روح المعاني - ج ١٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

الخمس يصرف لمصالح المسلمين كالثغور ، وقضاة البلاد والعلماء المشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو مبتدءين ، والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء ، وسائر من يشتغل عن نحو كسبه بمصالح المسلمين لعموم نفعهم ، وألحق بهم العاجزون عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبرا سعة المال وضيقه ، ويقدم الأهم فالأهم وجوبا وأهمها سد الثغور ، ورد سهمه صلّى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته للمسلمين الدال عليه قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر الصحيح : «مالي مما أفاء الله تعالى عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم» صادق بصرفه لمصالح المسلمين كما أنه صادق بضمه إلى السهام الباقية فيقسم معها على سائر الأصناف ، ولا يسلم ظهوره في هذا دون ذاك ، وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل فهذه خمسة أسهم الخمس ، والمراد بذي القربى قرابته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بهم بنو هاشم وبنو المطلب لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضع السهم فيهم دون بني أخيهما شقيقهما عبد شمس ، ومن ذريته عثمان وأخيهما لأبيهما نوفل مجيبا عن ذلك بقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم : «نحن وبنو المطلب شيء واحد» وشبك بين أصابعه رواه البخاري أي لم يفارقوا بني هاشم في نصرته صلّى الله تعالى عليه وسلم جاهلية ولا إسلاما ، وكأنه لمزيد تعصبهم وتوافقهم ـ حتى كأنهم على قلب رجل واحد ـ قيل : لذي القربى دون لذوي بالجمع.

قال الشافعية : يشترك في هذا السهم الغني والفقير لإطلاق الآية ولإعطائه صلّى الله تعالى عليه وسلم العباس وكان غنيا ، بل قيل : كان له عشرون عبدا يتجرون له ، والنساء لأن فاطمة وصفية عمة أبيها رضي الله تعالى عنهما كانا يأخذان منه ، ويفضل الذكر كالإرث بجامع أنه استحقاق بقرابة الأب فله مثل حظّي الأنثى ، ويستوي فيه العالم والصغير وضدهما ، ولو أعرضوا عنه لم يسقط كالارث ، ويثبت كون الرجل هاشميا أو مطلبيا بالبينة ، وذكر جمع أنه لا بد معها من الاستفاضة ، وبقول الشافعي قال أحمد ، وعند مالك الأمر مفوض إلى الإمام إن شاء قسم بينهم وإن شاء أعطى بعضهم دون بعض وإن شاء أعطى غيرهم وإن كان أمره أهم من أمرهم.

وقال المزني والثوري : يستوي الذكر والأنثى ويدفع للقاصي والداني ممن له قرابة ، والغني والفقير سواء لإطلاق النص ، ولأن الحكم المعلق بوصف مشتق معلل بمبدإ الاشتقاق ، وعندنا ذو القربى مخصوص ببني هاشم وبني المطلب للحديث إلا أنهم ليس لهم سهم مستقل ولا يعطون مطلقا ، وإنما يعطى مسكينهم ويتيمهم وابن سبيلهم لاندراجه في (الْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) لكن يقدمون على غيرهم من هذه الأصناف لأن الخلفاء الثلاثة لم يخرجوا لهم سهما مخصوصا ، وإنما قسموا الخمس ثلاثة أسهم : سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل ، وعلي كرم الله تعالى وجهه في خلافته لم يخالفهم في ذلك مع مخالفته لهم في مسائل ، ويحمل على الرجوع إلى رأيهم إن صح عنه أنه كان يقول : سهم ذوي القربى على ما حكي عن الشافعي ، وفائدة ذكرهم على القول بأن استحقاقهم لوصف آخر غير القرابة كالفقر دفع توهم أن الفقير منهم مثلا لا يستحق شيئا لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم ، ومن تتبع الأخبار وجد فيها اختلافا كثيرا ؛ ومنها ما يدل على أن الخلفاء كانوا يسهمونهم مطلقا ، وهو رأي علماء أهل البيت ، واختار بعض أصحابنا أن المذكور في الآية مصارف الخمس على معنى أن كلا يجوز أن يصرف له لا المستحقين فيجوز الاقتصار عندنا على صنف واحد كأن يعطى تمام الخمس لابن السبيل وحده مثلا.

