روح المعاني - ج ١٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

وقد جبر الدين الإله فجبر

وفي ذكره عليه‌السلام بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم له عليه‌السلام ورفع لمحله وتشنيع لمكذبيه.

(وَقالُوا مَجْنُونٌ) أي لم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون (وَازْدُجِرَ) عطف على ـ قالوا ـ وهو إخبار منه عزوجل أي وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية والتخويف قاله ابن زيد ، وقرأ (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء : ١١٦] وقال مجاهد : هو من تمام قولهم أي هو مجنون ، وقد ازدجرته الجن وذهبت بلبّه وتخبطته ، والأول أظهر وأبلغ ، وجعل مبنيا للمفعول لغرض الفاصلة ، وطهر الألسنة عن ذكرهم دلالة على أن فعلهم أسوأ من قولهم (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي) أي بأني.

وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن علي ـ ورويت عن عاصم ـ «إني» بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين ، وعلى إجراء الدعاء مجرى القول عند الكوفيين (مَغْلُوبٌ) من جهة قومي ما لي قدرة على الانتقام منهم (فَانْتَصِرْ) فانتقم لي منهم ، وقيل : فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك ، وقيل : المراد ـ بمغلوب ـ غلبتني نفسي حتى دعوت عليهم بالهلاك وهو خلاف الظاهر وما دعا عليه‌السلام عليهم إلا بعد اليأس من إيمانهم ، والتأكيد لمزيد الاعتناء بأمر الترحم المقصود من الأخبار.

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) أي منصب ، وقيل : كثير قال الشاعر :

أعيناي جودا بالدموع الهوامر

على خير باد من معد وحاضر

والباء للآلة مثلها في فتحت الباب بالمفتاح ، وجوز أن تكون للملابسة والأول أبلغ ، وفي الكلام استعارة تمثيلية بتشبيه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء وانشق أديم الخضراء ، وهو الذي ذهب إليه الجمهور ، وذهب قوم إلى أنه على حقيقته وهو ظاهر كلام ابن عباس.

أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال : لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب ، وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم فالتقى الماءان ، وفي رواية لم تقلع أربعين يوما ، وعن النقاش أنه أريد بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرج العيبة! والمعروف من الأرصاد أن المجرة كواكب صغار متقاربة جدا ، والله تعالى أعلم.

ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم ، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب «ففتحنا» بالتشديد لكثرة الأبواب ، والظاهر أن جمع القلة هنا للكثرة (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة وأصله فجرنا عيون الأرض فغير إلى التمييز للمبالغة بجعل الأرض كلها متفجرة مع الإبهام والتفسير ، فالتمييز محول عن المفعول ، وجعله بعضهم محولا عن الفاعل بناء على أنه الأكثر ، الأصل انفجرت عيون الأرض وتحويله كما يكون عن فاعل الفعل المذكور يكون عن فاعل فعل آخر يلاقيه في الاشتقاق ـ وهذا منه ـ وهو تكلف لا حاجة إليه ، ومنع بعضهم مجيء التمييز من المفعول فأعرب (عُيُوناً) حالا مقدرة ، وجوز عليه أن يكون مفعولا ثانيا لفجرنا على تضمينه ما يتعدى إليه أي صيرنا بالتفجير الأرض عيونا وكان ذلك على ما في بعض الروايات أربعين يوما ، وقرأ عبد الله وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم «فجرنا» بالتخفيف (فَالْتَقَى الْماءُ) أي ماء السماء وماء الأرض ، والإفراد لتحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة بل بطريق الاختلاط والاتحاد ، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن ومحمد بن كعب والجحدري ـ الماءان ـ والتثنية لقصد بيان اختلاف النوعين وإلا

٨١

فالماء شامل لماء السماء وماء الأرض ، ونحوه قوله :

لنا إبلان فيهما ما علمتم

فعن أيها ما شئتم فتنكبوا

وقيل : فيها إشارة إلى أن ماء الأرض فار بقوة وارتفع حتى لاقى ماء السماء وفي ذلك مبالغة لا تفهم من الإفراد ، وقرأ الحسن أيضا ـ ماوان ـ بقلب الهمز واوا كقولهم : علباوان كما قال الزمخشري ، ولم يرد أنه نظيره بل أراد كما أن هنالك إبدالا بعلة أنها غير أصلية لانها زائدة للإلحاق كذلك هاهنا لانها مبدلة والبدل وإن كان من الهاء لكنها أجريت مجرى البدل عن الواو قاسه على النسبة كذا في الكشف ، وعنه أيضا المايان بقلب الهمزة ياء.

(عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي كائنا على حال قد قدرها الله تعالى في الأزل من غير تفاوت أو على حال قدرت وسويت وهي أن ما نزل على قدر ما خرج.

وقيل : إن ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعا ونزل ماء السماء مكملا أربعين ، وقيل : ما الأرض كان أكثر وله مقدار معين عند الله عزوجل ، أو على أمر قدره الله تعالى وكتبه في اللوح المحفوظ وهو هلاك قوم نوح بالطوفان. ورجحه أبو حيان بأن كل قصة ذكرت بعد ذكر الله تعالى فيها هلاك المكذبين فيكون هذا كناية عن هلاك هؤلاء ، و (عَلى) عليه للتعليل ، ويحتمل تعلقها بالتقى. وفيه ردّ على أهل الأحكام النجومية حيث زعموا أن الطوفان لاجتماع الكواكب السبعة ما عدا الزهرة في برج مائي ، وقرأ أبو حيوة وابن مقسم «قدّر» بتشديد الدال (وَحَمَلْناهُ) أي نوحا عليه‌السلام (عَلى ذاتِ أَلْواحٍ) أخشاب عريضة (وَدُسُرٍ) أي مسامير كما قاله الجمهور وابن عباس في رواية ابن جرير ، وابن المنذر جمع دسار ككتاب وكتب ، وقيل : (دُسُرٍ) كسقف وسقف. وأصل الدسر الدفع الشديد بقهر فسمي به المسمار لأنه يدق فيدفع بشدة. وقيل : حبال من ليف تشد بها السفن. وقال الليث : خيوط تشد بها ألواحها ، وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة والحسن أنها مقاديم السفينة وصدرها الذي تضرب به الموج وتدفعه. وروي عن ابن عباس نحوه. وأخرج عن مجاهد أنها عوارض السفينة أي الخشبات التي تعرض في وسطها. وفي رواية عنه هي أضلاع السفينة. وأيا ما كان فقوله تعالى : (ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات على سبيل الكناية كقولهم : حي مستوي القامة عريض الأظفار في الكناية عن الإنسان وهو من فصيح الكلام وبديعه. ونظير الآية قول الشاعر :

مفرشي صهوة الحصان ولكن

قميصي مسرودة من حديد

فإنه أراد قميصي درع وقوله يصف هزال الإبل :

تراءى لها في كل عين مقابل

ولو في عيون النازيات بأكرع

فإنه أراد في عيون الجراد لأن النزو بالأكرع يختص بها. وأما كونه على حذف الموصوف لدلالة الصفة عليه على ما في المفصل وغيره فكلام نحوي (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) بمرأى منا. وكني به عن الحفظ أي تجري في ذلك الماء بحفظنا وكلاءتنا ، وقيل : بأوليائنا يعني نوحا عليه‌السلام ومن آمن معه يقال : مات عين من عيون الله تعالى أو ولي من أوليائه سبحانه ، وقيل : بأعين بالماء التي فجرناها ، وقيل : بالحفظة من الملائكة عليه‌السلام سماهم أعينا وأضافهم إليه جل شأنه والأول أظهر ، وقرأ زيد بن علي. وأبو السمال ـ بأعينا ـ بالإدغام.

(جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي فعلنا ذلك جزاء لنوح عليه‌السلام فإنه كان نعمة أنعمها الله تعالى على قومه فكفروها وكذا كل نبي نعمة من الله تعالى على أمته ، وجوز أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير

٨٢

واستتاره في الفعل بعد انقلابه مرفوعا أي لمن كفر به وهو نوح عليه‌السلام أيضا أي جحدت نبوته ، فالكفر عليه ضد الإيمان ، وعلى الأول كفران النعمة ، وعن ابن عباس ومجاهد من يراد به الله تعالى كأنه قيل : غضبا وانتصارا لله عزوجل وهو كما ترى ، وقرأ مسلمة بن محارب ـ كفر ـ بإسكان الفاء خفف فعل كما في قوله :

لو عصر منه البان والمسك انعصر

وقرأ يزيد بن رومان وقتادة وعيسى «كفر» مبنيا للفاعل فمن يراد بها قوم نوح عليه‌السلام لا غير ، وفي هذه القراءة دليل على وقوع الماضي بغير قد خبرا لكان وهو مذهب البصريين وغيرهم يقول لا بد من وقوع قد ظاهرة أو مقدرة ، وجوز أن تكون (كانَ) زائدة كأنه قيل : جزاء لمن (كُفِرَ) ولم يؤمن (وَلَقَدْ تَرَكْناها) أي أبقينا السفينة (آيَةً) بناء على ما روي عن قتادة والنقاش أنه بقي خشبها على الجودي حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة ، أو أبقينا خبرها ، أو أبقينا جنسها وذلك بإبقاء السفن ، أو ـ تركنا ـ بمعنى جعلنا ، وجوز كون الضمير للفعلة وهي إنجاء نوح عليه‌السلام ومن معه وإغراق الكافرين (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي معتبر بتلك الآية الحرّية بالاعتبار ، وقرأ قتادة على ما نقل ابن عطية ـ مذكر ـ بالذال المعجمة على قلب تاء الافتعال ذالا وإدغام الذال في الذال ، وقال صاحب اللوامح : قرأ قتادة فهل من ـ مذكر ـ بتشديد الكاف من التذكير أي من يذكر نفسه أو غيره بها ، وقرئ مذتكر بذال معجمة بعدها تاء الافتعال كما هو الأصل (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) استفهام تعظيم وتعجيب أي كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف ، و ـ النذر ـ مصدر كالإنذار ، وقيل : جمع نذير بمعنى الإنذار ، وجعله بعضهم بمعنى المنذر منه ، وليس بشيء ، وكذا جعله بمعنى المنذر ، وكان يحتمل أن تكون ناقصة فكيف في موضع الخبر؟ وتامة فكيف في موضع الحال؟ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ) إلخ جملة قسمية وردت في آخر القصص الأربع تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) إلخ وتنبيها على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادكار كافية في الازدجار ، ومع ذلك لم يحصل فيها اعتبار ، أي وبالله لقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه على لغتهم وشحنّاه بأنواع المواعظ والعبر وصرفنا فيه من الوعيد والوعد (لِلذِّكْرِ) أي للتذكر والاتعاظ (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه وآكده يدل على أنه لا يقدر أحد أن يجيب المستفهم بنعم ، وقيل : المعنى سهلنا القرآن للحفظ لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلاسة اللفظ وشرف المعاني وصحتها وعروّه عن الوحشي ونحوه فله تعلق بالقلوب وحلاوة في السمع فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ ومن هنا قال ابن جبير : لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن ، وأخرج ابن المنذر ، وجماعة عن مجاهد أنه قال : يسرنا القرآن. هونّا قراءته.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : لو لا أن الله تعالى يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى.

وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله. وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنه مرّ برجل يقول سورة خفيفة فقال : لا تقل ذلك ولكن قل سورة يسيرة لأن الله تعالى يقول : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) والمعنى الذي ذكر أولا أنسب بالمقام ، ولعل خبر أنس إن صح ليس تفسيرا للآية ، وجوز تفسير (يَسَّرْنَا) بهيأنا من قولهم : يسر ناقته للسفر إذا رحلها ، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه قال الشاعر :

وقمت إليه باللجام ميسرا

هنالك يجزيني الذي كنت أصنع

(كَذَّبَتْ عادٌ) شروع في قصة أخرى ولم تعطف وكذا ما بعدها من القصص إشارة إلى أن كل قصة مستقلة في القصد والاتعاظ ولما لم يكن لقوم نوح اسم علم ذكروا بعنوان الإضافة ولما كان لقوم هود علم وهو (عادٌ)

٨٣

ذكروا به لأنه أبلغ في التعريف ، والمراد كذبت عاد هودا عليه‌السلام ولم يتعرض لكيفية تكذيبهم له عليه‌السلام روما للاختصار ومسارعة إلى بيان ما فيه الازدجار من العذاب ، وقوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) لتوجيه قلوب السامعين نحو الإصغاء إلى ما يلقى إليهم قبل ذكره لا لتهويله وتعظيمه وتعجيبهم من حاله بعد بيانه كما قبله وما بعده كأنه قيل : (كَذَّبَتْ عادٌ) فهل سمعتم ، أو فاسمعوا كيف عذابي وإنذاري لهم ، وقيل : هو للتهويل أيضا لغرابة ما عذبوا به من الريح وانفراده بهذا النوع من العذاب ، وفيه بحث ، وقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) استئناف لبيان ما أجمل أولا ، والصرصر الباردة على ما روي عن ابن عباس وقتادة والضحاك ، وقيل : شديد الصوت وتمام الكلام قد مر في «فصلت».

(فِي يَوْمِ نَحْسٍ) شؤم عليهم (مُسْتَمِرٍّ) ذلك الشؤم لأنهم بعد أن أهلكوا لم يزالوا معذبين في البرزخ حتى يدخلوا جهنم يوم القيامة ، والمراد باليوم مطلق الزمان لقوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) [فصلت : ١٦] ، وقوله سبحانه : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة : ٧] المشهور أنه يوم الأربعاء وكان آخر شوّال على معنى أن ابتداء إرسال الريح كان فيه فلا ينافي آيتي «فصلت» و «الحاقة».

وجوز كون (مُسْتَمِرٍّ) صفة يوم أي في يوم استمر عليهم حتى أهلكهم ، أو شمل كبيرهم وصغيرهم حتى لم تبق منهم نسمة على أن الاستمرار بحسب الزمان أو بحسب الأشخاص والأفراد لكن على الأول لا بد من تجوز بإرادة استمرار نحسه ، أو بجعل اليوم بمعنى مطلق الزمان لأن اليوم الواحد لم يستمر فتدبر ، وجوز كون (مُسْتَمِرٍّ) بمعنى محكم وكونه بمعنى شديد المرارة وهو مجاز عن بشاعته وشدة هوله إذ لا طعم له ، وجوز كونه بدلا ، أو عطف بيان وهو كما ترى ، وقرأ الحسن «يوم نحس» بتنوين يوم وكسر حاء نحس ، وجعله صفة ليوم فيتعين كون (مُسْتَمِرٍّ) صفة ثانية له ، وأيد بعضهم بالآية ما أخرجه وكيع في الغرر وابن مردويه والخطيب البغدادي عن ابن عباس مرفوعا آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر وأخذ بذلك كثير من الناس فتطيروا منه وتركوا السعي لمصالحهم فيه ويقولون له : أربعاء لا تدور ، وعليه قوله :

لقاؤك للمبكر فأل سوء

ووجهك ـ أربعاء لا تدور ـ

وذلك مما لا ينبغي ، والحديث المذكور في سنده مسلمة بن الصلت قال أبو حاتم : متروك ، وجزم ابن الجوزي بوضعه ؛ وقال ابن رجب : حديث لا يصح ورفعه غير متفق عليه فقد رواه الطيوري من طريق آخر موقوفا على ابن عباس ، وقال السخاوي : طرقه كلها واهية ، وضعفوا أيضا خبر الطبراني يوم الأربعاء يوم نحس مستمر ، والآية قد علمت معناها ، وجاء في الأخبار والآثار ما يشعر بمدحه ففي منهاج الحليمي ، وشعب البيهقي أن الدعاء يستجاب يوم الأربعاء بعيد الزوال ، وذكر برهان الإسلام في تعليم المتعلم عن صاحب الهداية أنا ما بدئ شيء يوم الأربعاء إلا وتم وهو يوم خلق الله تعالى فيه النور فلذلك كان جمع من المشايخ يتحرون ابتداء الجلوس للتدريس فيه ، واستحب بعضهم غرس الأشجار فيه لخبر ابن حيان والديلمي عن جابر مرفوعا «من غرس الأشجار يوم الأربعاء وقال : سبحان الباعث الوارث أتته أكلها» نعم جاءت أخبار وآثار تشعر بخلاف ذلك ، ففي الفردوس عن عائشة مرفوعا «لو لا أن تكره أمتي لأمرتها أن لا يسافروا يوم الأربعاء ، وأحب الأيام إليّ الشخوص فيها يوم الخميس» وهو غير معلوم الصحة عندي.

وأخرج أبو يعلى عن ابن عباس. وابن عدي وتمام في فوائده عن أبي سعيد مرفوعا يوم السبت يوم مكر وخديعة ويوم الأحد يوم غرس وبناء ويوم الاثنين يوم سفر وطلب رزق ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس. ويوم الأربعاء لا أخذ ولا

٨٤

عطاء. ويوم الخميس يوم طلب الحوائج والدخول على السلطان. والجمعة يوم خطبة ونكاح ، وتعقبه السخاوي بأن سنده ضعيف ، وروى ابن ماجة عن ابن عمر مرفوعا ، وخرجه الحاكم من طريقين آخرين «لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء» وفي بعض الآثار النهي عن قص الأظفار يوم الأربعاء وأنه يورث البرص ، وكره بعضهم عيادة المرضى فيه ، وعليه قيل :

لم يؤت في الأربعاء مريض

إلا دفناه في الخميس

وحكي عن بعضهم أنه قال لأخيه : اخرج معي في حاجة فقال : هو الأربعاء قال : فيه ولد يونس قال : لا جرم قد بانت له بركته في اتساع موضعه وحسن كسوته حتى خلصه الله تعالى قال : وفيه ولد يوسف عليه‌السلام قال : فما أحسن ما فعل أخوته حتى طال حبسه وغربته قال : وفيه نصر المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب قال : أجل لكن ـ بعد أن زاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ـ ونقل المناوي عن البحر أن أخباره عليه الصلاة والسلام عن نحوسه آخر أربعاء في الشهر من باب التطير ضرورة أنه ليس من الدين بل فعل الجاهلية ولا مبني على قول المنجمين أنه يوم عطارد وهو نحس مع النحوس سعد مع السعود فإنه قول باطل ، ويجوز أن يكون من باب التخويف والتحذير أي احذروا ذلك اليوم لما نزل فيه من العذاب وكان فيه من الهلاك وجددوا فيه لله تعالى توبة خوفا أن يلحقكم فيه بؤس كما وقع لمن قبلهم ، وهذا كما قال حين أتى الحجر : لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين إلى غير ذلك ، وحكي أيضا عن بعضهم أنه قال : التطير مكروه كراهية شرعية إلا أن الشرع أباح لمن أصابه في آخر أربعاء شيء في مصالحه أن يدع التصرف فيه لا على جهة التطير واعتقاد أنه يضر أو ينفع بغير إذن الله تعالى بل على جهة اعتقاد إباحة الإمساك فيه لما كرهته النفس لا اقتفاء للتطير ولكن إثباتا للرخصة في التوقي فيه لمن يشاء مع وجوب اعتقاد أن شيئا لا يضر شيئا ؛ ونقل عن الحليمي أنه قال : علمنا ببيان الشريعة أن من الأيام نحسا ، ويقابل النحس السعد وإذا ثبت الأول ثبت الثاني أيضا ، فالأيام منها نحس ومنها سعد كالأشخاص منهم شقي ومنهم سعيد ، ولكن زعم أن الأيام والكواكب تنحس أو تسعد باختيارها أوقاتا وأشخاصا باطل ، والقول ـ إن الكواكب قد تكون أسبابا للحسن والقبيح والخير والشر والكل فعل الله تعالى وحده ـ مما لا بأس به. ثم قال المناوي : والحاصل أن توقي الأربعاء على جهة الطيرة وظن اعتقاد المنجمين حرام شديد التحريم إذ الأيام كلها لله تعالى لا تنفع ولا تضر بذاتها وبدون ذلك لا ضير ولا محذور فيه ؛ ومن تطير حاقت به نحوسته ، ومن أيقن بأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله عزوجل لم يؤثر فيه شيء من ذلك كما قيل :

