روح المعاني - ج ١٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

النضخ فوران الماء ، وفي الكشاف وغيره النضج أكثر من النضخ بالحاء المهملة لأنه مثل الرش وهو عند من فضل الجنتين الأوليين دون الجري ، فالمدح به دون المدح به ، وعليه قول البراء بن عازب فيما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم العينان اللتان تجريان خير من النضاختين ، ومن ذهب إلى تفضيل هاتين يقول في الفوران جري مع زيادة حسن فإن الماء إذا فار وارتفع وقع متناثر القطرات كحبات اللؤلؤ المتناثرة كما يشاهد في الفوارات المعروفة ، أو يقول بما أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن أنس (نَضَّاخَتانِ) بالمسك والعنبر تنضخان على دور الجنة كما ينضخ المطر على دور أهل الدنيا ، أو بما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهد (نَضَّاخَتانِ) بالخير ، ولفظ ابن أبي شيبة بكل خير.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ* فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) عطف الأخيرين على الفاكهة عطف جبريل وميكال عليهما‌السلام على الملائكة بيانا لفضلهما ، وقيل : إنهما في الدنيا لما لم يخلصا للتفكه فإن النخل ثمره فاكهة وطعام ، والرمان فاكهة ودواء عدا جنسا آخر فعطفا على الفاكهة وإن كان كل ما في الجنة للتفكه لأنه تلذذ خالص ، ومنه قال الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث ، وخالفه صاحباه ثم إن نخل الجنة ورمانها وراء ما نعرفه.

أخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة وهناد وابن أبي الدنيا وابن المنذر والحاكم وصححه وآخرون عن ابن عباس نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرانيفها ذهب أحمر وسعفها كسوة أهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم وحكمه حكم المرفوع. وفي حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا أصوله فضة وجذوعه فضة وسعفه حلل وحمله الرطب إلخ.

وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعا قال عليه الصلاة والسلام : «نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كمثل البعير المقتب» وهذا المدح بحسب الظاهر دون المدح في قوله تعالى في الجنتين السابقتين : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) [الرحمن : ٥٢] ومن ذهب إلى تفضيلهما يقول إن التنوين في فاكهة للتعميم بقرينة المقام نظير ما قيل في قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) [التكوير : ١٤] فيكون في قوة فيها كل (فاكِهَةٌ) ويزيد ما في النظم الجليل على ما ذكر بتضمنه الإشارة إلى مدح بعض أنواعها ، وقال الإمام الرازي : إن (ما) هنا كقوله تعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) وذلك لأن الفاكهة أنواع أرضية وشجرية كالبطيخ وغيره من الأرضيات المزروعات والنخل وغيرها من الشجريات فقال تعالى : (مُدْهامَّتان) لأنواع الخضر التي فيها الفواكه الأرضية ، وفيها أيضا الفواكه الشجرية وذكر سبحانه منها نوعين : الرطب والرمان لأنهما متقابلان أحدهما حلو والآخر فيه حامض ، وأحدهما حار والآخر بارد ، وأحدهما فاكهة وغذاء والآخر فاكهة ، وأحدهما من فواكه البلاد الحارة والآخر من فواكه البلاد الباردة ، وأحدهما أشجاره تكون في غاية الطول والآخر ليس كذلك ، وأحدهما ما يؤكل منه بارز وما لا يؤكل كامن والآخر بالعكس فهما كالضدين ، والإشارة إلى الطرفين تتناول الاشارة إلى ما بينهما كما في قوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ (١) رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [الرحمن : ١٧] انتهى ، ولعل الأول أولى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ) صفة أخرى لجنتان ، أو خبر بعد خبر للمبتدإ المحذوف كالجملة التي قبلها ، ويجوز أن تكون مستأنفة والكلام في ضمير الجمع هنا كالكلام فيه في قوله تعالى : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) [الرحمن : ٥٦] و (خَيْراتٌ) قال أبو حيان : جمع خيرة وصف بني على فعلة من الخير كما بنوا من الشر فقالوا شرة ، وقال الزمخشري : أصله «خيّرات» بالتشديد فخفف كقوله عليه الصلاة والسلام : «هينون لينون» وليس جمع خير بمعنى أخير

١٢١

فإنه لا يقال فيه خيرون ولا خيرات ، ولعله لأن أصل اسم التفضيل أن لا يجمع خصوصا إذا نكر ، وقرأ بكر بن حبيب وأبو عثمان النهدي وابن مقسم «خيّرات» بتشديد الياء وهو يؤيد أن أصله كذلك ، وروي عن أبي عمرو «خيرات» بفتح الياء كأنه جمع خائرة جمع على فعلة (حِسانٌ) قيل : أي حسان الخلق والخلق.

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية : (خَيْراتٌ) الأخلاق (حِسانٌ) الوجوه ، وأخرج ذلك ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة مرفوعا.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى : (حُورٌ) بدل من (خَيْراتٌ) وهو جمع حوراء وكذا جمع أحور ، والمراد بيض كما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس وروته أم سلمة أيضا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : وقال ابن الأثير : الحوراء هي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها ، وفي القاموس الحور بالتحريك أن يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها وتستدير حدقتها وترق جفونها ويبيض ما حواليها أو شدة بياضها وسوادها في بياض الجسد ، أو اسوداد العين كلها مثل الظباء ولا يكون في بني آدم بل يستعار لها. وإذا صح حديث أم سلمة لم يعدل في القرآن عن تفسير رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

(مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) أي مخدرات يقال : امرأة قصيرة ومقصورة أي مخدرة ملازمة لبيتها لا تطوف في الطرق ، قال كثير عزة :

وأنت التي حبّبت كل قصيرة

إليّ ولم تشعر بذاك القصائر

عنيت قصيرات الحجال ولم أرد

قصار الخطا شر النساء البحاتر

والنساء يمدحن بملازمتهن البيوت لدلالتها على صيانتهن كما قال قيس بن الأسلت :

وتكسل عن جاراتها فيزرنها

وتغفل عن أبياتهن فتعذر

وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس والحسن والضحاك وهو رواية عن مجاهد ، وأخرج ابن أبي شيبة وهناد بن السري وابن جرير عنه أنه قال : (مَقْصُوراتٌ) قلوبهن وأبصارهن ونفوسهن على أزواجهن ، والأول أظهر ، و (فِي الْخِيامِ) عليه متعلق بمقصورات ، وعلى الثاني يحتمل ذلك ، ويحتمل كونه صفة ثانية لحور فلا تغفل ، والخيام جمع خيمة ـ وهي على ما في البحر ـ بيت من خشب وثمام وسائر الحشيش ، وإذا كان من شعر فهو بيت ولا يقال له خيمة وقال غير واحد : هي كل بيت مستدير أو ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام ويستظل بها في الحر أو كل بيت يبنى من عيدان الشجر وتجمع أيضا على خيمات وخيم بفتح فسكون وخيم بالفتح وكعنب ـ والخيام هنا بيوت من لؤلؤ ـ أخرج ابن أبي شيبة وجماعة عن ابن عباس أنه قال : الخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة أربعة فراسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب ، وأخرج جماعة عن أبي الدرداء أنه قال : الخيمة لؤلؤة واحدة لها سبعون بابا من در ، وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون يطوف عليهم المؤمن ، إلى ذلك من الاخبار ، وقوله سبحانه : (فِيهِنَ) إلخ دون ما تقدم في الجنتين السابقتين أعني قوله عزوجل : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) إلى قوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٥٨] في المدح عند من فضلهما على الأخيرتين قيل لما في (مَقْصُوراتٌ) على التفسير الثاني من الإشعار بالقسر في القصر ، وأما على تفسيره الأول فكونه دونه ظاهر وإن لم يلاحظ كونها مخدرة فيما تقدم ، أو يجعل قوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) كناية عنه لأنهما مما يصان كما قيل :

١٢٢

جوهرة أحقاقها الخدور

ومن ذهب إلى تفضيل الأخيرتين يقول : هذا أمدح لعموم (خَيْراتٌ حِسانٌ) الصفات الحسنة خلقا وخلقا ويدخل في ذلك قصر الطرف وغيره مما يدل عليه التشبيه بالياقوت والمرجان ، والمراد بالقاصر على التفسير الثاني لمقصورات القاصر الطبيعي بقرينة المقام فيكون فيه إشارة إلى تعذر ترك القصر منهن ، و (قاصِراتُ الطَّرْفِ) ربما يوهم أن القصر باختيارهن فمتى شئن قصرن ومتى لم يشأن لم يقصرن.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) الكلام فيه كالكلام في نظيره (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله سبحانه : (مُتَّكِئِينَ) قيل : بتقدير يتنعمون متكئين أو أعني متكئين ، والضمير لأهل الجنتين المدلول عليهم بذكرهما (عَلى رَفْرَفٍ) اسم جنس أو اسم جمع واحده رفرفة ، وعلى الوجهين يصح وصفه بقوله تعالى : (خُضْرٍ) وجعله بعضهم جمعا لهذا الوصف ولا يخفى أن أمر الوصفية لا يتوقف على ذلك الجعل ، وفسره في الآية علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس والضحاك بفضول المحابس وهي ما يطرح على ظهر الفراش للنوم عليه ، وقال الجوهري : الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس واشتقاقه من رف إذا ارتفع ، وقال الحسن ـ فيما أخرجه ابن المنذر وغيره عنه ـ هي البسط.

