روح المعاني - ج ١٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

فلا حاجة إلى تأويله بأحدهما كما فعل البعض ، والعود لما قالوا على المشهور عند الحنفية العزم على الوطء كأنه حمل العود على التدارك مجازا لأن التدارك من أسباب العود إلى الشيء ، ومنه المثل عاد غيث على ما أفسد أي تداركه بالإصلاح ، فالمعنى والذين يقولون ذلك القول المنكر ثم يتداركونه ينقضه وهو العزم على الوطء فالواجب عليهم إعتاق رقبة.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي كل من المظاهر والمظاهر منها ـ والتماس ـ قيل : كناية عن الجماع فيحرم قبل التكفير على ما تدل عليه الآية ، وكذا دواعيه من التقبيل ونحوه عندنا ، قيل : وهو قول مالك والزهري والأوزاعي والنخعي ، ورواية عن أحمد فإن الأصل أنه إذا حرم حرم بدواعيه إذ طريق المحرم محرم ، وعدم اطراد ذلك في الصوم والحيض لكثرة وجودهما فتحريم الدواعي يفضي إلى مزيد الحرج ، وقال العلامة ابن الهمام : التحقيق أن الدواعي منصوص على منعها في الظهار فإنه لا موجب لحمل التماس في الآية على المجاز لإمكان الحقيقة ، ويحرم الجماع لأنه من أفراد التماس كالمس والقبلة ، وقال غيره : تحرم أقسام الاستمتاع قبل التكفير لعموم لفظ التماس فيشملها بدلالة النص ، ومقتضى التشبيه في قوله : كظهر أمي فإن المشبه به لا يحل الاستمتاع به بوجه من الوجوه فكذا المشبه ، ويحرم عند الشافعية أيضا الجماع قبله ، وكذا يحرم لمس ونحوه من كل مباشرة لا نظر بشهوة في الأظهر كما في المحرر ، وقال الإمام النووي عليه الرحمة : الأظهر الجواز لأن الحرمة ليست لمعنى يخل النكاح فأشبه الحيض ، ومن ثم حرم الاستمتاع فيه فيما بين السرة والركبة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام.

وحكى البيضاوي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن نقض القول المراد بالعود بإباحة التمتع بها ولو بنظرة بشهوة ، وحمل ذلك على استباحة التمتع بمباشرته بوجه ما دون عدّه مباحا من غير مباشرة.

ولعله أريد بالمباشرة بوجه ما مباشرة ليست من التماس الذي قالوا بحرمته قبل التكفير ، وأيا ما كان فظاهر تعليق الحكم بالموصول يدل على علية ما في حيز الصلة أعني الظهار والعود له فهما سببان للكفارة وهذا أحد أقوال في المسألة.

قال العلامة ابن الهمام : اختلف في سبب وجوبها فقال في النافع : تجب بالظهار والعود لأن الظهار كبيرة فلا يصلح سببا للكفارة لأنها عبادة ، أو المغلب فيها معنى العبادة ولا يكون المحظور سببا للعبادة فعلق وجوبها بهما ليخف معنى الحرمة باعتبار العود الذي هو إمساك بمعروف فيكون دائرا بين الحظر والإباحة ، وعليه فيصلح سببا للكفارة الدائرة بين العبادة والعقوبة ، وقيل : سبب وجوبها العود والظهار شرطه ، ولفظ الآية أي المذكور يحتملهما فيمكن كون ترتيبها عليهما ، أو على الأخير لكن إذا أمكن البساطة صير إليها لأنها الأصل بالنسبة إلى التركيب فلهذا قال في المحيط : سبب وجوبها العزم على الوطء والظهار شرطه ، وهو بناء على أن المراد من العود في الآية العزم على الوطء ، واعترض بأن الحكم يتكرر بتكرر سببه لا شرطه والكفارة متكررة بتكرر الظهار لا العزم ، وكثير من مشايخنا على أنه العزم على إباحة الوطء بناء على إرادة المضاف في الآية أي يعودون لضد ما قالوا أو لتداركه ، ويرد عليه ما يرد على ما قبله ، ونص صاحب المبسوط على أن بمجرد العزم لا تتقرر الكفارة حتى لو أبانها أو ماتت من بعد العزم فلا كفارة فهذا دليل على أنها غير واجبة لا بالظهار ولا بالعود إذ لو وجبت لما سقطت بل موجب الظهار ثبوت التحريم ، فإذا أراد رفعه وجب عليه في رفعه الكفارة كما تقول لمن أراد الصلاة النافلة : يجب عليك إن صليتها أن تقدم الوضوء انتهى.

ولا يخفى أن إرادة المضاف غير متعين بناء على ما نقل عن الكثير من المشايخ ، وأن ظاهر الآية يفيد السببية كما ذكرنا آنفا ، ويكون الموجب للكفارة الأمران ، وبه صرح بعض الشافعية وجعل ذلك قياس كفارة اليمين ، ثم قال :

٢٠١

ولا ينافي ذلك وجوبها فورا مع أن أحد سببيها ـ وهو العود ـ غير معصية لأنه إذا اجتمع حلال وحرام ولم يمكن تميز أحدهما عن الآخر غلب الحرام ، وظاهر كلام الإمام النووي عليه الرحمة أن موجبها الظهار والعود شرط فيه وهو بعكس ما نقل عن المحيط ، ثم إن من جعل السبب العزم أراد به العزم المؤكد حتى لو عزم ثم بدا له أن لا يطأها لا كفارة عليه لعدم العزم المؤكد لا أنها وجبت بنفس العزم. ثم سقطت ـ كما قال بعضهم ـ لأنها بعد سقوطها لا تعود إلا بسبب جديد كذا في البدائع ، وذكر ابن نجيم في البحر عن التنقيح أن سبب الكفارة ما نسبت إليه من أمر دائر بين الحظر والإباحة ، ثم قال : إن كون كفارة الظهارة كذلك على قول من جعل السبب مركبا من الظهار والعود ظاهر لكون الظهار محظورا والعود مباحا لكونه إمساكا بالمعروف ونقضا للزور.

وأما على القول بأن المضاف ـ إليه وهو الظهار سبب ـ وهو قول الأصوليين فكونه دائرا بين الحظر والإباحة مع أنه منكر من القول وزور باعتبار أن التشبيه يحتمل أن يكون للكرامة فلم يتمحض كونه جناية ، واستظهر بعد أنه لا ثمرة للاختلاف في سببها معللا بأنهم اتفقوا على أنه لو عجلها بعد الظهار قبل العود جاز ولو كرر الظهار تكررت الكفارة وإن لم يتكرر العزم ، ولو عزم ثم ترك فلا وجوب ، ولو عزم ثم أبانها سقطت ولو عجلها قبل الظهار لم يصح ، ثم إنه لا استحالة في جعل المعصية سببا للعبادة التي حكمها أن تكفر المعصية وتذهب السيئة خصوصا إذا صار معنى الزجر فيها مقصودا وإنما المحال أن تجعل سببا للعبادة الموصلة إلى الجنة انتهى ، ولا يخلو عن حسن ما عدا توجيه كون الظهار دائرا بين الحظر والإباحة فإنه كما ترى.

وفسر بعضهم العود بالرجوع واللام بعن كما نقل عن الفراء أي ثم يرجعون عما قالوا : فيريدون الوطء ، قال الزيلعي : وهذا تأويل حسن لأن الظهار موجبه التحريم المؤبد فإذا قصد وطأها وعزم عليه فقد رجع عما قال : ولا يخفى أن جعل اللام بمعنى عن خلاف الظاهر ، وقيل : العود الرجوع ، والمراد بما قالوا ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار وهو التماس تنزيلا للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكر في قوله تعالى : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) [مريم : ٨٠] والمعنى ثم يريدون العود للتماس ، وفيه تجوزان ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى (ثُمَّ يَعُودُونَ) ثم يندمون ويتوبون أي يعزمون على التوبة ، وكأنه حمل العود على التدارك والتائب متدارك لما صدر عنه بالتوبة.

واعترض بأنه يقتضي أنه إذا لم يندم لا تلزمه الكفارة وإذا جعلت الكفارة نفس التوبة فأين معنى العود؟ وأيضا لا معنى لقول القائل ثم يعزمون على الكفارة (فَتَحْرِيرُ) إلخ ، والعود عند الشافعية يتحقق في غير مؤقت ورجعية بأن يمسكها على الزوجية ولو جهلا ونحوه بعد فراغ ظهاره ولو مكرر للتأكيد وبعد علمه بوجود الصفة في المعلق وإن نسي أو جنّ عند وجودها زمن إمكان فرقة شرعا فلا عود في نحو حائض إلا بالإمساك بعد انقطاع دمها لأن تشبيهها بالمحرم يقتضي فراقها فبعدم فعله صار ناقضا له متداركا لما قال ، فلو اتصل بلفظ الظهار فرقه بموت أو فسخ بنحو ردة قبل وطء أو طلاق بائن أو رجعي ، ولم يراجع أو جن أو أغمي عليه عقب اللفظ ولم يمسكها بعد الإفاقة فلا عود للفرقة أو تعذرها أولا عنها في الأصح بشرط سبق القذف ، والرفع للقاضي ظهاره في الأصح ولو راجع من ظاهر منها رجعية أو من طلقها رجعيا عقب الظهار أو ارتد متصلا وهي موطوءة ثم أسلم ، فالمذهب أنه عائد بالرجعة لأن المقصود بها استباحة الوطء لا بالإسلام لأن المقصود به العود للدين الحق والاستباحة أمر يترتب عليه إلا إذا أمسكها بعده زمنا يسع الفرقة ، وفي الظهار المؤقت الواقع كما التزم على الصحيح لخبر صحيح فيه الأصح أن العود لا يحصل بإمساك بل بوطء مشتمل على تغييب الحشفة أو قدرها من مقطوعها في المدة للخبر أيضا ولأن الحل منتظر بعدها ، فالإمساك يحتمل كونه لانتظاره أو للوطء فيها فلم يتحقق الإمساك لأجل الوطء إلا بالوطء فيها فكان المحصل للعود.

٢٠٢

واعترض ما قالوه بأن (ثُمَ) تدل على التراخي الزماني والإمساك المذكور معقب لا متراخ فلا يعطف ـ بثم ـ بل بالفاء ، ورد بأن مدة الإمساك ممتدة ، ومثله يجوز فيه العطف ـ بثم ـ والعطف بالفاء باعتبار ابتدائه وانتهائه ، وعلى هذا لا حاجة إلى القول بأنها للدلالة على أن العود أشد تبعة وأقوى إثما من نفس الظهار حتى يقال عليه : إنه غير مسلم ، ولا إلى قول الإمام أنه مشترك الإلزام بين الشافعية والحنفية القائلين : بأن العود استباحة الاستمتاع فيمنع أيضا لأن الاستباحة المذكورة عقب الظهار ـ قولا ـ نادرة فلا يتوجه ذلك على الحنفية.

واعترض أيضا بأن الظهار لم يوجب تحريم العقد حتى يكون العود إمساكها ، ومن تعليل الشافعية السابق يعلم ما فيه ، وفي التفريع لابن الجلاب المالكي أنه روي عن الامام مالك في المراد بالعود روايتان : إحداهما أنه العزم على إمساكها بعد الظهار منها ، والرواية الأخرى أنه العزم على وطئها ، ثم قال : ومن أصحابنا من قال : العود في إحدى الروايتين عن مالك هو الوطء نفسه ، والصحيح عندي ما قدمته انتهى من مدونه.