تعلم أنه لا طير إلا

على متطير وهو الثبور

انتهى ، وأقول كل الأيام سواء ولا اختصاص لذلك بيوم الأربعاء وما من ساعة من الساعات إلا وهي سعد على شخص نحس على آخر باعتبار ما يحدث الله تعالى فيها من الملائم والمنافر والخير والشر ، فكل يوم من الأيام يتصف بالأمرين لاختلاف الاعتبار وإن استنحس يوم الأربعاء لوقوع حادث فيه فليستنحس كل يوم فما أولج الليل في النهار والنهار في الليل إلا لإيلاد الحوادث وقد قيل :

ألا إنما الأيام أبناء واحد

وهذي الليالي كلها أخوات

وقد حكي أنه صبح ثمود العذاب يوم الأحد ، وورد في الأثر ولا أظنه يصح ـ نعوذ بالله تعالى من يوم الأحد فإن له حدا أحد من السيف ـ ولو صح فلعله في أحد مخصوص علم بالوحي ما يحدث فيه ، وزعم بعضهم ـ أن من المجرب الذي يخط قط أنه متى كان اليوم الرابع عشر من الشهر القمري الأحد وفعل فيه شيء لم يتم ـ غير مسلم ،

٨٥

وورد في الفردوس من حديث ابن مسعود ـ خلق الله تعالى الأمراض يوم الثلاثاء ، وفيه أنزل إبليس إلى الأرض ، وفيه خلق جهنم ، وفيه سلط الله تعالى ملك الموت على أرواح بني آدم. وفيه قتل قابيل هابيل ، وفيه توفي موسى وهارون عليهم‌السلام ، وفيه ابتلي أيوب – الحديث ، وهو إن صح لا يدل على نحوسته غايته أنه وقع فيه ما وقع وقد وقع فيه غير ذلك مما هو خير ، ففي رواية مسلم ـ خلق المنفق أي ما يقوم به المعاش يوم الثلاثاء ـ وإذا تتبعت التواريخ وقعت على حوادث عظيمة في سائر الأيام ، ويكفي في هذا الباب أن حادثة عاد استوعبت أيام الأسبوع فقد قال سبحانه : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة : ٧] فإن كانت النحوسة لذلك فقل لي أي يوم من الأسبوع خلا منها؟! ومثل أمر النحوسة فيما أرى أمر تخصيص كل يوم بعمل كما يزعمه كثير من الناس ، ويذكرون في ذلك أبياتا نسبها الحافظ الدمياطي لعليّ كرم الله تعالى وجهه وهي :

فنعم اليوم يوم السبت حقا

لصيد إن أردت بلا امتراء

وفي الأحد البناء لأن فيه

تبدى الله في خلق السماء

وفي الاثنين إن سافرت فيه

سترجع بالنجاح وبالثراء

ومن يرد الحجامة فالثلاثا

ففي ساعاته هرق الدماء

وإن شرب امرؤ يوما دواء

فنعم اليوم يوم الأربعاء

وفي يوم الخميس قضاء حاج

فإن الله يأذن بالقضاء

وفي الجمعات تزويج وعرس

ولذات الرجال مع النساء

وهذا العلم لا يدريه إلا

نبيّ أو وصيّ الأنبياء

ولا أظنها تصح ، وقصارى ما أقول : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا دخل في ذلك لوقت ولا لغيره ، لبعض الأوقات شرف لا ينكر كيوم الجمعة وشهر رمضان وغير ذلك ، ولبعضها عكس ذلك كالأوقات التي تكره فيها الصلاة لكن هذا أمر ومحل النزاع أمر فاحفظ ذلك ، والله تعالى يتولى هداك ، وقوله تعالى : (تَنْزِعُ النَّاسَ) يجوز أن يكون صفة الريح وأن يكون حالا منها لأنها وصفت فقربت من المعرفة ، وجوز أن يكون مستأنفا ، وجيء ـ بالناس ـ دون ضمير عاد قيل : ليشمل ذكورهم وإناثهم ـ والنزاع ـ القلع ، روي أنهم دخلوا الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فقلعتهم الريح وصرعتهم موتى.

(كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أي منقلع عن مغارسه ساقط على الأرض ، وقيل : شبهوا بأعجاز النخل وهي أصولها بلا فروع لأن الريح كانت تقلع رءوسهم فتبقى أجسادا وجثثا بلا رءوس ، ويزيد هذا التشبيه حسنا أنهم كانوا ذوي جثث عظام طوال ، والنخل اسم جنس يذكر نظرا للفظ كما هنا ويؤنث نظرا للمعنى كما في قوله تعالى : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] واعتبار كل في كل من الموضعين للفاصلة ، والجملة التشبيهية حال من الناس وهي حال مقدرة ، وقال الطبري : في الكلام حذف والتقدير فتركتهم كأنهم إلخ ، فالكاف على ما في البحر في موضع نصب بالمحذوف وليس بذاك ، وقرأ أبو نهيك أعجز على وزن أفعل نحو ضبع وأضبع ، وقوله تعالى : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) تهويل لهما وتعجيب من أمرهما بعد بيانهما فليس فيه شائبة تكرار مع ما تقدم ، وقيل : إن الأول لما حاق بهم في الدنيا والثاني لما يحيق بهم في الآخرة ، و (كانَ) للمشاكلة ، أو للدلالة على تحققه على عادته سبحانه في إخباره ، وتعقب بأنه يأباه ترتيب الثاني على العذاب الدنيوي.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا

٨٦

صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ (١٩) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ (٢٨) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ (٣٤) نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَٰلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ) (٤٢)

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) الكلام فيه كالذي مرّ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) بالرسل عليهم الصلاة والسلام فإن تكذيب أحدهم وهو صالح عليه‌السلام هنا تكذيب للكل لاتفاقهم على أصول الشرائع ، وجوز أن يكون مصدرا ، أو جمعا له وأن يكون جمع نذير بمعنى المنذر منه فلا تغفل.

(فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا) أي كائنا من جنسنا على أن الجار والمجرور في موضع الصفة ـ لبشرا ـ وانتصابه بفعل يفسره ـ نتبع ـ بعد أي أنتبع بشرا (واحِداً) أي منفردا لا تبع له ، أو واحدا من آحادهم لا من أشرافهم كما يفهم من التنكير الدال على عدم التعيين وهو صفة أخرى لبشر وتأخيره مع إفراده عن الصفة الأولى مع كونها شبه الجملة للتنبيه على أن كلا من الجنسية والوحدة مما يمنع الاتباع ولو قدم عليها لفات هذا التنبيه ، وقرأ أبو السمال فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل وأبو عمرو الداني ـ أبشر منا واحد ـ برفعهما على أن ـ بشر ـ مبتدأ ، وما بعد صفته ، وقوله تعالى : (نَتَّبِعُهُ) خبره. ونقل ابن خالويه وصاحب اللوامح وابن عطية عن أبي السمال رفع ـ بشر ـ ونصب (واحِداً) وخرج ذلك ابن عطية على أن رفع ـ بشر ـ إما على إضمار فعل مبني للمفعول والتقدير أينبأ بشر ، وإما على الابتداء والخبر جملة (نَتَّبِعُهُ) ، ونصب (واحِداً) على الحال إما من ضمير النصب في (نَتَّبِعُهُ) وإما من الضمير المستقر في

٨٧

(مِنَّا) وخرج صاحب اللوامح نصب (واحِداً) على هذا أيضا ، وأما رفع بشر فخرجه على الابتداء وإضمار الخبر أي أبشر منا يبعث إلينا أو يرسل أو نحوهما ، وتقدم الاستفهام يرجع تقدير فعل يرفع به (إِنَّا إِذاً) أي إذا اتبعنا بشرا منا واحدا (لَفِي ضَلالٍ) عظيم عن الحق (وَسُعُرٍ) أي نيران جمع سعير.

وروي أن صالحا عليه‌السلام كان يقول لهم : إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر فعكسوا عليه لغاية عتوهم فقالوا : إن اتبعناك كنا إذا كما تقول ، فالكلام من باب التعكيس والقول بالموجب ، وجمع السعير باعتبار الدركات ، أو للمبالغة ، وروي عن ابن عباس ما يحتمل ما قلنا فإنه قال : أي لفي بعد عن الحق وعذاب ، وفي رواية أخرى عنه تفسير السعر بالجنون على أنه اسم مفرد بمعنى ذلك يقال : ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة قال الشاعر :

كأن بها سعرا إذا العيس هزها

ذميل وإرخاء من السير متعب

والأول أوجه وأفصح (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أي أأنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحق منه بذلك ، والتعبير بألقي دون أنزل قل : لأنه يتضمن العجلة في الفعل (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أي شديد البطر وهو على ما قال الراغب : دهش يعتري من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها ووضعها إلى غير وجهها ، ويقاربه الطرب وهو خفة أكثر ما تعتري من الفرح ، ومرادهم ليس الأمر كذلك بل هو كذا وكذا حمله شدّة بطره وطلبه التعظيم عليها على ادعاء ذلك ، وقرأ قتادة. وأبو قلابة ـ بل هو الكذب الأشر ـ بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشدّ الراء ، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما في ذلك ، وقوله تعالى : (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) حكاية لما قاله سبحانه وتعالى لصالح عليه‌السلام وعدا له ووعيدا لقومه ، والسين لتقريب مضمون الجملة وتأكيده ، والمراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم ، وقيل : يوم القيامة فهو لمطلق الزمان المستقبل وعبر به لتقريبه ، وعليه قول الطرماح :

