روح المعاني - ج ١٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

نزل كائن (مِنْ حَمِيمٍ) قيل : يشرب بعد أكل الزقوم كما فصل فيما قبل (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي إدخال في النار ، وقيل : إقامة فيها ومقاساة لألوان عذابها وكل ذلك مبني على أن المراد بيان ما لهم يوم القيامة ، وقيل : هذا محمول على ما يجده في القبر من حرارة النار ودخانها لأن الكلام في حال التوفي وعقب قبض الأرواح والأنسب بذلك كون ما ذكر في البرزخ ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : لا يخرج الكافر حتى يشرب كأسا من حميم ، وقرأ أحمد بن موسى والمنقري واللؤلؤي عن أبي عمرو «وتصلية» بالجر عطفا على (حَمِيمٍ إِنَّ هذا) أي الذي ذكر في السورة الكريمة كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) اليقين على ما يفهم من كلام الزمخشري في الجاثية اسم للعلم الذي زال عنه اللبس وبذلك صرح صاحب المطلع وذكر أنه تفسير بحسب المعنى وهو مأخوذ من المقام وإلا فهو العلم المتيقن مطلقا والإضافة بمعنى اللام والمعنى ـ لهو عين اليقين ـ فهو على نحو عين الشيء ونفسه ولا يخفى أن الإضافة من إضافة العام إلى الخاص وكونها بمعنى اللام قول لبعضهم ، وقال بعض آخر : إنها بيانية على معنى من ، وقدر بعضهم هنا موصوفا أي لهو حق الخبر اليقين وكونه لا يناسب المقام غير متوجه ، وفي البحر قيل : إن الإضافة من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة كما تقول هذا يقين اليقين وصواب الصواب بمعنى أنه نهاية في ذلك فهما بمعنى أضيف أحدهما إلى الآخر للمبالغة وفيه نظر ، والفاء في قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) لترتيب التسبيح أو الأمر به ، فإن حقية ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب التسبيح عما لا يليق مما ينسبه الكفرة إليه سبحانه قالا أو حالا تعالى عن ذلك علوا كبيرا وأخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني قال : «لما نزلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال : اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ (١) الْأَعْلَى) قال : اجعلوها في سجودكم».

«ومما قاله السادة أرباب الاشارة» متعلقا ببعض هذه السورة الكريمة أن «الواقعة» اسم لقيامة الروح كما أن «الآزفة» اسم لقيامة الخفي ، و «الحاقة» اسم لقيامة السر ، و «الساعة» اسم لقيامة القلب ، وقالوا : إن الواقعة إذا وقعت ترفع صاحبها طورا وتخفضه طورا وتشعل نيران الغيرة وتفجر أنهار المعرفة وتحصل للسالك إذا اشتغل بالسلوك والتصفية ووصل ذكره إلى الروح وهي في البداية مثل ستر أسود يجيء من فوق الرأس عند غلبة الذكر وكلما زاد في النزول يقع على الذاكر هيبة وسكينة وربما يغمى عليه في البداية ويشاهد إذا وقع على عينيه عوالم الغيب فيرى ما شاء الله تعالى أن يرى وتكشف له العلوم الروحانية ويرى عجائب وغرائب لا تحصى ، وإذا أفاق فليعرض ما حصل له لمسلكه ليرشده إلى ما فيه مصلحة وقته ويعبر له ما هو مناسب لحوصلته ويقوى قلبه ويأمره بالذكر والتوجه الكلي حتى يكمل بصفو سر الواقعة فيكون سرا منورا فربما يصير السالك بحيث إذا فتح عينيه بعد نزولها في عالم الشهادة يشاهد ما كان مشاهدا له فيها وهي حالة سنية معتبرة عند أرباب السلوك ـ فليس لوقعتها كاذبة ـ بل هي صادقة لأن الشيطان يفر عندها والنفس لا تقدر أن تلبس على صاحبها وهي اليقظة الحقيقية وما يعده الناس يقظة هو النوم كما يشير إليه قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ، ثم إنهم تكلموا على أكثر ما في السورة الجليلة بما يتعلق بالأنفس ، وقالوا في مواقع النجوم : إنها إشارة إلى اللطائف المطهرة لأنها مواقع نجوم الواردات القدسية الخفية من السماء الجبروتية اللاهوتية ، وقيل : في قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) إن فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن لم يكن طاهر النفس من حدث الميل إلى صغائر الشهوات ـ وهو الحدث الأصغر ـ ومن حدث الميل إلى كبائر الشهوات ـ وهو الحدث الأكبر ـ أن يمس بيد نفسه وفكره معاني القرآن الكريم كما لا ينبغي

١٦١

لمن لم يكن طاهر البدن من الحدثين المعروفين في البدن أن يمس بيد بدنه وجسده ألفاظه المكتوبة ، وقيل : أيضا يجوز أن يقال المعنى لا يصل إلى أدبي حقائق أسرار القرآن الكريم إلا المطهرون من أرجاس الشهوات وأنجاس المخالفات.

وإذا كانت هذه الجملة صفة للكتاب المكنون المراد منه اللوح المحفوظ وأريد بالمطهرين الملائكة عليهم‌السلام ، وكان المعنى لا يطلع عليه إلا الملائكة عليهم‌السلام كان في ذلك ردّ على من يزعم أن الأولياء يرون اللوح المحفوظ ويطلعون على ما فيه ، وحمل المطهرين على ما يعم الملائكة والأولياء الذين طهرت نفوسهم وقدست ذواتهم حتى التحقوا بالملائكة عليهم‌السلام لا ينفع في البحث مع أهل الشرع فإن مدار استدلالاتهم على الأحكام الشرعية الظواهر على أنه لم يسمع عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو هو أنه نظر يوما وهو بين أصحابه إلى اللوح المحفوظ واطلع على شيء مما فيه. وقال لهم : إني رأيت اللوح المحفوظ واطلعت على كذا وكذا فيه ، وكذلك لم يسمع عن أجلة أصحابه الخلفاء الراشدين أنه وقع لهم ذلك ، وقد وقعت بينهم مسائل اختلفوا فيها وطال نزاعهم في تحقيقها إلى أن كاد يغم هلال الحق فيها ولم يراجع أحد منهم لكشفها اللوح المحفوظ.

وذكر بعض العلماء أن سدرة المنتهى ينتهي علم من تحتها إليها وأن اللوح فوقها بكثير ، وبكل من ذلك نطقت الآثار ، وهو يشعر بعدم اطلاع الأولياء على اللوح ، ومع هذا كله من ادعى وقوع الاطلاع فعليه البيان وأنى به ، وهذا الذي سمعت مبني على ما نطقت به الأخبار في صفة اللوح المحفوظ وأنه جسم كتب فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وأما إذا قيل فيه غير ذلك انجر البحث إلى وراء ما سمعت ، واتسعت الدائرة.

ومن ذلك قولهم : إن الألواح أربعة ، لوح القضاء السابق على المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول ، ولوح القدر أي لوح النفس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول وهو المسمى باللوح المحفوظ ، ولوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم شكله وهيئته ومقداره ـ وهو المسمى بالسماء الدنيا ـ وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه والثاني بمثابة قلبه ولوح الهيولى القابل للصورة في عالم الشهادة ويقولون أيضا ما يقولون وينشد المنتصر له قوله :

وإذا لم تر الهلال فسلم

لأناس رأوه بالأبصار

هذا ولا تظنن أن نفي رؤيتهم للوح المحفوظ نفي لكراماتهم الكشفية وإلهاماتهم الغيبية معاذ الله تعالى من ذلك ، وطرق اطلاع الله تعالى من شاء من أوليائه على من شاء من علمه غير منحصر بإراءته اللوح المحفوظ ثم إن الإمكان مما لا نزاع فيه وليس الكلام إلا في الوقوع ، وورود ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجلة أصحابه كالصديق والفاروق وذي النورين وباب مدينة العلم والنقطة التي تحت الباء رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، والله تعالى أعلم.

وقالوا في قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) ما بنوه على القول بوحدة الوجود والكلام فيها شائع ـ وقد أشرنا إليه في هذا الكتاب غير مرة ـ ولهم في اليقين وعين اليقين وحق اليقين عبارات شتى ، منها اليقين رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبرهان وقيل : مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب وملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار ، وقيل : طمأنينة القلب على حقيقة الشيء من يقن الماء في الحوض إذا

١٦٢

استقر ، وحق اليقين فناء العبد في الحق والبقاء به علما وشهودا وحالا لا علما فقط فعلم كل عاقل الموت علم اليقين فإذا عاين الملائكة فهو عين اليقين ، وإذا ذاق الموت فهو حق اليقين ، وقيل : علم اليقين ظاهر الشريعة ، وعين اليقين الإخلاص فيها ، وحق اليقين المشاهدة فيها ، «وقيل : ، وقيل :» ونحن نسأل الله تعالى الهداية إلى أقوم سبيل ، وأن يشرح صدورنا بأنوار علوم كتابه الكريم الجليل وهو سبحانه حسبنا في الدارين ونعم الوكيل.

١٦٣

سورة الحديد

أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة ، وقال النقاش وغيره : هي مدنية بإجماع المفسرين ولم يسلم له ، فقد قال قوم : إنها مكية ، نعم الجمهور ـ كما قال ابن الفرس ـ على ذلك.

