روح المعاني - ج ١٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

يلوح به تقديمه على الفعل (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أي وقت إدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح ، وقيل: التسبيح من الليل صلاة المغرب والعشاء ، (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) ركعتا الفجر ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه وعلي كرم الله تعالى وجهه وأبي هريرة والحسن رضي الله تعالى عنهما التسبيح من الليل النوافل : و (إِدْبارَ النُّجُومِ) ركعتا الفجر ، وقرأ سالم بن أبي الجعد والمنهال بن عمرو ويعقوب ـ أدبار ـ بفتح الهمزة جمع دبر بمعنى عقد أي في أعقابها إذا غربت ، أو خفيت بشعاع الشمس.

هذا ونظم الآيات من قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) [الطور : ٣٠] إلى قوله سبحانه : (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) إلخ فيه غرابة ولم أر أحدا كشف عن لثامه كصاحب الكشف جزاه الله تعالى خيرا ، ولغاية حسنه ـ وكونه مما لا مزيد عليه ـ أحببت نقله بحذافيره لكن مع اختصار ما ، فأقول : قال : أومأ الزمخشري إلى وجهين في ذلك في قوله تعالى : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) [الأنبياء : ٥] : أحدهما أنه حكاية قولهم المضطرب على وجهه ، والثاني أنه تدرج منه سبحانه في حكاية ما قالوه من المنكر إلى ما هو أدخل فيه ، والأول ضعيف فيما نحن فيه لأن ما سيق له الكلام ليس اضطراب أقوالهم فتحكى على ما هي عليه بل تسليته عليه الصلاة والسلام وأنه لا محالة ينتقم له منهم وأن العذاب المكذب به واقع بهم جزاء لتكذيبهم بالمنبئ والنبأ والمنبأ به ، فالمتعين هو الثاني ، ووجهه ـ والله تعالى أعلم ـ أن قوله : (فَذَكِّرْ) معناه إذ ثبت كون العذاب واقعا وكون الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيين بأعمالهم ، وإنك على الحق المبين الذي من كذب به استحق الهوان ، ومن صدق استحق الرضوان فدم على التذكير ولا تبال بما تكايد فإنك أنت الغالب حجة وسيفا في هذه الدار ، ومنزلة ورفعة في دار القرار ، ومن قوله تعالى : (فَما أَنْتَ) إلى قوله سبحانه : (هُمُ الْمَكِيدُونَ) تفصيل هذا المجمل مع التعريض بفساد مقالاتهم الحمقاء وأنهم بمرأى من الله تعالى ومسمع فلا محالة ينتقم لنبيه عليه الصلاة والسلام منهم ، وفيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الله تعالى بمكان لا يقادر قدره فهو شدّ من عضد التسلي ، وقوله سبحانه : (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) [الطور : ٢٩] إلخ فيه أن من أنعم عليه بالنبوة يستحيل أن يكون أحد هذين ، وبدأ بقولهم المتناقض لينبه أولا على فساد آرائهم ويجعله دستورا في إعراضهم عن الحق وإيثار اتباع أهوائهم فما أبعد حال من كان أتقنهم رأيا وأرجحهم عقلا وأبينهم آيا منذ ترعرع الى أن بلغ الأشدّ عن الجنون والكهانة على أنهما متناقضان لأن الكهان كانوا عندهم من كامليهم وكان قولهم إماما متبعا عندهم فأين الكهانة من الجنون ، ثم ترقى مضربا إلى قولهم فيه وحاشاه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه شاعر لأنه أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون وقديما قيل : أحسن الشعر أكذبه ليبين حال تلجلجهم واضطرابهم ، وقوله تعالى : (قُلْ تَرَبَّصُوا) [الطور : ٣١] من باب المجازاة بمثل صنيعهم وفيه تتميم للوعيد ، فهذا باب من إنكارهم هدمه سبحانه أولا تلويحا بقوله تعالى : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) وثانيا تصريحا بقوله جل وعلا. (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) [الطور : ٣٢] كأنه قيل دعهم وتلك المقالة وما فيها من الاضطراب ففيها عبرة ، ثم قيل : لا بل ذلك من طغيانهم لأنه أدخل في الذم من نقصان العقل وأبلغ في التسلية لأن من طغى على الله عزوجل فقد باء بغضبه ، ثم أخذ في باب أوغل في الإنكار وهو نسبة الافتراء إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك لأن الافتراء أبعد شيء من حاله لاشتهاره بالصدق على أن كونه افتراء وعجزهم عن الإتيان بأقصر سورة من هذا المفتري متنافيان لدلالته على الصدق على ما مر ـ في الأحقاف ـ ولأن الشاعر لا يتعمد الكذب لذاته ، ثم قد يكون شعره حكما ومواعظ وهو لا ينسب فيه إلى عار ، والتدرج عن الشعر هاهنا عكس التدرج اليه في الأنبياء لأن بناء الكلام هاهنا على التدرج في المناقضة والتوغل في القدح فيه عليه الصلاة والسلام ونفي رسالته ، وهنالك عن القدح في بعض من الذكر متجدد النزول فقيل : إن افتراءه لا

٤١

يبعد ممن هو شاعر ذو افتراءات كثيرة ، وأين هذا من ذاك؟ وللتنبيه على التوغل جيء بصريح حرف الاضراب في الردّ فقيل : (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) [الطور : ٣٣] وعقب بقوله تعالى : (فَلْيَأْتُوا) [الطور : ٣٤] ثم من لا يؤمن أشد إنكارا له من الطاغي كما أن المفتري أدخل في الكذب من الشاعر ، ثم أخذ في أسلوب أبلغ في الرد على مقالاتهم الجنون والكهانة لتقاربهما ، ثم الشعر ، ثم الافتراء حيث نزل القائلين منزلة من يدعي أنه خلق من غير شيء أي مقدر وخالق وإلا لأهمهم البحث عن صفاته وأفعاله فلم ينكروا منك ما أنكروا ، ومن حسب أنه مستغن عن الموجد نسب رسوله إلى الجنون والكهانة لا بل كمن يدعي أنه خالق نفسه فلا خالق له ليبحث عن صفاته فهو ينسبه إلى الشعر إذ لا يرسل إليه البتة ، والشعر أدخل في الكذب لا بل كمن يدعي أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما فهو ينسبه الى الافتراء حيث لم يرسله ، ثم أضرب صريحا عنه بقوله تعالى : (بَلْ لا يُوقِنُونَ) [الطور : ٣٦] ومن لا إيقان له بمثل هذا البديهي لا يبعد أن يزنك بمازن ، فكأنه قيل : مقالتهم تلك تؤدي إلى هذه لا أنهم كانوا قائلين بها إظهارا لتماديهم في العناد ، ثم بولغ فيه فجيء بما يدل على أن الرسول لا بد أن يكون مفتريا غير صالح للنبوة في زعمهم ، فالأول لما لم يمنع تعدد الآلهة إنما يدل على افترائه من حيث إن أحد الخالقين لا يدعو الآخر إلى عبادته ، والثاني يمنعه بالكلية لأنه إذا كان عندهم جميع خزائن ربه وهم ما أرسلوه لزم أن يكون مفتريا البتة ، وأدمج فيه إنكارهم للمعاد ، ونسبتهم إياه صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك أيضا خاصة إلى الافتراء ، والحمل على خزائن القدرة أظهر لأن (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) [الطور : ٤١] إشارة إلى خزائن العلم ولما كان المقصود هنالك أمر البعث على ما سيحقق إن شاء الله تعالى كان هذا القول أيضا من القبول بمكان ولا يخفى ما في قوله تعالى : (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) [الطور : ٣٧] من الترقي ثم لما فرغ من ذلك وبيّن فساد ما بنوا عليه أمر الإنكار بدليل العقل قيل : لم يبق إلا المشاهدة والسماع منه تعالى وهو أظهر استحالة فتهكم بهم ، وقيل : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ) [الطور : ٣٨] وذيل بقوله تعالى : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ) [الطور : ٣٩] إشعارا بأنه من جعل خالقه أدون حالا منه لم يستبعد منه تلك المقالات الخرقاء كأنه سلى صلى الله تعالى عليه وسلم ؛ وقيل : ناهيك بتساوي الطعنين في البطلان وبما يلقون من سوء مغبتهما ، ثم قيل : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) [الطور : ٤٠] أي إن القوم أرباب ألباب وليسوا من تلك الأوصاف في شيء بل الذي زهدهم فيك أنك تسألهم أجرا مالا ، أو جاها ، أو ذكرا ، وفيه تهكم بهم وذم لهم بالحسد واللؤم وأنهم مع قصور نظرهم عن أمر الميعاد لا يبنون الأمر على المتعارف المعتاد إذ لا أحد من أهل الدنيا وذوي الأخطار يجبه الناصح المبرأ ساحته عن لوث الطمع بتلك المقالات على أنه حسد لا موقع له عند ذويه فليسوا في أن يحصل لهم نعمة النبوة ولا هو ممن يطمع في نعمهم إحدى الثلاث ، ثم قيل (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) على معنى بل أعندهم اللوح فيعلمون كل ما هو كائن ويكتبون فيه تلك المعلومات وقد علموا أن ما تدعيه من المعاد ليس من الكائن المكتوب ، والمقصود من هذا نفي المنبأ به أعني البعث على وجه يتضمن دفع النبوة أيضا إدماجا عكس الأول ولهذا أخره عن قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) فقد سلف أن مصب الغرض حديث النبأ والمنبأ والمنبأ به فقضى الوطر من الأولين مع الرمز الى الأخير : ثم أخذ فيه مع الرمز إليهما قضاء لحق الإعجاز ، ففي الغيب إشارة إلى الغيب أعني الساعة أول كل شيء وفيه ترق في الدفع من وجه أيضا لأن العلم أشمل موردا من القدرة ولأن الأول إنكار من حيث إنهم لم يرسلوه ، وهذا من تلك الحيثية ، ومن حيث إنهم ما علموا بإرسال غيره إياه أيضا مع إحاطة علمهم لكنه غير مقصود قصدا أوليا ، ثم ختم الكلام بالإضراب عن الإنكار إلى الأخبار عن حالهم بأنهم يريدون بك كيدا فهم ينصبون لك الحبائل قولا وفعلا لا يقفون على هذا المقالة وحدها وهم المكيدون لا أنت قولا وفعلا وحجة وسيفا ، وحقق ما ضمنه من الوعيد بقوله سبحانه : (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) فينجيهم من كيده وعذابه لا والله سبحان الله عن أن يكون إله غيره ، ومنه يظهر أن حمل الذين كفروا على المريدين به كيدا

٤٢

أظهر في هذا المساق انتهى ، وكأن ما بعد تأكيدا لأمر (١) طغيانهم ومزيد تحقيق للوعيد ومبالغة في التسلية ، ويعلم مما ذكره ـ لا زالت رحمة الله تعالى عليه متصلة ـ أن (أَمْ) في كل ذلك منقطعة وهي مقدرة ببل الإضرابية ، والإضراب هاهنا واقع على سبيل الترقي وبالهمزة وهي للإنكار وهو ما اختاره أبو البقاء وكثير من المفسرين ، وحكى الثعلبي عن الخليل أنها متصلة والمراد بها الاستفهام ، وعليك بما أفاده كلام ذلك الهمام والله تعالى أعلم.

