روح المعاني - ج ١٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

بالتحذير ، وفي (لا) ما تقدم ، والنهي مع الخطاب أظهر منه مع الغيبة.

(فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) أي الأجل بطول أعمارهم وآمالهم ، أو طال أمد ما بينهم وبين أنبيائهم عليهم‌السلام وبعد العهد بهم ، وقيل : أمد انتظار القيامة والجزاء ، وقيل : أمد انتظار الفتح ، وفرقوا بين الأمد والزمان بأن الأمد يقال الغاية والزمان عام من المبدأ والغاية ، وقرأ ابن كثير في رواية الأمدّ بتشديد الدال أي الوقت الأطول (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) صلبت فهي كالحجارة ، أو أشد قسوة (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن حدود دينهم رافضون لما في كتابهم بالكلية ، قيل : من فرط القسوة وذكر أنه مأخوذ من كون الجملة حال ، وفيه خفاء والأظهر أنه من السياق ، والمراد بالكتاب الجنس فالموصول يعم اليهود والنصارى وكانوا كلهم في أوائل أمرهم يحول الحق بينهم وبين كثير من شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله تعالى ورقت قلوبهم فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة وزالت عنهم الروعة التي كانوا يجدونها عند سماع الكتابين وأحدثوا ما أحدثوا واتبعوا الأهواء وتفرقت بهم السبل ، والقسوة مبدأ الشرور وتنشأ من طول الغفلة عن الله تعالى ، وعن عيسى عليه‌السلام : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله عزوجل ولا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عباد والناس رجلان مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا على العافية ومن أحس بقسوة في قلبه فليهرع إلى ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه يرجع إليه حاله كما أشار إليه قوله عزوجل : اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها فهو تمثيل ذكر استطرادا لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن القساوة (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) التي من جملتها هذه الآيات (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) كي تعقلوا ما فيها وتعملوا بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين.

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) أي المتصدقين والمتصدقات ، وقد قرأ أبيّ كذلك ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر والمفضل وأبان وأبو عمرو في رواية هارون بتخفيف الصاد من التصديق لا من الصدقة كما في قراءة الجمهور أي الذين صدقوا واللاتي صدقن الله عزوجل ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم ، والقراءة الأولى أنسب بقوله تعالى: (وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) وقيل : الثانية أرجح لأن الإقراض يغني عن ذكر التصديق ، وأنت ستعلم إن شاء الله تعالى فائدته ، وعطف (أَقْرَضُوا) على معنى الفعل من المصدقين على ما اختاره أبو علي والزمخشري لأن أل بمعنى الذين ، واسم الفاعل بمعنى الفعل فكأنه قيل : إن الذين اصدقوا أو صدقوا على القراءتين (وَأَقْرَضُوا) وتعقبه أبو حيان وغيره بأن فيه الفصل بين أجزاء الصلة إذ المعطوف على الصلة بأجنبي وهو المصدقات ، وذلك لا يجوز ، وقال صاحب التقريب : هو محمول على المعنى كأنه قيل : إن الناس الذين تصدقوا وتصدقن أأقرضوا فهو عطف على الصلة من حيث المعنى بلا فصل ، وتعقب بأنه لا محصل له إلا إذا قيل : إن أل الثانية زائدة لئلا يعطف على صورة جزء الكلمة ، وفيه بعد ، ولا يخفى أن حديث اعتبار المعنى يدفع ما ذكر ، ومن هنا قيل : إنه قريب ولا يبعد تأنيثا وتذكيرا لا يضر لأن أل تصلح للجميع فيراد بها معنى اللاتي عند عود ضمير جمع الإناث عليها ومعنى الذي عند عود ضمير جمع الذكور عليها وهو كما ترى ، ومثله ما قيل : هو من باب كل رجل وضيعته أي إن المصدقين مقرونون مع المصدقات في الثواب والمنزلة ، أو يقدر خبر أي ـ إن المصدقين والمصدقات يفلحون ـ (وَأَقْرَضُوا) في الوجهين ليس عطفا على الصلة بل مستأنف ويضاف بعد صفة قرضا أو استئناف ومن أنصف لم ير ذلك مما ينبغي أن يخرج عليه كلام أدنى الفصحاء فضلا عن كلام رب العالمين ، واختار أبو حيان تخريج ذلك على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه كأنه قيل : والذين أقرضوا فيكون مثل قوله

١٨١

فمن يهجر رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

وهو مقبول على رأي الكوفيين دون رأي البصريين فإنهم لا يجوزون حذف الموصول في مثله ، وبعض أئمة المحققين بعد أن استقرب توجيه التقريب ولم يستبعد تنزيل ما سمعت عن الزمخشري وأبي علي عليه قال : وأقرب منه أن يقال : إن (الْمُصَّدِّقاتِ) منصوب على التخصيص كأنه قيل : «إن المصدقين» عاما على التغليب وأخص المتصدقات منهم كما تقول : إن الذين آمنوا ولا سيما العلماء منهم وعملوا الصالحات لهم كذا.

ووجه التخصيص ما ورد في قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم : «يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار» يحضهن على الصدقة بأنهن إذا فعلن ذلك كان له تعالى أقبل وجزاؤه عنه سبحانه أوفر وأفضل ، ثم قال : ولما لم يكن الإقراض غير ذلك التصدق قيل : وأقرضوا أي بذلك التصدق تحقيقا لكينونته وأنهم مثل ذلك ممثلون عند الله تعالى بمن يعامل مع أجود الأجودين معاملة برضاه ، ولو قيل : والمقرضين لفاتت هذه النكتة انتهى.

ولا يخفى أن نصب المصدقات على التخصيص خلاف الظاهر ، وأما ما ذكره في نكتة العدول عن المفروضين فحسن وهو متأت على تخريج أبي علي والزمخشري ، وعلى تخريج أبي حيان ، وقال الخفاجي : القول ـ أي قول أبي البقاء ـ بأن أقرضوا إلخ معترض بين اسم إن وخبرها أظهر وأسهل ، وكأن النكتة فيه تأكيد الحكم بالمضاعفة ، وزعم أن الجملة حال بتقدير قد أو بدونها من ضميري المصدقين والمصدقات لا يخفى معنى وعربية فتدبر (يُضاعَفُ لَهُمْ) الضمير لجميع المتقدمين الذكور والإناث على التغليب كضمير أقرضوا ، والجار والمجرور نائب الفاعل ، وقيل : هو ضمير التصدق أو ضمير القرض على حذف مضاف أي يضاعف ثواب التصدق أو ثواب القرض لهم ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعّف» بتشديد العين ، وقرئ «يضاعف» بالبناء للفاعل أي يضاعف الله عزوجل لهم ثواب ذلك (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) قد مر الكلام فيه.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) قد بين كيفية إيمانهم في خاتمة سورة البقرة ، والموصول مبتدأ أول ، وقوله تعالى : (أُولئِكَ) مبتدأ ثان ، وهو إشارة إلى الموصول وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا ، وقوله سبحانه : (هُمُ) مبتدأ ثالث ، وقوله عزوجل : (الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ) خبر الثالث ، والجملة خبر الثاني وهو مع خبره خبر الأول أو هم ضمير فصل وما بعده خبر الثاني ، وقوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) متعلق على ما قيل : بالثبوت الذي تقتضيه الجملة أي أولئك عند ربهم عزوجل وفي حكمه وعلمه سبحانه هم الصديقون والشهداء.

والمراد أولئك في حكم الله تعالى بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى التصديق ورسخوا فيه واستشهدوا في سبيل الله جل جلاله وسمي من قتل مجاهدا في سبيله شهيدا لأن الله سبحانه وملائكته عليهم‌السلام شهود له بالجنة ، وقيل : لأنه حي لم يمت كأنه شاهد أي حاضر ، وقيل : لأن ملائكة الرحمة تشهده ، وقيل : لأنه شهد ما أعد الله تعالى له من الكرامة ، وقيل : غير ذلك فهو إما فعيل بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول على اختلاف التأويل ، وقوله تعالى (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) خبر ثان للموصول على أنه جملة من مبتدأ وخبر. أو (لَهُمْ) الخبر وما بعده مرتفع به على الفاعلية وضمير (لَهُمْ) للموصول ، والضميران الأخيران للصديقين والشهداء ، والغرض بيان ثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال أي أولئك لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال ، وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد كما فعل ذلك أولا حيث قيل : أولئك هم الصديقون والشهداء وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور. وبين تمام ما للفريقين الأخيرين بل بين تمام ما للأول من الأصل والإضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الإضعاف ، فالإضعاف هو الذي امتاز به

١٨٢

الفريقان الأخيران على الفريق الأول وقد لا يعتبر تشبيه بليغ في الكلام أصلا ويبقى على ظاهره والضمائر كلها للموصول أي أولئك هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله تعالى وأخبار رسله عليهم الصلاة والسلام والقائمون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية وسائر صفات الكمال ولهم بما يليق بهم من ذلك لهم الأجر والنور الموعودان لهم ، وقال بعضهم : وصفهم بالشهادة لكونهم شهداء على الناس كما نطق به قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] فعند ربهم متعلق بالشهداء ، والمراد والشهداء على الناس يوم القيامة ، وجوز تعلقه بالشهداء أيضا على الوجه الأول على معنى الذين شهدوا مزيد الكرامة بالقتل في سبيل الله تعالى يوم القيامة أو في حظيرة رحمته عزوجل أو نحو ذلك ، ويشهد لكون الشهداء معطوفا على الصديقين آثار كثيرة.

أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن مؤمني أمتي شهداء ، ثم تلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه قال يوما لقوم عنده : كلكم صديق وشهيد قيل له : ما تقول يا أبا هريرة؟ قال : اقرءوا (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) الآية ، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد قال : كل مؤمن صديق وشهيد ثم تلا الآية ، وأخرج عبد بن حميد نحوه عن عمرو بن ميمون ، وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال : «جاء رجل إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا؟ قال : من الصديقين والشهداء» وينبغي أن يحمل الذين آمنوا على من لهم كما في ذلك يعتدّ به ولا يتحقق إلا بفعل طاعات يعتدّ بها وإلا فيبعد أن يكون المؤمن المنهمك في الشهوات الغافل عن الطاعات صديقا شهيدا ، ويستأنس لذلك بما جاء من حديث عمر رضي الله تعالى عنه ما لكم إذا رأيتم الرجل يخترق أعراض الناس أن لا تعيبوا عليه؟ قالوا : نخاف لسانه قال : ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء ، قال ابن الأثير : أي إذا لم تفعلوا ذلك لم تكونوا في جملة الشهداء الذين يستشهدون يوم القيامة على الأمم التي كذبت أنبياءها ، وكذا بقوله عليه الصلاة والسلام : اللعانون لا يكونون شهداء بناء على أحد قولين فيه. وفي بعض الأخبار ما ظاهره إرادة طائفة من خواص المؤمنين ، أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم : «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة على نفسه ودينه كتب عند الله صديقا فإذا مات قبضه الله شهيدا وتلا هذه الآية (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ) ثم قال هذه فيهم ثم قال : الفرّارون بدينهم من أرض إلى أرض يوم القيامة مع عيسى ابن مريم في درجته في الجنة» ويجوز أن يراد من قوله : «هذه فيهم» أنها صادقة عليهم وهم داخلون فيها دخولا أوليا ، ويقال : في قوله عليه الصلاة والسلام : «مع عيسى في درجته» المراد معه في مثل درجته وتوجه المماثلة بما مر والخبر إذا صح يؤيد الوجه الأول في الآية.

وروي عن الضحاك أنها نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وطلحة والزبير وسعد وزيد رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، وهذا لا يضر في العموم كما لا يخفى ، وقيل : الشهداء مبتدأ و (عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبره ، وقيل : الخبر (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) والكلام عليهما قد تم عند قوله تعالى : (الصِّدِّيقُونَ) ، وأخرج هذا ابن جرير عن ابن عباس والضحاك قالا : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) هذه مفصولة سماهم صديقين ، ثم قال : والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم.

وروى جماعة عن مسروق ما يوافقه ، واختلفوا في المراد بالشهداء على هذا فقيل : الشهداء في سبيل الله تعالى.

وحكي ذلك عن مقاتل بن سليمان ، وقيل : الأنبياء عليهم‌السلام الذين يشهدون للأمم عليهم ، وحكي ذلك

١٨٣

عن مسروق ومقاتل بن حيان واختاره الفراء والزجاج ، وزعم أبو حيان أن الظاهر كون الشهداء مبتدأ وما بعده خبر ، ومن أنصف يعلم أنه ليس كما قال ، وأن الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم هو ما تقدم ، ثم النور على جميع الأوجه على حقيقته وعن مجاهد وغيره أنه عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى.

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بجميعها على اختلاف أنواعها وهو إشارة إلى كفرهم بالرسل عليهم‌السلام جميعهم (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفة القبيحة (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) بحيث لا يفارقونها أبدا [الحديد : ٢٠ ـ ٢٩] (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) بعد ما بين حال الفريقين في الآخرة شرح حال الحياة التي اطمأن بها الفريق الثاني ، وأشير إلى من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلا عن الاطمئنان بها بأنها لعب لا ثمرة فيها سوى التعب (وَلَهْوٌ) تشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه (وَزِينَةٌ) لا يحصل منها شرف ذاتي كالملابس الحسنة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة (وَتَفاخُرٌ) بالأنساب والعظام البالية (وَتَكاثُرٌ) بالعدد والعدد ، وقرأ السلمي «وتفاخر بينكم» بالإضافة ؛ ثم أشير إلى أنها مع ذلك

١٨٤

سريعة الزوال وشيكة الاضمحلال بقوله سبحانه : (كَمَثَلِ غَيْثٍ) مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ) أي راقهم (نَباتُهُ) أي النبات الحاصل به ، والمراد بالكفار إما الحراث على ما روي عن ابن مسعود لأنهم يكفرون أي يسترون البذر في الأرض ووجه تخصيصهم بالذكر ظاهر ، وأما الكافرون بالله سبحانه ووجه تخصيصهم أنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا فإن المؤمن إذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدرة موجده عزوجل فأعجب بها ، ولذا قال أبو نواس في النرجس :

عيون من لجين شاخصات

على أطرافها ذهب سبيك

على قضب الزبرجد شاهدات

بأن الله ليس له شريك

والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق إعجابا (ثُمَّ يَهِيجُ) يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له ، وقيل : أي يجف بعد خضرته ونضارته (فَتَراهُ) يا من تصح منه الرؤية (مُصْفَرًّا) بعد ما رأيته ناضرا مونقا ، وقرئ مصفارا وإنما لم يقل فيصفر قيل : إيذانا بأن اصفراره غير مقارن لهيجانه وإنما المترتب عليه رؤيته كذلك ، وقيل : للإشارة إلى ظهور ذلك لكل أحد (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) هشيما متكسرا من اليبس ، ومحل الكاف قيل : النصب على الحالية من الضمير في (لَعِبٌ) لأنه في معنى الوصف ، وقيل : الرفع على أنه خبر بعد خبر للحياة الدنيا بتقدير المضاف إليه أي مثل الحياة كمثل إلخ ، ولتضمن ذلك تشبيه جميع ما فيها من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى ويضمحل في أقل من سنة جاءت الإشارة إلى سرعة زوالها وقرب اضمحلالها ، وبعد ما بيّن حقارة أمر الدنيا تزهيدا فيها وتنفيرا عن العكوف عليها أشير إلى فخامة شأن الآخرة وعظم ما فيها من اللذات والآلام ترغيبا في تحصيل نعيمها المقيم وتحذيرا من عذابها الأليم ، وقدم سبحانه ذكر العذاب فقال جل وعلا : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا (وَمَغْفِرَةٌ) عظيمة (مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) عظيم لا يقادر قدره ، وفي مقابلة العذاب الشديد بشيئين إشارة إلى غلبة الرحمة وأنه من باب «لن يغلب عسر يسرين».

وفي ترك وصف العذاب بكونه من الله تعالى مع وصف ما بعده بذلك إشارة إلى غلبتها أيضا ورمز إلى أن الخير هو المقصود بالقصد الأولى (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) لمن اطمأن بها ولم يجعلها ذريعة للآخرة ومطية لنعيمها ، روي عن سعيد بن جبير الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة. فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ) أي سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار إلى أسباب مغفرة عظيمة كائنة (مِنْ رَبِّكُمْ) والكلام على الاستعارة أو المجاز المرسل واستعمال اللفظ في لازم معناه وإنما لزم ذلك لأن اللازم أن يبادر من يعمل ما يكون سببا للمغفرة ودخول الجنة لا أن يعمله أو يتصف بذلك سابقا على آخر ؛ وقيل : المراد سابقوا ملك الموت قبل أن يقطعكم بالموت عن الأعمال الموصلة لما ذكر ؛ وقيل : سابقوا إبليس قبل أن يصدقكم بغروره وخداعه عن ذلك وهو كما ترى.