وأخرج عن عاصم الجحدري أنها الوسائد ، وروي ذلك عن الحسن أيضا وابن كيسان وقال الجبائي : الفرش المرتفعة ، وقيل : ما تدلى من الأسرّة من غالي الثياب ، وقال الراغب : ضرب من الثياب مشبهة بالرياض ، وأخرج ابن جرير وجماعة عن سعيد بن جبير أنه قال : الرفرف رياض الجنة ، وأخرج عن عبد بن حميد نحوه عن ابن عباس وهو عليه ـ كما في البحر ـ من رف النبت نعم وحسن ، ويقال الرفرف لكل ثوب عريض وللرقيق من ثياب الديباج ولأطراف الفسطاط والخباء الواقعة على الأرض دون الأطناب والأوتاد ، وظاهر كلام بعضهم أنه قيل بهذا المعنى هنا وفيه شيء (وَعَبْقَرِيٍ) هو منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجن فينسبون إليه كل عجيب غريب من الفرش وغيرها فمعناه الشيء العجيب النادر ، ومنه ما جاء في عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه فلم أر عبقريا يفري فريه ، ولتناسي تلك النسبة قيل : إنه ليس بمنسوب بل هو مثل كرسي وبختي كما نقل عن قطرب ، والمراد الجنس ولذلك وصف بالجمع وهو قوله تعالى : (حِسانٍ) حملا على المعنى ، وقيل : هو اسم جمع أو جمع واحده عبقرية ، وفسره الأكثرون بعتاق الزرابي وعن أبي عبيدة هو ما كله وشي من البسط.

وروى غير واحد عن مجاهد أنه الديباج الغليظ ، وعن الحسن أنها بسط فيها صور وقد سمعت ما نقل عنه في الرفرف فلا تغفل عما يقتضيه العطف.

وقرأ عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ونصر بن عاصم الجحدري ومالك بن دينار وابن محيصن وزهير الفرقبي وغيرهم رفارف جمع لا ينصرف «خضر» بسكون الضاد ، «وعباقري» بكسر القاف وفتح الياء مشددة ، وعنهم أيضا ضم الضاد ، وعنهم أيضا فتح القاف قاله صاحب اللوامح ثم قال أما منع الصرف من عباقري فلمجاورته لرفارف يعني للمشاكلة وإلا فلا وجه لمنع الصرف مع ياءي النسب إلا في ضرورة الشعر انتهى.

وقال ابن خالويه قرأ ـ على رفارف خضر وعباقري ـ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، الجحدري وابن

١٢٣

محيصن ، وقد روي عمن ذكرنا ـ على رفارف خضر وعباقري ـ بالصرف ، وكذلك روي عن مالك بن دينار ، وقرأ أبو محمد المروزي وكان نحويا ـ على رفارف خضار ـ بوزن فعال ، وقال صاحب الكامل : قرأ رفارف بالجمع ابن مصرف وابن مقسم وابن محيصن ، واختاره شبل وأبو حيوة والجحدري والزعفراني وهو الاختيار لقوله تعالى : (خُضْرٍ) ، و «عباقريّ» بالجمع وبكسر القاف من غير تنوين ابن مقسم وابن محيصن ، وروي عنهما التنوين.

وقال ابن عطية : قرأ زهير القرقبي (١) رفارف بالجمع وترك الصرف ، وأبو طعمة المدني وعاصم فيما روي عنه رفارف بالصرف وعثمان رضي الله تعالى عنه كذلك ، وعباقري بالجمع والصرف ، وعنه وعباقري بفتح القاف والياء على أن اسم الموضع عباقر بفتح القاف ، والصحيح فيه عبقر ، وقال الزمخشري : قرئ عباقري كمدائني.

وروى أبو حاتم عباقري بفتح القاف ومنع الصرف وهذا لا وجه لصحته ، وقال الزجاج : هذه القراءة لا مخرج لها لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب فلو جمعت عبقري قلت : عباقرة نحو مهلبي ومهالبة ولا تقول مهالبي.

وقال ابن جني : أما ترك صرف عباقري فشاذ في القياس ولا يستنكر شذوذه مع استعماله ، وقال ابن هشام : كونه من النسبة إلى الجمع كمدائني باطل فإن من قرأ بذلك قرأ رفارف خضر بقصد المجانسة ولو كان كما ذكر كان مفردا ولا يصح منع صرفه كمدائني وقد صحت الرواية بمنعه الصرف عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو من باب كرسي وكراسي وهو من صيغة منتهى الجموع لكنها خالفت القياس في زيادة ما بعد الألف على المعروف كما ذكره السهيلي ، وقال صاحب الكشف فتح القاف لا وجه له بوجه والمذكور في المنتقى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الكسر.

وأما منع الصرف فليس بمتعين ليرد بل وجهه أنه نصب على محل رفرف على حد : يذهبن في نجد وغورا.

وإضافته إلى (حِسانٍ) مثل إضافة حور إلى عين في قراءة عكرمة كأنه قيل : عباقري مفارش ، أو نمارق حسان فهو من باب أخلاق ثياب لأن أحد الوصفين قائم مقام الموصوف ، ولعل عبقر وعباقر مثل عرفة وعرفات انتهى ، فأحط بجوانب الكلام ولا تغفل ، وقرأ ابن هرمز خضر بضم الضاد وهي لغة قليلة ومن ذلك قول طرفة :

أيها القينات في مجلسنا

جرّدوا منها ورادا وشقر

وقول الآخر :

وما انتميت إلى خود ولا كشف

ولا لئام غداة الروع أوزاع

فشقر جمع أشقر ، وكشف جمع أكشف وهو من ينهزم في الحرب ، هذا والوصف بقوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ) إلخ دون الوصف بقوله سبحانه : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن : ٥٤] عند القائل بتفضيل الجنتين السابقتين لما في هذا الوصف من الإشارة إلى أن الظهائر مما يعجز عنها الوصف. ومن ذهب إلى تفضيل الأخيرتين يقول : الرفرف ما يطرح على ظهر الفراش وليست الفرش التي يطرح عليها الرفرف مذكورة فيجوز أن يكون ترك ذكرها للإشارة إلى عدم إحاطة الوصف بها ظهارة وبطانة وهو أبلغ من الأول ، ولا يسلم أن تلك الفرش هي العبقري ، أو يقول الرفرف الفرش المرتفعة وترك التعرض لسوى لونها وهو الخضرة التي ميل الطباع إليها أشد وهي جامعة لأصول الألوان الثلاثة على ما بينه الإمام يشير إلى أنها مما لا تكاد تحيط بحقيقتها العبارات ، وقد يقال غير ذلك فتأمل ، وينبغي على القول بتفضيل الأخيرتين وكونهما لطائفة غير الطائفة المشار إليهم بمن خاف أن لا يفسر من

__________________

(١) هكذا بقافين وقد مر بالفاء بعد الراء قاف ، وفي البحر العرقبي بالعين المهملة.

١٢٤

خاف بمن له شدة الخوف بحيث يختص بأفضل المؤمنين وأجلهم. أو يقال : إنهما مع الأوليين لمن خاف مقام ربه ويكون المعنى (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أيضا (جَنَّتانِ) صفتهما كيت وكيت من دون تينك الجنتين ، وعليه قيل : (جَنَّتانِ) عطف على (جَنَّتانِ) قبله (وَمِنْ دُونِهِما) في موضع الحال ، وذهب بعضهم إلى أن هاتين الجنتين سواء كانتا أفضل من الأوليين أم لا لمن خاف مقام ربه عزوجل فله يوم القيامة أربع جنان.

قال الطبرسي : والأخيرتان دون الأوليين أي أقرب إلى قصره ومجالسه ليتضاعف له السرور بالتنقل من جنة إلى جنة على ما هو معروف من طبع البشر من شهوة مثل ذلك وهو أبعد عن الملل الذي طبع عليه البشر ، وأنت تعلم أن الآية تحتمل ذلك احتمالا ظاهرا لكن ما تقدم من حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه يأباه فإذا صح ولو موقوفا ـ إذ حكم مثله حكم المرفوع ـ لم يكن لنا العدول عما يقتضيه ، وقد روي عنه أيضا حديث مرفوع ذكره الجلال السيوطي في الدر المنثور يشعر بأن الجنان الأربع هي جنان الفردوس.

وأخرج عنه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم أنه قال : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «جنان الفردوس أربع جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» والظاهر على هذا أنه يشترك الألوف في الجنة الواحدة من هذه الجنان ، ومعنى قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ) إلخ عليه مما لا يخفى ، ثم إن قاصرات الطرف إن كنّ من الإنس فهنّ أجل قدرا وأحسن منظرا من الحور المقصورات في الخيام بناء على أنهن النساء المخلوقات في الجنة.