وقال ابن عطية : لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا ، ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي وابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد فقرأه حتى بلغ (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد : ٧] فأسلم ، ويشهد لمكية آيات أخر ما أخرج مسلم والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن ابن مسعود ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله تعالى بهذه الآية (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) [الحديد : ١٦] إلا أربع سنين ، وأخرج الطبراني والحاكم وصححه وغيرهما عن عبد الله بن الزبير أن ابن مسعود أخبره أنه لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله تعالى بها إلا أربع سنين (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) [الحديد : ١٦] الآية لكن سيأتي إن شاء الله تعالى آثار تدل على مدنية ما ذكر ولعلها لا تصلح للمعارضة.

ونزلت يوم الثلاثاء على ما أخرج الديلمي عن جابر مرفوعا لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت عليّ يوم الثلاثاء ، وفيه أيضا خبر رواه الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بسند ضعيف ، وهي تسع وعشرون آية في العراقي ، وثمان وعشرون في غيره ، ووجه اتصالها ـ بالواقعة ـ أنها بدئت بذكر التسبيح وتلك ختمت بالأمر به ، وكان أولها واقعا موقع العلة للأمر به فكأنه قيل : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٧٤ ، ٩٦ ، الحاقة : ٥٢] لأنه سبح له ما في السماوات والأرض ، وجاء في فضلها مع أخواتها ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد ، وقال : إن فيهن آية أفضل من ألف آية» وأخرج ابن الضريس نحوه عن يحيى بن أبي كثير ثم قال : قال يحيى : نراها الآية التي في آخر الحشر.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ

١٦٤

وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٢)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) التسبيح على المشهور تنزيه الله تعالى اعتقادا وقولا وعملا عما لا يليق بجنابه سبحانه من سبح في الأرض والماء إذا ذهب وأبعد فيهما ، وحيث أسندها هنا إلى غير العقلاء أيضا فإن ما في السماوات والأرض يعم جميع ما فيهما سواء كان مستقرا فيهما أو جزءا منهما بل المراد بما فيهما الموجودات فيكون أظهر في تناول السماوات والأرض ويتناول أيضا الموجودات المجردة عند القائل بها ، قال الجمهور : المراد به معنى عام مجازي شامل لما نطق به لسان المقال كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الثقلين ، ولسان الحال كتسبيح غيرهم فإن كل فرد من أفراد الموجودات يدل بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم الواجب الوجود المتصف بكل كمال المنزه عن كل نقص ، وذهب بعض إلى أن التسبيح على حقيقته المعروفة في الجميع وهو مبني على ثبوت النفوس الناطقة والإدراك لسائر الحيوانات والجمادات على ما يليق بكل ، وقد صرح به جمع من الصوفية فتسبيح كل شيء عندهم قالي وإن تفاوت الأمر ، وقيل : معنى سبح حمل رائيه العاقل على قول سبحان الله تعالى ونبهه عليه وهو كما ترى ، ومن يجوز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معا لا يحتاج إلى عموم المجاز ، وجوز الطبرسي كون (ما) للعالم فقط مثلها في قول أهل الحجاز كما حكى أبو زيد عند سماع الرعد ـ سبحان (ما) سبحت له ولا يخفى أن عمومها العالم وغيره أولى ، والظاهر أنها في الوجهين موصولة ، وقال بعضهم : إنها نكرة موصوفة وإن أصل الكلام ما في السماوات وما في الأرض ثم حذفت (ما) الثانية وأقيمت صفتها مقامها ، ولا يحسن أن تكون موصولة لأن الصلة لا تقوم مقام الموصول عند البصريين وتقوم الصفة مقام الموصوف عند الجميع ، والحمل على المتفق عليه أولى من الحمل على المختلف فيه وكون المذكورة موصولة والمحذوفة نكرة موصوفة مما لا وجه له انتهى.

وأنت تعلم أن حذف الموصول الصريح في مثل ذلك أكثر من أن يحصى وجيء باللام مع أن التسبيح متعد بنفسه كما في قوله تعالى : (وَتُسَبِّحُوهُ) [الفتح : ٩] للتأكيد فهي مزيدة لذلك كما في نصحت له وشكرت له ،

١٦٥

وقيل : للتعليل والفعل منزل منزلة اللازم أي فعل التسبيح وأوقعه لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه سبحانه ، وفيه شيء لا يخفى ، وعبر بالماضي هنا وفي بعض الأخوات وبالمضارع في البعض الآخر إيذانا بتحقق التسبيح في جميع الأوقات ، وفي كل دلالة على أن من شأن ما أسند إليه التسبيح أن يسبحه وذلك هجيراه وديدنه ، أما دلالة المضارع عليه فللدلالة على الاستمرار إلى زمان الإخبار وكذلك فيما يأتي من الزمان لعموم المعنى المقتضي للتسبيح وصلوح اللفظ لذلك حيث جرد عن الدلالة على الزمان وأوثر على الاسم دلالة على تجدد تسبيح غبّ تسبيح ، وأما دلالة الماضي فللتجرد عن الزمان أيضا مع التحقيق الذي هو مقتضاه فيشمل الماضي من الزمان ومستقبله كذلك ، وقيل : الإيذان والدلالة على الاستمرار مستفادان من مجموعي الماضي والمضارع حيث دل الماضي على الاستمرار إلى زمان الإخبار والمضارع على الاستمرار في الحال والاستقبال فشملا معا جميع الأزمنة ، وقال الطيبي : افتتحت بعض السور بلفظ المصدر وبعض بالماضي وبعض بالمضارع وبعض بالأمر فاستوعب جميع جهات هذه الكلمة إعلاما بأن المكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود إلى الأبد مسبحة مقدسة لذاته سبحانه وتعالى قولا وفعلا طوعا وكرها (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤] (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر الغالب الذي لا ينازعه ولا يمانعه شيء (الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشعر بعلة الحكم ، وكذا قوله تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات من حيث الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات ، وقوله سبحانه : (يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يفعل الإحياء والإماتة استئناف مبين لبعض أحكام الملك وإذا جعل خبر مبتدأ محذوف أي هو يحيي ويميت كانت تلك الجملة كذلك وجعله حالا من ضمير له يوهم تقييد اختصاص الملك بهذه الحال ، وقوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الإحياء والإماتة (قَدِيرٌ) مبالغ في القدرة تذييل وتكميل لما قبله (هُوَ الْأَوَّلُ) السابق على جميع الموجودات فهو سبحانه موجود قبل كل شيء حتى الزمان لأنه جل وعلا الموجد والمحدث للموجودات (وَالْآخِرُ) الباقي بعد فنائها حقيقة أو نظرا إلى ذاتها مع قطع النظر عن مبقيها فإن جميع الموجودات الممكنة إذا قطع النظر عن علتها فهي فانية.

ومن هنا قال ابن سينا : الممكن في حدّ ذاته ليس وهو عن علته أيس فلا ينافي هذا كون بعض الموجودات الممكنة لا تفنى كالجنة والنار ومن فيهما كما هو مقرر مبين بالآيات والأحاديث لأن فناءها في حدّ ذاتها أمر لا ينفك عنها ، وقد يقال : فناء كل ممكن بالفعل ليس بمشاهد ، والذي يدل عليه الدليل إنما هو إمكانه فالبعدية في مثله بحسب التصور والتقدير ، وقيل : هو الأول الذي تبتدئ منه الأسباب إذ هو سبحانه مسببها (وَالْآخِرُ) الذي تنتهي إليه المسببات فالأولية ذاتية والآخرية بمعنى أنه تعالى المرجع والمصير بقطع النظر عن البقاء الثابت بالأدلة ، وقيل : الأول خارجا لأنه تعالى أوجد الأشياء فهو سبحانه متقدم عليها في نفس الأمر الخارجي والآخر ذهنا وبحسب التعلق لأنه عز شأنه يستدل عليه بالموجودات الدالة على الصانع القديم كما قيل : ما رأيت شيئا إلا رأيت الله تعالى بعده ، وقال حجة الإسلام الغزالي : إن الأول يكون أولا بالإضافة إلى شيء ، والآخر يكون آخرا بالإضافة إلى شيء ، وهما متناقضان فلا يتصور أن يكون الشيء الواحد من وجه واحد بالإضافة إليها أول إذ كلها استفادت الوجود منه سبحانه وأما هو عزوجل فموجود بذاته وما استفاد الوجود من غيره سبحانه وتعالى عن ذلك ، ومهما نظرت إلى ترتيب السلوك ولاحظت منازل السالكين فهو تعالى آخر إذ هو آخر ما ترتقي إليه درجات العارفين وكل معرفة تحصل قبل معرفته تعالى فهي مرقاة إلى معرفته جل وعلا ، والمنزل الأقصى هو معرفة الله جل جلاله فهو سبحانه بالإضافة إلى السلوك آخر

١٦٦

وبالإضافة إلى الوجود أول فمنه عز شأنه المبدأ أولا وإليه سبحانه والمرجع والمصير آخر انتهى.

والظاهر أن كونه تعالى أولا وآخرا بالنسبة إلى الموجودات أولى ولعل ما ذكره أوفق بمشرب القوم.

