روح المعاني - ج ١٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

يشترط دوامه كالخطبة ، وللإمام أن الانعقاد بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة لأن ما دونها ليس بصلاة فلا بد من دوامه إلى ذلك بخلاف الخطبة لأنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها.

وقال جمهور الشافعية : إن انفض الأربعون ، أو بعضهم في الصلاة ولم يحرم عقب انفضاضهم في الركعة الأولى عدد نحوهم سمع الخطبة بطلت الجمعة فيتمونها ظهرا لنحو ما قال زفر ، وفي قول : لا يضر إن بقي اثنان مع الإمام لوجود مسمى الجماعة إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وتمام ذلك في محله.

وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل كثير من العبادات لا سيما مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي أن ذلك قد وقع مرارا منهم ، وفيه أن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا ، والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة ، ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد ، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا ، ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم ، ورواية أن ذلك وقع منهم مرارا إن أريد بها رواية البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال : بلغني ـ والله تعالى أعلم ـ أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعلو عند المحدثين عليه ، وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته ، وأنى بذلك؟! والجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر.

هذا «ومن باب الإشارة» على ما قيل في الآيات : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) إشارة إلى عظيم قدرته عزوجل وأن إفاضة العلوم لا تتوقف على الأسباب العادية ، ومنه قالوا : إن الولي يجوز أن يكون أميا كالشيخ معروف الكرخي ـ على ما قال ابن الجوزي ـ وعنده من العلوم اللدنية ما تقصر عنها العقول ، وقال العز بن عبد السلام : قد يكون الإنسان عالما بالله تعالى ذا يقين وليس عنده علم من فروض الكفايات ، وقد كان الصحابة أعلم من علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة مع أن علماء التابعين من هو أقوم بعلم الفقه من بعض الصحابة ، ومن انقطع إلى الله عزوجل وخلصت روحه أفيض على قلبه أنوار إلهية تهيأت بها لإدراك العلوم الربانية والمعارف اللدنية ، فالولاية لا تتوقف قطعا على معرفة العلوم الرسمية كالنحو والمعاني والبيان وغير ذلك ، ولا على معرفة الفقه مثلا على الوجه المعروف بل على تعلم ما يلزم الشخص من فروض العين على أي وجه كان من قراءة أو سماع من عالم أو نحو ذلك ، ولا يتصور ولاية شخص لا يعرف ما يلزمه من الأمور الشرعية كأكثر من تقبل يده في زماننا ، وقد رأيت منهم من يقول ـ وقد بلغ من العمر نحو سبعين سنة ـ إذا تشهد لا إله أن الله بأن بدل إلا فقلت له : منذ كم تقول هكذا؟ فقال : من صغري إلى اليوم فكررت عليه الكلمة الطيبة فما قالها على الوجه الصحيح إلا بجهد ، ولا أظن ثباته على نحو ذلك ، وخبر «لا يتخذ الله وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه» ليس من كلامه عليه الصلاة والسلام ، ومع ذلك لا يفيد في دعوى ولاية من ذكرنا.

وذكر بعضهم أن قوله تعالى : (وَيُزَكِّيهِمْ) بعد قوله سبحانه : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) إشارة إلى الإفاضة القلبية بعد الإشارة إلى الإفادة القالية اللسانية ، وقال بحصولها للأولياء المرشدين : فيزكون مريديهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم حتى تخلص قلوبهم وتزكو نفوسهم ، وهو سر ما يقال له التوجه عند السادة النقشبندية ، وقالوا : بالرابطة ليتهيأ ببركتها القلب لما يفاض عليه ، ولا أعلم لثبوت ذلك دليلا يعول عليه عن الشارع الأعظم صلّى الله تعالى عليه وسلم ،

٣٠١

ولا عن خلفائه رضي الله تعالى عنهم ، وكل ما يذكرونه في هذه المسألة ويعدونه دليلا لا يخلو عن قادح بل أكثر تمسكاتهم فيها تشبه التمسك بحبال القمر ، ولو لا خوف الإطناب لذكرتها مع ما فيها ، ومع هذا لا أنكر بركة كل من الأمرين : التوجه والرابطة ، وقد شاهدت ذلك من فضل الله عزوجل ، وأيضا لا أدعي الجزم بعدم دليل في نفس الأمر ، وفوق كل ذي علم عليم ، ولعل أول من أرشد إليهما من السادة وجد فيهما ما يعول عليه ، أو يقال : يكفي للعمل بمثل ذلك نحو ما تمسك به بعض أجلة متأخريهم وإن كان للبحث فيه مجال ولأرباب القال في أمره مقال ، وفي قوله تعالى : (وَآخَرِينَ) إلخ بناء على عطفه على الضمير المنصوب قيل : إشارة إلى عدم انقطاع فيضه صلّى الله تعالى عليه وسلم عن أمته إلى يوم القيامة ، وقد قالوا بعدم انقطاع فيض الولي أيضا بعد انتقاله من دار الكثافة والفناء إلى دار التجرد والبقاء : وفي قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) إلخ إشارة إلى سوء حال المنكرين مع علمهم ، وفي قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) الآية إشارة الى جواز امتحان مدعي الولاية ليظهر حاله بالامتحان فعند ذلك يكرم أو يهان ، وفي عتاب الله تعالى المنفضين إشارة إلى نوع من كيفيات تربية المريد إذا صدر منه نوع خلاف ليسلك الصراط السوي ولا يرتكب الاعتساف ، وفي الآيات بعد إشارات يضيق عنها نطاق العبارات ، «ومن عمل بما علم أورثه الله عزوجل علم ما لم يعلم».

٣٠٢

سورة المنافقون

مدنية وعدد آياتها إحدى عشرة آية بلا خلاف ، ووجه اتصالها أن سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون ، وهذه ذكر فيها أضدادهم وهم المنافقون ، ولهذا أخرج سعيد بن منصور والطبراني في الأوسط بسند حسن عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرض بها المؤمنين. وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرّع بها المنافقين ، وقال أبو حيان في ذلك : إنه لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلا عن المنافقين واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة إذ كان الوقت وقت مجاعة ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان وأتبع بقبائح أفعالهم وأقوالهم ، والأول أولى.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٤)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) أي حضروا مجلسك ، والمراد بهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) التأكيد بأن واللام للازم فائدة الخبر وهو علمهم بهذا الخبر المشهود به فيفيد تأكيد الشهادة ، ويدل على ادعائهم فيها المواطأة وإن كانت في نفسها تقع على الحق والزور والتأكيد في قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) لمزيد الاعتناء حقيقة بشأن الخبر ، أو ليس إلا ليوافق صنيعهم ، وجيء بالجملة اعتراضا لإماطة ما عسى أن يتوهم من قوله عزوجل : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) من رجوع التكذيب إلى نفس الخبر المشهود به من أول الأمر ، وذكر الطيبي أن هذا نوع من التتميم لطيف المسلك ، ونظيره قول أبي الطيب :

وتحتقر الدنيا احتقار مجرب

ترى كل ما فيها وحاشاك فانيا

فالتكذيب راجع إلى (نَشْهَدُ) باعتبار الخبر الضمني الذي دل عليه التأكيد وهو دعوى المواطأة في الشهادة أي والله يشهد إنهم لكاذبون فيما ضمنوه قولهم : (نَشْهَدُ) من دعوى المواطأة وتوافق اللسان والقلب في هذه

٣٠٣

الشهادة ، وقد يقال : الشهادة خبر خاص وهو ما وافق فيه اللسان القلب ، وأما شهادة الزور فتجوز كإطلاق البيع على غير الصحيح فهم كاذبون في قولهم : (نَشْهَدُ) المتفرع على تسمية قولهم ذلك شهادة ، وهو مراد من قال : أي لكاذبون في تسميتهم ذلك شهادة فلا تغفل.

وعلى هذا لا يحتاج في تحقق كذبهم إلى ادعائهم المواطأة ضمنا لأن اللفظ موضوع للمواطئ ، وجوز أن يكون التكذيب راجعا إلى قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) باعتبار لازم فائدة الخبر وهو بمعنى رجوعه إلى الخبر الضمني ، وأن يكون راجعا إليه باعتبار ما عندهم أي لكاذبون في قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أنه كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه ، قيل : وعلى هذا الكذب هو الشرعي اللاحق به الذم ألا ترى أن المجتهدين لا ينسبون إلى الكذب وإن نسبوا إلى الخطأ.

