روح المعاني - ج ١٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

وجاء في رواية مهموزا ومعناه أنكم تسأمون دينكم ، وصرح الخفاجي بأنه بمعنى الموت عبراني ، ولم يذكر فيه الهمز وتركه.

وقال الطبرسي : من قال : السام الموت فهو من سأم الحياة بذهابها وهذا إرجاع له إلى المهموز ، وجعل البيضاوي من التحية التي لم يحيه بها الله تعالى تحيتهم له عليه الصلاة والسلام بأنعم صباحا وهي تحية الجاهلية كعم صباحا ولم نقف على أثر في ذلك ، وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي فيما بينهم ، وجوّز إبقاؤه على ظاهره (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أي هلا يعذبنا الله تعالى بسبب ذلك لو كان محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم نبيا ـ أي لو كان نبيا عذبنا الله تعالى بسبب ما نقول من التحية ـ أوفق بالأول لأن أنعم صباحا دعاء بخير والعدول إليه عن تحية الإسلام التي حيا الله تعالى بها رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وأشير إليها بقوله تعالى : (سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ١٨١] (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [النمل : ٥٩] وما جاء في التشهد «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» ليس فيه كثير إثم يتوقع معه التعذيب الدنيوي حتى أنهم يقولون ذلك إذا لم يعذبوا اللهم إلا إذا انضم إليه أنهم قصدوا بذلك تحقيرا وإعلانا بعدم الاكتراث ، ولعل قائل ذلك هم المنافقون من المشركين وهو أظهر من كون قائله اليهود ، وحكم التحية به اليوم أنها خلاف السنة ، والقول بالكراهة غير بعيد.

وفي تحفة المحتاج لا يستحق مبتدى بنحو صبحك الله بالخير أو قواك الله جوابا ودعاؤه له في نظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام انتهى ، وأنعم صباحا نحو صبحك الله بالخير ، غاية ما في الباب أنه مجلسه صلّى الله تعالى عليه وسلم ، والجمع لتعدده باعتبار من يجلس معه عليه الصلاة والسلام فإن لكل أجد منهم مجلسا ، وفي أخبار سبب النزول ما يؤيد كلا ، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان «كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم جمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فرد النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لبعض من حوله : قم يا فلان ويا فلان فأقام نفرا مقدار من قدم فشق ذلك عليهم وعرفت كراهيته في وجوههم ، وقال المنافقون : ما عدل بإقامة من أخذ مجلسه وأحب قربه لمن تأخر عن الحضور فأنزل الله تعالى هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)» إلخ ، وكان ذلك ممن لم يفسح تنافسا في القرب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورغبة فيه ولا تكاد نفس تؤثر غيرها بذلك.

وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان الصحابة يتشاحون في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ ، والأكثرون على أنها نزلت لما كان عليه المؤمنون من التضام في مجلسه صلّى الله تعالى عليه وسلم والضنة بالقرب منه وترك التفسح لمقبل ؛ وأيا ما كان فالحكم مطرد في مجلسه عليه الصلاة والسلام ومصاف القتال وغير ذلك ، وقرئ في ـ المجلس ـ بفتح اللام ، فإما أن يراد به ما أريد بالمكسور والفتح شاذ في الاستعمال ، وإما أن يراد به المصدر ، والجار متعلق ـ بتفسحوا ـ أي إذا قيل لكم توسعوا في جلوسكم ولا تضايقوا فيه (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي في رحمته أو في منازلكم في الجنة أو في قبوركم أو في صدوركم أو في رزقكم أقوال.

وقال بعضهم : المراد يفسح سبحانه لكم في كل ما تريدون الفسح فيه أي مما ذكر وغيره ، وأنت تعلم أن الفسح يختلف المراد منه باختلاف متعلقاته كالمنازل والرزق والصدر فلا تغفل (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) أي انهضوا

٢٢١

للتوسعة على المقبلين (فَانْشُزُوا) فانهضوا ولا تتثبطوا ، وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض فإن مريد التوسعة على المقبل يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع ، أو لأن النهوض نفسه ارتفاع قال الحسن وقتادة والضحاك : المعنى إذا دعيتم إلى قتال أو صلاة أو طاعة فأجيبوا ، وقيل : إذا دعيتم إلى القيام عن مجلس النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقوموا ، وهذا لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر أحيانا الانفراد في أمر الإسلام أو لأداء وظائف تخصه صلّى الله تعالى عليه وسلم لا تتأتى أو لا تكمل بدون الانفراد ، وعمم الحكم فقيل : إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه : قوموا ينبغي أن يجاب ، وفعل ذلك لحاجة إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها مما لا نزاع في جوازه ، نعم لا ينبغي لقادم أن يقيم أحدا ليجلس في مجلسه ، فقد أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال : «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ولكن تفسحوا وتوسعوا».

وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وجمع من السبعة ـ انشزوا فانشزوا ـ بكسر الشين منهما.

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) جواب الأمر كأنه قيل : إن تنشزوا يرفع عزوجل المؤمنين منكم في الآخرة دعاء كان يستعمل تحية في الجاهلية ، نعم تحيتهم به له عليه الصلاة والسلام على الوجه الذي قصدوه حرام بلا خلاف (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) عذابا (يَصْلَوْنَها) يدخلونها أو يقاسون حرها أو يصطلون بها.

(فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي جهنم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ) في أنديتكم وفي خلواتكم.

(فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) كما يفعله المنافقون ، فالخطاب للخلّص تعريضا بالمنافقين ، وجوز جعله لهم وسموا مؤمنين باعتبار ظاهر أحوالهم.

وقرأ الكوفيون والأعمش وأبو حيوة ورويس ـ فلا تنتجوا ـ مضارع انتجى ، وقرأ ابن محيصن ـ فلا تناجوا ـ بإدغام التاء في التاء ، وقرئ بحذف إحداهما (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) بما يتضمن خبر المؤمنين والاتقاء عن معصية الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم (وَاتَّقُوا) فيما تأتون وما تذرون (اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ) وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا (تُحْشَرُونَ) فيجازيكم على ذلك (إِنَّمَا النَّجْوى) المعهودة التي هي التناجي بالإثم والعدوان والمعصية (مِنَ الشَّيْطانِ) لا من غيره باعتبار أنه هو المزين لها والحامل عليها ، وقوله تعالى : (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) خبر آخر أي إنما هي ليحزن المؤمنين بتوهمهم أنها في نكبة أصابتهم ، وقرئ «ليحزن» بفتح الياء والزاي ـ فالذين ـ فاعل (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ) أي ليس الشيطان أو التناجي بضار المؤمنين (شَيْئاً) من الأشياء أو شيئا من الضرر (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي إلا بإرادته ومشيئته عزوجل ، وذلك بأن يقضي سبحانه الموت أو الغلبة على أقاربهم (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ولا يبالوا بنجواهم.

وحاصله أن ما يتناجى المنافقون به مما يحزن المؤمنين إن وقع فبإرادة الله تعالى ومشيئته لا دخل لهم فيه فلا يكترث المؤمنون بتناجيهم وليتوكلوا على الله عزوجل ولا يحزنوا منه ، فهذا الكلام لإزالة حزنهم ، ومنه ضعف ما أشار إليه الزمخشري من جواز أن يرجع ضمير ـ ليس بضارهم ـ للحزن ، وأجيب بأن المقصود يحصل عليه أيضا فإنه إذا قيل : إن هذا الحزن لا يضرهم إلا بإرادة الله تعالى اندفع حزنهم ، هذا ومن الغريب ما قيل : إن الآية نازلة في المنامات التي يراها المؤمن في النوم تسوؤه ويحزن منها فكأنها نجوى يناجى بها ، وهذا على ما فيه لا يناسب السباق والسياق كما لا يخفى ، ثم إن التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه ، فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه» ومثل التناجي في ذلك أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث إن كان يحزنه ذلك ، ولما نهى

٢٢٢

سبحانه عن التناجي والسرار علم منه الجلوس مع الملأ فذكر جل وعلا آدابه بعده بقوله عزّ من قائل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) إلخ ولما نهى عزوجل عما هو سبب للتباغض والتنافر أمر سبحانه بما هو سبب للتواد والتوافق أي إذا قال لكم قائل كائنا من كان : توسعوا فليفسح بعضكم عن بعض في المجالس ولا تتضاموا فيها ، من قولهم : افسح عني أي تنح ، والظاهر تعلق (فِي الْمَجالِسِ) بتفسحوا ، وقيل : متعلق ـ بقيل ..

وقرأ الحسن وداود بن أبي هند وقتادة وعيسى ـ تفاسحوا ـ وقرأ الأخيران وعاصم في المجالس ، والجمهور في ـ المجلس ـ بالإفراد ، فقيل : على إرادة الجنس لقراءة الجمع ، وقيل : على إرادة العهد ، والمراد به جزاء للامتثال (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الشرعي (دَرَجاتٍ) أي كثيرة جليلة كما يشعر به المقام ، وعطف ـ الذين أوتوا العلم ـ على (الَّذِينَ آمَنُوا) من عطف الخاص على العام تعظيما لهم بعدّهم كأنهم جنس آخر ، ولذا أعيد الموصول في النظم الكريم ، وقد أخرج الترمذي وأبو داود والدارمي عن أبي الدرداء مرفوعا «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».