والكلام مستوفى في شروح الهداية ، والمراد باليتامى الفقراء منهم قال الشافعية : اليتيم هو صغير لا أب له وإن كان له جد ، ويشترط إسلامه وفقره ، أو مسكنته على المشهور أن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة ، وفائدة ذكرهم مع شمول المساكين لهم عدم حرمانهم لتوهم أنهم لا يصلحون للجهاد وإفرادهم بخمس كامل ويدخل فيهم ولد الزنا ، والمنفي لا اللقيط على الأوجه لأنا لم نتحقق فقد أبيه على أنه غني بنفقته في بيت المال ، ولا بد في ثبوت اليتيم والإسلام

٢٤١

والفقر هنا من البينة ، ويكفي في المسكين وابن السبيل قولهما ولو بلا يمين وإن اتهما ، نعم يظهر في مدعي تلف مال له عرف أو عيال أنه يكلف بينة انتهى ، واشتراط الفقر في اليتيم مصرح به عندنا في أكثر الكتب وليراجع الباقي.

هذا والأربعة الأخماس الباقية مصرفها على ما قال صاحب الكشف ـ وهو شافعي ـ بعد أن اختار جعل (لِلْفُقَراءِ) بدلا من ذي (الْقُرْبى) وما عطف عليه من تضمنه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا) إلى قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسب اختياره ، وقال : إنها للمقاتلين الآن على الأصح ، وفي تحفة ابن حجر أنها على الأظهر للمرتزقة وقضاتهم وأئمتهم ومؤذنيهم وعمالهم ما لم يوجد تبرع ، والمرتزقة الأجناد المرصودون في الديوان للجهاد لحصول النصرة بهم بعدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصرح في التحفة بأن الأكثرين على أن هذه الأخماس الأربعة كانت له عليه الصلاة والسلام مع خمس الخمس ، فجملة ما كان يأخذه صلى الله تعالى عليه وسلم من الفيء أحد وعشرون سهما من خمسة وعشرين ، وكان على ما قال الروياني : يصرف العشرين التي له عليه الصلاة والسلام يعني الأربعة الأخماس للمصالح وجوبا في قول وندبا في آخر ، وقال الغزالي : كان الفيء كله له صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته ، وإنما خمس بعد وفاته.

وقال الماوردي : كان له صلّى الله تعالى عليه وسلم في أول حياته ثم نسخ في آخرها ، وقال الزمخشري : إن قوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ) إلخ بيان للجملة الأولى يعني قوله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) ولذا لم يدخل العاطف عليها بين فيها لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله تعالى عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوما على الأقسام الخمسة ، وظاهره أن الجملة استئناف بياني ، والسؤال عن مصارف ما أفاء الله تعالى على رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم من بني النضير الذي أفادت الجملة الأولى أن أمره مفوض إليه صلّى الله تعالى عليه وسلم لا يلزم أن يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها قتالا معتدا به ، وأخذت عنوة وقهرا كما طلب الغزاة لتكون أربعة أخماسها لهم وأن ما يوضع موضع الخمس من الغنائم هو الكل لا أن خمسة كذلك والباقي ـ وهو أربعة أخماسه ـ لمن تضمنه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا) إلى قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) على ما سمعت سابقا ، وأن المراد بأهل القرى هو المراد بالضمير في (مِنْهُمْ) أعني بني النضير ، وعدل عن الضمير إلى ذلك ـ على ما في الإرشاد ـ إشعارا بشمول ما في (ما أَفاءَ اللهُ) لعقاراتهم أيضا ، واعترض صاحب الكشف ما يشعر به الظاهر من أن الآية دالة على أمره صلّى الله تعالى عليه وسلم بأن يضع الجميع حيث يضع الخمس من الغنائم ، ووجه الآية بما أيد به مذهبه ، ودقق الكلام في ذلك فليراجع وليتدبر.

وقال ابن عطية (أَهْلِ الْقُرى) المذكورون في الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى ، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة وحكمها مخالف لحكم أموال بني النضير فإن تلك كلها له صلّى الله تعالى عليه وسلم خاصة ، وهذه قسمها كغيرها ، وقيل : المراد بما أفاء الله على رسوله خيبر ، وكان نصفها لله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم ونصفها الآخر للمسلمين فكان الذي لله سبحانه ورسوله عليه الصلاة والسلام من ذلك الكتيبة والوطيح وسلالم ووخدة ، وكان الذي للمسلمين الشق ، وكان ثلاثة عشر سهما ، ونطاة وكانت خمسة أسهم ، ولم يقسم عليه الصلاة والسلام من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية ، ولم يأذن صلّى الله تعالى عليه وسلم لأحد تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري ، وروي هذا عن ابن عباس ، وخص بعضهم ما أفاء الله تعالى بالجزية والخراج.