ومما ذكروه من باب الاشارة في بعض الآيات (وَالطُّورِ) إشارة إلى قالب الإنسان (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) إشارة إلى سره (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) إشارة إلى قلبه (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) إشارة إلى روحه (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) إشارة إلى صفته (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) إشارة إلى نفسه المسجورة بنيران الشهوة والغضب والكبر ، وقيل : ـ الطور ـ إشارة إلى ما طار من الأرواح من عالم القدس والملكوت حتى وقع في شباك عالم الملك ـ والكتاب المسطور في الرق المنشور ـ إشارة إلى النقوش الإلهية المدركة بأبصار البصائر القدسية المكتوبة في صحائف الآفاق (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) إشارة إلى قلب المؤمن المعمور بالمعرفة والإخلاص (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) إشارة إلى العالم العلوي المرفوع عن أرض الطبيعة (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) إشارة إلى بحر القدرة المملوء من أنواع المقدورات التي لا تتناهى ، وقيل : إشارة إلى الفضاء الذي فيه الملائكة المهيمون ، ووصفه ـ بالمسجور ـ إما لأنه مملوء منهم ، وإما لأنه سجر بنيران الهيام ولذا لا يعلم أحدهم بسوى الله عزوجل ، وقيل : غير ذلك (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي يخوضون في غمرات البحر اللجى الدنيوي ويلعبون فيها بزبدها الباطل ومتاعها القليل ويكذبون المستخلصين عن الأكدار المتحلين بالأنوار إذ أنذروهم أن المتقين هم أضداد أولئك (فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) وهو عذاب الحجاب (كُلُوا) من ثمرات المعارف المختصة باللطيفة النفسية (وَاشْرَبُوا) من مياه العيون المختصة باللطيفة القلبية (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) أي مقام العبودية (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي عند نزول السكينة عليك (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أي عند ظهور نور شمس الوجه ، وتسبيحة سبحانه عند ذلك بالاحتراز عن إثبات وجود غير وجوده تعالى الحق فإن إثبات ذلك شرك مطلق في ذلك المقام أعاذنا الله تعالى وإياكم من الشرك بحرمة الحبيب عليه الصلاة والسلام.

__________________

(١) هكذا الأصل وصوابه «تأكيد لأمر طغيانهم» برفع تأكيد.

٤٣

سورة النجم

وتسمى أيضا سورة ـ النجم ـ بدون واو وهي «مكية» على الإطلاق ، وفي الإتقان استثنى منها (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) إلى (اتَّقى) [النجم : ٣٢] ، وقيل : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) [النجم : ٣٣] الآيات التسع ، ومن الغريب حكاية الطبرسي عن الحسن أنها مدنية. ولا أرى صحة ذلك عنه أصلا ، وآيها اثنتان وستون آية في الكوفي ، وإحدى وستون في غيره ، وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقراءتها فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون ، وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عنه قال : «أول سورة أنزلت فيها سجدة «والنجم» فسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا» وهو أمية بن خلف ، وفي البحر أنه عليه الصلاة والسلام سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب وقال : يكفي هذا ، فيحتمل أنه وأمية فعلا كذلك ، وهي شديدة المناسبة لما قبلها فإن الطور ختمت بقوله تعالى : (إِدْبارَ النُّجُومِ) [الطور : ٤٩] وافتتحت هذه بقوله سبحانه : «والنجم» وأيضا في مفتتحها ما يؤكد رد الكفرة فيما نسبوه إليه صلى الله تعالى عليه وسلم من التقول والشعر والكهانة والجنون ، وذكر أبو حيان أن سبب نزولها قول المشركين : إن محمدا عليه الصلاة والسلام يختلق القرآن ، وذكر الجلال السيوطي في وجه مناسبتها أن الطور فيها ذكر ذرية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم وهذه فيها ذكر ذرية اليهود في قوله تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) [النجم : ٣٢] الآية فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبري وأبو نعيم في المعرفة والواحدي عن ثابت بن الحارث الأنصاري «قال : كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد فأنزل الله تعالى عند ذلك (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) الآية كلها» وأنه تعالى لما قال هناك في المؤمنين : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور : ٢١] إلخ قال سبحانه هنا في الكفار ، أو في الكبار : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] خلاف ما دخل في المؤمنين الصغار ، ثم قال : وهذا وجه بديع في المناسبة من وادي التضاد ، وفي صحة كون قوله تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) الآية نزل لما ذكر نظر عندي ، وكون قوله تعالى (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) في الصغار لم يتفق عليه المفسرون كما سمعت غير بعيد ، نعم من تأمل ظهر له وجوه من المناسبات غير ما ذكر فتأمل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ

٤٤

شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) أقسم سبحانه بجنس النجم المعروف على ما روي عن الحسن ومعمر بن المثنى ، ومنه قوله :

فباتت تعد النجم في مستحيرة

سريع بأيدي الآكلين جمودها

ومعنى (هَوى) غرب ، وقيل : طلع يقال هوى يهوي كرمى يرمي هويا بالفتح في السقوط والغروب لمشابهته له ؛ وهويا بالضم للعلو ، والطلوع ، وقيل : الهوى بالفتح للإصعاد والهوى بالضم للانحدار ؛ وقيل : الهوى بالفتح والضم للسقوط ويقال أهوى بمعنى هوى ، وفرق بعض اللغويين بينهما بأن هوى إذا انقض لغير صيد ، وأهوى إذا انقض له ، وقال الحسن وأبو حمزة الثمالي : أقسم سبحانه بالنجوم إذا انتثرت في القيامة ، وعن ابن عباس في رواية أقسم عزوجل بالنجوم إذا انقضت في إثر الشياطين ، وقيل : المراد بالنجم معين فقال مجاهد وسفيان : هو الثريا فإن النجم صار علما بالغلبة لها ، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «إذا طلع النجم صباحا ارتفعت العاهة» وقول العرب : ـ طلع النجم عشاء فابتغى الراعي كساء ، طلع النجم غدية فابتغى الراعي كسية ـ وفسر هويها بسقوطها مع الفجر ، وقيل : هو الشعرى المرادة بقوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) [النجم : ٤٩] والكهان يتكلمون على المغيبات عند طلوعها ، وقيل : الزهرة وكانت تعبد ، وقال ابن عباس ومجاهد والفراء ومنذر بن سعيد : (النَّجْمِ) المقدار النازل من القرآن على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، و (إِذا هَوى) بمعنى إذا نزل عليه مع ملك الوحي جبريل عليه‌السلام ، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهويه نزوله من السماء ليلة المعراج ، وجوز على هذا أن يراد بهويه صعوده وعروجه عليه الصلاة والسلام إلى منقطع الأين ، وقيل : هو الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وقيل : العلماء على إرادة الجنس ، والمراد بهويهم قيل : عروجهم في معارج التوفيق إلى حظائر التحقيق. وقيل : غوصهم في بحار الافكار لاستخراج درر الأسرار. وأظهر الأقوال القول بأن المراد بالنجم جنس النجم المعروف بأن أصله اسم جنس لكل كوكب ، وعلى القول بالتعيين فالأظهر القول بأنه الثريا ، ووراء هذين القولين القول بأن المراد به المقدار النازل من القرآن ، وفي الإقسام بذلك على نزاهته عليه الصلاة والسلام عن شائبة الضلال والغواية من البراعة البديعة وحسن الموقع ما لا غاية وراءه ، أما على الأولين فلأن النجم شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسالك الدنيا كأنه قيل : (وَالنَّجْمِ) الذي تهتدي به السابلة إلى سواء السبيل (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) أي ما عدل عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرة فهو استعارة وتمثيل لكونه عليه الصلاة والسلام على الصواب في أقواله وأفعاله (وَما غَوى) أي وما اعتقد باطلا قط لأن الغي الجهل مع اعتقاد فاسد وهو خلاف الرشد فيكون عطف هذا على (ما ضَلَ) من عطف الخاص على العام اعتناء بالاعتقاد ، وإشارة إلى أنه المدار.

وأما على الثالث فلأنه تنويه بشأن القرآن وتنبيه على مناط اهتدائه عليه الصلاة والسلام ومدار رشاده كأنه قيل : وما أنزل عليك من القرآن الذي هو علم في الهداية إلى مناهج الدين ومسالك الحق واليقين (ما ضَلَ) عنها محمد صلى الله تعالى عليه وسلم (وَما غَوى) فهو من باب :