وابن حجر نسب القول : بأنه العزم على الوطء إلى الإمام مالك والإمام أحمد ، والقول : بأنه الوطء نفسه إلى الإمام أبي حنيفة ، وذكر أنهما قولان للإمام الشافعي في القديم ، وما حكاه عن الإمام أبي حنيفة لم يحكه عنه فيما نعلم أحد من أصحابه ، وحكاه الزيلعي عن الامام مالك ، ولم يحك عنه غيره ، وحكاه أبو حيان في البحر عن الحسن وقتادة وطاوس والزهري وجماعة ، وأفاد أنه إحدى روايتين عن مالك ، ثانيتهما أنه العزم على الإمساك والوطء.

واعترض القول به ممن كان وكذا القول : بأنه العزم على الوطء بأن الآية لما نزلت ، وأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم المظاهر بالكفارة لم يسأله هل وطئ أو عزم على الوطء؟ والأصل عدم ذلك ، والوقائع القولية كهذه يعممها الاحتمال ، وأنها ناصة على وجوب الكفارة قبل الوطء فيكون العدو سابقا عليه ، فكيف يكون هو الوطء؟! وأجاب القائل : بأنه العزم على الوطء عن ترك السؤال بأن ذلك لعلمه عليه الصلاة والسلام به من خولة ، فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام قال : حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت : فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل الله تعالى صدر سورة المجادلة كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه فدخل علي يوما فراجعته بشيء فغضب فقال : أنت علي ظهر أمي ، ثم رجع فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي قلت : كلا والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم فينا ، ثم جئت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فذكرت له ذلك فما برحت حتى نزل القرآن الخبر ، فإن ظاهر قولها : فذكرت له ذلك أنها ذكرت كل ما وقع ، ومنه طلب أوس وطأها المكنى عنه بيريدني عن نفسي ، وذكر ذلك له عليه الصلاة والسلام أهم لها من ذكرها إياه ليوسف بن عبد الله بن سلام.

وأجيب من جهة القائل : بأنه الوطء عن الأخير بأن المراد من الآية عند ذلك القائل من قبل أن يباح التماس شرعا ، والوطء أولا حرام موجب للتفكير ـ وهو كما ترى ـ ونقل عن الثوري ومجاهد أن معنى الآية والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام ثم يعودون لمثله فكفارة من عاد أن يحرر رقبة ثم يماس المظاهر منها فحملا العود والقول على حقيقتهما ، ثم اعتبار العادة دلالة على أن العدول إلى المضارع في الآية للاستمرار فيما مضى وقتا فوقتا. وأخذ القطع من دلالة (ثُمَ) على التراخي ؛ وليصح على وجه لا يلزم تعليق وجوب الكفارة بتكرار لفظ الظهار كما سيأتي إن شاء الله تعالى حكايته.

وتعقب ذلك بأن فيه أن الاستمرار ينافي القطع ، ثم إنهم ما كانوا قطعوه بالإسلام لأن الشرع لم يكن ورد بعد بتحريمه ، وظاهر النظم الجليل أنه مظاهرة بعد الإسلام لأنه مسوق لبيان حكمه فيه وعليه ينطبق سبب النزول وهو

٢٠٣

يقتضي أن يكون مجرد الظهار من غير عود موجبا للكفارة ، وهو خلاف ما عليه علماء الأمصار ؛ وأجيب عن هذا الأخير بأنهما إن نقل عنهما ذلك اجتهادا فلا يلزمهما موافقة غيرهما وهو المصرح به في كتاب الأحكام وغيره ، وإن لم ينقل عنهما غير تفسير العود في الآية بما أشير إليه ، فيجوز أن يشترطا لوجوب الكفارة شيئا مما مر لكن لا يقولان : إنه المراد بالعود فيها ، وقال أهل الظاهر : المعنى الذين يقولون هذا القول المنكر ثم يعودون له فيكررونه بأن يقول أحدهم : أنت علي كظهر أمي ثم يعود له ويقوله ثانيا فكفارته تحرير رقبة إلخ فحملوا العود والقول على حقيقتهما أيضا.

وروي ذلك عن أبي العالية وبكير بن عبد الله بن الأشج والفراء أيضا ، وحكاه أبو حيان رواية عن الإمام أبي حنيفة ، ولا نعلم أحدا من أصحابه رواه عنه ، وتعقب بأنه لو أريد ذلك لقيل : يعودون له فانه أخصر ولا يبقى لكلمة (ثُمَ) حسن موقع ، هذا ولا فقه فيه من حيث المعنى ، والمنزل فيه ـ أعني قصة خولة ـ يدفعه إذ لم ينقل التكرار ، ولا سأل عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وهذا الدفع قوي ، وأما ما قيل : فقد أجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون الفقه فيه أنه ليس صريحا في التحريم فلعله يسبق لفظه به من غير قصد لمعناه. فإذا كرره تعين أنه قصده وأن العدول عن له إلى (لِما قالُوا) لقصد التأكيد بالإظهار ، وأن العطف ـ بثم ـ لتراخي رتبة الثاني وبعده عن الأول لأنه الذي تحقق به الظهار ، وقول الزيلعي في الاعتراض عليه : إن اللفظ لا يحتمله ـ لأنه لو أريد ذلك لقيل : يعيدون القول الأول بضم الياء وكسر العين من الإعادة لا من العود ـ جهل من قلة العود لكلام الفصحاء والرجوع إلى محاوراتهم ، وقال أبو مسلم الأصفهاني : معنى العود أن يحلف أولا على ما قال من الظهار بأن يقول : والله أنت علي كظهر أمي وهو عود لما قال وتكرار له معنى لأن القسم لكونه مؤكدا للمقسم عليه يفيد ذلك فلا تلزم الكفارة في الظهار من غير قسم عنده ، وهذا القول إلغاء للظهار معنى لأن الكفارة لحلفه على أمر كذب فيه ، وأيضا المنزل فيه يدفعه إذ لم ينقل الحلف ولا سأل عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأصل عدمه ، وقيل : عوده تكراره الظهار معنى بأن يقول : أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا ثم يفعله فإنه يحنث وتلزمه الكفارة ، وتعد مباشرته ذلك تكريرا للظهار وليس بشيء كما لا يخفى ، وأما تعليق الظهار فقد ذكر الشافعية أنه يصح لأنه لاقتضاء التحريم كالطلاق والكفارة كاليمين وكلاهما يصح تعليقه ، فإذا قال : إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي فدخلت ولو في حال جنونه أو نسيانه صح لكن لا عود عندهم في الصورة المفروضة حتى يمسكها عقب الإفاقة أو تذكره وعلمه بوجود الصفة قدر إمكان طلاقها ولم يطلقها ، وقد أطالوا في تفاريع التعليق الكلام بما لا يسعه هذا المقام.

وعندنا أيضا يصح تعليقه وكذا تقييده بيوم أو شهر ، ولا يبقى بعد مضي المدة ، نعم لو ظاهر واستثني يوم الجمعة مثلا لم يجز ولو علق الظهار بشرط ثم أبانها ثم وجد الشرط في العدة لا يصير مظاهرا بخلاف الإبانة المعلقة كما بين في محله ، وقال الأخفش : في الآية تقديم وتأخير وتقديرها ـ والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا : ثم يعودون إلى نسائهم ـ ولا يذهب إليه إلا أخفش أو أعشى أو أعمش ، وفي قوله تعالى : (مِنْ نِسائِهِمْ) دليل لنا وكذا للشافعي وأحمد وجمع كثير من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عليهم أجمعين على أنه لو ظاهر من أمته الموطوءة أو غيرها لا يصح ، وبيان ذلك أنه يتناول نساءنا والأمة ، وإن صح إطلاق لفظ نسائنا عليها لغة لكن صحة الإطلاق لا تستلزم الحقيقة لأن حقيقة إضافة النساء إلى رجل أو رجال إنما تتحقق مع الزوجات (١) دون الإماء لأنه

__________________

(١) قوله : إنما تتحقق مع الزوجات إلخ ، واستدل الإمام على عدم دخول الإماء في النساء المضاف بقوله تعالى : «أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن» للعطف اه منه.

٢٠٤

المتبادر حتى يصح أن يقال : هؤلاء جواريه لا نساؤه ، وحرمة بنت الأمة ليس لأن أمها من نسائنا مرادة بالنص بل لأنها موطوءة وطأ حلالا عند الجمهور ، وبلا هذا القيد عندنا على أنه لو أريد بالنساء هناك ما تصح به الإضافة حتى يشتمل المعنى الحقيقي وهن الزوجات والمجازي ـ أعني الإماء بعموم المجاز ـ لأمكن للاتفاق على ثبوت ذلك الحكم في الإماء كثبوته في الزوجات أما هنا فلا اتفاق ولا لزوم عندنا أيضا ليثبت بطريق الدلالة لأن الإماء لسن في معنى الزوجات لأن الحل فيهن تابع غير مقصود من العقد ولا من الملك حتى يثبتا مع عدمه في الأمة المجوسية والمراضعة بخلاف عقد النكاح لا يصح في موضع لا يحتمل الحل ، واستدل أيضا بأن القياس شأنه أن لا يوجب هذا التشبيه الذي في الظهار سوى التوبة ، وورد الشرع بثبوت التحريم فيه في حق من لها الاستمتاع ولا حق للأمة فيه فيبقى في حقها على أصل القياس ، وبأن الظهار كان طلاقا فنقل عنه إلى تحريم مغيّا بالكفارة ولا طلاق في الأمة ، وهذا ليس بشيء للمتأمل.

ونقل عن مالك والثوري صحة الظهار في الأمة مطلقا ، وعن سعيد بن جبير وعكرمة وطاوس والزهري صحته في الموطوءة ، ثم إن الشرط كونها زوجة في الابتداء فلو ظاهر من زوجته الأمة ثم ملكها بقي الظهار فلا يجوز له وطؤها حتى يكفر كما صرحوا به ، والمراد بالزوجة المنكوحة التي يصح إضافة الطلاق إليها فلا فرق بين مدخول بها وغيرها فلا يصح الظهار من مبانة ، ومنه ما سمعت آنفا ولا من أجنبية إلا إذا أضافه إلى التزوج كأن قال لها : إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي ثم تزوجها فإنه يكون مظاهرا ، نعم في التاتارخانية : لو قال إذا تزوجتك فأنت طالق ، ثم قال : إذا تزوجتك فأنت علي كظهر أمي فتزوجها يقع الطلاق ، ولا يلزم الظهار في قول أبي حنيفة ، وقال صاحباه : لزماه جميعا ، وعن مالك أنه إذا ظاهر من أجنبية ثم نكحها لزم الظهار أضافه إلى التزويج أم لا.

وقال بعض العلماء لا يصح ظهار غير المدخول بها ، وقال المزني : لا يصح ظهار المطلقة الرجعية ، وظاهر (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ) يشمل العبد فيصح ظهاره ، وقد ذكر أصحابنا أنه يصح ظهار الزوج البالغ العاقل المسلم ويكفر العبد بالصوم ، ولا ينصف لما فيه من معنى العبادة كصوم رمضان ، ومثله المحجور عليه بالسفه على قولهما المفتي به.