(وَالظَّاهِرُ) أي بوجوده لأن كل الموجودات بظهوره تعالى ظاهر (وَالْباطِنُ) بكنهه سبحانه فلا تحوم حوله العقول ، وقال حجة الإسلام : هذان الوصفان من المضافات فلا يكون الشيء ظاهرا لشيء وباطنا له من وجه واحد بل يكون ظاهرا من وجه بالإضافة إلى إدراك وباطنا من وجه آخر فإن الظهور والبطون إنما يكون بالإضافة إلى الإدراكات والله تعالى باطن إن طلب من إدراك الحواس وخزانة الخيال ظاهر إن طلب من خزانة العقل بالاستدلال والريب من شدة الظهور وكل ما جاوز الحد انعكس إلى الضد ، وإلى تفسير الباطن بغير المدرك بالحواس ذهب الزمخشري ، ثم قال : إن الواو الأولى لعطف المفرد على المفرد فتفيد أنه تعالى الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية والأخيرة أيضا كذلك فتفيد أنه تعالى الجامع بين الظهور والخفاء ، وأما الوسطى فلعطف المركب على المركب فتفيد أنه جل وعلا الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فهو تعالى المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية وهو تعالى في جميعها ظاهر وباطن جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك بالحواس ، وفي هذا حجة على من جوز إدراكه سبحانه في الآخرة بالحاسة أي وذلك لأنه تعالى ما من وقت يصح اتصافه بالأولية والآخرية إلا ويصح اتصافه بالظاهرية والباطنية معا ، فإذا جوز إدراكه سبحانه بالحاسة في الآخرة فقد نفى كونه سبحانه باطنا وهو خلاف ما تدل عليه الآية ، وأجاب عن ذلك صاحب الكشف فقال : إن تفسير الباطن بأنه غير مدرك بالحواس تفسير بحسب التشهي فإن بطونه تعالى عن إدراك العقول كبطونه عن إدراك الحواس لأن حقيقة الذات غير مدركة لا عقلا ولا حسا باتفاق بين المحققين من الطائفتين ، والزمخشري ممن سلم فهو الظاهر بوجوده والباطن بكنهه وهو سبحانه الجامع بين الوصفين أزلا وأبدا ، وهذا لا ينافي الرؤية لأنها لا تفيد ذلك عند مثبتها انتهى ، وهو حسن فلا تغفل.

وعليه فالتذليل بقوله تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لئلا يتوهم أن بطونه تعالى عن الأشياء يستلزم بطونها عنه عزوجل كما في الشاهد ، وقال الأزهري : قد يكون الظاهر والباطن بمعنى العلم لما ظهر وبطن ؛ وذلك أن من كان ظاهرا احتجب عنه الباطن ومن كان باطنا احتجب عنه الظاهر فإن أردت أن تصفه بالعلم قلت هو ظاهر باطن مثله قوله تعالى : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) [النور : ٣٥] أي لا شرقية فقط ولا غربية فقط ولكنها شرقية غربية ، وفي التذييل المذكور حينئذ خفاء ، وقريب منه من وجه ما نقل أن الظاهر بمعنى العالي على كل شيء الغالب له من قوله ظهر عليهم إذا علاهم وغلبهم ، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه ، وتعقب بفوات المطابقة بين الظاهر والباطن عليه وأن بطنه بمعنى علم باطنه غير ثابت في اللغة ، لكن قيل في الآثار : ما ينصر تفسير الظاهر بما فسر.

أخرج مسلم والترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي هريرة قال : «جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تسأله خادما فقال لها : قولي اللهم رب السماوات السبع ورب العرش الكريم العظيم ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر» وقال الطيبي : المعنى بالظاهر في التفسير النبوي الغالب الذي يغلب ولا يغلب فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء إذ ليس فوقه أحد يمنعه ، وبالباطن من لا ملجأ ولا منجي دونه يلتجئ إليه ملتجئ ، وبحث فيه بجواز أن يكون المراد أنت الظاهر فليس فوقك شيء في الظهور أي أنت أظهر

١٦٧

من كل شيء إذ ظهور كل شيء بك وأنت الباطن فليس دونك في البطون شيء أي أنت أبطن من كل شيء إذ كل شيء يعلم حقيقته غيره وهو أنت وأنت لا يعلم حقيقتك غيرك ، أو لأن كل شيء يمكن معرفة حقيقته وأنت لا يمكن أصلا معرفة حقيقتك ، وأيضا في دلالة الباطن على ما قال : خفاء جدا على أنه لو كان الأمر كما ذكر ما عدل عنه أجلة العلماء فان الخير صحيح ، وقد جاء نحوه من رواية الإمام أحمد وأبي داود وابن ماجة ؛ ويبعد عدم وقوف أولئك الأجلة عليه ، وأبعد من ذلك أن يكون ما ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أسمائه تعالى غير ما في الآية ، ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام أراد بقوله : «فليس دونك شيء» ليس أقرب منك شيء ، ويؤيده ما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات عن مقاتل قال : بلغنا في قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ) إلخ هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء والظاهر فوق كل شيء والباطن أقرب من كل شيء ، وإنما يعني القرب بعلمه وقدرته وهو فوق عرشه والذي يترجح عندي ما ذكر أولا ، وعن بعض المتصوفة أهل وحدة الوجود أن المراد بقوله سبحانه : (هُوَ الْأَوَّلُ) إلخ أنه لا موجود غيره تعالى إذ كل ما يتصور موجودا فهو إما أول أو آخر هو سبحانه لا غيره ، وأيدوه بما في حديث مرفوع أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن المنذر وجماعة عن أبي هريرة «والذي نفسي بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله» قال أبو هريرة ، ثم قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

وحال القول بوحدة الوجود مشهور وأما الخبر فمن المتشابه ، وقد قال فيه الترمذي : فسر أهل العلم الحديث فقالوا : أي لهبط على علم الله تعالى وقدرته وسلطانه ، ويؤيد هذا ذكر التذييل وعدم اقتصاره عليه الصلاة والسلام على ما قبله ، وهذه الآية ينبغي لمن وجد في نفسه وسوسة فيما يتعلق بالله تعالى أن يقرأها ، فقد أخرج أبو داود عن أبي زميل أن ابن عباس قال له وقد أعلمه أن عنده وسوسة في ذلك : «إذا وجدت في نفسك شيئا فقل هو الأول» الآية.

وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا هذا الله كان قبل كل شيء فما ذا كان قبل الله فإن قالوا لكم ذلك فقالوا هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم».

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) بيان بعض أحكام ملكهما وقد مر تفسيره مرارا (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) مر بيانه في سورة سبأ (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) تمثيل لإحاطة علمه تعالى بهم وتصوير لعدم خروجهم عنه أينما كانوا ، وقيل : المعية مجاز مرسل عن العلم بعلاقة السببية والقرينة السباق واللحاق مع استحالة الحقيقة ، وقد أول السلف هذه الآية بذلك ، أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها : عالم بكم أينما كنتم.

وأخرج أيضا عن سفيان الثوري أنه سئل عنها فقال : علمه معكم ، وفي البحر أنه اجتمعت الأمة على هذا التأويل فيها وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات وهي حجة على منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها في استحالة الحمل على الظاهر ، وقد تأول هذه الآية وتأول الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، ولو اتسع عقله لتأول غير ذلك مما هو في معناه انتهى.

وأنت تعلم أن الأسلم ترك التأويل فإنه قول على الله تعالى من غير علم ولا نؤوّل إلا ما أوّله السلف ونتبعهم فيما كانوا عليه فإن أوّلوا أوّلنا وإن فوضوا فوضنا ولا نأخذ تأويلهم لشيء سلما لتأويل غيره ، وقد رأيت بعض الزنادقة الخارجين من ربقة الإسلام يضحكون من هذه الآية مع قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ويسخرون من القرآن

١٦٨

الكريم لذلك وهو جهل فظيع وكفر شنيع نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عبارة عن إحاطته بأعمالهم وتأخير صفة العلم الذي هو من صفات الذات عن الخلق الذي هو من صفات الأفعال مع أن صفات الذات متقدمة على صفات الأفعال لما أن المراد الإشارة إلى ما يدور عليه الجزاء من العلم التابع للمعلوم ، وقيل : إن الخلق دليل العلم إذ يستدل بخلقه تعالى وإيجاده سبحانه لمصنوعاته المتقنة على أنه عزوجل عالم ومن شأن المدلول التأخر عن الدليل لتوقفه عليه ، وقوله تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تكرير للتأكيد وتمهيد لقوله سبحانه المشعر بالإعادة : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي إليه تعالى وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا ترجع جميع الأمور أعراضها وجواهرها ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج «ترجع» مبنيا للفاعل من رجع رجوعا ، وعلى البناء للمفعول كما في قراءة الجمهور هو من رجع رجعا (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) مر تفسيره مرارا ؛ وقوله تعالى : (وَهُوَ عَلِيمٌ) أي مبالغ في العلم (بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بمكنوناتها اللازمة لها بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها ، وجوز أن يراد (بِذاتِ الصُّدُورِ) نفسها وحقيقتها على أن الإحاطة بما فيها تعلم بالأولى.