فقد جاء من حديث أم سلمة «قلت يا رسول الله : أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال : نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة ، قلت : يا رسول الله وبم ذاك؟ قال : بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الوجوه خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدا ألا ونحن الناعمات فلا نيأس أبدا طوبى لمن كنا له وكان لنا» إلى غيره من الأخبار ويكون هذا مؤيدا للقول بتفضيل الجنتين الأوليين على الأخيرتين ولعله إنما قدم سبحانه ذكر الاتكاء أولا على ذكر النساء لأنه عزوجل ذكر في صدر الآية الخوف حيث قال سبحانه : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فناسب التعجيل بذكر ما يشعر بزواله إشعارا ظاهرا وهو الاتكاء فإنه من شأن الآمنين ، وأخر سبحانه ذكره ثانيا عن ذكرهن لعدم ما يستدعي التقديم وكونه مما يكون للرجل عادة بعد فراغ ذهنه عما يحتاجه المنزل من طعام وشراب وقينة تكون فيه ، وإذا قلنا : إن الحور كالجواري في المنزل كان أمر التقديم والتأخير أوقع ، وقال الإمام في ذلك : إن أهل الجنة ليس عليهم تعب وحركة فهم متنعمون دائما لكن الناس في الدنيا على أقسام منهم من يجتمع مع أهله اجتماع مستوفز وعند قضاء وطره يغتسل وينتشر في الأرض للكسب ، ومنهم من يكون مترددا في طلب الكسب وعند تحصيله يرجع إلى أهله ويستريح عما لحقه من تعب قبل قضاء الوطر أو بعده فالله عزوجل قال في أهل الجنة : (مُتَّكِؤُنَ) قيل اجتماعهم بأهاليهم متكئون بعد الاجتماع ليعلم أنهم دائمون على السكون ، ولا يخفى أن هذا على ما فيه لا يحسم السؤال إذ لقائل أن يقول لم لم يعكس أمر التقديم والتأخير في الموضعين مع أنه يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضا ، ثم ذكر في ذلك وجها ثانيا وهو على ما فيه مبني على ما لا مستند له فيه من الآثار فتدبر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله عزوجل : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) تنزيه وتقديس له تعالى فيه تقرير لما ذكر في هذه السورة الكريمة من آلائه جل شأنه الفائضة على الأيام ، ـ فتبارك ـ بمعنى تعالى لأنه يكون بمعناه وهو أنسب بالوصف الآتي ، وقد ورد في

١٢٥

الأحاديث «تعالى اسمه» أي تعالى اسمه الجليل الذي من جملته ما صدرت به السورة من اسم (الرَّحْمنُ) المنبئ عن إفاضة الآلاء المفصلة ، وارتفع مما لا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها جحود نعمائه وتكذيبها ، وإذا كان حال اسمه تعالى بملابسة دلالته عليه سبحانه كذلك فما ظنك بذاته الأقدس الأعلى؟؟.

وقيل : الاسم بمعنى الصفة لأنها علامة على موصوفها ، وقيل : هو مقحم كما في قول من قال : ثم اسم السلام عليكما ، وقيل : هو بمعنى المسمى ، وزعم بعضهم أن الأنسب بما قصد من هذه السورة الكريمة هو تعدد الآلاء والنعم تفسير (تَبارَكَ) بكثرة خيراته ثم إنه لا بعد في إسناده بهذا المعنى لاسمه تعالى إذ به يستمطر فيغاث ويستنصر فيعان ، وقوله سبحانه : (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) صفة للرب ووصف جل وعلا بذلك تكميلا لما ذكر من التنزيه والتقرير ، وقرأ ابن عامر وأهل الشام ـ ذو ـ بالرفع على أنه وصف للاسم ووصفه بالجلال والإكرام بمعنى التكريم واضح.

هذا «ومن باب الإشارة» في بعض الآيات (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) إشارة إلى ما أودعه سبحانه في الأرواح الطيبة القدسية من العلوم الحقانية الإجمالية عند استوائه عزوجل على عرش الرحمانية (خَلَقَ الْإِنْسانَ) الكامل الجامع (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) وهو تفصيل تلك العلوم الإجمالية (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة : ١٨ ، ١٩] (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) يشير إلى شمس النبوة وقمر الولاية الدائرتين في فلك وجود الإنسان بحساب التجليات ومراتب الاستعدادات ، و (النَّجْمُ) القوى السفلية (وَالشَّجَرُ) الاستعدادات العلوية (يَسْجُدانِ) يتذللان بين يديه تعالى عند الرجوع إليه سبحانه (وَالسَّماءَ) سماء القوى الإلهية القدسية (رَفَعَها) فوق أرض البشرية (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) القوة المميزة (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) لا تتجاوزوا عند أخذ الحظوظ السفلية وإعطاء الحقوق العلوية.

وجوز أن يكون (الْمِيزانِ) الشريعة المطهرة فإنها ميزان يعرف به الكامل من الناقص (وَالْأَرْضَ) أرض البشرية (وَضَعَها) بسطها وفرشها (لِلْأَنامِ) للقوى الإنسانية (فِيها فاكِهَةٌ) من فواكه معرفة الصفات الفعلية (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) وهي الشجرة الإنسانية التي هي المظهر الأعظم وذات أطوار كل طور مستور بطور آخر (وَالْحَبُ) هو حب الحب المبذور في مزارع القلوب السليمة من الدغل (ذُو الْعَصْفِ) أوراق المكاشفات (وَالرَّيْحانُ) ريحان المشاهدة (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) رب مشرق شمس النبوة ومشرق قمر الولاية في العالم الجسماني ورب مغربهما في العالم الروحاني (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) بحر سماء القوى العلوية وبحر أرض القوى السفلية (يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) حاجز القلب (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) أنواع أنوار الأسرار ونيران الأشواق (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ) سفن الخواطر المسخرة في بحر الإنسان (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) ما شم رائحة الوجود (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) الجهة التي تليه سبحانه وهي شئوناته عزوجل (ذُو الْجَلالِ) أي الاستغناء التام عن جميع المظاهر (وَالْإِكْرامِ) الفيض العام يفيض على القوابل حسبما استعدت له وسألته بلسان حالها ، وإليه الاشارة بقوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلخ ، واستدل الشيخ الأكبر محيي الدين قدس‌سره بقوله سبحانه : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) على شرف التلون ، وكذا استدل به على عدم بقاء الجوهر آنين ، وعلى هذا الطراز ما قيل في الآيات بعد ، وذكر بعض أهل العلم أن قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قد ذكر إحدى وثلاثين مرة ، ثمانية منها عقيب تعداد عجائب خلقه تعالى وذكر المبدأ والمعاد ، وسبعة عقيب ذكر ما يشعر بالنار وأهوالها على عدد أبواب جهنم ، وثمانية في وصف الجنتين الأوليين ومثلها في وصف الجنتين اللتين دونهما على عدد أبواب الجنة

١٢٦

فكأنه أشير بذلك إلى أن من اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الجنتين من الله تعالى ووقاه جهنم ذات الأبواب السبعة ؛ والله تعالى أعلم بإشارات كتابه وحقائق خطابه ودقائق كلامه التي لا تحيط بها الأفهام وتبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام.

١٢٧

سورة الواقعة

«مكية» كما أخرجه البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس وابن مردويه عن ابن الزبير ، واستثنى بعضهم قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة : ٣٩ ، ٤٠] كما حكاه في الإتقان وكذا استثني قوله سبحانه : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) إلى (تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٧٥ ، ٨٢] لما أخرجه مسلم في سبب نزوله وسيأتي إن شاء الله تعالى ، وفي مجمع البيان حكاية استثناء قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢] عن ابن عباس وقتادة وعدد آيها تسع وتسعون في الحجازي والشامي ، وسبع وتسعون في البصري ، وست وتسعون في الكوفي ، وتفصيل ذلك فيما أعد لمثله ، وهي وسورة الرحمن متواخية في أن في كل منهما وصف القيامة والجنة والنار ، وقال في البحر : مناسبتها لما قبلها أنه تضمن العذاب للمجرمين والنعيم للمؤمنين ، وفاضل سبحانه بين جنتي بعض المؤمنين وجنتي بعض آخر منهم فانقسم المكلفون بذلك إلى كافر ومؤمن فاضل ومؤمن مفضول ؛ وعلى هذا جاء ابتداء هذه السورة من كونهم أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وسابقين ، وقال بعض الأجلة انظر إلى اتصال قوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الواقعة : ١٠] بقوله سبحانه : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) [الرحمن : ٣٧] وأنه اقتصر في الرحمن على ذكر انشقاق السماء ، وفي الواقعة على ذكر رج الأرض فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة فذكر في كل شيء ، وقد عكس الترتيب فذكر في أول هذه ما في آخر تلك وفي آخر هذه ما في أول تلك فافتتح في سورة الرحمن بذكر القرآن ، ثم ذكر الشمس والقمر ، ثم ذكر النبات ، ثم خلق الإنسان والجان ، ثم صفة يوم القيامة ، ثم صفة النار ، ثم صفة الجنة ، وهذه ابتداؤها بذكر القيامة ، ثم صفة الجنة ، ثم صفة النار ؛ ثم خلق الإنسان ، ثم النبات ، ثم الماء ، ثم النار ، ثم ذكرت النجوم ولم تذكر في الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس والقمر ، ثم ذكر الميزان فكانت هذه كالمقابلة لتلك وكالمتضمنة لرد العجز على الصدر ، وجاء في فضلها آثار.

أخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس والحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : «سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا». وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس نحوه مرفوعا ، وأخرج ابن مردويه عن أنس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «سورة الواقعة سورة الغنى فاقرءوها وعلموها أولادكم».

وأخرج الديلمي عنه مرفوعا «علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى».

١٢٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) (٣٨)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي إذا حدثت القيامة على أن (وَقَعَتِ) بمعنى حدثت و (الْواقِعَةُ) علم بالغلبة أو منقول للقيامة ، وصرح ابن عباس بأنها من أسمائها وسميت بذلك للإيذان بتحقيق وقوعها لا محالة كأنها واقعة في نفسها مع قطع النظر عن الوقوع الواقع في حيز الشرط فليس الإسناد كما في ـ جاءني جاء ـ فإنه لغو لدلالة كل فعل على فاعل له غير معين ، وقال الضحاك : (الْواقِعَةُ) الصيحة وهي النفخة في الصور ، وقيل : (الْواقِعَةُ) صخرة بيت المقدس تقع يوم القيامة وليس بشيء ، و (إِذا) ظرف متضمن معنى الشرط على ما هو الظاهر ، والعامل فيها عند أبي حيان الفعل بعدها فهي عنده في موضع نصب ـ بوقعت ـ كسائر أسماء الشرط وليست مضافة إلى الجملة ، والجمهور على إضافتها فقيل : هي هنا قد سلبت الظرفية ووقعت مفعولا به لا ذكر محذوفا ، وقيل : لم تسلب ذلك وهي منصوبة بليس ، وصنيع الزمخشري يشعر باختياره.

