تفسير من وحي القرآن - ج ٤

السيد محمد حسين فضل الله

الآية

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢١٣)

* * *

معاني المفردات

(أُمَّةً) : الأمة : وردت في القرآن في أكثر من معنى :

١ ـ الجماعة الذين يرتبطون برابطة واحدة.

٢ ـ الملّة ، أي : العقائد وأصول الشريعة.

٣ ـ الزمن ، وذلك من قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) [هود : ٨] أي مدة معدودة.

٤ ـ الإمام وهو قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل : ١٢٠] أي : إماما جامعا لصفات الخير.

١٤١

والمراد بها هنا ، على رأي الكثيرين من المفسرين ، الملة ، وقيل : إنها الجماعة.

(الْبَيِّناتُ) : الحجج الظاهرة على حقائق العقيدة.

* * *

الرسالات ودورها في الاختلافات

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) كان الناس أمة واحدة في ما يحملون من فكر ، فلم تكن لهم أفكار متعددة في شؤون الكون والحياة ليختلفوا فيها ، ولم تكن لديهم اهتمامات في نظام الحياة وقانونها ليتنازعوا فيها ، بل كانوا يعيشون مشاكلهم الخاصة في حاجاتهم في الحياة اليومية ؛ فيتنازعون في ما يأخذه بعضهم أو يدعه ، أو ما تتصرف به جماعة لا توافقها عليه الجماعة الأخرى ، الأمر الذي يؤدي إلى وقوع الاختلافات بينهم ، ويوجب انتشار الظلم عندهم ، وابتعاد الواقع عن خط العدل .. فكانت الرسالات الإلهية التي اتخذت أسلوب التبشير والإنذار ، السبيل الوحيد لحل هذه المشاكل والاختلافات ، من أجل تركيز الحياة في قضاياها اليومية على قاعدة ثابتة من العدل الإلهي ، ليشعر الإنسان بقداسة الحلول وواقعيتها ، فيستسلم لها في خضوع واقتناع.

ولكنّ بعض الناس الذين أوتوا الكتاب بالحق لم يستريحوا إلى ذلك ، لأنهم كانوا يعيشون على حساب تلك الخلافات ، فنقلوها إلى الكتاب نفسه بما أثاروه من تأويلات وتفسيرات وتطبيقات ، مما جعل القضية في حياتهم موضع خلاف فكري في أمر الكتاب ، فيأخذ جماعة بتأويل يختلف عما يأخذه الآخرون ، ويتعصب فريق لتفسير يختلف عما يتعصب له الفريق الآخر. ولم يكن اختلافهم نتيجة اختلاف في الاجتهادات ، في ما تنطلق فيه من سبل

١٤٢

الوصول إلى الحق التي قد تتنوع تبعا لتنوع الثقافة أو النظرة إلى الأمور ، بل كان اختلافهم نتيجة البغي والحقد والعداوة في ما بينهم كنتيجة طبيعية للعلاقات المتأزمة الخاضعة لأسباب غير شرعية. وهكذا امتد هؤلاء في خلافاتهم حتى حولوا الساحة البشرية إلى قاعدة للتنازع والتجاذب والخصام.

أما المؤمنون ، فلم يستسلموا للخلافات ولم يركنوا إليها ، بل عملوا بكل ما لديهم من جهد وقوة على اكتشاف الحق من خلال علاماته التي هداهم الله إليها في ما أنزله من الحق والهدى ، فساروا في طريقه ، واستسلموا له ، وتركوا كل فئات البغي والفساد تتخبط في ضلالها ، بعد ما حاولوا القضاء عليها فلم يتمكنوا من ذلك ، فأقبلوا على ما هم فيه مما أوكله الله لهم من شؤون المسؤولية في طاعته في ما يتعلق بقضاياهم وقضايا الناس ، وذلك هو شأن الله في هدايته للناس لمن يشاء هدايته إلى الصراط المستقيم ، فإنه يهيّئ لهم كل وسائل الهداية من داخل أنفسهم ومن خارجها ليختاروا السير معها من موقع قناعتهم القائمة على الوعي والإيمان والإرادة.

وهكذا (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي على ملة واحدة ، أو جماعة واحدة مرتبطة بالفطرة التي لا تنطلق في خط التفاصيل الفكرية المنفتحة على المنهج العملي في الخط الواحد ، بل كانت تتحرك من خلال العفوية الطبيعية في حركة الفعل ورد الفعل ، فلم يكونوا مهتدين أو ضالين في مصطلح الهدى والضلال في الرسالات ، لأنهم لم يكونوا قد التقوا بها ؛ فلم تكن هناك نبوّات تحمل كتبا سماوية لأن آدم عليه‌السلام لم يكن صاحب رسالة تفصيلية في نبوّته ، لكنهم كانوا ضلالا بالمعنى السلبي ، بمعنى فقدانهم للهداية الرسالية التفصيلية التي تنظم لهم القواعد والمفاهيم والشرائع والمناهج ، وتخطط لهم الوسائل والأهداف ، على طريقة قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى : ٧] فإن المراد من الضلالة هو عدم الاهتداء لفقدان الهدى الرسالي في التفاصيل ، لا الضلال بالمعنى الإيجابي المضاد ، لأن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن ضالا بهذا المعنى ،

