روح المعاني - ج ١٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

الجن في الذكر لتقدم خلقهم على خلق الإنس في الوجود ، والظاهر أن المراد من يقابلون بهم وبالملائكة عليهم‌السلام ولم يذكر هؤلاء قيل : لأن الأمر فيهم مسلم ، أو لأن الآية سيقت لبيان صنيع المكذبين حيث تركوا عبادة الله تعالى وقد خلقوا لها ؛ وهذا الترك مما لا يكون فيهم بل هم عباد مكرمون لا يستكبرون عن عبادته عزوجل ، وقيل : لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ليس مبعوثا إليهم فليس ذكرهم في هذا الحكم مما يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى تذكيرهم ، وأنت تعلم أن الأصح عموم البعثة فالأولى ما قيل بدله لاستغنائهم عن التذكير والموعظة ، وقيل : المراد بالجن ما يتناولهم لأنه من الاستتار وهم مستترون عن الإنس ، وقيل : لا يصح ذكرهم في حيز الخلق لأنهم كالأرواح من عالم الأمر المقابل لعالم الخلق ، وقد أشير إليهما بقوله تعالى : (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] ورد بقوله سبحانه : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢ ، الرعد : ١٦ ، الزمر : ٦٢ ، غافر : ٦٢] و (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ليس كما ظن والعبادة غاية التذلل ، والظاهر أن المراد بها ما كانت بالاختيار دون التي بالتسخير الثابتة لجميع المخلوقات وهي الدلالة المنبهة على كونها مخلوقة وأنها خلق فاعل حكيم ، ويعبر عنها بالسجود كما في قوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦] وأل في الجن والإنس على المشهور للاستغراق ، واللام قيل : للغاية والعبادة وإن لم تكن غاية مطلوبة من الخلق لقيام الدليل على أنه عزوجل لم يخلق الجن والإنس لأجلها أي لإرادتها منهم إذ لو أرادها سبحانه منهم لم يتخلف ذلك لاستلزام الإرادة الإلهية للمراد كما بين في الأصول مع أن التخلف بالمشاهدة ، وأيضا ظاهر قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩] يدل على إرادة المعاصي من الكثير ليستحقوا بها جهنم فينافي إرادة العبادة لكن لما كان خلقهم على حالة صالحة للعبادة مستعدة لها حيث ركب سبحانه فيهم عقولا وجعل لهم حواس ظاهرة وباطنة إلى غير ذلك من وجوه الاستعداد جعل خلقهم مغيا بها مبالغة بتشبيه المعدّ له الشيء بالغاية ومثله شائع في العرف ، ألا تراهم يقولون للقويّ جسمه : هو مخلوق للمصارعة ، وللبقر : هي مخلوقة للحرث.

وفي الكشف أن أفعاله تعالى تنساق إلى الغايات الكمالية واللام فيها موضوعها ذلك ، وأما الارادة فليست من مقتضى اللام إلا إذا علم أن الباعث مطلوب في نفسه وعلى هذا لا يحتاج إلى تأويل فإنهم خلقوا بحيث يتأتى منهم العبادة وهدوا إليها وجعلت تلك غاية كمالية لخلقهم ، وتعوّق بعضهم عن الوصول إليها لا يمنع كون الغاية غاية ، وهذا معنى مكشوف انتهى. فتأمل ، وقيل : المراد بالعبادة التذلل والخضوع بالتسخير ، وظاهر أن الكل عابدون إياه تعالى بذلك المعنى لا فرق بين مؤمن ، وكافر ، وبر ، وفاجر ، ونحوه ما قيل : المعنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليذلوا لقضائي ، وقيل : المعنى ما خلقتهم إلا ليكونوا عبادا لي ، ويراد بالعبد العبد بالإيجاد وعموم الوصف عليه ظاهر لقوله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣] لكن قيل عليه : إن عبد بمعنى صار عبدا ليس من اللغة في شيء ، وقيل : العبادة بمعنى التوحيد بناء على ما روي عن ابن عباس أن كل عبادة في القرآن فهو توحيد فالكل يوحدونه تعالى في الآخرة أما توحيد المؤمن في الدنيا هناك فظاهر ، وأما توحيد المشرك فيدل عليه قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] وعليه قول من قال : لا يدخل النار كافر ، أو المراد كما قال الكلبي : إن المؤمن يوحده في الشدة والرخاء والكافر يوحده سبحانه في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء ، كما قال عزوجل : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥] ولا يخفى بعد ذلك عن الظاهر والسياق ، ونقل عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما خلقتهم إلا لآمرهم وأدعوهم للعبادة فهو كقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) [البينة : ٥] فذكر العبادة المسببة

٢١

شرعا عن الأمر أو اللازمة له ، وأريد سببها أو ملزومها فهو مجاز مرسل ، وأنت تعلم أن أمر كل من أفراد الجن وكل من أفراد الإنس غير متحقق لا سيما إذا كان غير المكلفين كالأطفال الذي يموتون قبل زمان التكليف داخلين في العموم ، وقال مجاهد : إن معنى (لِيَعْبُدُونِ) ليعرفون وهو مجاز مرسل أيضا من إطلاق اسم السبب على المسبب على ما في الإرشاد ، ولعل السر فيه التنبيه على أن المعتبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى لا ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة قيل : وهو حسن لأنهم لو لم يخلقهم عزوجل لم يعرف وجوده وتوحيده سبحانه وتعالى ، وقد جاء «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» وتعقب بأن المعرفة الصحيحة لم تتحقق في كل بل بعض قد أنكر وجوده عزوجل كالطبيعيين اليوم فلا بد من القول السابق في توجيه التعليل ثم الخبر بهذا اللفظ ذكره سعد الدين الفرغاني في منتهى المدارك ، وذكر غيره كالشيخ الأكبر في الباب المائة والثمانية والتسعين من الفتوحات بلفظ آخر وتعقبه الحفاظ فقال ابن تيمية : إنه ليس من كلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف ، وكذا قال الزركشي والحافظ بن حجر وغيرهما : ومن يرويه من الصوفية معترف بعدم ثبوته نقلا لكن يقول : إنه ثابت كشفا ، وقد نص على ذلك الشيخ الأكبر قدس‌سره في الباب المذكور ، والتصحيح الكشفي شنشنة لهم ، ومع ذلك فيه إشكال معنى إلا أنه أجيب عنه ثلاث أجوبة ستأتي إن شاء الله تعالى ، وقيل : أل في (الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) للعهد ، والمراد بهم المؤمنون لقوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) الآية أي بناء على أن اللام فيها ليست للعاقبة ، ونسب هذا القول لزيد بن أسلم وسفيان ، وأيد بقوله تعالى قيل : (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) وأيده في البحر برواية ابن عباس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين» ورواها بعضهم قراءة لابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ومن الناس من جعلها للجنس ، وقال : يكفي في ثبوت الحكم له ثبوته لبعض أفراده وهو هنا المؤمنين الطائعون وهو في المآل متحد مع سابقه ، ولا إشكال على ذلك في جعل اللام للغاية المطلوبة حقيقة وكذا في جعلها للغرض عند من يجوز تعليل أفعاله تعالى بالأغراض مع بقاء الغنى الذاتي وعدم الاستكمال بالغير ـ كما ذهب إليه كثير من السلف ، والمحدثين ـ وقد سمعت أن منهم من يقسم الارادة إلى شرعية تتعلق بالطاعات وتكوينية تتعلق بالمعاصي وغيرها ، وعليه يجوز أن يبقى (الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) على شمولهما للعاصين ، ويقال : إن العبادة مرادة منهم أيضا لكن بالإرادة الشرعية إلا أنه لا يتم إلا إذا كانت هذا الإرادة لا تستلزم وقوع المراد كالإرادة التفويضية القائل بها المعتزلة.

هذا وإذا أحطت خبرا بالأقوال في تفسير هذا الآية هان عليك دفع ما يتراءى من المنافاة بينها وبين قوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٨ ، ١١٩] على تقدير كون الاشارة إلى الاختلاف بالتزام بعض هاتيك الأقوال فيها ، ودفعه بعضهم يكون اللام في تلك الآية للعاقبة والذي ينساق إلى الذهن أن الحصر إضافي أي خلقتهم للعبادة دون ضدها أو دون طلب الرزق والإطعام على ما يشير إليه كلام بعضهم أخذا من تعقيب ذلك بقوله سبحانه : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) وهو لبيان أن شأنه تعالى شأنه مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم ، ومالك ملاك العبيد نفى عزوجل أن يكون ملكه إياهم لذلك فكأنه قال سبحانه : ما أريد أن أستعين بهم كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي ، وذكر الإمام فيه وجهين : الأول أن يكون لدفع توهم الحاجة من خلقهم للعبادة ، والثاني أن يكون لتقرير كونهم مخلوقين لها ، وبين هذا بأن الفعل في العرف لا بد له من منفعة لكن العبيد على قسمين : قسم يتخذونه لإظهار العظمة بالمثول بين أيادي ساداتهم وتعظيمهم إياهم كعبيد الملوك ، وقسم يتخذون للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق أو لإصلاحها ، فكأنه قال سبحانه : إني خلقتهم ولا بد فيهم من منفعة فليتفكروا في أنفسهم هل

٢٢

هم من قبيل أن يطلب منهم تحصيل رزق وليسوا كذلك فما أريد منهم من رزق ، وهل هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت كالطباخ ومن يقرب الطعام؟ وليسوا كذلك (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) فإذا هم عبيد من القسم الأول ، فينبغي أن لا يتركوا التعظيم ، والظاهر أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي لمكان قوله سبحانه : (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) وإليه ذهب الامام ، وذكر في الآية لطائف : الاولى أنه سبحانه كرر نفي الإرادتين لأن السيد قد يطلب من العبد التكسب له وهو طلب الرزق وقد لا يطلب حيث كان له مال وافر لكنه يطلب قضاء حوائجه من حفظ المال وإحضار الطعام من ماله بين يديه. فنفي الإرادة الأولى لا يستلزم نفي الارادة الثانية فكرر النهي على معنى لا أريد هذا ولا أريد ذلك ، الثانية أن ترتيب النفيين كما تضمنه النظم الجليل من باب الترقي في بيان غناه عزوجل كأنه قال سبحانه : لا أطلب منهم رزقا ولا ما هو دون ذلك وهو تقديم الطعام بين يدي السيد فإن ذلك أمر كثيرا ما يطلب من العبيد إذا كان التكسب لا يطلب منهم ، الثالثة أنه سبحانه قال : ما أريد منهم من رزق دون ما أريد منهم أن يرزقون لأن التكسب لطلب العين لا الفعل ، وقال سبحانه : (ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) دون ما أريد من طعام لأن ذلك للإشارة إلى الاستغناء عما يفعله العبد الغير المأمور بالتكسب كعبد وافر المال والحاجة اليه للفعل نفسه ، الرابعة أنه جل وعلا خص الإطعام بالذكر لأن أدنى درجات الاستعانة أن يستعين السيد بعبده في تهيئة أمر الطعام ونفي الأدنى يتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى فكأنه قيل : ما أريد منهم من عين ولا عمل ، الخامسة أن (ما) لنفي الحال إلا أن المراد به الدنيا وتعرض له دون نفي الاستقبال لأن من المعلوم البين أن العبد بعد موته لا يصلح أن يطلب منه رزق أو إطعام انتهى ، فتأمله.