وجوز العلامة الثاني أن يكون التكذيب راجعا إلى حلف المنافقين ، وزعموا أنهم لم يقولوا (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) من حوله و (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقون : ٧ ، ٨] لما ذكر في صحيح البخاري عن زيد بن أرقم أنه قال : كنت في غزاة مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فسمعت عبد الله بن أبيّ ابن سلول يقول : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكره لنبي الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فدعاني فحدّثته فأرسل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا أنهم ما قالوا : فكذبني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط فجلست في البيت فقال لي عمي : ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ومقتك فأنزل الله (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) فبعث إليّ النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقرأ فقال : «إن الله صدقك يا زيد».

وجوز بعض الأفاضل أن يكون المعنى إن المنافقين شأنهم الكذب وإن صدقوا في هذا الخبر ، وأيا ما كان فلا يتم للنظام الاستدلال بالآية على أن صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر ولو كان ذلك الاعتقاد خطأ وكذبه عدمها ، وإظهار المنافقين في موقع الإضمار لذمهم والإشعار بعلة الحكم والكلام في (إِذا) على نحو ما مر آنفا.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) أي الكاذبة على ما يشير إليه الإضافة (جُنَّةً) أي وقاية عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل أو السبي أو غير ذلك قال قتادة : كلما ظهر على شيء منهم يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم ، وهذا كلام مستقل تعدادا لقبائحهم وأنهم من عادتهم الاستجنان بالأيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة ، ويجوز أن يراد بأيمانهم شهادتهم السابقة ، والشهادة وأفعال العلم واليقين أجرتها العرب مجرى القسم ؛ وتلقتها بما يتلقى القسم ، ويؤكد بها الكلام كما يؤكد به ، فلهذا يطلق عليها اليمين ، وبهذا استشهد أبو حنيفة على أن أشهد يمين ، واعترضه ابن المنير بأن غاية ما في الآية أنه سمي يمينا ، والكلام في وجوب الكفارة بذلك لا في إطلاق الاسم ، وليس كل ما يسمى يمينا تجب فيه الكفارة ، فلو قال : أحلف على كذا لا تجب عليه الكفارة ، وإن كان حلفا ، والجمع باعتبار تعدد القائلين ، والكلام على هذا استئناف يدل على فائدة قولهم ذلك عندهم مع الذم البالغ بما عقبه ، وقيل : إن (اتَّخَذُوا) جواب (إِذا) وجملة (قالُوا) السابقة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه وهو خلاف الظاهر ، وأبعد منه جعل الجملة حالا وتقدير جواب ـ لإذا ـ وقال الضحاك : أي اتخذوا حلفهم بالله إنهم لمنكم جنة عن القتل أو السبي أو نحوهما مما يعامل به الكفار. ومن هنا أخذ الشاعر قوله :

وما انتسبوا إلى الإسلام إلا

لصون دمائهم أن لا تسالا

٣٠٤

وعن السدي انهم اتخذوا ذلك جنة من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا ، وهو كما ترى وكذا ما قبله.

(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي من أراد الدخول في دين الإسلام ؛ أو من أراد فعل طاعة مطلقا على أن الفعل متعد ، والمفعول محذوف ، أو أعرضوا عن الإسلام حقيقة على أن الفعل لازم ، وأيا ما كان فالمراد على ما قيل : استمرارهم على ذلك ، وحمل بعض الأجلة الأيمان على ما يعم ما حكي عنهم من الشهادة ، ثم قال : واتخاذها جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة ، وعن سببها أيضا كما يفصح عنه الفاء في (فَصَدُّوا) أي من أراد الإسلام أو الإنفاق كما سيحكى عنهم ، ولا ريب في أن هذا الصد متقدم على حلفهم ، وقرئ ـ أي قرأ الحسن ـ «إيمانهم» بكسر الهمزة أي الذي أظهروه على ألسنتهم فاتخاذه جنة عبارة عن استعماله بالفعل فإنه وقاية دون دمائهم وأموالهم ، فمعنى قوله تعالى : (فَصَدُّوا) فاستمروا على ما كانوا عليه من الصدود والاعراض عن سبيله تعالى انتهى ، وفيه ما يعرف بالتأمل فتأمل (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من النفاق وما يتبعه ، وقد مر الكلام في (ساءَ) غير مرة (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم من القول الناعي عليهم أنهم أسوأ الناس أعمالا أو إلى ما ذكر من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان الفاجرة أو الإيمان الصوري ، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مر مرارا من الاشعار في مثل هذا المقام ببعد منزلته في الشر ، وجوز ابن عطية كونه إشارة إلى سوء ما عملوا ، فالمعنى ساء عملهم (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (آمَنُوا) أي نطقوا بكلمة الشهادة كسائر من يدخل في الإسلام (ثُمَّ كَفَرُوا) ظهر كفرهم وتبين بما اطلع عليه من قولهم : إن كان ما يقوله محمد حقا فنحن حمير ، وقولهم في غزوة تبوك : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات ، وغير ذلك ، و «ثم» على ظاهرها ، أو لاستبعاد ما بين الحالين ، أو ثم أسروا الكفر ـ فثم ـ للاستبعاد لا غير ، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزأ بالإسلام ، وقيل : الآية في أهل الردة منهم.

(فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) حتى يموتوا على الكفر (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) حقيقة الإيمان أصلا.

وقرأ زيد بن علي «فطبع» بالبناء للفاعل وهو ضميره تعالى ، وجوز أن يكون ضميرا يعود على المصدر المفهوم مما قبل ـ أي فطبع هو ـ أي تلعابهم بالدين ، وفي رواية أنه قرأ فطبع الله مصرحا بالاسم الجليل ، وكذا قرأ الأعمش (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لصباحتها وتناسب أعضائها (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم ، وكان ابن أبيّ جسيما فصيحا يحضر مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من أمثاله كالجد بن قيس ومتعب بن قشير فكان عليه الصلاة والسلام ومن معه يعجبون من هياكلهم ويسمعون لكلامهم ، والخطاب قيل : لكل من يصلح له وأيد بقراءة عكرمة وعطية العوفي ـ يسمع ـ بالياء التحتية والبناء للمفعول ، وقيل : لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام ، وهذا أبلغ على ما في الكشف لأن أجسامهم إذا أعجبته صلّى الله تعالى عليه وسلم فأولى أن تعجب غيره ؛ وكذا السماع لقولهم ، وليوافق قوله تعالى : (إِذا جاءَكَ) والسماع مضمن معنى الإصغاء فليست اللام زائدة ، وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) كلام مستأنف لذمهم لا محل له من الإعراب ، وجوز أن يكون في حيز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم كأنهم إلخ ؛ والكلام مستأنف أيضا ، وأنت تعلم أن الكلام صالح للاستئناف من غير تقدير فلا حاجة إليه ، وقيل : هو في حيز النصب على الحال من الضمير المجرور في (لِقَوْلِهِمْ) أي تسمع لما يقولون مشبهين بخشب مسندة كما في قوله :

فقلت : عسى أن تبصريني كأنما

بني حواليّ الأسود الحوادر

٣٠٥

وتعقب بأن الحالية تفيد أن السماع لقولهم لأنهم كالخشب المسندة وليس كذلك ، و (خُشُبٌ) جمع خشبة كثمرة وثمر ، والمراد به ما هو المعروف شبهوا في جلوسهم مجالس رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مستندين فيها وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بخشب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحا خالية عن الفائدة لأن الخشب تكون مسندة إذا لم تكن في بناء أو دعامة بشيء آخر ، وجوز أن يراد بالخشب المسندة الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم ، وفي مثلهم قال الشاعر :

لا يخدعنك اللحى ولا الصور

تسعة أعشار من ترى بقر

تراهم كالسحاب منتشرا

وليس فيها لطالب مطر

في شجر السر ومنهم شبه

له رواء وما له ثمر

وقرأ البراء بن عازب والنحويان وابن كثير «خشب» بإسكان الشين تخفيف خشب المضموم ، ونظيره بدنة وبدن ، وقيل : جمع خشباء كحمر وحمراء ، وهي الخشبة التي نخر جوفها شبهوا بها في فساد بواطنهم لنفاقهم ، وعن اليزيدي حمل قراءة الجمهور بالضم على ذلك ، وتعقب بأن فعلاء لا يجمع على فعل بضمتين ، ومنه يعلم ضعف القيل إذ الأصل توافق القراءات.