ألا عللاني قبل نوح النوائح

وقبل اضطراب النفس بين الجوانح

وقبل غد يا لهف نفسي على غد

إذا راح أصحابي ولست برائح

أي (سَيَعْلَمُونَ) البتة عن قريب (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) الذي حمله أشره وبطره على ما حمله أصالح أن من كذبه ، والمراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون لكن أورد ذلك مورد الإبهام ايماء إلى أنه مما لا يكاد يخفى ، ونحوه قول الشاعر :

فلئن لقيتك خاليين لتعلمن

أيّي وأيّك فارس الأحزاب

وقرأ ابن عامر وحمزة وطلحة وابن وثاب والأعمش ـ ستعلمون ـ بتاء الخطاب على حكاية ما قال لهم صالح مجيبا لهم ، وفي الكشاف أو هو كلام على سبيل الالتفات ، قال صاحب الكشف : أي هو كلام الله تعالى لقوم ثمود على سبيل الالتفات إليهم إما في خطابه تعالى لرسولنا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو نظير ما حكاه سبحانه عن شعيب (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) [الأعراف : ٩٣] بعد ما استؤصلوا هلاكا وهو من بليغ الكلام فيه دلالة على أنهم أحقاء بهذا الوعيد وكأنهم حضور في المجلس حول إليهم الوجه لينعي عليهم جناياتهم. وإما في خطابه عزوجل لصالح عليه‌السلام والمنزل حكاية ذلك الكلام المشتمل على الالتفات. وعلى التقديرين لا إشكال فيه كما توهم ولفظ الزمخشري على الأول أدل وهو أبلغ انتهى ، ومن التفت إلى ما قاله الجمهور في الالتفات لا أظنه تسكن نفسه بما ذكر فتأمل ، وقرأ مجاهد فيما ذكره صاحب اللوامح وأبو قيس الأودي «الأشر» بثلاث ضمات وتخفيف الراء. ويقال : أشر وأشر كحذر وحذر فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لها.

٨٨

وحكى الكسائي عن مجاهد ضم الشين دون الهمزة فهو كندس ، وقرأ أبو حيوة «الأشر» أفعل تفضيل أي الأبلغ في الشرارة وكذا قرأ قتادة وأبو قلابة أيضا وهو قليل الاستعمال وإن كان على الأصل كالأخير في قول رؤبة :

بلال خير الناس وابن الأخير

وقال أبو حاتم : لا تكاد العرب تتكلم ـ بالأخير ـ و (الْأَشِرُ) إلا في ضرورة الشعر وأنشد البيت ، وقال الجوهري : لا يقال (الْأَشِرُ) إلا في لغة رديئة ؛ وقوله تعالى : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) إلخ استئناف مسوق لبيان مبادئ الموعود على ما هو الظاهر ، وبه يتعين كون المراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم دون يوم القيامة ، والإرسال حقيقة في البعث وقد جعل هنا كناية عن الإخراج ، وأريد المعنى الحقيقي معه كما أومأ إليه بعض الأجلة أي إنا مخرجو الناقة التي سألوها من الهضبة وباعثوها (فِتْنَةً لَهُمْ) امتحانا ، وجوز إبقاؤها على معناها المعروف (فَارْتَقِبْهُمْ) فانتظرهم وتبصر ما هم فاعلون (وَاصْطَبِرْ) على أذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر الله تعالى (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ) وأخبرهم بأن ماء البئر التي لهم (قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) مقسوم لها يوم ولهم يوم ، و (بَيْنَهُمْ) لتغليب العقلاء ، وقرأ معاذ عن أبي عمرو «قسمة» بفتح القاف (كُلُّ شِرْبٍ) نصيب وحصة منه (مُحْتَضَرٌ) يحضره صاحبه في نوبته فتحضر الناقة تارة ويحضرونه أخرى ، وقيل : يتحول عنه غير صاحبه من حضر عن كذا تحول عنه وقيل : يمنع عنه غير صاحبه مجاز عن الحظر بالظاء بمعنى المنع بعلاقة السببية فإنه مسبب عن حضور صاحبه في نوبته وهو كما ترى ، وقيل : يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها ، والمعنى كل شرب من الماء واللبن تحضرونه أنتم (فَنادَوْا) أي فأرسلنا الناقة وكانوا على هذه الوتيرة من القسمة فملوا ذلك وعزموا على عقر الناقة (فَنادَوْا) لعقرها (صاحِبَهُمْ) وهو قدار بن سالف أحيمر ثمود وكان أجرأهم (فَتَعاطى) العقر أي فاجترأ على تعاطيه مع عظمه غير مكترث به.

(فَعَقَرَ) فأحدث العقر بالناقة ، وجوز أن يكون المراد فتعاطى الناقة فعقرها ، أو فتعاطى السيف فقتلها ، وعلى كل فمفعول تعاطى محذوف والتفريع لا غبار عليه ، وقيل : تعاطى منزل منزلة اللازم على أن معناه أحدث ماهية التعاطي ، وقوله تعالى : (فَعَقَرَ) تفسير له لا متفرع عليه ولا يخفى ركاكته ، والتعاطي التناول مطلقا على ما يفهم من كلام غير واحد ، وزاد بعضهم قيد بتكلف ونسبة العقر إليهم في قوله تعالى : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) [الأعراف : ٧٧] لأنهم كانوا راضين به (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) الكلام فيه كالذي تقدم (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) هي صيحة جبريل عليه‌السلام صاح صباح يوم الأحد كما حكى المناوي عن الزمخشري في طرف منازلهم (فَكانُوا) أي فصاروا (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أي كالشجر اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء.

وفي البحر الهشيم ما تفتت وتهشم من الشجر ، و (الْمُحْتَظِرِ) الذي يعمل الحظيرة فإنه يتفتت منه حالة العمل ويتساقط أجزاء مما يعمل به ، أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطول الزمان تطؤه البهائم فيتهشم ، وتعقب هذا بأن الأظهر عليه كهشيم الحظيرة ، والحظيرة الزريبة التي تصنعها العرب. وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب من الحظر وهو المنع.

وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو السمال وأبو رجاء وعمرو بن عبيد «المحتظر» بفتح الظاء على أنه اسم مكان والمراد به الحظيرة نفسها أو هو اسم مفعول قيل : ويقدر له موصوف أي (كَهَشِيمِ) الحائط (الْمُحْتَظِرِ) أو لا يقدر على أن (الْمُحْتَظِرِ) الزريبة نفسها كما سمعت. وجوز أن يكون مصدرا أي كهشيم الاحتظار أي ما تفتت حالة الاحتظار (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) كما مر (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) على قياس النظير السابق (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) ملكا على ما قيل ـ يحصبهم أي يرميهم بالحصباء والحجارة أو هو اسم للريح

٨٩

التي تحصب ولم يرد بها الحدوث كما في ناقة ضامر وهو وجه التذكير ، وقال ابن عباس : هو ما حصبوا به من السماء من الحجارة في الريح ، وعليه قول الفرزدق :

مستقبلين شمال الشام تضربنا

بحاصب كنديف القطن منثور

(إِلَّا آلَ لُوطٍ) خاصته المؤمنين به ، وقيل : آله ابنتاه (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) أي في سحر وهو آخر الليل ، وقيل : السدس الأخير منه ، وقال الراغب : السحر والسحرة اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهار وجعل اسما لذلك الوقت ، ويجوز كون الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ملتبسين (بِسَحَرٍ) داخلين فيه (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي إنعاما منا وهو علة لنجينا ، ويجوز نصبه بفعل مقدر من لفظه ، أو بنجينا لأن التنجية إنعام فهو كقعدت جلوسا (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء العجيب (نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) نعمتنا بالإيمان والطاعة (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) لوط عليه‌السلام (بَطْشَتَنا) أخذتنا الشديدة بالعذاب.

وجوز أن يراد بها نفس العذاب (فَتَمارَوْا) فكذبوا (بِالنُّذُرِ) متشاكين ، فالفعل مضمن معنى التكذيب ولولاه تعدى بفي (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) صرفوه عن رأيه فيهم وطلبوا الفجور بهم وهذا من إسناد ما للبعض للجميع لرضاهم به (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) أي أزلنا أثرها وذلك بمسحها وتسويتها كسائر الوجه ، وهو كما قال عبيدة ، وروي أن جبريل عليه‌السلام استأذن ربه سبحانه في عقوبتهم ليلة جاءوا وعالجوا الباب ليدخلوا عليهم فصفقتهم بجناحه فتركهم عميانا يترددون لا يهتدون إلى طريق خروجهم حتى أخرجهم لوط عليه‌السلام وقال ابن عباس والضحاك : إنما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئا فجعل ذلك كالطمس فعبر به عنه.

وقرأ ابن مقسم «فطمّسنا» بتشديد الميم للتكثير في المفعول (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فقلنا لهم ذلك على ألسنة الملائكة عليهم‌السلام ، فالقول في الحقيقة لهم وأسند إليه تعالى مجازا لأنه سبحانه الآمر أو القائل ظاهر الحال فلا قول وإنما هو تمثيل ، والمراد بالعذاب الطمس وهو من جملة ما أنذروه.

(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) أو النهار وهي أخص من الصباح فليس في ذكرها بعده زيادة وكان ذلك أول شروق الشمس ، وقرأ زيد بن علي «بكرة» غير مصروفة للعلمية والتأنيث على أن المراد بها أول نهار مخصوص.

(عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) يستقر بهم ويدوم حتى يسلمهم إلى النار ، أو لا يدفع عنهم ، أو يبلغ غايته.

(فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) حكاية لما قيل لهم بعد التصحيح من جهته تعالى تشديدا للعذاب ، أو هو تمثيل.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم ما فيه من الكلام (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) صدرت قصتهم بالتوكيد القسمي الإبراز كمال الاعتناء ـ بشأنها لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها وهول ما لاقوه من العذاب وقوة إيجابها للاتعاظ والاكتفاء بذكر آل فرعون للعلم بأنه نفسه أولى بذلك فإنه رأس الطغيان ومدعي الألوهية ، والقول : بأنه إشارة إلى إسلامه مما لا يلتفت إليه ، و (النُّذُرُ) إن كان جمع نذير بمعنى الإنذار فالأمر ظاهر وكذا إن كان مصدرا ، وأما إن كان جمع نذير بمعنى المنذر فالمراد به موسى وهارون وغيرهما لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون أي وبالله تعالى لقد جاءهم المنذرون ، أو الإنذارات ، أو الإنذار ، وقوله تعالى : (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية مجيء النذر كأنه قيل : فما ذا فعل آل فرعون حينئذ؟ فقيل : كذبوا بجميع آياتنا وهي آيات الأنبياء كلهم عليهم‌السلام فإن تكذيب البعض تكذيب للكل ، أو هي الآيات التسع ، وجوز الواحدي أن يراد بالنذر نفس الآيات فقوله سبحانه : (بِآياتِنا) من إقامة الظاهر مقام الضمير والأصل كذبوا بها ، وزعم بعض غلاة الشيعة

٩٠

وهم المسلمون بالكشفية في زماننا أن المراد ـ بالآيات كلها ـ علي كرم الله تعالى وجهه فإنه الإمام المبين المذكور في قوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [يس : ١٢] وأنه كرم الله تعالى وجهه ظهر مع موسى عليه‌السلام لفرعون وقومه فلم يؤمنوا ـ وهذا من الهذيان بمكان ـ نسأل الله تعالى العفو والعافية (فَأَخَذْناهُمْ) أي آل فرعون ، وزعم بعض أن ضمير (كَذَّبُوا) وضمير أخذناهم عائدان على جميع من تقدم ذكره من الأمم وتم الكلام عند قوله تعالى : (النُّذُرُ) وليس بشيء ، والفاء للتفريع أي (فَأَخَذْناهُمْ) وقهرناهم لأجل تكذيبهم (أَخْذَ عَزِيزٍ) لا يغالب (مُقْتَدِرٍ) لا يعجزه شيء ، ونصب أخذ على المصدرية لا على قصد التشبيه (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) أي الكفار المعدودين قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون ، والمراد الخيرية باعتبار الدنيا وزينتها ككثرة القوة والشدة ووفور العدد والعدة ، أو باعتبار لين الشكيمة في الكفر بأن يكون الكفار المحدث عنهم بالخيرية أقل عنادا وأقرب طاعة وانقيادا ، وظاهر كلام كثير أن الخطاب هنا عام للمسلمين وغيرهم حيث قالوا : (أَكُفَّارُكُمْ) يا معشر العرب (خَيْرٌ) إلخ والاستفهام إنكاري في معنى النفي فكأنه قيل : ما كفاركم خير من أولئكم الكفار المعدودين بأن يكونوا أكثر منهم قوة وشدة وأوفر عددا وعدة ، أو بأن يكونوا ألين شكيمة في الكفر والعصيان والضلال والطغيان بل هم دونهم في القوة وما أشبهها من زينة الدنيا ، أو أسوأ حالا منهم في الكفر ، وقد أصاب من هو خير ما أصاب فكيف يطمعون هم في أن لا يصيبهم نحو ذلك ، وكذا قيل : في الخطاب في قوله تعالى : (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) وجعل بتقدير أم لكفاركم وهو إضراب وانتقال إلى تنكيت آخر فكأنه قيل : بل ألكفار كم براءة وأمن من تبعات ما يعملون من الكفر والمعاصي وغوائلها في الكتب السماوية فلذلك يصرون على ما هم عليه ولا يخافون ، واختار بعضهم في هذا أنه خاص بالكفار ، وقالوا في قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) إنه إضراب من التبكيت المذكور إلى تبكيت آخر بطريق الالتفات للإيذان بإفضاء حالهم إلى الإعراض عنهم وإسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية قبائحهم لغيرهم. أي بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن جماعة أمرنا مجتمع لا يرام ولا يضام ، أو (مُنْتَصِرٌ) من الأعداء لا يغلب ، أو متناصر ينصر بعضنا بعضا.

والذي يترجح في نظر الفقير أن الخطاب في الموضعين خاص على ما يقتضيه السياق بكفار أهل مكة أو العرب وهو ظهر في الموضع الثاني لا يحتاج إلى شيء ، وأما في الموضع الأول فوجهه أن تكون الإضافة مثلها في الدراهم كلها كذا ، وطور سيناء ، ويوم الأحد ولم يقل أأنتم للتنصيص على كفرهم المقتضي لهلاكهم ، ويجوز أن يعتبر في (أَكُفَّارُكُمْ) ضرب من التجريد الذي ذكروه في نحو (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) [فصلت : ٢٨] فكأنه جرد منهم كفار وأضيفوا إليهم ، وفي ذلك من المبالغة ما فيه ، ويجوز أن يكون هذا وجها للعدول عن أأنتم ، وربما يترجح به كون الخيرية المنفية باعتبار لين الشكيمة في الكفر وكأنه لما خوف سبحانه الكفار الذين كذبوا الآيات وأعرضوا عنها ، وقالوا هي سحر مستمر بذكر ما حل بالأمم السالفة مما تبرق وترعد منه أسارير الوعيد قال عزوجل لهم : لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بهم أأنتم أقل كفرا وعنادا منهم ليكون ذلك سببا للأمن من حلول نحو عذابهم بكم أن أعطاكم الله عزوجل براءة من عذابه أم أنتم أعز منهم منتصرون على جنود الله تعالى وعدل سبحانه عن أم أنتم جميع منتصر إلى ما في النظم الجليل للإشارة إلى أن ذلك مما لا تحقق له أصلا إلا باللفظ ومحض الدعوى التي لا يوافق عليها فتأمل ، فأسرار كلام الله تعالى لا تتناهى ، ثم لا تعجل بالاعتراض على ما قلناه وإن لم يكن لنا سلف فيه حسبما تتبعنا ، ثم إن (جَمِيعٌ) على ما أشير إليه بمعنى الجماعة التي أمرها مجتمع وليس من التأكيد في شيء بل هو خبر (نَحْنُ) ، وجوز أن يكون بمعنى مجتمع خبر مبتدأ محذوف وهو (أمرنا) والجملة خبر (نَحْنُ) وأن يكون هو

٩١

الخبر والإسناد مجازي ، و (مُنْتَصِرٌ) على ما سمعت إما بمعنى ممتنع يقال : نصره فانتصر إذا منعه فامتنع.

والمراد بالامتناع عدم المغلوبية أو هو بمعنى منتقم من الأعداء أو هو من النصر بمعنى العون ؛ والافتعال بمعنى التفاعل كالاختصام والتخاصم وكان الظاهر منتصرون إلا أنه أفرد باعتبار لفظ الجميع فإنه مفرد لفظا جمع معنى ورجح هنا جانب اللفظ عكس بل أنتم قوم تجهلون لخفة الإفراد مع رعاية الفاصلة وليس في الآية رعاية جانب المعنى أولا ، ثم رعاية جانب اللفظ ثانيا على عكس المشهور ، وإن كان ذلك جائزا على الصحيح كما لا يخفى على الخبير ، وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهسم ـ أم تقولون ـ بتاء الخطاب ، وقوله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) رد لقولهم ذلك والسين للتأكيد أي يهزم جمعهم البتة (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي الإدبار ، وقد قرئ كذلك ، والإفراد لإرادة الجنس الصادق على الكثير مع رعاية الفواصل ومشاكلة القرائن ، أو لأنه في تأويل يولي كل واحد منهم دبره على حدّ : كسانا الأمير حلة مع الرعاية المذكورة أيضا وقد كان هذا يوم بدر وهو من دلائل النبوة لأن الآية مكية ، وقد نزلت حيث لم يفرض جهاد ولا كان قتال ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه : يوم نزلت أي جمع يهزم أي من جموع الكفار؟ ولم يتعرض لقتال أحد منهم ، وقد تقدم الخبر.

ومما أشرنا إليه يعلم أن قول الطيبي في هذه الرواية نظر لأن همزة الإنكار في (أَمْ يَقُولُونَ) إلخ دلت على أن المنهزمين من هم ناشئ عن الغفلة عن مراد عمر رضي الله تعالى عنه ، وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهسم ـ ستهزم الجمع ـ بفتح التاء وكسر الزاي خطابا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونصب الجمع على المفعولية ، وقرأ أبو حيوة أيضا ويعقوب ـ سنهزم ـ بالنون مفتوحة وكسر الزاي على إسناد الفعل إلى ضمير العظمة ، وعن أبي حيوة وابن أبي عبلة «سيهزم الجمع» بفتح الياء مبنيا للفاعل ونصب الجمع أي سيهزم الله تعالى الجمع ، وقرأ أبو حيوة وداود ابن أبي سالم عن أبي عمرو ـ وتولون ـ بتاء الخطاب (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) أي ليس هذا تمام عقوبتهم بل الساعة موعد عذابهم وهذا من طلائعه (وَالسَّاعَةُ أَدْهى) أي أعظم داهية وهي الأمر المنكر الفظيع الذي لا يهتدى إلى الخلاص عنه (وَأَمَرُّ) وأشد مرارة في الذوق وهو استعارة لصعوبتها على النفس : وقيل : أقوى وليس بذاك وإظهار الساعة في موضع إضمارها لتربية تهويلها (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) من الأولين والآخرين (فِي ضَلالٍ) في هلاك (وَسُعُرٍ) ونيران مسعرة أو في ضلال عن الحق ونيران في الآخرة ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : في خسران وجنون ، وقوله تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ) أي يجرون (فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) متعلق بقول مقدر بعده أي يوم يسحبون يقال لهم (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) وجوز أن يكون متعلقا بمقدار يفهم مما قبل أي يعذبون ، أو يهانون ، أو نحوه ، وجملة القول عليه حال من ضمير (يُسْحَبُونَ) وجوز كونه متعلقا ـ بذوقوا ـ على أن الخطاب للمكذبين المخاطبين في قوله تعالى : (أَكُفَّارُكُمْ) إلخ أي ذوقوا أيها المكذبون محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم يوم يسحب المجرمون المتقدمون ، والمراد حشرهم معهم والتسوية بينهم في الآخرة كما ساءوهم في الدنيا وهو كما ترى ، والمراد ـ بمس سقر ـ ألمها على أنه مجاز مرسل عنه بعلاقة السببية فإن مسها سبب للتألم بها وتعلق الذوق بمثل ذلك شائع في الاستعمال ، وفي الكشاف (مَسَّ سَقَرَ) كقولك وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب لأن النار إذا أصابتهم بحرّها ولحقتهم بإيلامها فكأنها تمسهم مسا بذلك كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذي ويؤلم ، وهو مشعر بأن في الكلام استعارة مكنية نحو (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) [الرعد : ٢٥] ويحتمل غير ذلك ، و (سَقَرَ) علم لجهنم ـ أعاذنا الله تعالى منها ببركة كلامه العظيم وحرمة حبيبه عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم ـ من سقرته للنار وصقرته بإبدال السين صادا لأجل القاف إذا لوحته وغيرت لونه قال ذو الرمة يصف ثور الوحش :