١٤٣

وهذا ما عبّر عنه الحديث المروي عن الإمام الباقر عليه‌السلام الذي نقله الطبرسي في مجمع البيان فقال : «وروى أصحابنا عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أنه قال : كانوا قبل نوح أمّة واحدة على فطرة الله ، لا مهتدين ولا ضلّالا ، فبعث الله النبيين. ويتابع صاحب المجمع هذا الحديث فيعلق عليه قائلا : وعلى هذا ، فالمعنى أنهم كانوا متعبدين بما في عقولهم ، غير مهتدين إلى نبوة ولا شريعة ، ثم بعث الله النبيين بالشرائع لما علم أن مصالحهم فيها» (١). وهذا ما عبّر عنه الإمام جعفر الصادق ، حسب الرواية المروية عنه ، بطريقة أخرى قال : ـ في ما نقله يعقوب بن شعيب الذي سأله عن قول الله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) ـ كان هذا قبل نوح أمة واحدة عند الله فأرسل الرسل قبل نوح ، قلت : أعلى هدى كانوا أم على ضلال؟ قال : بل كانوا ضلّالا ، كانوا لا مؤمنين ولا كافرين ولا مشركين (٢).

وفي ضوء ذلك ، فإن هذه الحالة الفطرية الطبيعية التي يستوحيها الناس في ما يفكرون به أو ما يعملونه بطريقة ضبابية ، لا بد من أن تخلق المشاكل للمجتمع ؛ لأن الخلافات الناشئة بين أفراده من خلال تشابك العلاقات وتعقيد الأوضاع في حاجاتهم المشتركة ، وأعمالهم المتنوعة التي تمثل حاجة بعضهم إلى البعض الآخر ، واستخدام بعضهم بعضا ، وخلافاتهم المختلفة ، لا بد من أن تخلق المشاكل الكثيرة لديهم لفقدان الحلول التفصيلية التي تضع الأمور في نصابها الصحيح ، وتفتح المشاكل على الحلول الواقعية ؛ الأمر الذي جعل إرسال الأنبياء ضرورة حية لتحقيق التوازن الاجتماعي على قاعدة ربط الدنيا بالآخرة ، واعتبار الجزاء في يوم القيامة ـ في ثوابه وعقابه ـ حافزا للناس للانضباط على الخط المستقيم ، ليستقيم الهدى على قاعدة ثابتة في منهج الرسالة وفي التطلع إلى اليوم الآخر.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٤٣.

(٢) انظر : تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ١٤٥.

١٤٤

(فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ) المؤمنين الطائعين بالجنّة ، (وَمُنْذِرِينَ) الكافرين والعاصين بالنار. (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) الذي يعطي للأشياء حدودها ، وللقضايا مناهجها ، وللمشاكل حلولها ، وللمنازعات والخلافات خطوطها التي يتميز فيها الحق عن الباطل ، فيكون الكتاب هو المنهج الواضح الذي ينهج بالناس إلى الصواب في أمورهم ، والحكم العدل الذي يسير بالمجتمع إلى ساحة العدل في ميزان القضاء ، (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) من الحق قبل إنزال الكتاب ، لأنهم كانوا لا يرتكزون في أحكامهم على قاعدة ، مما جعلهم لا يقفون على أساس واضح للوصول إلى النتائج الحاسمة التي تحدد لهم الحق والباطل. وهنا يأتي الكتاب بالحق النازل من الله الذي لا يقترب إليه الباطل في عملية اختراق وامتزاج.

وهكذا أراد الله للحق الرسالي الكتابي أن يكون هو المرجح للناس كافة ، لأنه الذي قرره الله ، وما يقرره الله رب العالمين لا يجوز لأي إنسان أن يناقشه أو يعارضه أو يتمرد عليه. ولكن المشكلة التي واجهت هذا الحق ، أن نقاط الضعف الإنساني قد اندفعت إليه لتثير حوله الضباب النفسي الذي يغطي الحقيقة ، ويمنع الوضوح ، ويبتعد بالفهم عن منهجه الصحيح ؛ فبدأ الاختلاف في الحق الذي جاء به الكتاب (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي : ما اختلف في الحق الذي أنزل الكتاب به إلا الذين آتاهم الله الكتاب وأنزله عليهم ليهتدوا به. ولم يكن ذلك عن شبهة أو اجتهاد مختلف ، بل كان ذلك ـ بعد الوضوح الكامل ـ (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) وهي الأدلة والبراهين الواضحة التي لا مجال فيها لإنكار منكر أو لاعتذار معتذر ، (بَغْياً بَيْنَهُمْ) مما يمثله البغي من خلفيات نفسية سلبية كالحسد والعداوة الذاتية ، وحب الرئاسة وغيرها مما يجعل الإنسان يحرّف الكلم عن مواضعه ، فيؤوّل ما لا يقبل التأويل ، ويثير الشبهة في ما لا مجال فيه للاشتباه ، ويجتهد في ما لا موقع فيه للاجتهاد على طريقة الاجتهاد في مقابل النص. وهذا هو شأن المنافقين الذين لم يتعمق

١٤٥

الإيمان في قلوبهم إخلاصا.