والمراد بتلك الأسباب الأعمال الصالحة على اختلاف أنواعها ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية : كن أوّل داخل المسجد وآخر خارج ، وقال عبد الله : كونوا في أول صف القتال ، وقال أنس : اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام وكل ذلك من باب التمثيل ، واستدل بهذا الأمر على أن الصلاة بأول وقتها أفضل من التأخير (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي كعرضهما جميعا لو ألصق أحدهما بالآخر وإذا كان العرض وهو أقصر الامتدادين موصوفا بالسعة دل على سعة الطول بالطريق الأولى فالاقتصار عليه أبلغ من ذكر الطول معه ، وقيل : المراد بالعرض البسطة ولذا وصف به الدعاء ونحوه مما ليس من ذوي الابعاد وتقدم قول آخر في تفسير نظير الآية من سورة آل عمران وتقديم المغفرة على الجنة لتقدم التخلية على التحلية.

١٨٥

(أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي هيئت لهم ، واستدل بذلك عن أن الجنة موجودة الآن لقوله تعالى : (أُعِدَّتْ) بصيغة الماضي والتأويل خلاف الظاهر ، وقد صرح بخلافه في الأحاديث الصحيحة وتمام الكلام في علم الكلام ، وعلى أن الإيمان وحده كاف في استحقاق الجنة لذكره وحده فيما في حيز ما يشعر بعلة الإعداد وإدخال العمل في الإيمان المعدّى بالباء غير مسلم كذا قالوا ، ومتى أريد بالذين آمنوا المذكورين من لهم درجة في الايمان يعتد بها ، وقيل : بأنها لا تحصل بدون الأعمال الصالحة على ما سمعته منا قريبا انخدش الاستدلال الثاني في الجملة كما لا يخفى ، وذكر النيسابوري في وجه التعبير هنا ـ بسابقوا ـ وفي آية آل عمران ـ بسارعوا ـ وبالسماء هنا ، والسماوات هناك ـ وبكعرض ـ هنا ـ وبعرض ـ بدون أداة تشبيه ثمّ كلاما مبنيا على أن المراد بالمتقين هناك السابقون المقربون ، وبالذين آمنوا هنا من هم دون أولئك حالا فتأمل (ذلِكَ) أي الذي وعد من المغفرة والجنة (فَضْلُ اللهِ) عطاؤه الغير الواجب عليه (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) إيتاءه (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فلا يبعد منه عزوجل التفضل بذلك على من يشاء وإن عظم قدره ، فالجملة تذييل لإثبات ما ذيل بها.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) أي نائبة أيّ نائبة وأصلها في الرمية وهي من أصاب السهم إذا وصل إلى المرمى بالصواب ثم خصت بها.

وزعم بعضهم أنها لغة عامة في الشر والخير وعرفا خاصة بالشر ، و (مِنْ) مزيدة للتأكيد ، وأصاب جاء في الشر كما هنا ، وفي الخير كقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) [النساء : ٧٣] وذكر بعضهم أنه يستعمل في الخير اعتبارا بالصوب أي بالمطر وفي الشر اعتبارا بإصابة السهم ، وكلاهما يرجعان إلى أصل وتذكير الفعل في مثل ذلك جائز كتأنيثه ، وعليه قوله تعالى : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) [الحجر : ٥ ، المؤمنون : ٤٣] والكلام على العموم لجميع الشرور أي مصيبة أيّ مصيبة (فِي الْأَرْضِ) كجدب وعاهة في الزرع والثمار وزلزلة وغيرها (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) كمرض وآفة كالجرح والكسر (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي إلا مكتوبة مثبتة في اللوح المحفوظ ، وقيل : في علم الله عزوجل.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي نخلقها ، والضمير على ما روي عن ابن عباس وقتادة والحسن وجماعة : للأنفس ، وقيل : للأرض ، واستظهر أبو حيان كونه للمصيبة لأنها هي المحدث عنها ، وذكر الأرض والأنفس إنما هو على سبيل ذكر محلها ، وذكر المهدوي جواز عوده على جميع ما ذكر ، وقال جماعة : يعود على المخلوقات وإن لم يجر لها ذكر ، وقيل : المراد بالمصيبة هنا الحوادث من خير وشر وهو خلاف الظاهر من استعمال المصيبة إلا أن فيما بعد نوع تأييد له وأيا ما كان ففي الأرض متعلق بمحذوف مرفوع أو مجرور صفة لمصيبة على الموضع أو على اللفظ ، وجوز أن يكون ظرفا لأصاب أو للمصيبة ، قيل : وإنما قيدت المصيبة بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأنها غير متناهية ، واللوح متناه وهو لا يكون ظرفا لغير المتناهي ولذا جاء «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» وفي الآية تخصيص آخر وهو أنه سبحانه لم يذكر أحوال أهل السماوات لعدم تعلق الغرض بذلك مع قلة المصائب في أهلها لا يكاد يصيبهم سوى مصيبة الموت ، وما ذكره في وجه التخصيص الأول لا يتم إذا أريد بالكتاب علمه سبحانه ، وقيل : بأن كتابة الحوادث فيه على نحو كتابتها في القرآن العظيم بناء على ما يقولون : إنه ما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه حتى أسماء الملوك ومددهم وما يقع منهم ولو قيل في وجهه ـ إن الأوفق بما تقدم من شرح حال الحياة الدنيا إنما هو ذكر المصائب الدنيوية فلذا خصت بالذكر ـ لكان تاما مطلقا (إِنَّ ذلِكَ) أي إثباتها في كتاب (عَلَى اللهِ) لا غيره سبحانه (يَسِيرٌ) لاستغنائه تعالى فيه عن العدة والمدة ، وإن

١٨٦

أريد بذلك تحققها في علمه جل شأنه فيسره لأنه من مقتضيات ذاته عزوجل ، وفي الآية رد على هشام بن الحكم الزاعم أنه سبحانه لا يعلم الحوادث قبل وقوعها ، وفي الإكليل إن فيها ردا على القدرية ، وجاء ذلك في خبر مرفوع ، أخرج الديلمي عن سليم بن جابر الجهيمي قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «سيفتح على أمتي باب من القدر في آخر الزمان لا يسدّه شيء يكفيكم منه أن تلقوه بهذه الآية ما أصاب من مصيبة» الآية.

وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبي حسان أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالا : «إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار فقالت : والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم ما هكذا كان يقول ، ولكن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : كان أهل الجاهلية يقولون : إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار ، ثم قرأت (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) الآية (لِكَيْلا تَأْسَوْا) أي أخرناكم بذلك لئلا تحزنوا (عَلى ما فاتَكُمْ) من نعم الدنيا (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي أعطاكموه الله تعالى منها فإن من علم أن الكل مقدر يفوت ما قدر فواته ويأتي ما قدّر إتيانه لا محالة لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت ، وعلم كون الكل مقدرا مع أن المذكور سابقا المصائب دون النعم وغيرها لأنه لا قائل بالفرق وليس في النظم الكريم اكتفاء كما توهم ، نعم إن حملت المصيبة على الحوادث من خير وشر كان أمر العلم أوضح كما لا يخفى وترك التعادل بين الفعلين في الصلتين حيث لم يسندا إلى شيء واحد بل أسند الأول إلى ضمير الموصول والثاني إلى ضميره تعالى لأن الفوات والعدم ذاتي للأشياء فلو خليت ونفسها لم تبق بخلاف حصولها وبقائها فإنه لا بد من استنادهما إليه عزوجل كما حقق في موضعه. وعليه قول الشاعر :

فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى

وعرج على الباقي وسائله لم بقي

ومثل هذه القراءة قراءة عبد الله ـ أوتيتم ـ مبنيا للمفعول أي أعطيتم ؛ وقرأ أبو عمرو ـ أتاكم ـ من الإتيان أي جاءكم وعليها بين الفعلين تعادل ، والمراد نفي الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ورجاء ثواب الصابرين ونفي الفرح المطغى الملهى عن الشكر ، وأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله تعالى والاعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما.

أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال في الآية : ليس أحد إلا هو يحزن ويفرح ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبرا ومن أصابه خير جعله شكرا ، وقوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) تذييل يفيد أن الفرح المذموم هو الموجب للبطر والاختيال والمختال المتكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه ، والفخور المباهي في الأشياء الخارجة عن المرء كالمال والجاه.