وأخرج الدارمي عن عمر بن كثير عن الحسن قال : قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم : «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة» وعنه صلّى الله تعالى عليه وسلم «بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة» وعنه عليه الصلاة والسلام «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» ، فأعظم بمرتبة بين النبوة والشهادة بشهادة الصادق المصدوق صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وعن ابن عباس «خيّر سليمان عليه‌السلام بين العلم والملك والمال فاختار العلم فأعطاه الله تعالى الملك والمال تبعا له».

وعن الأحنف «كاد العلماء يكونون أربابا» وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير ، وعن بعض الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم؟ وأي شيء فاته من أدرك العلم؟ والدال على فضل العلم والعلماء أكثر من أن يحصى ، وأرجى حديث عندي في فضلهم ما رواه الإمام أبو حنيفة في مسنده عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «يجمع الله العلماء يوم القيامة فيقول : إني لم أجعل حكمتي في قلوبكم إلا وأنا أريد بكم الخير اذهبوا إلى الجنة فقد غفرت لكم على ما كان منكم».

وذكر العارف الياس الكوراني أنه أحد الأحاديث المسلسلة بالأولية ، ودلالة الآية على فضلهم ظاهرة بل أخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال : ما خص الله تعالى العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية ـ فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم بدرجات ـ وجعل بعضهم العطف عليه للتغاير بالذات بحمل (الَّذِينَ آمَنُوا) على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم ، وفي رواية أخرى عنه يا أيها الذين آمنوا افهموا معنى هذه الآية ولترغبكم في العلم فإن الله تعالى يرفع المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم.

وادعى بعضهم أن في كلامه رضي الله تعالى عنه إشارة إلى أن ـ الذين أوتوا ـ معمول لفعل محذوف والعطف من عطف الجمل أي ويرفع الله تعالى الذين أوتوا العلم خاصة درجات ، ونحوه كلام ابن عباس فقد أخرج عنه ابن المنذر والبيهقي في المدخل والحاكم وصححه أنه قال في الآية : يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات.

وقال بعض المحققين : لا حاجة إلى تقدير العامل ، والمعنى على ذلك من غير تقدير ، واختار الطيبي التقدير وجعل الدرجات معمولا لذلك المقدر ، وقال : يضمر للمذكور أحط منه مما يناسب المقام نحو أن يقال : يرفع الله

٢٢٣

الذين آمنوا في الدنيا بالنصر وحسن الذكر أو يرفعهم في الآخرة بالإيواء إلى ما يليق بهم من غرف الجنات ، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيما لهم ، وجوز كون المراد بالموصولين واحدا والعطف لتنزيل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات ، فالمعنى يرفع الله المؤمنين العالمين درجات ، وكون العطف من عطف الخاص على العام هو الأظهر ، وفي الانتصاف في الجزاء برفع الدرجات مناسبة للعمل المأمور به وهو التفسيح في المجالس وترك ما تنافسوا فيه من الجلوس في أرفعها وأقربها من النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فلما كان الممتثل لذلك يخفض نفسه عما يتنافس فيه من الرفعة امتثالا وتواضعا جوزي على تواضعه برفع الدرجات كقوله : من تواضع لله تعالى رفعه الله تعالى ، ثم لما علم سبحانه أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعا لله عزوجل.

وقيل : إنه تعالى خص أهل العلم ليسهل عليهم ترك ما عرفوا بالحرص عليه من رفعة المجالس وحبهم للتصدير ، وهذا من مغيبات القرآن لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في ذلك.

والخفاجي أدرج هذا في نقل كلام صاحب الانتصاف وكلامه على ما سمعته أوفق بالأدب مع أهل العلم ، ولا أظن ـ بالذين أوتوا العلم ـ المذكورين في الآية أنهم كالعلماء الذين عرّض بهم الخفاجي ، نعم إنه عليه الرحمة صادق فيما قال بالنسبة إلى كثير من علماء آخر الزمان كعلماء زمانه وكعلماء زماننا ـ لكن كثير من هؤلاء ـ إطلاق اسم العالم على أحدهم مجاز لا تعرف علاقته ، ومع ذلك قد امتلأ قلبه من حب الصدر وجعل يزاحم العلماء حقيقة عليه ولم يدر أن محله لو أنصف العجز ، هذا واستدل غير واحد بالآية على تقديم العلم ولو باهليا شابا على الجاهل ولو هاشميا شيخا ، وهو بناء على ما تقدم من معناها لدلالتها على فضل العالم على غيره من المؤمنين وأن الله تعالى يرفعه يوم القيامة عليه ، ويجعل منزلته فوق منزلته فينبغي أن يكون محله في مجالس الدنيا فوق محل الجاهل.

وقال الجلال السيوطي في كتاب الأحكام قال قوم : معنى الآية يرفع الله تعالى المؤمنين العلماء منكم درجات على غيرهم فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم ، ففيه دليل على رفع العلماء في المجالس والتفسح لهم عن المجالس الرفيعة انتهى.

وهذا المعنى الذي نقله ظاهر في أن المتعاطفين متحدان بالذات والعطف لجعل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات وهو احتمال بعيد ، ويظهر منه أيضا أنه ظن رفع يرفع على أن الجملة استئناف وقع جوابا عن السؤال عن علة الأمر السابق مع أن الأمر ليس كذلك ، ويحتمل أنه علم أنه مجزوم في جواب الأمر لكن لم يعتبر كون الرفع درجات جزاءه الامتثال على نحو كون الفسح قبله جزاءه فتأمله (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) تهديد لمن لم يمتثل بالأمر واستكره ، وقرئ بما ـ يعملون ـ بالياء التحتانية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) أي إذا أردتم المناجاة معه عليه الصلاة والسلام لأمر ما من الأمور (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي فتصدقوا قبلها ، وفي الكلام استعارة تمثيلية ، وأصل التركيب يستعمل فيمن له يدان أو مكنية بتشبيه النجوى بالإنسان ، وإثبات اليدين تخييل ، وفي (بَيْنَ) ترشيح على ما قيل ، ومعناه قبل ، وفي هذا الأمر تعظيم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفع للفقراء وتمييز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ودفع للتكاثر عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم من غير حاجة مهمة ، فقد روي عن ابن عباس وقتادة أن قوما من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمحا لا يرد أحدا فنزلت هذه الآية.

وعن مقاتل أن الأغنياء كانوا يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره عليه

٢٢٤

الصلاة والسلام طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت ، واختلف في أن الأمر للندب أو للجواب لكنه نسخ بقوله تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ) إلخ ، وهو وإن كان متصلا به تلاوة لكنه غير متصل به نزولا ، وقيل : نسخ بآية الزكاة والمعول عليه الاول ، ولم يعين مقدار الصدقة ليجزي الكثير والقليل ، أخرج الترمذي وحسنه وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ) إلخ قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ترى في دينار؟ قلت : لا يطيقونه ، قال : نصف دينار؟ قلت : لا يطيقونه ، قال : فكم؟ قلت : شعيرة ، قال : فإنك لزهيد» فلما نزلت (أَأَشْفَقْتُمْ) الآية قال صلى الله تعالى عليه وسلم : «خفف الله عن هذه الأمة» ولم يعمل بها على المشهور غيره كرم الله تعالى وجهه ، أخرج الحاكم وصححه وابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهم عنه كرم الله تعالى وجهه أنه قال : إن في كتاب الله تعالى لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) إلخ كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد ، فنزلت (أَأَشْفَقْتُمْ) الآية ، قيل : وهذا على القول بالوجوب محمول على أنه لم يتفق للأغنياء مناجاة في مدة بقاء الحكم ، واختلف في مدة بقائه ، فعن مقاتل أنها عشرة ليال ، وقال قتادة : ساعة من نهار ، وقيل : إنه نسخ قبل العمل به ولا يصح لما صح أنفا.

وقرئ ـ صدقات ـ بالجمع لجمع المخاطبين (ذلِكَ) أي تقديم الصدقات (خَيْرٌ لَكُمْ) لما فيه من الثواب (وَأَطْهَرُ) وأزكى لأنفسكم لما فيه من تعويدها على عدم الاكتراث بالمال وإضعاف علاقة حبه المدنس لها ، وفيه إشارة إلى أن في ذلك إعداد النفس لمزيد الاستفاضة من رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عند المناجاة.

وفي الكلام إشعار بندب تقديم الصدقة لكن قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لمن لم يجد حيث رخص سبحانه له في المناجاة بلا تقديم صدقة أظهر إشعارا بالوجوب.