وقرأ ابن عباس وابن المسيب وابن جبير «خشب» بفتحتين كمدرة ومدر وهو اسم جنس على ما في البحر ، ووصفه بالمؤنث كما في قوله تعالى : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي واقعة عليهم ضارة لهم لجبنهم وهلعهم فكانوا كما قال مقاتل : متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحا بأي وجه كان طارت عقولهم وظنوا ذلك إيقاعا بهم ، وقيل : كانوا على وجل من أن ينزل الله عزوجل فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم ؛ ومنه أخذ جرير قوله يخاطب الأخطل :

ما زلت تحسب كل شيء بعدهم

خيلا تكر عليهم ورجالا

وكذا المتنبي قوله :

وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم

إذا رأى غير شيء ظنه رجلا

والوقف على (عَلَيْهِمْ) الواقع مفعولا ثانيا ـ ليحسبون ـ وهو وقف تام كما في الكواشي ، وعليه كلام الواحدي ، وقوله تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ) استئناف أي هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها فإن أعدى الأعادي العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي ككثير من أبناء الزمان (فَاحْذَرْهُمْ) لكونهم أعدى الأعادي ولا تغترن بظاهرهم ، وجوز الزمخشري كون (عَلَيْهِمْ) صلة (صَيْحَةٍ) و (هُمُ الْعَدُوُّ) والمفعول الثاني ـ ليحسبون ـ كما لو طرح الضمير على معنى أنهم يحسبون الصيحة نفس العدو ، وكان الظاهر عليه هو أو هي العدو لكنه أتى بضمير العقلاء المجموع لمراعاة معنى الخبر أعني العدو بناء على أنه يكون جمعا ومفردا وهو هنا جمع ، وفيه أنه تخريج متكلف بعيد جدا لا حاجة إليه وإن كان المعنى عليه لا يخلو عن بلاغة ولطف ، ومع ذلك لا يساعد عليه ترتب (فَاحْذَرْهُمْ) لأن التحذير منهم يقتضي وصفهم بالعداوة لا بالجبن (قاتَلَهُمُ اللهُ) أي لعنهم وطردهم فإن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها ، وكذلك الطرد عن رحمة الله تعالى والبعد عن جنابه الأقدس منتهى عذابه عزوجل وغاية نكاله جل وعلا في الدنيا والآخرة ، والكلام دعاء وطلب من ذاته سبحانه أن يلعنهم ويطردهم من رحمته تعالى ، وهو من أسلوب التجريد فلا يكون من إقامة الظاهر مقام الضمير لأنه يفوت به نضارة الكلام ، أو تعليم للمؤمنين أن

٣٠٦

يدعو عليهم بذلك فهو على معنى قولوا : قاتلهم الله ، وجوز أن لا يكونوا من الطلب في شيء بأن يكون المراد أن وقوع اللعن بهم مقرر لا بد منه ، وذكر بعضهم أن قاتله الله كلمة ذم وتوبيخ ، وتستعملها العرب في موضع التعجب من غير قصد إلى لعن ، والمشهور تعقيبها بالتعجب نحو قاتله الله ما أشعره ، وكذا قوله سبحانه هنا : (قاتَلَهُمُ اللهُ).

(أَنَّى يُؤْفَكُونَ) وهذا تعجيب من حالهم ، أي كيف يصرفون عن الحق إلى ما هم عليه من الكفر والضلال؟ فأنى ظرف متضمن للاستفهام معمول لما بعده ، وجوز ابن عطية كونه ظرفا ـ لقاتلهم ـ وليس هناك استفهام ، وتعقبه أبو حيان بأن (أَنَّى) لا تكون لمجرد الظرفية أصلا ، فالقول بذلك باطل.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١١)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي عطفوها وهو كناية عن التكبر والإعراض على ما قيل ؛ وقيل : هو على حقيقته أي حركوها استهزاء ، وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) يعرضون عن القائل أو عن الاستغفار (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن ذلك.

روي أنه لما صدق الله تعالى زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن أبيّ مقت الناس ابن أبيّ ولامه المؤمنون من قومه ، وقال بعضهم له : امض إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأي ، وقال لهم : لقد أشرتم علي بالإيمان فآمنت ، وأشرتم علي بأن أعطي زكاة مالي ففعلت ، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وفي حديث أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن جبير أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال له : «تب» فجعل يلوي رأسه فأنزل الله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) إلخ ، وفي حديث أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن زيد بعد نقل القصة إلى أن قال : حتى أنزل الله تعالى تصديقي في (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) ما نصه فدعاهم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رءوسهم ، فجمع الضمائر : إما على ظاهره ، وإما من باب بنو تميم قتلوا فلانا ، وإذا على ما مر ، و (يَسْتَغْفِرْ) مجزوم في جواب الأمر ، و (رَسُولُ اللهِ) فاعل له ، والكلام على ما في البحر من باب الأعمال لأن (رَسُولُ اللهِ) يطلبه عاملان : (يَسْتَغْفِرْ) و (تَعالَوْا) فأعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة ولو أعمل الأول لكان التركيب تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله ، وجملة (يَصُدُّونَ) في موضع الحال ، وأتت بالمضارع ليدل على الاستمرار التجددي ، ومثلها في الحالية جملة (هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) ؛ وقرأ مجاهد ونافع وأهل المدينة وأبو حيوة وابن أبي عبلة

٣٠٧

والمفضل وأبان عن عاصم والحسن ويعقوب ـ بخلاف عنهما ـ «لووا» بتخفيف الواو ، والتشديد في قراءة باقي السبعة للتكثير ، ولما نعى سبحانه عليهم إباءهم عن الإتيان ليستغفر لهم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وإعراضهم واستكبارهم أشار عزوجل إلى عدم فائدة الاستغفار لهم لما علم سبحانه من سوء استعدادهم واختيارهم بقوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فهو للتسوية بين الأمرين الاستغفار لهم وعدمه ، والمراد الاخبار بعدم الفائدة كما يفصح عنه قوله عزوجل شأنه : (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وتعليله بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي الكاملين في الفسق الخارجين عن دائرة الاستصلاح المنهمكين لسوء استعدادهم بأنواع القبائح ، فإن المغفرة فرع الهداية ، والمراد بهؤلاء القوم إما المحدث عنهم بأعيانهم. والإظهار في مقام الإضمار لبيان غلوهم في الفسق ؛ والإشارة إلى علة الحكم أو الجنس وهم داخلون دخولا أوليا ، والآية في ابن أبي كسوابقها ـ كما سمعت ـ ولواحقها ـ كما صح ـ وستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى ، والاستغفار لهم قيل : على تقدير مجيئهم تائبين معتذرين من جناياتهم ، وكان ذلك قد اعتبر في جانب الأمر الذي جزم في جوابه الفعل وإلا فمجرد الإتيان لا يظهر كونه سببا للاستغفار ، ويومئ إليه قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم في خبر ابن جبير لابن أبيّ : «تب» وترك الاستغفار على تقدير الإصرار على القبائح والاستكبار وترك الاعتذار وحيث لم يكن منهم توبة لم يكن منه عليه الصلاة والسلام استغفار لهم.

وحكى مكي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام أي بعد ما صدر منهم ما صدر بالتوبة ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما نزلت آية براءة (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ) [التوبة : ٨٠] إلخ قال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم : «أسمع ربي قد رخص لي فيهم فو الله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم ، فنزلت هذه الآية (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ)» إلخ.

وأخرج أيضا عن عروة نحوه وإذا صح هذا لم يتأت القول بأن براءة بأسرها آخر ما نزل ولا ضرورة تدعو لالتزامه إلا إن صح نقل غير قابل للتأويل ، ولعل هذه الآية إشارة منه تعالى لنبيه صلّى الله تعالى عليه وسلم إلى أن المراد بالعدد هناك التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفا لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحدا وهو عدم المغفرة لهم مطلقا ، والآية الأولى ـ فيما اختار ـ نزلت في اللامزين كما سمعت هناك عن ابن عباس وهو الأوفق بالسياق ، وهذه نزلت في ابن أبي وأصحابه كما نطقت به الأخبار الصحيحة ويجمع الطائفتين النفاق ، ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال مع اختلاف أعيان الذين نزلتا فيهم ، ثم إني لم أقف في شيء مما أعول عليه على أن ابن أبي كان مريضا إذ ذاك ، ورأيت في خبر أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين ما يشعر بأنه بعد قوله : والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل بأيام قلائل اشتكى واشتد وجعه ، وفيه أنه قال للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وقد ذهب إليه بشفاعة ولده : حاجتي إذا أنا مت أن تشهد غسلي وتكفنني في ثلاثة أثواب من أثوابك وتمشي مع جنازتي وتصلي علي ففعل صلّى الله تعالى عليه وسلم فنزلت الآية (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) [التوبة : ٨٤] ولا يشكل الاستغفار إن كان قد وقع لأحد من المنافقين بعد نزول ما يفيد كونه تعالى لا يهدي القوم الفاسقين إذ لا يتعين اندراج كل منهم إلا بتبين أنه بخصوصه من أصحاب الجحيم كأن يموت على ما هو عليه من الكفر والنفاق ، وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي ظهر لي بعد كتابة ما كتبت في آية براءة ، والمقام بعد محتاج إلى تحقيق فراجع وتأمل والله تعالى ولي التوفيق.