ويفهم من ظاهر كلام الزمخشري أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي ولهم ، وفي البحر ما أريد منهم من رزق أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي أن يطعموا خلقي فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس انتهى ، ونحوه ما قيل : المعنى ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أريد أن يطعموه ، وأسند الإطعام إلى نفسه سبحانه لأن الخلق كلهم عيال الله تعالى. ومن أطعم عيال أحد فكأنما أطعمه ، وفي الحديث «يا عبدي مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني» فإنه كما يدل عليه آخره على معنى مرض عبدي فلم تعده وجاع فلم تطعمه ؛ وقيل : الآية مقدرة بقل فتكون بمعنى قوله سبحانه : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) [الأنعام: ٩٠] والغيبة فيها رعاية للحكاية إذ في مثل ذلك يجوز الأمران الغيبة والخطاب ، وقد قرئ بهما في قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) [آل عمران : ١٢] ، وقيل : المراد قل لهم وفي حقهم فتلائمه الغيبة في (مِنْهُمْ) و (يُطْعِمُونِ) ولا ينافي ذلك قراءة ـ أني أنا الرزاق ـ فيما بعد لأنه حينئذ تعليل للأمر بالقول ، أو الائتمار لا لعدم الإرادة ، نعم لا شك في أنه قول بعيد جدا (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) الذي يرزق كل مفتقر إلى الرزق لا غيره سبحانه استقلالا ، أو اشتراكا ويفهم من ذلك استغناؤه عزوجل عن الرزق (ذُو الْقُوَّةِ) أي القدرة (الْمَتِينُ) شديد القوة ، والجملة تعليل لعدم الإرادة قال الامام : كونه تعالى هو الرزاق ناظر إلى عدم طلب الرزق لأن من يطلبه يكون فقيرا محتاجا ؛ وكونه عزوجل هو ذو القوة المتين ناظر إلى عدم طلب العمل المراد من قوله سبحانه : (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) لأن من يطلبه يكون عاجزا لا قوة له فكأنه قيل : ما أريد منهم من رزق لأني أنا الرزاق وما أريد منهم من عمل لأني قوي متين ، وكان الظاهر ـ أني أنا الرزاق ـ كما جاء في قراءة له صلّى الله تعالى عليه وسلم لكن التفت إلى الغيبة ، والتعبير بالاسم الجليل لاشتهاره بمعنى العبودية فيكون في ذلك إشعار بعلة الحكم ولتخرج الآية مخرج المثل كما قيل ذلك في قوله تعالى : (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) [الإسراء : ٨١] والتعبير به على القول بتقدير قل فيما تقدم هو الظاهر ، وتحتاج القراءة الاخرى إلى ما ذكرناه آنفا ، وآثر سبحانه ذو القوة على القوى قيل : لأن في (ذُو) كما قال ابن حجر الهيتمي وغيره تعظيم ما أضيف إليه ، والموصوف بها والمقام يقتضيه

٢٣

ولذا جيء بالمتين بعد ولم يكتف به عن الوصف بالقوة : وقال الإمام : لما كان المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير جيء بوصف الرزق على صيغة المبالغة لأنه بدونها لا يكفي في تقرير عدم إرادة الرزق وبوصف القوة بما لا مبالغة فيه لكفايته في تقرير عدم الاستعانة فإن من له قوة دون الغاية لا يستعين بغيره لكن لما لم يدل ذو القوة على أكثر من أن له تعالى قوة ما زيد الوصف بالمتين وهو الذي له ثبات لا يتزلزل ، ثم قال : إن القوي أبلغ من ذي القوة والعزة أكمل من المتانة وقد قرن الأكمل بالأكمل وما دونه بما دونه في قوله تعالى : (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد : ٢٥] وفي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) إلخ لما اقتضى المقام ذلك ، وقد أطال الكلام في هذا المقام وما أظنه يصفو عن كدر ، وقرأ ابن محيصن ـ الرازق ـ بزنة الفاعل ، وقرأ الأعمش وابن وثاب ـ المتين ـ بالجر ، وخرج على أنه صفة القوة ، وجاز ذلك مع تذكيره لتأويلها بالاقتدار أو لكونه على زنة المصادر التي يستوي فيها المذكر والمؤنث ، أو لإجرائه مجرى فعيل بمعنى مفعول ، وأجاز أبو الفتح أن يكون صفة ـ لذو ـ وجر على الجوار ـ كقولهم هذا جحر ضب خرب ـ وضعف (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي إذا ثبت أن الله تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدون وأنه سبحانه ما يريد منهم من رزق إلى آخر ما تقدم فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة وإشراكهم بالله عزوجل وتكذيبهم رسوله عليه الصلاة والسلام وهم أهل مكة وأضرابهم من كفار العرب (ذَنُوباً) أي نصيبا من العذاب (مِثْلَ ذَنُوبِ) أي نصيب (أَصْحابِهِمْ) أي نظرائهم من الأمم السالفة ، وأصل الذنوب الدلو العظيمة الممتلئة ماء ، أو القريبة من الامتلاء ، قال الجوهري : ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة ، وهي تذكر وتؤنث وجمعها أذنبة وذنائب فاستعيرت للنصيب مطلقا شرا كان كالنصيب من العذاب في الآية أو خيرا كما في العطاء في قول علقمة بن عبدة التميمي يمدح الحارث بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شأسا يوم عين أباغ :

وفي كل حي قد خبطت بنعمة

فحق لشأس من نداك ذنوب

يروى أن الحارث لما سمع هذا البيت قال نعم وأذنبة (١) ومن استعمالها في النصيب قول الآخر :

لعمرك والمنايا طارقات

لكل بني أب منها ذنوب

وهو استعمال شائع ، وفي الكشاف هذا تمثيل أصله في السقاة يقتسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب قال الراجز :

إنا إذا نازلنا غريب

له ذنوب ولنا ذنوب

وإن أبيتم فلنا القليب

(فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي لا يطلبوا مني أن أعجل في الإتيان به يقال استعجله أي حثه على العجلة وطلبها منه ، ويقال : استعجلت كذا إن طلبت وقوعه بالعجلة ، ومنه قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] وهو على ما في الإرشاد جواب لقولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨ ، الأنبياء : ٣٨ ، النمل : ٧١ ، سبأ : ٢٩ ، يس : ٤٨ ، الملك : ٢٥] (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي فويل لهم ، ووضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وإشعارا بعلة الحكم ، والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم على أن لهم عذابا عظيما كما

__________________

(١) «شأس» هو جد علقمة بن عبدة مدح بهذه القصيدة الحارث بن أبي شمر الغساني لما كان عنده أسيرا فأمر بإطلاقه وجميع أسرى بني تميم و «الخابط» الطالب ، ومعنى البيت أنت الذي أنعمت على كل حي بنعمة واستحق من نداك ذنوبا ا ه.

٢٤

أن الفاء التي قبلها لترتيب النهي عن الاستعجال على ذلك. و (مِنْ) في قوله سبحانه : (مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) للتعليل ؛ والعائد على الموصول محذوف أي يوعدونه أو يوعدون به على قول ، والمراد بذلك اليوم قيل : يوم بدر ، ورجح بأنه الأوفق لما قبله من حيث إنه ذنوب من العذاب الدنيوي ، وقيل : يوم القيامة ، ورجح بأنه الأنسب لما في صدر السورة الكريمة الآتية ، والله تعالى أعلم.