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) أي أخفتم الفقر لأجل تقديم الصدقات فمفعول (أَشْفَقْتُمْ) محذوف ، و (أَنْ) على إضمار حرف التعليل ، ويجوز أن يكون المفعول (أَنْ تُقَدِّمُوا) فلا حذف أي أخفتم تقديم الصدقات لتوهم ترتيب الفقر عليه ، وجمع الصدقات لما أن الخوف لم يكن في الحقيقة من تقديم صدقة واحدة لأنه ليس مظنة الفقر بل من استمرار الأمر ، وتقديم (صَدَقاتٍ) وهذا أولى مما قيل : إن الجمع لجمع المخاطبين إذ يعلم منه وجه إفراد الصدقة فيما تقدم على قراءة الجمهور (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) ما أمرتم به وشق عليكم ذلك (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بأن رخص لكم المناجاة من غير تقديم صدقة ، وفيه على ما قيل : إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله تعالى عنه لما رؤي منهم من الانقياد وعدم خوف الفقر بعد ما قام مقام نوبتهم و (إذ) على بابها أعني أنها ظرف لما مضى ، وقيل : إنها بمعنى ـ إذ ـ الظرفية للمستقبل كما قوله تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) [غافر : ٧١].

وقيل : بمعنى إن الشرطية كأنه قيل : فإن لم تفعلوا (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) والمعنى على الأول إنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بالمثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، واعتبرت المثابرة لأن المأمورين مقيمون للصلاة ومؤتون للزكاة ، وعدل عن فصلوا إلى (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ليكون المراد المثابرة على توفية حقوق الصلاة ورعاية ما فيه كما لها لا على أصل فعلها فقط ، ولما عدل عن ذلك لما ذكر جيء بما بعده على وزانه ؛ ولم يقل وزكوا لئلا يتوهم أن المراد الأمر بتزكية النفس كذا قيل فتدبر (وَأَطِيعُوا اللهَ

٢٢٥

وَرَسُولَهُ) أي في سائر الأوامر ، ومنها ما تقدم في ضمن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا) الآيات وغير ذلك. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ظاهرا وباطنا.

وعن أبي عمرو و «يعملون» بالتحتية (أَلَمْ تَرَ) تعجيب من حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين ، وفيه على ما قال الخفاجي : تلوين للخطاب بصرفه عن المؤمنين إلى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم أي ألم تنظر (إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا) أي والوا (قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود (ما هُمْ) أي الذين تولوا (مِنْكُمْ) معشر المؤمنين (وَلا مِنْهُمْ) أي من أولئك القوم المغضوب عليهم أعني اليهود لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك ، وفي الحديث «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين ـ أي المترددة بين قطيعين ـ لا تدري أيهما تتبع».

وجوز ابن عطية أن يكون (هُمْ) للقوم ، وضمير (مِنْهُمْ) للذين تولوا ، ثم قال : فيكون فعل المنافقين على هذا أخس لأنهم تولوا مغضوبا عليهم ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صوابا : والأول هو الظاهر والجملة عليه مستأنفة ، وجوز كونها حالا من فاعل (تَوَلَّوْا) ورد بعدم الواو ، وأجيب بأنهم صرحوا بأن الجملة الاسمية المثبتة أو المنفية إذا وقعت حالا تأتي بالواو فقط وبالضمير فقط وبهما معا ، وما هاهنا أتت بالضمير أعني هم ، وعلى ما قال ابن عطية : في موضع الصفة لقوم.

وذكر المولى سعد الله أن في (مِنْكُمْ) التفاتا ، وتعقب بأنه إن غلب فيه خطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فظاهر أنه لا التفات فيه وإن لم يغلب فكذلك لا التفات فيه إذ ليس فيه مخالفة لمقتضى الظاهر لسبق خطابهم قبله ، وفي جعله التفاتا على رأي السكاكي نظر (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) عطف على (تَوَلَّوْا) داخل في حيز التعجيب ، وجوز عطفه على جملة (ما هُمْ مِنْكُمْ) وصيغة المضارع للدلالة على تكرر الحلف ، وقوله تعالى : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حال من فاعل ـ يحلفون ـ مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا فإن الحلف على ما يعلم أنه كذب في غاية القبح ، واستدل به على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر مطابقته للواقع وما لا يعلم مطابقته له فيرد به على مذهبي النظام والجاحظ إذ عليهما لا حاجة اليه ، وبحث فيه أنه يجوز أن يراد بالكذب ما خالف اعتقادهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) بمعنى يعلمون خلافه فيكون جملة حالية مؤكدة لا مقيدة ، نعم التأسيس هو الأصل لكنه غير متعين ، والاحتمال يبطل الاستدلال والكذب الذي حلفوا عليه دعواهم الإسلام حقيقة ، وقيل : إنهم ما شتموا النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم بناء على ما روي «أنه كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم جالسا في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين ، فقال : إنكم سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاءكم فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق فقال عليه الصلاة والسلام حين رآه : علام تشتمني أنت وأصحابك فقال : ذرني آتك بهم فانطلق فدعاهم فحلفوا» فنزلت ، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس إلا أن آخره «فأنزل الله (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) [المجادلة : ١٨]» الآية والتي بعدها ، ولعله يؤيد أيضا اعتبار كون الكذب دعواهم أنهم ما شتموا.

وفي البحر رواية نحو ذلك عن السدي ومقاتل ، وهو ـ أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أسمر خفيف اللحية فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال له : فعلت فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه – فنزلت ، والله تعالى أعلم بصحته.

٢٢٦

وعبد الله هذا هو الرجل المبهم في الخبر الأول ، وهو ابن نبتل بفتح النون وسكون الباء الموحدة وبعدها تاء مثناة من فوق ولام ابن الحارث بن قيس الأنصاري الأوسي ذكره ابن الكلبي والبلاذري في المنافقين ، وذكره أبو عبيدة في الصحابة فيحتمل كما قال ابن حجر : إنه اطلع على أنه تاب ، وأما قوله في القاموس : عبد الله بن نبيل ـ كأمير ـ من المنافقين فيحتمل أنه هو هذا ، واختلف في ضبط اسم أبيه ويحتمل أنه غيره (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) بسبب ذلك (عَذاباً شَدِيداً) نوعا من العذاب متفاقما (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ما اعتادوا عمله وتمرنوا عليه (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) الفاجرة التي يحلفون بها عند الحاجة (جُنَّةً) وقاية وسترة عن المؤاخذة ، وقرأ الحسن ـ إيمانهم ـ بكسر الهمزة أي إيمانهم الذي أظهروه للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وخلص المؤمنين ، قال في الإرشاد : والاتخاذ على هذا عبارة عن التستر بالفعل كأنه قيل : تستروا بما أظهروه من الإيمان عن أن تستباح دماؤهم وأموالهم ، وعلى قراءة الجمهور عبارة عن إعدادهم لأيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية ، وعن سببها أيضا كما يعرب عنه الفاء في قوله تعالى : (فَصَدُّوا) أي الناس.

(عَنْ سَبِيلِ اللهِ) في خلال أمنهم بتثبيط من لقوا عن الدخول في الإسلام وتضعيف أمر المسلمين عندهم ، وقيل : فصدوا المسلمين عن قتلهم فإنه سبيل الله تعالى فيهم ، وقيل : (صدوا) لازم ، والمراد فأعرضوا عن الإسلام حقيقة وهو كما ترى (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم ، وقيل : الأول عذاب القبر وهذا عذاب الآخرة ، ويشعر به وصفه بالإهانة المقتضية للظهور فلا تكرار.

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) قد سبق مثله في سورة آل عمران ، وسبق الكلام فيه فمن أراده فليرجع إليه (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) تقدم الكلام في نظيره غير بعيد (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) أي لله تعالى يومئذ قائلين : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الدنيا أنهم مسلمون مثلكم ، والتشبيه بمجرد الحلف لهم في الدنيا وإن اختلف المحلوف عليه بناء على ما قدمنا من سبب النزول (وَيَحْسَبُونَ) في الآخرة (أَنَّهُمْ) بتلك الأيمان الفاجرة (عَلى شَيْءٍ) من جلب منفعة أو دفع مضرة كما كانوا عليه في الدنيا حيث كانوا يدفعون بها عن أرواحهم وأموالهم ويستجرون بها فوائد دنيوية (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) البالغون في الكذب إلى غاية ليس وراءها غاية حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب ، وزعموا أن أيمانهم الفاجرة تروّج الكذب لديه عزوجل كما تروّجه عند المؤمنين (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه فكان مستوليا عليهم ، وقال الراغب : الحوذ أن يتبع السائق حاذي البعير أي أدبار فخذيه فيعنف في سوقه يقال : حاذ الإبل يحوذها أي ساقها سوقا عنيفا ، وقوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي استاقهم مستوليا عليهم ، أو من قولهم : استحوذ العير على الأتان أي استولى على حاذيها أي جانبي ظهرها اه.