وقرأ أبو جعفر ـ استغفرت ـ مدة على الهمزة فقيل : هي عوض من همزة الوصل ، وهي مثل المدة في قوله

٣٠٨

تعالى : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ) [الأنعام : ١٤٣ ، ١٤٤] لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر ولا يحتاج ذلك في الفعل لأن همزة الوصل فيه مكسورة ، وعنه أيضا ضم ميم «عليهم» إذ أصلها الضم ووصل الهمزة وروى معاذ بن معاذ العنبري عن أبي عمرو كسر الميم على أصل التقاء الساكنين ، ووصل الهمزة فتسقط في القراءتين واللفظ خبر والمعنى على الاستفهام ، وجاء حذف الهمزة ثقة بدلالة (أَمْ) عليها كما في قوله :

بسبع رمين الجمر أم بثمان

وقال الزمخشري : قرأ أبو جعفر «آستغفرت» إشباعا لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان لا قلبا لهمزة الوصل ألفا كما في «السحر» و «الله» وقال أبو جعفر بن القعقاع : بمدة على الهمزة وهي ألف التسوية.

وقرأ أيضا بوصل الألف دون همزة على الخبر ، وفي ذلك ضعف لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام ، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام وهو يريدها ، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر وقوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) استئناف مبين لبعض ما يدل على فسقهم ، وجوز أن يكون جاريا مجرى التعليل لعدم مغفرته تعالى لهم وليس بشيء لأن ذاك معلل بما قبل ، والقائل رأس المنافقين ابن أبي وسائرهم راضون بذلك ، أخرج الترمذي وصححه وجماعة عن زيد بن أرقم قال : غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان معنا ناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء وكان الأعراب يسبقوننا إليه فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوضه حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه فانتزع حجرا ففاض فرفع الأعرابي خشبة فضرب رأس الأنصاري فشجه فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه فغضب ، وقال : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) من حوله يعني الأعراب ، ثم قال لأصحابه : إذا رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل ، قال زيد : وأنا ردف عمي فسمعت عبد الله فأخبرت عمي فأخبر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام فحلف وجحد وصدقه صلّى الله تعالى عليه وسلم وكذبني فجاء عمي إلي فقال : ما أردت إلى أن مقتك وكذبك المسلمون فوقع علي من الهم ما لم يقع على أحد قط فبينا أنا أسير وقد خفضت رأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ثم إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لحقني فقال : ما قال لك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قلت : ما قال لي شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي فقال : أبشر فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) حتى بلغ (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) وقد تقدم عن البخاري ما يدل على أنه قائل ذلك أيضا.

وأخرج الإمام أحمد ومسلم والنسائي نحو ذلك ، والأخبار فيه أكثر من أن تحصى ؛ وتلك الغزاة التي أشار إليها زيد قال سفيان : يرون أنها غزاة بني المصطلق ، وفي الكشاف خبر طويل في القصة يفهم منه أنهم عنوا بمن عند رسول الله فقراء المهاجرين ، والظاهر أن التعبير ـ برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ـ أي بهذا اللفظ وقع منهم ولا يأباه كفرهم لأنهم منافقون مقرّون برسالته عليه الصلاة والسلام ظاهرا.

وجوز أن يكونوا قالوه تهكما أو لغلبته عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى صار كالعلم لم يقصد منه إلا الذات ، ويحتمل أنهم عبروا بغير هذه العبارة فغيرها الله عزوجل إجلالا لنبيه عليه الصلاة والسلام وإكراما ، والانفضاض التفرق ، و (حَتَّى) للتعليل أي لا تنفقوا عليهم كي يتفرقوا عنه عليه الصلاة والسلام ولا يصحبوه.

وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي «ينفضّوا» من أنفض القوم فني طعامهم فنفض الرجل وعاءه ، والفعل مما يتعدى

٣٠٩

بغير الهمزة وبالهمزة لا يتعدى ، قال في الكشاف : وحقيقته حان لهم أن ينفضوا مزاودهم ، وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ردّ وإبطال لما زعموا من أن عدم إنفاقهم على من عند رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يؤدي إلى انفضاضهم عنه عليه الصلاة والسلام ببيان أن خزائن الأرزاق بيد الله تعالى خاصة يعطي منها من يشاء ويمنع من يشاء (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) ذلك لجهلهم بالله تعالى وبشئونه عزوجل ، ولذلك يقولون من مقالات الكفرة ما يقولون.

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) قائله كما سمعت ابن أبي ، وعنى بالأعز نفسه أو ومن يلوذ به ، وبالأذل من أعزه الله عزوجل وهو الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم أو هو عليه الصلاة والسلام والمؤمنون ، وإسناد المذكور إلى جميعهم لرضائهم به كما في سابقه.

وقرأ الحسن وابن أبي عبلة والسبتي في اختياره «لنخرجن» بالنون ، ونصب «الأعزّ» و «الأذلّ» على أن «الأعزّ» مفعول به ، و «الأذلّ» إما حال بناء على جواز تعريف الحال ، أو زيادة أل فيه نحو أرسلها العراك ، وأدخلوا الأول فالأول وهو المشهور في تخريج ذلك ، أو حال بتقدير مثل وهو لا يتعرف بالإضافة أي مثل الأذل ، أو مفعول به لحال محذوفة أي مشبها الأذل ، أو مفعول المطلق على أن الأصل إخراج الأذل فحذف المصدر المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه.

وحكى الكسائي والفراء أن قوما قرءوا «ليخرجنّ» بالياء مفتوحة وضم الراء. ورفع «الأعزّ» على الفاعلية. ونصب «الأذلّ» على ما تقدم ، بيد أنك تقدر على تقدير النصب على المصدرية خروج ، وقرئ «ليخرجنّ» بالياء مبنيا للمفعول ، ورفع «الأعزّ» على النيابة عن الفاعل ، ونصب «الأذلّ» على ما مر.

وقرأ الحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني «لنخرجنّ» بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء ، ونصب «الأعزّ» و «الأذلّ» ، وحكى هذه القراءة أبو حاتم ، وخرجت على أن نصب «الأعزّ» على الاختصاص كما في قولهم : نحن العرب أقرى الناس للضيف ، ونصب «الأذلّ» على أحد الأوجه المارة فيما حكاه الكسائي والفراء ، والمقصود إظهار التضجر من المؤمنين وأنهم لا يمكنهم أن يساكنوهم في دار كذا قيل : وهو كما ترى ، ولعل هذه القراءة غير ثابتة عن الحسن ، وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) رد لما زعموه ضمنا من عزتهم وذل من نسبوا إليه الذل ، وحاشاه منه أي ولله تعالى الغلبة والقوة ولمن أعزه الله تعالى من رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين لا للغير ، ويعلم مما أشرنا إليه توجيه الحصر المستفاد من تقديم الخبر ، وقيل : إن العطف معتبر قبل نسبة الإسناد فلا ينافي ذلك ولا يضر إعادة الجار لأنها ليست لإفادة الاستقلال في النسبة بل لإفادة تفاوت ثبوت العزة فإن ثبوتها لله تعالى ذاتي وللرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم بواسطة الرسالة وللمؤمنين بواسطة الايمان ، وجاء من عدة طرق أن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ـ وكان مخلصا ـ سل سيفه على أبيه عند ما أشرفوا على المدينة فقال : ولله علىّ أن لا أغمده حتى تقول : محمد الأعز وأنا الأذل فلم يبرح حتى قال ذلك ، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه وقف والناس يدخلون حتى جاء أبوه فقال : وراءك ، قال : ما لك ويلك؟ قال : والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ولتعلمن اليوم الأعز من الأذل فرجع حتى لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكا إليه ما صنع ابنه فأرسل إليه النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أن خل عنه يدخل ففعل ؛ وصح من رواية الشيخين والترمذي وغيرهم عن جابر بن عبد الله أنه لما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال ابن أبي قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم : «دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» وفي رواية عن قتادة أنه قال له عليه الصلاة والسلام: يا نبي الله مر معاذا أن

٣١٠

يضرب عنق هذا المنافق ، فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم ذلك ، وفي الآية من الدلالة على شرف المؤمنين ما فيها ، ومن هنا قالت بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة : ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه.

