيل الكافرين على المؤمنين لبعض الأعمال الصالحة عند أولئك ، ولبعض الأعمال السيئة عند هؤلاء ، مع أن القضية لا تسير في هذا الاتجاه إسلاميا ـ كما توحيه الآية ـ.

لا بد من دراسة إيحاءات الأسلوب الذي واجه به المشركون من قريش قتال المسلمين لبعض المشركين في الشهر الحرام ، بالدعاية المضادة التي حاولوا فيها تشوية صورة المسلمين بأنهم لا يرعون للمقدسات حرمة ، فيسفكون الدم الحرام ، وينتهكون حرمة الشهر الحرام بالعدوان على الناس بأخذ الأموال وأسر الرجال ونحو ذلك.

فقد نلاحظ أن أعداء الله من الكافرين والمستكبرين يعملون على الاستفادة من بعض الأخطاء التي يقع فيها المسلمون من خلال الغفلة ، أو الظرف الضاغط عليهم الذي يفرض عليهم الوقوع في الخطأ ، أو الاجتهاد الحركي في النظرة إلى الواقع في مواجهة القوى الطاغية التي تصادر حرياتهم ، وتضعف مواقعهم وتهدد وجودهم ومصالحهم ومواقعهم ، وتعمل على أن تحشرهم في الزاوية الحرجة ، فيلجئون إلى تجاوز الأساليب المألوفة في الصراع إلى أساليب أخرى لا تمثل قيمة أخلاقية في المطلق ، ولكنها تمثل قيمة أخلاقية في الحالة الطارئة ـ في الخط العام ـ باعتبار أن التخفف من خطر الضغط الكافر أو الاستكباري لا يمكن الوصول إليه إلا بهذه الطريقة.

وهنا يقف الاعلام الكافر أو المستكبر ليثير حربا إعلامية شعواء على الإسلام والمسلمين ، على أساس إلصاق تهمة الإرهاب الوحشية والإساءة إلى حقوق الإنسان ، وليخفي كل الظروف التي فرضت عليهم ذلك ، مما يمثل تبريرا في الواقع الإنساني في العام ، لأن القضية ـ عندهم ـ أن يشوهوا الصورة العامة للإسلام والمسلمين ، بعيدا عما هي الحقيقة في طبيعة الملامح الحقيقية لحركة الصورة في الواقع.

٢٠٧

إنهم يقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الدفاع عن الحرمات والمقدسات ، وذلك في دائرة حرماتهم ومقدساتهم ، ولا يسمحون لأحد بالحديث عن انتهاكهم لحرمات المستضعفين ـ من المسلمين وغيرهم ـ بل يحاولون تبريرها بعنوان الدفاع عن الحضارة والإنسان ، لأنهم يرون أنهم وحدهم أصحاب الحق الحضاري في الوجود ، أما الآخرون فهم الهوامش التي لا ضرورة لها في أكثر الحالات إلا بالمقدار الذي يحفظ حياتهم.

إن علينا أن نستوحي من الآية الكريمة الثقة بالموقف ، والابتعاد عن كل الحرب النفسية التي يشنّونها علينا باسم القيم الإنسانية الكبرى ، بل أن نواجه ذلك بكل قوة ، انطلاقا من وعي الأسس التي يرتكز عليها العاملون في سبيل الله في خط المواجهة والوقوف عندها ، في دراسة دقيقة للسلبيات والإيجابيات ، والاقتصار بها على ظروفها الخاصة ، لنؤكد للجميع أن الإسلام لا يريد للعدوان أن يأخذ حريته في الاعتداء على الناس من دون أن يقفوا بقوة للرد عليه ، ويطوروا أساليبهم في هذا الاتجاه ، فلا يقتصروا على وسيلة واحدة ، بل يمكن لهم أن يستوحوا الشرع في تنويع الوسائل ، حتى التي لا تملك شرعية في ذاتها ، ولكنها تملكها بلحاظ حالات الطوارئ الضاغطة. فإن الإسلام يؤكد القيمة ما دامت في مصلحة الإنسان. فإذا تحوّلت إلى خطر عليه ، أسقطها وجعل القيمة في الاتجاه الآخر.