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي جعلكم سبحانه خلفاء عنه عزوجل في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة ، عبر جل شأنه عما بأيديهم من الأموال بذلك تحقيقا للحق وترغيبا في الإنفاق فإن من علم أنها لله تعالى وإنما هو بمنزلة الوكيل يصرفها إلى ما عينه الله تعالى من المصاريف هان عليه الإنفاق ، أو جعلكم خلفاء عمن كان قبلكم فيما كان بأيديهم فانتقل لكم ، وفيه أيضا ترغيب في الإنفاق وتسهيل له لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله وانتقل إليه علم أنه لا يدوم له وينتقل لغيره فيسهل عليه إخراجه ويرغب في كسب الأجر بإنفاقه ويكفيك قول الناس فيما ملكته لقد كان هذا مرة لفلان ، وفي الحديث «يقول ابن آدم : مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت» والمعنى الأول هو المناسب لقوله تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وعليه ما حكي أنه قيل لأعرابي : لمن هذه الإبل؟ فقال : هي لله تعالى عندي ، ويميل إليه قول القائل :

وما المال والأهلون إلا ودائع

ولا بد يوما أن ترد الودائع

والآية على ما روي عن الضحاك نزلت في تبوك فلا تغفل (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) حسبما أمروا به (لَهُمْ) بسبب ذلك (أَجْرٌ كَبِيرٌ) وعد فيه من المبالغات ما لا يخفى حيث جعل الجملة اسمية وكان الظاهر أن تكون فعلية في جواب الأمر بأن يقال مثلا آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا تعطوا أجرا كبيرا ، وأعيد ذكر الإيمان والإنفاق دون أن يقال فمن يفعل ذلك فله أجر كبير وعدل عن فللذين آمنوا منكم وأنفقوا أجر إلى ما في النظم الكريم وفخم الأجر بالتنكير ، ووصف بالكبير ، وقوله عزوجل : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) استئناف قيل : مسوق لتوبيخهم على ترك الإيمان حسبما أمروا به بإنكار أن يكون لهم في ذلك عذر ما في الجملة على أن لا تؤمنون حال من ضمير لكم والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أي أيّ شيء حصل لكم غير مؤمنين على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقيق المسبب وهو مضمون الجملة الحالية أعني عدم الإيمان فأي لإنكار سبب الواقع ونفيه فقط ، ونظيره قوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) [نوح : ١٣] وقد يتوجه الإنكار والنفي في مثل هذا التركيب لسبب الوقوع فيسريان إلى المسبب أيضا كما في قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ) [يس : ٢٢] إلخ ولا يمكن إجراء ذلك هنا لتحقق عدم الإيمان وهذا المعنى مما لا غبار عليه ، وقوله تعالى : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) حال من

١٦٩

ضمير (لا تُؤْمِنُونَ) مفيدة على ما قيل : لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه ، ولام (لِتُؤْمِنُوا) صلة ـ يدعو ـ وهو يتعدى بها وبإلى أي وأيّ عذر في ترك الايمان (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) إليه وينبهكم عليه ، وجوّز أن تكون اللام تعليلية وقوله سبحانه : (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) حال من فاعل يدعوكم أو من مفعوله أي وقد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان من قبل كما يشعر به تخالف الفعلين مضارعا وماضيا ، وجوز كونه حالا معطوفة على الحال قبلها فالجملة حال بعد حال من ضمير (تُؤْمِنُونَ) والتخالف بالاسمية والفعلية يبعد ذلك في الجملة ، وأيا ما كان فأخذ الميثاق إشارة إلى ما كان منه تعالى من نصب الأدلة الآفاقية والأنفسية والتمكين من النظر فقوله تعالى : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) إشارة إلى الدليل السمعي وهذا إشارة إلى الدليل العقلي وفي التقديم والتأخير ما يؤيد القول بشرف السمعي على العقلي.

وقال البغوي : هو ما كان حين أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم بأنه سبحانه ربهم فشهدوا ـ وعليه لا مجاز ـ والأول اختيار الزمخشري ، وتعقبه ابن المنير فقال : لا عليه أن يحمل العهد على حقيقته وهو المأخوذ يوم الذر وكل ما أجازه العقل وورد به الشرع وجب الإيمان به ، وروي ذلك عن مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل ، وضعفه الإمام بأن المراد إلزام المخاطبين الإيمان ونفى أن يكون لهم عذر في تركه وهم لا يعلمون هذا العهد إلا من جهة الرسول فقبل التصديق بالرسول لا يكون سببا لإلزامهم الايمان به ، وقال الطيبي : يمكن أن يقال إن الضمير في (أَخَذَ) إن كان لله تعالى فالمناسب أن يراد بالميثاق ما دلّ عليه قوله تعالى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) [البقرة : ٣٨] إلخ لأن المعنى (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) برسول

أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم ، ويدل على الأول قوله سبحانه : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا) وعلى الثاني (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ) إلخ ، وإن كان للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فالظاهر أن يراد به ما في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) [آل عمران : ٨١] على أن يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا الموثق عليه أي الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم ، وهو الوجه لأن الخطاب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما يدل عليه ما بعد ، ولعل الميثاق نحو ما روينا عن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعلى أن نقول في الله تعالى ولا نخاف لومة لائم انتهى.

ويضيف الأول بنحو ما ضعف به الإمام حمل العهد على ما كان يوم الذر ، وضعف الثاني أظهر من أن ينبه عليه.

والخطاب قال صاحب الكشف : عام يوبخ من لم يؤمن منهم بعدم الإيمان ثم من آمن بعدم الإنفاق في سبيله.

وكلام أبي حيان ظاهر في أنه للمؤمنين ، وجعل آمنوا أمرا بالثبات على الإيمان ودوامه (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ) إلخ على معنى كيف لا تثبتون على الإيمان ودواعي ذلك موجودة.

وظاهر كلام بعضهم كونه للكفرة وهو الذي أشرنا إليه من قبل ، ولعل ما ذكره صاحب الكشف أولى إلا أنه قيل عليه : إن آمنوا إذا كان خطابا للمتصفين بالإيمان ولغير المتصفين به يلزم استعمال الأمر في طلب أصل الفعل نظرا لغير المتصفين وفي طلب الثبات نظرا للمتصفين وفيه ما فيه ، ويحتاج في التفصي عن ذلك إلى إرادة معنى عام للأمرين ، وقد يقال أراد أنه عمد إلى جماعة مختلفين في الأحوال فأمروا بأوامر شتى وخوطبوا بخطابات متعددة فتوجه كل أمر

١٧٠

وكل خطاب إلى من يليق به وهذا كما يقول الوالي لأهل بلده : أذنوا وصلوا ودرسوا وأنفقوا على الفقراء وأوفوا الكيل والميزان إلى غير ذلك فإن كل أمر ينصرف إلى من يليق به منهم فتأمل ، وقرئ (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ) بالله ورسوله ، وقرأ أبو عمرو (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) بالبناء للمفعول ورفع (مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبل ، والمعنى إن كنتم مؤمنين لموجب ما فهذا موجب لا موجب وراءه ، وجوز أن يكون المراد إن كنتم ممن يؤمن فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه ، وقال الواحدي : أي إن كنتم مؤمنين بدليل عقلي أو نقلي فقد بان وظهر لكم على يدي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ببعثته وإنزال القرآن عليه ؛ وأيا ما كان فلا تناقض بين هذا وقوله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ) وقال الطبري في ذلك : المراد إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فآمنوا الآن ؛ وقيل : المراد إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى عليهما‌السلام فآمنوا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فإن شريعتهما تقتضي الإيمان به عليه الصلاة والسلام أو إن كنتم مؤمنين بالميثاق المأخوذ عليكم في عالم الذر فآمنوا الآن ، وقيل المراد إن دمتم على الإيمان فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة ، والكل كما ترى.

وظاهر الأخير أن الخطاب مع المؤمنين وهو الذي اختاره الطيبي ، وقال في هذا الشرط : يمكن أن يجري على التعليل كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٧٨] لأن الكلام مع المؤمنين على سبيل التوبيخ والتقريع يدل عليه ما بعد (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) حسبما يعن لكم من المصالح (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات ، والظاهر أن المراد بها آيات القرآن ، وقيل: المعجزات (لِيُخْرِجَكُمْ) أي الله تعالى إذ هو سبحانه المخبر عنه ، أو العبد لقرب الذكر والمراد ليخرجكم بها (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) من ظلمات الكفر إلى نور الايمان ، وقرئ في السبعة ينزل مضارعا فبعض ثقل وبعض خفف.