وحكى الثعلبي عن مالك أنه لا يصح ظهار العبد ، ولا تدخل المرأة في هذا الحكم فلو ظاهرت من زوجها لم يلزم شيء كما نقل ذلك عن التاتارخانية عن أبي يوسف ، وقال أبو حيان : قال الحسن بن زياد : تكون مظاهرة ، وقال الأوزاعي وعطاء وإسحاق وأبو يوسف : إذا قالت المرأة لزوجها : أنت عليّ كظهر فلانة فهي يمين تكفرها ، وقال الزهري : أرى أن تكفر كفارة الظهار ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها انتهى ، والرقبة من الحيوان معروفة ، وتطلق على المملوك ، وذلك من تسمية الكل باسم الجزء كما في المغرب ، وهو المراد هنا.

وفي الهداية هي عبارة عن الذات المرموق من كل وجه فيجزى في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة والمؤمنة والذكر والأنثى والكبير والصغير ـ ولو رضيعا ـ لأن الاسم ينطلق على كل ذلك ، ومقتضى ذلك إجزاء إعتاق المرتد والمرتدة والمستأمن والحربي ، وفي التاتارخانية أن المرتد يجوز عند بعض المشايخ ، وعند بعضهم لا يجوز ، والمرتدة تجوز بلا خلاف أي لأنها لا تقتل ، وفي الفتح إعتاق الحربي في دار الحرب لا يجزيه في الكفارة ، وإعتاق المستأمن يجزيه ، وفي التاتارخانية لو أعتق عبدا حربيا في دار الحرب إن لم يخل سبيله لا يجوز وإن خلي سبيله ففيه اختلاف المشايخ ، فبعضهم قالوا : لا يجوز ـ وشمل الرقبة الصحيح والمريض فيجزي كل منهما ـ واستثنى في الخانية مريضا لا يرجى برؤه فإنه لا يجوز لأنه ميت حكما ، وفي جواز إعتاق حلال الدم كلام : فحكي في البحر أنه إذا أعتق عبدا حلال

٢٠٥

الدم قد قضي بدمه ثم عفى عنه (١) فلو كان أبيض العينين فزال البياض أو كان مرتدا فأسلم لا يجوز.

وفي جامع الفقه جاز المديون والمرهون ومباح الدم ، ويجوز إعتاق الآبق إذا علم أنه حي ، ولا بد أن تكون الرقبة غير المرأة المظاهر منها لما في الظهيرية والتاتارخانية أمة تحت رجل ظاهر منها ثم اشتراها وأعتقها كفارة ظهارها قيل : تجزي ، وقيل : لا تجزي في قول أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف ، ويجوز الأصم استحسانا إذا كان بحيث إذا صحيح عليه يسمع ، وفي رواية النوادر لا يجوز ولا تجزى العمياء ولا المقطوعة اليدين أو الرجلين ، وكذا مقطوع إبهام اليدين ومقطوع إحدى اليدين وإحدى الرجلين من جانب واحد والمجنون الذي لا يعقل ، ولا يجوز إعتاق المدبر وأم الولد ، وكذا المكاتب الذي أدى بعض المال وإن اشترى أباه أو ابنه ينوي بالشراء الكفارة جاز عنها ، وإن أعتق نصف عبد مشترك وهو موسر فضمن قيمة باقية لم يجز عند الإمام ، وجاز عند صاحبيه ، وإن أعتق نصف عبده عن كفارته ثم جامع ثم أعتق باقيه لم يجزه عنده لأن الإعتاق يتجزأ عنده ، وشرط الإعتاق أن يكون قبل المسيس بالنص ، وإعتاق النصف حصل بعده ، وعندهما إعتاق النصف إعتاق الكل فحصل الكل قبل المسيس ، واشترط الشافعي عليه الرحمة كون الرقبة مؤمنة ولو تبعا لأصل أو دار أو ساب حملا للمطلق في هذه الآية على المقيد في آية القتل بجامع عدم الإذن في السبب.

وقال الحنفية : لا يحمل المطلق على المقيد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة لأنه حينئذ يلزم ذلك لزوما عقليا إذا الشيء لا يكون نفسه مطلوبا إدخاله في الوجود مطلقا ومقيدا كالصوم في كفارة اليمين. ورد مطلقا ومقيدا بالتتابع في القراءة المشهورة التي تجوز القراءة بمثلها ، والكلام في تحقيق هذا الأصل في الأصول.

وقالوا على تقدر التنزل إلى أصل الشافعية من الحمل مطلقا : إنه لا يلزم من التضييق في كفارة الأمر الأعظم وهو القتل ثبوت مثله فيما هو أخف منه ليكون التقييد فيه بيانا في المطلق ، وما ذكروه من الجامع لا يكفي ، ووافقوا في كثير مما عدا ذلك ، وخالفوا أيضا في كثير فقالوا : يشترط في الرقبة أن تكون بلا عيب يخل بالعمل والكسب فيجزئ صغير ولو عقب ولادته وأقرع وأعرج يمكنه من غير مشقة لا تحتمل عادة تتابع المشي وأعور لم يضعف نظر سليمته حتى أخل بالعمل إخلالا بيّنا وأصم وأخرس يفهم إشارة غيره ويفهم غيره إشارته مما يحتاج إليه وأخشم وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه وأسنانه وعنين ومجبوب ورتقاء وقرناء وأبرص ومجذوم وضعيف بطش ومن لا يحسن صنعة وولد زنا وأحمق ـ وهو من يضع الشيء في غير محله مع علمه بقبحه ـ وآبق ومغصوب وغائب علمت حياته أو بانت وإن جهلت حالة العتق لازمنه وجنين وإن انفصل لدون ستة أشهر من الإعتاق أو فاقد يد أو رجل أو أشل أحدهما أو فاقد خنصر وبنصر معا من يد أو أنملتين من غيرهما أو أنملة إبهام ـ كما قال النووي عليه الرحمة ـ ولا هرم عاجز ؛ ولا من هو في أكثر وقته مجنون ولا مريض لا يرجى عند العتق برء مرضه ـ كسلال ـ فإن برأ بعد إعتاقه بان الإجزاء في الأصح ولا من قدم لقتل بخلاف من تحتم قتله في المحاربة قبل الرفع للإمام ، ولا يجزى شراء أو تملك قريب أصل أو فرع بنية كفارة ولا عتق أم ولد ولا ذو كتابة صحيحة قبل تعجيزه ، ويجزى مدبر ومعلق عتقه بصفة غير التدبير ، وقالوا : لو أعتق معسر نصفين له من عبدين عن كفارة فالأصح الإجزاء إن كان باقيهما أو باقي أحدهما حرّا إلى غير ذلك.

وفي الإتيان بالفاء في قوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ) إلخ دلالة على ما قال بعض الأجلة : على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار ، فإذا كان له زوجتان مثلا فظاهر من كل منهما على حدة لزمه كفارتان.

__________________

(١) هكذا في خط المؤلف ، ولعل هنا سقطا فحرر اه.

٢٠٦

وفي التلويح لو ظاهر من امرأته مرتين أو ثلاثا في مجلس واحد أو مجالس متفرقة لزمه بكل ظهار كفارة ، وفي إطلاقه بحث ، فقد ذكر بعضهم أنه لو قصد التأكيد في المجلس الواحد لم تتعدد ، وفي شرح الوجيز للغزالي ما محصله : لو قال لأربع زوجات : أنتن علي كظهر أمي فإن كان دفعة واحدة ففيه قولان ، وإن كان بأربع كلمات فأربع كفارات ، ولو كررها ـ والمرأة واحدة ـ فإما أن يأتي بها متوالية أولا ، فعلى الأول إن قصد التأكيد فواحدة وإلا ففيه قولان : القديم ـ وبه قال أحمد ـ واحدة كما لو كرر اليمين على شيء واحد ، والقول الجديد التعدد ـ وبه قال أبو حنيفة ومالك ـ وإذا لم تتوال أو قصد بكل واحدة ظهارا أو أطلق ولم ينو التأكيد فكل مرة ظهار برأسه ، وفيه قول : إنه لا يكون الثاني ظهارا إن لم يكفر عن الأول ، وإن قال : أردت إعادة الأول ففيه اختلاف بناء على أن الغالب في الظهار أن معنى الطلاق أو اليمين لما فيه من الشبهين انتهى.

وظاهر بعض عبارات أصحابنا أنه لو قيد الظهار بعدد اعتبر ذلك العدد ، ففي التتارخانية لو قال لأجنبية : إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي مائة مرة فعليه ـ أي إذا تزوجها ـ لكل كفارة ، وتدل الآية على أن الكفارة المذكورة قبل المسيس فإن مس أثم ولا يعاود حتى يكفّر ، فقد روى أصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس أن رجلا ـ وهو سلمة ابن صخر الانصاري كما في حديث أبي داود والترمذي وغيرهما ـ ظاهر من امرأته فوقع عليها قبل أن يكفر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : «ما حملك على ذلك؟! فقال : رأيت خلخالها في ضوء القمر ـ وفي لفظ بياض ساقها ـ قال عليه الصلاة والسلام : فاعتزلها حتى تكفّر» ولفظ ابن ماجة «فضحك رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وأمره أن لا يقربها حتى يكفّر» قال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب ، وفي كونه صحيحا ردّه المنذري في مختصره بأنه صححه الترمذي ورجاله ثقات مشهور سماع بعضهم من بعض.

وروى الترمذي وقال : حسن غريب عن ابن إسحاق بالسند إلى سلمه المذكور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في المظاهر يواقع قبل أن يكفر : «كفارة واحدة تلزمه ، ويردّ به على مجاهد في قوله : يلزمه كفارة أخرى ، ونقل هذا عن عمرو بن العاص ، وقبيصة وسعيد بن جبير والزهري وقتادة ، وعلى من قال تلزمه ثلاث كفارات ، ونقل ذلك عن الحسن والنخعي ، وبه ، وبما تقدم يردّ على ما قيل : من أنه تسقط الكفارة الواجبة عليه ولا يلزمه شيء ولا ترتفع حرمة المسيس إلا بها لا بملك ولا بزوج ثان حتى لو طلقها من بعد الظهار ثلاثا فعادت إليه من بعد زوج آخر أو كانت أمة فملكها بعد ما ظاهر منها لا يحل قربانها حتى يكفر ، وهو واجب على التراخي ـ على الصحيح ـ لكون الأمر الدالة عليه الآية مطلقا حتى لا يأثم بالتأخير عن أول أوقات الإمكان ، ويكون مؤديا لا قاضيا ، ويتعين في آخر عمره ، ويأثم بموته قبل الأداء ، ولا تؤخذ من تركته إن لم يوص ولو تبرع الورثة في الاعتاق ، وكذا في الصوم لا يجوز ـ كذا في البدائع ـ فإن أوصى كان من الثلث ، وفي التاتارخانية لو كان مريد التكفير مريضا فأعتق عبده عن كفارته وهو لا يخرج من ثلث ماله فمات من ذلك المرض لا يجوز عن كفارته وإن أجازت الورثة ، ولو أنه برىء من مرضه جاز ، وللمرأة مطالبته بالوطء والتكفير ؛ وعليها أن تمنعه من الاستمتاع بها حتى يكفّر ، وعلى القاضي أن يجبره على التكفير دفعا للضرر عنها بحبس فإن أبى ضربه ؛ ولو قال : قد كفرت صدّق ما لم يكن معروفا عند الناس بالكذب.