ولا بد للعاملين في الدعوة إلى الله في دائرة الاعلام السياسي والثقافي من توعية المسلمين ، لا سيما البسطاء والساذجين منهم ، حتى لا يقعوا في قبضة الاعلام الاستكباري باستثارة القيم الروحية والأخلاقية الإنسانية في وجدان المسلمين ، ليقفوا ضد إخوانهم المجاهدين عند ما يقومون ببعض الأعمال التي ينطلقون بها في خط الشرعية على أساس فهمهم للواقع ، فيتهمونهم بانحرافهم عن الإسلام ، كما يحدث ذلك في مرحلتنا الحاضرة ، التي يعيش فيها المسلمون الحركيون في صراع دائم مع القوى الاستكبارية في

٢٠٨

الداخل والخارج ، ويعيشون الضغوط الهائلة التي تضغط على حرياتهم وحركتهم لمنعهم من أن يؤكدوا القوة الإسلامية التي تجعل الإسلام قاعدة للفكر والعاطفة والحياة ، من دون أن يفهم المسلمون خلفيات هذه الأعمال ، لأن الاعلام المستكبر هو الذي يتولى مهمة توزيع الاتهامات وإصدار الأحكام.

إن من واجب القائمين على شؤون الدعوة الإسلامية أن يقوموا بتثقيف المسلمين بالحدود الفاصلة بين الحالات الطبيعية ، في العناوين الأولية في الأحكام الشرعية ، والحالات الاستثنائية الصعبة في عناوينها الثانوية التي قد تحلل ما كان محرما ، وقد تحرم ما كان حلالا ، فإن التوعية الإسلامية الثقافية قد تفوّت على المستكبرين والكافرين كل الفرص التي يستغلونها للإضرار بالإسلام والمسلمين ، بينما يتحرك الجهل ، والسذاجة ، والخواء الثقافي ، ليمنحهم أكبر فرصة للوصول إلى أهدافهم الشيطانية على الاستكبارية.

* * *

٢٠٩

الآيتان

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٢٠)

* * *

معاني المفردات

(الْخَمْرِ) : أصله الستر ، ومنه : الخمار للمقنعة. ودخل في خمار الناس ، أي : في كثير الذي يستتر فيهم. ويقال : خامرة الداء : إذا خالطه ، وخمرت الإناء : إذا غطيته. وفي الشرع : كل مائع مسكر ، سواء أخذ من العنب أو الزبيب أو التمر ، وكل مشروب كحولي. وربما كان إطلاق الخمر على المسكر بلحاظ تغطيته على العقل وسلبه القدرة على التمييز بين الضرر والنفع.

٢١٠

(وَالْمَيْسِرِ) : القمار. اشتق من اليسر ، وهو وجوب الشيء لصاحبه ، من قولك : يسر لي هذا الشيء. ييسر يسرا وميسرا إذا وجب ذلك ، والياسر : الواجب بقداح وجب لك أو غيره. يقال : يسرته ، إذا قمرته. واشتقاقه من اليسر ، لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كد أو تعب ، أو من اليسار ، لأنه سلب يساره.

وكانت صفة على الميسر ، في الجاهلية ، أنهم كانت لهم عشرة أقداح ، وهي الأزلام والأقلام : الفذ ، والتوأم ، والرقيب ، والحلس ، والنافس ، والمسيل ، والمعلى ، والمنيح ، والسفيح ، والوغد ، لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونه ويجزءونه عشرة أجزاء ، وقيل : ثمانية وعشرون جزءا إلا لثلاثة ، وهي المنيح والسفيح والوغد. للفذ سهم ، وللتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسيل ستة ، وللمعلى سبعة ، يجعلونها في الربابة ـ وهي خريطة ـ ويضعونها على يدي عدل ، ثم يجلجلها ويدخل يده ، فيخرج باسم رجل قدحا منها. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء ، أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له ، لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم.

وقد تطورت آلات القمار وتنوعت وسائله ، وقد عدّ منها الشطرنج والنرد اللذان كان الناس يلعبون بهما بطريقة القمار ، بحيث كان للرابح فيهما عوض معيّن. وهكذا نجد أن مفهوم الميسر يلتقي مع كل لون من ألوان اللعب بالآلات القديمة والجديدة ، على أساس أن يكون للرابح عوض يدفعه الخاسر. وجاء عن ابن سيرين : كل شيء فيه خطر فهو من الميسر.