وذكر بعضهم أن الاختيال في الفعل والفخر فيه وفي غيره ، والمراد من لا يحب يبغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض في حقه عزوجل وأولا بالإثابة والتعذيب ، ومذهب السلف ترك التأويل مع التنزيه ، ومن لا يحب كل مختال لا يحب كل فرد فرد من ذلك لا أنه لا يحب البعض دون البعض ويرد بذلك على الشيخ عبد القاهر في قوله : إذا تأملنا وجدنا إدخال كل في حيز النفي لا يصلح إلا حيث يراد أن بعضا كان وبعضا لم يكن ، نعم إن هذا الحكم أكثري لا كلي ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) يدل من (كُلَّ مُخْتالٍ) بدل لك من كل فإن المختال بالمال يضن به غالبا ويأمر غيره بذلك ، والظاهر أن المراد أنهم يأمرون حقيقة ، وقيل: كانوا قدوة فكأنهم يأمرون أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين إلخ ، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره يعرضون عن الإنفاق الغني عنه الله عزوجل ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فإن معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله

١٨٧

سبحانه غني عنه وعن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الإعراض عن شكره بالتقرب إليه بشيء من نعمه جل جلاله ، وقيل : تقديره مستغنى عنهم ، أو موعودون بالعذاب أو مذمومون.

وجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار أعني أو على أنه نعت ـ لكل مختال ـ فإنه مخصص نوعا ما من التخصيص فساغ وصفه بالمعرفة وهذا ليس بشيء ، وقال ابن عطية : جواز مثل ذلك مذهب الأخفش ولا يخفى ما في الجملة من الإشعار بالتهديد لمن تولى ، وقرأ نافع وابن عامر ـ فإن الله الغني ـ بإسقاط ـ هو ـ وكذا في مصاحف المدينة والشام وهو في القراءة الأخرى ضمير فصل ، قال أبو علي : ولا يحسن أن يكون مبتدأ وإلا لم لم يجز حذفه في القراءة الثانية لأن ما بعده صالح لأن يكون خبرا فلا يكون هناك دليل على الحذف وهذا مبني على وجوب توافق القراءتين إعرابا وليس بلازم (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) أي من بني آدم كما هو الظاهر (بِالْبَيِّناتِ) أي الحجج والمعجزات (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي جنس الكتاب الشامل للكل ، والظرف حال مقدرة منه على ما قال أبو حيان ، وقيل : مقارنة بتنزيل الاتصال منزلة المقارنة (وَالْمِيزانَ) الآلة المعروفة بين الناس كما قال ابن زيد وغيره ، وإنزاله إنزال أسبابه ، ولو بعيدة ، وأمر الناس باتخاذه مع تعليم كيفيته.

(لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) علة لا نزال الكتاب والميزان والقيام بالقسط أي بالعدل يشمل التسوية في أمور التعامل باستعمال الميزان ، وفي أمور المعاد باحتذاء الكتاب وهو لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغي الاتصاف به معاشا ومعادا.

(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) قال الحسن : أي خلقناه كقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦] وهو تفسير يلازم الشيء فإن كل مخلوق منزل باعتبار ثبوته في اللوح وتقديره موجودا حيث ما ثبت فيه.

وقال قطرب : هيأناه لكم وأنعمنا به عليكم من نزل الضيف (فِيهِ بَأْسٌ) أي عذاب (شَدِيدٌ) لأن آلات الحرب تتخذ منه ، وهذا إشارة إلى احتياج الكتاب والميزان إلى القائم بالسيف ليحصل القيام بالقسط فإن الظلم من شيم النفوس ، وقوله تعالى : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي في معايشهم ومصالحهم إذ ما من صنعة إلا والحديد أو ما يعمل به آلتها للإيماء إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى الوازع وهو القائم بالسيف يحتاج إلى ما به قوام التعايش ، ومن يوم بذلك أيضا ليتم التمدن المحتاج إليه النوع ، وليتم القيام بالقسط ، كيف وهو شامل أيضا لما يخص المرء وحده ، والجملة الظرفية في موضع الحال ، وقوله سبحانه : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) عطف على محذوف يدل عليه السياق أو الحال لأنها متضمنة للتعليل أي لينفعهم وليعلم الله تعالى علما يتعلق به الجزاء من ينصره ورسله باستعمال آلات الحرب من الحديد في مجاهدة أعدائه والحذف للإشعار بأن الثاني هو المطلوب لذاته وأن الأول مقدمة له ، وجوز تعلقه بمحذوف مؤخر والواو اعتراضية أي وليعلم إلخ أنزله أو مقدم والواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها وقد حذف المعطوف وأقيم متعلقة مقامه ، وقوله تعالى : (بِالْغَيْبِ) حال من فاعل ينصر ، أو من مفعوله أي غائبا منهم أو غائبين منه ، وقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) اعتراض تذييلي جيء به تحقيقا للحق وتنبيها على أن تكليفهم الجهاد وتعريضهم للقتال ليس لحاجته سبحانه في إعلاء كلمته وإظهار دينه إلى نصرتهم بل إنما هو لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب وإلا فهو جل وعلا غني بقدرته وعزته عنهم في كل ما يريد.

هذا وذهب الزمخشري إلى أن المراد بالرسل رسل الملائكة عليهم‌السلام أي أرسلناهم إلى الأنبياء عليهم‌السلام ، وفسر ـ البينات ـ كما فسرنا بناء على الملائكة ترسل بالمعجزات كإرسالها بالحجج لتخبر بأنها معجزات وإلا فكان الظاهر الاقتصار على الحجج وإنزال الكتاب أي الوحي مع أولئك الرسل ظاهر ، وإنزال الميزان بمعنى الآلة

١٨٨

عنده على حقيقته ، قال : روي أن جبريل عليه‌السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه‌السلام ، وقال : مر قومك يزنوا به. وفسره كثير بالعدل ، وعن ابن عباس في إنزال الحديد نزل مع آدم عليه‌السلام الميقعة والسندان والكلبتان ، وروي أنه نزل ومعه المرّ والمسحاة ، وقيل : نزل ومعه خمسة أشياء من الحديد السندان والكلبتان والإبرة والمطرقة والميقعة ، وفسرت بالمسن ، وتجيء بمعنى المطرقة أو العظيمة منها ، وقيل : ما تحدّ به الرحى ، وفي حديث ابن عباس نزل آدم عليه‌السلام من الجنة بالباسنة وهي آلات الصناع ، وقيل : سكة الحرث وليس بعربي محض والله تعالى أعلم.

واستظهر أبو حيان كون ـ ليقوم الناس بالقسط ـ علة لإنزال الميزان فقط وجوز ما ذكرناه وهو الأولى فيما أرى ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) وتكرير القسم لإظهار مزيد الاعتناء بالأمر أي وبالله لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم.

(وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب ، وقال ابن عباس : الكتاب الخط بالقلم ، وفي مصحف عبد الله ـ والنبية ـ مكتوبة بالياء عوض الواو (فَمِنْهُمْ) أي من الذرية ؛ وقيل : أي من المرسل إليهم المدلول عليه بذكر الإرسال والمرسلين (مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن الطريق المستقيم ، ولم يقل ـ ومنهم ـ ضال مع أنه أظهر في المقابلة لأن ما عليه النظم الكريم أبلغ في الذم لأن الخروج عن الطريق المستقيم بعد الوصول بالتمكن منه ، وعرفته أبلغ من الضلال عنه ولإيذانه بغلبة أهل الضلال على غيرهم (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أي أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول وأصل التقفية جعل الشيء خلف القفا ، وضمير آثارهم لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم من قومها. وقيل : لمن عاصرهما من الرسل عليهم‌السلام.

واعترض بأنه لو عاصر رسول نوحا فإما أن يرسل إلى قومه كهارون مع موسى عليهما‌السلام أو إلى غيرهم كلوط مع إبراهيم عليهما‌السلام ولا مجال للأول لمخالفته للواقع ولا إلى الثاني إذ ليس على الأرض قوم غيره ، وأجيب بأن ذاك توجيه لجمع الضمير وكون لوط مع إبراهيم كاف فيه ، وقيل : للذرية ، وفيه أن الرسل المقفي بهم من الذرية فلو عاد الضمير عليهم لزم أنهم غيرهم أو اتحاد المقفي والمقفي به وتخصيص الذرية مرجع الضمير بالأوائل منهم خلاف الظاهر من غير قرينة تدل عليه (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) جعلناه بعد.

وحاصل المعنى أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الإرسال إلى عيسى عليه الصلاة والسلام (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) بأن أوحينا إليه وليس هو الذي بين أيدي النصارى اليوم أعني المشتمل على قصة ولادته وقصة صلبه المفتراة : وقرأ الحسن «الإنجيل» بفتح الهمزة ، وقال أبو الفتح : وهو مثال لا نظير له ، قال الزمخشري : وأمره أهون من من أمر البرطيل بفتح الباء والكسر أشهر وهو حجر مستطيل واستعماله في الرشوة مولّد مأخوذ منه بنوع تجوز لأنه عجمي وهذا عربي وهم يتلاعبون بالعجمي ولا يلتزمون فيه أوزانهم ، وزعم بعض أن لفظ الإنجيل عربي من نجلت بمعنى استخرجت لاستخراج الأحكام منه (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) أي خلقنا أو صيرنا ـ ففي قلوب ـ في موضع المفعول الثاني وأيا ما كان فالمراد جعلنا ذلك في قلوبهم فهم يرأف بعضهم ببعض ويرحم بعضهم بعضا ، ونظيره في شأن أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] والرأفة في المشهور الرحمة لكن قال بعض الأفاضل : إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشر ورأب الصدع ، وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح وقرئ رافة على فعالة كشجاعة (وَرَهْبانِيَّةً) منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر أي وابتدعوا رهبانية.