وقرأ الحسن بالوجهين ، وقرأ زيد بن علي والأعمش أنزل ماضيا (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) مبالغ في الرأفة والرحمة حيث أزال عنكم موانع سعادة الدارين وهداكم إليها على أتم وجه ، وقرئ في السبعة (لَرَؤُفٌ) بواوين ، وقوله عزوجل : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا) توبيخ على ترك الإنفاق إما للمؤمنين الغير المنفقين أو لأولئك الموبخين أولا على ترك الإيمان ، وبخهم سبحانه على ذلك بعد توبيخهم على ترك الإيمان بإنكار أن يكون لهم في ذلك أيضا عذر من الأعذار ، و (أن) مصدرية لا زائدة كما قيل ، واقتضاه كلام الأخفش والكلام على تقدير حرف الجر ، فالمصدر المؤول في محل نصب أو جر على القولين وحذف مفعول الإنفاق للعلم به مما تقدم وقوله تعالى : (فِي سَبِيلِ اللهِ) لتشديد التوبيخ ، والمراد به كل خير يقربهم إليه تعالى على سبيل الاستعارة التصريحية أي أيّ شيء لكم في أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى الله تعالى ما هو له في الحقيقة وإنما أنتم خلفاؤه سبحانه في صرفه إلى ما عينه عزوجل من المصارف ، أو ما انتقل إليكم من غيركم وسينتقل منكم إلى الغير.

(وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يرث كل شيء فيهما ولا يبقى لأحد مال على أن ميراثهما مجاز أو كناية عن ميراث ما فيهما لأن أخذ الظرف يلزمه أخذ المظروف.

وجوز أن يراد يرثهما وما فيهما ، واختير الأول أنه يكفي لتوبيخهم إذ لا علاقة لأخذ السماوات والأرض هنا ، والجملة حال من فاعل لا تنفقوا أو مفعوله مؤكدة للتوبيخ فإن ترك الإنفاق بغير سبب قبيح منكر ومع تحقق ما يوجب الإنفاق أشد في القبح وأدخل في الإنكار فإن بيان بقاء جميع ما في السماوات والأرض من الأموال بالآخرة لله عزوجل من غير أن يبقى لأحد من أصحابها شيء أقوى في إيجاب الانفاق عليهم من بيان أنها لله تعالى في الحقيقة ، أو أنها انتقلت إليهم من غيرهم كأنه قيل : ومالكم في ترك إنفاقها في سبيل الله تعالى ، والحال أنه لا يبقى لكم ولا

١٧١

لغيركم منها شيء بل تبقى كلها لله عزوجل ، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لزيادة التقرير وتربية المهابة ، وقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) بيان لتفاوت درجات المنفقين حسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق بعد بيان أن لهم أجرا كبيرا على الإطلاق حثا لهم على تحري الأفضل ، وعطف القتال على الإنفاق للإيذان بأنه من أهم مواد الإنفاق مع كونه في نفسه من أفضل العبادات وأنه لا يخلو من الانفاق أصلا وقسيم (مَنْ أَنْفَقَ) محذوف أي لا يستوي ذلك وغيره ، وحذف لظهوره ودلالة ما بعد عليه ، والفتح فتح مكة على ما روي عن قتادة ، وزيد بن أسلم ومجاهد ـ وهو المشهور ـ فتعريفه للعهد أو للجنس ادعاء وقال الشعبي : هو فتح الحديبية وقد مر وجه تسميته فتحا في سورة الفتح ، وفي بعض الآثار ما يدل عليه.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كان بعسفان قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : يوشك أن يأتي قوم يحتقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا : من هم يا رسول الله أقريش؟ قال : لا ولكن هم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا ، فقلنا : أهم خير منا يا رسول الله؟

قال : لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مدّ أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) الآية.

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما (قَبْلِ) بغير (مَنْ أُولئِكَ) إشارة إلى من أنفق ، والجمع بالنظر إلى معنى (مَنْ) كما أن إفراد الضميرين السابقين بالنظر إلى لفظها ، ووضع اسم الإشارة البعيد موضع الضمير للتعظيم والإشعار بأن مدار الحكم هو إنفاقهم قبل الفتح وقتالهم ، ومحله الرفع على الابتداء ؛ والخبر قوله تعالى : (أَعْظَمُ دَرَجَةً) أي أولئك المنعوتون بذينك النعتين الجليلين أرفع منزلة وأجل قدرا.

(مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) بعد الفتح (وَقاتَلُوا) وذهب بعضهم إلى أن فاعل (لا يَسْتَوِي) ضمير يعود على الانفاق أي لا يستوي هو أي الإنفاق أي جنسه إذ منه ما هو قبل الفتح ومنه ما هو بعده ، و (مَنْ أَنْفَقَ) مبتدأ ، وجملة (أُولئِكَ أَعْظَمُ) خبره وفيه تفكيك الكلام وخروج عن الظاهر لغير موجب فالوجه ما تقدم ، ويعلم منه التزاما التفاوت بين الإنفاق قبل الفتح والانفاق بعده ، وإنما كان أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا بعد لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال لقلة المسلمين وكثرة أعدائهم وعدم ما ترغب فيه النفوس طبعا من كثرة الغنائم فكان ذلك أنفع وأشد على النفس وفاعله أقوى يقينا بما عند الله تعالى وأعظم رغبة فيه ، ولا كذلك الذين أنفقوا بعد (وَكُلًّا) أي كل واحد من الفريقين لا الأولين فقط (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي المثوبة الحسنى وهي الجنة على ما روي عن مجاهد وقتادة ، وقيل : أعم من ذلك والنصر والغنيمة في الدنيا ، وقرأ ابن عامر وعبد الوارث ـ وكل ـ بالرفع ، والظاهر أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والعائد محذوف أي وعده كما في قوله :

وخالد يحمد ساداتنا

بالحق لا يحمد بالباطل

يريد يحمده والجملة عطف على أولئك أعظم درجة وبينهما من التطابق ما ليس على قراءة الجمهور ، ومنع البصريون حذف العائد من خبر المبتدأ ، وقالوا : لا يجوز إلا في الشعر بخلاف حذفه من جملة الصفة وهم محجوجون بهذه القراءة ، وقول بعضهم فيها : إن كل خبر مبتدأ تقديره ، وأولئك كل ، وجملة (وَعَدَ اللهُ) صفة ـ كل ـ تأويل ركيك ، وفيه زيادة حذف ، على أن بعض النحاة منع وصف ـ كل ـ بالجملة لأنه معرفة بتقدير

١٧٢

وكلهم ، وقال الشهاب : الصحيح ما ذهب إليه ابن مالك من أن عدم جواز حذف العائد من جملة الخبر في غير ـ كل ـ وما ضاهاها في الافتقار والعموم فإنه في ذلك مطرد لكن ادعى فيه الإجماع وهو محل نزاع.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عالم بظاهره وباطنه ويجازيكم على حسبه فالكلام وعد ووعيد ، وفي الآيات من الدلالة على فضل السابقين المهاجرين والأنصار ما لا يخفى ، والمراد بهم المؤمنون المنفقون المقاتلون قبل فتح مكة أو قبل الحديبية بناء على الخلاف السابق ، والآية على ما ذكره الواحدي عن الكلبي نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي بسببه ، وأنت تعلم أن خصوص السبب لا يدل على تخصيص الحكم ، فلذلك قال : (أُولئِكَ) ليشمل غيره رضي الله تعالى عنه ممن اتصف بذلك ، نعم هو أكمل الأفراد فإنه أنفق قبل الفتح وقبل الهجرة جميع ماله وبذل نفسه معه عليه الصلاة والسلام ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم : «ليس أحد أمّن علي بصحبته من أبي بكر» وذلك يكفي لنزولها فيه ، وفي الكشاف إن أولئك هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم : «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» قال الطيبي : الحديث من رواية البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» ، وتعقبه في الكشف بأنه على هذا لا يختص بالسابقين الأولين كما أشار في الكشاف إليه وهو مبني على أن الخطاب في لا تسبوا ليس للحاضرين ولا للموجودين في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم بل لكل من يصلح للخطاب كما في قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا) [الأنعام : ٢٧ ، ٣٠] الآية وإلا فقد قيل : إن الخطاب يقتضي الحضور والوجود ولا بد من مغايرة المخاطبين بالنهي عن سبهم فهم السابقون الكاملون في الصحبة.

وأقول شاع الاستدلال بهذا الحديث على فضل الصحابة مطلقا بناء على ما قالوا : إن إضافة الجمع تفيد الاستغراق وعليه صاحب الكشف ، واستشكل أمر الخطاب ، وأجيب عنه بما سمعت وبأنه على حدّ خطاب الله تعالى الأزلي لكن من بعض الأخبار ما يؤيد أن المخاطبين بعض من الصحابة والممدوحين بعض آخر منهم فتكون الإضافة للعهد أو بحمل الأصحاب على الكاملين في الصحبة.

أخرج أحمد عن أنس قال : «كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال لعبد الرحمن ابن عوف : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : دعوا لي أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد ـ أو مثل الجبال ـ ذهبا ما بلغتم أعمالهم»

ثم في هذا الحديث تأييد ما لكون أولئك هم الذين أنفقوا قبل الحديبية لأن إسلامه رضي الله تعالى عنه كان بين الحديبية وفتح مكة كما في التقريب وغيره ، والزمخشري فسر الفتح بفتح مكة فلا تغفل ، قال الجلال المحلي : كون الخطاب في «لا تسبوا» للصحابة السابين ، وقال : نزلهم صلى الله تعالى عليه وسلم بسبهم الذي لا يليق بهم منزلة غيرهم حيث علل بما ذكره وهو وجه حسن فتدبر ؛ وقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ندب بليغ من الله تعالى إلى الانفاق في سبيله مؤكد للأمر السابق به وللتوبيخ على تركه فالاستفهام ليس على حقيقته بل للحث ، والقرض الحسن الانفاق بالإخلاص وتحري أكرم المال وأفضل الجهات ، وذكر بعضهم أن القرض الحسن ما يجمع عشر صفات. أن يكون من الحلال فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا. وأن يكون من أكرم ما يملكه المرء. وأن يكون والمرء صحيح شحيح يأمل العيش ويخشى الفقر وأن يضعه في الأحوج الأولى. وأن يكتم ذلك ، وأن لا يتبعه بالمنّ والأذى ، وأن يقصد به وجه الله تعالى وأن يستحقر ما يعطي وإن كثر ، وأن يكون من أحب أمواله إليه.