وصرح بعض الأجلة أن الحوذ في الأصل السوق والجمع ، وفي القاموس تقييد السوق بالسريع ثم أطلق على الاستيلاء ، ومثله الأحواذ والأحوذي ، وهو كما قال الأصمعي : المشمر في الأمور القاهر لها الذي لا يشذ عنه منها شيء ، ومنه قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما كان أحوذيا نسيج وحده مأخوذ من ذلك ، واستحوذ مما جاء على الأصل في عدم إعلاله على القياس إذ قياسه استحاذ بقلب الواو ألفا كما سمع فيه قليلا ، وقرأ به هنا أبو عمرو فجاء مخالفا للقياس ـ كاستنوق واستصوب ـ وإن وافق الاستعمال المشهور فيه ، ولذا لم يخلّ استعماله بالفصاحة ،

٢٢٧

وفي استفعل هنا من المبالغة ما ليس في فعل (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) في معنى لم يمكنهم من ذكره عزوجل بما زين لهم من الشهوات فهم لا يذكرونه أصلا لا بقلوبهم ولا بألسنتهم (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من القبائح (حِزْبُ الشَّيْطانِ) أي جنوده وأتباعه.

(أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم وأخذوا بدله العذاب الأليم ، وفي تصدير الجملة بحرفي التنبيه والتحقيق وإظهار المتضايقين معا في موقع الإضمار بأحد الوجهين ، وتوسيط ضمير الفصل من فنون التأكيد ما لا يخفى.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) استئناف مسوق لتعليل ما قبله من خسران حزب الشيطان عبر عنهم بالموصول ذما لهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر (فِي الْأَذَلِّينَ) أي في جملة من هو أذل خلق الله عزوجل من الأولين والآخرين معدودون في عدادهم لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر وحيث كانت عزة الله عزوجل غير متناهية كانت ذلة من حادّه كذلك (كَتَبَ اللهُ) استئناف وارد لتعليل كونهم في الأذلين أي أثبت في اللوح المحفوظ أو قضى وحكم ، وعن قتادة قال : وأيا ما كان فهو جار مجرى القسم فلذا قال سبحانه : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) أي بالحجة والسيف وما يجري مجراه أو بأحدهما ، ويكفي في الغلبة بما عدا الحجة تحققها للرسل عليهم‌السلام في أزمنتهم غالبا فقد أهلك سبحانه الكثير من أعدائهم بأنواع العذاب كقوم نوح وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم ، والحرب بين نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين وإن كان سجالا إلا أن العاقبة كانت له عليه الصلاة والسلام وكذا لأتباعهم بعدهم لكن إذا كان جهادهم لأعداء الدين على نحو جهاد الرسل لهم بأن يكون خالصا لله عزوجل لا لطلب ملك وسلطنة وأغراض دنيوية فلا تكاد تجد مجاهدا كذلك إلا منصورا غالبا ، وخص بعضهم الغلبة بالحجة لا طرادها وهو خلاف الظاهر ، ويبعده سبب النزول ، فعن مقاتل لما فتح الله تعالى مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها قالوا : نرجو أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم فقال عبد الله بن أبيّ : أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها ، والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على نصر رسله (عَزِيزٌ) لا يغلب على مراده عزوجل.

وقرأ نافع وابن عامر «ورسلي» بفتح الياء (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) خطاب للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد يصلح له ، و (تَجِدُ) إما متعد إلى اثنين فقوله تعالى : (يُوادُّونَ) إلخ مفعوله الثاني ، وإما متعد إلى واحد فهو حال من مفعوله لتخصصه بالصفة ، وقيل : صفة أخرى له أي قوما جامعين بين الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وبين موادّة أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وليس بذاك ، والكلام على ما في الكشاف من باب التخييل خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين يوادّون المشركين. والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء الله تعالى ، وحاصل هذا على ما في الكشف أنه من فرض غير الواقع واقعا محسوسا حيث نفى الوجدان على الصفة وأريد نفي انبغاء الوجدان على تلك الصفة فجعل الواقع نفي الوجدان ، وإنما الواقع نفي الانبغاء فخيل أنه هو (١) فالتصوير في

__________________

(١) قيل : يجعل ما لا يليق كالعدم لمشاركته له في عدم الاعتداد به فتأمل اه منه.

٢٢٨

جعل ما لا يمتنع ممتنعا ، وقيل : المراد لا تجد قوما كاملي الإيمان على هذه الحال ، فالنفي باق على حقيقته ، والمراد بموادة المحادّين موالاتهم ومظاهرتهم ، والمضارع قيل : لحكاية الحال الماضية ، و (مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) ظاهر في الكافر ؛ وبعض الآثار ظاهر في شموله للفاسق ، والاخبار مصرحة بالنهي عن موالاة الفاسقين كالمشركين بل قال سفيان : يرون أن الآية المذكورة نزلت فيمن يخالط السلطان ، وفي حديث طويل أخرجه الطبراني والحاكم والترمذي عن واثلة بن الأسقع مرفوعا «يقول الله تبارك وتعالى : وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي».

وأخرج أحمد وغيره عن البراء بن عازب مرفوعا ، أوثق الإيمان الحب في الله والبغض في الله.

وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال : قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم : «اللهم لا تجعل لفاجر ـ وفي رواية ـ ولا لفاسق علي يدا ولا نعمة فيودّه قلبي فإني وجدت فيما أوحيت إلي (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ)» وحكى الكواشي عن سهل أنه قال : من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس إلى مبتدع ولا يجالسه ولا يؤاكله ولا يشاربه ولا يصاحبه ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء ، ومن داهن مبتدعا سلبه الله تعالى حلاوة السنن ، ومن تحبب إلى مبتدع يطلب عز الدنيا أو عرضا منها أذله الله تعالى بذلك العز وأفقره بذلك الغنى ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله تعالى نور الإيمان من قلبه ، ومن لم يصدق فليجرب انتهى.

ومن العجيب أن بعض المنتسبين إلى المتصوفة ـ وليس منهم ولا قلامة ظفر ـ يوالي الظلمة بل من لا علاقة له بالدين منهم وينصرهم بالباطل ويظهر من محبتهم ما يضيق عن شرحه صدر القرطاس ، وإذا تليت عليه آيات الله تعالى وأحاديث رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم الزاجرة عن مثل ذلك يقول : سأعالج قلبي بقراءة نحو ورقتين من كتاب المثنوي الشريف لمولانا جلال الدين القونوي قدس‌سره وأذهب ظلمته ـ إن كانت ـ بما يحصل لي من الأنوار حال قراءته ، وهذا لعمري هو الضلال البعيد ، وينبغي للمؤمنين اجتناب مثل هؤلاء (وَلَوْ كانُوا) أي من حادّ الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ، والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما قبل باعتبار لفظها (آباءَهُمْ) أي الموادين (أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) فإن قضية الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر الذي يحشر المرء فيه مع من أحب أن يهجروا الجميع بالمرة ، وليس المراد بمن ذكر خصوصهم وإنما المراد الأقارب مطلقا ، وقدم الآباء لأنه يجب على أبنائهم طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف ، وثنى بالأبناء لأنهم أعلق بهم لكونهم أكبادهم ، وثلث بالأخوان لأنهم الناصرون لهم :

أخاك أخاك إن من لا أخا له

كساع إلى الهيجا بغير سلاح

وختم بالعشيرة لأن الاعتماد عليهم والتناصر بهم بعد الإخوان غالبا :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إذا لقام بنصري معشر خشن

عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا

وقرأ أبو رجاء «وعشائرهم» بالجمع (أُولئِكَ) إشارة إلى الذين لا يوادّونهم وإن كانوا أقرب الناس إليهم وأمسهم رحما بهم وما فيه من معنى البعد لرفعة درجتهم في الفضل ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي أثبته الله تعالى فيها ولما كان الشيء يراد أولا ثم يقال ثم يكتب عبر عن المبدأ

٢٢٩

بالمنتهى للتأكيد والمبالغة ، وفيه دليل على خروج العمل من مفهوم ـ الإيمان ـ فإن جزء الثابت في القلب ثابت فيه قطعا ، ولا شيء من أعمال الجوارح يثبت فيه.

وقرأ أبو حيوة والمفضل عن عاصم «كتب» مبنيا للمفعول «الإيمان» بالرفع على النيابة عن الفاعل.

(وَأَيَّدَهُمْ) أي قواهم (بِرُوحٍ مِنْهُ) أي من عنده عزوجل على أن من ابتدائية ، والمراد بالروح نور القلب وهو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده تحصل به الطمأنينة والعروج على معارج التحقيق ، وتسميته روحا مجاز مرسل لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية ، وجوز كونه استعارة ، وقول بعض الأجلة : إن نور القلب ما سماه الأطباء روحا وهو الشعاع اللطيف المتكون من القلب ـ وبه الإدراك ـ فالروح على حقيقته ليس بشيء كما لا يخفى ، أو المراد به القرآن على الاحتمالين السابقين ، واختيرت الاستعارة أو جبريل عليه‌السلام وذلك يوم بدر ، وإطلاق الروح عليه شائع أقوال.

وقيل : ضمير (مِنْهُ) للإيمان ، والمراد بالروح الإيمان أيضا ، والكلام على التجريد البديعي ـ فمن ـ بيانية أو ابتدائية على الخلاف فيها ، وإطلاق الروح على الإيمان على ما مر ؛ وقوله تعالى : (وَيُدْخِلُهُمْ) إلخ بيان لآثار رحمته تعالى الأخروية إثر بيان ألطافه سبحانه الدنيوية أي ويدخلهم في الآخرة.

(جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أبد الآبدين ، وقوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) استئناف جار مجرى التعليل لما أفاض سبحانه عليهم من آثار رحمته عزوجل العاجلة والآجلة ، وقوله تعالى (وَرَضُوا عَنْهُ) بيان لابتهاجهم بما أوتوه عاجلا وآجلا ، وقوله تعالى : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) تشريف لهم ببيان اختصاصهم به تعالى وقوله سبحانه : (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) بيان لاختصاصهم بسعادة الدارين والكلام في تحلية الجملة ـ بإلا. وإن ـ على ما مر في أمثالها ، والآية قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه.

أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصكه أبو بكر صكة فسقط ؛ فذكر ذلك للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال : أفعلت يا أبا بكر؟ قال : نعم ، قال : لا تعد ، قال : والله لو كان السيف قريبا مني لضربته ـ وفي رواية ـ لقتلته فنزلت (لا تَجِدُ قَوْماً) الآيات.

وقيل : في أبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح ، أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال : جعل والد أبي عبيدة يتصدى له يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت (لا تَجِدُ) إلخ ، وفي الكشاف أن أبا عبيدة قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد ، وقال الواقدي في قصة قتله إياه : كذلك يقول أهل الشام ، وقد سألت رجالا من بني فهر فقالوا : توفي أبوه قبل الإسلام أي في الجاهلية قبل ظهور الإسلام انتهى.

والحق أنه قتله في بدر ، أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال : كان ـ أي أبو عبيدة ـ قتل أباه وهو من جملة أسارى بدر بيده لما سمع منه في رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما يكره ونهاه فلم ينته ، وقيل : نزلت فيه حيث قتل أباه. وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وقال لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم : دعني أكون في الرعلة الأولى ـ وهي القطعة من الخيل ـ قال : «متعنا بنفسك يا أبا بكر ما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» وفي معصب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر. وفي علي كرم الله تعالى وجهه وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر.

وتفصيل ذلك ما رواه أبو داود عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لما كان يوم بدر تقدم عتبة ابن ربيعة ومعه

٢٣٠

ابنه وأخوه فنادى من يبارز ـ إلى قوله ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قم يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة بن الحارث» فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلفت بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل منهما صاحبه ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة.

هذا ورتب بعض المفسرين (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومعصب وعلي كرم الله تعالى وجهه ومن معه ، وقيل : إن قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً) إلخ نزل في حاطب ابن أبي بلتعة ، والظاهر على ما قيل : إنه متصل بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود ، وأيا ما كان فحكم الآيات عام وإن نزلت في أناس مخصوصين كما لا يخفى ، والله تعالى أعلم.

٢٣١

سورة الحشر

قال البقاعي : وتسمى سورة ـ بني النضير ـ وأخرج البخاري وغيره عن ابن جبير قال : قلت لابن عباس سورة الحشر ، قال : قل : سورة بني النضير ، قال ابن حجر : كأنه كره تسميتها بالحشر لئلا يظن أن المراد به يوم القيامة وإنما المراد هاهنا إخراج بني النضير.

وهي مدنية ، وآيها أربع وعشرون بلا خلاف ، ومناسبتها لما قبلها أن في آخر تلك (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] وفي أول هذه (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) [الحشر : ٢] وفي آخر تلك ذكر من حادّ الله ورسوله ، وفي أول هذه ذكر من شاقّ الله ورسوله ، وأن في الأولى ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضا ، وفي هذه ذكر ما حل باليهود وعدم إغناء تولي المنافقين إياهم شيئا ، فقد روي أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعت في التوراة لا تردّ له راية فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فخالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأخبر جبريل عليه‌السلام الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم بذلك فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس بعد أن أخذ بفود رأسه أخوه رضاعا أو نائلة سلكان بن سلامة أحد بني عبد الأشهل ، وكان عليه الصلاة والسلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند منصرفه من بئر معونة فهموا بطرح الحجر عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فعصمه الله تعالى ، وبعد أن قتل كعب بأشهر على الصحيح لا على الأثر كما قيل : أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم وكان ذلك سنة أربع في شهر ربيع الأول وكانوا بقرية يقال لها : الزهرة فسار المسلمون معه عليه الصلاة والسلام وهو على حمار مخطوم بليف.

وقيل : على جمل واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم حتى إذا نزل صلّى الله تعالى عليه وسلم بهم وجدهم ينوحون على كعب ، وقالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك فقال : اخرجوا من المدينة فقالوا : الموت أقرب لنا من ذلك فتنادوا بالحرب ، وقيل : استمهلوه عليه الصلاة والسلام عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ودس المنافقون عبد الله بن أبيّ وأضرابه إليهم أن لا يخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم وإن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم أجمعوا على الغدر برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : اخرج في ثلاثين من أصحابك ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك فإن صدقوك آمنا كلنا ففعل فقالوا : كيف نفهم ونحن ستون اخرج في ثلاثة ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ففعل عليه الصلاة والسلام فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها وكان مسلما فأخبرته بما أرادوا فأسرع إلى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم فسارّه بخبرهم قبل أن

٢٣٢

يصل إليهم فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم ـ على ما قال ابن هشام في سيرته ـ ست ليال ، وقيل : إحدى وعشرين ليلة فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فطلبوا الصلح فأبى عليه الصلاة والسلام عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات إلا أهل بيتين منهم آل سلام ابن أبي الحقيق وآل كنانة بن الربيع ابن أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فلحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة وقبض النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أموالهم وسلاحهم فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا وكان ابن أبيّ قد قال لهم : معي ألفان من قومي وغيرهم أمدكم بها وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فلما نازلهم صلّى الله تعالى عليه وسلم اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان فأنزل الله تعالى قوله عزوجل :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إلى قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحشر : ٦] وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في صدر سورة الحديد ، وكرر الموصول هاهنا لزيادة التقرير والتنبيه على استقلال كل من الفريقين بالتسبيح ، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ) بيان لبعض آثار عزته تعالى وأحكام حكمته عزوجل إثر وصفه تعالى بالعزة القاهرة والحكمة الباهرة على الإطلاق ، والمراد ـ بالذين كفروا ـ بنو النضير ـ بوزن الأمير ـ وهم قبيلة عظيمة من يهود خيبر كبني قريظة ، ويقال للحيين : الكاهنان لأنهما من ولد الكاهن بن هارون كما في البحر ، ويقال : إنهم نزلوا قريبا من المدينة في فئة من بني إسرائيل انتظارا لخروج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى.

وقيل : إن موسى عليه‌السلام كان قد أرسلهم إلى قتل العماليق ، وقال لهم : لا تستحيوا منهم أحدا فذهبوا ولم يفعلوا وعصوا موسى عليه‌السلام فلما رجعوا إلى الشام وجدوه قد مات عليه‌السلام فقال لهم بنو إسرائيل : أنتم عصاة الله تعالى والله لا دخلتم علينا بلادنا فانصرفوا إلى الحجاز إلى أن كان ما كان ، وروي عن الحسن أنهم بنو قريظة وهو وهم كما لا يخفى ، والجار الأول متعلق بمحذوف أي كائنين من أهل الكتاب ، والثاني متعلق ـ باخرج ـ وصحت إضافة الديار إليهم لأنهم كانوا نزلوا برية لا عمران فيها فبنوا فيها وسكنوا ، وضمير (هُوَ) راجع إليه تعالى بعنوان العزة

٢٣٣

والحكمة إما بناء على كمال ظهور اتصافه تعالى بهما مع مساعدة تامة من المقام ، أو على جعله مستعارا لاسم الإشارة كما في قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) [الأنعام : ٤٦] أي بذلك فكأنه قيل : ذلك المنعوت بالعزة والحكمة الذي أخرج إلخ ، ففيه إشعار بأن في الإخراج حكمة باهرة ، وقوله تعالى : (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) متعلق ـ بأخرج ـ واللام لام التوقيت كالتي في قولهم : كتبته لعشر خلون. ومآلها إلى معنى ـ في ـ الظرفية ، ولذا قالوا هنا أي في أول الحشر لكنهم لم يقولوا : إنها بمعنى ـ في ـ إشارة إلى أنها لم تخرج عن أصل معناها وأنها للاختصاص لأن ما وقع في وقت اختص به دون غيره من الأوقات ، وقيل : إنها للتعليل وليس بذاك ، ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي أول ما حشروا وأخرجوا ، ونبه بالأولية على أنهم لم يصبهم جلاء قبل ولم يجلهم بختنصر حين أجلى اليهود بناء على أنهم لم يكونوا معهم إذ ذاك وإن نقلهم من بلاد الشام إلى أرض العرب كان باختيارهم ، أو لم يصبهم ذلك في الإسلام ، أو على أنهم أول محشورين من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام ، ولا نظر في ذلك إلى مقابلة الأول بالآخر ، وبعضهم يعتبرها فمعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إلى الشام ، وقيل : آخر حشرهم حشرهم يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشام.