٢١١

(إِثْمٌ) : الإثم يقارب الذنب وما يشبهه معنى ، وهو حال في الشيء أو في العقل يبطئ الإنسان عن نيل الخيرات. فهو الذنب الذي يستتبع الشقاء والحرمان في أمور أخرى ، ويفسد سعادة الحياة في جهاتها الأخرى.

قال الراغب : الإثم والآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب .. وقوله تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي في تناولهما إبطاء عن الخيرات (١). وأصل الإثم البطء والتأخر.

(الْعَفْوَ) : مأخوذ من الزيادة. ومنه قيل : حتى عفوا ، أي : ازدادوا على ما كانوا عليه من العدد. والمراد به : ما يسهل إنفاقه فلا يبلغ الجهد ـ وهو التوسط في الإنفاق ـ وقيل : هو مأخوذ من الترك من قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة : ١٧٨] أي : ترك. ومنه : عفوت لكم عن صدقة الخيل ، أي : تركتها ، فيكون العفو لمتروك لغني عنه.

(تُخالِطُوهُمْ) : المخالطة : مجامعة يتعذر معها التمييز ، كمخالطة الخل للماء وما أشبهه. والخليطان : الشريكان لاختلاط أموالهما. والخليط : القوم أمرهم واحد. والمراد بها في الآية: المعاشرة على نحو التداخل في الواقع الاجتماعي.

(لَأَعْنَتَكُمْ) : الإعنات : الحمل على مشقة لا تطاق ثقلا ، وعنت العظم عنتا : أصابه وهن أو كسر بعد جبر. وأصل الباب : المشقة والشدة.

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٥.

٢١٢

مناسبة النزول

جاء في المجمع : إن الآية : «نزلت في جماعة من الصحابة أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : أفتنا في الخمر والميسر ، فإنها مذهبة للعقل ، مسلبة للمال ، فنزلت الآية» (١).

قد نستوحي من هذه الرواية أن التحريم لم يكن واردا في التشريع ـ آنذاك ـ وأنهم كانوا يعيشون في وجدانهم الشرعي أجواء التحريم من خلال طبيعة النتائج السلبية التي يعرفونها في الخمر والميسر مما يختزنانه من فساد للعقل والمال ، وذلك من جهة ما عرفوه من دروس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما كانوا يسمعونه منه من آيات الله وأحاديثه ، أن الله يريد بالناس الخير في تشريعاته الإلزامية على أساس المصالح والمفاسد الكامنة في الأفعال ، فهم يتحسسون حرمة الأشياء المضرة في وجدانهم الديني ، فيتطلعون إلى النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سائلين عن الحرام في هذا أو ذاك.

وهناك رواية في الكافي توحي بأن تحريم الخمر بشكل صريح حاسم سابق على هذه الآية ، فقد جاء عن علي بن يقطين ، قال : سأل المهدي أبا الحسن ـ موسى الكاظم» عليه‌السلام ـ عن الخمر : هل هي محرمة في كتاب الله ـ عزوجل ـ فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم لها؟ فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : بل هي محرّمة في كتاب الله عزوجل يا أمير المؤمنين. فقال له: في أي موضع هي محرمة في كتاب الله جل اسمه يا أبا الحسن؟ فقال : قول الله عزوجل : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [الأعراف : ٣٣] ... إلى أن قال : وأما الإثم ، فإنها

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٥٧.

٢١٣

الخمرة بعينها ، وقد قال الله تعالى في موضع آخر : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فأما الإثم في كتاب الله فهي الخمرة والميسر وإثمهما أكبر كما قال الله تعالى. الحديث (١).

وقد ذكر صاحب تفسير الميزان : أن آية الأعراف سابقة في النزول على آيتي البقرة وآيتي المائدة ، فإنهما تدلان على النهي الخاص بعد ورود النهي المطلق ، على أنه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات ، فإن التدريج سلوك من الأسهل إلى الأشق لا بالعكس (٢).

ولكننا لا نجد في رواية الكافي دلالة على سبق آية الأعراف على آية البقرة ، بل قد تدل على تأخرها عنها وذلك لأن الإمام ، في الرواية ، استشهد بآية البقرة على انطباق عنوان الإثم بشكل واضح على الخمر ، مما يجعل كلمة الإثم في آية الأعراف متعلقا للتحريم ، بدلالة على أن المراد به الخمر ، فكأن آية البقرة مهدّت لبيان تحريم ، من حيث كون الخمر مصداقا للإثم. والتعبير عن الخمر بالإثم لا يخلو من غموض في فهم المعنى المعيّن من اللفظ.