٤٥

وثناياك إنها إغريض

والخطاب لقريش وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان المصاحبة لهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة وإحاطتهم خبرا ببراءته صلى الله تعالى عليه وسلم مما نفي عنه بالكلية وباتصافه عليه الصلاة والسلام بغاية الهدى والرشاد فإن طول صحبتهم له عليه الصلاة والسلام ومشاهدتهم لمحاسن شئونه العظيمة مقتضية لذلك حتما ففي ذلك تأكيد لإقامة الحجة عليهم ، واختلف في متعلق إذا قال بعضهم : فاوضت جار الله في قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) فقال : العامل فيه ما تعلق به الواو فقلت : كيف يعمل فعل الحال في المستقبل؟! وهذا لأن معناه أقسم الآن لا أقسم بعد هذا ، فرجع وقال : العامل فيه مصدر محذوف ، والتقدير ـ وهوى النجم إذا هوى ـ فعرضته على بعض المشايخ فلم يستحسن قوله الثاني ، والوجه تعلقه بأقسم وهو قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد ونحوه آتيك إذا احمر البسر أي وقت احمراره ، وقال عبد القاهر : إخبار الله تعالى بالمتوقع يقام مقام الإخبار بالواقع إذا لا خلف فيه فيجري المستقبل مجرى المحقق الماضي ، وقيل : إنه متعلق بعامل هو حال من النجم ، وأورد عليه أن الزمان لا يكون خبرا ولا حالا عن جثة كما هنا ، وأن (إِذا) للمستقبل فكيف يكون حالا إلا أن تكون حالا مقدرة أو تجرد (إِذا) لمطلق الوقت كما يقال بصحية الحالية إذا أفادت معنى معتدا به ، فمجيء الزمان خبرا أو حالا عن جثة ليس ممنوعا على الإطلاق كما ذكره النحاة ، أو النجم لتغيره طلوعا وغروبا أشبه الحدث ، والإنصاف أن جعله حالا كتعلقه بمصدر محذوف ليس بالوجه ، وإنما الوجه ، ـ على ما قيل ـ ما سمعت من تعلقه بأقسم منسلخا عنه معنى الاستقبال وهو الذي اختاره في المغني ، وتخصيص القسم بوقت الهوي ظاهر على الأخير من الأقوال الثلاثة ، وأما على الأولين فقيل : لأن النجم لا يهتدي به الساري عند كونه في وسط السماء ولا يعلم المشرق من المغرب ولا الشمال من الجنوب ، وإنما يهتدي به عند هبوطه ، أو صعوده مع ما فيه من كمال المناسبة لما سيحكى من التدلي والدنو ، وقيل : لدلالته على حدوثه الدال على الصانع وعظيم قدرته عزوجل كما قال الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأكمل السلام (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : ٧٦] وسيأتي إن شاء الله تعالى آخر الكتاب تمام الكلام في تحقيق إعراب مثل هذا التركيب فلا تغفل (وَما يَنْطِقُ) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لتقدم ذكره في قوله سبحانه : (صاحِبُكُمْ) والنطق مضمن معنى الصدور فلذا عدي بعن في قوله تعالى : (عَنِ الْهَوى) وقيل : هي بمعنى الباء وليس بذاك أي ما يصدر نطقه فيما آتاكم به من جهته عزوجل كالقرآن ، أو من القرآن عن هوى نفسه ورأيه أصلا فإن المراد استمرار النفي كما مر مرارا في نظائره (إِنْ هُوَ) أي ما الذي ينطق به من ذلك أو القرآن وكل ذلك مفهوم من السياق (إِلَّا وَحْيٌ) من الله عزوجل (يُوحى) يوحيه سبحانه إليه ، والجملة صفة مؤكدة لوحي رافعة لاحتمال المجاز مفيدة للاستمرار التجددي ، وقيل : ضمير (يَنْطِقُ) للقرآن فالآية كقوله تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) [الجاثية : ٢٩] وهو خلاف الظاهر ، وقيل : المراد ما يصدر نطقه عليه الصلاة والسلام مطلقا عن هوى وهو عائد لما ينطق به مطلقا أيضا.

واحتج بالآية على هذا التفسير من لم ير الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام كأبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم ، ووجه الاحتجاج أن الله تعالى أخبر بأن جميع ما ينطق به وحي وما كان عن اجتهاد ليس بوحي فليس مما ينطق ، وأجيب بأن الله تعالى إذا سوغ له عليه الصلاة والسلام الاجتهاد كان الاجتهاد وما يسند إليه وحيا لا نطقا عن الهوى ، وحاصله منع كبر القياس ، واعترض عليه بأنه يلزم أن تكون الأحكام التي يستنبطها المجتهدون بالقياس وحيا ، وأجيب بأن النبي عليه الصلاة والسلام أوحى إليه أن يجتهد بخلاف غيره من المجتهدين ، وقال القاضي البيضاوي : إنه حينئذ

٤٦

بالوحي لا وحي ، وتعقبه صاحب الكشف بأنه غير قادح لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: متى ما ظننت بكذا فهو حكمي أي كل ما ألقيته في قلبك فهو مرادي فيكون وحيا حقيقة ، والظاهر أن الآية واردة في أمر التنزيل بخصوصه وإن كان مثله الأحاديث القدسية والاستدلال بها على أنه عليه الصلاة والسلام غير متعبد بالوحي محوج لارتكاب خلاف الظاهر وتكلف في دفع نظر البيضاوي عليه الرحمة كما لا يخفى على المنصف ، ولا يبعد عندي أن يحمل قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) على العموم فإن من يرى الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام كالإمام أحمد وأبي يوسف عليهما الرحمة لا يقول بأن ما ينطق به صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما أدى إليه اجتهاده صادر عن هوى النفس وشهوتها حاشا حضرة الرسالة عن ذلك وإنما يقول هو واسطة بين ذلك وبين الوحي ويجعل الضمير في قوله سبحانه : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ) للقرآن على أن الكلام جواب سؤال مقدر كأنه قيل : إذا كان شأنه عليه الصلاة والسلام أنه ما ينطق عن الهوى فما هذا القرآن الذي جاء به وخالف فيه ما عليه قومه استمال به قلوب كثير من الناس وكثرت فيه الأقاويل؟ فقيل : ما هو إلا وحي يوحيه الله عزوجل إليه صلى الله تعالى عليه وسلم فتأمل ، وفي الكشف أن في قوله تعالى : (ما يَنْطِقُ) مضارعا مع قوله سبحانه : (ما ضَلَ وَما غَوى) ما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام حيث لم يكن له سابقة غواية وضلال منذ تميز وقبل تحنكه واستنبائه لم يكن له نطق عن الهوى كيف وقد تحنك ونبئ ، وفيه حث لهم على أن يشاهدوا منطقه الحكيم (عَلَّمَهُ) الضمير للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمفعول الثاني محذوف أي القرآن ، أو الوحي ، وجوز أبو حيان كون الضمير للقرآن ، وأن المفعول الأول محذوف أي علمه الرسول عليه الصلاة والسلام (شَدِيدُ الْقُوى) هو جبريل عليه‌السلام كما قال ابن عباس وقتادة والربيع ـ فإنه الواسطة في إبداء الخوارق وناهيك دليلا على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها ، وصاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه على الأنبياء عليهم‌السلام وصعوده في أسرع من رجعة الطرف ، فهو لعمري أسرع من حركة ضياء الشمس على ما قرروه في الحكمة الجديدة (ذُو مِرَّةٍ) ذو حصافة واستحكام في العقل كما قال بعضهم ، فكأن الأول وصف بقوّة الفعل ، وهذا وصف بقوّة النظر والعقل لكن قيل : إن ذاك بيان لما وضع له اللفظ فإن العرب تقول لكل قوي العقل والرأي (ذُو مِرَّةٍ) من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله وإلا فوصف الملك بمثله غير ظاهر فهو كناية عن ظهور الآثار البديعة ، وعن سعيد بن المسيب ذو حكمة لأن كلام الحكماء متين ، وروي الطستي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عنه فقال : ذو شدة في أمر الله عزوجل واستشهد له ، وحكى الطيبي عنه أنه قال : ذو منظر حسن واستصوبه الطبري ، وفي معناه قول مجاهد ذو خلق حسن : وهو في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى»بمعنى ذي قوة ، وفي الكشف إن المرّة لأنها في الأصل تدل على المرة بعد المرة تدل على زيادة القوة فلا تغفل (فَاسْتَوى) أي فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها وذلك عند حراء في مبادئ النبوة وكان له عليه الصلاة والسلام ـ كما في حديث أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد وجماعة عن ابن مسعود ـ ستمائة جناح كل جناح منها يسد الأفق فالاستواء هاهنا بمعنى اعتدال الشيء في ذاته كما قال الراغب ، وهو المراد بالاستقامة لا ضد الاعوجاج ، ومنه استوى الثمر إذا نضج ، وفي كلام على ما قال الخفاجي : طي لأن وصفه عليه‌السلام بالقوة وبعض صفات البشر يدل على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رآه في غير هيئته الحقيقية وهذا تفصيل لجواب سؤال مقدر كأنه قيل : فهل رآه على صورته الحقيقية؟ فقيل : نعم رآه فاستوى إلخ ، وفي الإرشاد أنه عطف على علمه بطريق التفسير فإنه إلى قوله تعالى : (ما أَوْحى) بيان لكيفية التعليم ، وتعقب بأن الكيفية غير منحصرة فيما ذكر ، ومن هنا قيل : إن الفاء للسببية فإن تشكله عليه‌السلام بشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق أو عاطفة على (عَلَّمَهُ) على معنى

٤٧

علمه على غير صورته الأصلية ، ثم استوى على صورته الأصلية وتعقب بأنه لا يتم به التئام الكلام ويحسن به النظام ، وقيل : استوى بمعنى ارتفع والعطف على علم ، والمعنى ارتفع إلى السماء بعد أن علمه وأكثر الآثار تقتضي ما تقدم.

(وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) أي الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر ، وأصله الناحية وما ذكره أهل الهيئة معنى اصطلاحي وينقسم عندهم إلى حقيقي وغيره كما فصل في محله ، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد به هنا مطلع الشمس وفي معناه قول الحسن : هو أفق المشرق ، والجملة في موضع الحال من فاعل استوى ، وقال الفراء والطبري : إن هو عطف على الضمير المستتر في استوى وهو عائد إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما أن ذلك عائد لجبرائيل عليه‌السلام ، وجوز العكس ، والجار متعلق باستوى وفيه العطف على الضمير المرفوع من غير فصل ، وهو مذهب الكوفيين مع أن المعنى ليس عليه عند الأكثرين (ثُمَّ دَنا) أي ثم قرب جبريل عليه‌السلام من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فَتَدَلَّى) فتعلق جبريل عليه عليه الصلاة والسلام في الهواء ، ومنه تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير. والدوالي الثمر المعلق كعناقيد العنب وأنشدوا لأبي ذؤيب يصف مشتار عسل :