(ابْتَدَعُوها) فهو من باب الاشتغال ، واعترض بأنه يشترط فيه ـ كما قال ابن الشجري وأبو حيان ـ أن يكون

١٨٩

الاسم السابق مختصا يجوز وقوعه مبتدأ والمذكور نكرة لا مسوغ لها من مسوغات الابتداء ، ورد بأنه على فرض تسليم هذا الشرط الاسم هنا موصوف معنى بما يؤخذ من تنوين التعظيم كما قيل في قولهم : شر أهر ذا ناب.

ومما يدل عليه من النسبة كما ستسمعه إن شاء الله تعالى أو منصوب بالعطف على ما قبل ، وجملة (ابْتَدَعُوها) في موضع الصفة والكلام على حذف مضاف أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة وحب رهبانية مبتدعة لهم ، وبعضهم جعله معطوفا على ما ذكر ولم يتعرض للحذف ، وقال : الرهبانية من أفعال العباد لأنها المبالغة في العبادة بالرياضة والانقطاع عن الناس ، وأصل معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب كخشيان من خشي ، وأفعال العباد يتعلق بها جعل الله تعالى عند أهل الحق وهي في عين كونها مخلوقة له تعالى مكتسبة للعبد ، والزمخشري جوز العطف المذكور وفسر الجعل بالتوفيق كأنه قيل : وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها بناء على مذهبه أن الرهبانية فعل العبد المخلوق له باختياره ، وفائدة (فِي قُلُوبِ) على هذا التصوير على ما قيل ، ولا يخفى ما في هذا التفسير من العدول عن الظاهر لكن الإنصاف أنه لا يحسن العطف بدون هذا التأويل أو اعتبار حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه على ما تقدم أو تفسير الرهبانية بما هو من أفعال القلوب كالخوف المفرط المقتضي للغلو في التعبد ويرتكب نوع تجوز في ابتدعوها وما بعده كأن يكون المراد ابتداع أعمالها وآثارها أو ارتكاب استخدام في الكلام بأن يعتبر للرهبانية معنيان الخوف المفرط مثلا ، ويراد في جعلنا في قلوبهم رهبانية والأعمال التعبدية الشاقة كرفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهن ، ويراد في (ابْتَدَعُوها) وما بعده وليس الداعي للتأويل الاعتزال بل كون الرهبانية بمعنى الأعمال البدنية ليست مما تجعل في القلب كالرأفة والرحمة فتأمل.

وقرئ «رهبانيّة» بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان بالضم وهو كما قال الراغب : يكون واحدا وجمعا فالنسبة إليه باعتبار كونه واحدا ومن ظن اختصاص المضموم بالجمع قال : إنه لما اختص بطائفة مخصوصة أعطى حكم العلم فنسبته إليه كما قالوا في أنصار وأنصاري أو أن النسبة إلى رهبان المفتوح وضم الراء في المنسوب من تغييرات النسب كما في دهري بضم الدال ، وقوله تعالى : (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) جملة مستأنفة ، وقوله سبحانه: (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) استثناء منقطع أي ما فرضناها نحن عليهم رأسا ولكن ابتدعوها وألزموا أنفسهم بها ابتغاء رضوان الله تعالى ، وقوله تعالى : (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي ما حافظوا عليها حق المحافظة ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر وهو عهد مع الله تعالى يجب رعايته لا سيما إذا قصد به رضاه عزوجل.

واستدل بذلك على أن من اعتاد تطوعا كره له تركه ، وجوز أن يكون قوله تعالى : (ما كَتَبْناها) إلخ صفة أخرى لرهبانية والنفي متوجه إلى قيد الفعل لا نفسه كما في الوجه الأول ، وقوله سبحانه : (إِلَّا ابْتِغاءَ) إلخ استثناء متصل من أعم العلل أي ما قضيناها عليهم بأن جعلناهم يبتدعونها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله تعالى ويستحقوا بها الثواب ، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها ويراعوها حق رعايتها فما رعوها كذلك والوجه الأول مروي عن قتادة وجماعة ، وهذا مروي عن مجاهد ولا مخالفة عليه بين (ابْتَدَعُوها) و (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) إلخ حيث إن الأول يقتضي أنهم لم يؤمروا بها أصلا والثاني يقتضي أنهم أمروا بها لابتغاء رضوان الله تعالى لما أشرنا إليه من معنى (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ) إلخ ، ودفع بعضهم المخالفة بأن يقال : الأمر وقع بعد ابتداعها أو يؤول ابتدعوها بأنهم أول من فعلها بعد الأمر ويؤيد ما ذكره في الدفع أو لا ما أخرجه أبو داود وأبو يعلى والضياء عن أنس «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليه فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ما ابتدعوها ما كتبناها عليهم» يعني الآية ، والظاهر أن ضمير فما رعوها

١٩٠

لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية ، والمراد نفي وقوع الرعاية من كلهم على أن المعنى فما رعاها كلهم بل بعضهم ، وليس المراد بالموصول فيما سبق أشخاصا بأعيانهم بل المراد به ما يعم النصارى إلى زمان الإسلام ولا يضر في ذلك أن أصل الابتداع كان من قوم مخصوصين لأن إسناده على نحو الإسناد في ـ بنو تميم قتلوا زيدا ـ والقاتل بعضهم.

وقال الضحاك وغيره : الضمير في (فَما رَعَوْها) للاخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين والأول أوفق بالصناعة ، والمراد بالذين آمنوا في قوله تعالى : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ) الذين آمنوا إيمانا صحيحا وهو لمن أدرك وقت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الايمان به عليه الصلاة والسلام أي فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا بعد رعاية رهبانيتهم (أَجْرَهُمْ) أي ما يختص به من الأجر وهو الأجر على ما سلف منهم والأجر على الإيمان به عليه الصلاة والسلام ، وليس المراد بهم الذين بقوا على رعاية الرهبانية إلى زمان البعثة ولم يؤمنوا لأن رعايتها لغو محض وكفر بحت وإنما لها استتباع الأجر ، ويجوز أن يقال : إن الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها هم الذين كذبوه عليه الصلاة والسلام ، قال الزجاج : قوله تعالى : (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) على ضربين : أحدهما أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم ، والآخر وهو الأجود أن يكونوا حين بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يؤمنوا فكانوا تاركين لطاعة الله تعالى فما رعوا تلك الرهبانية ، ودليل ذلك قوله تعالى : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ) إلخ انتهى ، فحمل الذين آمنوا على من أدرك وقته عليه الصلاة والسلام منهم وآمن به صلى الله تعالى عليه وسلم ، والفاسقين في قوله تعالى : (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) على الذين لم يؤمنوا به صلى الله تعالى عليه وسلم مقتضى حمل الذين آمنوا على ما سمعت أولا حمله على الأعم الشامل لمن خرج عن اتباع عيسى عليه‌السلام من قبل وحمل الفريقين على من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين بها إذ ذاك بالتثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة ونحو ذلك من غير تعرض لإيمانهم برسول الله عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده المقام.

ومن الآثار ما يأباه ففي حديث طويل أخرجه جماعة منهم الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن ابن مسعود «اختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشر ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) الذين آمنوا بي وصدقوني (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) الذي جحدوا بي وكفروا بي» وهذا الخبر يؤيد ما استجوده الزجاج ، ويعلم منه أيضا سبب ابتداع الرهبانية وليس في الآية ما يدل على ذم البدعة مطلقا ، والذي تدل عليه ظاهرا ذم عدم رعاية ما التزموه ، وتفصيل الكلام في البدعة ما ذكره الإمام محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم قال العلماء : البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة (١) فمن الواجبة تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك ، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك ، ومن المباحة التبسط في ألوان الاطعمة وغير ذلك ، والحرام والمكروه ظاهران ، فعلم أن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «كل بدعة ضلالة» من العام المخصوص.

__________________

(١) هذا التقسيم لا يصح أن يكور للبدع بالمعنى الشرعي إذا ما ذكره دل عليه الكتاب والسنة وإنما يصح للبدع بالمعنى اللغوي وقد أشبع الكلام على ذلك الاعتصام فراجعه اه إدارة الطباعة النيرية.