أما المؤمنون المخلصون ، فهم موضع عناية الله ورعايته وهدايته ، لأنه اهتدوا بهداه وأخلصوا له الإيمان : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) ، فلم تكن المسألة عندهم موضع شبهة ، بل كانت تملك الوضوح كله من خلال طبيعة الوضوح في الآية ، وفي خط الرسول ، وفي حركة الرسالة على صعيد النظرية والتطبيق. وهكذا اكتشفوا الحق في ذلك كله ، فلم يقع بينهم أي اختلاف فيه. وتلك هي سنة الله في عباده ، فإنه يمنح الذين يعيشون الهدى في وجدانهم ، والإخلاص في إيمانهم ، والقدرة على الاهتداء التفصيلي في ألطافه التي يتفضل بها عليهم وفي الإشراقة التي يفتح بها عقولهم. وهذا ما أشار إليه في قوله تعالى : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو الصراط الذي يمثل الحق في العقيدة والشريعة والمنهج وفي حركة الحياة.

ويمكن أن نستوحي من هذه الآية عدة نقاط :

* * *

التشريع يشمل كل مجالات الحياة

١ ـ إن الرسالات الإلهية لم تنزل لتعرّف الناس شؤون العبادة والأخلاق العامة ، بل نزلت لتكون حكما بين الناس في ما اختلفوا فيه من أمور الحياة الخاصة والعامة ، سواء كان ذلك في نطاق العلاقات الشخصية أو في نطاق العلاقات الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو غيرها ، مما يدحض الفكرة القائلة بأنّ الدين علاقة شخصية بين العبد وربه ، فلا تتحرك في حياة الناس العامة ، بل تنحصر في نطاق الذات وفي أجواء المعبد. فإن طبيعة الدور الذي

١٤٦

تتحدث عنه الآية يفرض أن يشمل التشريع كل جوانب الحياة التي تكون مثارا للاختلاف ، وأن يكون لكل مشكلة حلّها العادل الذي تستقيم له الحياة وتخضع له.

* * *

البغي كان أساس الاختلاف

٢ ـ إن الاختلاف الحاصل بين الناس ، لا سيما في نطاق الاختلافات الدينية ، لم ينطلق ـ غالبا ـ من اختلاف في الاجتهاد ، بل من البغي الذي يعيش في نفوس الناس ، ممّا يدفعهم إلى استغلال الغموض في بعض المفاهيم أو المواقف الدينية لخدمة مصالحهم الخاصة ، مما يجعل من هذه الخلافات حالة مرضيّة ، لا حالة صحيّة.

* * *

الذين يحبون الحقيقة ينفتحون على الحوار

٣ ـ إن الآية الكريمة تقرر أن الذين يواجهون الحقيقة من موقع إخلاصهم لها ، يعملون بكل قوة من أجل الوصول إليها ، فيفتحون على أجواء الحوار ، ويستمعون لوجهة النظر المعارضة ، ويدفعون الفكر في اتجاه التعمق في دراسة الفكرة لمعرفة كل سلبياتها أو إيجابياتها ، ويتحملون كل الجهد اللازم من أجل ذلك حتى يصلوا إليها ليرتبطوا بها ، وهذا ما عبرت عنه الآية بقوله تعالى : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ). فإن طبيعة الإيمان تفرض على الإنسان أن لا يستسلم إلى حالات الاسترخاء الفكرية التي تتقبل الأفكار الموروثة من دون أن تكلف نفسها عناء التعب في إعادة النظر

١٤٧

فيها من موقع الفكرة والمعاناة ، لأنه يعتبر الإيمان بالحق مسئولية الإنسان المؤمن بالبحث عن قواعده وآفاقه ، كما أنه يجد في الفكرة الذي يحمله منطلق المسؤولية في كل قناعاته وأفكاره. أما معنى «إذن الله» في الهداية ، فلعله السنن الإلهية في أسباب الهداية وعواملها ، ممّا إذا أخذ به الإنسان اهتدى إلى الحق ، ككل سبب يحصل بحصول مسببه ، ولا ينافي ذلك الاختيار ، لأن إرادة الإنسان ووعيه وإقباله على الأخذ بهذه العوامل ، هو أحد مظاهر هذه السنن الإلهية في عالم الهداية.