وعن الحسن بن علي على رسول الله وعليهما الصلاة والسلام أن رجلا قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيها قال : ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية ، وأريد بالتيه الكبر ، وأشار العز إلى أن العزة غير الكبر ، وقد نص على ذلك أبو حفص السهروردي قدس‌سره فقال : العزة غير الكبر لأن العزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها أن لا يضعها لأقسام عاجلة كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها فالعزة ضد الذلة كما أن الكبر ضد التواضع ، وفسر الراغب العزة بحالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم : أرض عزاز أي صلبة وتعزز اللحم اشتد كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه ، وقد تستعار للحمية والأنفة المذمومة وهي بهذا المعنى تثبت للكفرة ، وتفسيرها بالقوة والغلبة كما سمعت شائع ولك أن تريد بها هنا الحالة المانعة من المغلوبية فإنها أيضا ثابتة لله تعالى ولرسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم وللمؤمنين على الوجه اللائق بكل.

(وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) من فرط جهلهم وغرورهم فيهذون ما يهذون والفعل هنا منزل منزلة اللازم فلذا لم يقدر له مفعول ولا كذلك الفعل فيما تقدم ، وهو ما اختاره غير واحد من الأجلة ، وقيل في وجهه : إن كون العزة لله عزوجل مستلزم لكون الأرزاق بيده دون العكس فناسب أن يعتبر الأخلاق في الجملة المذيلة لما يفيد كون العزة له سبحانه قصدا للمبالغة والتقييد للجملة المذيلة لما يفيد كون الأرزاق بيده تعالى ، ثم قيل : خص الجملة الأولى ب (لا يَفْقَهُونَ) والثانية ب (لا يَعْلَمُونَ) لأن إثبات الفقه للإنسان أبلغ من إثبات العلم له فيكون نفي العلم أبلغ من نفي الفقه فأوتر ما هو أبلغ لما هو أدعى له.

وعن الراغب معنى قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا) إلخ أنهم يأمرون بالإضرار بالمؤمنين وحبس النفقات عنهم ولا يفطنون أنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم فهم لا يفقهون ذلك ولا يفطنون له ، ومعنى الثاني إيعادهم بإخراج الأعز للأذل ، وعندهم أن الأعز من له القوة والغلبة على ما كانوا عليه في الجاهلية فهم لا يعلمون أن هذه القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره إنما هي من الله تعالى فهي له سبحانه ولمن يخصه بها من عباده ، ولا يعلمون أن الذل لمن يقدرون فيه العزة وأن الله تعالى معزّ أوليائه بطاعتهم له ومذل أعدائه بمخالفتهم أمره عزوجل ، فقد اختص كل آية بما اقتضاه معناها فتدبر ، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة الذم مع الاشارة إلى علة الحكم في الموضعين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي لا يشغلكم الاهتمام بتدبير أمورها والاعتناء بمصالحها والتمتع بها عن الاشتغال بذكر الله عزوجل من الصلاة وسائر العبادات المذكرة للمعبود الحق جل شأنه فذكر الله تعالى مجاز عن مطلق العبادة كما يقتضيه كلام الحسن وجماعة ، والعلاقة السببية لأن العبادة سبب لذكره سبحانه وهو المقصود في الحقيقة منها.

وفي رواية عن الحسن أن المراد به جميع الفرائض ، وقال الضحاك وعطاء : الذكر هنا الصلاة المكتوبة ، وقال الكلبي : الجهاد مع الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : القرآن ، والعموم أولى ، ويفهم كلام الكشاف أن المراد بالأموال والأولاد الدنيا ، وعبر بهما عنها لكونهما أرغب الأشياء منها قال الله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٤٦] فإذا أريد بذكر الله العموم يؤول المعنى إلى لا تشغلنكم الدنيا عن الدين ؛ والمراد بنهي الأموال وما بعدها نهي المخاطبين وإنما وجه إليها للمبالغة لأنها لقوة تسببها للهو وشدة مدخليتها فيه جعلت كأنها لاهية ، وقد

٣١١

نهيت عن اللهو فالأصل لا تلهوا بأموالكم إلخ ، فالتجوز في الإسناد ، وقيل : إنه تجوز بالسبب عن المسبب كقوله تعالى : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) [الأعراف : ٢] أي لا تكونوا بحيث تلهيكم أموالكم إلخ.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي اللهو بها وهو الشغل ، وهذا أبلغ مما لو قيل : ومن تلهه تلك (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني ، وفي التعريف بالإشارة والحصر للخسران فيهم ، وفي تكرير الإسناد وتوسيط ضمير الفصل ما لا يخفى من المبالغة ، وكأنه لما نهي المنافقون عن الانفاق على من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأريد الحث على الانفاق جعل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ تمهيدا وتوطئة للأمر بالإنفاق لكن على وجه العموم في قوله سبحانه : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) أي بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال ادخارا للآخرة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أماراته ومقدماته ، فالكلام على تقدير مضاف ، ولذا فرع على ذلك قوله تعالى : (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) أي أمهلتني (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي أمد قصير (فَأَصَّدَّقَ) أي فأتصدق ، وبذلك قرأ أبي وعبد الله وابن جبير ، ونصب الفعل في جواب التمني والجزم في قوله سبحانه : (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) بالعطف على موضع (فَأَصَّدَّقَ) كأنه قيل : إن أخرتني أصدّق وأكن ، وإلى هذا ذهب أبو علي الفارسي. والزجاج ، وحكى سيبويه عن الخليل أنه على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني لأن الشرط غير ظاهر ولا يقدر حتى يعتبر العطف على الموضع كما في قوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) [الأعراف : ١٨٦] ويذرهم فيمن قرأ بالجزم وهو حسن بيد أن التعبير بالتوهم هنا ينشأ منه توهم قبيح ، والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم أن العامل في العطف على الموضع موجود وأثره مفقود ، والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود ، واستظهر أن الخلاف لفظي فمراد أبي علي والزجاج العطف على الموضع المتوهم أي المقدر إذ لا موضع هنا في التحقيق لكنهما فرا من قبح التعبير.

وقرأ الحسن وابن جبير وأبو رجاء وابن أبي إسحاق ومالك بن دينار والأعمش وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري. وأبو عمرو «وأكون» بالنصب وهو ظاهر ، وقرأ عبد بن عمير «وأكون» بالرفع على الاستئناف والنحويون وأهل المعاني قدروا المبتدأ في أمثال ذلك من أفعال المستأنفة ، فيقال هنا : أي وأنا أكون ولا تراهم يهملون ذلك ، ووجه بأن ذلك لأن الفعل لا يصلح للاستئناف مع الواو الاستئنافية كما هنا ولا بدونها ، وتعقب بأنه لم يذهب إلى عدم صلاحيته لذلك أحد من النحاة وكأنه لهذا صرح العلامة التفتازاني بأن التزام التقدير مما لم يظهر له وجهه ، وقيل : وجهه أن الاستئناف بالاسمية أظهر وهو كما ترى ، وجوز كون الفعل على هذه القراءة مرفوعا بالعطف على ـ أصدّق ـ على نحو القولين السابقين في الجزم ، هذا وعن الضحاك أنه قال في قوله تعالى : (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) يعني الزكاة والنفقة في الحج ، وعليه قول ابن عباس فيما أخرج عنه ابن المنذر : (فَأَصَّدَّقَ) أزكي (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أحج ، وأخرج الترمذي وابن جرير والطبراني وغيرهم عنه أيضا أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت» فقال له رجل : يا ابن عباس اتق الله تعالى فإنما يسأل الرجعة الكفار فقال : سأتلو عليكم بذلك قرآنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) إلى آخر السورة كذا في الدر المنثور.

وفي أحكام القرآن رواية الترمذي عنه ذلك موقوفا عليه ، وحكي عنه في البحر وغيره أنه قال : إن الآية نزلت في مانع الزكاة ، وو الله لو رأى خيرا لما سأل الرجعة ، فقيل له : أما تتقي الله تعالى يسأل المؤمنون الكرة؟! فأجاب بنحو ما ذكر ، ولا يخفى أن الاعتراض عليه وكذا الجواب أوفق بكونه نفسه ادّعى سؤال الرجعة ولم يرفع الحديث بذلك ، وإذا

٣١٢

كان قوله تعالى : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) إلخ سؤالا للرجعة بمعنى الرجوع إلى الدنيا بعد الموت لم يحتج قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) إلى تقدير مضاف كما سمعت آنفا.