٩٢

إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها

بأفنان مربوع الصريمة معبل

وعدم الصرف للعلمية والتأنيث ، وقرأ عبد الله إلى النار ، وقرأ محبوب عن أبي عمرو «مس سّقر» بإدغام السين في السين ، وتعقب ذلك ابن مجاهد بأن إدغامه خطأ لأنه مشدد ، والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال ثم أدغم (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ) من الأشياء (خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أي مقدرا مكتوبا في اللوح قبل وقوعه ، فالقدر بالمعنى المشهور الذي يقابل القضاء ، وحمل الآية على ذلك هو المأثور عن كثير من السلف ، وروى الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة قال : «جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في القدر فنزلت (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)» وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن عدي وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية» أنزلت فيهم آية في كتاب الله (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) إلى آخر الآيات ، وكان ابن عباس يكره القدرية جدا ، أخرج عبد بن حميد عن أبي يحيى الأعرج قال سمعت ابن عباس ـ وقد ذكر القدرية ـ يقول : لو أدركت بعضهم لفعلت به كذا وكذا ثم قال : الزنا بقدر والسرقة بقدر وشرب الخمر بقدر.

وأخرج عن مجاهد أنه قال : قلت لابن عباس : ما تقول فيمن يكذب بالقدر؟ قال : اجمع بيني وبينه قال : ما تصنع به؟ قال : أخنقه حتى أقتله ، وقد جاء ذمهم في أحاديث كثيرة ، منها ما أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «لكل أمه مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم». وجوز كون المعنى إنا كل شيء خلقناه مقدرا محكما مستوفي فيه مقتضي الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين ، فالآية من باب (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢] ونصب (كُلَ) بفعل يفسره ما بعده أي إنا خلقنا كل شيء خلقناه ، وقرأ أبو السمال قال ابن عطية وقوم من أهل السنة برفع كل وهو على الابتداء ، وجملة (خَلَقْناهُ) هو الخبر ، و (بِقَدَرٍ) متعلق به كما في القراءة المتواترة ، فتدل الآية أيضا على أن كل شيء مخلوق بقدر ولا ينبغي أن تجعل جملة خلقناه صفة ، ويجعل الخبر (بِقَدَرٍ) لاختلاف القراءتين معنى حينئذ ، والأصل توافق القراءات ، وقال الرضي : لا يتفاوت المعنى لأن مراده تعالى بكل شيء كل مخلوق سواء نصبت (كُلَ) أو رفعته وسواء جعلت (خَلَقْناهُ) صفة مع الرفع ، أو خبرا عنه ، وذلك إن خلقنا كل شيء بقدر لا يريد سبحانه به خلقنا كل ما يقع عليه اسم شيء لأنه تعالى لم يخلق جميع الممكنات غير المتناهية واسم الشيء يقع على كل منها ، وحينئذ نقول : إن معنى (كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) على أن خلقناه هو الخبر (كُلَ) مخلوق مخلوق (بِقَدَرٍ) وعلى أن (خَلَقْناهُ) صفة (كُلَّ شَيْءٍ) مخلوق كائن (بِقَدَرٍ) والمعنيان واحد إذ لفظ (كُلَ) في الآية مختص بالمخلوقات سواء كان (خَلَقْناهُ) صفة له أو خبرا ، وتعقبه السيد السند قدس‌سره بأنه لقائل أن يقول : إذ جعلنا (خَلَقْناهُ) صفة كان المعنى (كُلَ) مخلوق متصف بأنه مخلوقنا كائن بقدر ، وعلى هذا لا يمتنع نظرا إلى هذا المعنى أن يكون هناك مخلوقات غير متصفة بتلك الصفة فلا تندرج تحت الحكم ، وأما إذا جعلناه خبرا أو نصبنا (كُلَّ شَيْءٍ) فلا مجال لهذا الاحتمال نظرا إلى نفس المعنى المفهوم من الكلام فقد اختلف المعنيان قطعا ولا يجديه نفعا أن كل مخلوق متصف بتلك الصفة في الواقع لأنه إنما يفهم من خارج الكلام ولا شك أن المقصود ذلك المعنى الذي لا احتمال فيه ، وذكر نحوه الشهاب الخفاجي ولكون النصب نصا في المقصود اتفقت القراءات المتواترة عليه مع احتياجه إلى التقدير وبذلك يترجح على الرفع الموهم لخلافه وإن لم يحتج إليه.

٩٣

(وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) أي ما شأننا إلا فعلة واحدة على نهج لا يختلف ووتيرة لا تتعدد وهي الإيجاد بلا معالجة ومشقة ، أو ما أمرنا إلا كلمة واحدة ، وهي قوله تعالى : (كُنْ) [البقرة : ١١٧] وغيرها فالأمر مقابل النهي وواحد الأمور ، فإذا أراد عزوجل شيئا قال له : (كُنْ فَيَكُونُ) (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي في السير والسرعة ، وقيل : هذا في قيام الساعة فهو كقوله تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) [النحل : ٧٧] (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أي أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة ، وأصله جمع شيعة وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع ولما كانوا في الغالب من جنس واحد أريد به ما ذكر إما باستعماله في لازمه ، أو بطريق الاستعارة ، والحال قرينة على ذلك ، وقيل : هو باق على حقيقته أي أتباعكم (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ بذلك (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ) من الكفر والمعاصي ، والضمير المرفوع للأشياع كما روي عن ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد ، وجملة (فَعَلُوهُ) صفة (شَيْءٍ) والرابط ضمير النصب ، وقوله تعالى : (فِي الزُّبُرِ) متعلق بكون خاص خبر المبتدأ أي كل شيء فعلوه في الدنيا مكتوب في كتب الحفظة غير مغفول عنه ، وتفسير (الزُّبُرِ) باللوح المحفوظ كما حكاه الطبرسي ليس بشيء ، ولم يختلف القراء في رفع (كُلُ) وليست الآية من باب الاشتغال فلا يجوز النصب لعدم بقاء المعنى الحاصل بالرفع لو عمل المشتغل بالضمير في الاسم السابق كما هو اللازم في ذلك الباب إذ يصير المعنى هاهنا حينئذ فعلوا (فِي الزُّبُرِ) كل شيء إن علقنا الجار ـ يفعلوا وهم لم يفعلوا شيئا من أفعالهم في الكتب بل فعلوها في أماكنهم والملائكة عليهم‌السلام كتبوها عليهم في الكتب ، أو فعلوا كل شيء مكتوب (فِي الزُّبُرِ) إن جعلنا الجار نعتا لكل شيء ، وهذا وإن كان معنى مستقيما إلا أنه خلاف المعنى المقصود حالة الرفع وهو ما تقدم آنفا (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من الأعمال كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، وقيل : منها ومن كل ما هو كائن إلى يوم القيامة (مُسْتَطَرٌ) مسطور مكتتب في اللوح بتفاصيله وهو من السطر بمعنى الكتب ، ويقال : سطرت واستطرت بمعنى ، وقرأ الأعمش وعمران وعصمة عن أبي بكر عن عاصم «مستطرّ» بتشديد الراء ، قال صاحب اللوامع : يجوز أن يكون من ـ طر ـ النبات والشارب إذا ظهر ، والمعنى كل (صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) ظاهر في اللوح مثبت فيه ويجوز أن يكون من الاستطار لكن شدد الراء للوقف على لغة من يقول. جعفرّ ويفعلّ ـ بالتشديد وقفا أي ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ووزنه على التوجيه الأول مستفعل وعلى الثاني مفتعل ، ولما كان بيان حال سوء الكفرة بقوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) إلخ مما يستدعي بيان حسن حال المؤمنين ليتكافأ الترهيب والترغيب بين سبحانه ما لهم من حسن الحال بطريق الإجمال فقال عز قائلا : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي من الكفر والمعاصي ، وقيل : من الكفر.

(فِي جَنَّاتٍ) عظيمة الشأن (وَنَهَرٍ) أي أنهار كذلك ، والإفراد للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل ، وعن ابن عباس تفسيره بالسعة ، وأنشد عليه قول لبيد بن ربيعة ـ كما في الدر المنثور ـ أو قيس بن الخطيب ـ كما في البحر ـ يصف طعنة :

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها

أي أوسعت فتقها ، والمراد بالسعة سعة المنازل على ما هو الظاهر ، وقيل : سعة الرزق والمعيشة ، وقيل : ما يعمهما وأخرج الحكيم والترمذي في نوادر الأصول عن محمد بن كعب قال : (وَنَهَرٍ) أي في نور وضياء وهو على الاستعارة بتشبيه الضياء المنتشر بالماء المتدفق من منبعه ، وجوز أن يكون بمعنى النهار على الحقيقة ، والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم في الجنات ، وقرأ الأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان «ونهر» بسكون الهاء ، وهو بمعنى «نهر» مفتوحها ، وقرأ الأعمش وأبو نهيك وأبو مجلز واليماني «ونهر» بضم النون والهاء ، وهو جمع نهر

٩٤

المفتوح أو الساكن ـ كأسد وأسد ، ورهن ورهن ـ وقيل : جمع نهار ، والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم كما حكي فيما ، وقيل : قرئ بضم النون وسكون الهاء (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) في مكان مرضي على أن الصدق مجاز مرسل في لازمه أو استعارة ، وقيل : المراد صدق المبشر به وهو الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو المراد أنه ناله من ناله بصدقه وتصديقه للرسل عليهم‌السلام ، فالإضافة لأدنى ملابسة ؛ وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق ، وهو المقعد الذي يصدق الله تعالى فيه مواعيد أوليائه بأنه يبيح عزوجل لهم النظر إلى وجهه الكريم ، وإفراد المقعد على إرادة الجنس.