وفي ضوء ذلك ، يمكننا أن نستوحي الفكرة التالية ، وهي أن استمرار الخلافات يرجع إلى ابتعاد الناس عن الأخذ بأسباب الهداية ، والتزامهم موقف التزمت والتعصب في ما يعتقدون ، وعدم إقبالهم على أجواء الحوار لمصلحة الحق ، الأمر الذي يمثل حاجزا نفسيا ضد الالتقاء بالحق ، لأنّ للحقّ دلائل وعلامات لا بد للإنسان من أن يذعن لها إذا التقى بها أو بحث عنها في الطريق. ولا يمكن للإنسان أن يدعي عدم التمكن من الوصول إليه من موقع فقدان الوسائل ، بل لا بد له من أن يبحث عن ذلك في تجميده لطاقاته عن الحركة ، وفي إغفال وعيه عن البحث والدخول في مجالات الحوار ، فقد تكفل الله بهداية الذين يتحركون في خط الهداية من خلال وسائلها الطبيعية.

* * *

مع صاحب الميزان في تفسير الاختلاف

قال صاحب الميزان في تفسير الآية : «الآية تبين السبب في أصل تشريع أصل الدين ، وتكليف النوع الإنسانيّ به ، وسبب وقوع الاختلاف فيه ببيان أن الإنسان ـ وهو نوع مفطور على الاجتماع والتعاون ـ كان في أول اجتماعه أمة واحدة ، ثم ظهر فيه ـ بحسب الفطرة ـ الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية ،

١٤٨

فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة ، والمشاجرات في لوازم الحياة. فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين ، وشفّعت بالتبشير والإنذار بالثواب والعقاب ، وأصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين وإرسال المرسلين.

ثم اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدأ والمعاد ، فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية ، وظهرت الشعوب والأحزاب. وتبع ذلك الاختلاف في غيره ، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلا بغيا من الذين أوتوا الكتاب ، وظلما وعتوّا منهم بعد ما تبين لهم أصوله ومعارفه ، وتمت عليهم الحجة.

فالاختلاف اختلافان : اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم ، واختلاف في أمر الدنيا وهو فطري وسبب لتشريع الدين. ثم هدى الله ـ سبحانه ـ المؤمنين إلى الحق المختلف فيه بإذنه» (١).

ويفسر السيد الطباطبائي الاختلاف الأول على أنه كان في شؤون الدنيا على أساس اقتناء المزايا الحيوية في ذاته ، من خلال حركة القوة والضعف التي تقود إلى الاختلاف والانحراف عما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعي ، فيستفيد القوي من الضعيف أكثر مما يفيده ، وينتفع الغالب من المغلوب من غير أن ينفعه ، ويقابله الضعيف المغلوب ما دام ضعيفا مغلوبا بالحيلة والمكيدة والخديعة ، فإذا قوي وغلب قابل ظالمة بأشد الانتقام ، فكان بروز الاختلاف مؤديا إلى الهرج والمرج وداعيا إلى هلاك الإنسانية ، وفناء النظرة وبطلان السعادة.

وخلاصة ذلك ، أن المراد من الاختلاف الأول هو الاختلاف الواقعي ، بينما يمثل الاختلاف الثاني الاختلاف الفكري أو ما يشبه ذلك ، وأن الأول تفرضه طبيعة حركة الفطرة في انفتاح الإنسان على ذاتياته ، بينما ينطلق الثاني

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ١١٣.

١٤٩

من البغي الذي يختلف فيه الناس حول الكتاب.

ونلاحظ على ذلك ، أن اختلاف الناس في الواقع في موازين القوة والضعف لم يكن منطلقا من الغريزة العمياء ، بل من القيم المتفق عليها في ما بينهم ، والمفاهيم المزروعة في داخلهم ، الناشئة من الضبابية الفكرية في إيحاءات الفطرة ، ومن التنوع في التجربة الإنسانية في هذا الموقع أو ذاك. فهناك فريق من الناس يتحرك في حياته من ناحية القيمة الأخلاقية القائمة على احترام الإنسان وحقه في الحياة وفي الحصول على النتائج الإيجابية من خلال جهده ، وهناك فريق آخر يرى ضرورة حصول الناس على النتائج الإيجابية أو السلبية بشكل متساو وإن كان جهدهم مختلفا ، وهناك الناس الذين لا يؤمنون بالله أو يشركون بعبادته غيره ، وهناك الناس الذين يلتزمون الخط الإيماني التوحيدي.

وهذا ما لاحظناه في قصة قابيل وهابيل التي سبقت عهد النبوات الكتابية ، التي يمكن أن تكون نبوّة نوح هي البداية لها ، وذلك من خلال قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [الشورى : ١٣]. فقد نلاحظ أن هابيل كان يحمل الفكرة الإيمانية المنفتحة على احترام حياة الآخرين وإن أساؤوا إليه في وداعة الروح وسماحة الوجدان ، بينما نجد أن قابيل يمثل الإنسان العدواني الذي لا ينظر إلى الأشياء نظرة متوازنة ، بل ينظر إليها من ناحية ذاته ، لأن القيمة عنده هي قيمة الذات ، فهو لا يريد لأخيه أن يتميز عنه ولو كان الأمر بعيدا عن اختياره لارتباطه بالله في تمييزه عن أخيه.