هذا وبقيت مسائل أخر مذكورة في كتب الفقه (ذلِكُمْ) الاشارة إلى الحكم بالكفارة والخطاب للمؤمنين الموجودين عند النزول أو لهم ولغيرهم من الأمة (تُوعَظُونَ بِهِ) أي تزجرون به عن ارتكاب المنكر ، فإن الغرامات مزاجر عن تعاطي الجنايات ، والمراد بيان أن المقصود من شرع هذا الحكم ليس تعريضكم للثواب بمباشرتكم لتحرير الرقبة الذي هو علم في استتباع الثواب العظيم بل هو ردعكم وزجركم عن مباشرة ما يوجبه كذا في الإرشاد ، وهو

٢٠٧

ظاهر في كون الكفارة عقوبة محضة ، وقد تقدم القول بأنها دائرة بين العبادة والعقوبة ، وكلام الزيلعي يدل على أن جهة العبادة فيها أغلب ، وفي شرح منهاج النووي لابن حجر في كتاب كفارة الظهار الكفارة من الكفر وهو الستر لسترها الذنب بمحوه أو تخفيف إثمه بناء على أن الكفارات زواجر كالتعازير أو جوابر للخلل ، ورجح ابن عبد السلام الثاني لأنها عبادة لافتقارها للنية أي فهي كسجود السهو.

والفرق بينها ـ على الثاني ـ وبين الدفن الكفارة للبصق على ما هو المقرر فيه أنه يقطع دوام الإثم أن الدفن مزيل لعين ما به المعصية فلم يبق بعده شيء يدوم إثمه بخلافها هنا فإنها ليست كذلك ، وعلى الأول الممحو هو حق الله تعالى من حيث هو حقه ، وأما بالنظر لنحو الفسق بموجبها فلا بد فيه من التوبة نظير نحو الحد انتهى.

ومتى قيل : بأن الإعتاق المذكور كفارة وأن الكفارة تستر الذنب بمحوه أو تخفيف إثمه لم يكن بدّ من استتباعه الثواب وكون ذلك لا يعدّ ثوابا لا يخلو عن نظر ؛ ولعل المراد أن المقصود الأعظم من شرع هذا الحكم الردع والزجر عن مباشرة ما يوجبه دون التعريض للثواب ، وإن تضمنه في الجملة فتأمل (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الأعمال كالتكفير وما يوجبه من جناية الظهار (خَبِيرٌ) أي عالم بظواهرها وبواطنها ومجاريكم بها فحافظوا على حدود ما شرع لكم ولا تخلوا بشيء منها.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧)

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فمن لم يجد رقبة فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين من قبل التماس ، والمراد ـ بمن لم يجد ـ من لم يملك رقبة ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفايته لأن قدرها مستحق الصرف فصار كالعدم ، وقدر الكفاية من القوت للمحترف قوت يوم. وللذي يعمل قوت شهر ـ على ما في البحر ـ ومن له عبد يحتاج لخدمته واجد فلا يجزئه الصوم ، وهذا بخلاف من له مسكن لأنه كلباسه ولباس أهله ، وعند الشافعية المراد به من لم يملك رقبة أو ثمنها فاضلا كل منهما عن كفاية نفسه وعياله العمر الغالب نفقة وكسوة وسكنى وأثاثا لا بد منه ، وعن دينه ولو مؤجلا.

وقالوا : إذا لم يفضل القنّ أو ثمنه عما ذكر لاحتياجه لخدمته لمنصب يأبى خدمته بنفسه أو ضخامة كذلك بحيث يحصل له بعتقه مشقة شديدة لا تحتمل عادة ولا أثر لفوات رفاهية أو مرض به أو بموته فلا عتق عليه لأنه فاقد شرعا ـ كمن وجد ماء وهو يحتاجه لعطش ـ وإلى اعتبار كون ذلك فاقدا ـ كواجد الماء المذكور ـ ذهب الليث أيضا.

والفرق عندنا على ما ذكره الرازي في أحكام القرآن أن الماء مأمور بإمساكه لعطشه واستعماله محظور عليه بخلاف الخادم ، واليسار والإعسار معتبران وقت التكفير والأداء ، وبه قال مالك ، وعن الشافعي أقوال في

٢٠٨

وقتها أظهرها كما هو عندنا ، قالوا : لأن الكفارة أعني الاعتاق عبادة لها بدل من غير جنسها كوضوء وتيمم وقيام صلاة وقعودها فاعتبر وقت أدائها ، وغلب الثاني كمذهب أحمد والظاهرية شائبة العقوبة فاعتبر وقت الوجوب ـ كما لو زنى قنّ ثم عتق فإنه يحدّ حدّ القنّ ـ والثالث الأغلظ من الوجوب إلى الأداء ، والرابع الأغلظ منهما ، وأعرض عما بينهما.

ومن يملك ثمن رقبة إلا أنه دين على الناس فإن لم يقدر على أخذه من مديونه فهو فاقد فيجزئه الصوم وإن قدر فواجد فلا يجزئه وإن كان له مال ووجب عليه دين مثله فهو فاقد بعد قضاء الدين ، وأما قبله فقيل فاقد أيضا بناء على قول محمد أنه تحل له الصدقة المشير إلى أن ماله لكونه مستحقا الصرف إلى الدين ملحق بالعدم حكما ، وقيل : واجد لأن ملك المديون في ماله كامل بدليل أنه يملك جميع التصرفات فيه.

وفي البدائع لو كان في ملكه رقبة صالحة للتكفير فعليه تحريرها سواء كان عليه دين أو لم يكن لأنه واجد حقيقة ، وحاصله أن الدين لا يمنع تحرير الرقبة الموجودة ، ويمنع وجوب شرائها بما عنده من مثل الدين على أحد القولين ، والظاهر أن الشراء متى وجب يعتبر فيه ثمن المثل ، وصرح بذلك النووي وغيره من الشافعية فقالوا : لا يجب شراء الرقبة بغبن أي زيادة على ثمن مثلها نظير ما يذكر في شراء الماء للطهارة ، والفرق بينهما بتكرير ذلك ضعيف ، وعلى الأول ـ كما قال الأذرعي وغيره نقلا عن الماوردي واعتمدوه ـ لا يجوز العدول للصوم بل يلزمه الصبر إلى الوجود بثمن المثل ، وكذا لو غاب ماله فيكلف الصبر إلى وصوله أيضا ، ولا نظر إلى تضررهما بفوات التمتع مدة الصبر لأنه الذي ورط نفسه فيه انتهى.

وما ذكروه فيما لو غاب ماله موافق لمذهبنا فيه ولو كان عليه كفارتا ظهار لامرأتين وفي ملكه رقبة فقط فصام عن ظهار إحداهما ، ثم أعتق عن ظهار الأخرى ففي المحيط في نظير المسألة يقتضي عدم إجزاء الصوم عن الأولى قال : عليه كفارتا يمين ، وعنده طعام يكفي لإحداهما فصام عن إحداهما ثم أطعم عن الأخرى لا يجوز صومه لأنه صام وهو قادر على التكفير بالمال فلا يجزئه ، ويعتبر الشهر بالهلال فلا فرق بين التام والناقص فمن صام بالأهلّة واتفق أن كل شهر تسعة وعشرون حتى صار مجموع الشهرين ثمانية وخمسين أجزاه ذلك وإن غم الهلال اعتبر ـ كما في المحيط ـ كل شهر ثلاثين وإن صام بغير الأهلة فلا بدّ من ستين يوما كما في الفتح القدير ، ويعتبر الشهر بالهلال عند الشافعية أيضا ، وقالوا : إن بدأ في أثناء شهر حسب الشهر بعده بالهلال لتمامه وأتم الأول من الثالث ثلاثين لتعذر الهلال فيه بتلفقه من شهرين ، وعلى هذا يتفق كون صيامه ستين وكونه تسعة وخمسين ، ولا يتعين الأول كما لا يخفى فلا تغفل ، وإن أفطر يوما من الشهرين ولو الأخير بعذر من مرض أو سفر لزم الاستئناف لزوال التتابع وهو قادر عليه عادة ، وقال أبو حيان : إن أفطر بعذر كسفر فقال ابن المسيب والحسن وعطاء وعمرو بن دينار والشعبي ومالك والشافعي في أحد قوليه : يبني اه ، وإن جامع التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلا عامدا أو نهارا ناسيا استأنف الصوم عند أبي حنيفة ومحمد ، وقال أبو يوسف : لا يستأنف لأنه لا يمنع التتابع إذ لا يفسد به الصوم وهو الشرط ، ولهما أن المأمور به صيام شهرين متتابعين لا مسيس فيهما فإذا جامعها في خلالها لم يأت بالمأمور به ، وإن جامع زوجة أخرى غير المظاهر منها ناسيا لا يستأنف عند الإمام أيضا كما لو أكل ناسيا لأن حرمة الأكل والجماع إنما هو للصوم لئلا ينقطع التتابع ولا ينقطع بالنسيان فلا استئناف بخلاف حرمة جماع المظاهرة فإنه ليس للصوم بل لوقوعه قبل الكفارة ، وتقدمها على المسيس شرط حلها ، فبالجماع ناسيا في أثنائه يبطل حكم الصوم المتقدم في حق الكفارة ، ثم إنه يلزم في الشهرين أن لا يكون فيهما صوم رمضان لأن التتابع منصوص عليه وشهر رمضان لا يقع عن الظهار

٢٠٩

لما فيه من إبطال ما أوجب الله تعالى ، وأن لا يكون فيهما الأيام التي نهى عن الصوم فيها وهي يوما العيدين وأيام التشريق لأن الصوم فيها ناقص بسبب النهي عنه فلا ينوب عن الواجب الكامل.

وفي البحر : المسافر في رمضان له أن يصومه عن واجب آخر ، وفي المريض روايتان ، وصوم أيام نذر معينة في أثناء الشهرين بنية الكفارة لا يقطع التتابع ، ومن قدر على الإعتاق في اليوم الأخير من الشهرين قبل غروب الشمس وجب عليه الإعتاق لأن المراد استمرار عدم الوجود إلى فراغ صومهما وكان صومه حينئذ تطوعا ، والأفضل إتمام ذلك اليوم وإن أفطر لا قضاء عليه لأنه شرع فيه مسقطا لا ملتزما خلافا لزفر.

وفي تحفة الشافعية لو بان بعد صومهما أن له مالا ورثه ولم يكن عالما به لم يعتدّ بصومه على الأوجه اعتبارا بما في نفس الأمر أي وهو واجد بذلك الاعتبار ، وليس في بالي حكم ذلك عند أصحابنا ، ومقتضى ظاهر ما ذكروه فيمن تيمم وفي رحله ماء وضعه غيره ولم يعلم به من صحة تيممه الاعتداد بالصوم هاهنا ، وقد صرح الشافعية فيمن أدرج في رحله ماء ولم يقصر في طلبه أو كان بقربه بئر خفية الآثار بعدم بطلان تيممه فلينظر الفرق بين ما هنا وما هناك ، ولعله التغليظ في أمر الكفارة دون التيمم فليراجع (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أي صيام شهرين متتابعين ، وذلك بأن لم يستطع أصل الصيام أو بأن لم يستطع تتابعه لسبب من الأسباب ككبر أو مرض لا يرجى زواله كما قيده بذلك ابن همام. وغيره ـ وعليه أكثر الشافعية ـ وقال الأقلون منهم ـ كالإمام ومن تبعه ـ وصححه في الروضة : يعتبر دوامه في ظنه مدة شهرين بالعادة الغالبة في مثله أو بقول الأطباء ، قال ابن حجر : ويظهر الاكتفاء بقول عدل منهم ، وصرح الشافعية بأن من تلحقه بالصيام أو تتابعه مشقة شديدة لا تحتمل عادة وإن لم تبح التيمم فيما يظهر غير مستطيع ، وكذا من خاف زيادة مرض ، وفي حديث أوس على ما ذكر أبو حيان أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال : «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فقال : والله يا رسول الله إني إذا لم آكل في اليوم والليلة ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تعشو عيني» الخبر ، وعدّوا من أسباب عدم الاستطاعة الشبق وهو شدة الغلمة.