١٧٣

وأن يتوخى في إيصاله للفقير ما هو أسر لديه من الوجوه كحمله إلى بيته. ولا يخفى أنه يمكن الزيادة والنقص فيما ذكر.

وأيما كان فالكلام إما على التجوز في الفعل فيكون استعارة تبعية تصريحية أو التجوز في مجموع الجملة فيكون استعارة تمثيلية وهو الأبلغ أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله تعالى مخلصا متحريا أكرمه وأفضل الجهات رجاء أن يعوضه سبحانه بدله كمن يقرضه (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) فيعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا أضعافا كثيرة من فضله.

(وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي وذلك الأجر المضموم اليه الإضعاف كريم مرضي في نفسه حقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون ، ففيه إشارة إلى أن الأجر كما أنه زائد في الكم بالغ في الكيف فالجملة حالية لا عطف على (فَيُضاعِفَهُ) ، وجوز العطف والمغايرة ثابتة بين الضعف والأجر نفسه فإن الإضعاف من محض الفضل والمثل فضل هو أجر ، ونصب يضاعفه على جواب الاستفهام بحسب المعنى كأنه قيل : أيقرض الله تعالى أحد فيضاعفه له فإن المسئول عنه بحسب اللفظ وإن كان هو الفاعل لكنه في المعنى هو الفعل إذ ليس المراد أن الفعل قد وقع السؤال عن تعيين فاعله كقولك : من جاءك اليوم؟ إذا علمت أنه جاءه جاء لم تعرفه بعينه وإنما أورد على هذا الأسلوب للمبالغة في الطلب حتى كأن الفعل لكثرة دواعيه قد وقع وإنما يسأل عن فاعله ليجازي ولم يعتبر الظاهر لأنه يشترط بلا خلاف في النصب بعد الفاء أن لا يتضمن ما قبل وقوع الفعل نحو لم ضربت زيدا فيجازيك فإنه حينئذ لا يتضمن سبق مصدر مستقبل وعلى هذا يؤول كل ما فيه نصب وما قبل متضمن للوقوع ، وقرأ غير واحد «فيضاعفه» بالرفع على القياس نظرا للظاهر المتضمن للواقع وهو إما عطف على يقرض أو على فهو (يضاعفه) وقرئ فيضعفه بالرفع والنصب (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ظرف لما تعلق به له أو له أو لقوله تعالى : (فَيُضاعِفَهُ) أو منصوب بإضمار اذكر تفخيما لذلك اليوم ، والرؤية بصرية والخطاب لكل من تتأتى منه أو لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقوله عزوجل : (يَسْعى نُورُهُمْ) حال من مفعول ترى والمراد بالنور حقيقته على ما ظهر من شموس الأخبار ـ وإليه ذهب الجمهور ـ والمعنى يسعى نورهم إذا سعوا.

(بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال : «يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورا من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويقد أخرى» وظاهره أن هذا النور يكون عند المرور على الصراط ، وقال بعضهم : يكون قبل ذلك ويستمر معهم إذا مروا على الصراط ، وفي الأخبار ما يقتضيه كما ستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى ، والمراد أنه يكون لهم في جهتين جهة الإمام وجهة اليمين وخصا لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم ، وفي البحر الظاهر أن النور قسمان : نور بين أيديهم يضيء الجهة التي يؤمونها. ونور بأيمانهم يضيء ما حواليهم من الجهات ، وقال الجمهور : إن النور أصله بأيمانهم والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك ، وقيل : الباء بمعنى عن أي وعن أيمانهم والمعنى في جميع جهاتهم ، وذكر الأيمان لشرفها انتهى ، ويشهد لهذا المعنى ما أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الرحمن بن جبير بن نضير أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذن له فيرفع رأسه فأرفع رأسي فأنظر بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي بين الأمم فقيل : يا رسول الله وكيف تعرفهم من بين الأمم ما بين نوح عليه‌السلام إلى أمتك؟ قال : غرّ

١٧٤

محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود وأعرفهم بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم» وظاهر هذا الخبر اختصاص النور بمؤمني هذه الأمة وكذا إيتاء الكتب بالأيمان وبعض الأخبار يقتضي كونه لكل مؤمن ، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال : «تبعث ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله تعالى بالنور للمؤمنين بقدر أعمالهم» الخبر ، وأخرج عنه الحاكم وصححه وابن أبي حاتم من وجه آخر وابن المبارك والبيهقي في الأسماء والصفات خبرا طويلا فيه أيضا ما هو ظاهر في العموم ، وكذا ما أخرج ابن جرير والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله تعالى نورا فلما رأى المؤمنين النور توجهوا نحوه وكان النور دليلا لهم من الله عزوجل إلى الجنة ، ولا ينافي هذا الخبر كونهم يمرون بنورهم على الصراط كما لا يخفى ، وكذا إيتاء الكتب بالأيمان ، ففي هداية المريد لجوهرة التوحيد ظاهر الآيات والأحاديث عدم اختصاصه يعني أخذ الصحف بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض العلماء انتهى.

ويمكن أن يقال : إن ما يكون من النور هذه الأمة أجلى من النور الذي يكون لغيرها أو هو ممتاز بنوع آخر من الامتياز ، وأما إيتاء الكتب بالأيمان فلعله لكثرته فيها بالنسبة إلى سائر الأمم تعرف به ، وفي هذا المطلب أبحاث أخر تذكر إن شاء الله تعالى في محلها ، وقيل : أريد بالنور القرآن ، وقال الضحاك : النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه ، وقرأ سهل بن شعيب السهمي وأبو حيوة «وبإيمانهم» بكسر الهمزة ، وخرّج ذلك أبو حيان على أن الظرف يعني أيديهم متعلق بمحذوف والعطف عليه بذلك الاعتبار أي كائنا بين أيديهم وكائنا بسبب إيمانهم وهو كما ترى ، ولعله متعلق بالقول المقدر في قوله تعالى : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) أي وبسبب إيمانهم يقال لهم ذلك ، وجملة القول ، إما معطوفة على ما قبل أو استئناف أو حال ويجوز على الحالية تقدير الوصف منه أي مقولا لهم ، والقائل الملائكة الذين يتلقونهم.

والمراد بالبشرى ما يبشر به دون التبشير والكلام على حذف مضاف أي ما تبشرون به دخول جنات يصح بدونه أي ما تبشرون به جنات ، ويصح بدونه أي ما تبشرون به جنات ، وما قيل : البشارة لا تكون بالأعيان فيه نظر ، وتقدير المضاف لا يغني عن تأويل البشرى لأن التبشير ليس عين الدخول ، وجملة قوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) في موضع الصفة لجنات : وقوله سبحانه : (خالِدِينَ فِيها) حال من جنات ، قال أبو حيان : وفي الكلام التفات من ضمير الخطاب في (بُشْراكُمُ) إلى ضمير الغائب في (خالِدِينَ) ولو أجرى على الخطاب لكان التركيب خالدا أنتم فيها : (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يحتمل أن يكون من كلامه تعالى فالإشارة إلى ما ذكر من النور والبشرى بالجنات ، ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة عليهم‌السلام المتلقين لهم ، فالإشارة إلى ما هم فيه من النور وغيره أو إلى الجنات بتأويل ما ذكر أو لكونها فوزا على ما قيل ، وقرئ ذلك الفوز بدون (هُوَ).

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ

١٧٥

تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١٩)

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) بدل من (يَوْمَ تَرَى) ، وجوز أن يكون معمولا لا ذكر.

وقال ابن عطية : يظهر لي أن العامل فيه ذلك هو الفوز العظيم ، ويكون معنى الفوز عليه أعظم كأنه قيل: إن المؤمنين يفوزون يوم يعتري المنافقين والمنافقات كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه مضاده أبدع وأفخم. وتعقبه في البحر بأن ظاهر تقريره أن يوم منصوب بالفوز وهو لا يجوز لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته فلا يجوز إعماله ولو أعمل وصفه وهو العظيم لجاز ـ أي الفوز الذي عظم ـ أي قدره يوم انتهى ، وفي عدم جواز إعمال مثل هذا المصدر في مثل هذا المعمول خلاف ، ثم إن تعلق هذا الظرف بشيء من تلك الجملة خلاف الظاهر (لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا) أي انتظرونا (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به.