وهذا هو قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ـ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ

١٥٠

تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) [المائدة : ٢٧ ـ ٣١].

فإننا نستوحي من هذه الآيات أن قابيل وهابيل كانا يعيشان معا المفاهيم الأخلاقية التي تدفعهما إلى احترام الإنسان في كل واحد منهما من قبل الآخر ، ولكن قابيل عاش الصدمة القاسية في عدم قبول قربانه الذي لم يكن لأخيه يد فيه ، ولكن الحسد القاتل دفعه إلى البغي على أخيه فقتله بغيا وحسدا ، تماما كما هي المسألة في الذين اختلفوا (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) فليس هناك فرق بين الأولين والآخرين في هذه المسألة ، لا سيما إذا عرفنا أن آدم الذي كان في موقع النبوّة ـ على الرأي المشهور ـ لا بد من أن يكون قد بلّغ أولاده العناوين الكبرى للقيم الروحية الأخلاقية التي تمثل الخط الإلهي الذي يقود إلى رضوانه ويؤدي إلى دخول جنته ، لا سيما بعد التجربة الصعبة التي خاضها مع إبليس في إخراجه من الجنة وإنزاله إلى الأرض ، وإعلان الله له ولزوجه ولإبليس في قوله تعالى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٣٨ ـ ٣٩].

فإننا نفهم ، من هاتين الآيتين أن الله تحدث لآدم وحواء عن النتائج الإيجابية أو السلبية التي يحصل عليها المؤمنون والكافرون في دخول الجنة للمهتدين ودخول النار للضالين الكافرين ، الأمر الذي يوحي بأن آدم قد عاش المسؤولية المنفتحة على البرنامج العملي الذي لا بد من أن يأخذ به في سلوكه المستقبلي في الدنيا مع ذريته ، ومن الطبيعي أن يكون قد تلقى من ربه كلمات وكلمات تحدّد له الخط المستقيم حتى لا يعيش التجربة الضائعة من جديد في

١٥١

الأرض على الطريقة التي عاشها في الجنة.

وإذا كان الأمر جاريا في هذا المجرى ، فلا بد من أن تكون ذريته قد انفتحت على قيم الخير وقيم الشر ، وخط الإيمان في طريق الاستقامة ، وطريق الكفر في خط الانحراف ؛ فسقط بعضهم كقابيل واستقام بعضهم كهابيل وشيث. ولا بد من أن يكون ذلك قد انعكس على الواقع الاجتماعي المتطور في وجود نظام متحرك محدود في حجم طبيعته المحدودة ، ولكن الفرق بين آدم ومن بعده ، أنه كان رسولا من دون كتاب ، لأنّ تجربة الواقع من حوله لم تكن بحاجة إلى المزيد من التفاصيل ، بينما كان لبعض الأنبياء كتاب لحاجة البشرية في عهده إلى النظام الكبير.

وفي ضوء ذلك ، نعرف أن الاختلاف الأول كان على الحق في خلافهم حوله ، بينما كان الاختلاف الثاني في فهم الكتاب وتنويع الخطوط من خلاله ، في الوقت الذي كانت فيه مفردات الحياة في البداية والنهاية خاضعة للخطوط التي ينطلق بها الحق في الرسالة الأولى والرسالات التالية ؛ والله العالم.

* * *

مع العلامة الطباطبائي في الاستدلال بالاية على عصمة الأنبياء

جاء في تفسير الميزان في بحث عصمة الأنبياء : «أما العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة ، فيدلّ عليه قوله تعالى في الآية : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا (١) الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) فإنه ظاهر في أن الله سبحانه إنما بعثهم بالتبشير

١٥٢

والإنذار وإنزال الكتاب ـ وهذا هو الوحي ـ ليبينوا للناس الحق في الاعتقاد والحق في العمل. وبعبارة أخرى ، لهداية الناس إلى حق الاعتقاد وحق العمل ، وهذا هو غرضه سبحانه في بعثهم ، وقد قال تعالى : (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢] ، فبيّن أنه لا يضل في فعله ولا يخطئ في شأنه. فإذا أراد شيئا فإنما يريده من طريقه الموصل إليه من غير خطأ ، وإذا سلك بفعل إلى غاية ، فلا يضل في سلوكه ، وكيف لا ، وبيده الخلق والأمر ، وله الملك والحكم ، وقد بعث الأنبياء بالوحي إليهم وتفهيمهم معارف الدين ، وبالرسالة لتبليغها للناس. وقال تعالى أيضا : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق : ٣] ، وقال أيضا : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) [يوسف : ٢١]» (١).