وقيل : بمحذوف وهو الجواب أي (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) كان كيت وكيت ، قال في الكشف : هذا الوجه العربي الجزل فالنصب بإضمار اذكر إنما كثر في إذ ، وبليس إنما يصح إذا جعلت لمجرد الظرفية وإلا لوجب الفاء في ليس ، وأبو حيان تعقب النصب بليس بأنه لا يذهب إليه نحوي لأن ليس في النفي ك (ما) وهي لا تعمل. فكذا ليس فإنها مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان ، والقول : بأنها فعل على سبيل المجاز ، والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث فحيث لا حدث فيها لا عمل لها فيه ، ثم ذكر نحو ما ذكر صاحب الكشف من وجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد عن الشرطية ؛ واعترض دعواه أن (ما) لا تعمل بأنهم صرحوا بجواز تعلق الظرف بها لتأويلها بانتفى وأنه يكفي له رائحة الفعل ، ويقاس عليها في ذلك ليس ، وكذا دعوى وجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد (إِذا) عن الشرطية بأن لزوم الفاء مع الأفعال الجامدة إنما هو في جواب إن الشرطية لعملها كما صرحوا به. وأما (إِذا) فدخول الفاء في جوابها على خلاف الأصل. وسيأتي إن شاء الله تعالى فيها قولان آخران ، وبعد القيل والقال الأولى كون

١٢٩

العامل محذوفا وهو الجواب كما سمعت وفي إبهامه تهويل وتفخيم لأمر الواقعة.

وقوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) إما اعتراض يؤكد تحقيق الوقوع أو حال من الواقعة كما قال ابن عطية ، و (كاذِبَةٌ) اسم فاعل وقع صفة لموصوف محذوف أي نفس ، وقيل : مقالة والأول أولى لأن وصف الشخص بالكذب أكثر من وصف الخبر به. و (الْواقِعَةُ) السقطة القوية وشاعت في وقوع الأمر العظيم وقد تخص بالحرب ولذا عبر بها هنا واللام للتوقيت مثلها في قولك : كتبته لخمس خلون أي لا يكون حين وقوعها نفس كاذبة على معنى تكذب على الله تعالى وتكذب في تكذيبه سبحانه وتعالى في خبره بها ، وإيضاحه أن منكر الساعة الآن مكذب له تعالى في أنها تقع وهو كاذب في تكذيبه سبحانه لأنه خبر على خلاف الواقع وحين تقع لا يبقى كاذبا مكذبا ، بل صادقا مصدقا ، وقيل : على معنى ليس في وقت وقوعها نفس كاذبة في شيء من الأشياء ، ولا يخفى أن صحته مبنية على القول بأنه لا يصدر من أحد كذب يوم القيامة ؛ وأن قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] مجاب عنه بما هو مذكور في محله أو اللام على حقيقتها ، و (كاذِبَةٌ) صفة لذلك المحذوف أيضا أي (لَيْسَ لِوَقْعَتِها) نفس كاذبة بمعنى لا ينكر وقوعها أحد ولا يقول للساعة لم تكوني لأن الكون قد تحقق كما يقول لها في الدنيا بلسان القول أو الفعل لأن من اغتر بزخارف الدنيا فقد كذب الساعة في وقعتها بلسان الحال لن تكوني ، وهذا كما تقول لمخاطبك ليس لنا ملك ولمعروفك كاذب أي لا يكذبك أحد فيقول : إنه غير واقع ، وفيه استعارة تمثيلية لأن الساعة لا تصلح مخاطبا إلا على ذلك إما على سبيل التخييل من باب لو قيل للشحم أين تذهب ، وهو الأظهر وإما على التحقيق ، وجوز كون (كاذِبَةٌ) من قولهم كذبت نفسي وكذبته إذا منته الأماني وقربت له الأمور البعيدة وشجعته على مباشرة الخطب العظيم ، واللام قيل : على حقيقتها أيضا أي ليس لها إذا وقعت نفس تحدث صاحبها بإطاقة شدتها واحتمالها وتغريه عليها.

وفي الكشف أن اللام على هذا الوجه للتوقيت كما على الوجه الأول ، وجوز أيضا كون (كاذِبَةٌ) مصدرا بمعنى التكذيب وهو التثبيط وأمر اللام ظاهر أي ليس لوقعتها ارتداد ورجعة كالحملة الصادقة من ذي سطوة قاهرة ؛ وروي نحوه عن الحسن وقتادة ، وذكر أن حقيقة التكذيب بهذا المعنى راجعة إلى تكذيب النفس في كذبها وإغرائها وتشجيعها وأنشد على ذلك لزهير :

ليث بعثّر يصطاد الرجال إذا

ما الليث كذب عن أقرانه صدقا

ويجوز جعل الكاذبة بمعنى الكذب على معنى ليس للوقعة كذب بل هي وقعة صادقة لا تطاق على نحو ـ حملة صادقة ، وحملة لها صادق ـ أو على معنى ليس هي في وقت وقوعها كذب لأنه حق لا شبهة فيه ، ولعل ما ذكر أظهر مما تقدم ، وإن روي نحوه عمن سمعت ، نعم قيل : عليهما إن مجيء المصدر على زنة الفاعل نادر ، وقوله عزوجل : (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هي خافضة لأقوام رافعة لآخرين كما قال ابن عباس ، وأخرجه عنه جماعة ، والجملة تقرير لعظمتها وتهويل لأمرها فإن الوقائع العظام شأنها الخفض والرفع كما يشاهد في تبدل الدول وظهور الفتن من ذل الأعزة وعز الأذلة ، وتقديم الخفض على الرفع لتشديد التهويل ، أو بيان لما يكون يومئذ من حط الأشقياء إلى الدركات ورفع السعداء إلى درجات الجنات ، وعلى هذا قول عمر رضي الله تعالى عنه : خفضت أعداء الله تعالى إلى النار ورفعت أولياءه إلى الجنة ، أو بيان لما يكون من ذلك ومن إزالة الأجرام عن مقارها ونثر الكواكب وتسيير الجبال في الجو كالسحاب ، والضحاك بعد

١٣٠

أن فسر الواقعة بالصيحة قال : خافضة تخفض قوتها لتسمع الأدنى (رافِعَةٌ) ترفعها لتسمع الأقصى ، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس وعكرمة ، وقدر أبو علي المبتدأ مقرونا بالفاء أي فهي (خافِضَةٌ) وجعل الجملة جواب إذا فكأنه قيل : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) خفضت قوما ورفعت آخرين ، وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني واليزيدي في اختياره «خافضة رافعة» بنصبهما ، ووجهه أن يجعلا حالين عن الواقعة على أن (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) اعتراض أو حالين عن وقعتها ، وقوله سبحانه : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي زلزلت وحركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل متعلق ـ بخافضة ـ أو ـ برافعة ـ على أنه من باب الأعمال ، أو بدل من (إِذا وَقَعَتِ) كما قال به غير واحد ، وقال ابن جني وأبو الفضل الرازي : (إِذا رُجَّتِ) في موضع رفع على أنه خبر للمبتدإ الذي هو (إِذا وَقَعَتِ) وليست واحدة منهما شرطية بل هي بمعنى وقت أي وقت وقوعها وقت رج الأرض ، وادعى ابن مالك أن (إِذا) تكون مبتدأ ، واستدل بهذه الآية ، وقال أبو حيان : هو بدل من (إِذا وَقَعَتِ) وجواب الشرط عندي ملفوظ به وهو قوله تعالى : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) والمعنى إذا كان كذا وكذا ، فأصحاب الميمنة ما أسعدهم وما أعظم ما يجازون به أي إن سعادتهم وعظم رتبهم عند الله عزوجل تظهر في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم ، وفيه بعد (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي فتت كما قال ابن عباس ومجاهد حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لتّه ، وقيل : سيقت وسيرت من أماكنها من بس الغنم إذا ساقها فهو كقوله تعالى : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) [النبأ : ٢٠].

وقرأ زيد بن علي «رجّت» و «بسّت» بالبناء للفاعل أي ارتجت وتفتتت ، وفي كلام هند بنت الخس تصف ناقة بما يستدل به على حملها : ـ عينها هاج وصلاها راج ، وهي تمشي وتفاج ـ (فَكانَتْ) فصارت بسبب ذلك (هَباءً) غبارا (مُنْبَثًّا) متفرقا ، والمراد مطلق الغبار عند الأكثرين ، وقال ابن عباس : هو ما يثور مع شعاع الشمس إذا دخلت من كوة ، وفي رواية أخرى عنه أنه الذي يطير من النار إذا اضطرمت.