واستدل له بما أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم عن سلمة ابن صخر قال : كنت رجلا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا من أن أصيب منها في ليلي فأتتابع في ذلك ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها ـ إلى أن قال ـ فخرجت فأتيت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فأخبرته بخبري فقال : «أنت بذاك؟ قلت : أنا بذاك؟ فقال : أنت بذاك؟ قلت : أنا بذاك وها أنا ذا فامض في حكم الله تعالى فإني صابر لذلك قال : أعتق رقبة فضربت صفحة عنقي بيدي فقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها ، قال : فصم شهرين متتابعين ، فقلت : وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام ، قال : فأطعم ستين مسكينا» الحديث فإنه أشار بقوله : «وهل أصابني» إلخ إلى شدة شبقه الذي لا يستطيع معه صيام شهرين متتابعين ، وإنما لم يكن عذرا في صوم رمضان قال ابن حجر : لأنه لا بدل له ، وذكر أن غلبة الجوع ليست عذرا ابتداء لفقده حينئذ فيلزمه الشروع في الصيام فإذا عجز عنه أفطر وانتقل عنه للإطعام بخلاف الشبق لوجوده عند الشروع فيدخل صاحبه في عموم قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ).

(فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير ، ودقيق كل كأصله ، وكذا السويق ، وذلك لأخبار ذكرها ابن الهمام في فتح القدير ، والصاع أربعة أمداد.

وقال الشافعية : لكل مسكين مدّ لأنه صح في رواية ، وصح في الأخرى صاع ، وهي محمولة على بيان الجواز

٢١٠

الصادق بالندب لتعذر النسخ (١) فتعين الجمع بما ذكر مما يكون فطرة بأن يكون من غالب قوت محل المكفر في غالب السنة كالأقط ـ ولو للبلدي ـ فلا يجزئ نحو دقيق مما لا يجزي في الفطرة عندهم ، ومذهب مالك كما قال أبو حيان مدّ وثلث بالمدّ النبوي ، وروى عنه ابن وهب مدّان.

وقيل : مدّ وثلثا مدّ ، وقيل : ما يشبع من غير تحديد ، ولا فرق بين التمليك والإباحة عندنا فإن غدى الستين وعشاهم أو غدّاهم مرتين أو عشاهم كذلك أو غداهم وسحرهم أو سحرهم مرتين وأشبعهم بخبز بر أو شعير أو نحوه كذرة بإدام أجزأه ، وإن لم يبلغ ما شبعوا به المقدار المعتبر في التمليك ، ويعتبر اتحاد الستين فلو غدّى مثلا ستين مسكينا وعشى ستين غيرهم لم يجز إلا أن يعيد على إحدى الطائفتين غداء أو عشاء ، ولو أطعم مائة وعشرين مسكينا في يوم واحد أكلة واحدة مشبعة لم يجز إلا عن نصف الإطعام فإن أعاده على ستين منهم أجزاه ، واشترط الشافعية التمليك اعتبارا بالزكاة وصدقة الفطر ، وهذا لأن التمليك أدفع للحاجة فلا ينوب منابه الإباحة ، ونحن نقول : المنصوص عليه هنا هو الإطعام وهو حقيقة من التمكين من الطعم ، وفي الإباحة ذلك كما في التمليك ، وفي الزكاة الإيتاء ، وفي صدقة الفطر الأداء ، وهما للتمليك حقيقة ـ كذا في الهداية ـ قال العلامة ابن الهمام : لا يقال : اتفقوا على جواز التمليك فلو كان حقيقة الإطعام ما ذكر كان مشتركا معمما أو فى حقيقته ومجازه لأنا نقول : جواز التمليك عندنا بدلالة النص ، والدلالة لا تمنع العمل بالحقيقة كما في حرمة الشتم والضرب مع التأفيف فكذا هذا فلما نص على دفع حاجة الأكل فالتمليك الذي هو سبب لدفع كل الحاجات التي من جملتها الأكل أجوز فإنه حينئذ دافع لحاجة الأكل وغيره ، وذكر الواني أن الإطعام جعل الغير طاعما أي آكلا لأن حقيقة طعمت الطعام أكلته ، والهمزة تعدية إلى المفعول الثاني أي جعلته آكلا ، وأما نحو أطعمتك هذا الطعام فيكون هبة وتمليكا بقرينة الحال ، قالوا : والضابط أنه إذا ذكر المفعول الثاني فهو للتمليك وإلا فللإباحة ، هذا والمذكور في كتب اللغة أن الإطعام إعطاء الطعام وهو أعم من أن يكون تمليكا أو إباحة انتهى فلا تغفل.

ويجوز الجمع بين الإباحة والتمليك لبعض المساكين دون البعض كما إذا ملك ثلاثين وأطعم ثلاثين غداء وعشاء وكذا لرجل واحد في إحدى روايتين كأن غداه مثلا وأعطاه مدّا وإن أعطى مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه وإن أعطاه في يوم واحد لم يجزه إلا عن يومه لأن المقصود سدّ خلة المحتاج ، والحاجة تتجدد في كل يوم ، فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إليه في غيره ، وهذا في الإباحة من غير خلاف ، وأما التمليك من مسكين واحد بدفعات فقد قيل : لا يجزيه ، وقيل : يجزيه لأن الحاجة إلى التمليك قد تتجدد في يوم واحد بخلاف ما إذا دفع بدفعة لأن التفريق واجب بالنص ، وخالف الشافعية ، فقالوا : لا بد من الدفع إلى ستين مسكينا حقيقة فلا يجزئ الدفع لواحد في ستين يوما ، وهو مذهب مالك ، والصحيح من مذهب أحمد ـ وبه أكثر العلماء ـ لأنه تعالى نص على ستين مسكينا ، ويتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين فكان التعليل بأن المقصود سدّ خلة المحتاج إلخ مبطلا لمقتضى النص فلا يجوز ، وأصحابنا أشدّ موافقة لهذا الأصل ، ولذا قالوا : لا يجزي الدفع لمسكين واحد وظيفة ستين بدفعة واحدة معللين له بأن التفريق واجب بالنص مع أن تفريق الدفع غير مصرح به ، وإنما هو مدلول التزامي لعدد المساكين فالنص على العدد أولى لأنه المستلزم ، وغاية ما يعطيه كلامهم أنه بتكرر الحاجة يتكرر المسكين حكما فكان تعددا حكما ، وتمامه موقوف على أن ستين مسكينا في الآية مراد به الأعم من الستين حقيقة أو حكما.

__________________

(١) قوله : لتعذر النسخ فيه تأمل انتهى منه.

٢١١

ولا يخفى أنه مجاز فلا مصير إليه بموجبه ، فإن قلت : المعنى الذي باعتباره يصير اللفظ مجازا ويندرج فيه التعدد الحكمي ما هو؟ قلت : هو الحاجة فيكون ستين مسكينا مجازا عن ستين حاجة ، وهو أعم من كونها حاجات ستين أو حاجات واحد إذا تحقق تكررها إلا أن الظاهر إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين مع عقلية أن العدد مما يقصد لما في تعميم الجميع من بركة الجماعة وشمول المنفعة واجتماع القلوب على المحبة والدعاء ـ قاله في فتح القدير ـ وهو كلام متين يظهر منه ترجيح مذهب الجمهور ، وذهب الأصحاب إلى أنه لا يشترط اتحاد نوع المدفوع لكل من المساكين فلو دفع لواحد بعضا من الحنطة وبعضا من الشعير مثلا جاز إذا كان المجموع قدر الواجب كأن دفع ربع صاع من بر ونصف صاع من شعير ، وجاز نحو هذا التكميل لاتحاد المقصود ـ وهو الإطعام ـ ولا يجوز دفع قيمة القدر الواجب من منصوص عليه ، وهو البر والشعير ودقيق كلّ وسويقه والزبيب والتمر إذا كانت من منصوص عليه آخر إلا أن يبلغ المدفوع الكمية المقدرة شرعا فلو دفع نصف صاع تمر يبلغ قيمة نصف صاع بر لا يجوز ، فالواجب عليه أن يتم للذين أعطاهم القدر المقدر من ذلك الجنس الذي دفعه إليهم فإن لم يجدهم بأعيانهم استأنف في غيرهم ، ومن غير المنصوص كالأرز والعدس يجوز كما إذا دفع ربع صاع من أرز يساوي قيمة نصف صاع من بر مثلا ، وذلك لأنه لا اعتبار لمعنى النص في المنصوص عليه وإنما الاعتبار في غير المنصوص عليه ، ونقل في ذلك خلاف الشافعي رحمه‌الله تعالى فلا يجوز دفع القيمة عنده مطلقا ، ولا يجوز في الكفارة إعطاء المسكين أقل من نصف صاع من البر مثلا فقط ، ففي التاتارخانية لو أعطى ستين مسكينا كل مسكين مدّا من الحنطة لم يجز ، وعليه أن يعيد مدّا آخر على كل فإن لم يجد الأولين فأعطى ستين آخرين كلا مدّا لم يجز ، ولو أعطى كلا من المساكين مدّا ثم استغنوا ثم افتقروا فأعاد على كل مدّا لم يجز ، وكذا لو أعطى المكاتبين مدّا مدّا ثم ردوا إلى الرق ومواليهم أغنياء ثم كوتبوا ثانيا ثم أعاد عليهم لم يجز لأنهم صاروا بحال لا يجوز دفع الكفارة إليهم فصاروا كجنس آخر ، وعليه فالمراد ـ بستين مسكينا ـ ستون مسكينا لم يعرض لهم في أثناء الإطعام ما ينافي ذلك ، والظاهر أن فاعل إطعام هو المظاهر الغير المستطيع للصيام ، ولا فرق بين أن يباشر ذلك أو يأمر به غيره ، فإن أمر غيره فأطعم أجزاه لأنه استقراض معنى ، فالفقير قابض له أولا ثم يتحقق تملكه ثم تمليكه ، والمراد بالمسكين ما يعم الفقير ، وقد قالوا : المسكين والفقير إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ، ويشترط أن لا يكون المطعم أصله أو فرعه أو زوجته أو مملوكه أو هاشميا لمزيد شرفه فيجل عن هذه الغسالة ، ولا حربيا ولو مستأمنا لمزيد خسته فليس أهلا لأدنى منفعة ، ويجوز أن يكون ذميا ولو دفع بتحرّ فبان أنه ليس بمصرف أجزاه عندهما خلافا لأبي يوسف كما في البدائع.