وقيل : فيأخذوا شيئا منه يكون معهم تخيلوا تأتّي ذلك فقالوه ، وأصل الاقتباس طلب القبس أي الجذوة من النار ، وجوز أن يكون المعنى انظروا إلينا نقتبس إلخ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به فانظرونا على الحذف والإيصال لأن النظر بمعنى مجرد الرؤية يتعدى بإلى فإن أريد التأمل تعدى بفي لكن حمل الآية على ذلك خلاف الظاهر ؛ وقولهم : للمؤمنين ذلك لأنهم في ظلمة لا يذرون كيف يمشون فيها ، وروي أنه يكون ذلك على الصراط.

وفي الآثار دلالة على أنهم يكون لهم نور فيطفأ فيقولون ذلك ، أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم سترا منه على عباده وأما عند الصراط قال الله يعطي كل مؤمن نورا وكل منافق نورا فإذا استووا على الصراط أطفأ الله نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون : انظرونا نقتبس من نوركم ، وقال المؤمنون : أتمم لنا نورنا فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا».

وفي حديث آخر مرفوع عنه أيضا إن نور المنافق يطفأ قبل أن يأتي الصراط ، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي فاختة يجمع الله تعالى الخلائق يوم القيامة ويرسل الله سبحانه على الناس ظلمة فيستغيثون ربهم فيؤتي الله تعالى كل مؤمن منهم نورا ويؤتي المنافقين نورا فينطلقون جميعا متوجهين إلى الجنة معهم نورهم فبينما هم كذلك إذ أطفأ الله نور المنافقين فيترددون في الظلمة ويسبقهم المؤمنون بنورهم بين أيديهم فيقولون انظرونا نقتبس من نوركم الخبر ، والاخبار في إيتاء المنافق نورا ثم إطفائه كثيرة وليس في الآية ما يأباه.

وقرأ زيد بن علي وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة «أنظرونا» بقطع الهمزة وفتحها وكسر الظاء من النظرة وهي الامهال يقال انظر المديون أي أمهله ، وضع (انْظُرُونا) بمعنى المهلة وإنظار الدائن المديون موضع اتئاد الرفيق ومشيه الهوينا ليلحقه رفيقه على سبيل الاستعارة بعد سبق تشبيه الحالة بالحالة مبالغة في العجز وإظهار الافتقار ، وقيل : هو من انظر أي أخر ، والمراد اجعلونا في آخركم ولا تسبقونا بحيث تفوتونا ولا نلحق بكم.

١٧٦

وقال المهدوي : «أنظرونا» «وانظرونا» بمعنى وهما من الانتظار تقول العرب : أنظرته بكذا وانتظرته بمعنى واحد والمعنى أمهلونا (قِيلَ) القائلون على ما روي عن ابن عباس المؤمنون ، وعلى ما روي عن مقاتل الملائكة عليهم‌السلام.

(ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) قال ابن عباس : أي من حيث جئتم من الظلمة أو إلى المكان الذي قسم فيه النور على ما صح عن أبي أمامة (فَالْتَمِسُوا نُوراً) هناك ، قال مقاتل : هذا من الاستهزاء بهم كما استهزءوا بالمؤمنين في الدنيا حين قالوا آمنا وليسوا بمؤمنين ، وذلك قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] أي حين يقال لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ، وقال أبو أمامة : يرجعون حين يقال لهم ذلك إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور وهي خدعة الله تعالى التي خدع بها المنافقين حيث قال سبحانه : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] ، وقيل : المراد ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نورا أي بتحصيل سببه وهو الإيمان أو تنحوا عنا والتمسوا نورا غير هذا فلا سبيل لكم إلى الاقتباس منه ، والغرض التهكم والاستهزاء أيضا.

وقيل : أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة الكثيفة تهكما بهم وهو خلاف الظاهر ، وأيا ما كان فالظاهر أن وراءكم معمول لارجعوا.

وقيل : لا محل له من الإعراب لأنه بمعنى ارجعوا فكأنه قيل : ارجعوا ارجعوا كقولهم وراءك أوسع لك أي ارجع تجد مكانا أوسع لك (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ) أي بين الفريقين ، وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير «فضرب» مبنيا للفاعل أي فضرب هو أي الله عزوجل (بِسُورٍ) أي بحاجز ، قال ابن زيد : هو الأعراف ، وقال غير واحد : حاجز غيره والباء مزيدة (لَهُ بابٌ باطِنُهُ) أي الباب كما روي عن مقاتل أو السور وهو الجانب الذي يلي مكان المؤمنين أعني الجنة (فِيهِ الرَّحْمَةُ) الثواب والنعيم الذي لا يكتنه (وَظاهِرُهُ) الجانب الذي يلي مكان المنافقين أعني النار (مِنْ قِبَلِهِ) أي من جهته (الْعَذابُ) وهذا السور قيل : يكون في تلك النشأة وتبدل هذا العالم واختلاف أوضاعه في موضع الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس.

أخرج عبد بن حميد عن أبي سنان قال : كنت مع علي بن عبد الله بن عباس عند وادي جهنم يعني المكان المعروف عند بيت المقدس فحدث عن أبيه أنه قال ، وقد تلا قوله تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) هذا موضع السور عند وادي جهنم ، وأخرج هو وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إن السور الذي ذكره الله تعالى في القرآن (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) هو سور بيت المقدس الشرقي (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) المسجد (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) يعني وادي جهنم وما يليه.

وأخرج عن عبادة بن الصامت أنه كان على سور بيت المقدس الشرقي فبكى فقيل : ما يبكيك؟ فقال : هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه رأى جهنم ولا يخفى أن هذا ونظائره أمور مبنية على اختلاف العالمين وتغاير النشأتين على وجه لا تصل العقول إلى إدراك كيفيته والوقوف على تفاصيله ، فإن صح الخبر لم يسعنا إلا الايمان لعدم خروج الأمر عن دائرة الإمكان ، وأبو حيان حكى عمن سمعت وعن كعب الأحبار أنه الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس واستبعده ثم قال : ولعله لا يصح عنهم (يُنادُونَهُمْ) استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فما ذا يفعلون بعد ضرب السور ومشاهدة العذاب؟ فقيل : ينادي المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات (أَلَمْ نَكُنْ) في الدنيا (مَعَكُمْ) يريدون به موافقتهم لهم في الظاهر (قالُوا بَلى) كنتم معنا كما تقولون (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) محنتموها بالنفاق وأهلكتموها (وَتَرَبَّصْتُمْ) بالمؤمنين الدوائر (وَارْتَبْتُمْ) وشككتم في أمور الدين

١٧٧

(وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) الفارغة التي من جملتها الطمع في انتكاس الإسلام وقال ابن عباس : (فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) بالشهوات واللذات (وَتَرَبَّصْتُمْ) بالتوبة (وَارْتَبْتُمْ) قال محبوب الليثي : شككتم في الله (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) طول الآمال ، وقال أبو سنان : قلتم سيغفر لنا (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي الموت (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) الشيطان قال لكم : إن الله عفو كريم لا يعذبكم.

وعن قتادة كانوا على خدعة من الشيطان والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله تعالى في النار.

وقرأ سماك بن حرب الغرور بالضم ، قال ابن جني : وهو كقوله : وغركم بالله تعالى الاغترار ، وتقديره على حذف المضاف أي وغركم بالله تعالى سلامة الاغترار (١) ومعناه سلامتكم منه اغتراركم.

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ) أيها المنافقون (فِدْيَةٌ) فداء وهو ما يبذل لحفظ النفس عن النائبة والناصب ليوم الفعل المنفي بلا ، وفيه حجة على من منع ذلك ، وقرأ أبو جعفر والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر وهارون عن أبي عمرو لا تؤخذ التاء الفوقية (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ظاهرا وباطنا فيغاير المخاطبين المنافقين ، ثم الظاهر أن المراد بالفدية ما هو من جنس المال ونحوه ، وجوز أن يراد بها ما يعم الإيمان والتوبة فتدل الآية على أنه لا يقبل إيمانهم وتوبتهم يوم القيامة وفيه بعد ، وفي الحديث : إن الله تعالى يقول للكافر : أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟ فيقول : نعم يا رب فيقول الله تبارك وتعالى : قد سألتك ما هو أيسر من ذلك وأنت في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك (مَأْواكُمُ النَّارُ) محل أويكم (هِيَ مَوْلاكُمْ) أي ناصركم من باب ـ تحية بينهم ضرب وجيع – والمراد نفي الناصر على البتات بعد نفي أخذ الفدية وخلاصهم بها عن العذاب ، ونحوه قولهم : أصيب بكذا فاستنصر الجزع ، ومنه قوله تعالى : (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) [الكهف : ٢٩] وقال الكلبي والزجاج والفراء وأبو عبيدة : أي أولى بكم كما في قول لبيد يصف بقرة وحشية نفرت من صوت الصائد :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه

مولى المخافة خلفها وأمامها

أي فغدت كلا جانبيها الخلف والإمام تحسب أنه أولى بأن يكون فيه الخوف ، قال الزمخشري : وحقيقة مولاكم هي على هذا محراكم ومقمنكم أي المكان الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل : هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل : إنه لكريم فأولى نوع من اسم المكان لوحظ فيه معنى أولى إلا أنه مشتق منه كما أن المئنة ليست مشتقة من إن التحقيقية ، وفي التفسير الكبير إن قولهم ذلك بيان لحاصل المعنى وليس بتفسير اللفظ لأنه لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة لصح استعمال كل منهما في مكان الآخر وكان يجب أن يصح هذا أولى فلان كما يقال : هذا مولى فلان ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى وليس بتفسير ، ثم صرح بأنه أراد بذلك رد استدلال الشريف المرتضى بحديث الغدير من كنت مولاه فعليّ مولاه على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه حيث قال : أحد معاني المولى الاولى.