تدلى عليها بين سب وخيطة

بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها

ومن أسجاع ابنة الخس ـ كن حذرا كالقرلى إن رأى خيرا تدلى ، وإن رأى شرا تولى ـ فالمراد بالتدلي دنو خاص فلا قلب ولا تأويل بإرادة الدنو كما في الإيضاح ، نعم إن جعل بمعنى التنزل من علو كما يرشد إليه الاشتقاق كان له وجه (فَكانَ) أي جبريل عليه‌السلام من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (قابَ قَوْسَيْنِ) أي من قسي العرب لأن الإطلاق ينصرف إلى متعارفهم ، والقاب ، وكذا القيب والقاد والقيد ، والقيس المقدار ، وقرأ زيد بن علي قاد ، وقرئ قيد وقدر ، وقد جاء التقدير بالقوس كالرمح والذراع وغيرهما ، ويقال على ما بين مقبض القوس وسيتها ، وهي ما عطف من طرفيها فلكل قوس قابان ، وفسر به هنا قيل : وفي الكلام عليه قلب أي فكان قابي قوس ، وفي الكشف لك أن تقول قابا قوس وقاب قوسين واحد دون قلب ، وعن مجاهد والحسن أن قاب القوس ما بين وترها ومقبضها ولا حاجة إلى القلب عليه أيضا فإن هذا على ما قال الخفاجي : إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله إذا تحالفوا فإنهم كانوا يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى فيكون القاب ملاصقا للآخر حتى كأنهما ذا قاب واحد ثم ينزعونهما معا ويرمون بهما سهما واحدا فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدهم رضا الآخر وسخطه سخطه لا يمكن خلافه ، وعن ابن عباس القوس هنا ذراع يقاس به الأطوال وإليه ذهب أبو رزين ، وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز ، وأيا ما كان فالمعنى على حذف مضاف ـ أي فكان ذا قاب قوسين ـ ونحوه قوله :

فأدرك إبقاء العرادة ظلعها

وقد جعلتني من خزيمة إصبعا

فإنه على معنى ذا مقدار إصبع وهو القرب فكأنه قيل فكان قريبا منه ، وجوز أن يكون ضمير كان للمسافة بتأويلها بالبعد ونحوه فلا حاجة الى اعتبار الحذف وليس بذاك (أَوْ أَدْنى) أي أو أقرب من ذلك ، و (أَوْ) للشك من جهة العباد على معنى إذا رآه الرائي يقول : هو قاب قوسين أو أدنى ، والمراد إفادة شدة القرب (فَأَوْحى) أي جبريل عليه‌السلام (إِلى عَبْدِهِ) أي عبد الله وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإضمار ولم يجر له تعالى ذكر لكونه في غاية الظهور ومثله كثير في الكلام ، ومنه (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر : ٤٥] وقوله سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] (ما أَوْحى) أي الذي أوحاه والضمير المستتر لجبريل عليه‌السلام أيضا ، وإبهام الموحى به للتفخيم فهذا نظير قوله تعالى : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) [طه : ٧٨] وقال أبو زيد : الضمير المستتر لله عزوجل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحاه الله إلى جبريل ، والأول مروي عن الحسن

٤٨

وهو الأحسن ، وقيل : ضمير (أوحى) الأول والثاني لله تعالى والمراد بالعبد جبريل عليه‌السلام وهو كما ترى (ما كَذَبَ الْفُؤادُ) أي فؤاد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم (ما رَأى) ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه‌السلام أي ما قال فؤاده صلى الله تعالى عليه وسلم لما رآه ببصره لم أعرفك ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره فهو من قولهم كذب إذا قال كذبا فما كذب بمعنى ما قال الكذب ، وقيل : أي (ما كَذَبَ الْفُؤادُ) البصر فيما حكاه له من صورة جبريل عليه‌السلام وما في عالم الملكوت تدرك أولا بالقلب ثم تنتقل منه إلى البصر. قرأ أبو رجاء وأبو جعفر وقتادة والجحدري وخالد بن الياس وهشام عن ابن عامر (ما كَذَبَ) مشددا أي صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه‌السلام بصورته ، وفي الآيات من تحقيق أمر الوحي ما فيها ، وفي الكشف أنه لما قال سبحانه : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ) أي من عند الله تعالى (يُوحى) ذكر جل وعلا ما يصور هذا المعنى ويفصله ليتأكد أنه وحي وأنه ليس من الشعر وحديث الكهان في شيء فقال تعالى علم صاحبكم هذا الوحي من هو على هذه الصفات ، وقوله تعالى : (فَاسْتَوى) وحديث قيامه بصورته الحقيقية ليؤكد أن ما يأتيه في صورة دحية هو هو فقد رآه بصورة نفسه وعرفه حق معرفته فلا يشتبه عليه بوجه ، وقوله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) تتميم لحديث نزوله إليه عليه الصلاة والسلام وإتيانه بالمنزل ، وقوله سبحانه : (فَأَوْحى) أي جبريل ذلك الوحي الذي مر أنه من عند الله تعالى إلى عبد الله وإنما قال سبحانه : ـ ما أوحى ـ ولم يأت بالضمير تفخيما لشأن المنزل وأنه شيء يجل عن الوصف فأنى يستجيز أحد من نفسه أن يقول إنه شعر أو حديث كاهن ، وإيثار عبده بدل إليه أي إلى صاحبكم لإضافة الاختصاص وإيثار الضمير على الاسم العلم في هذا المقام لترشيحه وأنه ليس عبدا إلا له عزوجل فلا لبس لشهرته بأنه عبد الله لا غير ، وجاز أن يكون التقدير فأوحى الله تعالى بسببه أي بسبب هذا المعلم إلى عبده ففي الفاء دلالة على هذا المعنى وهذا وجه أيضا سديد ، ثم قال سبحانه : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) على معنى أنه لما عرفه وحققه لم يكذبه فؤاده بعد ذلك ولو تصور بغير تلك الصورة إنه جبريل ، فهذا نظم سري مرعي فيه النكت حق الرعاية مطابق للوجود لم يعدل به عن واجب الوفاق بين البداية والنهاية انتهى.

وهو كلام نفيس يرجح به ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنه وسيأتي ذلك إن شاء الله عزوجل بما له وعليه (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) أي أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة فتمارونه عطف على محذوف على ما ذهب إليه الزمخشري من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة إذا مسح ظهرها وضرعها ليخرج لبنها وتدرّ به فشبه به الجدال لأن كلا من المتجادلين يطلب الوقوف على ما عند الآخر ليلزمه الحجة فكأنه يستخرج درّه.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعبد الله وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة والكسائي وخلف «أفتمرونه» بفتح التاء وسكون الميم مضارع مريت أي جحدت يقال : مريته حقه إذا جحدته ، وأنشدوا لذلك قول الشاعر :

لئن هجرت أخا صدق ومكرمة

لقد مريت أخا ما كان يمريكا

أو مضارع مريته إذا غلبته في المراء على أنه من باب المغالبة ، ويجوز حمل ما في البيت عليه وعدي الفعل بعلى وكان حقه أن يعدى بفي لتضمينه معنى المغالبة فإن المجادل والجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم ، وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه والشعبي فيما ذكر شعبة «أفتمرونه» بضم التاء وسكون الميم مضارع أمريت قال أبو حاتم : وهو غلط ، والمراد بما يرى ما رآه من صورة جبريل عليه‌السلام ، وعبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية لما فيها من الغرابة ، وفي البحر جيء بصيغة المضارع وإن كانت الرؤية قد مضت إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد ، وقيل : المراد

٤٩

(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) من الصور التي يظهر بها جبريل عليه‌السلام بعد ما رآه قبل وحققه بحيث لا يشتبه عليه بأي صورة ظهر فالتعبير بالمضارع على ظاهره (وَلَقَدْ رَآهُ) أي رأى النبي جبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورته التي خلقه الله تعالى عليها (نَزْلَةً أُخْرى) أي مرة أخرى من النزول وهي فعلة من النزول أقيمت مقام المرة ونصب نصبها على الظرفية لأن أصل المرة مصدر مرّ يمر ولشدة اتصال الفعل بالزمان يعبر به عنه ولم يقل مرة بدلها ليفيد أن الرؤية في هذه المرة كانت بنزول ودنو كالرؤية في المرة الأولى الدال عليها ما مر ، وقال الحوفي وابن عطية : إن نزلة منصوب على المصدرية للحال المقدرة أي نازلا نزلة ، وجوز أبو البقاء كونه منصوبا على المصدرية ـ لرأى ـ من معناه أي رؤية أخرى وفيه نظر ، والمراد من الجملة القسمية نفي الريبة والشك عن المرة الأخيرة وكانت ليلة الإسراء (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) هي شجرة نبق عن يمين العرش في السماء السابعة على المشهور ، وفي حديث أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم في السماء السادسة نبقها كقلال هجر وأوراقها مثل آذان الفيلة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها ، وأخرج الحاكم وصححه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «يسير الراكب في الفنن منها مائة سنة» والأحاديث ظاهرة في أنها شجرة نبق حقيقية.

والنبات في الشاهد يكون ترابيا ومائيا وهوائيا ؛ ولا يبعد من الله تعالى أن يخلقه في أي مكان شاء وقد أخبر سبحانه عن شجرة الزقوم أنها تنبت في أصل الجحيم ، ويقيل : إطلاق السدرة عليها مجاز لأنها تجتمع عندها الملائكة عليهم‌السلام كما يجتمع الناس في ظل السدرة ، و (الْمُنْتَهى) اسم مكان وجوز كونه مصدرا ميميا ، وقيل : لها (سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) لأنها كما أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس إليها ينتهي علم كل عالم وما وراءها لا يعلمه إلا الله تعالى ، أو لأنها ينتهي إليها علم الأنبياء عليهم‌السلام ويعزب علمهم عما وراءها. أو لأنها تنتهي إليها أعمال الخلائق بأن تعرض على الله تعالى عندها ؛ أو لأنها ينتهي إليها ما ينزل من فوقها وما يصعد من تحتها. أو لأنها تنتهي إليها أرواح الشهداء أو أرواح المؤمنين مطلقا. أو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة ، وفي الكشاف كأنها منتهى الجنة وآخرها ، وإضافة (سِدْرَةِ) إلى (الْمُنْتَهى) من إضافة الشيء لمحله كما في أشجار البستان ، وجوز أن تكون من إضافة المحل إلى الحال كما في قولك كتاب الفقه ، وقيل : يجوز أن يكون المراد بالمنتهى الله عزوجل فالإضافة من إضافة الملك إلى المالك أي (سِدْرَةِ) الله الذي إليه (الْمُنْتَهى) كما قال سبحانه : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢] وعد ذلك من باب الحذف والإيصال ولا يخفى أن هذا القول يكاد يكون المنتهى في البعد (عِنْدَها) أي عند السدرة ، وجوز أن يكون الضمير للنزلة وهو نازل عن رتبة القبول (جَنَّةُ الْمَأْوى) التي يأوي إليها المتقون يوم القيامة كما روي عن الحسن ، واستدل به على أن الجنة في السماء ، وقال ابن عباس بخلاف عنه وقتادة : هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وليست بالتي وعد المتقون ، وقيل : هي جنة تأوي إليها الملائكة عليهم‌السلام والأول أظهر ، والمأوى على ما نص عليه الجمهور اسم مكان وإضافة الجنة إليه بيانية ، وقيل : من إضافة الموصوف إلى الصفة كما في مسجد الجامع ، وتعقب بأن اسم المكان لا يوصف به ، والجملة حالية ، وقيل : الحال هو الظرف ، و (جَنَّةُ) مرتفع به على الفاعلية ، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر ومحمد بن كعب وقتادة : «جنه» بهاء الضمير وهو ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وجن فعل ماض أي عندها ستره إيواء الله تعالى : وجميل صنعه به ، أو ستره المأوى بظلاله ودخل فيه على أن (الْمَأْوى) مصدر ميمي ، أو اسم مكان ، وجنه بمعنى ستره ، قال أبو البقاء : شاذ والمستعمل أجنه ، ولهذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها وكذا جمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين : من قرأ به فأجنه الله تعالى أي جعله مجنونا أو أدخله الجنن وهو القبر ،

٥٠

وأنت تعلم أنه إذا صح أنه قرأ به الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه من أكابر الصحابة فليس لأحد رده من حيث الشذوذ في الاستعمال ، وعائشة قد حكي عنها الاجازة أيضا.