واستنبط الشافعية من التعبير بعدم الوجود عند الانتقال إلى الصوم ، وبعدم الاستطاعة عند الانتقال إلى الإطعام أنه لو كان له مال غائب ينتظره ولا يصوم ولو كان مريضا يرجى برؤه يطعم ولا ينتظر الصحة ليصوم ، وهو موافق لمذهبنا في الصوم لا في الإطعام كما سمعت ، ثم هذا الحكم في الأحرار أما العبد فلا يجوز له إلا الصوم لأنه لا يملك وإن ملك والإعتاق والإطعام شرطهما الملك فإن أعتق عنه المولى أو أطعم لم يجز ولو بأمره ، ويجب تقديم الإطعام على المسيس فإن قرب المظاهر المظاهرة في خلاله إثم ولم يستأنف لأنه عزوجل ما شرط أن يكون قبل المسيس كما شرط فيما قبل ، ونحن لا نحمل المطلق على المقيد وإن كانا في حادثة واحدة بعد أن يكونا حكمين ، والوجوب قيل : لم يثبت إلا لتوهم وقوع الكفارة بعد التماس بيانه أنه لو قدر على العتق أو الصيام في خلال الإطعام أو قبله يلزمه التكفير بالمقدور عليه فلو جوز للعاجز عنهما القربان قبل الإطعام ، ثم اتفق قدرته فلزم التكفير به لزم أن يقع العتق بعد التماس ، والمفضي إلى الممتنع ممتنع.

٢١٢

وتعقب بأن فيه نظرا فإن القدرة حال قيام العجز بالفقر والكبر والمرض الذي لا يرجى زواله أمر موهوم ، وباعتبار الأمور الموهومة لا تثبت الأحكام ابتداء بل يثبت الاستحباب ورعا فالأولى الاستدلال على حرمة المسيس قبل الإطعام لمن يتعين كفارة له بما ورد من حديث «اعتزلها حتى تكفر» ونحوه ، وما ذكر من أنه لو قدر على العتق مثلا خلال الإطعام لزم التكفير به خالف فيه الشافعية.

قال ابن حجر عليه الرحمة : لا أثر لقدرته على صوم أو عتق بعد الإطعام ولو لمدّ كما لو شرع في صوم يوم من الشهرين فقدر على العتق ، وأجاز بعض المسيس في خلال الإطعام من غير إثم ، ونقل ذلك عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وهو توهم نشأ من عدم إيجابه الاستئناف ، وقد صرح في الكشاف بأنه لا فرق عند أبي حنيفة بين الكفارات الثلاث في وجوب تقديمها على المساس وإن ترك ذكره عند الإطعام للدلالة على أنه إذا وجد في خلال الإطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم.

وجعل بعضهم ذكر القيد فيما قبل وتركه في الإطعام دليلا لأبي حنيفة في قوله : بعدم الاستئناف أي مع الإثم.

وتعقبه ابن المنير في الانتصاف بأن لقائل أن يقول لأبي حنيفة : إذا جعلت الفائدة في ذكر عدم التماس في بعضها وإسقاطه من بعضها الفرق بين أنواعها فلم جعلته مؤثرا في أحد الحكمين دون الآخر؟ وهل التخصيص إلا نوع من التحكم؟ ثم قال : وله أن يقول : اتفقنا على التسوية بين الثلاث في هذا الحكم أعني حرمة المساس قبل التكفير ، وقد نطقت الآية بالتفرقة فلم يمكن صرفها إلى ما وقع الاتفاق على التسوية فيه فتعين صرفه إلى الآخر ، هذا منتهى النظر مع أبي حنيفة ؛ وأطال الكلام في هذا المقام بما لا يخلو عن بحث على أصول الإمام.

وإذا عجز المظاهر عن الجميع قال الشافعية : استقرت في ذمته فإذا قدر على خصلة فعلها ولا أثر لقدرته على بعض عتق أو صوم بخلاف بعض الطعام ولو بعض ما يجب لواحد من المساكين فيخرجه ، ثم الباقي إذا أيسر ، والظاهر بقاء حرمة المسيس إلى أن يؤدي الكفارة تماما ولم يبال بإضرار المرأة بذلك لأن الإيسار مترقب كزوال المرض المانع من الجماع ، ولم أراجع حكم المسألة في الظهار عند الحنفية ، وأما في الجماع في نهار رمضان الموجب للكفارة فقد قال ابن الهمام بعد نقل حديث الأعرابي الواقع على امرأته فيه العاجز عن الخصال الثلاثة ، وفيه : «فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال : تصدق به ، فقال : أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فو الله ما بين لابتيها أفقر مني ولا أهل بيت أفقر من أهل بيتي ، فضحك صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال : خذه فأطعمه أهلك» في لفظ لأبي داود ـ زاد الزهري ـ وإنما كان هذا رخصة له خاصة ، ولو أن رجلا فعل ذلك اليوم لم يكن له بدّ من التكفير ، وجمهور العلماء على قوله ، وذكر النووي في شرح صحيح مسلم أن للشافعي في هذا العاجز قولين : أحدهما لا شيء عليه ـ واحتج له بحديث الأعرابي المذكور لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقل له : إن الكفارة ثابته في ذمته بل أذن له في إطعام عياله ـ والثاني ـ وهو الصحيح عند أصحابنا وهو المختار ـ أن الكفارة لا تسقط بل تستقر في ذمته حتى يتمكن قياسا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات كجزاء الصيد وغيره ، وأما الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة بل فيه دليل لاستقرارها لأنه أخبر النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم بالعجز عن الخصال ثم أتى عليه الصلاة والسلام بعرق التمر فأمره بإخراجه في الكفارة فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شيء فلم يأمره بالإخراج فدل على ثبوتها في ذمته ، وإنما أذن له في إطعام عياله لأنه محتاج إلى الانفاق عليهم في الحال والكفارة واجبة على التراخي ، وإنما لم يبين عليه الصلاة والسلام بقاءها في ذمته لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند جماهير الأصوليين فهذا هو الصواب في معنى الحديث ، وحكم المسألة وفيها أقوال وتأويلات أخر ضعيفة انتهى.

٢١٣

ومن الناس من قال : لم يكن هناك تأخير بيان وإنما اكتفى صلّى الله تعالى عليه وسلم بفهم الأعرابي عن التصريح له بالاستقرار ، والأخبار في وقوع مثل ذلك للمظاهر مضطربة كما لا يخفى على من راجع الدر المنثور للسيوطي.

ومسائل الظهار كثيرة والمذاهب في ذلك مختلفة ، ومن أراد كمال الاطلاع فليرجع إلى كتب الفروع ، ولو لا التأسي ببعض الأجلة لما ذكرنا شيئا منها ، ومع هذا لا يخلو أكثره عن تعلق بتفسير الآية والله تعالى أعلم.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما مر من البيان والتعليم ، ومحله إما الرفع على الابتداء أو النصب بمضمر معلل بما بعده أي ذلك واقع أو فعلنا ذلك (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وتعلموا بشرائعه التي شرعها لكم وترفضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم (وَتِلْكَ) الأحكام المذكورة (حُدُودُ اللهِ) التي لا يجوز تعديها فالزموها وقفوا عندها (وَلِلْكافِرِينَ) أي الذين يتعدونها ولا يعملون بها (عَذابٌ أَلِيمٌ) على كفرهم وأطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظا لزجره ، ونظير ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧].

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي يعادونهما ويشاقونهما لأن كلا من المتعاديين في حدّ وجهة غير حدّ الآخر وجهته كما أن كلا منهما في عدوة وشق غير عدوة الآخر وشقه ، وقيل : إطلاق ذلك على المتعاديين باعتبار استعمال الحديد لكثرة ما يقع بينهما في المحاربة بالحديد كالسيوف والنصال وغيرها والأول أظهر وفي ذكر المحادّة في أثناء ذكر حدود الله تعالى دون المعاداة والمشاقة حسن موقع جاوز الحد ، وقال ناصر الدين البيضاوي : أو يضعون أو يختارون حدودا غير حدود الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم ومناسبته لما قبله في غاية الظهور.

قال المولى شيخ الإسلام سعد الله جبلي : وعلى هذا ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أمورا خلاف ما حده الشرع وسموها اليسا والقانون (١) ، والله تعالى المستعان على ما يصفون اه ، وقال شهاب الدين الخفاجي بعد نقله : وقد صنف العارف بالله الشيخ بهاء الدين قدس الله تعالى روحه رسالة في كفر من يقول : يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما ، وقد قال الله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا يقبل التكميل ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ، ولكن أين من يعقل؟! انتهى.

وليتني رأيت هذه الرسالة ووقفت على ما فيها فإن إطلاق القول بالكفر مشكل عندي فتأمل ، ثم إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية (٢) وإذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحل والعقد على وجه يحسن

__________________

(١) قوله : اليسا هو بياء مثناة تحتية وسين مهملة وضع قانون للمعاملة ، ويقال : يسق لفظ غير عربي كذا قاله الشهاب ، ورأيت في بعض كتب اللغة التركية أن يصاق بفتح الياء والصاد المهملة بعدها ألف بعدها قاف معناه المنع اه منه.

(٢) أرسل إلينا الفاضل الأديب الأستاذ الشيخ محمد بهجة الأثري مقالة تتعلق بالقوانين السياسية ، وأخبرنا أنه وجدها بهامش نسخة الأصل المخطوطة بخط أحد تلاميذ المؤلف رحمه‌الله تعالى فوضعناها في مكانها إتماما للفائدة.

يقول محمد بهجة الأثري البغدادي :

قوله : ثم إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية ـ إلى قوله ـ كما لا يخفى على العارف النبيه ليس للمؤلف وإنما وجدته ـ

٢١٤

__________________

ـ على هامش الأصل بخط أحد تلاميذه وقد كتبه عوضا عن بحث نفيس لصاحب التفسير في «القانون والشرع» لم تسمح السلطة الغاشمة بنشره وإليك نص ذلك نقلا عن خطه ، قال : وليتني رأيت هذه الرسالة ووقفت على ما فيها فإن إطلاق القول بالكفر مشكل عندي.

نعم لا شك في كفر من يستحسن القانون ويفضله على الشرع ويقول : هو أوفق بالحكمة وأصلح للأمة ، ويتميز غيظا ويتقصف غضبا إذا قيل له في أمر : أمر الشرع فيه كذا كما شاهدنا ذلك في بعض من خذلهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ، وهذا القانون الذي ذكروه قد نقصت منه اليوم أمور وزيدت فيه أمور وسمي بالأصول ، وألفت فيها رسائل وطبعت ونشرت وفرقت وألزم العمل بما حوتها كل أمير ومأمور وعقدت مجالس الشورى عليها ، ورجع في أحكام الأحكام إليها ومن خالفها نكل تنكيلا ، وربما حبس حبسا طويلا ، وكم قد قال لي بعض الولاة : إياك أن تقول في مجلسنا : المسألة شرعا كذا ، وقد أصابني منه عامله الله بعدله لعدولي عن قوله مزيد الأذى ، واتفق أن قال لي بعض خاصته يوما : أرى ثلثي الشرع شرا ، فقلت له ـ وإن كنت عالما أن في أذنيه وقرا. : نعم ظهر الشر لما أذهبتم من الشرع العين ، ولم تأخذوا من اسمه سوى حرفين ؛ فتأمل العبارة وتغير وجهه لما فهم الاشارة ، والذي ينبغي أن يقال في ذلك : إن ما يرجع من تلك الأصول إلى ما يتعلق بسوق الجيوش وتعبئتهم وتعليمهم ما يلزم في الحرب مما يغلب على الظن الغلبة به على الكفرة وما يتعلق بأحكام المدن والقلاع ونحو ذلك لا بأس في أكثره على ما نعلم ، وكذا ما يتعلق بجزاء ذوي الجنايات التي لم يرد فيها عن الشارع حد مخصوص بل فرض التأديب عليها إلى رأي الإمام كأنواع التعازير ، وللإمام أن يستوفي ذلك وإن عفا المجني عليه لأن الساقط به حق الآدمي والذي يستوفيه الإمام حق الله تعالى للمصلحة كما نص على ذلك العلامة ابن حجر في شرح المنهاج ، والقواعد لا تأباه ، نعم ينبغي أن يجتنب في ذلك الإفراط والتفريط ، وقد شاهدنا في العراق مما يسمونه «جزاء» ما القتل أهون منه بكثير. ومثل ذلك ظلم عظيم وتعد كبير.