(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً) أي ولن يمهلها (إِذا جاءَ أَجَلُها) أي آخر عمرها أو انتهى الزمان الممتد لها من أول العمر إلى آخره على تفسير الأجل به (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فمجاز عليه ، وقرأ أبو بكر بالياء آخر الحروف ليوافق ما قبله في الغيبة ونفسا لكونها نكرة في سياق النفي في معنى الجمع ، واستدل الكيا بقوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا) إلخ على وجوب إخراج الزكاة على الفور ومنع تأخيرها ، ونسب للزمخشري أنه قال : ليس في الزجر عن التفريط في هذه الحقوق أعظم من ذلك فلا أحد يؤخر ذلك إلا ويجوز أن يأتيه الموت عن قريب فيلزمه التحرز الشديد عن هذا التفريط في كل وقت ، وقد أبطل الله تعالى قول المجبرة من جهات : منها قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا) ، ومنها أنه كان قبل حضور الموت لم يقدر على الاتفاق فكيف يتمنى تأخير الأجل ، ومنها قوله تعالى مؤيسا له في الجواب : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ) ولو لا أنه مختار لأجيب باستواء التأخير والموت حين التمني ، وأجيب بأن أهل الحق لا يقولون بالجبر فالبحث ساقط عنهم على أنه لا دلالة في الأول كما في سائر الأوامر كما حقق في موضعه ، والتمني ـ وهو متمسك الفريق ـ لا يصح الاستدلال به ، والقول المؤيس إبطال لتمنيهم لا جواب عنه إذ لا استحقاق لوضوح البطلان ، والله تعالى أعلم.

٣١٣

سورة التغابن

مدنية في قول الأكثرين ، وعن ابن عباس وعطاء بن يسار أنها مكية إلا آيات من آخرها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) [التغابن : ١٤] إلخ ، وعدد آيها تسع عشرة آية بلا خلاف ، ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر هناك حال المنافقين وخاطب بعد المؤمنين ، وذكر جل وعلا هنا تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر ، وأيضا في آخر تلك (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) [المنافقون : ٩] وفي هذه (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن : ١٥] وهذه الجملة على ما قيل : كالتعليل لتلك ، وأيضا في ذكر التغابن نوع حث على الإنفاق قبل الموت المأمور به فيما قبل ، واستنبط بعضهم عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا وستين من قوله تعالى في تلك السورة : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) [المنافقون : ١٠] فإنها رأس ثلاث وستين سورة ، وعقبها سبحانه بالتغابن ليظهر التغابن في فقده عليه الصلاة والسلام.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٠)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي ينزهه سبحانه وتعالى جميع

٣١٤

المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه سبحانه تسبيحا مستمرا ، وذلك بدلالتها على كماله عزوجل واستغنائه تعالى ، والتجدد باعتبار تجدد النظر في وجوه الدلالة على ذلك (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) لا لغيره تعالى إذ هو جل شأنه المبدئ لكل شيء وهو القائم به والمهيمن عليه وهو عزوجل المولى لأصول النعم وفروعها وأما ملك غيره سبحانه فاسترعاء منه تعالى وتسليط ، وأما حمد غيره تبارك وتعالى فلجريان إنعامه تعالى على يده فكلا الأمرين له تعالى في الحقيقة ولغيره بحسب الصورة ، وتقديم (لَهُ الْمُلْكُ) لأنه كالدليل لما بعده (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن نسبة ذاته جل شأنه المقتضية للقدرة إلى الكل سواء فلا يتصور كون بعض مقدورا دون بعض ، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) إلخ بيان لبعض قدرته تعالى العامة ، والمراد هو الذي أوجدكم كما شاء وقوله تعالى : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي فبعضكم كافر به تعالى وبعضكم مؤمن به عزوجل ، أو فبعض منكم كافر به سبحانه وبعض منكم مؤمن به تعالى تفصيل لما في (خَلَقَكُمْ) من الإجمال لأن كون بعضهم أو بعض منهم كافرا ، وكون بعضهم أو بعض منهم مؤمنا مراد منه فالفاء مثلها في قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) [النور : ٤٥] إلخ فيكون الكفر والإيمان في ضمن الخلق وهو الذي تؤيده الاخبار الصحيحة كخبر البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق ـ «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات : يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح الحديث» وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض فيقول : أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق».

وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله تعالى : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) والجمع بين الخبرين مما لا يخفى على من أوتي نصيبا من العلم ، وتقديم الكفر لأنه الأغلب.

واختار بعضهم كون المعنى هو الذي خلقكم خلقا بديعا حاويا لجميع مبادئ الكمالات العلمية والعملية ، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته ، ومنكم مختار للإيمان كاسب له حسبما تقتضيه خلقته ، وكان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليهما من سائر النعم ، فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه بل تشعبتم شعبا وتفرقتم فرقا ، وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ، بيد أنه فسر الكافر بالآتي بالكفر والفاعل له والمؤمن بالآتي بالإيمان والفاعل له لأنه الأوفق بمذهبه من أن العبد خالق لأفعاله ، وأن الآية لبيان إخلالهم بما يقتضيه التفضل عليهم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من النعم ، وأن الآيات بعد في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته. ثم قال : فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته ، والخلق أعظم نعمة من الله تعالى على عباده ، والكفر أعظم كفران من العباد لربهم سبحانه ، وجعل الطيبي الفاء على هذا للترتيب والفرض على سبيل الاستعارة كاللام في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] وهي كالفاء في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [الحديد : ٢٦] ولم يجعلها للتفصيل كما قيل.

واختار في الآية المعنى السابق مؤيدا له بالأحاديث الصحيحة ، وبأن السياق عليه مدعيا أن الآيات كلها واردة لبيان عظمة الله تعالى في ملكه وملكوته واستبداده فيهما ، وفي شمول علمه تعالى كلها وفي إنشائه تعالى المكونات

٣١٥

ذواتها وأعراضها ، ووافقه في اختيار ذلك تلميذه المدقق صاحب الكشف ، واعترض قول الزمخشري : فما أجهل إلخ بقوله فيه ما مر مرارا كأنه يعني مخالفة النصوص في عدم كون الكفر مخلوقا كغيره على أن خلق الكفر أيضا من النعم العظام فلو لا خلقه وتبيين ما فيه من المضار ما ظهر مقدار الإنعام بالإيمان وما فيه من المنافع ، ثم إن كونه كفرا باعتبار قيامه بالعبد ومنه جاء القبح لا باعتبار كونه خلقه تعالى على ما حقق في موضعه ، ثم قال : ومنه يظهر أن كلفه في قوله تعالى : (فَمِنْكُمْ) إلخ ليخرجه عن تفصيل المجمل في (خَلَقَكُمْ) تحريف لكتاب الله تعالى انتهى.

ويرجح التفصيل عندي في الجملة قوله تعالى : (كافِرٌ) و (مُؤْمِنٌ) دون من يكفر ومن يؤمن ، نعم عدم دخول الكفر والإيمان في الخلق أوفق بقوله تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠] وقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة» والإنصاف أن الآية تحتمل كلّا من المعنيين : المعنى الذي ذكر أولا. والمعنى الذي اختاره البعض ، والسياق يحتمل أن يحمل على ما يناسب كلا وليس نصا في أحد الأمرين اللذين سمعتهما حتى قيل : إن الآيات واردة لبيان ما يتوقف عليه الوعد والوعيد بعد من القدرة التامة والعلم المحيط بالنشأتين ، وقوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي فيجازيكم بما يناسب ذلك لا ينافي خلق الكفر والإيمان لأنهما مكسوبان للعبد ، وخلق الله تعالى إياهما لا ينافي كونهما مكسوبين للعبد كما بين في الكلام على قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٦] لكن أكثر الأحاديث تؤيد المعنى الأول ، وكأني بل تختار الثاني لأن كون المقام للتوبيخ على الكفر أظهر وهو أوفق به ، وعن عطاء بن أبي رباح (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) أي بالله تعالى مؤمن بالكوكب (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) بالله تعالى كافر بالكوكب ، وقيل : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) بالخلق وهم الدهرية (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) به ، وعن الحسن أن في الكلام حذفا والتقدير ومنكم فاسق ، ولا أراه يصح ، وكأنه من كذب المعتزلة عليه ، والجملة ـ على ما استظهر بعض الأفاضل ـ معطوفة على الصلة ، ولا يضره عدم العائد لأن المعطوف بالفاء يكفيه (١) وجود العائد في إحدى الجملتين كما قرروه في نحو الذي يطير فيغضب زيد الذباب ، أو يقال : فيها رابط بالتأويل أي منكم من قدر كفره ومنكم من قدر إيمانه ، أو (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) به (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) به ، ويقدر الحذف تدريجا ، وجوز أن يكون العطف على جملة (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ).