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) متعلق برءاه : وقيل : بما بعد من الجملة المنفية ولا يضر التقدم على (ما) النافية للتوسع في الظرف. والغشيان بمعنى التغطية والستر ، ومنه الغواشي أو بمعنى الإتيان يقال فلان يغشى زيدا كل حين أي يأتيه. والأول هو الأليق بالمقام ، وفي إبهام (ما يَغْشى) من التفخيم ما لا يخفى فكأن الغاشي أمر لا يحيط به نطاق البيان ولا تسعه أردان الأذهان ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها البديعة ، وجوز أن يكون للإيذان باستمرار الغشيان بطريق التجدد ، وورد في بعض الأخبار تعيين هذا الغاشي ، فعن الحسن غشيها نور رب العزة جل شأنه فاستنارت. ونحوه ما روي عن أبي هريرة يغشاها نور الخلاق سبحانه ، وعن ابن عباس غشيها رب العزة وجل وهو من المتشابه ، وقال ابن مسعود ومجاهد وإبراهيم : يغشاها جراد من ذهب ، وروي عن مجاهد أن ذلك تبدل أغصانها لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا.

وأخرج عبد بن حميد عن سلمة قال : استأذنت الملائكة الرب تبارك وتعالى أن ينظروا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأذن له فغشيت الملائكة السدرة لينظروا إليه عليه الصلاة والسلام ، وفي حديث «رأت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله تعالى» وقيل : يغشاها رفرف من طير خضر ، والإبهام على هذا كله على نحو ما تقدم.

(ما زاغَ الْبَصَرُ) أي ما مال بصر رسول الله صلى الله تعالى عليه عما رآه (وَما طَغى) وما تجاوزه بل أثبته إثباتا صحيحا مستيقنا ، وهذا تحقيق للأمر ونفي للريب عنه ، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها وما جاوزها إلى ما لم يؤمر برؤيته.

(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٣٢)

(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي والله رأى الآيات الكبرى من آياته تعالى وعجائبه الملكية والملكوتية ليلة المعراج ـ فالكبرى ـ صفة موصوف محذوف مفعول لرأى أقيمت مقامه معد حذفه وقدر مجموعا ليطابق الواقع ،

٥١

وجوّز أن تكون (الْكُبْرى) صفة المذكور على معنى ، و (لَقَدْ رَأى) بعضا من الآيات الكبرى ، ورجح الأول بأن المقام يقتضي التعظيم والمبالغة فينبغي أن يصرح بأن المرئي الآيات الكبرى وجوزت الوصفية المذكورة مع كون من مزيدة ، وأنت تعلم أن زيادة من في الإثبات ليس مجمعا على جوازه ، وجاء في بعض الأخبار تعيين ما رأى عليه الصلاة والسلام ، أخرج البخاري ، وابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن مسعود أنه قال في الآية رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق. وعن ابن زيد رأى جبريل عليه‌السلام في الصورة التي هو بها ، والذي ينبغي أن لا يحمل ذلك على الحصر كما لا يخفى فقد رأى عليه الصلاة والسلام آيات كبرى ليلة المعراج لا تحصى ولا تكاد تستقصى «هذا وفي الآيات» أقوال غير ما تقدم ، فعن الحسن أن (شَدِيدُ الْقُوى) هو الله تعالى ، وجمع (الْقُوى) للتعظيم ويفسر (ذُو مِرَّةٍ) عليه بذي حكمة ونحوه مما يليق أن يكون وصفا له عزوجل ، وجعل أبو حيان الضميرين في قوله تعالى : (فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) عليه له سبحانه أيضا. وقال : إن ذلك على معنى العظمة والقدرة السلطان ، ولعل الحسن يجعل الضمائر في قوله سبحانه : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) له عزوجل أيضا ، وكذا الضمير المنصوب في قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) فقد كان عليه الرحمة يحلف بالله تعالى ، لقد رأى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ربه وفسر دنوه تعالى من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم برفع مكانته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنده سبحانه وتدليه جل وعلا بجذبه بشراشره إلى جانب القدس ، ويقال لهذا الجذب : الفناء في الله تعالى عند المتألهين ، وأريد بنزوله سبحانه نوع من دنوه المعنوي جل شأنه.

ومذهب السلف في مثل ذلك إرجاع علمه إلى الله تعالى بعد نفي التشبيه ، وجوز أن تكون الضمائر في (دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) على ما روي عن الحسن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد ثم دنا النبي عليه الصلاة والسلام من ربه سبحانه فكان منه عزوجل (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) والضمائر في (فَأَوْحى) إلخ لله تعالى ، وقيل : (إِلى عَبْدِهِ) ولم يقل إليه للتفخيم ، وأمر المتشابه قد علم ، وذهب غير واحد في قوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) إلى قوله سبحانه : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) إلى أنه في أمر الوحي وتلقيه من جبريل عليه‌السلام على ما سمعت فيما تقدم ، وفي قوله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) إلخ إلى أنه في أمر العروج إلى الجناب الأقدس ودنوه سبحانه منه صلى الله تعالى عليه وسلم ورؤيته عليه‌السلام إياه جل وعلا فالضمائر في (دَنا) و (تدلى) و (كان) و (أَوْحى) وكذا الضمير المنصوب في (رَآهُ) لله عزوجل ، ويشهد لهذا ما في حديث أنس عند البخاري من طريق شريك بن عبد الله ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة» الحديث ، فإنه ظاهر فيما ذكر.

واستدل بذلك مثبتو الرؤية كحبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره ، وادعت عائشة رضي الله تعالى عنها خلاف ذلك ، أخرج مسلم عن مسروق قال : «كنت متكئا عند عائشة فقالت : يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله تعالى الفرية قلت ما هن؟ قالت : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، قال : وكنت متكئا فجلست فقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [التكوير : ٢٣] (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى)؟ فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : لا إنما هو جبريل لم أره على صورته الذي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض ، الحديث ، وفي رواية ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق «فقالت : أنا أول من سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذا فقلت : يا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال : إنما رأيت

٥٢

جبريل منهبطا» ولا يخفى أن جواب رسول الله عليه الصلاة والسلام ظاهر في أن الضمير المنصوب في (رَآهُ) ليس راجعا إليه تعالى بل إلى جبريل عليه‌السلام ، وشاعر أنها تنفي أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه سبحانه مطلقا ، وتستدل لذلك بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] وقوله سبحانه (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) [الشورى : ٥١] وهو ظاهر ما ذكره البخاري في صحيحه في تفسير هذه السورة ، وقال بعضهم : إنها إنما تنفي رؤية تدل عليها الآية التي نحن فيها وهي التي احتج بها مسروق.

وحاصل ما روي عنها نفي صحة الاحتجاج بالآية المذكورة على رؤيته عليه الصلاة والسلام ربه سبحانه ببيان أن مرجع الضمير فيها إنما هو جبريل عليه‌السلام على ما يدل عليه جواب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياها ، وحمل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في جوابها «لا» على أنه نفي للرؤية المخصوصة وهي التي يظن دلالة الآية عليها ويرجع إلى نفي الدلالة ولا يلزم من انتفاء الخاص انتفاء المطلق ، والإنصاف أن الاخبار ظاهرة في أنها تنفي الرؤية مطلقا ، وتستدل عليه بالآيتين السابقتين ، وقد أجاب عنهما مثبتو الرؤية بما هو مذكور في محله ، والظاهر أن ابن عباس لم يقل بالرؤية إلا عن سماع ، وقد أخرج عنه أحمد أنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رأيت ربي» ذكره الشيخ محمد الصالحي الشامي تلميذ الحافظ السيوطي في الآيات البينات وصححه ، وجمع بعضهم بين قولي ابن عباس وعائشة بأن قول عائشة محمول على نفي رؤيته تعالى في نوره الذي هو نوره المنعوت بأنه لا يقوم له بصر ، وقول ابن عباس محمول على ثبوت رؤيته تعالى في نوره الذي لا يذهب بالأبصار بقرينة قوله في جواب عكرمة عن قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) : ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، وبه يظهر الجمع بين حديثي أبي ذر ، أخرج مسلم من طريق يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن ابن ذر قال : سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال : «نوراني أراه» ومن طريق هشام وهمام كلاهما عن قتادة عن عبد الله قال : قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لسألته فقال : عن أي شيء كنت تسأله؟ قال : كنت أسأله هل رأيت ربك؟ فقال أبو ذر : قد سألته فقال : «رأيت نورا» فيحمل النور في الحديث الأول على النور القاهر للأبصار بجعل التنوين للنوعية أو للتعظيم ، والنور في الثاني على ما لا يقوم له البصر والتنوين للنوعية ، وإن صحت رواية الأول كما حكاه أبو عبد الله المازري بلفظ «نوراني» بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء لم يكن اختلاف بين الحديثين ويكون نوراني بمعنى المنسوب إلى النور على خلاف القياس ويكون المنسوب إليه هو نوره الذي هو نوره ، والمنسوب هو النور المحمول على الحجاب حمل مواطأة في حديث السبحات في قوله عليه الصلاة والسلام : «حجابه النور» وهو النور المانع من الإحراق الذي يقوم له البصر.