وقرأ النخعي ـ منبتا ـ بالتاء المنطوقة بنقطتين من فوق من البت بمعنى القطع ، والمراد به ما ذكر من الليث بالمثلثة (وَكُنْتُمْ) خطاب للأمة الحاضرة والأمم السالفة تغليبا كما ذهب إليه الكثير ، وقال بعضهم : خطاب للأمة الحاضرة فقط ، والظاهر أن ـ كان ـ أيضا بمعنى صار أي وصرتم (أَزْواجاً) أي أصنافا (ثَلاثَةً) وكل صنف يكون مع صنف آخر في الوجود أو في الذكر فهو زوج ، قال الراغب : الزوج يكون لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة ولكل قرينين فيها ، وفي غيرها كالخف والنعل ، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا ، وقوله تعالى : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) تفصيل للأزواج الثلاثة مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها ، والدائر على ألسنتهم أن أصحاب الميمنة مبتدأ ، وقوله تعالى : (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما) فيه استفهامية مبتدأ ثان و (أَصْحابُ) خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول والرابط الظاهر القائم مقام الضمير ، وكذا يقال في قوله تعالى : (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) إلخ ، والأصل في الموضعين ما هم؟ أي أيّ شيء هم في حالهم وصفتهم فإن (ما) وإن شاعت في طلب مفهوم الاسم والحقيقة لكنها قد تطلب بها الصفة والحال كما تقول ما زيد؟ فيقال : عالم ، أو طبيب فوضع الظاهر موضع الضمير لكونه أدخل في المقصود وهو التفخيم في الأول والتفظيع في الثاني ، والمراد تعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) في غاية حسن الحال (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) في نهاية سوء الحال ، وقيل : جملة (ما أَصْحابُ) خبر

١٣١

بتقدير القول على ما عرف في الجملة الانشائية إذا وقعت خبرا أي مقول في حقهم (ما أَصْحابُ) إلخ فلا حاجة إلى جعله من إقامة الظاهر مقام الضمير وفيه نظر ، و (الْمَيْمَنَةِ) ناحية اليمين ، أو اليمن والبركة ، و (الْمَشْئَمَةِ) ناحية الشمال من اليد الشؤمى وهي الشمال ، أو هي من الشؤم مقابل اليمن ، ورجح إرادة الناحية فيهما بأنها أوفق بما يأتي في التفصيل ، واختلفوا في الفريقين فقيل : أصحاب الميمنة أصحاب المنزلة السنية ، وأصحاب المشأمة أصحاب المنزلة الدنية أخذا من تيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل كما تسمع في السانح والبارح ، وهو مجاز شائع ، وجوز أن يكون كناية ، وقيل : الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم ، وقيل : الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة والذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، وقيل : أصحاب اليمن وأصحاب الشؤم ، فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم على أنفسهم بمعاصيهم ، وروي هذا عن الحسن والربيع ، وقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة ، ولعل تأخير ذكرهم مع كونهم أسبق الأصناف وأقدمهم في الفضل ليردف ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم على أن إيرادهم بعنوان السبق مطلقا معرض عن إحرازهم قصب السبق من جميع الوجوه.

واختلف في تعيينهم فقيل : هم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان ، وروي هذا عن عكرمة ومقاتل ، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار الذي ذكر في يس وعليّ بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه وكل رجل منهم سابق أمته وعليّ أفضلهم ، وقيل : هم الذين سبقوا في حيازة الكمالات من العلوم اليقينية ومراتب التقوى الواقعة بعد الإيمان ، وقيل هم الأنبياء عليهم‌السلام لأنهم مقدمو أهل الأديان ، وقال ابن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين كما قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) [التوبة : ١٠٠] وعن ابن عباس هم السابقون إلى الهجرة ، وعن عليّ كرم الله تعالى وجهه هم السابقون إلى الصلوات الخمس ، وأخرج أبو نعيم والديلمي عن ابن عباس مرفوعا أول من يهجر إلى المسجد وآخر من يخرج منه.

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عبادة بن أبي سودة مولى عبادة بن الصامت قال : بلغنا أنهم السابقون إلى المساجد والخروج في سبيل الله عزوجل ، وعن الضحاك هم السابقون إلى الجهاد ، وعن ابن جبير هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر ، وقال كعب : هم أهل القرآن ، وفي البحر في الحديث «سئل عن السابقين فقال : هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سألوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» ، وقيل : الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم دام عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق ، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبته فهذا صاحب اليمين ، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال ، وعن ابن كيسان أنهم المسارعون إلى كل ما دعا الله تعالى إليه ورجحه بعضهم بالعموم ، وجعل ما ذكر في أكثر الأقوال من باب التمثيل ، وأيا ما كان فالشائع أن الجملة مبتدأ وخبر والمعنى (وَالسَّابِقُونَ) هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت فخامتهم كقوله :

أنا أبو النجم وشعري شعري

وفيه من تفخيم شأنهم والإيذان بشيوع فضلهم ما لا يخفى ، وقيل متعلق السبق مخالف لمتعلق السبق الثاني أي السابقون إلى طاعة الله تعالى «السابقون» إلى رحمته سبحانه ، أو (السَّابِقُونَ) إلى الخير (السَّابِقُونَ) إلى الجنة ، والتقدير الأول محكي عن صاحب المرشد.

١٣٢

وأنت تعلم أن الحمل مفيد بدون ذلك كما سمعت بل هو أبلغ وأنسب بالمقام وأيا ما كان فقوله تعالى : (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) مبتدأ وخبر والجملة استئناف بياني ، وقيل : (السَّابِقُونَ) السابق مبتدأ (وَالسَّابِقُونَ) اللاحق تأكيد له وما بعد خبر وليس بذاك أيضا لفوات مقابلة ما ذكر لقوله تعالى : (فَأَصْحابُ) إلخ ولأن القسمة لا تكون مستوفاة حينئذ ، ولفوات المبالغة المفهومة من نحو هذا التركيب على ما سمعت مع أنهم أعني السابقين أحق بالمدح والتعجيب من حالهم من السابقين ولفوات ما في الاستئناف بأولئك المقربون من الفخامة وإنما لم يقل ـ السابقون ما السابقون ـ على منوال الأولين لأنه جعل أمرا مفروغا مسلما مستقلا في المدح والتعجيب ، والاشارة بأولئك إلى السابقين وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل ، و (الْمُقَرَّبُونَ) من القربة بمعنى الحظوة أي أولئك الموصوفون بذلك النعت الجليل الذين أنيلوا حظوة ومكانة عند الله تعالى ، وقال غير واحد : المراد الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم.

هذا وفي الإرشاد الذي تقتضيه جزالة التنزيل أن قوله تعالى : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) خبر مبتدأ محذوف وكذا قوله سبحانه : (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) وقوله جل شأنه : (وَالسَّابِقُونَ) فإن المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام.

وأما أوصافها وأحوالها فحقها أن تبين بعد ذلك بإسنادها إليها ، والتقدير فأحدها أصحاب الميمنة والآخر أصحاب المشأمة ، والثالث السابقون خلا أنه لما أخر بيان أحوال القسمين الأولين عقب كلا منهما بجملة معترضة بين القسمين منبئة عن ترامي أحوالهما في الخير والشر إنباء إجماليا مشعرا بأن لأحوال كل منهما تفصيلا مترقبا لكن لا على أن (ما) الاستفهامية مبتدأ وما بعدها خبر على ما رآه سيبويه في أمثاله بل على أنها خبر لما بعدها فإن مناط الإفادة بيان أن أصحاب الميمنة أمر بديع كما يفيده كون (ما) خبرا لا بيان أن أمرا بديعا أصحاب الميمنة كما يفيده كونها مبتدأ وكذا الحال في (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) ، وأما القسم الأخير فحيث قرن به بيان محاسن أحواله لم يحتج فيه إلى تقديم الأنموذج فقوله تعالى : (السَّابِقُونَ) مبتدأ والإظهار في مقام الإضمار للتفخيم و (أُولئِكَ) مبتدأ ثان ، أو بدل من الاول وما بعده خبر له ، أو للثاني ، والجملة خبر للأول انتهى ، وقيل عليه : إنه ليس في جعل جملتي الاستفهام وقوله سبحانه : (السَّابِقُونَ) إخبارا لما قبلها بيان لأوصاف الأقسام وأحوالها تفصيلا حتى يقال : حقها أن تبين بعد أنفس الأقسام بل فيه بيان الأقسام مع إشارة إلى ترامي أحوالها في الخير والشر والتعجيب من ذلك.

وأيضا مقتضى ما ذكره أن لا يذكر (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) و (ما أَصْحابُ الشِّمالِ) في التفصيل ، وتعقب هذا بأن الذكر محتاج إلى بيان نكتة على الوجه الدائر على ألسنتهم كاحتياجه إليه على هذا الوجه ، ولعلها عليه أنه لما عقب الأولين بما يشعر بأن لأحوال كل تفاصيل مترقبة أعيد ذلك للإعلام بأن الأحوال العجيبة هي هذه فلتسمع ، والذي يتبادر للنظر الجليل ما في الإرشاد من كون أصحاب الميمنة وكذا كل من الأخيرين خبر مبتدأ محذوف كما سمعت لأن المتبادر بعد بيان الانقسام ذكر نفس الأقسام على أن تكون هي المقصودة أولا وبالذات دون الحكم عليها وبيان أحوالها مطلقا وإن تضمن ذلك ذكرها لكن ما ذكروه أبعد مغزى ومع هذا لا يتعين على ما ذكر كون تينك الجملتين الاستفهاميتين معترضتين بل يجوز أن يكون كل منهما صفة لما قبلها بتقدير القول كأنه قيل : فأحدها أصحاب الميمنة المقول فيهم (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) وكذا يقال في (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) إلخ ، ويجعل أيضا (السَّابِقُونَ) صفة ـ للسابقون ـ قبله ، والتأويل في الوصفية كالتأويل

١٣٣

في الخبرية ويكون الوصف بذلك قائما مقام تينك الجملتين في المدح ، والجملة بعد مستأنفة استئنافا بيانيا كما في الوجه الشائع ، وما يقال : إن في هذا الوجه حذف الموصول مع بعض أجزاء الصلة يجاب عنه بمنع كون ـ أل ـ في الوصف حيث لم يرد منه الحدوث موصولة فتأمل ولا تغفل ، وقوله تعالى : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) متعلق بالمقربون ، أو بمضمر هو حال من ضميره أي كائنين في جنات النعيم ، وعلى الوجهين فيه إشارة إلى أن قربهم محض لذة وراحة لا كقرب خواص الملك القائمين بأشغاله عنده بل كقرب جلسائه وندمائه الذين لا شغل لهم ولا يرد عليهم أمر أو نهي ولذا قيل : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) دون جنات الخلود ونحوه ، وقيل : خبر ثان لاسم الإشارة وتعقب بأن الإخبار بكونهم فيها بعد الإخبار بكونهم مقربين ليس فيه مزيد مزية ، وأجيب بأن الإخبار الأول للإشارة إلى اللذة الروحانية والإخبار الثاني للإشارة إلى اللذة الجسمانية.