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) بالحكمة البالغة المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية ، قيل : وأصل الحق مقابل الباطل فأريد به الغرض الصحيح الواقع على أتم الوجوه وهو الحكمة العظيمة.

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) حيث برأكم سبحانه في أحسن تقويم وأودع فيكم من القوى والمشاعر الظاهرة والباطنة ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته وجعلكم أنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة ، وقد ذكر بعض المحققين أن الإنسان جامع بين العالم العلوي والسفلي ، وذلك لروحه التي هي من عالم المجردات وبدنه الذي هو من عالم الماديات وأنشدوا :

وتزعم أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

ولعمري إن الإنسان أعجب نسخة في هذا العالم قد اشتملت على دقائق أسرار شهدت ببعضها الآثار وعلم ما علم منها ذوو الأبصار ، وخص بعضهم الصورة بالشكل المدرك بالعين كما هو معروف ، وكل ما يشاهد من الصور

__________________

(١) المصرح به أن ذلك فيما إذا كانت الفاء للسببية فلا تغفل ا ه منه.

٣١٦

الإنسانية حسن لكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب فلانحطاط بعضها عن مراتب ما فوقها انحطاطا بينا وإضافتها إلى الموفى عليها لا تستملح وإلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة من حده ؛ ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن فينبو عن الأولى طرفك وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها ، وقالت الحكماء : شيئان لا غاية لهما : الجمال والبيان.

وقرأ زيد بن علي وأبو رزين «صوركم» بكسر الصاد والقياس الضم كما في قراءة الجمهور.

(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) في النشأة الأخرى لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فاصرفوا ما خلق لكم فيما خلقه لئلا يمسخ ما يشاهد من حسنكم بالعذاب (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الأمور الكلية والجزئية والأحوال الجلية والخفية (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور والتصريح به مع اندراجه فيما قبله للاعتناء بشأنه لأنه الذي يدور عليه الجزاء ، وقوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من شمول علمه تعالى لسرهم وعلنهم أي هو عزوجل محيط بجميع المضرات المستكنة في صدور الناس بحيث لا تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه تعالى ما يسرونه وما يعلنونه ، وإظهار الجلالة للإشعار بعلة الحكم وتأكيد استقلال الجملة ، قيل : وتقديم تقرير القدرة على العلم لأن دلالة المخلوقات على قدرته تعالى بالذات وعلى علمه سبحانه لما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء.

وقرأ عبيد عن أبي عمرو وأبان عن عاصم ـ ما يسرون وما يعلنون ـ بياء الغيبة (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أي أيها الكفرة لدلالة ما بعد على تخصيص الخطاب بهم ، وظاهر كلام بعض الأجلة أن المراد بهم أهل مكة فكأنه قيل : ألم يأتكم يا أهل مكة (نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) كقوم نوح وهود وصالح وغيرهم من الأمم المصرة على الكفر (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي ضرر كفرهم في الدنيا من غير مهلة ، وأصل الوبال الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور ، ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة ، والوابل للمطر الثقيل القطار ، واستعمل للضرر لأنه يثقل على الإنسان ثقلا معنويا ، وعبر عن كفرهم بالأمر للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) لا يقادر قدره (ذلِكَ) أي ما ذكر من العذاب الذي ذاقوه في الدنيا وما سيذوقونه في الآخرة (بِأَنَّهُ) أي بسبب أن الشأن.

(كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الظاهرة (فَقالُوا) عطف على (كانَتْ).

(أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أي قال كل قوم من أولئك الأقوام الذين كفروا في حق رسولهم الذي أتاهم بالمعجزات منكرين لكون الرسول من جنس البشر ، أو متعجبين من ذلك أبشر يهدينا كما قالت ثمود : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) [القمر : ٢٤] ، وقد أجمل في الحكاية فأسند القول إلى جميع الأقوام ، وأريد بالبشر الجنس ، فوصف بالجمع كما أجمل الخطاب ، والأمر في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) [المؤمنون : ٥١] وارتفاع (بَشَرٌ) على الابتداء ، وجملة (يَهْدُونَنا) هو الخبر عند الحوفي وابن عطية ، والأحسن أن يكون مرفوعا على الفاعلية بفعل محذوف يفسره المذكور لأن همزة الاستفهام أميل إلى الفعل والمادة من باب الاشتغال (فَكَفَرُوا) بالرسل عليهم‌السلام (وَتَوَلَّوْا) عن التأمل فيما أتوا به من البينات ، وعن الإيمان بهم (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أي أظهر سبحانه غناه عن إيمانهم وعن طاعتهم حيث أهلكهم وقطع دابرهم ، ولو لا (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) وقد استغنى الله تعالى عن كل شيء ، والأول هو الوجه (وَاللهُ غَنِيٌ) عن العالمين فضلا عن إيمانهم وطاعتهم (حَمِيدٌ) يحمده كل مخلوق بلسان الحال الذي هو أفصح من لسان المقال ، أو مستحق جل شأنه للحمد بذاته وإن لم يحمده سبحانه حامد (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) الزعم ادّعاء العلم ، وأكثر ما يستعمل للادعاء الباطل.

٣١٧

وعن ابن عمر وابن شريح إنه كنية الكذب ، واشتهر أنه مطية الكذب ، ولما فيه من معنى العلم يتعدى إلى مفعولين ، وقد قام مقامهما هنا (أَنْ) المخففة وما في حيزها ، والمراد بالموصول على ما في الكشاف أهل مكة فهو على ما سمعت في الخطاب من إقامة الظاهر مقام المضمر ، ويؤيده ظاهرا قوله تعالى : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) قال في الكشف : ويحتمل التعميم فيتناولهم وأضرابهم لتقدم كفار مكة في الذكر وغيرهم ممن حملوا على الاعتبار بحالهم ، وهذا أبلغ أي زعموا أن الشأن لن يبعثوا بعد موتهم (قُلْ) ردا عليهم وإظهارا لبطلان زعمهم بإثبات ما نفوه بلى تبعثون ، وأكد ذلك بالجملة القسمية فهي داخلة في حيز الأمر ، وكذا قوله تعالى : (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) أي لتحاسبن وتجزون بأعمالكم ، وزيد ذلك لبيان تحقق أمر آخر متفرع على البعث منوط به ففيه أيضا تأكيد له (وَذلِكَ) أي ما ذكر من البعث والجزاء (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لتحقق القدرة التامة وقبول المادة ؛ والفاء في قوله تعالى : (فَآمِنُوا) مفصحة بشرط قد حذف ثقة بغاية ظهوره أي إذا كان الأمر كذلك (فَآمِنُوا بِاللهِ) الذي سمعتم ما سمعتم من شئونه عزوجل (وَرَسُولِهِ) محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) وهو القرآن ، فإنه بإعجازه بين بنفسه مبين لغيره كما أن النور كذلك ، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز العناية بأمر الإنزال ، وفي ذلك من تعظيم شأن القرآن ما فيه (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الامتثال بالأمر وتركه (خَبِيرٌ) عالم بباطنه.

والمراد كمال علمه تعالى بذلك ، وقيل : عالم بأخباره (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) ظرف (لَتُنَبَّؤُنَ) وقوله تعالى: (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وقوله سبحانه : (فَآمِنُوا) إلى (خَبِيرٌ) من الاعتراض ، فالأول يحقق القدرة على البعث ، والثاني يؤكد ما سيق له الكلام من الحث على الإيمان به وبما تضمنه من الكتاب وبمن جاء به ، وبالحقيقة هو نتيجة قوله تعالى : (لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَ) قدم على معموله للاهتمام فجرى مجرى الاعتراض ، وقوله سبحانه : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) اعتراض في اعتراض لأنه من تتمة الحث على الإيمان كما تقول : اعمل إني غير غافر عنك ، وقال الحوفي : ظرف ـ لخبير ـ وهو عند غير واحد من الأجلة بمعنى مجازيكم فيتضمن الوعد والوعيد.