ثم إن القائلين بالرؤية اختلفوا ، فمنهم من قال : إنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه بعينه ، وروى ذلك ابن مردويه عن ابن عباس ، وهو مروي أيضا عن ابن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل ، ومنهم من قال : رآه عزوجل بقلبه ، وروي ذلك عن أبي ذر ، أخرج النسائي عنه أنه قال : «رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره» وكذا روي عن محمد بن كعب القرظي بل أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال قالوا : يا رسول الله رأيت ربك؟ قال : «رأيته بفؤادي مرتين ولم أره بعيني ثم قرأ ما كذب الفؤاد ما رأى» وفي حديث عن ابن عباس يرفعه «فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت اليه بفؤادي» وكأن التقدير في الآية على هذا (ما كَذَبَ الْفُؤادُ) فيما (رَأى) ، ومنهم من ذهب إلى أن إحدى الرؤيتين كانت بالعين والأخرى بالفؤاد وهي رواية عن ابن عباس ، أخرج الطبراني وابن مردويه

٥٣

عنه أنه قال : إن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه عزوجل مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده ؛ ونقل القاضي عياض عن بعض مشايخه أنه توقف أي في الرؤية بالعين ، وقال : إنه ليس عليه دليل واضح قال في الكشف : لأن الروايات مصرحة بالرؤية أما أنها بالعين فلا ، وعن الإمام أحمد أنه كان يقول : إذا سئل عن الرؤية رآه رآه حتى ينقطع نفسه ولا يزيد على ذلك وكأنه لم يثبت عنده ما ذكرناه ، واختلف فيما يقتضيه ظاهر النظم الجليل فجزم صاحب الكشف بأنه ما عليه الأكثرون من أن الدنو والتدلي مقسم ما بين النبي وجبريل صلاة الله تعالى وسلامه عليهما أي وأن المرئي هو جبريل عليه‌السلام ، وإذا صح خبر جوابه عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله تعالى عنها لم يكن لأحد محيص عن القول به ، وقال العلامة الطيبي : الذي يقتضيه النظم إجراء الكلام إلى قوله تعالى : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) على أمر الوحي وتلقيه من الملك ورفع شبه الخصوم ، ومن قوله سبحانه : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) إلى قوله سبحانه : (مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) على أمر العروج إلى الجناب الأقدس ، ثم قال : ولا يخفى على كل ذي لب إباء مقام (فَأَوْحى) الحمل على أن جبريل أوحى إلى عبد الله (ما أَوْحى) إذ لا يذوق منه أرباب القلوب إلا معنى المناغاة بين المتسارين وما يضيق عنه بساط الوهم ولا يطيقه نطاق الفهم ، وكلمة (ثُمَ) على هذا للتراخي الرتبي والفرق بين الوحيين أن أحدهما وحي بواسطة وتعليم ، والآخر بغير واسطة بجهة التكريم فيحصل عنه عنده الترقي من مقام (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] إلى مخدع (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) وعن جعفر الصادق عليه الرضا أنه قال : لما قرب الحبيب غاية القرب نالته غاية الهيبة فلاطفه الحق سبحانه بغاية اللطف لأنه لا تتحمل غاية الهيبة إلا بغاية اللطف ، وذلك قوله تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) أي كان ما كان وجرى ما جرى قال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب لحبيبه وألطف به إلطاف الحبيب بحبيبه وأسر إليه ما يسر الحبيب إلى حبيبه فأخفيا ولم يطلعا على سرهما أحدا وإلى نحو هذا يشير ابن الفارض بقوله :

ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا

سرّ أرق من النسيم إذا سرى

ومعظم الصوفية على هذا فيقولون بدنو الله عزوجل من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ودنوه منه سبحانه على الوجه اللائق وكذا يقولون بالرؤية كذلك ، وقال بعضهم في قوله تعالى : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) : ما زاغ بصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما التفت إلى الجنة ومزخرفاتها ولا إلى الجحيم وزفراتها بل كان شاخصا إلى الحق (وَما طَغى) عن الصراط المستقيم ، وقال أبو حفص السهروردي : ما زاغ البصر حيث لم يختلف عن البصيرة ولم يتقاصر (وَما طَغى) لم يسبق البصر البصيرة ويتعدى مقامه ، وقال سهل بن عبد الله التستري : لم يرجع رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى شاهد نفسه وإلى مشاهدتها وإنما كان مشاهدا لربه تعالى يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل ، وأرجع بعضهم الضمير في قوله تعالى : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو منتهى وصول اللطائف ، وفسر (سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) بما يكون منتهى سير السالكين إليه ولا يمكن لهم مجاوزته إلا بجذبة من جذبات الحق ، وقالوا في (قابَ قَوْسَيْنِ) ما قالوا وأنا أقول برؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم ربه سبحانه وبدنوه منه سبحانه على الوجه اللائق ذهب فيما اقتضاه ظاهر النظم الجليل إلى ما قاله صاحب الكشف أم ذهبت فيه إلى ما قاله الطيبي فتأمل والله تعالى الموفق.

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) هي أصنام كانت لهم فاللات كما قال قتادة : لثقيف بالطائف ، وأنشدوا :

وفرت ثقيف إلى لاتها

بمنقلب الخائب الخاسر

٥٤

وقال أبو عبيدة وغيره : كان بالكعبة ، وقال ابن زيد : كان بنخلة عند سوق عكاظ يعبده قريش ، ورجح ابن عطية قول قتادة ، وقال أبو حيان : يمكن الجمع بأن يكون المسمى بذلك أصناما فأخبر عن كل صنم بمكانه ، والتاء فيه قيل : أصلية وهي لام الكلمة كالباء في باب ، وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء لأن مادة «ل ي ت» موجودة فإن وجدت مادة «ل وت» جاز أن تكون منقلبة من واو ، وقيل : تاء العوض ، والأصل لوية بزنة فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليه ويعتكفون للعبادة ، أو يلتوون عليه أي يطوفون فخفف بحذف الياء وأبدلت واوه ألفا ، وعوض عن الياء تاء فصارت كتاء أخت وبنت ، ولذا وقف عليها بالتاء ، وقرأ ابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية بتشديد التاء على أنه اسم فاعل من لت يلت إذا عجن قيل : كان رجل يلت السويق للحاج على حجر فلما مات عبدوا ذلك الحجر إجلالا له وسموه بذلك ، وعن مجاهد أنه كان على صخرة في الطائف يصنع حيسا ويطعم من يمرّ من الناس فلما مات عبدوه ، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه ، وأخرج الفاكهي عنه أنه لما مات قال لهم عمرو بن لحي : إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتا ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : كان رجل من ثقيف يلت السويق بالزيت فلما توفي جعلوا قبره وثنا ، وزعم الناس أنه عامر بن الظرب أحد عدوان ، وقيل : غير ذلك (وَالْعُزَّى) لغطفان وهي على المشهور سمرة بنخلة ـ كما قال قتادة ـ وأصلها تأنيث الأعز ، وأخرج النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال : «لما فتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال : ارجع فإنك لم تصنع شيئا فرجع خالد فلما أبصرته السدنة مضوا وهم يقولون يا عزى يا عزى فأتاها فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة والسلام : تلك العزى» وفي رواية أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعث إليها خالدا فقطعها فخرجت منه شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها فضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول :

يا عز كفرانك لا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك

ورجع فأخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام : «تلك العزى ولن تعبد أبدا» وقال ابن زيد : كانت العزى بالطائف ، وقال أبو عبيدة : كان بالكعبة ، وأيده في البحر بقول أبي سفيان في بعض الحروب للمسلمين لنا العزى ولا عزى لكم ، وذكر فيه أنه صنم وجمع بمثل ما تقدم ، (وَمَناةَ) قيل : صخرة كانت لهذيل وخزاعة ، وعن ابن عباس لثقيف ، وعن قتادة للأنصار بقديد ، وقال أبو عبيدة : كانت بالكعبة أيضا ، واستظهر أبو حيان أنها ثلاثتها كانت فيها قال : لأن المخاطب في قوله تعالى : أفرأيتم قريش؟ وفيه بحث ، ومناة مقصورة قيل : وزنها فعلة ، وسميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق ، وقرأ ابن كثير على ما في البحر مناءة بالمد والهمزة كما في قوله :

ألا هل أتى تيم بن عبد مناءة

على النأي فيما بيننا ابن تميم

ووزنها مفعلة فالألف منقلبة عن واو كما في مقالة ، والهمزة أصل وهي مشتقة من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها ، والظاهر أن (الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) صفتان لمناة وهما على ما قيل : للتأكيد فإن كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها معلوم غير محتاج للبيان ، وقال بعض الأجلة : (الثَّالِثَةَ) للتأكيد ، و (الْأُخْرى) للذم بأنها

٥٥

متأخرة في الرتبة وضيعة المقدار ، وتعقبه أبو حيان بأن آخر ومؤنثه أخرى لم يوضعا لذم ولا لمدح وإنما يدلان على معنى غير ، والحق أن ذلك باعتبار المفهوم الأصلي وهي تدل على ذم السابقتين أيضا قال في الكشف : هي اسم ذم يدل على وضاعة السابقتين بوجه أيضا لأن «أخرى» تأنيث آخر تستدعي المشاركة مع السابق فإذا أتى بها لقصد التأخر في الرتبة عملا بمفهومها الأصلي إذ لا يمكن العمل بالمفهوم العرفي لأن السابقتين ليستا ثالثة أيضا استدعت المشاركة فضاء لحق التفضيل ، وكأنه قيل : (الْأُخْرى) في التأخر انتهى وهو حسن ، وذكر في نكتة ذم مناة بهذا الذم أن الكفرة كانوا يزعمون أنها أعظم الثلاثة فأكذبهم الله تعالى بذلك.