وربما يقال : إن الخمر يسمى إثما في اللغة ، كما قال الشاعر :

شربت الإثم حتى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يصنع في العقول

والجواب : أولا : إن الإمام استدل على إرادة الخمر من الإثم ـ في آية الأعراف ـ بآية البقرة التي وصف فيها الخمر والميسر بالإثم ، ولم يستشهد بكلام أهل اللغة في تسمية الخمر بهذا الاسم ، مما يوحي بأن ذلك ليس معروفا في زمن الإمام الكاظم عليه‌السلام.

__________________

(١) الكافي ، ج : ٦ ، ص : ٤٠٦ ، رواية : ١.

(٢) انظر : تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ١٩٩.

٢١٤

وثانيا : من الممكن أن يكون هذا الشاعر قد استوحى القرآن في هذا التعبير ، أو استوحى الكلمة الدالة على أن مضمون الإثم هو حالة في الشيء أو في العقل يبطئ الإنسان عن نيل الخيرات ، فأطلقها عليه من باب إطلاق المفهوم على المصداق ، لاشتمال الخمر على ما يوجب فساد العقل ، لا من باب إطلاق الكلمة على معناها.

وثالثا : إن ملاحظة صاحب الميزان في إثبات سبق آية الأعراف غير دقيقة ، لأن النهي المطلق في آية البقرة وآيتي المائدة كان واردا بالأسلوب الذي يركز على الأساس السلبي للخمر في العناوين المذكورة التي توحي بالحرية وتأمر بالاجتناب ، بحيث يعيش فيها القارئ الجو الفكري في الخط التشريعي ، بينما لا توحي آية الأعراف إلا بالتشريع فقط في الحديث عن تحريمه إلى جانب المحرمات الأخرى ، فلا مانع من أن تكون تلك الآية مقدمة لآية الأعراف ، باعتبار أنها جاءت حاسمة في بيان الحرمة بلفظها من دون لبس أو إشكال بعد إعداد الجو النفسي المتنوع للمسلمين في هذه المسألة.

ويؤيد ما ذكرناه الرواية الأخرى الواردة في الكافي ، بطريق مرسل ، فقد روى عن بعض أصحابنا مرسلا قال : إن أول ما نزل في تحريم الخمر قول الله عزوجل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) ، فلما نزلت هذه الآية أحسّ القوم بتحريمها وتحريم الميسر ، وعلموا أن الإثم مما ينبغي اجتنابه ولا يحمل الله عزوجل عليهم من كل طريق ، لأنه قال : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ثم أنزل الله عزوجل آية أخرى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة : ٩٠] فكانت هذه الآية أشد من الأولى ، وأغلظ في التحريم ، ثم تلت آية أخرى فكانت أغلظ من الأولى والثانية وأشد ، فقال الله عزوجل : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ

٢١٥

مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] فأمر عزوجل باجتنابها ، وفسر عللها التي لها ومن أجلها حرّمها. ثم بين الله ـ عزوجل ـ تحريمها ، وكشفه في الآية الرابعة مع ما دلّ عليه في هذه الآية المذكورة المتقدمة بقوله عزوجل : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [الأعراف : ٣٣] وقال الله عزوجل في الآية الأولى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ثم قال في الآية الرابعة : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) فخبر الله عزوجل أن الإثم في الخمر وغيرها ، وأنه حرام ، وذلك أن الله عزوجل إذا أراد أن يفترض فريضة أنزلها شيئا بعد شيء ، حتى يوطن الناس أنفسهم عليها ، ويسكنوا إلى أمر الله ـ عزوجل ـ ونهيه فيها ، وكان ذلك من فعل الله عزوجل على وجه التدبير فيهم أصوب وأقرب لهم إلى الأخذ بها ، وأقل لنفارهم منها (١).

وإذا كانت هذه الرواية مرسلة ، فإن مضمونها يتناسب مع مضمون الآيات ، مما يبعث على الثقة بصدورها ، فتكون حجة على أساس المبنى الذي قررناه في علم أصول الفقه ، وهو أن السيرة العقلائية ـ التي هي الأساس في حجية الأخبار ـ جارية على اعتبار الخبر الموثوق به لا خبر الثقة بالخصوص ، بل إن اعتباره من أجل كونه سببا للوثوق.