وعن عكرمة من شك أن المحشر هاهنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية ، وكأنه أخذ ذلك من أن المعنى الأول حشرهم إلى الشام فيكون لهم آخر حشر إليه أيضا ليتم التقابل ، وهو يوم القيامة من القبور ، ولا يخفى أنه ضعيف الدلالة ؛ وفي البحر عن عكرمة والزهري أنهما قالا : المعنى لأول موضوع الحشر وهو الشام ، وفي الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : «اخرجوا قالوا : إلى أين؟ قال : إلى أرض المحشر» ولا يخفى ضعف هذا المعنى أيضا ، وقيل : آخر حشرهم أن نارا تخرج قبل الساعة فتحشرهم كسائر الناس من المشرق إلى المغرب ، وعن الحسن أنه أريد حشر القيامة أي هذا أوله والقيام من القبور آخره ، وهو كما ترى ، وقيل : المعنى أخرجهم من ديارهم لأول جمع حشره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو حشره الله عزوجل لقتالهم لأنه صلّى الله تعالى عليه وسلم لم يكن قبل قصد قتالهم ، وفيه من المناسبة لوصف العزة ما لا يخفى ، ولذا قيل : إنه الظاهر ، وتعقب بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن جمع المسلمين لقتالهم في هذه المرة أيضا ولذا ركب عليه الصلاة والسلام حمارا مخطوما بليف لعدم المبالاة بهم وفيه نظر ، وقيل : لأول جمعهم للمقاتلة من المسلمين لأنهم لم يجتمعوا لها قبل ، والحشر إخراج جمع سواء كان من الناس لحرب أو لا ، نعم يشترط فيه كون المحشور جمعا من ذوي الأرواح لا غير ، ومشروعية الإجلاء كانت في ابتداء الإسلام ، وأما الآن فقد نسخت ، ولا يجوز إلا القتل أو السبي أو ضرب الجزية (ما ظَنَنْتُمْ) أيها المسلمون (أَنْ يَخْرُجُوا) لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم.

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي ظنوا أن حصونهم مانعتهم أو تمنعهم من بأس الله تعالى ـ فحصونهم ـ مبتدأ و (مانِعَتُهُمْ) خبر مقدم ، والجملة خبر (أَنْ) وكان الظاهر لمقابلة (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) وظنوا أن لا يخرجوا والعدول إلى ما في النظم الجليل للإشعار بتفاوت الظنين ، وأن ظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتى بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه فجيء ـ بمانعتهم. وحصونهم ـ مقدما فيه الخبر على المبتدأ ؛ ومدار الدلالة التقديم لما فيه من الاختصاص فكأنه لا حصن أمنع من حصونهم ، وبما يدل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معهما بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم ، فجيء بضمير ـ هم ـ وصير اسما ـ لأن ـ وأخبر عنه بالجملة لما في ذلك من التقوى على ما في الكشف وشرح الطيبي ، وفي كون ذلك من باب التقوى بحث ، ومنع

٢٣٤

بعضهم جواز الاعراب السابق بناء على أن تقديم الخبر المشتق على المبتدأ المحتمل للفاعلية لا يجوز كتقديم الخبر إذا كان فعلا ، وصحح الجواز في المشتق دون الفعل ، نعم اختار صاحب الفرائد أن يكون «حصونهم» فاعلا ـ لمانعتهم ـ لاعتماده على المبتدأ.

وجوز كون (مانِعَتُهُمْ) مبتدأ خبره (حُصُونُهُمْ) ، وتعقب بأن فيه الاخبار عن النكرة بالمعرفة إن كانت إضافة مانعة لفظية ، وعدم كون المعنى على ذلك إن كانت معنوية بأن قصد استمرار المنع فتأمل ، وكانت (حُصُونُهُمْ) على ما قيل أربعة : الكتيبة والوطيح والسلالم والنطاة ، وزاد بعضهم الوخدة (١) وبعضهم شقا ، والذي في القاموس أنه موضع بخيبر أو واد به (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي أمره سبحانه ، وقدره عزوجل المتاح لهم (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) ولم يخطر ببالهم ؛ وهو على ما روي عن السدي وأبي صالح وابن جريج قتل رئيسهم كعب بن الأشرف فإنه مما أضعف قوتهم وقلّ شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة ، وقيل : ضمير (فَأَتاهُمُ) و (لَمْ يَحْتَسِبُوا) للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا ، وفيه تفكيك الضمائر.

وقرئ فآتاهم الله ، وهو حينئذ متعدّ لمفعولين ثانيهما محذوف. أي فآتاهم الله العذاب أو النصر (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي الخوف الشديد من رعبت الحوض إذ ملأته لأنه يتصور فيه أنه ملأ القلب ، وأصل القذف الرمي بقوة أو من بعيد ، والمراد به هنا للعرف إثبات ذلك وركزه في قلوبهم.

(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة ، ولئلا تبقى صالحة لسكنى المسلمين بعد جلائهم ولينقلوا بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل كالخشب والعمد والأبواب (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) حيث كانوا يخربونها من خارج ليدخلوها عليهم وليزيلوا تحصنهم بها وليتسع مجال القتال ولتزداد نكايتهم ، ولما كان تخريب أيدي المؤمنين بسبب أمر أولئك اليهود كان التخريب بأيدي المؤمنين كأنه صادر عنهم ، وبهذا الاعتبار عطفت (أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) على ـ أيديهم ـ وجعلت آلة لتخريبهم مع أن الآلة هي أيديهم أنفسهم ـ فيخربون ـ على هذا إما من الجمع بين الحقيقة والمجاز أو من عموم المجاز ، والجملة إما في محل نصب على الحالية من ضمير (قُلُوبِهِمُ) أو لا محل لها من الإعراب ، وهي إما مستأنفة جواب عن سؤال تقديره فما حالهم بعد الرعب؟ أو معه أو تفسير للرعب بادعاء الاتحاد لأن ما فعلوه يدل على رعبهم إذ لولاه ما خربوها.

وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمرو «يخرّبون» بالتشديد وهو للتكثير في الفعل أو في المفعول ، وجوز أن يكون في الفاعل ، وقال أبو عمرو بن العلاء : خرب بمعنى هدم وأفسد ، وأخرب ترك الموضوع خرابا وذهب عنه ، فالإخراب يكون أثر التخريب ، وقيل : هما بمعنى عدى خرب اللازم بالتضعيف تارة وبالهمزة أخرى (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار ، واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي ، واعبروا من حالهم في غدرهم واعتمادهم على غير الله تعالى ـ الصائرة سببا لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أوطانهم مكرهين ـ إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عزوجل بل توكلوا عليه سبحانه.

واشتهر الاستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس الشرعي ، قالوا : إنه تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور

__________________

(١) قوله : الكتيبة التاء المثناة والتصغير. والوطيح بفتح الواو وكسر الطاء وبالمهملة. والسلالم بضم السين ، وقيل : بفتحها. ويقال فيه : السلاليم. والنطاة من النطو. والوخدة بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها مهملة اه منه.

٢٣٥

والانتقال من الشيء إلى غيره ، وذلك متحقق في القياس إذا فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع ، ولذا قال ابن عباس في الأسنان : اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية ، والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذ ثبت الأمر ـ وهو ظاهر في الطلب الغير الخارج عن اقتضاء الوجوب أو الندب ـ ثبتت مشروعية العمل بالقياس ، واعترض بعد تسليم ظهور الأمر في الطلب بأنا لا نسلم أن الاعتبار ما ذكر بل هو عبارة عن الاتعاظ لأنه المتبادر حيث أطلق ، ويقتضيه في الآية ترتيبه بالفاء على ما قبله كما في قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران : ١٣ ، النور : ٤٤] (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) [النحل : ٦٦] ولأن القائس في الفرع إذا قدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته يقال : إنه غير معتبر ، ولو كان القياس هو الاعتبار ـ لم يصح هذا السلب ـ سلمنا لكن ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس بل هي مطلقة ـ فيكفي في العمل بها العمل بالقياس العقلي ـ سلمنا لكن العام مخصص بالاتفاق إذ قلتم : إنه إذا قال لوكيله : أعتق غانما لسواده لا يجوز تعديه ذلك إلى سالم ، وإن كان أسود ، وهو بعد التخصيص لا يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص سلمنا غير أن الخطاب مع الموجودين وقته فيختص بهم ، وأجيب بأنه لو كان الاعتبار بمعنى الاتعاظ حيث أطلق لما حسن قولهم : اعتبر فاتعظ لما يلزم فيه حينئذ من ترتب الشيء على نفسه وترتيبه في الآية على ما قبله لا يمنع كونه بمعنى الانتقال المذكور لأنه متحقق في الاتعاظ إذ المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الانتقال ـ وهو القياس. والآيتان على ذلك ـ ولا يصح غير معتبر في القائس العاصي نظرا إلى كونه قائسا ، وإنما صح ذلك نظرا إلى أمر الآخرة ، وأطلق النفي نظرا إلى أنه أعظم المقاصد وقد أخل به ، والآية إن دلت على العموم فذاك وإن دلت على الإطلاق وجب الحمل على القياس الشرعي لأن الغالب من الشارع مخاطبتنا بالأمور الشرعية دون غيرها ، وقد برهن على أن العام بعد التخصيص حجة ، وشمول حكم خطاب الموجودين لغيرهم إلى يوم القيامة قد انعقد الإجماع عليه ، ولا يضر الخلاف في شمول اللفظ وعدمه على أنه إن عم أو لم يعم هو حجة على الخصوم في بعض محل النزاع ، ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أنه لا يقول بالفرق.