ونلاحظ على ذلك ، أنّ ما ذكره لا يلازم ما ذكره من العصمة عن الخطأ في التبليغ ، فإنّ هداية الناس إلى حق الاعتقاد وحق العمل ، كما أنّ الحديث عن «أنّ الله إذا أراد شيئا فإنما يريده من طريقه الموصل إليه من غير خطأ وإذا سلك بفعل إلى غاية ، فلا يضل في سلوكه» لا يقتضي إلا أن يصل الوحي إلى الناس لهدايتهم كاملا غير منقوص ، وهذا ما يؤكد وصوله عن طريقه من غير خطأ ، ولا ملازمة بين ذلك وبين العصمة ، فإن من الممكن ـ من الناحية التجريدية ـ أن يخطئ النبي في تبليغ آية أو ينساها ، في وقت معين ، ليصحح ذلك ويصوّبه بعد ذلك ، لتأخذ الآية صيغتها الكاملة الصحيحة. وإذا قيل : إن احتمال الخطأ والنسيان إذا كان واردا في الحالة الأولى ، فهو موجود في الحالة الثانية ، مما يؤدي إلى فقدان الأساس الذي يحصل من خلاله الإيمان بواقع الآية في الوحي المنزل ، فلا يصير الإنسان إلى يقين بذلك؟! فإن الجواب هو : من الممكن تقديم القرائن القطعية في الحالة الثانية ، التي تؤدي إلى اليقين ، تماما كما قيل في مسألة سهو النبي ، في رأي الشيخ الصدوق على أساس بعض الروايات التي أوضح النبي فيها القضية من دون لبس بالطريقة التي اقتنع فيها

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ١٣٦ ـ ١٣٧.

١٥٣

الناس بأن المسألة كانت سهوا ـ كأي سهو آخر مما يحدث للناس ـ لو صحت الرواية.

إنّ قضية الغرض الإلهي في وصول الوحي إلى الناس ، لا يستلزم إلا الوصول في نهاية المطاف من غير خطأ ، ولكن لا مانع من حدوث بعض الحالات التي يقع فيها الخطأ ، لا ليستمر ، بل لينقلب إلى صواب تؤكده القرائن القطعية التي توحي بالحقيقة في وجدان الإنسان. ويتابع العلّامة الطباطبائي حديثه في العصمة ليشمل ـ في استيحاء هذه الآية مع آية ثانية ـ العصمة عن المعصية في العمل فيقول : «يمكن تتميم دلالتهما على العصمة من المعصية أيضا بأن الفعل دال كالقول عند العقلاء. فالفاعل لفعل يدل بفعله على أنه يراه حسنا جائزا كما لو قال : إن الفعل الفلاني حسن جائز ، فلو تحققت معصية من النبي وهو يأمر بخلافها ، لكان ذلك تناقضا منه ، فإن فعله يناقض حينئذ قوله ، فيكون حينئذ مبلغا لكلا المتناقضين. وليس تبليغ المتناقضين بتبليغ للحق ، فإنّ المخبر بالمتناقضين لم يخبر بالحق لكون كل منهما مبطلا للآخر ؛ فعصمة النبي في تبليغ رسالته لا تتم إلا مع عصمته عن المعصية وصونه عن المخالفة كما لا يخفى» (١).

ونلاحظ على ذلك أن ما ذكره من دلالة الفعل على نهج دلالة القول صحيح ـ من ناحية المبدأ ـ وذلك في الحالة العادية الطبيعية للتعبير الإنساني بواسطة النقل ؛ ولكن قد ينطلق الفعل من الإنسان على أساس الواقع العملي الذي قد يتحرك فيه من خلال أوضاعه الشخصية الخاضعة لبعض النزوات الطارئة بفعل الضغوط الداخلية أو الخارجية ، الحسية والمعنوية ، فيتراجع عنها لمصلحة المبدأ الذي كان قد بيّنه للناس من موقع الوحي أو نحوه ، تماما كما هي الحالة الجارية في سلوك المصلحين والرساليين ـ حتى الأتقياء منهم ـ في

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ١٣٧.

١٥٤

انحراف خطواتهم العملية عن الخط الرسالي أو الإصلاحي أو التقوائي بشكل طارئ لا يتحول إلى إصرار ، على هدى ما جاء في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١]. أو على ما حدثنا الله به عن آدم عليه‌السلام في معصيته ، ولو كان ذلك على طريقة عصيان الأمر الإرشادي ، ثم توبته بعد ذلك ؛ فإن مثل هذا لا يوحي بالتناقض ، لأن الفعل لم يتحرك في أجواء الدلالة التعبيرية عن الفكرة التي عبّر عنها القول ، لأن مقامه ليس هذا المقام. وفي هذه الحال ليست هناك طريقة عقلائية في موضوع الدلالة.