وقرأ طلحة في جنة النعيم بالإفراد ، وقوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) خبر مبتدأ مقدر أي هم ثلة إلخ ، وجوز كونه مبتدأ خبره محذوف أي منهم ، أو خبرا أولا أو ثانيا ـ لأولئك ـ وجوز أبو البقاء كونه مبتدأ والخبر (عَلى سُرُرٍ) ، والثلة في المشهور الجماعة كثرت أو قلّت ، وقال الزمخشري : الأمة من الناس الكثيرة وأنشد قوله :

وجاءت إليهم ثلة خندفية

بجيش كتيار من السيل مزبد

وقوله تعالى بعد : (وَقَلِيلٌ) إلخ كفى به دليلا على الكثرة انتهى ، والظاهر أنه أنشد البيت شاهدا لمعنى الكثرة في الثلة فإن كانت الباء تجريدية وهو الظاهر فنص وإلا فالاستدلال عليها من أن المقام مقام مبالغة ومدح ، وأما استدلاله بما بعد فذلك لأن التقابل مطلوب لأن الثلة لم توضع للقليل بالإجماع حتى يحمل ما بعد على التقنن بل هي إما للكثرة والاشتقاق عليها أدل لأن الثل بمعنى الصب وبمعنى الهدم بالكلية ، والثلة بالكسر الضأن الكثيرة وإما لمطلق الجماعة كالفرقة والقطعة من الثل بمعنى الكسر كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم إلا أن لاستعمال غلب على الكثير فيها فالمعنى جماعة كثيرة من الأولين وهم الناس المتقدمون من لدن آدم إلى نبينا عليهما الصلاة والسلام وعلى من بينهما من الأنبياء العظام (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وهم الناس من لدن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قيام الساعة ولا يخالفه قوله عليه الصلاة والسلام : «إن أمتي يكثرون سائر الأمم» أي يغلبونهم في الكثرة لأن أكثرية سابقي المتقدمين من سابقي هذه الأمة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك.

وحاصل ذلك غلبة مجموع هذه الأمة كثرة على من سواها كقرية فيها عشرة من العلماء ومائة من العوام وأخرى فيها خمسة من العلماء وألف من العوام فخواص الأولى أكثر من خواص الثانية وعوام الثانية ومجموع أهلها أضعاف أولئك ، لا يقال يأبى أكثرية تابعي هؤلاء قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة : ٣٩ ، ٤٠] فإنه في حق أصحاب اليمين وهم التابعون ، وقد عبر في كل بالثلة أي الجماعة الكثيرة لأنا نقول

لا دلالة في الآية على أكثر من وصف كل من الفريقين بالكثرة وذلك لا ينافي أكثرية أحدهما فتحصل أن سابقي الأمم السوالف أكثر من سابقي أمتنا. وتابعي أمتنا أكثر من تابعي الأمم ، والمراد بالأمم ما يدخل فيه الأنبياء وحينئذ لا يبعد أن يقال : إن كثرة سابقي الأولين ليس إلا بأنبيائهم فما على سابقي هذه الأمة بأس إذ أكثرهم سابقو الأمم بضم لأنبياء عليهم‌السلام ، وأخرج الإمام أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : «لما نزلت (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة ـ أو شطر أهل الجنة ـ وتقاسمونهم النصف الثاني» وظاهره أنه شق عليهم قلة من وصف بها وأن الآية الثانية أزالت ذلك ورفعته وأبدلته

١٣٤

بالكثرة ، ويدل على ذلك ما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) حزن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا إذا لا يكون من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا قليل فنزلت نصف النهار (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فنسخت (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وأبى ذلك الزمخشري فقال : إن الرواية غير صحيحة لأمرين : أحدهما أن الآية الأولى واردة في السابقين ، الثانية في أصحاب اليمين ، والثاني أن النسخ في الأخبار غير جائز فإذا أخبر تعالى عنهم بالقلة لم يجز أن يخبر عنهم بالكثرة من ذلك الوجه وما ذكر من عدم جواز النسخ في الأخبار أي في مدلولها مطلقا هو المختار.

وقيل : يجوز النسخ في المتغير إن كان عن مستقبل لجواز المحو لله تعالى فيما يقدره والإخبار يتبعه ، وعلى هذا البيضاوي ، وقيل : يجوز عن الماضي أيضا وعليه الإمام الرازي والآمدي ، وأما نسخ مدلول الخبر إذا كان مما لا يتغير كوجود الصانع وحدوث العالم فلا يجوز اتفاقا فإن كان ما نحن فيه مما يتغير فنسخه جائز عند البيضاوي ويوافقه ظهر خبر أبي هريرة الثاني ، ولا يجوز على المختار الذي عليه الشافعي وغيره فقول صاحب الكشف : لا خلاف في عدم جواز النسخ في مثل ما ذكر من الخبر إذ لا يتضمن حكما شرعيا لا يخلو عن شيء.

وأقول : قد يتعقب ما ذكره الزمخشري بأن الحديث قد صح وورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين لا يرد مقتضاه فإنه يجوز أن يقال : إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما سمعوا الآية الاولى حسبوا أن الأمر في هذه الأمة يذهب على هذا النهج فيكون أصحاب اليمين ثلة من الأولين وقليلا منهم فيكثرهم الفائزون بالجنة من الأمم السوالف فحزنوا لذلك فنزل قوله تعالى في أصحاب اليمين : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال مما أذهب به حزنهم وليس في هذا نسخ للخبر كما لا يخفى.

وقول أبي هريرة فنسخت (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) إن صح عنه ينبغي تأويله بأن يقال أراد به فأزالت حسبان أن يذكر نحوه في الفائزين بالجنة من هذه الأمة غير السابقين فتدبر ، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها : الفرقتان أي في قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) في أمة كل نبي في صدرها ثلة وفي آخرها قليل ، وقيل : هما من الأنبياء عليهم‌السلام كانوا في صدر الدنيا كثيرين وفي آخرها قليلين.

وقال أبو حيان : جاء في الحديث ـ الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة ثلة وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل ـ انتهى ، وجاء في فرقتي أصحاب اليمين نحو ذلك ، أخرج مسدد في مسنده وابن المنذر والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله سبحانه : (لَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) قال : هما جميعا من هذه الأمة ، وأخرج جماعة بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا ما لفظه هما جميعا من أمتي ؛ وعلى هذا يكون الخطاب في قوله عزوجل : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) لهذه الأمة فقط (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) حال من المقربين أو من ضميرهم في قوله تعالى : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) بناء على أنه في موضع الحال كما تقدم ، وقيل : هو خبر آخر للضمير المحذوف المخبر عنه أولا ـ بثلة ـ وفيه وجه آخر أشرنا إليه فيما مر ، و (مَوْضُونَةٍ) من الوضن وهو نسج الدرع قال الأعشى :

ومن نسج داود موضونة

تسير مع الحي عيرا فعيرا

واستعير لمطلق النسج أو لنسج محكم مخصوص ، ومن ذلك وضين الناقة وهو حزامها لأنه موضون أي مفتول ؛ والمراد هنا على ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس مرمولة أي منسوجة بالذهب ، وفي رواية عنه بقضبان الفضة ، وقال عكرمة : مشبكة بالدر والياقوت ، وقيل : (مَوْضُونَةٍ) متصل بعضها ببعض كحلق الدرع ، والمراد متقاربة ، وقرأ

١٣٥

زيد بن علي وأبو السمال «سرر» بفتح الراء وهي لغة لبعض تميم ، وكلب يفتحون عين فعل جمع فعيل المضعف نحو سرير (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) حال من الضمير المستقر في الجار والمجرور أعني على سرر ، وقوله تعالى : (مُتَقابِلِينَ) حال منه أيضا ولك أن تعتبر الحالين متداخلين.

والمراد كما قال مجاهد : لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه وهو وصف لهم بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق ورعاية الآداب وصفاء البواطن ، وقوله تعالى : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) حال أخرى أو استئناف أي يدور حولهم للخدمة (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي مبقون أبدا على شكل الولدان وحد الوصافة لا يتحولون عن ذلك ، وإلا فكل أهل الجنة مخلد لا يموت ، وقال الفراء وابن جبير : مقرطون بخلدة وهي ضرب من الأقراط قيل : هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها ، وروى هذا أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه ، وعن الحسن البصري – واشتهر أنه عليه الصلاة والسلام ـ قال : أولاد الكفار خدم أهل الجنة ـ وذكر الطيبي أنه لم يصح بل صح ما يدفعه : أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت : توفي صبي فقلت : طوبى له عصفور في الجنة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : أو لا تدرين أن الله تعالى خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلا ولهذه أهلا ، وفي رواية خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم.

وأخرج أبو داود عنها أنها قالت : قلت : يا رسول الله ذراري المؤمنين فقال من آبائهم فقلت : يا رسول الله بلا عمل قال : الله أعلم بما كانوا عاملين قلت : يا رسول الله فذراري المشركين قال : من آبائهم فقلت : بلا عمل قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ، وقيل : إنهم يمتحنون يوم القيامة فتخرج لهم نار ويؤمرون بالدخول فيها فمن دخلها وجدها بردا وسلاما وأدخل الجنة ، ومن أبى أدخل النار مع سائر الكفار ويروون في ذلك أثرا.