هذا وقال الخفاجي في وجه الاستدلال : قالوا : إنا أمرنا في هذه الآية بالاعتبار وهو ردّ الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه ، وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي ، وسوق الآية الاتعاظ فتدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة ، وتمام الكلام على ذلك في الكتب الأصولية (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) أي الإخراج أو الخروج عن أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل كأهل بدر وغيرهم أو كما فعل سبحانه ببني قريظة في سنة خمس إذ الحكمة تقتضيه لو لم يكتب الجلاء عليهم ، وجاء أجليت القوم عن منازلهم أي أخرجتهم عنها وأبرزتهم ، وجلوا عنها خرجوا أو برزوا ، ويقال أيضا : جلاهم ؛ وفرق بعضهم بين الجلاء والإخراج بأن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.

وقال الماوردي : الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج قد يكون لواحد ولجماعة ، ويقال فيه : الجلأ مهموزا من غير ألف كالنبإ ، وبذلك قرأ الحسن بن صالح وأخوه علي بن صالح وطلحة ، وأن مصدرية لا مخففة واسمها ضمير شأن كما توهمه عبارة الكشاف ، وقد صرح بذلك الرضي ، وقوله تعالى : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) استئناف غير متعلق بجواب (لَوْ لا) أي إنهم إن نجوا من عذاب الدنيا وهو القتل لأمر أشق عليهم وهو الجلاء لم ينجوا من عذاب الآخرة ؛ فليس تمتعهم أياما قلائل بالحياة وتهوين أمر الجلاء على أنفسهم بنافع ، وفيه إشارة إلى أن القتل أشدّ من الجلاء لا لذاته بل لأنهم يصلون عنده إلى عذاب النار ، وإنما أوثر الجلاء لأنه أشق عندهم وأنهم غير معتقدين لما

٢٣٦

أمامهم من عذاب النار أو معتقدون ولكن لا يبالون به بالة ولم تجعل حالية لاحتياجها للتأويل لعدم المقارنة.

(ذلِكَ) أي ما نزل بهم وما سينزل (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) وفعلوا ما فعلوا من القبائح (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) وقرأ طلحة يشاقق بالفك كما في الأنفال ، والاقتصار على ذكر مشاقته عزوجل لتضمنها مشاقته عليه الصلاة والسلام ، وفيه من تهويل أمرها ما فيه ، وليوافق قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) وهذه الجملة إما نفس الجزاء ، وقد حذف منه العائد إلى من عند من يلتزمه أي شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله فإن الله شديد العقاب ، وأيا ما كان فالشرطية تكملة لما قبلها وتقرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهاني كأنه قيل : ذلك الذي نزل وسينزل بهم من العقاب بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وكل من يشاق الله تعالى كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فإذا لهم عقاب شديد (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) هي النخلة مطلقا على ما قال الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون والراغب وهي فعلة من اللون وياؤها مقلوبة من واو لكسر ما قبلها كديمة ، وتجمع على ألوان ، وقال ابن عباس وجماعة من أهل اللغة : هي النخلة ما لم تكن عجوة ، وقال أبو عبيدة وسفيان : ما تمرها لون وهو نوع من التمر ، قال سفيان : شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج ، وقال أبو عبيدة أيضا : هي ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني ، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : هي العجوة ، وقال الأصمعي : هي الدقل ، وقيل : هي النخلة القصيرة ، وقال الثوري : الكريمة من النخل كأنهم اشتقوها من اللين فتجمع على لين ، وجاء جمعها ليانا كما في قول امرئ القيس :

وسالفة كسوق الليا

ن أضرم فيه القويّ السعر

وقيل : هي أغصان الأشجار للينها ، وهو قول شاذ ، وأنشدوا على كونها بمعنى النخلة سواء كانت من اللون أو من اللين قول ذي الرمة :

كأن قنودي فوقها عش طائر

على لينة سوقاء تهفو جنوبها

ويمكن أن يقال : أراد باللينة النخلة الكريمة لأنه يصف الناقة بالعراقة في الكرم فينبغي أن يرمز في المشبه به إلى ذلك المعنى ، و (ما) شرطية منصوبة ـ بقطعتم ـ و (مِنْ لِينَةٍ) بيان لها ، ولذا أنث الضمير في قوله تعالى : (أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها) أي أبقيتموها كما كانت ولم تتعرضوا لها بشيء ما ، وجواب الشرط قوله سبحانه : (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي فذلك أي قطعها أو تركها بأمر الله تعالى الواصل إليكم بواسطة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بإرادته سبحانه ومشيئته عزوجل ، وقرأ عبد الله والأعمش وزيد بن علي ـ قوما ـ على وزن فعل كضرب جمع قائم ، وقرئ ـ قائما ـ اسم فاعل مذكر على لفظ ما ، وأبقى أصولها على التأنيث ، وقرئ ـ أصلها ـ بضمتين ، وأصله (أُصُولِها) فحذفت الواو اكتفاء بالضمة أو هو كرهن بضمتين من غير حذف وتخفيف.

(وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) متعلق بمقدر على أنه علة له وذلك المقدر عطف على مقدر آخر أي ليعز المؤمنين وليخزي الفاسقين أي ليذلهم أذن عزوجل في القطع والترك ، وجوز فيه أن يكون معطوفا على قوله تعالى : بإذن (اللهِ) وتعطف العلة على السبب فلا حاجة إلى التقدير فيه ، والمراد ـ بالفاسقين ـ أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب ، ووضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بعلة الحكم ، واعتبار القطع والترك في المعلل هو الظاهر وإخزاؤهم بقطع اللينة لحسرتهم على ذهابها بأيدي أعدائهم المسلمين وبتركها لحسرتهم على بقائها في أيدي أولئك الأعداء كذا في الانتصاف.

قال بعضهم : وهاتان الحسرتان تتحققان كيفما كانت المقطوعة والمتروكة لأن النخل مطلقا مما يعز على أصحابه فلا تكاد تسمح أنفسهم بتصرف أعدائهم فيه حسبما شاءوا وعزته على صاحبه الغارس له أعظم من عزته على

٢٣٧

صاحبه غير الغارس له ، وقد سمعت بعض الغارسين يقول : السعفة عندي كأصبع من أصابع يدي ، وتحقق الحسرة على الذهاب إن كانت المقطوعة النخلة الكريمة أظهر ، وكذا تحققها على البقاء في أيدي أعدائهم المسلمين إن كانت هي المتروكة ، والذي تدل عليه بعض الآثار أن بعض الصحابة كان يقطع الكريمة وبعضهم يقطع غيرها وأقرهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أفصح الأول بأن غرضه إغاظة الكفار ، والثاني بأنه استبقاء الكريمة للمسلمين ، وكان ذلك أول نزول المسلمين على أولئك الكفرة ومحاصرتهم لهم ، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر في صدر الحرب بقطع نخيلهم فقالوا : يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فنزلت الآية (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) إلخ ، ولم يتعرض فيها للتحريق لأنه في معنى القطع فاكتفى به عنه ، وأما التعرض للترك مع أنه ليس بفساد عندهم أيضا فلتقرير عدم كون القطع فسادا لنظمه في سلك ما ليس بفساد إيذانا بتساويهما في ذلك.

واستدل بالآية على جواز هدم ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم ، وحاصل ما ذكره الفقهاء في المسألة أنه إن علم بقاء ذلك في أيدي الكفرة فالتخريب والتحريق أولى ، وإلا فالإبقاء أولى ما لم يتضمن ذلك مصلحة ، وقوله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) شروع في بيان حال ما أخذ من أموالهم بعد بيان ما حل بأنفسهم من العذاب العاجل والآجل وما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع أي ما أعاده الله تعالى إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أولئك الكفرة ـ وهم بنو النضير ـ و (ما) موصولة مبتدأ ، والجملة بعدها صلة ، والعائد محذوف كما أشرنا إليه ، والجملة المتقرنة بالفاء بعد خبر ، ويجوز كونها شرطية ، والجملة بعد جواب ، والمراد بما أفاء سبحانه عليه صلى الله تعالى عليه وسلم منهم أموالهم التي بقيت بعد جلائهم ، والمراد بإعادتها عليه الصلاة والسلام تحويلها إليه ، وهو إن لم يقتض سبق حصولها له صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظير ما قيل في قوله تعالى : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الأعراف : ٨٨ ، إبراهيم : ١٣] ظاهر وإن اقتضى سبق الحصول كان فيما ذكر مجازا ، وفيه إشعار بأنها كانت حرية بأن تكون له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما وقعت في أيديهم بغير حق فأرجعها الله تعالى إلى مستحقها ، وكذا شأن جميع أموال الكفرة التي تكون فيئا للمؤمنين لأن الله عزوجل خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق من الأموال ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين ، ولذا قيل للغنيمة التي لا تلحق فيها مشقة : فيء مع أنه من فاء الظل إذا رجع ، ونقل الراغب عن بعضهم أنه سمي بذلك تشبيها بالفيء الذي هو الظل تنبيها على أن أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل ، و (أَفاءَ) على ما في البحر بمعنى المضارع أما إذا كانت (ما) شرطية فظاهر ، وأما إذا كانت موصوله فلأنها إذا كانت الفاء في خبرها تكون مشبهة باسم الشرط فان كانت الآية نازلة قبل جلائهم كانت مخبرة بغيب ، وإن كانت نزلت بعد جلائهم وحصول أموالهم في يد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت بيانا لما يستقبل ، وحكم الماضي حكمه ، والذي يدل عليه الإخبار أنها نزلت بعد ، روي أن بني النضير لما أجلوا عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر فنزل (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) إلخ فكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى.