* * *

القرآن والتصدي لقضايا الواقع

في هاتين الآيتين معالجة لعدة قضايا دار الحوار حولها بين المسلمين وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الأمور التشريعية مما كان يبتلى به الناس ، فقد سألوا

__________________

(١) الكافي ، ج : ٦ ، ص : ٤٠٦ ، رواية : ٢.

٢١٦

عن الخمر والميسر ، وهما من العادات المتأصلة الجذور في حياة الناس آنذاك ، مما يجعل من تحريمهما ، أو الاتجاه نحوه ، مشكلة اجتماعية صعبة. وكانوا يعتقدون ، أو يخيّل إليهم ، أن التحريم لا يخضع لمصلحة الناس الحياتية ، لأن شرب الخمر يخفف كثيرا من أثقال النفس وهمومها ، ويبعد بها عن أجزائها وواقعها السّيئ. وربما يجدون في أنفسهم بعض الحاجة إلى الهروب من الواقع المرير إلى واقع لا أثر فيه للمرارة أو للمشاكل ، تماما كما هو النوم في حياة الإنسان ، حيث تستريح فيه الأعصاب ، ويهدأ معه الفكر ، وتتجدد فيه القوى.

* * *

طريقة القرآن في إثارة القضايا

وحاول القرآن الكريم ـ في جوابه عن ذلك ـ أن لا يتنكر لهذه التصورات ، ولا يتعسّف في توجيه الحكم الشرعي إليهم ، فبدأ بإثارة الجوانب السلبية بإزاء الجوانب الإيجابية ليفكروا فيها بهدوء ، ليتحقق لهم التوازن في تصورهم للأشياء وحكمهم عليها ، لأن ذلك هو السبيل القويم في سلامة المعرفة من الانحراف تحت ضغط العادة أو المنفعة أو الشهوة ، وذلك هو قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) [المائدة : ٤٩] فإنه يضع أمامهم التأثيرات السلبية في الحياة الاجتماعية العامة والخاصة ، وفي الحياة الروحية التي يعيش فيها الناس مع الله في لحظة العبادة والتأمل ، لأن الخمر يذهب بالعقل ، فيتصرف الإنسان ـ معها ـ بفعل الغريزة التي تجمع الأحقاد وتفجرها في طريقة لا شعورية ،

٢١٧

بينما يساهم القمار في شعور الخاسر بالحقد تجاه الرابح ، لأنه قد أخذ منه ماله دون مقابل. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، يشارك الخمر والقمار من خلال الإدمان عليهما ، في إبعاد الإنسان عن الذكر وعن الصلاة ، وعلى هذا وجّه القرآن الكريم سؤالا ، يقصد منه الاستنكار وطلب الكف عن هاتين العادتين بقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] كإيحاء خفيّ بأن العاقل هو الذي يبادر بنفسه ، من دون حاجة إلى تعليمات خارجية ، لترك ما يفسد عليه أمر حياته وقضية مصيره.

* * *

القرآن والموازنة بين الإيجابيات والسلبيات

ثم أراد القرآن الكريم أن يوازن بين الإيجابيات والسلبيات ، فيحضرهما في وعي الناس في البداية ، ثم يرشدهم إلى الحقيقة الموضوعية ، وهي زيادة نسبة الجوانب السلبية في ممارستهما على الجوانب الإيجابية ، ويترك للعقل الواعي عملية استخلاص النتيجة التي ستكون إلى جهة التحريم ، لأن العقل لا يقبل للإنسان أن يرتكب الفعل الذي يضره بنسبة كبيرة ، لتحصيل منفعة ليست بذاك المستوى من الأهمية. أما كيف ذلك؟ فإننا قد نجد إلى جانب منفعة الخمر والقمار مفاسد لا تمثل المنفعة القليلة ـ معها ـ شيئا ، فهناك المشاكل الصحية والمشاكل الاجتماعية التي قد تحدث كنتيجة طبيعية لغياب العقل في بعض الحالات مع بقاء الإنسان جزءا من الحياة الاجتماعية في تصرفاته وحركاته ، مما يسبّب كثيرا من الجرائم والانحرافات العامة والخاصة ، إذ ليس في المجتمع محاجر عقلية تحجر على المدمن حريته في حال سكره ، فلا تدعه

٢١٨

يمارس قيادة السيارة أو غيرها ، أو يحمل السلاح ، أو يعيش في بيته مع أطفاله ، ليتجنّب المجتمع من نزوات السكّير وانحرافاته ، كما تفعله مع الذين يفقدون عقلهم نهائيا ، في مدة قليلة أو كثيرة. هذا في الخمر.