وقال الإمام : (الْأُخْرى) صفة ذم كأنه قال سبحانه : (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ) الذليلة وذلك لأن اللات كان على صورة آدمي (وَالْعُزَّى) صورة نبات (وَمَناةَ) صورة صخرة ، فالآدمي أشرف من النبات ، والنبات أشرف من الجماد ـ فالجماد متأخر ـ ومناة جماد فهي أخريات المراتب ، وأنت تعلم أنه لا يتأتى على كل الأقوال ، وقيل : (الْأُخْرى) صفة للعزى لأنها ثانية اللات ، والثانية يقال لها (الْأُخْرى) وأخرت لموافقة رءوس الآي ، وقال الحسن بن المفضل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير والعزى الأخرى (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ) ولعمري إنه ليس بشيء ، والكلام خطاب لعبدة هذه المذكورات وقد كانوا مع عبادتهم لها يقولون : إن الملائكة عليهم‌السلام وتلك المعبودات الباطلة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فقيل لهم توبيخا وتبكيتا : (أَفَرَأَيْتُمُ) إلخ والهمزة للإنكار والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر من شئون الله تعالى المنافية لها غاية المنافاة وهي علمية عند كثير ، ومفعولها الثاني على ما اختاره بعضهم محذوف لدلالة الحال عليه ، فالمعنى أعقيب ما سمعتم من آثار كمال عظمة الله عزوجل في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وإحكام قدرته ونفاذ أمره رأيتم هذا الأصنام مع غاية حقارتها بنات الله سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) توبيخ مبني على ذلك التوبيخ ومداره تفضيل جانب أنفسهم على جنابه عزوجل حيث جعلوا له تعالى الإناث واختاروا لأنفسهم الذكور ، ومناط الأول نفس تلك النسبة ، وقيل : المعنى (أَ) رايتم هذه الأصنام مع حقارتها وذلتها شركاء لله سبحانه مع ما تقدم من عظمته. وقيل : المعنى أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآي السابقة ، وقيل : المعنى أظننتم أن هذه الأصنام التي تعبدونها تنفعكم ؛ وقيل المعنى (أَفَرَأَيْتُمُ) هذه الأصنام إن عبدتموها لا تنفعكم وإن تركتموها لا تضركم ، ولا يخفى أن قوله تعالى : (أَلَكُمُ) إلخ لا يلتئم مع ما قبله على جميع هذه الأقوال التئامه على القول السابق ، وقيل : إن قوله سبحانه : (أَلَكُمُ) إلخ في موضع المفعول الثاني للرؤية وخلوها عن العائد إلى المفعول الأول لما أن الأصل أخبروني أن اللات والعزى ومناة ألكم الذكر وله هن أي تلك الأصنام فوضع موضعها الأنثى لمراعاة الفواصل وتحقيق مناط التوبيخ وهو على تكلفه يقتضي اقتصار التوبيخ على ترجيح جانبهم الحقير الذليل على جناب الله تعالى العزيز الجليل من غير تعرض للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه ، وفي الكشف وجه النظم الجليل أنه بعد ما صور أمر الوحي تصويرا تاما وحققه بأن ما يستمعه وحي لا شبهة فيه لأنه رأى الآتي به وعرفه حق المعرفة قال سبحانه : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) [النجم : ١٢] على معنى أتلاحونه بعد هذه البيانات على ما يرى من الآيات المحققة لأنه على بينة من ربه سبحانه هاديا مهديا ، وأنى يبقى للمراء مجال ـ وقد رآه نزلة أخرى.؟! وعرفه حق المعرفة ، ثم قيل : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ) إلخ تنبيها على أن ما عدّ منها فهو أيضا نفي للضلالة والغواية وتحقيق للدراية والهداية.

وقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ) عطف على تمارونه وإدخال الهمزة لزيادة الإنكار والفاء لأن القول بأمثاله مسبب عن الطبع والعناد وعدم الإصغاء لداعي الحق ، والمعنى أبعد هذا البيان تستمرون على ما أنتم عليه من المراء فترون اللات

٥٦

والعزى ومناة أولادا له تعالى ثم أخسها وسد مسد المفعول الثاني قوله تعالى : (أَلَكُمُ) إلخ زيادة الإنكار فعلى هذا ليس (أَفَرَأَيْتُمُ) في معنى الاستخبار وجاز أن يكون في معناه على معنى (أَفَتُمارُونَهُ) فأخبروني هل لكم الذكر وله الأنثى ، والقول مقدر أي فقل لهم أخبروني والمعنى هو كذا تهكما وتنبيها على أنه نتيجة مرائهم وأن من كان هذا معتقده فهو على الضلال الذي لا ضلال بعده ولا يبعد عن أمثاله نسبة الهادين المهديين إلى ما هو فيه من النقص انتهى ، وما ذكره أولا أولى وهو ليس بالبعيد عما ذكرنا (تِلْكَ) إشارة إلى القسمة المنفهمة من الجملة الاستفهامية (إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أي جائرة حيث جعلتم له سبحانه ما تستنكفون منه وبذلك فسر ضيزى ابن عباس وقتادة ، وفي معناه قول سفيان منقوصة ، وابن زيد مخالفة ، ومجاهد ومقاتل عوجاء ، والحسن غير معتدلة ، والظاهر أنه صفة ، واختلف في يائه فقيل : منقلبة عن واو ، وقيل : أصيلة ، ووزنه فعلى بضم الفاء كحبلى وأنثى ، ثم كسرت لتسلم الياء كما فعل ذلك في بيض جمع أبيض فإن وزنه فعل بضم الفاء كحمر ثم كسرت الفاء لما ذكر ومثله شائع ، ولم يجعل وزنه فعلى بالكسر ابتداء لما ذهب إليه سيبويه من أن فعلى بالكسر لم يجىء عن العرب في الصفات وجعله بعضهم كذلك متمسكا بورود ذلك. فقد حكى ثعلب مشية حيكى ، ورجل كيصى ، وغيره امرأة عزهى وامرأة سعلى ، ورد بأنه من النوادر والحمل على الكثير المطرد في بابه أولى ، وأيضا يمكن أن يقال في حيكى وكيصى ما قيل في ضيزى ؛ ويمنع ورود عزهى وسعلى فإن المعروف عزهاة وسعلاة ، وجوز أن يكون ضيزى فعلى بالكسر ابتداء على أنه مصدر كذكرى ووصف به مبالغة ، ومجيء هذا الوصف في المصادر كما ذكر ، والأسماء الجامدة كدفلى وشعرى ، والجموع كحجلى كثير ، وقرأ ابن كثير ضئزى بالهمز على أنه مصدر وصف به ، وجوز أن يكون وصفا وهو مضموم عومل معاملة المعتل لانه يؤول إليه. وقرأ ابن زيد ضيزى بفتح الضاد وبالياء على أنه كدعوى أو كسكرى ، ويقال ضؤزى بالواو والهمز وضم الفاء ؛ وقد حكى الكسائي ضأز يضأز ضأزا بالهمز وأنشد الأخفش :

فإن تنأ عنها تقتنصك وإن تغب

فسهمك مضئوز وأنفك راغم

والأكثر ضاز بلا همز في قول امرئ القيس :

ضازت بنو أسد بحكمهم

إذ يجعلون الرأس كالذنب

وأنشده ابن عباس على تفسيره السابق (إِنْ هِيَ) الضمير للأصنام أي ما الأصنام باعتبار الألوهية التي تدعونها (إِلَّا أَسْماءٌ) محضة ليس فيها شيء ما أصلا من معنى الألوهية ؛ وقوله تعالى : (سَمَّيْتُمُوها) صفة للأسماء وضميرها لها لا للأصنام ، والمعنى جعلتموها أسماء فان التسمية نسبة بين الاسم والمسمى فإذا قيست إلى الاسم فمعناها جعله اسما للمسمى وإن قيست إلى المسمى فمعناها جعله مسمى للاسم وإنما اختير هاهنا المعنى الاول من غير تعرض للمسمى لتحقيق أن تلك الأصنام التي يسمونها آلهة أسماء مجردة ليس لها مسميات قطعا كما في قوله سبحانه : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً) [يوسف : ٤٠] الآية لا أن هناك مسميات لكنها لا تستحق التسمية ، وقيل : هي للأسماء الثلاثة المذكورة حيث كانوا يطلقونها على تلك الأصنام لاعتقادهم أنها تستحق العكوف على عبادتها والإعزاز والتقرب إليها بالقرابين ، وتعقب بأنه لو سلم دلالة الأسماء المذكورة على ثبوت تلك المعاني الخالصة للأصنام فليس في سلبها عنها مزيد فائدة بل إنما هي في سلب الألوهية عنها كما هو زعمهم المشهور في حق جميع الأصنام على وجه برهاني فإن انتفاء الوصف بطريق الأولوية أي ما هي شيء من الأشياء إلا أسماء خالية عن المسميات وضعتموها (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) بمقتضى الأهواء الباطلة (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) برهان يتعلقون به (إِنْ يَتَّبِعُونَ) أي ما يتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بها (إِلَّا الظَّنَ) إلا توهم أن ما هم عليه حق توهما باطلا ،

٥٧

فالظن هنا مراد به التوهم وشاع استعماله فيه ، ويفهم من كلام الراغب أن التوهم من أفراد الظن (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أي والذي تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء على أن (ما) موصولة وعائدها مقدر ـ وأل ـ في الأنفس للعهد ، أو عوض عن المضاف إليه ، وجوز كون (ما) مصدرية وكذا جوز كون ـ أل ـ للجنس والنفس من حيث هي إنما تهوى غير الأفضل لأنها مجبولة على حب الملاذ وإنما يسوقها إلى حسن العاقبة العقل ، والالتفات في (يَتَّبِعُونَ) إلى الغيبة للإيذان بأن تعداد قبائحهم اقتضى الاعراض عنهم ، وحكاية جناياتهم لغيرهم ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر ـ تتبعون ـ بتاء الخطاب (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) حال من ضمير (يَتَّبِعُونَ) مقررة لبطلان ما هم عليه من اتباع الظن والهوى ، والمراد بالهدى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو القرآن العظيم على أنه بمعنى الهادي أو جعله هدى مبالغة أي ما يتبعون إلا ذلك ، والحال لقد جاءهم من ربهم جل شأنه ما ينبغي لهم معه تركه واتباع سبيل الحق.

وحاصله (يَتَّبِعُونَ) ذلك في حال ينافيه ، وجوز أن تكون الجملة معترضة وهي أيضا مؤكدة لبطلان ذلك (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أَمْ) منقطعة مقدرة ـ ببل ـ وهي للانتقال من بيان أن ما هم عليه غير مستند إلا إلى توهمهم وهوى أنفسهم إلى بيان أن ذلك مما لا يجدي نفعا أصلا ؛ والهمزة وهي للإنكار والنفي أي بل ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسه ، ومفاده قيل : رفع الإيجاب الكلي ومرجعه إلى سالبة جزئية ، وإليه يشير قول بعضهم : المراد نفي أن يكون للكفرة ما كانوا يطمعون فيه من شفاعة الآلهة والظفر بالحسنى عند الله تعالى يوم القيامة وما كانوا يشتهونه من نزول القرآن على رجل من إحدى القريتين عظيم ونحو ذلك ، ويفهم من كلام بعض المحققين أن المراد السلب الكلي ، والمعنى لا شيء مما يتمناه الإنسان مملوكا له مختصا به يتصرف فيه حسب إرادته ويتضمن ذلك نفي أن يكون للكفرة ما ذكر وليس الإنسان خاصا بهم كما قيل ، وقوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) تعليل لانتفاء ذلك فإن اختصاص ملك أمور الآخرة والأولى جميعا به تعالى مقتض لانتفاء أن يكون للإنسان أمر من الأمور بل ما شاء الله تعالى له كان وما لم يشأ لم يكن ، وقدمت الآخرة اهتماما برد ما هو أهمّ أطماعهم عندهم من الفوز فيها ، ولذا أردف ذلك بقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) وإقناطهم عما طمعوا به من شفاعة الملائكة عليهم‌السلام موجب لاقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق الاولوية (وَكَمْ) خبرية مفيدة للتكثير محلها الرفع على الابتداء ، والخبر الجملة المنفية ، وجمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك باعتبار المعنى أي وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم عند الله تعالى شيئا من الإغناء في وقت من الأوقات (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) لهم في الشفاعة.