وأما ما يتعلق بالحدود الإلهية كقطع السارق. ورجم الزاني المحصن. وما فصل في حق قطاع الطريق من قطع الأيدي والأرجل من خلاف وغيره مما فصل في آيتهم ـ إلى غير ذلك ـ فظاهر أمره دخوله في حكم الآية هنا على ما ذكره البيضاوي.

وأما ما يتعلق بالمعاملات والعقود فإن كان موافقا لما ورد عن الشارع فيها من الصحة وعدمها سميناه «شرعا» ولا نسميه «قانونا» و «أصولا» وإن لم يكن موافقا لذلك كالحكم في إعطاء الربا مثلا المسمى عندهم ـ بالكرشته ـ لزعم أنه تتعطل مصالح الناس لو لم يحكم بذلك فهو حكم بغير ما أنزل الله عزوجل.

وأما ما يتعلق بحق بيت المال في الأراضي فما كان موافقا لعمل النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وخلفائه الراشدين فذاك وما كان مخالفا لعمل الخلفاء الصادر منهم باجتهاد فإن كانت مخالفته إلى ما هو أسهل وأنفع للناس فنظرا إلى زمانهم فهو مما لا بأس فيه ، وإن كانت مخالفته إلى ما هو أشق ففيه بأس ، ولا يجري هذا التفصيل فيما وصفه رسول الله عليه الصلاة والسلام كالعشر في بعض الأراضي التي فتحت في زمنه الشريف صلّى الله تعالى عليه وسلم فإنه لا تجوز المخالفة فيه أصلا على ما ذكره أبو يوسف في كتاب الخراج وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة بحسب الظاهر بأن لم يكن منصوصا عليه كان يندرج في العمومات المنصوص عليها في أمر الاراضي فذاك وإلا فقبوله ورده باعتبار المدخول في العمومات الواردة في الحظر والإباحة فإن دخل في عمومات الإباحة قبل وإن في عمومات الحظر رد ، وأمر تكفير العامل بالأصول المذكورة خطر فلا ينبغي إطلاق القول فيه ، نعم لا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بين المخالفة للشرع منها ويقدمه على الأحكام الشرعية متنقصا لها به ، ولقد سمعت بعض خاصة أتباع بعض الولاة يقول : وإن تلك الأحكام أصول وقوانين سياسية كانت حسنة في الأزمنة المتقدمة لما كان أكثر الناس بلها ، وأما اليوم فلا يستقيم أمر السياسة بها والأصول الجديدة أحسن وأوفق للعقل منها ، ويقول كلما ذكرها : الأصول المستحسنة. وكان يرشح كلامه بنفي رسالة النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وكذا رسالة الأنبياء عليهم‌السلام قبله ، ويزعم أنهم كانوا حكماء في أوقاتهم توصلوا إلى أغراضهم بوضع ما ادعوا فيه أنه وحي من الله تعالى ، فهذا وأمثاله مما لا شك في كفره وفي كفر من يدعي للمرافعة عند القاضي فيأبى إلا المرافعة بمقتضى تلك الأصول عند أهل تلك الأصول راضيا بما يقضون به عليه تردد وإنما لم يجزم بكفره مع قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا

٢١٥

به الانتظام ويصلح أمر الخاص والعام ، ومنها تعيين مراتب التأديب والزجر على معاص وجنايات لم ينص الشارع فيها على حد معين بل فوض الأمر في ذلك لرأي الإمام فليس ذلك في المحادّة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شيء بل فيه استيفاء حقه تعالى على أتم وجه لما فيه من الزجر عن المعاصي وهو أمر مهم للشارع عليه الصلاة والسلام. ويرشد إليه ما في تحفة المحتاج أن للإمام أن يستوفي التعزير إذا عفى صاحب الحق لأن الساقط بالعفو هو حق الآدمي ، والذي يستوفيه الامام هو حق الله تعالى للمصلحة ، وفي كتاب الخراج للإمام أبي يوسف عليه الرحمة إشارة إلى ذلك أيضا ؛ ولا يعكر على ذلك ونحوه قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] لأن المراد إكماله من حيث تضمنه ما يدل على حكمه تعالى خصوصا أو عموما ، ويرشد إلى هذا عدم النكير على أحد من المجتهدين إذا قال بشيء لم يكن منصوصا عليه بخصوصه ، ومن ذلك ما ثبت بالقياس بأقسامه ، نعم القانون الذي يكون وراء ذلك بأن كان مصادقا لما نطقت به الشريعة الغراء زائغا عن سنن المحجة البيضاء فيه ما فيه كما لا يخفى على العارف النبيه ، وقد يقال في الآية على المعنى الذي ذكره البيضاوي : إن المراد بالموصول الواضعون لحدود الكفر وقوانينه كأئمة الكفر أو المختارون لها العاملون بها كأتباعهم ، ثم إن الآية ـ على ما في البحر ـ نزلت في كفار قريش (كُبِتُوا) أي أخزوا كما قال قتادة ، أو غيظوا كما قال الفراء أو ردّوا مخذولين ـ كما قال ابن زيد ـ أو أهلكوا كما قال أبو عبيدة والأخفش.

وعن أبي عبيدة أن تاءه بدل من الدال ، والأصل ـ كبدوا ـ أي أصابهم داء في أكبادهم وقال السدي : لعنوا ، وقيل : الكبت الكب وهو الإلقاء على الوجه ، وفسره الراغب هنا بالرد بعنف وتذليل ، وذلك إشارة عند الأكثرين إلى ما كان يوم الخندق ، وقيل : إلى ما كان يوم بدر ، وقيل : معنى (كُبِتُوا) سيكبتون على طريقة قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] وهو بشارة للمؤمنين بالنصر على الكفار وتحقق كبتهم.

(كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من كفار الأمم الماضية المحادّين لله عزوجل ورسله عليهم الصلاة والسلام (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) حال من واو (كُبِتُوا) أي كبتوا لمحادّتهم ، والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حادّ الله تعالى ورسوله من قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم ، وقيل : آيات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به (وَلِلْكافِرِينَ) أي بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به فتدخل فيه تلك الآيات دخولا أوليا (عَذابٌ مُهِينٌ) يذهب بعزهم وكبرهم (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) منصوب بما تعلق به اللام من الاستقرار ، أو ـ بمهين ـ أو بإضمار اذكر أي

__________________

تَسْلِيماً) لأن حكم أكثر القضاة مخالف لحكم الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أكثر المسائل ، والبلية العظمى انهم يسمون ذلك شرعا ومع ذلك يأخذون عليه ما يأخذون من المال ظلما فلمن لم يرض بالمرافعة عند هؤلاء القضاة العجزة ويرضى بالمرافعة عند أهل الأصول عذر لذلك.

ولقد سمعت في كثير أن أحد أسباب وضع الأصول الجديدة هؤلاء القضاة الظلمة حيث اتبعوا الهوى وحكموا بغير ما أنزل المولى جل وعلا ولم يمكن خلاص الشريعة من أيديهم وتطهير المحاكم من أرجاسهم لملاحظات مقبولة أو غير مقبولة فوضعوا ما يهون به في زعم الواضع شرهم ويهن به أمرهم ثم إن باطل أولئك القضاة لا قاعدة له فيتلون تلون الحرباء لأنه تابع لهوى الأنفس وتفاوت الرشا أمور أخرى وباطل غيرهم له قاعدة ما في الأغلب.

وقصارى الكلام أن ما خالف الشرع مردود كائنا ما كان ولا فرق في ذلك بين ما عليه أكثر القضاة اليوم بين الأصول المخالفة :

فإن لا يكنها أو تكنه فإنه

أخوها غذته أمه بلبانها

وإلى الله تعالى المشتكى ، وهو عزوجل حسبنا وكفى. انتهى كلامه.

٢١٦

اذكر ذلك اليوم تعظيما له وتهويلا ، وقيل منصوب بيكون مضمرا على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب هؤلاء؟ فقيل له : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ) أي يكون يوم إلخ ، وقيل : بالكافرين وليس بشيء ، وقوله تعالى : (جَمِيعاً) حال جيء به للتأكيد ، والمعنى يبعثهم الله تعالى كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد غير مبعوث ، ويجوز أن يكون حالا غير مؤكدة أي يبعثهم مجتمعين في صعيد واحد (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) من القبائح ببيان صدورها عنهم أو بتصويرها في تلك النشأة بما يليق بها من الصور الهائلة على رءوس الاشهاد تخجيلا لهم وتشهيرا بحالهم وزيادة في خزيهم ونكالهم ، وقوله تعالى : (أَحْصاهُ اللهُ) استئناف وقع جوابا عما نشأ مما قبله من السؤال إما عن كيفية التنبئة أو عن سببها كأنه قيل : كيف ينبئهم بأعمالهم وهي أعراض متقضية متلاشية؟ فقيل : أحصاه الله تعالى عددا ولم يفته سبحانه منه شيء ، وقوله تعالى : (وَنَسُوهُ) حينئذ حال من مفعول ـ أحصى ـ بإضمار قد أو بدونه ، أو قيل : لم ينبئهم بذلك؟ فقيل : أحصاه الله تعالى ونسوه فينبئهم به ليعرفوا أن ما عاينوه من العذاب إنما حاق بهم لأجله ، وفيه مزيد توبيخ وتنديم لهم غير التخجيل والتشهير (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) لا يغيب عنه أمر من الأمور أصلا ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لإحصائه تعالى أعمالهم ، وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) استشهاد على شمول شهادته تعالى أي ألم تعلم أنه عزوجل يعلم ما فيهما من الموجودات سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهما.

وقوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) إلخ استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه تعالى ، و (يَكُونُ) من كان التامة ، و (مِنْ) مزيدة ، و (نَجْوى) فاعل وهي مصدر بمعنى التناجي وهو المسارّة مأخوذة من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض لأن المتسارين يخلوان وحدهما بنجوة من الأرض ، أو لأن السر يصان فكأنه رفع من حضيض الظهور إلى أوج الخفاء ، وقيل : أصل ناجيته من النجاة وهو أن تعاونه على ما فيه خلاصة أو أن تنجو بسرك من أن يطلع عليه وهي مضافة إلى (ثَلاثَةٍ) أي ما يقع من تناجي ثلاثة نفر وقد يقدر مضاف أي من ذوي نجوى ، أو يؤول نجوى بمتناجين ـ فثلاثة ـ صفة للمضاف المقدر ، أو لنجوى المؤوّل بما ذكر.