وجعله الزمخشري بمعنى معاقبكم ، ثم جوز هذا الوجه ، وتعقب بأنه يرد عليه أنه ليس لمجرد الوعيد بل للحث كيف لا والوعيد قد تم بقوله تعالى : (لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) فلم يحسن جعله بمعنى معاقبكم فتدبر ، وجوز كونه منصوبا بإضمار اذكر مقدرا ، وتعقب بأنه وإن كان حسنا إلا أنه حذف لا قرينة ظاهرة عليه ، وجوز كونه ظرفا لمحذوف بقرينة السياق أي يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال يوم يجمعكم ، وتعقب بأن فيه ارتكاب حذف لا يحتاج إليه ، فالأرجح الوجه الأول ، وقرئ «يجمعكم» بسكون العين ، وقد يسكن الفعل المضارع المرفوع مع ضمير جمع المخاطبين المنصوب ، وروى إشمامها الضم ، وقرأ سلام ويعقوب وزيد بن علي والشعبي «نجمعكم» بالنون (لِيَوْمِ الْجَمْعِ) ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون ، وقيل : الملائكة عليهم‌السلام والثقلان ، وقيل : غير ذلك ، والأول أظهر ، واللام قيل : للتعليل ، وفي الكلام مضاف مقدر أي لأجل ما في يوم الجمع من الحساب ، وقيل : بمعنى في فلا تقدير (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أنهم قالوا : يوم غبن فيه أهل الجنة وأهل النار فالتفاعل فيه ليس على ظاهره كما في التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد ، واختير للمبالغة ، وإلى هذا ذهب الواحدي.

وقال غير واحد : أي يوم غبن فيه بعض الناس بعضا بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس ، ففي الصحيح «ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة» وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة ، وفيه تهكم بالأشقياء لأنهم لا يغبنون

٣١٨

حقيقة السعداء بنزولهم في منازلهم من النار ، أو جعل ذلك تغابنا مبالغة على طريق المشاكلة فالتفاعل على هذا القول على ظاهره وهو حسن إلا أن التغابن فيه تغابن السعداء والأشقياء على التقابل ، والأحسن الإطلاق ، وتغابن السعداء على الزيادة ثبت في الصحاح ، واختار ذلك محيي السنة حيث قال : التغابن تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ ، والمراد بالمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة فيظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان ، قال الطيبي : وعلى هذا الراغب حيث قال : الغبن أن يبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء فإن كان ذلك في مال يقال : غبن فلان بضم الغين وكسر الباء ، وإن كان في رأي يقال : غبن بفتح الغين وكسر الباء ، و (يَوْمُ التَّغابُنِ) يوم القيامة لظهور الغبن في المبايعة المشار إليها بقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) [البقرة : ٢٠٧] وقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) [التوبة : ١١١] وقوله عزوجل : (الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) [آل عمران : ٧٧] فعلم أنهم قد غبنوا فيما تركوا من المبايعة وفيما تعاطوه من ذلك جميعا انتهى ، والجملة مبتدأ وخبر ، والتعريف للجنس ، وفيها دلالة على استعظام ذلك اليوم وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) أي عملا صالحا (يُكَفِّرْ) أي الله تعالى (عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) في ذلك اليوم (وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي مقدرين الخلود فيها ، والجمع باعتبار معنى (مَنْ) كما أن الإفراد باعتبار لفظه ، وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وطلحة ونافع وابن عامر والمفضل عن عاصم وزيد ابن علي والحسن بخلاف عنه ـ نكفر. وندخله ـ بنون العظمة فيهما (ذلِكَ) أي ما ذكر من تكفير السيئات وإدخال الجنات (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز وراءه لانطوائه على النجاة من أعظم الهلكات والظفر بأجلّ الطلبات.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي النار ، وكأن هذه الآية ـ والتي قبلها لاحتوائهما على منازل السعداء والأشقياء ـ بيان للتغابن على تفسيره بتغابن الفريقين على التقابل ولما فيه من التفصيل نزل منزلة المغاير فعطف بالواو وكذا على الإطلاق لكنه عليه بيان في الجملة.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨)

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) أي ما أصاب أحدا مصيبة على أن المفعول محذوف ، و (مِنْ) زائدة ، و (مُصِيبَةٍ) فاعل ، وعدم إلحاق التاء في مثل ذلك فصيح لكن الإلحاق أكثر كقوله تعالى : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) [الحجر : ٥ ، المؤمنون : ٤٣] (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) [الأنعام : ٤] والمراد ـ بالمصيبة ـ الرزية وما يسوء العبد في نفس أو مال

٣١٩

أو ولد أو قول أو فعل أي ما أصاب أحدا من رزايا الدنيا أي رزية كانت (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بإرادته سبحانه وتمكينه عزوجل كأن الرزية بذاتها متوجهة إلى العبد متوقفة على إرادته تعالى وتمكينه جل وعلا ، وجوز أن يراد ـ بالمصيبة ـ الحادثة من شر أو خير ، وقد نصوا على أنها تستعمل فيما يصيب العبد من الخير وفيما يصيبه من الشر لكن قيل : إنها في الأول من الصوب أي المطر ، وفي الثاني من إصابة السهم ، والأول هو الظاهر ، وإن كان الحكم بالتوقف على الإذن عاما.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) عند إصابتها للصبر والاسترجاع على ما قيل ، وعن علقمة للعلم بأنها من عند الله تعالى فيسلم لأمر الله تعالى ويرضى بها ، وعن ابن مسعود قريب منه ، وقال ابن عباس : (يَهْدِ قَلْبَهُ) لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وقيل : (يَهْدِ قَلْبَهُ) أي يلطف به ويشرحه لازدياد الخير والطاعة ، وقرأ ابن جبير وطلحة وابن هرمز والأزرق عن حمزة ـ نهد ـ بنون العظمة.

وقرأ السلمي والضحاك وأبو جعفر «يهد» بالياء مبنيا للمفعول «قلبه» بالرفع على النيابة عن الفاعل ، وقرئ كذلك لكن بنصب «قلبه» ، وخرج على أن نائب الفاعل ضمير (مِنْ) و (قَلْبَهُ) منصوب بنزع الخافض أي يهد في قلبه ، أو يهد إلى قلبه على معنى أن الكافر ضال عن قلبه بعيد منه ، والمؤمن واجد له مهتد إليه كقوله تعالى : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧] فالكلام من الحذف والإيصال نحو (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] ، وفيه جعل القلب بمنزلة المقصد فمن ضل فقد منع منه ومن وصل فقد هدي إليه ، وجوز أن يكون نصبه على التمييز بناء على أنه يجوز تعريفه.

وقرأ عكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن دينار «يهدأ» بهمزة ساكنة «قلبه» بالرفع أي يطمئن قلبه ويسكن بالإيمان ولا يكون فيه قلق واضطراب ، وقرأ عمرو بن فائد ـ يهدا ـ بألف بدلا من الهمزة الساكنة ، وعكرمة ومالك بن دينار أيضا «يهد» بحذف الألف بعد إبدالها من الهمزة ، وإبدال الهمزة في مثل ذلك ليس بقياس على ما قال أبو حيان ، وأجاز ذلك بعضهم قياسا ، وبني عليه جواز حذف تلك الألف للجازم ، وخرج عليه قول زهير بن أبي سلمى :

جريء متى يظلم يعاقب بظلمه

سريعا وإن لا يبد بالظلم يظلم

أصله يبدأ فأبدلت الهمزة ألفا ثم حذفت للجازم تشبيها بألف ـ يخشى ـ إذا دخل عليه الجازم ، وقوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء التي من جملتها القلوب وأحوالها (عَلِيمٌ) فيعلم إيمان المؤمن ويهدي قلبه عند إصابة المصيبة ؛ فالجملة متعلقة بقوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ) إلخ ، وجوز أن تكون متعلقة بقوله سبحانه : (ما أَصابَ) إلخ على أنها تذييل له للتقرير والتأكيد ، وذكر الطيبي أن في الكلام الكشاف رمزا إلى أن في الآية حذفا أي فمن لم يؤمن لم يلطف به أو لم يهد قلبه ، ومن يؤمن بالله يهد قلبه ، وبني عليه أن المصيبة تشمل الكفر والمعاصي أيضا لورودها عقيب جزاء المؤمن والكافر وإردافها بالأمر الآتي وأي مصيبة أعظم منهما؟ وهو كما أشار إليه يدفع في نحر المعتزلة (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) كرر الأمر للتأكيد والإيذان بالفرق بين الاطاعتين في الكيفية ، وتوضيح مورد الولي في قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي عن إطاعة الرسول ، وقوله تعالى : (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) تعليل للجواب المحذوف أقيم مقامه أي فلا بأس عليه إذ ما عليه إلا التبليغ المبين وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه ، وإظهار الرسول مضافا إلى نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه عليه الصلاة والسلام ، والإشعار بمدار الحكم الذي هو كون وظيفته صلّى الله تعالى عليه وسلم محض البلاغ ولزيادة تشنيع التولي عنه ، والحصر في الكلام إضافي و (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الكلام فيها كالكلام في كلمة التوحيد ، وقد مر وحلا (وَعَلَى اللهِ) أي عليه تعالى خاصة دون غيره لا

٣٢٠