١٩١

وقال صاحب جامع الأصول : الابتداع من المخلوقين إن كان في خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار وإن كان واقعا تحت عموم ما ندب الله تعالى إليه وحض عليه أو رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف ، ويعضد ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في صلاة التراويح : نعمت البدعة هذه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) استظهر أبو حيان كون الخطاب لمن آمن من أمته صلى الله تعالى عليه وسلم غير أهل الكتاب والآثار تؤيد ذلك ، أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قالا : إن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فشهدوا معه أحدا فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم أحد فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا : يا رسول الله إنّا أهل ميسرة فأذن لنا نجيء بأموالنا نواسي بها المسلمين فأنزل الله تعالى فيهم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) إلى قوله سبحانه : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) [القصص : ٥٢ ـ ٥٤] فجعل لهم أجرين فلما نزلت هذه الآية قالوا : يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية أي أي رادا عليهم قولهم : ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم.

وفي الكشاف إن قائل ذلك من لم يكن آمن من أهل الكتاب قالوه حين سمعوا تلك الآية يفخرون به على المسلمين ، والمعنى يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان (اتَّقُوا اللهَ) اثبتوا على تقواه عزوجل فيما نهاكم عنه.

(وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) وأثبتوا على الإيمان برسوله الذي أرسله إليكم وهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وفي التعبير عنه بذلك ما لا يخفى من الدلالة على جلالة قدره عليه الصلاة والسلام (يُؤْتِكُمْ) بسبب ذلك.

(كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال أبو موسى الأشعري : ضعفين بلسان الحبشة ، وقال غير واحد : نصيبين ، والمراد إيتاؤهم أجرين كمؤمني أهل الكتاب كأنه قيل : يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الأجرين لأنكم مثلهم في الإيمان بالرسل المتقدمين وبخاتمهم صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم أجمعين لا تفرقوا بين أحد من رسله.

وقال الراغب : الكفل الحظ الذي فيه الكفاية كأنه تكفل بأمره ، والكفلان هما المرغوب فيهما بقوله تعالى (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] ولا دلالة على التخصيص.

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يوم القيامة وهو النور المذكور في قوله تعالى : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [الحديد : ١٢] (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ما سلف منكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي مبالغ في المغفرة والرحمة فلا بدع إذا فعل سبحانه ما فعل ، وقوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) قيل : متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط إذ التقدير إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا إلخ ، وقيل : متعلق بالأفعال الثلاثة قبله على التنازع ، أو بمقدر كفعل ذلك وأعلمهم ونحوه و (لا) مزيدة مثلها في قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] ويجوز زيادتها مع القرينة كثيرا و (أن) مخففة من الثقيلة واسمها المحذوف ضمير أهل الكتاب أي إنهم ، وقيل : ضمير الشأن وما بعد خبرها والجملة في حيز النصب على أنها مفعول يعلم أي ليعلم أهل الكتاب القائلون من آمن بكتابكم منا فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم أنهم لا ينالون شيئا من فضل الله من الأجرين وغيرهما ولا يتمكنون من نيله ما لم يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحاصله الإعلام بأن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئا ما لم يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام فقولهم : من لم يؤمن بكتابكم فله أجر باطل.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : لما نزلت (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) [القصص :

١٩٢

٥٤] فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : لنا أجران ولكم أجر فاشتد ذلك على أصحابه عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ فجعل لهم سبحانه أجرين مثل ما لمؤمني أهل الكتاب ، وقال الثعلبي : فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور ثم قال سبحانه : (لِئَلَّا يَعْلَمَ) إلخ ، وحاصله على هذا ليعلموا أنهم ليسوا ملاك فضله عزوجل فيزوره عن المؤمنين ويستبدوا به دونهم ، وقوله تعالى : (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) عطف على أن لا يقدرون داخل معه في حيز العلم ، وقوله سبحانه : (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) خبر ثان لأن أو هو الخبر وما قبله على ما قيل : حال لازمة أو استئناف ، وقوله عزوجل : (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله.

وذهب بعض إلى أن الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو لمن لم يؤمن منهم بعد : فالمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما‌السلام آمنوا بمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم أي اثبتوا على الإيمان به أو أحدثوا الايمان به عليه الصلاة والسلام يؤتكم نصيبين من رحمته نصيبا على إيمانكم بمن آمنتم به أولا ونصيبا على إيمانكم بمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم آخرا ليعلم الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئا مما يناله المؤمنون منهم ولا يتمكنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الذي هو الإيمان برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأيد ذلك بما في صحيح البخاري «من كانت له أمة علمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران ، وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران ، وأيما مملوك أدى حق الله تعالى وحق مواليه فله أجران» ولا إشكال في ذلك بالنسبة إلى النصارى ، ولذا قيل : الخطاب لهم لأن ملتهم غير منسوخة قبل ظهور الملة المحمدية ومعرفتهم بها فيثابون على العمل بها حتى يجب عليه الإيمان بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فإذا آمنوا أثيبوا أيضا فكان لهم ثوابان ، نعم قد يستشكل بالنسبة إلى غيرهم لأن مللهم منسوخة بملة عيسى عليه‌السلام والمنسوخ لا ثواب في العمل به ، ويجاب بأنه لا يبعد أن يثابوا على العمل بملتهم السابقة وإن كانت منسوخة ببركة الإسلام.

وأجاب بعضهم أن الإثابة على نفس إيمان ذلك الكتابي بنبيه وإن كان منسوخ الشريعة فإن الإيمان بكل نبي فرض سواء كان منسوخ الشريعة أم لا ، وقيل : إن (لا) في (لِئَلَّا يَعْلَمَ) غير مزيدة وضمير لا يقدرون للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين أي فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقد أهل الكتاب أن الشأن لا يقدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون به على شيء من فضل الله تعالى الذي هو عبارة عما أوتوه من سعادة الدارين ولا ينالونه ، أو أنهم أي النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنون لا يقدرون إلخ ، على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك كناية عن علمهم بقدرتهم عليه فيكون قوله سبحانه : (وَأَنَّ الْفَضْلَ) إلخ معطوفا على ـ أن لا يعلم ـ داخلا معه في حيز التعليل دون أن لا يقدر فكأنه قيل : فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقدوا كذا ولأن الفضل بيد الله فيكون من عطف الغاية على الغاية بناء على المشهور ولتكلف هذا القيل مع مخالفته لبعض القراءات لم يذهب إليه معظم المفسرين ، وقرأ خطاب بن عبد الله ـ لأن لا يعلم ـ بالإظهار ، وعبد الله بن مسعود وابن عباس وعكرمة والجحدري وعبد الله بن سلمة على اختلاف ليعلم ، وقرأ الجحدري أيضا ـ ولييعلم ـ على أن أصله لئن يعلم فقلبت الهمزة ياء لكسرة ما قبلها وأدغمت النون في الياء بغير غنة ، وروى ابن مجاهد عن الحسن ـ ليلا ـ مثل ليلى اسم المرأة «يعلم» بالرفع ، ووجه بأن أصله ـ لأن لا ـ بفتح لام الجر وهي لغة عليه قوله :

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

تمثل لي ليلى بكل سبيل

فحذفت الهمزة اعتباطا وأدغمت النون في اللام فصار ـ للا ـ فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها فأبدلوا من اللام

١٩٣

المدغمة ياء نظير ما فعلوا في قيراط ودينار حيث إن الأصل قراط ودنار فأبدوا أحد المثلين فيهما ياء للتخفيف فصار ـ ليلا ـ ورفع الفعل لأن أن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع ، وروى قطرب عن الحسن أيضا ـ ليلا ـ بكسر اللام ووجهه كالذي قبله إلا أن كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر ؛ وعن ابن عباس كي يعلم ، وعنه أيضا لكيلا يعلم ، وعن عبد الله وابن جبير وعكرمة لكي يعلم.

وقرأ عبد الله أن لا يقدروا بحذف النون على أن إن هي الناصبة للمضارع ، والله تعالى أعلم.

ومما ذكره المتصوفة قدست أسرارهم في بعض آياتها (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) قالوا : هو إشارة إلى وحدانية ذاته سبحانه المحيطة بالكل ، وقالوا في قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) إشارة إلى أنهم لا وجود لهم في جميع مراتبهم بدون وجوده عزوجل ، وقوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) إشارة إلى ظهور تجلي الجلال في تجلي الجمال وبالعكس (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) إشارة للمشايخ الكاملين إلى تربية المريدين بإفاضة ما يقوي استعدادهم مما جعلهم الله تعالى متمكنين فيه من الأحوال والملكات.