ومما قاله بعض أهل الاشارة في بعض الآيات : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) إشارة إلى الرياح التي تحمل أنين المشتاقين المعرضين لنفحات الألطاف إلى ساحات العزة ، ثم تأتي بنسيم نفحات الحق إلى مشام المحبين فيجدون راحة ما من غلبات اللوعة (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) إشارة إلى سحائب ألطاف الألوهية تحمل أمطار مراحم الربوبية فتمطر على قلوب الصديقين (فَالْجارِياتِ يُسْراً) إشارة إلى سفن أفئدة المحبين تجري برياح العناية في بحر التوحيد على أيسر حال (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) إشارة إلى الملائكة النازلين من حظائر القدس بالبشائر والمعارف على قلوب أهل الاستقامة ، وإن شئت جعلت الكل إشارة إلى أنواع رياح العناية فمنها ما يطير بالقلوب في جو الغيوب ، وقد قال العاشق المجازي :

خذا من صبا نجد أمانا لقلبه

نسيم كاد رياها يطير بلبه

وإياكما ذاك النسيم فإنه

متى هب كان الوجد أيسر خطبه

ومنها (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) دواء قلوب العاشقين كما قيل :

أيا جبلي نعمان بالله خليا

نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها

أجد بردها أو تشف مني حرارة

على كبد لم يبق إلا صميمها

إن الصبا ريح إذا ما تنسمت

على نفس مهموم تجلت همومها

ومنها «الجاريات» من مهاب حضرات القدس إلى أفئدة أهل الإنس بسهولة لتنعش قلوبهم ، ومنها «المقسمات» ما جاءت به مما عبق بها من آثار الحضرة الإلهية على نفوس المستعدين حسب استعداداتهم وإن شئت قلت غير ذلك فالباب واسع (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) إشارة إلى سماء القلب فإنها ذات طرائق إلى الله عزوجل (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) إشارة إلى جنات الوصال وعيون الحكمة (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يطلبون غفر أي ستر وجودهم بوجود محبوبهم ، أو يطلبون غفران ذنب رؤية عبادتهم من أول الليل إلى السحر (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) إشارة إلى أن جميع ما يرى بارزا من الموجودات ليس واحدا وحدة حقيقية بل هو مركب ولا أقل من كونه مركبا من الإمكان ، وشيء آخر فليس الواحد الحقيقي إلا الله تعالى الذي حقيقته سبحانه إنيته (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) بترك ما سواه عزوجل (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي ليعرفون ، وهو عندهم إشارة إلى ما صححوه كشفا من روايته صلى الله تعالى عليه وسلم عن ربه سبحانه أنه قال : «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» وفي كتاب الأنوار السنية للسيد نور الدين السمهودي بلفظ «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت هذا الخلق ليعرفوني فبي عرفوني» وفي المقاصد الحسنة للسخاوي بلفظ «كنت كنزا لا أعرف فخلقت خلقا فعرفتهم بي فعرفوني» إلى غير ذلك ، وهو مشكل لأن الخفاء أمر نسبي فلا بد فيه من مخفي ومخفى عنه فحيث لم يكن خلق لم يكن مخفي عنه فلا يتحقق الخفاء ، وأجيب أولا بأن الخفاء عن الأعيان الثابتة لأن الأشياء في ثبوتها لا إدراك لها وجوديا فكان الله سبحانه مخفيا عنها غير معروف لها معرفة وجودية ـ فأحب أن يعرف معرفة حادثة من موجود حادث ـ فخلق الخلق لأن معرفتهم الوجودية فرع وجودهم فتعرف سبحانه إليهم بأنواع التجليات على حسب

٢٥

تفاوت الاستعدادات فعرفوا أنفسهم بالتجليات فعرفوا الله تعالى من ذلك فبه سبحانه عرفوه ، وثانيا بأن المراد بالخفاء لازمه وهو عدم معرفة أحد به جل وعلا ، ويؤيده ما في لفظ السخاوي من قوله : لا أعرف بدل مخفيا ، وثالثا بأن مخفيا بمعنى ظاهر من أخفاه أي أظهره على أن الهمزة للإزالة أي أزال خفاءه ، وترتيب قوله سبحانه : «فأحببت أن أعرف» إلخ عليه باعتبار أن الظهور متى كان قويا أوجب الجهالة بحال الظاهر فخلق سبحانه الخلق ليكونوا كالحجاب فيتمكن معه من المعرفة ، ألا يرى أن الشمس لشدة ظهورها لا تستطيع أكثر الأبصار الوقوف على حالها إلا بواسطة وضع بعض الحجب بينها وبينها وهو كما ترى لا يخلو عن بحث ، وأما إطلاق الكنز عليه عزوجل فقد ورد ، روى الديلمي في مسنده عن أنس مرفوعا كنز المؤمن ربه أي فإن منه سبحانه كل ما يناله من أمر نفيس في الدارين ، والشيخ محيي الدين قدس‌سره ذكر في معنى ـ الكنز ـ غير ذلك فقال في الباب الثلاثمائة والثمانية والخمسين من فتوحاته : لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم بالحادث في قوله : «كنت كنزا» إلخ فجعل نفسه كنزا ، والكنز لا يكون إلا مكتنزا في شيء فلم يكن كنز الحق نفسه إلا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزا فلما لبس الحق الإنسان ثوب شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه سبحانه كان مكنوزا فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى ، وهو منطق الطير الذي لا نعرفه نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى بمنه وكرمه.

٢٦

سورة الطّور

«مكية» كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ولم نقف على استثناء شيء منها ، وهي تسع وأربعون آية في الكوفي والشامي ، وثمان وأربعون في البصري ، وسبع وأربعون في الحجازي ، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها اشتمال كل على الوعيد ، وقال الجلال السيوطي : وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين ، وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفار ، ولا يخفى ما بين السورتين الكريمتين من الاشتراك في غير ذلك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٢١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ) الطور اسم لكل جبل على ما قيل : في اللغة العربية عند الجمهور ، وفي اللغة السريانية عند بعض ، ورواه ابن المنذر وابن جرير عن مجاهد والمراد به هنا (طُورِ سِينِينَ) [التين : ٢] الذي كلم الله تعالى موسى عليه‌السلام عنده ، ويقال له : طور سيناء أيضا ، والمعروف اليوم بذلك ما هو بقرب التيه بين مصر والعقبة ، وقال أبو حيان في تفسير سورة «التين» : لم يختلف في طور سيناء أنه جبل بالشام وهو الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه‌السلام ، وقال في تفسيره : هذه السورة في الشام جبل يسمى الطور وهو طور سيناء فقال نوف

٢٧

البكالي : إنه الذي أقسم الله سبحانه به لفضله على الجبال ، قيل : وهو الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه‌السلام انتهى فلا تغفل ، وحكى الراغب أنه جبل محيط بالأرض ولا يصح عندي ، وقيل : جبل من جبال الجنة ، وروى فيه ابن مردويه عن أبي هريرة ، وعن كثير بن عبد الله حديثا مرفوعا ولا أظن صحته ، واستظهر أبو حيان أن المراد الجنس لا جبل معين ، وروي ذلك عن مجاهد والكلبي والذي أعول عليه ما قدمته.

(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) مكتوب على وجه الانتظام فإن السطر ترتيب الحروف المكتوبة ، والمراد به على ما قال الفراء الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال ويعطاه العبد يوم القيامة بيمينه أو بشماله وهو المذكور في قوله تعالى: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) [الإسراء : ١٣] ، وقال الكلبي : هو التوراة ، وقيل : هي. والإنجيل. والزبور وقيل : القرآن ، وقيل : اللوح المحفوظ ، وفي البحر لا ينبغي أن يحمل شيء من هذه الأقوال على التعيين وإنما تورد على الاحتمال ، والتنكير قيل : للإفراد نوعا ، وذلك على القول بتعدده ، أو للإفراد شخصا ، وذلك على القول المقابل ، وفائدته الدلالة على اختصاصه من جنس الكتب بأمر يتميز به عن سائرها ، والأولى على وجهي التنكير إذا حمل على أحد الكتابين أعني القرآن والتوراة أن يكون من باب (لِيَجْزِيَ قَوْماً) [الجاثية : ١٤] ففي التنكير كمال التعريف ، والتنبيه على أن ذلك الكتاب لا يخفى نكّر أو عرف ، ومن هذا القبيل التنكير في قوله تعالى : (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) والرق بالفتح ويكسر ، وبه قرأ أبو السمال جلد رقيق يكتب فيه وجمعه رقوق وأصله على ما في مجمع البيان من اللمعان يقال : ترقرق الشيء إذا لمع. أو من الرقة ضد الصفاقة على ما قيل ، وقد تجوز فيه عما يكتب فيه الكتاب من ألواح وغيرها. والمنشور المبسوط والوصف به قيل : للإشارة إلى صحة الكتاب وسلامته من الخطأ حيث جعل معرضا لنظر كل ناظر آمنا عليه من الاعتراض لسلامته عما يوجبه ، وقيل : هو لبيان حاله التي تضمنتها الآية المذكورة آنفا بناء على أن المراد به صحائف الأعمال ولبيان أنه ظهر للملائكة عليهم‌السلام يرجعون إليه بسهولة في أمورهم بناء على أنه اللوح ، أو للناس لا يمنعهم مانع عن مطالعته والاهتداء بهديه بناء على الأقوال الأخر ، وفي البحر (مَنْشُورٍ) منسوخ ما بين المشرق والمغرب (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) هو بيت في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون اليه حتى تقوم الساعة كما أخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا.

وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل عليا كرم الله تعالى وجهه فقال : ذلك الضراح بيت فوق سبع سماوات تحت العرش يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إلخ ، وجاء في رواية عنه كرم الله تعالى وجهه ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه حيال الكعبة بحيث لو سقط سقط عليها.

وروي عن مجاهد وقتادة وابن زيد أن في كل سماء بحيال الكعبة بيتا حرمته كحرمتها وعمارته بكثرة الواردين عليه من الملائكة عليهم‌السلام كما سمعت ، وقال الحسن : هو الكعبة يعمره الله تعالى كل سنة بستمائة ألف من الناس فإن نقصوا أتم سبحانه العدد من الملائكة ، وأنت تعلم أن من المجاز المشهور ـ مكان معمور ـ بمعنى مأهول مسكون يحل الناس في محل هو فيه ، فعمارة الكعبة بالمجاورين عندها وبحجاجها صح خبر الحسن المذكور أم لا (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) أي السماء كما رواه جماعة ، وصححه الحاكم عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ، وعن ابن عباس هو العرش وهو سقف الجنة ، وأخرجه أبو الشيخ عن الربيع بن أنس ، وعليه لا بأس في تفسير البيت المعمور بالسماء كما روي عن مجاهد ، وعمارتها بالملائكة أيضا فما فيها موضع إهاب إلا وعليه ملك ساجد أو قائم (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي الموقد نارا.