ومن الغريب ما قيل : إنهم بعد الإعادة يكونون ترابا كالبهائم ، وفي الكشف الأحاديث متعارضة في المسألة وكذلك المذاهب ، والمسألة ظنية والعلم عند الله تعالى وهو عزوجل أعلم انتهى ؛ والأكثر على دخولهم الجنة بفضل الله تعالى ومزيد رحمته تبارك وتعالى ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك (بِأَكْوابٍ) بآنية لا عرا لها ولا خراطيم ، والظاهر أنها الأقداح وبذلك فسرها عكرمة وهي جمع كوب (وَأَبارِيقَ) جمع إبريق وهو إناء له خرطوم قيل : وعروة ، وفي البحر أنه من أواني الخمر ، وأنشد قول عدي بن زيد :

ودعوا بالصبوح يوما فجاءت

قينة في يمينها إبريق

وفيه أيضا أنه إفعيل من البريق ، وذكر غير واحد أنه معرب ـ آب ريزاى ـ صاب الماء وهو أنسب مما في بعض نسخ القاموس أنه معرب ـ آب ري ـ بلا زاي ، وأيا ما كان فهو ليس مأخوذا من البريق ، نعم الإبريق بمعنى المرأة الحسنة والبراقة والسيف البراق والقوس فيها تلاميع مأخوذ من ذلك ، ولعله يقول بأنه عربي لا معرب ، وأن البريق مما فيه من الخمر والشعراء يصفونها بذلك كقوله :

مشعشعة كأن الحص فيها

إذا ما الماء خالطها سخينا

أو لأنه غالبا يتخذ مما له نوع بريق كالبلور والفضة (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي خمر جارية من العيون كما قال ابن عباس وقتادة أي لم يعصر كخمر الدنيا ، وقيل : خمر ظاهرة للعيون مرئية بها لأنها كذلك أهنأ ، وأفرد الكأس على ما قيل لأنها لا تسمى كأسا إلا إذا كانت مملوءة (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أي بسببها وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها ، والمراد أنهم لا يلحق رءوسهم صداع لأجل خمار يحصل منها كما في خمور الدنيا ، وقيل : لا يفرقون عنها بمعنى لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع التفريق.

١٣٦

وقرأ مجاهد «لا يصّدعون» بفتح الياء وشد الصاد على أن أصله يتصدعون فأدغم التاء في الصاد أي لا يتفرقون كقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [الروم : ٤٣] ، وقرئ «لا يصدعون» بفتح الياء والتخفيف أي لا يصدع بعضهم بعضا ولا يفرقونهم أي لا يجلس داخل منهم بين اثنين فيفرق بين المتقاربين فإنه سوء الأدب وليس من حسن العشرة (وَلا يُنْزِفُونَ) قال مجاهد وقتادة والضحاك : لا تذهب عقولهم بكسرها من نزف الشارب كعنى إذا ذهب عقله ، ويقال للسكران نزيف ومنزوف ، وقيل : وهو من نزف الماء نزحه من البئر شيئا فشيئا فكان الكلام على تقدير مضاف.

وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الله والسلمي والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى وعاصم كما أخرج عنه عبد بن حميد «ولا ينزفون» بضم الياء وكسر الزاي من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه ، ومعناه صار ذا نزف ؛ ونظيره أقشع السراب وقشعته الريح وحقيقته دخل في القشع ، وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا «ولا ينزفون» بفتح الياء وكسر الزاي قال : في المجمع وهو محمول على أنه لا يفنى خمرهم ، والتناسب بين الجملتين على ما سمعت فيهما أولا على قراءة الجمهور أن الأولى لبيان نفي الضرر عن الأجسام ، والثانية لبيان نفي الضرر عن العقول وتأمل لتعرفه إن شاء الله تعالى على ما عدا ذلك (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) أي يأخذون خيره وأفضله والمراد مما يرضونه (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) مما تميل نفوسهم إليه وترغب فيه ، والظاهر أن فاكهة ولحم معطوفان على أكواب فتفيد الآية أن الولدان يطوفون بهما عليهم ، واستشكل بأنه قد جاء في الآثار أن فاكهة الجنة وثمارها ينالها القائم والقاعد والنائم ، وعن مجاهد أنها دانية من أربابها فيتناولونها متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين ، وأن الرجل من أهل الجنة يشتهي الطير من طيور الجنة فيقع في يده مقليا نضجا ، وقد أخرج هذا ابن أبي الدنيا عن أبي أمامة.

وأخرج عن ميمونة مرفوعا أن الرجل ليشتهي الطير في الجنة فيجيء مثل البختي حتى يقع على خوانه لم يصبه دخان ولم تمسه نار فيأكل منه حتى يشبع ثم يطير إلى غير ذلك ، وإذا كان الأمر كما ذكر استغنى عن طوافهم بالفاكهة واللحم ، وأجيب بأن ذلك ـ والله تعالى أعلم ـ حالة الاجتماع والشرب ، ويفعلون ذلك الإكرام ومزيد المحبة والتعظيم والاحترام ، وهذا كما يناول أحد الجلساء على خوان الآخر بعض ما عليه من الفواكه ونحوها وإن كان ذلك قريبا منه اعتناء بشأنه وإظهارا لمحبته والاحتفال به ، وجوز أن يكون العطف على جنات النعيم وهو من باب ـ متقلدا سيفا ورمحا ـ أو من بابه المعروف ، وتقديم الفاكهة على اللحم للإشارة إلى أنهم ليسوا بحالة تقتضي تقديم اللحم كما في الجائع فإن حاجته إلى اللحم أشد من حاجته إلى الفاكهة بل هم بحالة تقتضي تقديم الفاكهة واختيارها كما في الشبعان فإنه إلى الفاكهة أميل منه إلى اللحم ، وجوز أن يكون ذلك لأن عادة أهل الدنيا لا سيما أهل الشرب منهم تقديم الفاكهة في الأكل وهو طبا مستحسن لأنها ألطف وأسرع انحدارا وأقل احتياجا إلى المكث في المعدة للهضم ، وقد ذكروا أن أحد أسباب الهيضة إدخال اللطيف من الطعام على الكثيف منه ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم يدفعها غالبا.

ويعلم من الوجه الأول وجه تخصيص التخير بالفاكهة والاشتهاء باللحم ، وفيه إشارة إلى أن الفاكهة لم تزل حاضرة عندهم وبمرأى منهم دون اللحم ووجه ذلك أنها مما تلذه الأعين دونه ، وقيل : وجه التخصيص كثرة أنواع الفاكهة واختلاف طعومها وألوانها وأشكالها وعدم كون اللحم كذلك ، وفي التعبير بيتخيرون دون يختارون وإن تقاربا معنى إشارة لمكان صيغة التفعل إلى أنهم يأخذون ما يكون منها في نهاية الكمال وأنهم في غاية الغنى عنها ، والله تعالى أعلم بأسرار كلامه (وَحُورٌ عِينٌ) عطف على (وِلْدانٌ) أو على الضمير المستكن في (مُتَّكِئِينَ) أو على مبتدأ حذف هو وخبره أي لهم هذا كل (وَحُورٌ) أو مبتدأ حذف خبره أي لهم ، أو فيها حور ، وتعقب الوجه الأول بأن

١٣٧

الطواف لا يناسب حالهن ، وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون من الحور ما ليس بمقصورات في الخيام ولا مخدرات هن كالخدم لهن لا يبالي بطوافهن ولا ينكر ذلك عليهن ، وأن الطواف في الخيام أنفسها وهو لا ينافي كونهم مقصورات فيها ، أو أن العطف على معنى لهم (وِلْدانٌ) و (حُورٌ) والثاني بأنه خلاف الظاهر جدا ، والثالث بكثرة الحذف ، و (عِينٌ) جمع عيناء وأصله عين على فعل كما تقول حمراء وحمر فكسرت العين لئلا تنقلب الياء واوا ، وليس في كلام العرب ياء ساكنة قبلها ضمة كما أنه ليس فيه واو ساكنة قبلها كسرة.

وقرأ السلمي والحسن وعمرو بن عبيد وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة والمفضل وأبان وعصمة عن عاصم وحمزة والكسائي «وحور عين» بالجر ، وقرأ النخعي كذلك إلا أنه قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة في «حور» فقال : وحير على الاتباع ـ لعين ـ وخرج على العطف على (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وفيه مضاف محذوف كأنه قيل : هم في جنات وفاكهة ولحم ومصاحبة حور على تشبيه مصاحبة الحور بالظرف على نهج الاستعارة المكنية ، وقرينتها التخييلية إثبات معنى الظرفية بكلمة (فِي) فهي باقية على معناها الحقيقي ولا جمع بين الحقيقة والمجاز ، وذهب إلى العطف المذكور الزمخشري ، وتعقبه أبو حيان فقال : فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض ، وهو فهم أعجمي ـ وليس كما قال كما لا يخفى ـ أو على (أكواب) ويجعل من باب ـ متقلدا سيفا ورمحا ـ كما سمعت آنفا فكأنه قيل : ينعمون بأكواب وبحور ، وجوز أن يبقى على ظاهره المعروف ، وأن الولدان يطوفون عليهم بالحور أيضا لعرض أنواع اللذات عليهم من المأكول والمشروب والمنكوح كما تأتي الخدام بالسراري للملوك ويعرضوهن عليهم ، وإلى هذا ذهب أبو عمر وقطرب ، وأبى ذلك صاحب الكشف فقال : أما العطف على الولدان على الظاهر فلا لأن الولدان لا يطوفون بهن طوافهم بالأكواب ، والقلب إلى هذا أميل إلا أن يكون هناك أثر يدل على خلافه ، وكون الجر للجوار يأباه الفصل أو يضعفه. وقرأ أبيّ وعبد الله ـ وحورا عينا ـ بالنصب ، وخرج على العطف على محل (بِأَكْوابٍ) لأن المعنى يعطون أكوابا وحورا على أنه مفعول به لمحذوف أي ويعطون حورا أو على العطف على محذوف وقع مفعولا به لمحذوف أيضا أي يعطون هذا كله وحورا ، وقرأ قتادة «وحور» بالرفع مضافا إلى «عين» ، وابن مقسم «وحور» بالنصب مضافا ، وعكرمة ـ وحوراء عيناء ـ على التوحيد اسم جنس وبفتح الهمزة فيهما فاحتمل الجر والنصب (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي في الصفاء ، وقيد بالمكنون أي المستور بما يحفظه لأنه أصفى وأبعد من التغير ، وفي الحديث صفاؤهن كصفاء الدر الذي لا تمسه الأيدي ، ووصف الحسنات بذلك شائع في العرب ، ومنه قوله :