وقال سبحانه : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) لئلا يقنط القاسي من رحمته تعالى ويترك الاشتغال بمداواة القلب الميت (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أوردها الصوفية في باب الرعاية وقسموها إلى رعاية الأعمال والأحوال والأوقات ـ ويرجع ما قالوه فيها ـ على ما قيل ـ إلى حفظها عن إيقاع خلل فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي نصيبين نصيبا من معارف الصفات الفعلية ونصيبا من معارف الصفات الذاتية (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً) من نور ذاته عزوجل وهو على ما قيل : إشارة إلى البقاء بعد الفناء ، وقيل : هذا النور إشارة إلى نور الكشف والمشاهدة رتب سبحانه جعله للمؤمن على تقواه وإيمانه برسوله الأعظم صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : هو نور العلم النافع الذي يتمكن معه من السير في الحضرات الإلهية كما يشير إليه وصفه بقوله عزوجل : (تَمْشُونَ بِهِ) ؛ وفي بعض الآثار «من عمل بما علم علمه الله تعالى علم ما لم يعلم» وقال سبحانه : (اتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) وكل ذلك في الحقيقة فضل الله تعالى والله عزوجل ذو الفضل العظيم نسأله سبحانه أن لا يحرمنا من فضله العظيم ولطفه العميم وأن يثبتنا على متابعة حبيبه الكريم عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم.

تم بعونه تعالى وتوفيقه الجزء السابع والعشرون ، ويليه الجزء الثامن والعشرون أوله

سورة المجادلة

١٩٤

روح المعاني الجزء الثامن والعشرون

١٩٥
١٩٦

سورة المجادلة

بفتح الدال وكسرها ، والثاني هو المعروف ، وتسمى سورة ـ قد سمع ـ وسميت في مصحف أبيّ رضي الله تعالى عنه الظهار ، وهي على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم مدنية ؛ وقال الكلبي وابن السائب إلا قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [المجادلة : ٧] ، وعن عطاء : العشر الأول منها مدني وباقيها مكي ، وقد انعكس ذلك على البيضاوي ، وأنها إحدى وعشرون في المكي والمدني الأخير ، واثنتان وعشرون في الباقي ، وفي التيسير هي عشرون وأربع آيات وهو خلاف المعروف في كتاب العدد.

ووجه مناسبتها لما قبلها أن الأولى ختمت بفضل الله تعالى وافتتحت هذه بما هو من ذلك ، وقال بعض الأجلة في ذلك : لما كان في مطلع الأولى ذكر صفاته تعالى الجليلة ، ومنها الظاهر والباطن ، وقال سبحانه : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] افتتح هذه بذكر أنه جل وعلا سمع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى ، ولهذا قالت عائشة فيما رواه النسائي وابن ماجة والبخاري تعليقا حين نزلت : «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله تعالى (قَدْ سَمِعَ) [المجادلة : ١]» إلخ ، وذكر سبحانه بعد ذلك (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) الآية ، وهي تفصيل لإجمال قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين الحديد والحشر مع تواخيهما في الافتتاح ـ بسبح ـ إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتأمل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٣)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللهُ) بإظهار الدال ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن بإدغامها في السين ، قال خلف بن هشام البزار : سمعت الكسائي يقول : من قرأ قد سمع فبين الدال فلسانه أعجمي ليس بعربي ، ولا يلتفت إلى هذا فكلا الأمرين فصيح متواتر بل الجمهور على البيان (قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها)

١٩٧

أي تراجعك الكلام في شأنه وفيما صدر عنه في حقها من الظهار ، وقرئ ـ تحاورك ـ والمعنى على ما تقدم وتحاولك أي تسائلك (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) عطف على (تُجادِلُكَ) فلا محل للجملة من الإعراب ، وجوز كونها حالا أي تجادلك شاكية حالها إلى الله تعالى ، وفيه بعد معنى ، ومع هذا يقدر معها مبتدأ أي وهي تشتكي لأن المضارعية لا تقترن بالواو في الفصيح فيقدر معها المبتدأ لتكون اسمية ، واشتكاؤها إليه تعالى إظهار بثها وما انطوت عليه من الغم والهم وتضرعها إليه عزوجل وهو من الشكو ، وأصله فتح الشكوة وإظهار ما فيها ، وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء ثم شاع في ذلك ، وهي امرأة صحابية من الأنصار اختلف في اسمها واسم أبيها ، فقيل : خولة بنت ثعلبة بن مالك ، وقيل : بنت خويلد ، وقيل : بنت حكيم ، وقيل : بنت الصامت ، وقيل : خويلة بالتصغير بنت ثعلبة ، وقيل : بنت مالك بن ثعلبة ، وقيل : جميلة بنت الصامت ، وقيل : غير ذلك ، والأكثرون على أنها خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية ، وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت ، وقيل : هو سلمة بن صخر الانصاري ، والحق أن لهذا قصة أخرى ، والآية نزلت في خولة وزوجها أوس ، وذلك أن زوجها أوسا كان شيخا كبيرا قد ساء خلقه فدخل عليها يوما فراجعته بشيء فغضب ، قال : أنت علي كظهر أمي ، وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه ـ وكان هذا أول ظهار في الإسلام ـ فندم من ساعته فدعاها فأبت ، وقالت : والذي نفس خولة بيده لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فينا ، فأتت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت : يا رسول الله إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما خلا سني ونثرت بطني ـ أي كثر ولدي ـ جعلني عليه كأمه وتركني إلى غير أحد فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه فحدثني بها؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «والله ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» ، وفي رواية «ما أراك إلا قد حرمت عليه» قالت : ما ذكر طلاقا ، وجادلت رسول الله عليه الصلاة والسلام مرارا ثم قالت : اللهم إني أشكو إليك شدة وحدتي وما يشق علي من فراقه ، وفي رواية قالت : أشكو إلى الله تعالى فاقتي وشدة حالي وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك اللهم فأنزل على لسان نبيك وما برحت حتى نزل القرآن فيها ، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : «يا خولة أبشري قالت : خيرا؟ فقرأ عليه الصلاة والسلام عليها (قَدْ سَمِعَ اللهُ) الآيات» وكان عمر رضي الله تعالى عنه يكرمها إذا دخلت عليه ويقول : قد سمع الله تعالى لها.

وروى ابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات أنها لقيته رضي الله تعالى عنه وهو يسير مع الناس فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها ووضع يده على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت ، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين حبست رجال قريش على هذه العجوز قال : ويحك أتدري من هذه؟ قال : لا. قال : هذه امرأة سمع الله تعالى شكواها من فوق سبع سماوات هذه خولة بنت ثعلبة ، والله لو لم تنصرف حتى أتى الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها ، وفي رواية للبخاري في تاريخه أنها قالت له : قف يا عمر فوقف فأغلظت له القول ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم فقال رضي الله تعالى عنه : وما يمنعني أن أستمع إليها وهي التي استمع الله تعالى لها فأنزل فيها ما أنزل (قَدْ سَمِعَ اللهُ) الآيات ، والسماع مجاز عن القبول والإجابة بعلاقة السببية أو كناية عن ذلك ، و (قَدْ) للتحقيق أو للتوقع ، وهو مصروف إلى تفريج الكرب لا إلى السمع لأنه محقق أو إلى السمع لأنه مجاز أو كناية عن القبول ، والمراد توقع المخاطب ذلك ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوقع أن ينزل الله تعالى حكم الحادثة ويفرج عن المجادلة كربها ، وفي الأخبار ما يشعر بذلك والسمع في قوله تعالى : (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) على ما هو المعروف فيه من

١٩٨

كونه صفة يدرك بها الأصوات غير صفة العلم ، أو كونه راجعا إلى صفة العلم ، والتحاور المرادة في الكلام ، وجوز أن يراد به الكلام المردد ، ويقال : كلمته فما رجع إلي حوارا وحويرا ومحورة أي ما رد علي بشيء ، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدده ، وفي نظمها في سلك الخطاب تغليبا تشريف لها من جهتين ، والجملة استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فإن إلحافها في المسألة ومبالغتها في التضرع إلى الله تعالى ومدافعته عليه الصلاة والسلام إياها وعلمه عزوجل بحالهما من دواعي الاجابة ، وقيل : هي حال كالجملة السابقة ، وفيه أيضا بعد ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) تعليل لما قبله بطريق التحقيق أي إنه تعالى يسمع كل المسموعات ويبصر كل المبصرات على أتم وجه وأكمله ومن قضية ذلك أن يسمع سبحانه تحاورهما ، ويرى ما يقارنه من الهيئات التي من جملتها رفع رأسها إلى السماء وسائر آثار التضرع ، والاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة وتعليل الحكم بما اشتهر به الاسم الجليل من وصف الألوهية وتأكيد استقلال الجملتين ، وقوله عزوجل : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) شروع في بيان شأن الظهار في نفسه وحكمه المترتب عليه شرعا ، وفي ذلك تحقيق قبول تضرع تلك المرأة وإشكائها بطريق الاستئناف.