وأمّا القمار ، فقد نجد فيه ـ إلى جانب ما ذكرته الآية السابقة ـ انحرافا اجتماعيا خطيرا ، عند ما يتحول الإنسان إلى كسب قوته من طريق القمار تاركا العمل وراء ظهره ، مما يفقد المجتمع معه طاقة كبيرة أو صغيرة نافعة ، ويؤدي ـ بالتالي ـ إلى تدمير حياة المقامر وحياة أسرته ، لأنها لا ترتكز على أساس متين لاعتمادها على «الشطارة الذهنية» للمقامر أو على غباء ملاعبه.

وهكذا تنتهي عملية التوازن بين الربح والخسارة إلى انخفاض نسبة الربح بشكل كبير جدا ، بإزاء ارتفاع نسبة الخسارة بشكل مماثل أو أكبر ، ليضع القرآن الناس أمام الحقيقة الكبيرة التي غفلوا عنها ، تماما كما يفعل الذين يتذوقون حلاوة السم ، فينشغلون بلذّة الحلاوة عما في السم من خطر مميت على الحياة. ثم يوحي ـ من خلال ذلك ـ إليهم ، بأن التشريع ، في ما يخطط من تحريم وتحليل ، لا ينطلق من نقطة العبث والالتذاذ بتقييد حرية الآخرين ، بل تبدأ انطلاقته وتنتهي في حدود مصلحة الإنسان الخاصة والعامة. فلا تحريم إلا عند ما تكون المفسدة أقوى من المصلحة ، ولا تحليل إلا عند ما تكون القضية على العكس ، سواء في ذلك ما اعتاده الناس وما لم يعتادوه ، لأن الحرية في التشريع الإلهي ليست مزاجية تخضع لانفعالات المزاج في حالات اللذة والألم ، بل هي واقعية أساسية تخضع للمصالح والمفاسد الحيوية للإنسان في حركة الحياة وقاعدتها الرئيسية.

وعلى ضوء ذلك ، فإن القرآن لم يزد شيئا على تقرير هذه الحقيقة الواقعية في الخمر والميسر ، فلم يقل لهم ما يجب عليهم أن يفعلوه بل ترك الأمر للإحساس الفكري الصافي ببداهة النتيجة التشريعية التي تلتقي بالحكم

٢١٩

الإسلامي الحاسم بتحريم الخمر والقمار بشكل أساسي ونهائي ، في هذه الآية الكريمة.

* * *

ما موقف الإسلام من الخمر والميسر؟

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) هل للإسلام موقف محدّد منهما؟ وهل هذا الموقف سلبي ينطلق في خط التحريم ، أو إيجابي في خط التحليل؟ لأن هناك عادة عامة في أوساط الناس في الأخذ بهما ، في الوقت الذي يتحسسون حدوث أكثر من مشكلة اجتماعية منهما ، (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) فهما يختزنان في خصوصياتهما الذاتية معنى الذنب ، في مضمونه الذي يوحي بالنتائج السيئة التي تؤدي إلى فساد في العقل أو في المال يعطّل الوضع الطبيعي المتوازن في الحياة ، من خلال الضرر الذي يحدثه في واقع الإنسان في التعقيدات السلبية التي تصيب روحه وعقله ، فتقعد به عن الحصول على النمو العقلي والروحي والتوازن في حركته في الحياة.

فإن الخمر يترك تأثيراته على عمر الإنسان ، من خلال الأضرار التي يحدثها في الجسد ، وقد يؤدي إلى الضرر على الجنين الذي يولد من أبوين مدمنين ، وإلى الكثير من المفاسد الأخلاقية والأضرار الاجتماعية والاقتصادية ، حسب الدراسات الطبية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية. كما أن القمار يترك تأثيره الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي على واقع المدمنين له ، فيبعدهم عن العمل المنتج ، الذي يحرّك طاقة الإنسان نحو الإنتاج في المجالات التي تمثل حاجات الناس في حياتهم العامة والخاصة.

وفي ضوء ذلك ، فإن كلمة الإثم تختزن في داخلها معنى الضرر.

٢٢٠