وقرأ عثمان البتي ـ في مقاعد ـ على الجمع وهي توضح أن المراد بالمقعد المقاعد (عِنْدَ مَلِيكٍ) أي ملك عظيم الملك ، وهو صيغة مبالغة وليست الياء من الإشباع (مُقْتَدِرٍ) قادر عظيم القدرة ، والظرف في موضع الحال من الضمير المستقر في الجار والمجرور ، أو خبر بعد خبر ، أو صفة لمقعد صدق ، أو بدل منه ، والعندية للقرب الرتبي ، وذكر بعضهم أنه سبحانه أبهم العندية والقرب ونكر ـ مليكا ، ومقتدرا ـ للإشارة إلى أن ملكه تعالى وقدرته عزوجل لا تدري الأفهام كنههما وأن قربهم منه سبحانه بمنزلة من السعادة والكرامة بحيث لا عين رأت ولا أذن سمعت مما يجل عن البيان وتكلّ دونه الأذهان.

وأخرج الحكيم الترمذي عن بريدة ـ عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) إلخ قال : إن أهل الجنة يدخلون على الجبار كل يوم مرتين فيقرأ عليهم القرآن وقد جلس كل امرئ منهم مجلسه الذي هو مجلسه على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب والفضة بالأعمال فلا تقرّ أعينهم قط كما تقرّ بذلك ولم يسمعوا شيئا أعظم منه ولا أحسن منه ثم ينصرفون إلى رحالهم قريرة أعينهم ناعمين إلى مثلها من الغد ـ وإذا صح هذا فهو من المتشابه كالآية فلا تغفل ، ولهذين الاسمين الجليلين شأن في استجابة الدعاء على ما في بعض الآثار.

أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال : دخلت المسجد وأنا أرى أني أصبحت فإذا علي ليل طويل وليس فيه أحد غيري فنمت فسمعت حركة خلفي ففزعت فقال : أيها الممتلئ قلبه فرقا لا تفرق أو لا تفزع وقل اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون ثم سل ما بدا لك قال : فما سألت الله تعالى شيئا إلا استجاب لي وأنا أقول : اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون فأسعدني في الدارين وكن لي ولا تكن علي وانصرني على من بغى علي وأعذني من هم الدين وقهر الرجال وشماتة الأعداء ، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، والحمد لله رب العالمين.

٩٥

سورة الرّحمن

وسميت في حديث أخرجه البيهقي عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا «عروس القرآن» ورواه موسى بن جعفر رضي الله تعالى عنهما عن آبائه الأطهار كذلك «وهي مكية» في قول الجمهور ، وأخرج ذلك ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وعائشة رضي الله تعالى عنهم وابن النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنها نزلت بالمدينة ، وحكي ذلك عن مقاتل ، وحكاه في البحر عن ابن مسعود أيضا ، وحكي أيضا قولا آخر عن ابن عباس وهو أنها مدنية سوى قوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرحمن : ٢٩] الآية ، وحكي الاستثناء المذكور في جمال القراء عن بعضهم ولم يعينه ، وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في الكوفي والشامي ، وسبع وسبعون في الحجازي ، وست وسبعون في البصري.

ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال الجلال السيوطي : أنه لما قال سبحانه في آخر ما قيل (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) [القمر : ٤٦] ثم وصف عزوجل حال المجرمين (فِي سَقَرَ) [القمر : ٤٨] ؛ وحال المتقين (فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) [القمر : ٥٤] فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال فبدأ بوصف مرارة الساعة ، والإشارة إلى شدّتها ، ثم وصف النار وأهلها ، ولذا قال سبحانه : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) [الرحمن : ٤١] ولم يقل الكافرون ، أو نحوه لاتصاله معنى بقوله تعالى هناك: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) [القمر : ٤٧] ثم وصف الجنة وأهلها ولذا قال تعالى فيهم : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) وذلك هو عين التقوى ولم يقل ولمن آمن ، أو أطاع ، أو نحوه لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل ؛ ويعرف بما ذكر أن هذه السورة كالشرح لآخر السورة قبلها ، وقال أبو حيان في ذلك : إنه تعالى لما ذكر هناك مقر المجرمين في سعر ، ومقر المتقين (فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٤] ذكر سبحانه هنا شيئا من آيات الملك وآثار القدرة ، ثم ذكر جل وعلا مقر الفريقين على جهة الإسهاب إذ كان ذكره هناك على جهة الاختصار ، ولما أبرز قوله سبحانه : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) بصورة التنكير فكأن سائلا يسأل ويقول من المتصف بهاتين الصفتين الجليلتين؟ فقيل : «الرحمن» إلخ ، والأولى عندي أن يعتبر في وجه المناسبة أيضا ما في الإرشاد وهو أنه تعالى لما عدد في السورة السابقة ما نزل بالأمم السالفة من ضروب نقم الله عزوجل ، وبيّن عقيب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لتذكر الناس واتعاظهم ونعى عليهم إعراضهم عن ذلك عدد في هذه السورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نعمه الدينية والدنيوية والأنفسية والآفاقية وأنكر عليهم أثر كل فن منها إخلالهم بمواجب شكرها ، وهذا التكرار أحلى من السكر إذ تكرر ، وفي الدرر والغرر لعلم الهدى السيد المرتضى التكرار في سورة «الرحمن» إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة ، فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكذيب بها كما يقول الرجل لغيره ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك

٩٦

كذا وكذا؟ فيحسن فيه التكرير لاختلاف ما يقرر به وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم كقول مهلهل يرثي كليبا :

على أن ليس عدلا من كليب

إذا ما ضيم جيران المجير

على أن ليس عدلا من كليب

إذا رجف العضاه من الدبور

على أن ليس عدلا من كليب

إذا خرجت مخبأة الخدور

على أن ليس عدلا من كليب

إذا ما أعلنت نجوى الأمور

على أن ليس عدلا من كليب

إذا خيف المخوف من الثغور

على أن ليس عدلا من كليب

غداة تأثل الأمر الكبير

على أن ليس عدلا من كليب

إذا ما خار جأش المستجير

ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ولو لا خوف الملل لأوردتها ، ولا يرد على ما ذكره أن هذه الآية قد ذكرت بعد ما ليس نعمة لما ستعلمه إن شاء الله تعالى في محله ، وقسم في الإتقان التكرار إلى أقسام ، وذكر أن منه ما هو لتعدد المتعلق بأن يكون المكرر ثانيا متعلقا بغير ما تعلق به الأول ؛ ثم قال : وهذا القسم يسمى بالترديد وجعل منه قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) من سورة الرحمن فإنها وإن تكررت إحدى وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها ولذلك زادت على ثلاثة ولو كان الجميع عائدا على شيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يزيد عليها كما قال ابن عبد السلام وغيره ، وهو حسن إلا أنه نظر في إطلاق قوله : إن التأكيد إلخ بأن ذلك في التأكيد الذي تابع أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع وإن لزم منه التأكيد فافهم ، وبدأ سبحانه من النعم بتعليم القرآن فقال عز قائلا :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٨)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ) لأنه أعظم النعم شأنا وأرفعها مكانا كيف لا وهو مدار للسعادة الدينية والدنيوية وعيار على الكتب السماوية ما من مرصد ترنو إليه أحداق الأمم إلا وهو منشؤه

٩٧

ومناطه ، ولا مقصد تمتد نحوه أعناق الهمم إلا وهو منهجه وصراطه ، ونصبه على أنه مفعول ثان ـ لعلم ـ ومفعوله الأول محذوف لدلالة المعنى عليه ـ أي علم الإنسان القرآن ـ وهذا المفعول هو الذي كان فاعلا قبل نقل فعل الثلاثي إلى فعل المضعف ، وسها الإمام فحسب أن المحذوف المفعول الثاني حيث قال : علم لا بد له من مفعول ثان وترك للإشارة إلى أن النعمة في التعليم لا في تعليم شخص دون شخص ، ويمكن أن يقال : أراد أنه لا بد له من مفعول آخر مع هذا المفعول فلا جزم بسهوه ، وقيل : المقدر جبريل عليه‌السلام أو الملائكة المقربينعليهم‌السلام ، وقيل : محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وعلى القولين يتضمن ذلك الاشارة إلى أن القرآن كلام الله عزوجل ، والقول الأول أظهر وأنسب بالمقام ، ولي في تعليم غير جبريل عليه‌السلام من الملائكة الكرام تردد ما بناء على ما في الإتقان نقلا عن ابن الصلاح من أن قراءة القرآن كرامة أكرم الله تعالى بها البشر فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك وأنهم حريصون لذلك على استماعه من الإنس وإنما لم أعتبر عمومه للنصوص الدالة على أن جبريلعليه‌السلام كان يقرأ القرآن وكأني بك لا تسلم صحة ما ذكر وإن استثني منه جبريل عليه‌السلام ، وقيل : (عَلَّمَ) من العلامة ولا تقدير أي جعل القرآن علامة وآية لمن اعتبر ، أو علامة للنبوة ومعجزة ، وهذا على ما قيل : يناسب ما ذكر في مفتتح السورة السابقة من قوله تعالى : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١] وتتناسب السورتان في المفتتح حيث افتتحت الأولى بمعجزة من باب الهيبة وهذه بمعجزة من باب الرحمة.