٢٨

أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة عن سعيد بن المسيب قال : قال علي كرم الله تعالى وجهه لرجل من اليهود : أين موضع النار في كتابكم؟ قال : البحر فقال كرم الله تعالى وجهه : ما أراه إلا صادقا ، وقرأ (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [التكوير : ٦] وبذلك قال مجاهد وشمر بن عطية والضحاك ومحمد بن كعب والأخفش ، وقال قتادة : المسجور المملوء يقال : سجره أي ملأه ، والمراد به عند جمع البحر المحيط ، وقيل : بحر في السماء تحت العرش ، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، وفي البحر أنهما قالا فيه ماء غليظ ، ويقال له : بحر الحياة يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم ، وأخرج أبو الشيخ عن الربيع أنه الملأ الأعلى الذي تحت العرش وكأنه أراد به القضاء الواسع المملوء ملائكة ، وعن ابن عباس «المسجور» الذي ذهب ماؤه ، وروى ذو الرمة الشاعر ، وليس له كما قيل حديث غير هذا عن الحبر قال : خرجت أمة لتستقي فقالت : إن الحوض مسجور أي فارغ فيكون من الاضداد ، وحمل كلامه رضي الله تعالى عنه على إرادة البحر المعروف ، وأن ذهاب مائه يوم القيامة ، وفي رواية عنه أنه فسره بالمحبوس ، ومنه ساجور الكلب وهي القلادة التي تمسكه وكأنه عنى المحبوس من أن يفيض فيغرق جميع الأرض ، أو يغيض فتبقى الأرض خالية منه ، وقيل (الْمَسْجُورِ) المختلط ، وهو نحو قولهم للخليل المخالط : سجير ، وجعله الراغب من سجرت التنور لأنه سجير في مودّة صاحبه ، والمراد بهذا الاختلاط تلاقي البحار بمياهها واختلاط بعضها ببعض ، وعن الربيع اختلاط عذبها بملحها ، وقيل : اختلاطها بحيوانات الماء ، وقيل : المفجور أخذا من قوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) [الانفطار : ٣] ويحتمله ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس من تفسيره بالمرسل ، وإذا اعتبر هذا مع ما تقدم عنه آنفا من تفسيره بالمحبوس يكون من الاضداد أيضا ، وقال منبه بن سعيد ، هو جهنم سميت بحرا لسعتها وتموأها ، والجمهور على أن المراد به بحر الدنيا ـ وبه أقول ـ وبأن المسجور بمعنى الموقد ، ووجه التناسب بين القرائن بعد تعين ما سيق له الكلام لائح ، وهو هاهنا إثبات تأكيد عذاب الآخرة وتحقيق كينونته ووقوعه ، فأقسم سبحانه له بأمور كلها دالة على كمال قدرته عزوجل مع كونها متعلقة بالمبدإ والمعاد ، فالطور لأنه محل مكالمة موسى عليه‌السلام ، ومهبط آيات البدء والمعاد يناسب حديث إثبات المعاد وكتاب الأعمال كذلك مع الإيماء إلى أن إيقاع العذاب عدل منه تعالى فقد تحقق ، ودون في الكتاب ما يجر إليه قبل ، (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) لأنه مطاف الرسل السماوية ، ومظهر لعظمته تعالى ، ومحل لتقديسهم وتسبيحهم إياه جل وعلا ، (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) لأنه مستقرهم ومنه تنزل الآيات ، وفيه الجنة : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) لأنه محل النار ، وإذا حمل الكتاب على التوراة كان التناسب مع ما قبله حسب النظر الجليل أظهر ولم يحمله عليها كثير لزعم أن ـ الرق المنشور ـ لا يناسبها لأنها كانت في الألواح ، ولا يخفى عليك أن شيوع الرق فيما يكتب فيه الكتاب مطلقا يضعف هذا الزعم في الجملة ، ثم إن المعروف أن التوراة لا يكتبها اليهود اليوم إلا في ـ رق ـ وكأنهم أخذوا ذلك من أسلافهم ، وقال الإمام : يحتمل أن تكون الحكمة في القسم ـ بالطور والبيت المعمور والبحر المسجور ـ أنها أماكن خلوة لثلاثة أنبياء مع ربهم سبحانه ، أما الطور فلموسى عليه‌السلام وقد خاطب عنده ربه عزوجل بما خاطب ، وأما البيت المعمور فلرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد قال عنده : «سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ؛ وأما البحر فليونس عليه‌السلام قال فيه : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧] فلشرفها بذلك أقسم الله تعالى بها ، وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن كلام والكلام في الكتاب ، وأما ذكر السقف المرفوع فلبيان رفعة البيت المعمور ليعلم عظمة شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ثم ذكر وجها آخر ، ولعمري إنه لم يأت بشيء فيهما ، والواو الاولى للقسم وما بعدها على

٢٩

ما قال أبو حيان للعطف ، والجملة المقسم عليها قوله تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) أي لكائن على شدّة كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من يحل به من الكفار ؛ وفي إضافته إلى الرب مع إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام أمان له صلى الله تعالى عليه وسلم وإشارة إلى أن العذاب واقع بمن كذبه ، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ـ واقع ـ بدون لام ، وقوله تعالى : (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) خبر ثان ـ لأن ـ أو صفة (لَواقِعٌ) أو هو جملة معترضة ، و (مِنْ دافِعٍ) إما مبتدأ للظرف أم مرتفع به على الفاعلية ، و (مِنْ) مزيدة للتأكيد ولا يخفى ما في الكلام من تأكيد الحكم وتقريره ؛ وقد روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ من أول السورة إلى هنا فبكى ثم بكى حتى عيد من وجعه وكان عشرين يوما ، وأخرج أحمد وسعيد بن منصور وابن سعد عن جبير بن مطعم قال : قدمت المدينة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأكلمه في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقرأ (وَالطُّورِ) إلى (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) فكأنما صدع قلبي ، وفي رواية فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب ، وهو لا يأتي أن يكون المراد الوقوع يوم القيامة «ومن غريب ما يحكى» أن شخصا رأى مكتوبا في كفه خمس واوات فعبرت له بخير فسأل ابن سيرين فقال : تهيأ لما لا يسر فقال له : من أين أخذت هذا؟ فقال : من قوله عزوجل : (وَالطُّورِ) إلى (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص ، وقوله سبحانه : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) منصوب على الظرفية (١) وناصبه (واقع) أو (دافِعٍ) أو معنى النفي وإبهام أنه لا ينتفي دفعه غير ذلك اليوم بناء على اعتبار المفهوم لا ضير فيه لعدم مخالفته للواقع لأنه تعالى أمهلهم في الدنيا وما أهملهم ، ومنع مكي أن يعمل فيه ـ واقع ـ ولم يذكر دليل المنع ولا دليل له فيما يظهر ، ومعنى (تَمُورُ) تضطرب كما قال ابن عباس أي ترتج وهي في مكانها ، وفي رواية عنه تشقق ، وقال مجاهد : تدور ، وأصل المور التردد في المجيء والذهاب ، وقيل : التحرك في تموج ، وقيل : الجريان السريع ، ويقال للجري مطلقا وأنشدوا للأعشى :

كأن مشيتها من بيت جارتها

مور السحابة لا ريث ولا عجل

(وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) عن وجه الأرض فتكون هباء منبثّا ، والإتيان بالمصدرين الإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة أي مورا عجيبا وسيرا بديعا لا يدرك كنههما (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي إذا وقع ذلك (٢) أو إذا كان الأمر كما ذكر فويل يوم إذ يقع ذلك (لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي في اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب يلهون ، وأصل الخوض المشي في الماء ثم تجوز فيه عن الشروع في كل شيء وغلب في الخوض في الباطل كالإحضار عام في كل شيء ثم غلب استعماله في الإحضار للعذاب.

(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) أي يدفعون دفعا عنيفا شديدا بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار ويطرحون فيها ، وقرأ زيد بن علي والسليمي وأبو رجاء «يدعّون» بسكون الدال وفتح العين من الدعاء فيكون (دَعًّا) حالا أي ينادون إليها مدعوعين (٣) و (يَوْمَ) إما بدل من يوم (تَمُورُ) أو ظرف لقول مقدر محكي به قوله تعالى : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي فيقال لهم ذلك (يَوْمَ) إلخ ،

__________________

(١) لأنه مفعول فيه.

(٢) يشير إلى أن الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر. ا ه.

(٣) الحال مقدرة لأن الدفع بعد الدعوة ، وقيل : إنها مقارنة بإجراء قرب الوقوع مجرى المقارنة ؛ وفيه نظر.

٣٠

ومعنى التكذيب بها تكذيبهم بالوحي الناطق بها ، وقوله تعالى : (أَفَسِحْرٌ هذا) توبيخ وتقريع لهم حيث كانوا يسمونه سحرا كأنه قيل : كنتم تقولون للوحي الذي أنذركم بهذا سحرا أفهذا المصدق له سحر أيضا وتقديم الخبر لأنه المقصود بالإنكار والمدار للتوبيخ.

(أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) أي أم أنتم عمي عن المخبر به كما كنتم في الدنيا عميا عن الخبر والفاء مؤذنة بما ذكر وذلك لأنها لما كانت تقتضي معطوفا عليه يصح ترتب الجملة أعني سحر هذا عليه وكانت هذا جملة واردة تقريعا مثل هذا النار إلخ لم يكن بد من تقدير ذلك على وجه يصح الترتب ويكون مدلولا عليه من السياق فقدّر كنتم تقولون إلى آخره ، ودل عليه قوله تعالى : (فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) وقوله سبحانه : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) وفي الكشف إن هذا نظير ما تستدل بحجة فيقول الخصم : هذا باطل فتأتي بحجة أوضح من الأول مسكتة وتقول : أفباطل هذا؟! تعيره بالإلزام بأن مقالته الأولى كانت باطلة ، وفي مثله جاز أن يقدر القول على معنى أفتقول باطل هذا وأن لا يقدر لابتنائه على كلام الخصم وهذا أبلغ ، و (أَمْ) كما هو الظاهر منقطعة ، وفي البحر لما قيل لهم : هذه النار وقفوا على الجهتين اللتين يمكن منهما دخول الشك في أنها النار وهي إما أن يكون ثمّ سحر يلبس ذات المرأى ، وإما أن يكون في ناظر الناظر اختلال ، والظاهر أنه جعل (أَمْ) معادلة والأول أبعد مغزى.

(اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) أي ادخلوها وقاسوا شدائدها فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه.

(سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي الأمران سواء عليكم في عدم النفع إذ كل لا يدفع العذاب ولا يخففه ـ فسواء ـ خبر مبتدأ محذوف وصح الإخبار به عن المثنى لأنه مصدر في الأصل ، وجوز كونه مبتدأ محذوف الخبر وليس بذاك ، وقوله تعالى : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعليل للاستواء فإن الجزاء حيث كان متحتم الوقوع لسبق الوعيد به وقضائه سبحانه إياه بمقتضى عدله كان الصبر وعدمه مستويين في عدم النفع.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) شروع في ذكر حال المؤمنين بعد ذكر حال الكافرين كما هو عادة القرآن الجليل في الترهيب والترغيب ، وجوز أن يكون من جملة المقبول للكفار إذ ذاك زيادة في غمهم وتنكيدهم والأول أظهر ، والتنوين في الموضعين للتعظيم أي في جنات عظيمة ونعيم عظيم ، وجوز أن يكون للنوعية أي نوع من الجنات ونوع من النعيم مخصوصين بهم وكونه عوضا عن المضاف إليه أي جناتهم ونعيمهم ليس بالقوي كما لا يخفى.

(فاكِهِينَ) متلذذين (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) من الإحسان ، وقرئ ـ فكهين ـ بلا ألف ، ونصبه في القراءتين على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور أعني من جنات الواقع خبرا لأن ، وقرأ خالد ـ فاكهون ـ بالرفع على أنه الخبر ، وفي جنات متعلق به لكنه قدم عليه للاهتمام ، ومن أجاز بعدد الخبر أجاز أن يكون خبرا بعد خبر (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) عطف على «في جنات» على تقدير كونه خبرا كأنه قيل : استقروا (فِي جَنَّاتٍ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ) إلخ ، أو على (آتاهُمْ) إن جعلت (ما) مصدرية أي فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم ، ولم يجوز كثير عطفه عليه إن جعلت موصولة إذ يكون التقدير فاكهين بالذي وقاهم ربهم فلا يكون راجع إلى الموصول ، وجوزه بعض بتقدير الراجع أي وقاهم به على أن الباء للملابسة ، وفي الكشف لم يحمل على حذف الراجع لكثرة الحذف ولو درج نصا. والفعل من المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل وهو مسموع عند بعضهم ، ولا يخفى أنه وجه سديد أيضا ، والمعنى عليه أسد لأن الفكاهة تلذذ يشتغل به صاحبه والتلذذ بالإيتاء يحتمل التجدد باعتبار تعدد المؤتى إما بالوقاية أي على تقدير المصدرية فلا ، وأقول لعله هو المنساق إلى الذهن ، وجوز أن يكون حالا بتقدير قد أو بدونه إما من المستكن في الخبر أو في الحال. وإما من فاعل آتى أو من مفعوله. أو منهما ، وإظهار الرب في موقع

٣١

الإضمار مضافا إلى ضميرهم للتشريف والتعليل. وقرأ أبو حيوة «وقّاهم» بتشديد القاف (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أي يقال لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أكلا وشربا هنيئا ، أو طعاما وشرابا هنيئا ، فالكلام بتقدير القول : و (هَنِيئاً) نصب على المصدرية لأنه صفة مصدر. أو على أنه مفعول به ، وأيا ما كان فقد تنازعه الفعلان ، والهنيء كل ما لا يلحق فيه مشقة ولا يعقب وخامة (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بسببه أو بمقابلته والباء عليهما متعلق ـ بكلوا واشربوا ، على التنازع ، وجوز الزمخشري كونها زائدة وما بعدها فاعل هنيئا كما في قول كثير :

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزة من أعراضنا ما استحلت (١)

فإن ما فيه فاعل هنيئا على أنه صفة في الأصل بمعنى المصدر المحذوف فعله وجوبا لكثرة الاستعمال كأنه قيل : هنؤ لعزة المستحل من أعراضنا ، وحينئذ كما يجوز أن يجعل ما هنا فاعلا على زيادة الباء على معنى هنأكم ما كنتم تعملون يجوز أن يجعل الفاعل مضمرا راجعا إلى الأكل أو الشرب المدلول عليه بفعله ، وفيه أن الزيادة في الفاعل لم تثبت سماعا في السعة في غير فاعل كفى على خلاف ولا هي قياسية في مثل هذا ومع ذلك يحتاج الكلام إلى تقدير مضاف أي جزاء ما كنتم إلخ ، وفيه نوع تكلف (مُتَّكِئِينَ) نصب على الحال قال أبو البقاء : من الضمير في (كُلُوا) أو في (وَقاهُمْ) أو في (آتاهُمْ) أو في (فاكِهِينَ) أو في الظرف يعني في جنات ، واستظهر أبو حيان الأخير (عَلى سُرُرٍ) جمع سرير معروف ، ويجمع على أسرّة وهو من السرور إذ كان لأولي النعمة ، وتسمية سرير الميت به للتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله تعالى وخلاصه من سجن الدنيا ، وقرأ أبو السمال سرر بفتح الراء وهي لغة لكلب في المضعف فرارا من توالي ضمتين مع التضعيف.

(مَصْفُوفَةٍ) مجعولة على صف وخط مستو (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي قرناهم بهن ـ قاله الراغب ـ ثم قال : ولم يجىء في القرآن زوجناهم حورا كما يقال زوجته امرأة تنبيها على أن ذلك لا يكون على حسب المتعارف فيما بيننا من المناكحة ، وقال الفراء : تزوجت بامرأة لغة أزد شنوءة ، والمشهور أن التزوج متعد إلى مفعول واحد بنفسه والتزويج متعد بنفسه إلى مفعولين ، وقيل : فيما هنا أن الباء لتضمين الفعل معنى القرآن أو الإلصاق ، واعترض بأنه يقتضي معنى التزويج بالعقد وهو لا يناسب المقام إذ العقد لا يكون في الجنة لأنها ليست دار تكليف أو أنها للسببية والتزويج ليس بمعنى الإنكاح بل بمعنى تصييرهم زوجين زوجين أي صيرناهم كذلك بسبب حور عين ، وقرأ عكرمة بحور عين على إضافة الموصوف إلى صفته بالتأويل المشهور ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) إلخ كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهل الجنة إثر بيان حال الكل وهم الذين شاركتهم ذريتهم في الإيمان ، والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم ، وقوله تعالى : (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) عطف على آمنوا ، وقيل اعتراض للتعليل ، وقوله تعالى : (بِإِيمانٍ) متعلق بالاتباع أي أتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة قاصر عن رتبة إيمان الآباء إما بنفسه بناء على تفاوت مراتب نفس الإيمان ، وإما باعتبار عدم انضمام أعمال مثل أعمال الآباء اليه ، واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل أصالة لا إلحاقا قيل : هو حال من الذرية ، وقيل : من الضمير وتنوينه للتعظيم ، وقيل : منهما وتنوينه للتنكير

__________________

(١) هذا البيت من قصيدة مشهورة لكثير أولها

خليلي هذا ربع عزة فاعقلا

قلوصيكما ثم احللا حيث حلت

قيل كان كثير في حلقة البصرة ينشد أشعاره فمرت به عزة مع زوجها فقال لها : اغضبيه فاستحيت من ذلك فقال لتغضبنه أو لأضربنك فدنت من الحلقة فأغضبته ، وذلك أن قالت : هذا وهذا بفم الشاعر فقال ذلك.

٣٢

والمعول عليه ما قدمنا (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) في الدرجة. أخرج سعيد بن منصور وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : «إن الله تعالى ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ثم قرأ الآية» وأخرجه البزار وابن مردويه عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وفي رواية ابن مردويه والطبراني عنه أنه قال : «إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به» وقرأ ابن عباس الآية ، وظاهر الاخبار أن المراد بإلحاقهم بهم إسكانهم معهم لا مجرد رفعهم إليهم واتصاله بهم أحيانا ولو للزيارة. وثبوت ذلك على العموم لا يبعد من فضل الله عزوجل ، وما قيل : لعله مخصوص ببعض دون بعض تحجير لإحسانه الواسع جل شأنه ، وقد يستأنس للتخصيص بما روي عن ابن عباس إن الذين آمنوا المهاجرون والأنصار ، والذرية التابعون لكن لا أظن صحته (وَما أَلَتْناهُمْ) أي وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق (مِنْ عَمَلِهِمْ) أي من ثواب عملهم (مِنْ شَيْءٍ) أي شيئا بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنقص مثوباتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان ، وقال ابن زيد ـ الضمير عائد على الأبناء أي وما نقصنا الأبناء الملحقين من جزاء عملهم الحسن والقبيح شيئا بل فعلنا ذلك بهم بعد مجازاتهم بأعمالهم كملا ـ وليس بشيء وإن قال أبو حيان يحسن هذا الاحتمال قوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) وإلى الأول ذهب ابن عباس وابن جبير والجمهور والآية على ما ذهب إليه المعظم في الكبار من الذرية ، وقال منذر بن سعيد : هي في الصغار.