وجوز أن يكون بدلا أيضا والتأويل والتقدير المذكوران ليتأتى الاستثناء الآتي من غير تكلف ، وفي القاموس النجوى السر والمسارون اسم مصدر ، وظاهره أن استعماله في كل حقيقة فإذا أريد المسارون لم يحتج إلى تقدير أو تأويل لكن قال الراغب : إن النجوى أصله المصدر كما في الآيات بعد ، وقد يوصف به فيقال : هو نجوى ، وهم نجوى ، قال تعالى : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) [الإسراء : ٤٧] وعليه يحتمل أن يكون من باب زيد عدل.

وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وشيبة ـ ما تكون ـ بالتاء الفوقية لتأنيث الفاعل ، والقراءة بالياء التحتية قال الزمخشري : على أن النجوى تأنيثها غير حقيقي ، و (مِنْ) فاصلة أو على أن المعنى ما يكون شيء من النجوى ، واختار في الكشف الثاني ، فقال : هو الوجه لأن المؤنث وحده لم يجعل فاعلا لفظا لوجود (مِنْ) ولا معنى لأن المعنى شيء منها ، فالتذكير هو الوجه لفظا ومعنى ، وهو قراءة العامة انتهى ، وإلى نحوه يشير كلام صاحب اللوامح ، وصرح بأن الأكثر في هذا الباب التذكير ، وتعقبه أبو حيان بالمنع وأن الأكثر التأنيث وأنه القياس قال تعالى : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) [الأنعام : ٤] (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) [الحجر : ٥ ، المؤمنون : ٤٣] فتأمل ، وقوله سبحانه : (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، والرابع لإضافته إلى غير مماثله هنا بمعنى الجاعل المصير لهم أربعة أي ما يكونون في حال من الأحوال إلا في حال تصيير الله تعالى لهم أربعة حيث إنه عزوجل يطلع أيضا على نجواهم ، وكذا قوله تعالى : (وَلا خَمْسَةٍ) أي ولا نجوى خمسة (إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى) أي ولا نجوى أدنى (مِنْ ذلِكَ) أي مما ذكر كالاثنين والأربعة (وَلا أَكْثَرَ) كالستة وما فوقها.

٢١٧

(إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) يعلم ما يجري بينهم (أَيْنَ ما كانُوا) من الأماكن ، ولو كانوا في بطن الأرض فإن علمه تعالى بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة قربا وبعدا ، وفي الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة ، وجهان : أحدهما أن قوما من المنافقين تخلفوا للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة ، فقيل : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون كذلك ولا أدنى من عددهم ولا أكثر إلا والله تعالى معهم يعلم ما يقولون. فالآية تعريض بالواقع على هذا ، وقد روي عن ابن عباس أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوما يتحدثون فقال أحدهم : أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر : يعلم بعضا ولا يعلم بعضا ، وقال الثالث : إن كان يعلم بعضا فهو يعلمه كله أي لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها لأن كونه عالما بغير سبب ثابت له مع كل معلوم ، والثاني أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والجالسين في خلوة للشورى والمنتدبون لذلك إنما هم طائفة مجتباة من أولي الأحلام والنهى ، وأول عددهم الاثنان فصاعدا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال ، وحكم به الاستصواب ، فذكر عزوجل الثلاثة والخمسة ، وقال سبحانه : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) فدل على الاثنين والأربعة ، قال تعالى : (وَلا أَكْثَرَ) فدل على ما يلي هذا العدد ويقاربه كذا في الكشاف.

وفي الكشف في خلاصة الوجه الثاني أنه خص العددان على المعتاد من عدد أهل النجوى فإنهم قليلو العدد غالبا فلزم أن يخص بالذكر نحو الثلاثة والأربعة إلى الثمانية والتسعة فأوثر الثلاثة ليكون قوله تعالى : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) دالا على ما تحتها إذ لو أوثر الأربعة والستة مثلا كان الأدنى الثلاثة دون الاثنين إلا على التوسع ولما أوثرت جيء بالخمسة لتناسب الوترين وكان الأمر دائرا بين الثلاثة والخمسة والأربعة والستة فأوثرا بالتصريح لذلك ، ولأنه تعالى وتر يحب الوتر انتهى.

وقد يقال : إن التناجي يكون في الغالب للشورى وهي لا تكون إلا بين عدد وأهلها قليلو العدد غالبا ، والأليق أن يكون وترا من الأعداد كالثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة ليتحقق عند الاختلاف طرف يترجح بالزيادة على الطرف الآخر فيرجع إليه دونه كما هو العادة اليوم عند اختلاف أهل الشورى.

وجعل عمر رضي الله تعالى عنه الشورى في ستة لانحصار الأمر فيهم كما يدل على قوله لهم : نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم ، وقد قبض رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو عنكم راض ، ومع هذا أمر ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنه أن يحضر معهم وإن لم يكن له من أمر الخلافة شيء ، فدار الأمر بعد اعتبار ما ذكر من وترية العدد وقلته بين الثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة فاختيرت الثلاثة لأنها أول الأوتار العددية وإذا ضربت في نفسها حصل منتهاها من الآحاد ولا يخلو منها اعتبار كل ممكن حتى أن المطالب الفكرية للمتناجين مثلا لا تتم بدون ثلاثة أشياء : الموضوع والمحمول والحدّ الأوسط بل القضية التي يتناجى لها لا بد فيها من ثلاثة أجزاء ، والخمسة لأنها عدد دائر لا تنعدم بالضرب في نفسها ، وكذا بضرب الحاصل في نفسه إلى ما لا يتناهى فلها شبه بالثلاثة من حيث إنها دائرة مع مراتب الضرب لا تنعدم أصلا كما أن الثلاثة دائرة مع اعتبارات الممكن لا تنعدم أصلا ، ومع ذلك هي عدد المشاعر التي يحتاج إليها التناجي ، وكذا عدد الحواس الظاهرة ، ويدخل ما عداهما في عموم قوله تعالى : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) ولا يدخل في العموم الواحد لأن التناجي للمشاورة لا بد فيه من اثنين فأكثر ، ومن أدخله لم يعتبر التناجي لها ولا يضر دخول الأشفاع فيه لأن أليقية كون المتناجين وترا إنما كانت نكتة للتصريح بالعددين السابقين ولا تأبى تحقق النجوى في الأشفاع كما لا يخفى.

٢١٨

وادعى ابن سراقة أن النجوى مختصة بما كان بين أكثر من اثنين وأن ما يكون بين اثنين يسمى سرارا ، وقال ابن عيسى : كل سرار نجوى ، وفي الآية لطائف وأسرار لا يعقلها إلا العالمون فليتأمل.

وقرأ ابن أبي عبلة «ثلاثة» و «خمسة» بالنصب على الحال بإضمار يتناجون يدل عليه نجوى ، أو على تأويل نجوى بمتناجين ونصبهما من المستكن فيه ، وفي مصحف عبد الله ـ إلا الله رابعهم ولا أربعة إلا الله خامسهم ولا خمسة إلا الله سادسهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا انتجوا ـ وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حيوة وسلام ويعقوب «ولا أكثر» بالرفع قال الزمخشري : على أنه معطوف على محل ـ لا أدنى ـ كقولك : لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة ، ويجوز أن يعتبر «أدنى» مرفوعا على هذه القراءة ورفعهما على الابتداء ، والجملة التي بعد (إِلَّا) هي الخبر ، أو على العطف على محل (مِنْ نَجْوى) كأنه قيل : ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم ، و (أَكْثَرَ) على قراءة الجمهور يحتمل أن يكون مجرورا بالفتح معطوفا على لفظ (نَجْوى) كأنه قيل : ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم ، وأن يكون مفتوحا لأن (لا) لنفي الجنس ، وقرأ كل من الحسن ويعقوب أيضا ومجاهد والخليل بن أحمد ـ ولا أكبر ـ بالباء الموحدة والرفع وهو على ما سمعت (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) تفضيحا لهم وإظهارا لما يوجب عذابهم.

وقرئ «ينبئهم» بالتخفيف والهمز ، وقرأ زيد بن علي بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء.

(إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لأن نسبة ذاته المقتضي للعلم إلى الكل على السواء ، وقد بدأ الله تعالى في هذه الآيات بالعلم حيث قال سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) إلخ ، وختم جل وعلا بالعلم أيضا حيث قال الله تعالى : (أَنَّ اللهَ) إلخ ، ومن هنا قال معظم السلف فيما ذكر في البين من قوله عزوجل : (رابِعُهُمْ) و (سادِسُهُمْ) و (مَعَهُمْ) أن المراد به كونه تعالى كذلك بحسب العلم مع أنهم الذين لا يؤوّلون ، وكأنهم لم يعدّوا ذلك تأويلا لغاية ظهوره واحتفافه بما يدل عليه دلالة لا خفاء فيها ، ويعلم من هذا أن ما شاع من أن السلف لا يؤولون ليس على إطلاقه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(١٤) أَعَدَّ اللهُ

٢١٩

لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون دون المؤمنين وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم يوهمونهم عن أقاربهم أنهم أصابهم شر فلا يزالون كذلك حتى تقدم أقاربهم فلما كثر ذلك منهم شكا المؤمنون إلى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم فنهاهم أن يتناجوا دون المؤمنين فعادوا لمثل فعلهم ، وقال مجاهد : نزلت في اليهود.

وقال ابن السائب : في المنافقين ، والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام والهمزة للتعجيب من حالهم ، وصيغة المضارع للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة ، وقوله تعالى : (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) عطف عليه داخل في حكمه أي ويتناجون بما هو إثم في نفسه ووبال عليهم وتعدّ على المؤمنين وتواص بمخالفة الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وذكره عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهين ـ وإليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لزيادة تشنيعهم واستعظام معصيتهم.

وقرأ حمزة وطلحة والأعمش ويحيى بن وثاب ودويس ـ وينتجون ـ بنون ساكنة بعد الياء وضم الجيم مضارع انتجى ، وقرأ أبو حيوة ـ العدوان ـ بكسر العين حيث وقع ، وقرئ ـ معصيات ـ بالجمع ونسبت فيما بعد إلى الضحاك (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) صح من رواية البخاري ومسلم وغيرها عن عائشة «أن ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم فقال عليه الصلاة والسلام : وعليكم ، قالت عائشة : وقلت : عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم» وفي رواية «عليكم السام والذام واللعنة ، فقال عليه الصلاة والسلام : يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش ، فقلت : ألا تسمعهم يقولون : السام؟! فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : أو ما سمعت أقول : وعليكم؟! فأنزل الله تعالى (وَإِذا جاؤُكَ)» الآية.

وأخرج أحمد والبيهقي في شعب الإيمان بسند جيد عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم سام عليك يريدون بذلك شتمه ثم يقولون في أنفسهم : لو لا يعذبنا الله بما نقول فنزلت هذه الآية (وَإِذا جاؤُكَ) إلخ ، والسام قال ابن الأثير : المشهور فيه ترك الهمز ويعنون به الموت ،

٢٢٠