إننا نتصوّر أن هذا الأسلوب الاستدلالي في تقرير العصمة في القول والفعل لا يملك القوة في الاستدلال من خلال المناقشات المذكورة وغيرها ، فلا بد من اللجوء إلى أدلة أخرى قد يكتشف الإنسان فيها أن النبوّة حدث غير عادي في معنى الرسالة ، لأنها حركة إلهية في هداية البشرية إلى الله وتغيير الحياة على صورة أخلاق الله ؛ مما يفرض إنسانا يعيش الرسالة في عمقه الروحي ، وتأمله الفكري ، وأخلاقيته العظيمة في صدقه مع ربه ونفسه ومع الناس ، وأمانته في ماله ودينه ومسئوليته وإنسانيته ، بحيث تكون الرسالة التي يحملها منسجمة مع الروح التي يتجسّد فيها ، لتكون الرسالة جسدا يتحرك ، ويكون الجسد رسالة تنفتح على الله وعلى الإنسان والحياة في اتجاه التغيير.

إن هذا الدور التغييري ، الذي يستهدف تغيير الإنسان بالكلمة والقدوة ، بحاجة إلى الإنسان ـ الصدمة الذي يصدم الواقع الفاسد بكل قوة ، الأمر الذي ينفتح فيه اللطف الإلهي على إعطاء المزيد من القوة الروحية والأخلاقية والفكرية والعصمة العملية لهذا الإنسان ، سواء أكان ذلك بالطريقة التي يبقى فيها عنصر الاختيار له لسلوك الاتجاه المضاد أم كان بطريقة أخرى ، لا يبقى فيها له ذلك العنصر ، لأن القضية هي حاجة البشرية إليه ، أما قضية الثواب وعلاقتها بالاختيار ، فهي مسألة لا تعقيد فيها ، لأنها ـ في جميع الأحوال ـ

١٥٥

تفضل من الله ، حتى رأينا البعض يتحدث عن الاستحقاق بالتفضل.

إننا نعتقد أن العصمة ترتبط في طبيعتها بالدور الذي تتمثل فيه النبوة في حركة الإنسان والحياة ، ولذلك لا بد من دراسة الموضوع بطريقة أكثر عمقا مما تداوله علماء الكلام الذي رأينا بعض ملامحه في تفسير الميزان.

* * *

١٥٦

الآية

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢١٤)

* * *

معاني المفردات

(الْبَأْساءُ) : الشدة والمكروه. قال الراغب : البؤس والبأس والبأساء : الشدة والمكروه ، إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر ، والبأس والبأساء في النكاية (١). وقال الطبرسي : البأساء نقيض النعماء ، والضراء نقيض السراء (٢).

(وَالضَّرَّاءُ) : يقابل السراء والنعماء ، والضرّ يقابل النفع ، وهو سوء الحال إما في النفس أو البدن أو حالة ظاهرة في قلة حال أو جاه. قال العلّامة الطباطبائي ، في الفرق بين البأساء والضراء : البأساء هو الشدة المتوجهة إلى

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٣٢.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٥٤٦.

١٥٧

الإنسان في خارج نفسه كالمال والجاه والأهل والأمن الذي يحتاج إليه في حياته ، والضرّاء هي الشدة التي تصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض (١).

وقال بعضهم : إنّ البأساء هي البؤس الثابت من داخله ، من الشدائد في العيش والابتلاءات النفسانية ، والضرّاء : الحادثة من الخارج.

(وَزُلْزِلُوا) : حركوا وأزعجوا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال. وأصل الزلزلة : من زلّ ، كررت اللفظة للدلالة على التكرار.

* * *

الجنة لا تنال بالاسترخاء أو بالتمنيات

هذه الآية من آيات الدعوة الموجهة إلى العاملين في سبيل الله ، الذين قد تضغط عليهم تحديات الكفر والانحراف ، فيتراجعون ، أو ينهزمون ، أو يضعفون أمامها ، أو يسقطون تحت عوامل اليأس. وربما كان جو الآية يوحي بأن شيئا من هذا القبيل قد حدث لبعض المسلمين الأولين في صدر الدعوة ، أو في ما بعد ذلك في الأجواء التي كان يخوض فيها الإسلام معركته المسلحة مع الشرك ، فربما يكون قد صدر من بعض المسلمين ضعف أو تذمر ، وربما كانوا يفكرون بإمكانية الحصول على الجنة من خلال الأعمال الخفيفة التي تدخل في نطاق العبادات أو ما أشبهها ، مما لا يكلف الإنسان تضحية كبيرة في النفس والمال ... فكانت هذه الآية توجيها حاسما يضع القضية في نطاقها الطبيعي من حركة العقيدة في الحياة ، فإن الجنة لا تنال بالتمنيات ، ولا تعطى بحالات الاسترخاء الإيماني الذي يعيش أحلام الجنة من دون أن يعمل لها ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ١٦٢.