وقد أبعد القائل ولو أبدى ألف مناسبة ، فالذي ينبغي أن يعلم أنه من التعليم ، والمراد بتعليم القرآن قيل: إفادة العلم به لا بمعنى إفادة العلم بألفاظه فقط بل بمعنى إفادة ذلك والعلم بمعانيه على وجه يعتدّ به وهو متفاوت وقد يصل إلى العلم بالحوادث الكونية من إشاراته ورموزه إلى غير ذلك فإن الله تعالى لم يغفل شيئا فيه.

أخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة مرفوعا «إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة».

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنزل في هذا القرآن علم كل شيء وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصّر عما بين لنا في القرآن ، وقال ابن عباس : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى : وقال المرسي : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ، ثم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه ، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم كالخلفاء الأربعة ، ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه ، وفسر بعضهم التعليم بتنبيه النفس لتصور المعاني ، وجوز الإمام أن يراد به هنا جعل الشخص بحيث يعلم القرآن فالآية كقوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر : ١٧ ، ٢٢ ، ٣٢ ، ٤٠] وهو بهذا المعنى مجاز كما لا يخفى ، و (الرَّحْمنُ) مبتدأ والجملة بعده خبره كما هو الظاهر ، وإسناد تعليمه إلى اسم (الرَّحْمنُ) للإيذان بأنه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها ، وتقديم المسند إليه إما للتأكيد أو للحصر ، وفيه من تعظيم شأن القرآن ما فيه ، وقيل : (الرَّحْمنُ) خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ خبره محذوف أي الله الرحمن ، أو الرحمن ربنا وما بعد مستأنف لتعديد نعمه عزوجل وهو خلاف الظاهر ، ثم أتبع سبحانه نعمة تعليم القرآن بخلق الإنسان فقال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) لأن أصل النعم عليه ، وإنما قدم ما قدم منها لأنه أعظمها ، وقيل : لأنه مشير إلى الغاية من خلق الإنسان وهو كماله

٩٨

في قوة العلم والغاية متقدمة على ذي الغاية ذهنا وإن كان الأمر بالعكس خارجا ، والمراد بالإنسان الجنس وبخلقه إنشاؤه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة ، ثم أتبع عزوجل ذلك بنعمة تعليم (الْبَيانَ) فقال سبحانه : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) لأن البيان هو الذي به يتمكن عادة من تعلم القرآن وتعليمه ، والمراد به المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.

والمراد بتعليمه نحو ما مر ، وفي الإرشاد أن قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) تعيين للمتعلم ، وقوله سبحانه : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) تبيين لكيفية التعليم ، والمراد بتعليم البيان تمكين الإنسان من بيان نفسه ، ومن فهم بيان غيره إذ هو الذي يدور عليه تعليم القرآن. وقيل إنه بناء على تقدير المفعول المحذوف الملائكة المقربين : إن تقديم تعليم القرآن لتقدمه وقوعا فهم قد علموه قبل خلق الإنسان وربما يرمز إليه قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة : ٧٧ ـ ٧٩] وفي النظم الجليل عليه حسن زائد حيث إنه تعالى ذكر أمورا علوية وأمورا سفلية وكل علوي قابله بسفلي ويأتي هذا على تقدير المفعول جبريل عليه‌السلام أيضا ؛ وقال الضحاك : (الْبَيانَ) الخير والشر ، وقال ابن جريج : سبيل الهدى وسبيل الضلالة ، وقال يمان : الكتابة والكل كما ترى ، وجوز أن يراد به القرآن وقد سماه الله تعالى بيانا في قوله سبحانه : (هذا بَيانٌ) [آل عمران: ١٣٨] وأعيد ليكون الكلام تفصيلا لإجمال علم القرآن وهذا في غاية البعد وقال قتادة : (الْإِنْسانَ) آدم ، و (الْبَيانَ) علم الدنيا والآخرة ، وقيل : (الْبَيانَ) أسماء الأشياء كلها. وقيل : التكلم بلغات كثيرة ، وقيل : الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء ، ونسب هذا إلى جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه.

وقال ابن كيسان : (الْإِنْسانَ) محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعليه قيل : المراد بالبيان بيان المنزل. والكشف عن المراد به كما قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] أو الكلام الذي يشرح به المجمل والمبهم في القرآن أو القرآن نفسه على ما سمعت آنفا ، أو نحو ذلك مما يناسبه عليه الصلاة والسلام ويليق به من المعاني السابقة ، ولعل ابن كيسان يقدر مفعول علم الإنسان مرادا به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا ، وهذه أقوال بين يديك ، والمتبادر من الآيات الكريمة لا يخفى عليك ولا أظنك في مرية من تبادر ما ذكرناه فيها أولا. ثم إن كلا من الجملتين الأخيرتين خبر عن المبتدأ كجملة (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) وكذا قوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) والجار والمجرور فيه خبر بتقدير مضاف أي جرى (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) كائن أو مستقر (بِحُسْبانٍ) أو الخبر محذوف والجار متعلق به أي يجريان بحسبان وهو مصدر كالغفران بمعنى الحساب ـ كما قال قتادة وغيره ـ أي هما يجريان (بِحُسْبانٍ) مقدر في بروجهما ومنازلهما بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات ويعلم السنون والحساب ، وقال الضحاك وأبو عبيدة : هو جمع حساب كشهاب وشهبان أي هما يجريان بحسابات شتى في بروجهما ومنازلهما ، وقال مجاهد : الحسبان الفلك المستدير من حسبان الرحا وهو ما أحاط بها من أطرافها المستديرة ، وعليه فالباء للظرفية ، والجار والمجرور في موضع الخبر من غير احتياج إلى ما تقدم ، والمراد كل من (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) في فلك ، والجمهور على الأول وجريان الشمس والقمر مما لا ينبغي أن يشك فيه.

وفلاسفة العصر كانوا يزعمون أن الشمس لا تجري أصلا ، وأن القمر يجري على الأرض ، والأرض تجري على الشمس ، وقد سمعنا أنهم عدلوا منذ أعوام عن ذلك ، فزعموا أن للشمس حركة على كوكب آخر وهذا

٩٩

يدل على أنهم لم يكن عندهم برهان على دعواهم الأولى كما كان يقوله من كان ينتصر لهم ، والظاهر أن حالهم اليوم بل وغدا مثل حالهم بالأمس ، ونحن مع الظواهر حتى يقوم الدليل القطعي على خلافها وحينئذ نميل إلى التأويل وبابه واسع ، ومثل هذه الجملة قوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) فإن المعطوف على الخبر خبر ، والمراد ـ بالنجم ـ النبات الذي ينجم أي يظهر ويطلع من الأرض ولا ساق له ، وبالشجر النبات الذي له ساق ، وهو المروي عن ابن عباس وابن جبير وأبي رزين ؛ والمراد بسجودهما انقيادهما له تعالى فيما يريد بهما طبعا ، شبه جريهما على مقتضى طبيعتيهما بانقياد الساجد لخالقه وتعظيمه له. ثم استعمل اسم المشبه به في المشبه فهناك استعارة مصرحة تبعية ، وقال مجاهد وقتادة والحسن ـ النجم ـ نجم السماء وسجوده بالغروب ونحوه وسجود الشجر بالظل واستدارته عند مجاهد والحسن وفي رواية أخرى عن مجاهد أن سجودهما عبارة عن انقيادهما لما يريد سبحانه بهما طبعا ، والجمهور على تفسير النجم بما سمعت أولا قبل لأن اقترانه بالشجر يدل عليه ، وإن كان تقدم (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) يتوهم منه أنه بمعناه المعروف ففيه تورية ظاهرة ، وإخلاء الجمل الثانية والثالثة والرابعة عن العاطف لورودها على نهج التعديد مع الإشارة إلى أن كلا مما تضمنته نعمة مستقلة تقتضي الشكر ، وقد قصروا في أدائه ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها ربما توهم أن الكل نعمة واحدة.

وتوسيط العاطف بين الرابعة والخامسة رعاية لتناسبهما من حيث التقابل لما أن (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) علويان (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ) سفليان ، ومن حيث إن كلا من حال العلويين وحال السفليين من باب الانقياد لأمر الله عزوجل وخلوهما عن الرابط اللفظي مع كونهما خبرين للتعويل على كمال قوة الارتباط المعنوي إذ لا يتوهم ذهاب الوهم إلى كون حال (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) بتسخير غيره تعالى ، ولا إلى كون سجود النجم والشجر لسواه سبحانه فكأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) له كذا قالوه ، وفي الكشف : تبيينا لما ذكره صاحب الكشاف في هذا المقام أخلى الجمل أي التي قبل الشمس والقمر بحسبان عن العاطف لأن الغرض تعديد النعم وتبكيت المنكر كما يقال : زيد أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذل ، كثّرك بعد قلة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه كأنه لما عد نعمة حرك منه حتى يتأمل هل شكرها حق شكرها أم لا ، ثم يأخذ في أخرى ولو جيء بالعاطف صارت كواحدة ولم يكن من التحريك في شيء ، ولما قضي الوطر من التعديد المحرك والتبكيت بذكر ما هو أصل النعم على نمط رد الكلام على منهاجه الأصلي من تعداد النعم واحدة بعد أخرى على التناسب والتقارب بحرف النسق ، وفيه تنبيه على أن النعم لا تحصى فليكتف بتعديد أجلها رتبة للغرض المذكور.

وجملة (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) ليست من أخبار المبتدأ ، والزمخشري إنما سأل عن وجه الربط ، وأجاب بأن الربط حاصل بالوصل المعنوي كأنه بعد ما بكت ونبه أخذ يعد عليه أصول النعم ليثبت على ما طلب منه من الشكر ، وهذا كما تقول في المثال السابق بعد قولك : فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد دانت له أقرانك وأطاعته إخوانك وبسط نواله فيمن تحت ملكته ولم يخرج أحد من حياطة عدله ونصفته ، فلا يشك ذو أرب أنها جمل منقطعة عن الأولى إعرابا متصلة بها اتصالا معنويا أورثها قطعها لأنها سيقت لغرض وهذه لآخر ، وقريب من هذا الاتصال اتصال قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ) [البقرة : ٦] الآية بقوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] الآية انتهى.

١٠٠