وروي عن الحبر والضحاك أنهما قالا : إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار وإن لم يبلغوا زمن الإيمان بآبائهم المؤمنين ، وجعل بإيمان عليه متعلقا بألحقنا أي ألحقنا بسبب إيمان الآباء بهم ذريتهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف فهم في الجنة مع آبائهم قيل : وكأن من يقول بذلك يفسر (اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) بماتوا ودرجوا على أثرهم قبل أن يبلغوا الحلم ، وجوز أن يتعلق بإيمان باتبعتهم على معنى اتبعوهم بهذا الوصف بأن حكم لهم به تبعا لآبائهم فكانوا مؤمنين حكما لصغرهم وإيمان آبائهم ، والصغير يحكم بإيمانه تبعا لأحد أبويه المؤمن والكل كما ترى ، وقيل : الموصول معطوف على حور ، والمعنى قرنّاهم بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ؛ وأخرى بمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وقوله تعالى : (وَاتَّبَعَتْهُمْ) عطف على (زَوَّجْناهُمْ) وقوله سبحانه : (بِإِيمانٍ) متعلق بما بعده أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم ، أو بسبب إيمان داني المنزلة وهو إيمان الذرية كأنه قيل : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم ، وصنيع الزمخشري ظاهر في اختيار العطف على حور فقد ذكره وجها أول ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتخيل ذلك أحد غير هذا الرجل ، وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح كابن عباس وغيره ، وقيل عليه : إنه تعصب منه ، والإنصاف أن المتبادر الاستئناف ، وإن أحسن الأوجه في الآية وأوفقه للمقام ما تقدم.

وقرأ أبو عمرو «وأتبعناهم» بقطع الهمزة وفتحها ، وإسكان التاء ، ونون بعد العين وألف بعدها أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان ، وقرأ أيضا ذرياتهم جمعا نصبا ، وابن عامر كذلك رفعا ، وقرأ «ذرّيّاتهم» بكسر الذال «واتبعتهم ذريتهم» بتاء الفاعل ، ونصب ذريتهم على المفعولية ، وقرأ الحسن وابن كثير «ألتناهم» بكسر اللام من ألت يألت كعلم يعلم ، وعلى قراءة الجمهور من باب ضرب يضرب ، وابن هرمز آلتناهم بالمدمن آلت يؤلت ، وابن مسعود وأبيّ لتناهم من لات يليت وهي قراءة طلحة والأعمش ، ورويت عن شبل وابن كثير ، وعن طلحة والأعمش أيضا ـ لتناهم ـ بفتح

٣٣

اللام ، قال سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال وأنكر أيضا آلتناهم بالمد ، وقال : لا يروى عن أحد ولا يدل عليه تفسير ولا عربية ـ وليس كما قال ـ بل نقل أهل اللغة آلت بالمد كما قرأ هرمز ، وقرئ وما ولتناهم من ولت يلت ، ومعنى الكل واحد ، وجاء ألت بمعنى غلظ يروى أن رجلا قام إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوعظه فقال : لا تألت على أمير المؤمنين أي لا تغلظ عليه (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ) أي بكسبه وعمله (رَهِينٌ) أي مرهون عند الله كأن الكسب بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن ولا ينفك الرهن ما لم يؤد الدين فإن كان العمل صالحا فقد أدى لأن العمل الصالح يقبله ربه سبحانه ويصعد إليه عزوجل وإن كان غير ذلك فلا أداء فلا خلاص إذ لا يصعد إليه سبحانه غير الطيب ، ولذا قال جل وعلا : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) [المدثر : ٣٨ ، ٣٩] فإن المراد كل نفس رهن بكسبها عند الله تعالى غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم ،

ووجه الاتصال على هذا أنه سبحانه لما ذكر حال المتقين وأنه عزوجل وفر عليهم ما أعده لهم من الثواب والتفضل عقب بذلك الكلام ليدل على أنهم فكوا رقابهم وخلصوها وغيرهم بقي معذبا لأنه لم يفك رقبته ، وكان موضعه من حيث الظاهر أن يكون عقيب قوله تعالى : (هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور : ٢٨] ليكون كلاما راجعا إلى حال الفريقين ـ المدعوعين. والمتقين ـ وإنما جعل متخللا بين أجزية المتقين عقيب ذكر توفير ما أعدّ لهم ، قال في الكشف : ليدل على أن الخلاص من بعض أجزيتهم أيضا ويلزم أن عدم الخلاص جزاء المقابلين من طريق الإيماء وموقعه موقع الاعتراض تحقيقا لتوفير ما عدد لأنه إنما يكون بعد الخلاص ، وفيه إيماء إلى أن إلحاق الأبناء إنما كان تفضلا على الآباء لا على الأبناء ابتداء لأن التفضل فرع الفك وهؤلاء هم الذين فكوا فاستحقوا التفضل ، وجعله استئنافا بيانيا لهذا المعنى كما فعل الطيبي بعيد ، وقيل : (رَهِينٌ) فعيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امرئ بما كسب راهن أي دائم ثابت ، وفي الإرشاد أنه أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله ، ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء ، فالجملة تعليل لما قبلها ، وأنت تعلم أن فعيلا بمعنى المفعول أسرع تبادرا إلى الذهن فاعتباره أولى ووجه الاتصال عليه أوفق وألطف كما لا يخفى.

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ

٣٤

الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩)

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي وزدناهم على ما كان لهم من مبادي التنعم وقتا فوقتا مما يشتهون من فنون النعماء وألوان الآلاء ، وأصل المدّ الجر ، ومنه المدّة للوقت الممتد ثم شاعر في الزيادة ، وغلب الإمداد في المحبوب ، والمدّ في المكروه وكونه وقتا بعد وقت مفهوم المدّ نفسه (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) أي يتجاذبونها في الجنة هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامى بينهم في الدنيا لشدة سرورهم قال الأخطل :

نازعته طيب الراح الشمول وقد

صاح الدجاج وحانت وقعة الساري

وقيل : التنازع مجاز عن التعاطي ، والكأس مؤنث سماعي كالخمر ، ولا تسمى كأسا على المشهور إلا إذا امتلأت خمرا أو كانت قريبة من الامتلاء ، وقد تطلق على الخمر نفسها مجازا لعلاقة المجاورة ، وقال الراغب : الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا ، وفسرها بعضهم هنا بالإناء بما فيه من الخمر ، وبعضهم بالخمر ، والاول أوفق بالتجاذب ، والثاني بقوله سبحانه : (لا لَغْوٌ فِيها) أي في شربها حيث لا يتكلمون في أثناء الشرب بلغو الحديث وسقط الكلام (وَلا تَأْثِيمٌ) ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله أي ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف كما هو ديدن الندامى في الدنيا وإنما يتكلمون بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعله الكرام ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «لا لغو» «ولا تأثيم» بفتحهما (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أي بالكأس (غِلْمانٌ لَهُمْ) أي مماليك مختصون بهم كما يؤذن به اللام ولم يقل غلمانهم بالإضافة لئلا يتوهم أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحدا في الدنيا أن يكون خادما له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعا ، وقيل : أولادهم الذين سبقوهم فالاختصاص بالولادة لا بالملك ، وفيه أن التعبير عنهم بالغلمان غير مناسب وكذا نسبة الخدمة إلى الأولاد لا تناسب مقام الامتنان (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) مصون في الصدف لم تنله الأيدي ـ كما قال ابن جبير ـ ووجه الشبه البياض والصفاء ، وجوز أن يراد بمكنون مخزون لأنه لا يخزن إلا الحسن الغالي الثمن ، أخرج عبد الرزاق ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : «بلغني أنه قيل : يا رسول الله هذا الخادم مثل اللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «والذي نفسي بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وروي «أن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيء ألف ببابه لبيك لبيك».

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي يسأل كل بعض منهم بعضا آخر عن أحواله وأعماله فيكون كل بعض سائلا ومسئولا لا أنه يسأل بعض معين منهم بعضا آخر معينا ثم هذا التساؤل في الجنة كما هو الظاهر. وحكى الطبري عن ابن عباس أنه إذا بعثوا في النفخة الثانية ولا أراه يصح عنه لبعده جدا (قالُوا) أي المسئولون وهم كل واحد منهم في الحقيقة (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) أي قبل هذا الحال (فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) أرقاء القلوب خائفين من عصيان الله عزوجل معتنين بطاعته سبحانه ، أو وجلين من العاقبة ، و (فِي أَهْلِنا) قيل : يحتمل أنه كناية عن كون ذلك في الدنيا ، ويحتمل أن يكون بيانا لكون إشفاقهم كان فيهم وفي أهلهم لتبعيتهم لهم في العادة ويكون قوله تعالى : (فَمَنَ

٣٥

اللهُ عَلَيْنا) أي بالرحمة والتوفيق (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) أي عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم وهو الريح الحارة المعروفة ، ووجه الشبه وإن كان في النار أقوى لكنه في ريح السموم لمشاهدته في الدنيا أعرف فلذا جعل مشبها به ، وقال الحسن : (السَّمُومِ) اسم من أسماء جهنم عاما لهم ولأهلهم ، فالمراد بيان ما منّ الله تعالى به عليهم من اتباع أهلهم لهم ، وقيل : ذكر (فِي أَهْلِنا) لإثبات خوفهم في سائر الأوقات والأحوال بطريق الأولى فإن كونهم بين أهليهم مظنة الأمن ولا أرى فيه بأسا ، نعم كون ذلك لأن السؤال عما اختصوا به من الكرامة دون أهليهم ليست بشيء ، وقيل : لعل الاولى أن يجعل ذلك إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى كما أن قوله عزوجل : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ) إلى آخره إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى وترك العاطف بجعل الثاني بيانا للأول ادعاء للمبالغة في وجوب عدم انفكاك كل منهما للآخر ولا يخفى ما فيه ، والذي يظهر أن هذا إشارة إلى الرجاء وترك العطف لقصد تعداد ما كانوا عليه أي إنا كنا من قبل ذلك نعبده تعالى ونسأله الوقاية (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) أي المحسن ما يدل عليه اشتقاقه من البر بسائر مواده لأنها ترجع إلى الإحسان ـ كبرّ في يمينه ـ أي صدق لأن الصدق إحسان في ذاته ويلزمه الإحسان للغير ، وأبرّ الله تعالى حجه أي قبله لأن القبول إحسان وزيادة ، وأبرّ فلان على أصحابه أي علاهم لأنه غالبا ينشأ عن الإحسان لهم فتفسيره باللطيف كما روي عن ابن عباس ، أو العالي في صفاته ، أو خالق البرّ ، أو الصادق فيما وعد أولياءه كما روي عن ابن جريج بعيد إلا أن يراد بعض ما صدقات ، أو غايات ذلك البر؟ (الرَّحِيمُ) الكثير الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب ، وقرأ أبو حيوة «ووقّانا» بتشديد القاف ، والحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي «أنّه» بفتح الهمزة لتقدير لام الجر التعليلية قبلها أي لأنه (فَذَكِّرْ) فاثبت على ما أنت عليه من التذكير بما أنزل عليك من الآيات والذكر الحكيم ولا تكترث بما يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل.

(فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ) هو الذي يخبر بالغيب بضرب من الظن ، وخص الراغب الكاهن بمن يخبر بالأخبار الماضية الخفية كذلك ، والعرّاف بمن يخبر بالأخبار المستقبلة كذلك ، والمشهور في الكهانة الاستمداد من الجن في الإخبار عن الغيب ، والباء في (بِكاهِنٍ) مزيدة للتأكيد أي ما أنت كاهن (وَلا مَجْنُونٍ) واختلف في باء (بِنِعْمَةِ) فقال أبو البقاء : للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال والعامل فيه كاهن ، أو مجنون ، والتقدير ما أنت كاهن ولا مجنون ملتبسا بنعمة ربك وهي حال لازمة لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبسا بنعمة ربه عزوجل ، وقيل : للقسم فنعمة ربك مقسم به ، وجواب القسم ما علم من الكلام وهو ـ ما أنت بكاهن ولا مجنون ـ وهذا كما تقول : ما زيد والله بقائم وهو بعيد ، والأقرب عندي أن الباء للسببية وهو متعلق بمضمون الكلام ، والمعنى انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله تعالى عليك ، وهذا كما تقول ما أنا معسر بحمد الله تعالى وإغنائه ، والمراد الرد على قائل ذلك ، وإبطال مقالتهم فيه عليه الصلاة والسلام وإلا فلا امتنان عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بانتفاء ما ذكر مع انتفائه عن أكثر الناس ، وقيل : الامتنان بانتفاء ذلك بسبب النعمة المراد بها ما أوتيه صلى الله تعالى عليه وسلم من صدق النبوة ورجاحة العقل التي لم يؤتها أحد قبله ، والقائلون بذلك هم الكفرة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون ، وممن قال كاهن : شيبة بن ربيعة ، وممن قال مجنون : عقبة بن أبي معيط (أَمْ يَقُولُونَ) أي بل أيقولون (شاعِرٌ) أي هو شاعر (نَتَرَبَّصُ) أي ننتظر (بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي الدهر ، وهو فعول من المنّ بمعنى القطع لأنه يقطع الأعمار وغيرها ، ومنه حبل منين أي مقطوع ، والريب مصدر رابه إذا أقلقه أريد به حوادث الدهر وصروفه لأنها تقلق النفوس وعبر عنها بالمصدر مبالغة ، وجوز أن يكون من راب عليه الدهر أي نزل ، والمراد بنزوله إهلاكه ، وتفسير المنون بالدهر مروي عن مجاهد وعليه قول الشاعر :

٣٦

تربص بها ريب المنون لعلها

تطلق يوما أو يموت حليلها

وبيت أبي ذؤيب

أمن المنون وريبه يتوجع

والدهر ليس بمعتب من يجزع

قيل : ظاهره ذلك ، وكذلك قول الأعشى :

أإن رأت رجلا أعشى أضرّ به

ريب المنون ودهر متبل خبل

ولهذا أنشده الجوهري شاهدا له ، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس تفسيره بالموت وهو مشترك بين المعنيين فقد قال المرزوقي في شرح بيت أبي ذؤيب المار آنفا : المنون قد يراد به الدهر فيذكر وتكون الرواية ريبه ، وقد يراد به المنية فيؤنث ، وقد روي ريبها ، وقد يرجع له ضمير الجمع لقصد أنواع المنايا وريبها نزولها انتهى فلا تغفل ، وهو أيضا من المنّ بمعنى القطع فإنها قاطعة الأماني واللذات ، ولذا قيل : المنية تقطع الأمنية ، وريب المنون عليه نزول المنية ، وجوز أن يكون معنى حادث الموت على أن الإضافة بيانية ، روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة وكثرت آراؤهم فيه عليه الصلاة والسلام حتى قال قائل منهم وهم بنو عبد الدار ـ كما قال الضحاك ـ تربصوا به ريب المنون فإنه شاعر سيهلك ما هلك زهير والنابغة والأعشى فافترقوا على هذه المقالة فنزلت ، وقرأ زيد بن علي «يتربّص» بالياء مبنيا للمفعول ، وقرئ «ريب» بالرفع على النيابة.

(قُلْ تَرَبَّصُوا) تهكم بهم ، وتهديد لهم (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي ، وفيه عدة كريمة بإهلاكهم (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) أي عقولهم وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى ـ وذلك على ما قال الجاحظ ـ لأن جميع العالم يأتونهم ويخالطونهم وبذلك يكمل العقل وهو يكمل بالمسافرة وزيادة رؤية البلاد المختلفة والأماكن المتباينة ومصاحبة ذوي الأخلاق المتفاوتة وقد حصل لهم الغرض بدون مشقة ، وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل؟! فقال : تلك عقول كادها الله عزوجل أي لم يصحبها التوفيق فلذا لم يؤمنوا وكفروا ـ وأنا لا أرى في الآية دلالة على رجحان عقولهم ـ ولعلها تدل على ضد ذلك (بِهذا) التناقص في المقال فإن الكاهن والشاعر يكونان ذا عقل تام وفطنة وقادة والمجنون مغطى عقله مختل فكره وهذا يعرب عن أن القوم لتحيرهم وعصبيتهم وقعوا في حيص بيص حتى اضطربت عقولهم وتناقضت أقوالهم وكذبوا أنفسهم من حيث لا يشعرون ، وأمر الأحلام بذلك مجاز عن التأدية إليه بعلاقة السببية كما قيل ، وقيل : جعلت الأحلام آمرة على الاستعارة المكنية فتشبه الأحلام بسلطان مطاع تشبيها مضمرا في النفس ، وتثبت له الأمر على طريق التخييل (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) مجاوزون الحدود في المكابرة والعناد لا يحومون حول الرشد والسداد ولذلك يقولون ما يقولون من الأكاذيب المحصنة الخارجة عن دائرة العقول ، وقرأ مجاهد «بل هم» (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي اختلقه من تلقاء نفسه.

وقال ابن عطية : معناه قال عن الغير إنه قاله فهو عبارة عن كذب مخصوص ، وضمير المفعول للقرآن (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه الأباطيل كيف لا وما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا واحد من العرب فكيف أتى بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) مماثل القرآن في النعوت التي استقل بها من حيث النظم ومن حيث المعنى (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) فيما زعموا فإن صدقهم في ذلك يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم له عليه الصلاة والسلام في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار ، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر ، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ؛ ولا ريب في أن القدرة

٣٧

على الشيء من موجبات الإتيان به ودواعي الأمر بذلك ، فالكلام ردّ للأقوال المذكورة في حقه عليه الصلاة والسلام ، والقرآن بالتحدي فإذا تحدوا وعجزوا علم رد ما قالوه وصحة المدّعى ، وجوز أن يكون ردّا لزعمهم التقول خاصة فإن غيره مما تقدم حتى الكهانة كما لا يخفى أظهر فسادا منه ومع ذلك إذا ظهر فساد زعم التقول ظهر فساد غيره بطريق اللزوم ، وقرأ الجحدري ، وأبو السمال بحديث مثله على الاضافة أي بحديث رجل مثل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في كونه أميا لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده ، أو مثله في كونه واحدا منهم فلا يعوز أن يكون في العرب مثله في الفصاحة فليأت بمثل ما أتى به ولن يقدر على ذلك أبدا (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي أم أحدثوا وقدروا هذا التقدير البديع من غير مقدر وخالق ، وقال الطبري : المراد أم خلقوا من غير شيء حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كالجمادات ، وقيل : المعنى أم خلقوا من غير علة ولا لغاية ثواب وعقاب فهم لذلك لا يسمعون ، و (مِنْ) عليه للسببية ، وعلى ما تقدم لابتداء الغاية والمعول عليه من الأقوال ما قدمنا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح له ، ويؤيده قوله سبحانه : (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أي الذين خلقوا أنفسهم فلذلك لا يعبدون الله عزوجل ولا يلتفتون إلى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ على القولين لا يظهر حسن المقابلة ، وإرادة خلقوا أنفسهم يشعر به قوله تعالى : (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الطور : ٣٦] إذ لو أريد العموم لعدم ذكر المفعول لم يظهر حسن المقابلة أيضا ، وقال ابن عطية : المراد أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ثم خص من تلك الأشياء السماوات والأرض لعظمهما وشرفهما في المخلوقات وفيه ما سمعته (بَلْ لا يُوقِنُونَ) أي إذا سئلوا من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا : الله وهم غير موقنين بما قالوا إذ لو كانوا موقنين لما أعرضوا عن عبادته تعالى فإن من عرف خالقه وأيقن به امتثل وانقاد له (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) أي خزائن رزقه تعالى ورحمته حتى يرزقوا النبوة من شاءوا ، ويمسكوها عمن شاءوا ، وقال الرماني : خزائنه تعالى مقدوراته سبحانه ، وقال ابن عطية : المعنى أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور لأن المال والصحة والعزة وغير ذلك من الأشياء من خزائن الله تعالى ، وقال الزهري : يريد بالخزائن العلم واستحسنه أبو حيان ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم حاله منه (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم فالمسيطر الغالب ، وفي معناه قول ابن عباس : المسلط القاهر وهو من سيطر على كذا إذا راقبه وأقام عليه وليس مصغرا كما يتوهم ولم يأت على هذه الزنة إلا خمسة ألفاظ أربعة من الصفات ، وهي مهيمن ومسيطر ومبيقر ومبيطر ، وواحد من الأسماء وهو مجيمر اسم جبل ، وقرأ الأكثر (الْمُصَيْطِرُونَ) بالصاد لمكان حرف الاستعلاء وهو الطاء ، وأشم خلف عن حمزة وخلاد عنه بخلاف الزاي (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) هو ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل اسما لكل ما يتوصل به إلى شيء رفيع كالسبب أي أم لهم سلم منصوب إلى السماء (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) أي صاعدين فيه على أن الجار والمجرور متعلق بكون خاص محذوف وقع حالا والظرفية على حقيقتها ، وقيل : هو متعلق ـ بيستمعون ـ على تضمينه معنى الصعود.