والظهار لغة مصدر ظاهر وهو مفاعلة من الظهر ، ويراد به معان مختلفة راجعة إلى الظهر معنى ولفظا باختلاف الأغراض ، فيقال : ظاهر زيد عمرا أي قابل ظهره بظهره حقيقة وكذا إذا غايظه ، وإن لم يقابل حقيقة باعتبار أن المغايظة تقتضي هذه المقابلة ، وظاهره إذا نصره باعتبار أنه يقال : قوي ظهره إذا نصره ، وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر باعتبار جعل ما يلي به كل منهما الآخر ظهرا للثوب وظاهر من امرأته إذا قال لها : أنت علي كظهر أمي ، وغاية ما يلزم كون لفظ الظهر في بعض هذه التراكيب مجازا ، وهو لا يمنع الاشتقاق منه ويكون المشتق مجازا أيضا ، وهذا الأخير هو المعنى الذي نزلت فيه الآيات.

وعرفه الحنفية شرعا بأنه تشبيه المنكوحة أو عضوا منها يعبر به عن الكل كالرأس أو جزء شائع منها كالثلث بقريب محرم عليه على التأييد أو بعضو منه يحرم عليه النظر إليه.

وحكي عن الشافعية أنه تشبيهها أو عضو منها بمحرم من نسب أو رضاع أو مصاهرة أو عضو منه لا يذكر للكرامة كاليد والصدر ، وكذا العضو الذي يذكر لها كالعين والرأس إن قصد معنى الظهار ، وهو التشبيه بتحريم نحو الأم لا أن قصد الكرامة أو أطلق في الأصح ، وتخصيص المحرم بالأم قول قديم للشافعي عليه الرحمة ، وتفصيل ذلك في كتب الفقه للفريقين ، وكان الظهار بالمعنى السابق طلاقا في الجاهلية قيل : وأول الإسلام.

وحكى بعضهم أنه كان طلاقا يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه ، وقيل : لم يكن طلاقا من كل وجه بل لتبقى معلقة لا ذات زوج ولا خلية تنكح غيره ، وذكر بعض الأجلة أنهم كانوا يعدونه طلاقا مؤكدا باليمين على الاجتناب ، ولذا قال الشافعية : إن فيه الشائبتين ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى حكمه الشرعي وعدي بمن مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى التبعيد ولما سمعت أنه كان طلاقا وهو مبعد ، والظهر في قولهم : أنت علي كظهر أمي قيل : مجاز عن البطن لأنه إنما يركب البطن ـ فكظهر أمي ـ أي كبطنها بعلاقة المجاورة ، ولأنه عموده لكن لا يظهر ما هو الصارف عن الحقيقة من النكات ، وقيل : خص الظهر لأنه محل الركوب والمرأة مركوب الزوج ، ومن ثم سمي المركوب ظهرا ، وقيل : خص ذلك لأن إتيان المرأة من ظهرها في قبلها كان حراما فإتيانه أمه من ظهرها أحرم فكثر التغليظ ، وإقحام (مِنْكُمْ) في الآية للتصوير والتهجين لأن الظهار كان مخصوصا بالعرب ، ومنه يعلم أنه ليس من مفهوم الصفة ليستدل به على عدم صحة ظهار الذمي كما حكي عن المالكية ، ومن هنا قال الشافعية : يصح من الذمي

١٩٩

والحربي لعموم الآية ، وكذا الحنابلة والحنفية يقولون : لا يصح منهما ، وفي رواية عن أبي حنيفة صحته من الذمي ، والرواية المعول عليها عدم الصحة لأنه ليس من أهل الكفارة ، وشنع على الشافعية في قولهم بصحته منه مع اشتراطهم النية في الكفارة والإيمان في الرقبة ، وتعذر ملكه لها لأن الكافر لا يملك المؤمن ، وقال بعض أجلتهم إن في الكفارة شائبة الغرامات ونيتها في كافر كفر بالإعتاق للتمييز كما في قضاء الديون لا الصوم لأنه لا يصح منه لأنه عبادة بدنية لا ينتقل عنه للإطعام لقدرته عليه بالإسلام فإن عجز انتقل ونوى للتمييز أيضا ، ويتصور ملكه للمسلم بنحو إرث أو إسلام قنه ، أو يقول لمسلم : أعتق قنك عن كفارتي ، فيجيب فإن لم يمكنه شيء من ذلك وهو مظاهر موسر منع من الوطء لقدرته على ملكه بأن يسلم فيشتريه انتهى.

وفي كتاب بعض الأصحاب كالبحر وغيره كلام مع الشافعية في هذه المسألة فيه نقض وإبرام لا يخلو عن شيء والسبب في ذلك قلة تتبع معتبرات كتبهم ، وقرأ الحرميان وأبو عمرو ـ يظهرون ـ بشد الظاء والهاء ، والأخوان وابن عامر «يظاهرون» مضارع اظاهر ، وأبي «يتظاهرون» مضار تظاهر ، وعنه أيضا ـ يتظهرون ـ مضارع تظهر ، والموصول مبتدأ خبره محذوف أي مخطئون ، وأقيم دليله وهو قوله تعالى : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) مقامه أو هو الخبر نفسه أي ما نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة فهو كذب بحت.

وقرأ المفضل عن عاصم «أمهاتهم» بالرفع على لغة تميم ، وقرأ ابن مسعود ـ بأمهاتهم ـ بزيادة الباء ، قال الزمخشري : في لغة من ينصب أي بما الخبر ـ وهم الحجازيون ـ يعني أنهم الذين يزيدون الباء دون التميميين وقد تبع في ذلك أبا علي الفارسي ، ورد بأنه سمع خلافه كقول الفرزدق وهو تميمي :

لعمرك ما معن بتارك حقه

ولا منسئ معن ولا متيسر

(إِنْ أُمَّهاتُهُمْ) أي ما أمهاتهم على الحقيقة (إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) فلا يشبه بهن من الحرمة إلا من ألحقها الله تعالى بهن كالمرضعات ومنكوحات الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فدخلن في حكم الأمهات ، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة (إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) ينكره الشرع والعقل والطبع أيضا كما يشعر به التنكير ، ومناط التأكيد كونه منكرا ، وإلا فصدور القول عنهم أمر محقق (وَزُوراً) أي وكذبا باطلا منحرفا عن الحق ، ووجه كون الظهار كذلك عند من جعله إخبارا كاذبا ـ علق عليه الشارع الحرمة والكفارة ـ ظاهر ، وأما عند من جعله إنشاء لتحريم الاستمتاع في الشرع ـ كاطلاق على ما هو الظاهر ـ فوجهه أن ذلك باعتبار ما تضمنه من إلحاق الزوجة بالأم المنافي لمقتضى الزوجية (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أي مبالغ في العفو والمغفرة فيغفر ما سلف منه ويعفو عمن ارتكبه مطلقا أو بالتوبة ، ويعلم من الآيات أن الظهار حرام بل قالوا : إنه كبير لأن فيه إقداما على إحالة حكم الله تعالى وتبديله بدون إذنه ، وهذا أخطر من كثير من الكبائر إذ قضيته الكفر لو لا خلو الاعتقاد عن ذلك ، واحتمال التشبيه لذلك وغيره ، ومن ثم سماه عزوجل (مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) ، وإنما كره ـ على ما ذكره بعض الشافعية أنت على حرام ـ لأن الزوجية ومطلق الحرمة يجتمعان بخلافها مع التحريم المشابه لتحريم نحو الأم ، ومن ثم وجب هنا الكفارة العظمى. وثم على ما قالوا : كفارة يمين ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) إلخ تفصيل لحكم الظهار بعد بيان كونه أمرا منكرا بطريق التشريع الكلي المنتظم لحكم الحادثة انتظاما أوليا ، والموصول مبتدأ ، وقوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) مبتدأ آخر خبره مقدر أي فعليهم تحرير رقبة ، أو فاعل فعل مقدر أي فيلزمهم تحرير ، أو خبر مبتدأ مقدر أي فالواجب عليهم «تحرير» ، وعلى التقادير الثلاثة الجملة خبر الموصول ودخلته الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، و ـ ما ـ موصولة أو مصدرية ، واللام متعلقة ب (يَعُودُونَ) وهو يتعدى بها كما يتعدى ـ بإلى. وبفي ـ

٢٠٠