(لِمَنْ يَشاءُ) أن يشفعوا له (وَيَرْضى) ويراه سبحانه أهلا للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان ، وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم من إذن الله تعالى بمعزل. وعنه بألف ألف منزل ، وجوز أن يكون المراد إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة بالشفاعة ويراه عزوجل أهلا لها ، وأيا ما كان فالمعنى على أنه إذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فما ظنهم بحال الأصنام ، والكلام قيل من باب :

على لاحب لا يهتدى بمناره

فحاصله لا شفاعة لهم ولا غناء بدون أن يأذن الله سبحانه إلخ ، وقيل : هو وارد على سبيل الفرض فلا يخالف قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] ، وقرأ زيد بن علي شفاعته بإفراد الشفاعة والضمير ، وابن مقسم شفاعاتهم بجمعهما وهو اختيار صاحب الكامل أبي القاسم الهذلي ، وأفردت

٥٨

الشفاعة في قراءة الجمهور قال أبو حيان : لأنها مصدر ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئا (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وبما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ) المنزهين عن سمات النقصان على الإطلاق (تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) فإنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون ، و (الْمَلائِكَةَ) في معنى استغراق المفرد فيكون التقدير ليسمون كل واحد من (الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) أي يسمونه بنتا لأنهم إذا قالوا ذلك فقد جعلوا كل واحد منهم بنتا ، فالكلام على وزان كسانا الأمير حلة أي كسا كل واحد منا حلة ، والإفراد لعدم اللبس ، ولذا لم يقل تسمية الإناث فلا حاجة إلى تأويل الأنثى بالإناث ولا إلى كون المراد الطائفة الأنثى ، وما ذكر أولا قيل : مبني على أن تسمية الأنثى في النظم الجليل ليس نصبا على التشبيه وإلا فلا حاجة إليه أيضا ، وفي تعليق التسمية بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة واستتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجترئ عليها إلا من لا يؤمن بها رأسا ، وقوله تعالى : (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) حال من فاعل (يسمون) وضمير به للمذكور من التسمية وبهذا الاعتبار ذكر ، أو باعتبار القول أي يسمونهم إناثا ، والحال أنهم لا علم لهم بما يقولون أصلا ، وقرأ أبيّ بها أي بالتسمية ، أو بالملائكة (إِنْ يَتَّبِعُونَ) أي ما يتبعون في ذلك (إِلَّا الظَّنَ) أي التوهم الباطل (وَإِنَّ الظَّنَ) أي جنس الظن كما يلوح به الإظهار في موقع الإضمار ، وقيل : الإظهار ليستقل الكلام استقلال المثل.

(لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) من الإغناء فإن الحق الذي هو عبارة عن حقيقة الشيء وما هو عليه إنما يدرك إدراكا معتدا به إذا كان عن يقين لا عن ظن وتوهم فلا يعتدّ بالظن في شأن المعارف الحقيقية أعني المطالب الاعتقادية التي يلزم فيها الجزم ولو لم يكن عن دليل ، وإنما يعتدّ به في العمليات وما يؤدي إليها.

وفسر بعضهم الحق بالله عزوجل لقوله سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) [الحج : ٦ ، ٦٢ ، لقمان : ٣٠] ، واستدل بالآية من لم يعتبر التقليد في الاعتقاديات ـ وفيه بحث ـ والظاهرية على إبطاله مطلقا ، وإبطال القياس ورده على أتم وجه في الأصول ، وما أخرج ابن أبي حاتم عن أيوب قال : قال عمر بن الخطاب: احذروا هذا الرأي على الدّين فإنما كان الرأي من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مصيبا لأن الله تعالى كانيريه وإنما هو منا تكلف وظن (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) هو أحد أدلتهم على إبطال القياس أيضا ، وقد حكى الآمدي في الأحكام نحوه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال : قال ابن عمر : اتهموا الرأي عن الدّين فإن الرأي منا تكلف وظن (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) وأجاب عنه بأن غايته الدلالة على احتمال الخطأ فيه وليس فيه ما يدل على إبطاله ، وأن المراد بقوله : (إِنَّ الظَّنَ) إلخ استعمال الظن في مواضع اليقين وليس المراد به إبطال الظن بدليل صحة العمل بظواهر الكتاب والسنة ، ويقال نحو هذا في كلام عمر رضي الله تعالى عنه ، وقد ذكر جملة من الآثار استدل بها المبطل على ما زعمه وردها كلها فمن أراد ذلك ليراجعه (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) أي عنهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوسل به إلى وصفهم بما في حيز صلته من الأوصاف القبيحة ، وتعليل الحكم بها أي فأعرض عمن أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم الحق وهو القرآن العظيم. المنطوي على بيان الاعتقادات الحقة. المشتمل على علوم الأولين والآخرين. المذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها ، والمراد بالإعراض عنه ترك الأخذ بما فيه وعدم الاعتناء به ، وقيل : المراد بالذكر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وبالإعراض عنه ترك الأخذ بما جاء به ، وقيل : المراد به الإيمان ، وقيل : هو على ظاهره والإعراض عنه كناية عن الغفلة عنه عزوجل (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) راضيا بها قاصرا نظره عليها جاهدا فيما يصلحها كالنضر بن الحارث.

٥٩

والوليد بن المغيرة ، والمراد من الأمر المذكور النهي عن المبالغة في الحرص على هداهم كأنه قيل : لا تبالغ في الحرص على هدى من تولى عن ذكرنا وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته وقصارى سعيه ، وقوله تعالى : (ذلِكَ) أي أمر الحياة الدنيا المفهوم من الكلام ولذا ذكر اسم الإشارة ، وقيل : أي ما أداهم إلى ما هم فيه من التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا ، وقيل : ذلك إشارة إلى الظن الذي يتبعونه ، وقيل : إلى جعلهم الملائكة بنات الله سبحانه وكلا القولين كما ترى (مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي منتهى علمهم لا علم لهم فوقه اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا.

والمراد بالعلم مطلق الإدراك المنتظم للظن الفاسد ، وضمير (مَبْلَغُهُمْ) ـ لمن ـ وجمع باعتبار معناه كما أن إفراده قبل باعتبار لفظه ، وقوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) تعليل للأمر بالإعراض ، وتكرير قوله تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ) لزيادة التقرير والإيذان بكمال تباين المعلومين ، والمراد (بِمَنْ ضَلَ) من أصر على الضلال ولم يرجع إلى الهدى أصلا ، و (بِمَنِ اهْتَدى) من شأنه الاهتداء في الجملة ، أي هو جل شأنه المبالغ في العلم بمن لا يرعوي عن الضلال أبدا ، وبمن يقبل الاهتداء في الجملة لا غيره سبحانه فلا تتعب نفسك في دعوتهم ولا تبالغ في الحرص عليها فإنهم من القبيل الأول : وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي له ذلك على الوجه الأتم أي خلقا وملكا لا لغيره عزوجل أصلا لا استقلالا ولا اشتراكا ، ويشعر بفعل يتعلق به قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) أي خلق ما فيهما ليجزي الضالين بعقاب ما عملوا من الضلال الذي عبر عنه بالإساءة بيانا لحاله ؛ أو بمثل ما عملوا ، أو بسبب ما عملوا على أن الباء صلة الجزاء بتقدير مضاف أو للسببية بلا تقدير (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي اهتدوا (بِالْحُسْنَى) أي بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة ، أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى تكميل لما قبل لأنه سبحانه لما أمره عليه الصلاة والسلام بالإعراض نفي توهم أن ذلك لأنهم يتركون سدى ، وفي العدول عن ضمير ربك إلى الاسم الجامع ما ينبئ عن زيادة القدرة وأن الكلام مسوق لوعيد المعرضين وأن تسوية هذا الملك العظيم لهذه الحكمة فلا بدّ من ضال ومهتد ، ومن أن يلقى كلّ ما يستحقه ، وفيه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يلقى الحسنى جزاء لتبليغه وهم يلقون السوء أي جزاء لتكذيبهم ، وكرر فعل الجزاء لإبراز كمال الاعتناء به والتنبيه على تباين الجزاءين.

وجوز أن يكون معنى (فَأَعْرِضْ) إلخ لا تقابلهم بصنيعهم وكلهم إلى ربك إنه أعلم بك وبهم فيجزي كلا ما يستحقه ، ولا يخفى ما في العدول عن الضميرين في «بمن ضل» «وبمن اهتدى» وجعل قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ) على هذا متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) إلخ أي ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم (لِيَجْزِيَ) إلخ ، وقوله سبحانه : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) جملة معترضة تؤكد حدث أنهم يجزون البتة ولا يهملون كأنه قيل : هو سبحانه أعلم بهم وهم تحت ملكه وقدرته ، وجوز على ذلك المعنى أن يتعلق (لِيَجْزِيَ) بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) كما تقدم على تأكيد أمر الوعيد ، أي ـ هو أعلم بهم ـ وإنما سوي هذا الملك للجزاء ، ورجح بعضهم ذلك المعنى بالوجهين المذكورين على ما مرّ ، وجوز في جملة (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) كونها حالا من فاعل أعلم سواء كان بمعنى عالم أو لا ، وفي (لِيَجْزِيَ) تعلقه ـ بضل. واهتدى ـ على أن اللام للعاقبة أي هو تعالى (أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَ) ليئول أمره إلى أن يجزيه الله تعالى بعمله ، و (بِمَنِ اهْتَدى) ليئول أمره إلى أن يجزيه بالحسنى ، ولا يخفى بعده ، وأبعد منه بمراحل تعلقه بقوله سبحانه : (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ) كما ذكره مكي ، وقرأ زيد ابن علي ـ لنجزي ـ ونجزي بالنون فيهما (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) بدل من الموصول الثاني وصيغة الاستقبال

٦٠