وقال الضحاك : كانت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة فآثر بها المهاجرين وقسمها عليهم ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة أعطاهم لفقرهم ، وذكر نحوه ابن هشام إلا أنه ذكر

٢٣٨

الأولين ولم يذكر الحارث ، وكذا لم يذكره ابن سيد الناس ، وذكر أنه أعطى سعد بن معاذ سيفا لابن أبي الحقيق كان له ذكر عندهم ، ومعنى ما (أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) ما أجريتم على تحصيله من الوجيف وهو سرعة السير ، وأنشد عليه أبو حيان قول نصيب :

ألا ربّ ركب قد قطعت وجيفهم

إليك ولو لا أنت لم توجف الركب

وقال ابن هشام : «أوجفتم» حركتم وأتعبتم في السير ، وأنشد قول تميم بن مقبل :

مذاويد بالبيض الحديث صقالها

عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا

والمآل واحد ، و (مِنْ) في قوله تعالى : (مِنْ خَيْلٍ) زائدة في المفعول للتنصيص على الاستغراق كأنه قيل ـ فما أوجفتم عليه ـ فردا من أفراد الخيل أصلا (وَلا رِكابٍ) ولا ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه فلا يقال في الأكثر الفصيح : راكب لمن كان على فرس أو حمار ونحوه بل يقال : فارس ونحوه ، وإن كان ذلك عاما لغيره وضعا ، وإنما لم يعملوا الخيل ولا الركاب بل مشوا إلى حصون بني النضير رجالا إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه كان على الحمار. أو على جمل ـ كما تقدم ـ لأنها قريبة على نحو ميلين من المدينة فهي قريبة جدا منها ، وكان المراد أن ما حصل لم يحصل بمشقة عليكم وقتال يعتدّ به منكم ، ولهذا لم يعط صلّى الله تعالى عليه وسلم الأنصار إلا من سمعت ، وأما إعطاؤه المهاجرين فلعله لكونهم غرباء فنزلت غربتهم منزلة السفر والجهاد ، ولما أشير إلى نفي كون حصول ذلك بعملهم أشير إلى علة حصوله بقوله عزوجل : (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي ولكن سنته عزوجل جارية على أن يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم تسليطا خاصا ، وقد سلط رسوله محمدا صلّى الله تعالى عليه وسلم على هؤلاء تسليطا غير معتاد من غير أن تقتحموا مضايق الخطوب وتقاسوا شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم ، ويكون أمرها مفوضا إليه صلّى الله تعالى عليه وسلم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيفعل ما يشاء كما يشاء تارة على الوجوه المعهودة ، وأخرى على غيرها ، وقيل : الآية في فدك لأن بني النضير حوصروا وقوتلوا دون أهل فدك وهو خلاف ما صحت به الأخبار ، والواقع من القتال شيء لا يعتد به.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٠)

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) بيان لحكم ما أفاءه الله تعالى على رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم من قرى الكفار على العموم بعد بيان حكم ما أفاءه من بني النضير كما رواه القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عمر بن

٢٣٩

الخطاب رضي الله تعالى عنه ، ويشعر به كلامه رضي الله تعالى عنه في حديث طويل فيه مرافعة علي كرم الله تعالى وجهه والعباس في أمر فدك أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم فالجملة جواب سؤال مقدر ناشئ مما فهم من الكلام السابق فكأن قائلا يقول : قد علمنا حكم ما أفاء الله تعالى من بني النضير فما حكم ما أفاء عزوجل من غيرهم؟ فقيل : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) إلخ ، ولذا لم يعطف على ما تقدم ، ولم يذكر في الآية قيد الإيجاف ولا عدمه ، والذي يفهم من كتب بعض الشافعية أن ما تضمنته حكم الفيء لا الغنيمة ولا الأعم ، وفرقوا بينهما قالوا : الفيء ما حصل من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب كجزية وعشر تجارة ، وما صولحوا عليه من غير نحو قتال وما جلوا عنه خوفا قبل تقابل الجيشين أما بعده فغنيمة ، وما لمرتد قتل أو مات على ردته ، وذمي أو معاهد أو مستأمن مات بلا وارث مستغرق ، والغنيمة ما حصل من كفار أصليين حربيين بقتال ، وفي حكمه تقابل الجيشين أو إيجاف منا لا من ذميين فإنه لهم ولا يخمس وحكمها مشهور.

وصرح غير واحد من أصحابنا بالفرق أيضا نقلا عن المغرب وغيره فقالوا : الغنيمة ما نيل من الكفار عنوة والحرب قائمة وحكمها أن تخمس ، وباقيها للغانمين خاصة. والفيء ما نيل منهم بعد وضع الحرب أوزارها وصيرورة الدار دار إسلام ، وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس أي يصرف جميعه لمصالحهم ؛ ونقل هذا الحكم ابن حجر عمن عدا الشافعي رضي الله تعالى عنه من الأئمة الثلاثة ، والتخميس عنه استدلالا بالقياس على الغنيمة المخمسة بالنص بجامع أن كلا راجع إلينا من الكفار ، واختلاف السبب بالقتال وعدمه لا يؤثر ، والذي نطقت به الأخبار الصحيحة أن عمر رضي الله تعالى عنه صنع في سواد العراق ما تضمنته الآية ، واعتبرها عامة للمسلمين محتجا بها على الزبير وبلال وسلمان الفارسي وغيرهم حيث طلبوا منه قسمته على الغانمين بعقاره وعلوجه ، ووافقه على ما أراد علي وعثمان وطلحة والأكثرون بل المخالفون أيضا بعد أن قال خاطبا : اللهم اكفني بلالا وأصحابه مع أن المشهور في كتب المغازي أن السواد فتح عنوة ، وهو يقتضي كونه غنيمة فيقسم بين الغانمين ، ولذا قال بعض الشافعية : إن عمر رضي الله تعالى عنه استطاب قلوب الغانمين حتى تركوا حقهم فاسترد السواد على أهله بخراج يؤدونه في كل سنة فليراجع وليحقق ، وما جعله الله تعالى من ذلك لمن تضمنه قوله تعالى : (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) إلى (ابْنِ السَّبِيلِ) هو خمس الفيء على ما نص عليه بعض الشافعية ، ويقسم هذا الخمس خمسة أسهم : لمن ذكر الله عزوجل وسهمه سبحانه وسهم رسوله واحد ، وذكره تعالى ـ كما روي عن ابن عباس والحسن بن محمد بن الحنفية ـ افتتاح كلام للتيمن والتبرك فإن لله ما في السماوات وما في الأرض ، وفيه تعظيم لشأن الرسول عليه الصلاة والسلام.

وقال أبو العالية : سهم الله تعالى ثابت يصرف إلى بناء بيته ـ وهو الكعبة المشرفة ـ إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة ثبت فيها الخمس ، ويلزمه أن السهام كانت ستة وهو خلاف المعروف عن السلف في تفسير ذلك ، وسهم الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم قد كان له في حياته بالإجماع ـ وهو خمس الخمس ـ وكان ينفق منه على نفسه وعياله ويدخر منه مئونة سنة أي لبعض زوجاته ويصرف الباقي في مصالح المسلمين ، وسقط عندنا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قالوا : لأن عمل الخلفاء الراشدين على ذلك ـ وهم أمناء الله تعالى على دينه ـ ولأن الحكم معلق بوصف مشتق ـ وهو الرسول ـ فيكون مبدأ الاشتقاق ـ وهو الرسالة ـ علة ولم توجد في أحد بعده ، وهذا كما سقط الصفي.

ونقل عن الشافعي أنه يصرف للخليفة بعده لأنه عليه الصلاة والسلام كان يستحقه لإمامته دون رسالته ليكون ذلك أبعد عن توهم الأجر على الإبلاغ ، والأكثرون من الشافعية أن ما كان له صلّى الله تعالى عليه وسلم من خمس

٢٤٠