١٥٨

وإنّ الانتصارات في ساحة التحدي لا بد من أن تنطلق من السنن الطبيعية لحركة الصراع الإنساني في قضايا النصر والهزيمة ، ومن الشروط الموضوعية للنتائج الإيجابية في هذه الأمور ، ليتعرفوا أن مجرد الانتماء إلى الإسلام الذي هو دين الله لا يكفي في تحقيق النصر لهم ما لم يأخذوا بأسباب النصر التي يفتح الله من خلالها ألطافه ، فلا يمكن أن يكونوا استثناء من سنن الله الثابتة في الكون.

ولكنّ الجنة تنال بالمواقف الصعبة التي يواجه فيها المؤمن القوي الطاغية. وقد جاءت هذه الآية لتعبر للمسلمين عن هذه الفكرة ، من خلال المثل التاريخي للرسالات السابقة التي عاش فيها المؤمنون الأولون مع أنبيائهم التحديات الصعبة ، التي جعلتهم يواجهون حالة الزلزال النفسي والروحي ، وربما الزلزال الفكري ، من خلال صعوبة ما واجهوه من مشاكل وتحديات ؛ فقد (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) مسّت أنفسهم وأموالهم ومصالحهم العامة والخاصة ، وحاولت مجتمعات الكفر لديهم أن تضعفهم وتقهرهم ، فاستخدمت كل الأساليب التعسفية في مجال القهر الجسدي والروحي والفكري حتى تهز قناعاتهم ، وتحطم مواقفهم ، وترجعهم إلى الحالة التي كانوا عليها قبل الإيمان ..

وكان الزلزال ، فقد بدأ الرسول والذين آمنوا معه يتساءلون : (مَتى نَصْرُ اللهِ) فقد وعدنا الله بالنصر على قوى الكفر. ولم يكن هذا التساؤل منطلقا من حالة شك في وعد الله ، بل الظاهر أنه منطلق من حالة استعجال له وترقب لتنفيذه ، وتساؤل عن موعده بعد أن أصبح الموقف شبه يائس من الوجهة الواقعية. فالكفر في موقع القوة المتنامية المتصاعدة ، والإيمان في موقع الضعف المستمر المتزايد ، والأوضاع المحيطة بالواقع لا تبعث على التفاؤل الكبير ، فلم يبق لهم إلا الغيب المودع عند الله. ومن خلال ذلك ، نفهم أن الزلزال يتحرك من طبيعة الظروف التي تتحفز لتثير في النفس الشعور السلبي

١٥٩

الخائف الفزع ، لا من ضعف الإيمان. ولذلك لم يعاتبهم الله على ذلك ، ولم ينقص من قدرهم. بل ربما نستوحي من الآية أنها تؤكد على القيمة الإيمانية لموقفهم الجهادي الصعب الذي جعلهم في موقع الزلزال الداخلي ، ولذا وعدهم الله بالنصر القريب كدلالة على سلامة عملهم وتقييم جهادهم.

(أَمْ حَسِبْتُمْ) هل ظننتم أيها المسلمون ، الذين تتحركون في دروب الدعوة ، وتعيشون أمام ساحات التحدي ـ والاستفهام استنكاري أو تعجبي ـ (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) التي تتمنونها كهدف لكل نشاطاتكم وحركتكم في الحياة ، لتكون النهاية السعيدة للمصير الذي ينتظره الجميع؟! ولكن هل تنال الجنة بالتمنيات ، والأحلام الطائرة في الهواء ، الغارقة في الضباب أو بالاسترخاء الذاتي الذي يبتعد فيه الإنسان عن أي جهد فكري أو جسدي ، مما يتحرك فيه الناس لتحقيق الأهداف الكبرى في الحياة ، أو بالأعمال العبادية التقليدية التي لا تحمل أية حرارة روحية ، وأي ابتهال نفسي ، وأي انفتاح على الله في الأفق الممتد في اللانهاية من أجل القرب منه في رحاب القدس والرضوان ، ولا تكلف أي جهد أو أية خسارة من مزاج الإنسان وطريقته في الحياة؟!.

إن الآية تختزن الرفض لذلك ، والاستنكار أو التعجب من هذا اللون من التفكير ، أو الفهم لمسألة الجنة في علاقتها بحركة الإنسان في الدنيا ، لأن الجنة ـ كما جاء في الحديث ـ محفوفة بالمكاره والصّبر (١) ، مما يجعلها نتيجة للحركة المتنوعة الخطوات ، المتعددة الأبعاد ، القاسية في آلامها ، الشديدة في أحزانها ، الضاغطة في زلزالها ، الهائلة في مخاوفها ، بحيث يعيش الإنسان في توتر دائم من خلال التحديات الصعبة في ساحة الصراع بما يعانيه من خطورة الجهاد النفسي والعسكري ونحوه ، بحيث يكون إنسان الجهاد والتحدي والصراع الذي يفتح الحياة على آفاق النصر ، فلا مجال لكم أيها

__________________

(١) البحار ، م : ٢٤ ، ج : ٦٨ ، ص : ٢٨٢ ، باب : ٦٢ ، ورواية : ٤.

١٦٠