وقال أبو حيان : أي يستمعون عليه أو منه إذ حروف الجر قد يسدّ بعضها مسدّ بعض ومفعول (يَسْتَمِعُونَ) محذوف أي كلام الله تعالى ، قيل : ولو نزل منزلة اللازم جاز (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة واضحة تصدق استماعه (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) تسفيه لهم وتركيك لعقولهم ، وفيه إيذان بأن من هذا رأيه لا يكاد يعدّ من العقلاء فضلا عن الترقي إلى عالم الملكوت وسماع كلام ذي العزة والجبروت والالتفات إلى الخطاب لتشديد الإنكار والتوبيخ (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) أي على تبليغ الرسالة وهو رجوع إلى خطابه صلى الله تعالى عليه وسلم وإعراض عنهم (فَهُمْ) لأجل ذلك (مِنْ مَغْرَمٍ) مصدر ميمي

٣٨

من الغرم والغرامة وهو ـ كما قال الراغب ـ ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه ، فالكلام بتقدير مضاف أي من التزام مغرم ، وفسره الزمخشري بالتزام الإنسان ما ليس عليه فلا حاجة إلى تقدير ـ لكن الذي تقتضيه اللغة هو الأول ـ (مُثْقَلُونَ) أي محملون الثقل فلذلك لا يتبعونك (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي اللوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) منه ويخبرون به الناس ـ قاله ابن عباس ـ وقال ابن عطية : أم عندهم علم الغيب فهم يثبتون ما يزعمون للناس شرعا ، وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم ، وقال قتادة : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) فهم يعلمون متى يموت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذي يتربصون به ، وفسر بعضهم (يَكْتُبُونَ) بيحكمون (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) بك وبشرعك وهو ما كان منهم في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدار الندوة مما هو معلوم من السير ، وهذا من الإخبار بالغيب فإن قصة دار الندوة وقعت في وقت الهجرة وكان نزول السورة قبلها كما تدل عليه الآثار (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) هم المذكورون المريدون كيده عليه الصلاة والسلام ، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وتعليل الحكم به ، وجوز أن يراد جميع الكفرة وهم داخلون فيه دخولا أوليا (هُمُ الْمَكِيدُونَ) أي الذين يحيق بهم كيدهم ويعود عليهم وباله لا من أرادوا أن يكيدوه وكان وباله في حق أولئك قتلهم يوم بدر في السنة الخامسة عشر من النبوة قيل : ولذا وقعت كلمة (أَمْ) مكررة هنا خمس عشرة مرة للإشارة لما ذكر ، ومثله على ما قال الشهاب : لا يستبعد من المعجزات القرآنية وإن كان الانتقال لمثله خفي ومناسبته أخفى ، وجوز أن يكون المعنى هم المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يعينهم ويحرسهم من عذابه عزوجل.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن إشراكهم على أن ما مصدرية ، أو عن شركة الذي يشركونه على أنها موصولة وقبلها مضاف مقدر والعائد محذوف (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً) قطعة فهو مفرد وقد قرئ في جميع القرآن كسفا وكسفا جمعا وإفرادا إلا هنا فإنه على الإفراد وحده ، وتنوينه للتفخيم أي وإن يروا كسفا عظيما (مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) لتعذيبهم (يَقُولُوا) من فرط طغيانهم وعنادهم (سَحابٌ) أي هو سحاب (مَرْكُومٌ) متراكم ملقى بعضه على بعض أي هم في الطغيان بحيث لو أسقطنا عليهم حسبما قالوا ، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا لقالوا هو سحاب متراكم يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقط لعذابهم (فَذَرْهُمْ) فدعهم غير مكترث بهم وهو على ما في البحر أمر موادعة منسوخ بآية السيف (حَتَّى يُلاقُوا) وقرأ أبو حيوة يلقوا مضارع لقى (يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) على البناء للمفعول وهي قراءة عاصم وابن عامر وزيد بن علي وأهل مكة في قول شبل بن عباد : من صعقته الصاعقة ، أو من أصعقته ، وقرأ الجمهور وأهل مكة في قول إسماعيل : يصعقون بفتح الياء والعين ، والسلمي بضم الياء وكسر العين من أصعق رباعيا والمراد بذلك اليوم يوم بدر ، وقيل : وقت النفخة الأولى فإنه يصعق فيه من في السماوات ومن في الأرض ، وتعقب بأنه لا يصعق فيه إلا من كان حيا حينئذ وهؤلاء ليسوا كذلك وبأن قوله تعالى : (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي شيئا من الإغناء بدل من يومهم ، ولا يخفى أن التعرّض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعي استعمالهم له طمعا بالانتفاع به وليس ذلك إلا ما دبروه في أمره صلى الله تعالى عليه وسلم من الكيد الذي من جملته مناصبتهم يوم بدر ، وأما النفخة الأولى فليست مما يجرى في مدافعته الكيد والحيل ، وأجيب عن الأول بمنع اختصاص الصعق بالحي فالموتى أيضا يصعقون وهم داخلون في عموم «من» وإن لم يكن صعقهم مثل صعق الأحياء من كل وجه وهو خلاف الظاهر فيحتاج إلى نقل صحيح ، عن الثاني بأن الكلام على نهج قوله :

٣٩

على لاحب لا يهتدى بمناره

فالمعنى يوم لا يكون لهم كيد ولا إغناء وهو كثير في القرآن وباب من أبواب البلاغة والإحسان ، وقيل : هو يوم القيامة ـ وعليه الجمهور ـ وفيه بحث ، وقيل : هو يوم موتهم ، وتعقب بأن فيه ما فيه مع أنه تأباه الإضافة المنبئة عن اختصاصه بهم فلا تغفل (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) من جهة الغير في دفع العذاب عنهم (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي لهم ووضع الموصول موضع الضمير لما ذكر قبل وجوز العموم وهم داخلون دخولا أوليا (عَذاباً) آخر (دُونَ ذلِكَ) دون ما لاقوه من القتل أي قبله وهو ـ كما قال مجاهد ـ القحط الذي أصابهم سبع سنين.

وعن ابن عباس هو ما كان عليهم يوم بدر والفتح ، وفسر (دُونَ ذلِكَ) بقبل يوم القيامة بناء على كون يومهم الذي فيه يصعقون ذلك ، وعنه أيضا. وعن البراء بن عازب أنه عذاب القبر وهو مبني على نحو ذلك التفسير ، وذهب إليه بعضهم بناء على أن (دُونَ ذلِكَ) بمعنى وراء ذلك كما في قوله :

يريك القذى من دونها

وهو دونها وإذا فسر اليوم بيوم القيامة ونحوه ، و (دُونَ ذلِكَ) بقبله ، وأريد العموم من الموصول فهذا العذاب عذاب القبر ، أو المصائب الدنيوية ، وفي مصحف عبد الله ـ دون ذلك تقريبا ـ (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) إن الأمر كما ذكر ، وفيه إشارة إلى أن فيهم من يعلم ذلك وإنما يصر على الكفر عنادا ، أو لا يعملون شيئا.

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) بإمهالهم إلى يومهم الموعود وإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان ومعاناة الهموم (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي في حفظنا وحراستنا ، فالعين مجاز عن الحفظ ، ويتجوز بها أيضا عن الحافظ وهو مجاز مشهور ، وفي الكشاف هو مثل أي بحيث نراك ونكلؤك ، وجمع العين هنا لإضافته إلى ضمير الجمع ووحد في «طه» لإضافته إلى ضمير الواحد ، ولوح الزمخشري ـ في سورة المؤمنين ـ إلى أن فائدة الجمع الدلالة على المبالغة في الحفظ كأن معه من الله تعالى حفاظا يكلئونه بأعينهم ، وقال العلامة الطيبي : إنه أفرد هنالك لإفراد الفعل وهو كلاءة موسى عليه‌السلام ، وهاهنا لما كان لتصبير الحبيب على المكايد ومشاق التكاليف والطاعات ناسب الجمع لأنها أفعال كثيرة كل منها يحتاج إلى حراسة منه عزوجل انتهى ، ومن نظر بعين بصيرته علم من الآيتين الفرق بين الحبيب والكليم عليهما أفضل الصلاة وأكمل التسليم ، ثم إن الكلام في نظير هذا على مذهب السلف مشهور ، وقرأ أبو السمال «بأعينّا» بنون مشددة (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي قل سبحان الله ملتبسا بحمده تعالى على نعمائه الفائتة الحصر ، والمراد سبحه تعالى واحمده (حِينَ تَقُومُ) من كل مجلس قاله عطاء ومجاهد وابن جبير ، وقد صح من رواية أبي داود والنسائي وغيرهما عن أبي برزة الأسلمي «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إذا أراد أن يقوم من المجلس : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك فسئل عن ذلك فقال : كفارة لما يكون في المجلس»والآثار في ذلك كثيرة ، وقيل : حين تقوم إلى الصلاة ، أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال : «حق على كل مسلم حين يقوم إلى الصلاة أن يقول : سبحان الله وبحمده لأن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ)» وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن الضحاك أنه قال في الآية : حين تقوم إلى صلاة تقول هؤلاء الكلمات «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك» وحكاه في البحر عن ابن عباس ؛ وأخرج عنه ابن مردويه أنه قال : «سبح بحمد ربك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة» وروي نحوه عن ابن السائب ، وقال زيد أسلم : «حين تقوم من القائلة والتسبيح إذ ذاك هو صلاة الظهر» وقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) إفراد لبعض الليل بالتسبيح لما أن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء كما

٤٠