قامت تراءى بين سجفي كلة

كالشمس يوم طلوعها بالأسعد

أو درة صدفية غواصها

بهج متى يرها يهل ويسجد

والجار والمجرور في موضع الصفة لحور ، أو الحال ، والإتيان بالكاف للمبالغة في التشبيه ، ولعل الأمر عليه نحو زيد قمر (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) مفعول له لفعل محذوف أي يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم أو بالذي استمروا على عمله أو هو مصدر مؤكد أي يجزون جزاء (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) ما لا يعتد به من الكلام وهو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا ـ وهو صوت العصافير ونحوها من الطير ـ وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا (وَلا تَأْثِيماً) أي ولا نسبة إلى الإثم أي لا يقال لهم أثمتم ، وعن ابن عباس كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم تفسيره بالكذب ، وأخرجه هناد عن الضحاك ـ وهو من المجاز كما لا يخفى ـ والكلام من باب.

ولا ترى الضب بها ينجحر

١٣٨

(إِلَّا قِيلاً) أي قولا فهو مصدر مثله (سَلاماً سَلاماً) بدل من (قِيلاً) كقوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) [مريم : ٦٢] وقال الزجاج : هو صفة له بتأويله بالمشتق أي سالما من هذه العيوب أو مفعوله ، والمراد لفظه فلذا جاز وقوعه مفعولا للقول مع إفراده ، والمعنى إلا أن يقول بعضهم لبعض (سَلاماً) ، وقيل : هو مصدر لفعل مقدر من لفظه وهو مقول القول ومفعوله حينئذ أي نسلم سلاما ، والتكرير للدلالة على فشو السلام وكثرته فيما بينهم لأن المراد سلاما بعد سلام ، والاستثناء منقطع وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم محتمل لأن يكون من الضرب الأول منه ، وهو أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح له بتقدير دخولها فيها بأن يقدر السلام هنا داخلا فيما قيل فيفيد التأكيد من وجهين ، وأن يكون من الضرب الثاني منه وهو أن يثبت لشيء صفة مدح ويعقب بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى بأن لا يقدر ذلك ، ويجعل الاستثناء من أصله منقطعا فيفيد التأكيد من وجه ، ولو لا ذكر التأثيم ـ على ما قاله السعد ـ جاز جعل الاستثناء متصلا حقيقة لأن معنى السلام الدعاء بالسلامة وأهل الجنة أغنياء عن ذلك فكان ظاهره من قبيل اللغو وفضول الكلام لو لا ما فيه من فائدة الإكرام ، وإنما منع التأثيم الذي هو النسبة إلى الإثم لأنه لا يمكن جعل السلام من قبيله وليس لك في الكلام أن تذكر متعددين ثم تأتي بالاستثناء المتصل من الأول مثل أن تقول : ما جاء من رجل ولا امرأة إلا زيدا ولو قصدت ذلك كان الواجب أن تؤخر ذكر لرجل ، وقرئ ـ سلام سلام ـ بالرفع على الحكاية ، وقوله تعالى : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ) إلخ شروع في بيان تفاصيل شئونهم بعد بيان تفاصيل شئون السابقين «وأصحاب» مبتدأ وقوله : (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) جملة استفهامية مشعرة بتفخيمهم والتعجيب من حالهم وهي على ما قالوا : إما خبر للمبتدإ ، وقوله سبحانه : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) خبر ثان له ، أو خبر لمبتدإ محذوف أي هم في سدر ، والجملة استئناف لبيان ما أبهم في قوله عزوجل : (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) من علو الشأن ، وإما معترضة والخبر هو قوله تعالى شأنه : (فِي سِدْرٍ) وجوز أن تكون تلك الجملة في موضع الصفة والخبر هو هذا الجار والمجرور ، والجملة عطف على قوله تبارك وتعالى في شرح أحوال السابقين : (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة : ١١ ، ١٢] أي (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ) المقول فيهم (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) كائنون (فِي سِدْرٍ) إلخ ، والظاهر أن التعبير بالميمنة فيما مر ، وباليمين هنا للتفنن ، وكذا يقال في المشأمة والشمال فيما بعد ، وقال الإمام : الحكمة في ذلك أن في الميمنة وكذا المشأمة دلالة على الموضع والمكان والأزواج الثلاثة في أول الأمر يتميز بعضهم عن بعض ويتفرقون بالمكان فلذا جيء أولا بلفظ يدل على المكان وفيما بعد يكون التميز والتفرق بأمر فيهم فلذا لم يؤت بذلك اللفظ ثانيا ، والسدر شجر النبق ، والمخضود الذي خضد أي قطع شوكه ، أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامه قال : «كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : إن الله تعالى ينفعنا بالأعراب ومسائلهم أقبل أعرابي يوما فقال : يا رسول الله لقد ذكر الله تعالى في القرآن شجر مؤذية وما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها قال : وما هي؟ قال : السدر فإن له شوكا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أليس الله يقول : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة وأن الثمرة من ثمره تفتق عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر».

وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس وقتادة وعكرمة والضحاك أنه الموقر حملا على أنه في خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب فمخضود مثنى الأغصان كني به عن كثير الحمل.

وقد أخرج ابن المنذر عن يزيد الرقاشي أن النبقة أعظم من القلال والظرفية مجازية للمبالغة في تمكنهم من التنعم والانتفاع بما ذكر (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) قد نضد حمله من أسفله إلى أعلاه ليست له ساق بارزة وهو شجر الموز

١٣٩

كما أخرج ذلك عبد الرزاق وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وأخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس ورواه ابن المنذر عن أبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري وعبد بن حميد عن الحسن ، ومجاهد وقتادة ، وعن الحسن أنه قال : ليس بالموز ولكنه شجر ظله بارد رطب ، وقال السدي : شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل ، وقيل : هو شجر من عظام العضاه ، وقيل : شجر أم غيلان وله نوار كثير طيب الرائحة (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) ممتد منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ، وظاهر الآثار يقتضي أنه ظل الأشجار.

أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها اقرءوا إن شئتم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)».

وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي سعيد قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها وذلك الظل الممدود».

وأخرج ابن أبي حاتم ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما يسير الراكب في كل نواحيها مائة عام يخرج إليها أهل الجنة وأهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل الله تعالى ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا ؛ وعن مجاهد أنه قال : هذا الظل من سدرها وطلحها ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عمرو بن ميمون أنه قال : الظل الممدود مسيرة سبعين ألف سنة (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) قال سفيان وغيره : جار من غير أخاديد ، وقيل : منساب حيث شاءوا لا يحتاجون فيه إلى سانية ولا رشاء وذكر هذه الأشياء لما أن كثيرا من المؤمنين لبداوتهم تمنوها ، أخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن مجاهد قال : كانوا يعجبون بوج وظلاله من طلحه وسدره فأنزل الله تعالى : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) إلخ ، وفي رواية عن الضحاك «نظر المسلمون إلى وج فأعجبهم سدره وقالوا : يا ليت لنا مثل هذا فنزلت هذه الآية».

وقيل : كأنه لما شبه حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن من كونهم على سرر تطوف عليهم خدامهم بأنواع الملاذ شبه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البوادي من نزولهم في أماكن مخصبة فيها مياه وأشجار وظلال إيذانا بأن التفاوت بين الفريقين كالتفاوت بين أهل المدن والبوادي ، وذكر الإمام مدعيا أنه مما وفق له أن قوله تعالى : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) من باب قوله سبحانه : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [الشعراء : ٢٨ ، المزمل : ٩] لأن السدر أوراقه في غاية الصغر والطلح يعني الموز أوراقه في غاية الكبر فوقعت الإشارة إلى الطرفين فيراد جميع الأشجار لأنها نظرا إلى أوراقها محصورة بينهما وهو مما لا بأس به ، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ، وجعفر بن محمد وعبد الله رضي الله تعالى عنهم «وطلع» بالعين بدل (وَطَلْحٍ) بالحاء ، وأخرج ابن الأنباري في المصاحف وابن جرير عن قيس بن عباد قال : قرأت على علي كرم الله تعالى وجهه (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) فقال : ما بال الطلح؟ أما تقرأ وطلع ، ثم قرأ قوله تعالى : (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) [ق: ١٠] فقيل له : يا أمير المؤمنين أنحكها من المصحف؟ فقال : لا يهاج القرآن اليوم وهي رواية غير صحيحة كما نبه على ذلك الطيبي ، وكيف يقر أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه تحريفا في كتاب الله تعالى المتداول بين الناس ، أو كيف يظنّ بأن نقلة القرآن ورواته وكتابه من قبل تعمدوا ذلك أو غفلوا عنه؟ هذا والله تعالى قد تكفل بحفظه سبحانك هذا بهتان عظيم.

ثم إن الذي يقتضيه النظم الجليل كما قال الطيبي : حمل (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) إلخ على معنى التظليل ،

١٤٠