وحمله في الخبر عليه متعين لأن إرادة غيره يجعل الاخبار عبثا كإرادة الناصر والصاحب وابن العم ، أو يجعله كذبا كالمعتق والمعتق ولا يخفى على المنصف أنه إن أراد بكونه معنى لا تفسير ما أشار إليه الزمخشري من التحقيق فهو لا يرد الاستدلال إذ يكفي للمرتضى أن يقول : المولى في الخبر بمعنى المكان الذي يقال فيه أولى إذ يلزم على

__________________

(١) هكذا في الأصل فليتنبه. ادارة.

١٧٨

غيره العبث أو الكذب وإن أراد أن ذلك معنى لازم لما هو تفسير له كأن يكون تفسيره القائم بمصالحكم ونحوه مما يكون ذلك لازما له ففي رده الاستدلال أيضا تردد ، وإن أراد شيئا آخر فنحن لا ندري ما هو ـ وهو لم يبينه ـ والحق أنه ولو جعل المولى بمعنى الأولى أو المكان الذي يقال فيه الأولى لا يتم الاستدلال بالخبر على الإمامة التي تدعيها الإمامية للأمير كرم الله تعالى وجهه لما بين في موضعه ، وفي التحفة الاثني عشرية ما فيه كفاية لطالب الحق.

وقال ابن عباس أي مصيركم وتحقيقه على ما قال الإمام : إن المولى بمعنى موضع الولي وهو القرب والمعنى هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه ، وأنت تعلم أن الاخبار بذلك بعد الاخبار بأنها مأواهم ليس فيه كثير جدوى على أن وضع اسم المكان للموضع الذي يتصف صاحبه بالمأخذ حال كونه فيه والقرب من النار وصف لأولئك قبل الدخول فيها ولا يحسن وصفهم به بعد الدخول ولو اعتبر مجاز الكون كما لا يخفى ، وجوز بعضهم اعتبار كونه اسم مكان من الولي بمعنى القرب لكن على أن المعنى هي مكان قربكم من الله سبحانه ورضوانه على التهكم بهم ؛ وقيل : أي متوليكم أن المتصرفة فيكم كتصرفكم فيما أوجبها واقتضاها في الدنيا من المعاصي والتصرف استعارة للإحراق والتعذيب ، وقيل : مشاكلة تقديرية (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي النار وهي المخصوص بالذم المحذوف لدلالة السياق (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) استئناف لعتاب المؤمنين على الفتور والتكاسل فيما ندبوا اليه والمعاتب على ما قاله الزجاج طائفة من المؤمنين وإلا فمنهم من لم يزل خاشعا منذ أسلم إلى أن ذهب إلى ربه ، وما نقل عن الكلبي ومقاتل أن الآية نزلت في المنافقين فهم المراد بالذين آمنوا مما لا يكاد يصح ، وقد سمعت صدر السورة الكريمة ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.

وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن المنذر والأعمش قال : لما قدم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان لهم من الجهد فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت (أَلَمْ يَأْنِ) الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه : (أَلَمْ يَأْنِ) الآية ، وفي خبر ابن مردويه عن أنس بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن.

وأخرج عن عائشة قالت : خرج رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون فسحب رداءه محمرا وجهه فقال : أتضحكون ولم يأتكم من ربكم بأنه قد غفر لكم وقد نزل علي في ضحككم آية (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ) إلخ؟ قالوا : يا رسول الله فما كفارة ذلك؟ قال : تبكون بقدر ما ضحكتم ، وفي الخبر أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد ظهر فيهم المزاح والضحك فنزلت ، وحديث مسلم ومن معه السابق مقدم على هذه الآثار على ما يقتضيه كلام أهل الحديث ، و (يَأْنِ) مضارع أنى الأمر أنيا وأناء وإناء بالكسر إذا جاء أناه أي وقته ، أي ألم يجىء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره عزوجل.

وقرأ الحسن وأبو السمال ـ ألما ـ بالهمزة ، ولما النافية الجازمة كلم إلا أن فيه أن المنفي متوقع.

وقرأ الحسن يئن مضارع آن أينا بمعنى أني السابق ، وقال أبو العباس : قال قوم : إن يئين أينا الهمزة مقلوبة فيه عن الحاء وأصله حان يحين حينا وأصل الكلمة من الحين (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) أي القرآن وهو عطف على ذكر الله فإن كان هو المراد به أيضا فالعطف لتغاير العنوانين نحو :

هو الملك القرم وابن الهمام

فإنه ذكر وموعظة كما أنه حق نازل من السماء وإلا بأن كان المراد به تذكير الله تعالى إياهم فالعطف لتغاير

١٧٩

الذاتين على ما هو الشائع في العطف وكذا إذا أريد به ذكرهم الله تعالى بالمعنى المعروف ، وجوز العطف على الاسم الجليل إذا أريد بالذكر التذكير وهو كما ترى ، وقال الطيبي : يمكن أن يحمل الذكر على القرآن وما نزل من الحق على نزول السكينة معه أي الواردات الإلهية ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن البراء كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر له ذلك فقال : تلك السكينة تنزل للقرآن.

وفي رواية اقرأ فلان فإنها السكينة تنزل عند القرآن وللقرآن انتهى ، ولا يخفى بعد ذلك جدّا ولعلك تختار حمل الذكر وما نزل على القرآن لما يحس مما بعد من نوع تأييد له ، وفسر الخشوع للقرآن بالانقياد التام لأوامره ونواهيه والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام من غير توان ولا فتور ، والظاهر أنه اعتبر كون اللام صلة الخشوع ، وجوز كونها للتعليل على أوجه الذكر فالمعنى ألم يأن لهم أن ترق قلوبهم لأجل ذكر الله تعالى وكتابه الحق النازل فيسارعوا إلى الطاعة على أكمل وجوهها ، وفي الآية حض على الخشوع ، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما أخرج عنه ابن المنذر إذا تلاها بكى ثم قال : بلى يا رب بلى يا رب ، وعن الحسن أما والله لقد استبطأهم وهم يقرءون من القرآن أقل مما تقرءون فانظروا في طول ما قرأتم وما ظهر فيكم من الفسق ، وروى السلمي عن أحمد بن أبي الحواري قال بينا أنا في بعض طرقات البصرة إذ سمعت صعقة فأقبلت نحوها فرأيت رجلا قد خر مغشيا عليه فقلت : ما هذا؟ فقالوا : كان رجلا حاضر القلب فسمع آية من كتاب الله فخر مغشيا عليه فقلت : ما هي؟ فقيل : قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) فأفاق الرجل عند سماع كلامنا فأنشأ يقول :

أما آن للهجران أن يتصرما

وللغصن غصن البان أن يتبسما

وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى

ألم يأن أن يبكى عليه ويرحما

كتبت بماء الشوق بين جوانحي

كتابا حكى نقش الوشي المنمنما

ثم قال : إشكال إشكال إشكال فخر مغشيا عليه فحركناه فإذا هو ميت ، وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديدا فنظر إليهم فقال : هكذا كنا حتى قست القلوب ، ولعله أراد رضي الله تعالى عنه أن الطراز الأول كان كذلك حتى قست قلوب كثير من الناس ولم يتأسوا بالسابقين وغرضه مدح أولئك القوم بما كان هو ونظراؤه عليه رضي الله تعالى عنهم ، ويحتمل أن يكون قد أراد ما هو الظاهر ، والكلام من باب هضم النفس كقوله رضي الله تعالى عنه : أقيلوني فلست بخيركم ، وقال شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس‌سره : معناه تصلبت وأدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغربه حتى تتغير كما تغير هؤلاء السامعون انتهى وهو خلاف الظاهر ، وفيه نوع انتقاص للقوم ورمز إلى أن البكاء عند سماع القرآن لا يكون من كامل كما يزعمه بعض جهلة الصوفية القائلين : إن ذلك لا يكون إلا لضعف القلب عن تحمل الواردات الإلهية النورانية ويجل عن ذلك كلام الصديق رضي الله تعالى عنه ، وقرأ غير واحد من السبعة «وما نزّل» بالتشديد ، والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية يونس وعباس عنه «نزّل» مبنيا للمفعول مشددا ، وعبد الله ـ أنزل ـ بهمزة النقل مبنيا للفاعل.

(وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ لا) نافية وما بعدها منصوب معطوف على تخشع.

وجوز أن تكون ناهية وما بعدها مجزوم بها ويكون ذلك انتقالا إلى نهي أولئك المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب بعد أن عوتبوا بما سمعت وعلى النفي هو في المعنى نهي أيضا ، وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر ، وعن شيبة ويعقوب وحمزة في رواية عن سليم عنه «ولا تكونوا» بالتاء الفوقية على سبيل الالتفات للاعتناء

١٨٠