وعن الزهري أنه قال : بلغني أنه ذلك ، وأنت قد سمعت أن عمر رضي الله تعالى عنه إنما احتج بهذه الآية على

٢٤٢

إبقاء سواد العراق بأيادي أهله ، وضرب الخراج والجزية عليهم ردا على من طلب قسمته على الغزاة بعلوجه لكن ليس ذلك إلا لأن وصول نفع ما أفاء الله تعالى إلى عامة المسلمين كان بما ذكر دون القسمة فافهم.

وفي إعادة اللام في الرسول وذي القربى مع العاطف ما لا يخفى من الاعتناء ، وفيه على ما قيل : تأييد ما لمن يذهب إلى عدم سقوط سهميهما ، ووجه إفراد ذي القربى ـ قد ذكرناه غير بعيد ـ ولما كان أبناء السبيل بمنزلة الأقارب قبل : (وَابْنِ السَّبِيلِ) بالإفراد كما قيل : (وَلِذِي الْقُرْبى) وعلى ذلك قوله :

أيا جارتا إنا غريبان هاهنا

وكل غريب للغريب نسيب

(كَيْ لا يَكُونَ) تعليل للتقسيم ، وضمير (يَكُونَ) لما أفاء الله تعالى أي كيلا يكون الفيء (دُولَةً) هي بالضم ، وكذا بالفتح ما يدول أي ما يدور للإنسان من الغناء والجد والغلبة ، وقال الكسائي وحذاق البصرة : ـ الدولة ـ بالفتح في الملك بالضم ، و ـ الدولة ـ بالضم في الملك بالكسر ، أو بالضم في المال وبالفتح في النصرة قيل : وفي الجاه وقيل : هي بالضم ما يتداول كالغرفة اسم ما يغترف وبالفتح مصدر بمعنى التداول ، والراغب وعيسى بن عمر وكثير أنهما بمعنى واحد ، وجمهور القراء قرءوا بضم الدال والنصب ، وبالياء التحتية في يكون على أن اسم (يَكُونَ) الضمير ، و (دُولَةً) الخبر أي كيلا يكون الفيء جدّا (بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي بينهم خاصة يتكاثرون به ، أو كي (لا يَكُونَ دُولَةً) وغلبة جاهلية بينكم فإن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ويقولون من عزيز ، وقيل : المعنى كيلا يكون شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه فلا يصيب أحدا من الفقراء.

وقرأ عبد الله «تكون» بالتاء الفوقية على أن الضمير على ما باعتبار المعنى إذ المراد بها الأموال ، وقرأ أبو جعفر وهشام كذلك ؛ ورفع «دولة» بضم الدال على أن كان تامة ، و «دولة» فاعل أي كيلا يقع دولة ، وقرأ علي والسلمي كذلك أيضا ، ونصب «دولة» بفتح الدال على أن كان ناقصا اسمها ما سمعت ، «دولة» خبرها ، ويقدر مضاف على القول بأنها مصدر إن لم يتجوز فيه ، ولم يقصد المبالغة أي كيلا تكون ذات تداول بين الأغنياء لا يخرجونها إلى الفقراء ، وظاهر التعليل بما ذكر اعتبار الفقر فيمن ذكر وعدم اتصافه تعالى به ضروري مع أن ذكره سبحانه كان للتيمن عند الأكثرين لا لأن له عزوجل سهما ، وكذا يجل رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن أن يسمى فقيرا ، وما اشتهر من قوله عليه الصلاة والسلام : «الفقر فخري» لا أصل له ، وكيف يتوهم مثله والدنيا كلها لا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة ، وهو صلّى الله تعالى عليه وسلم أحب خلقه إليه سبحانه حتى قال بعض العارفين : لا يقال له صلى الله تعالى عليه وسلم زاهد لأنه التارك للدنيا وهو عليه الصلاة والسلام لا يتوجه إليها فضلا عن طلبها اللازم للترك ، وقيل : إن الخبر لو صح يكون المراد بالفقر فيه الانقطاع عن السوي بالمرة إلى الله عزوجل وهو غير الفقر الذي الكلام فيه واعتباره فيمن بعد لا محذور فيه حتى أنه ربما يكون دليلا على القول بأنه لا يعطى أغنياء ذوي القربى ، وإنما يعطى فقراؤهم ، وإذا حمل الكلام على ما حملناه عليه كفى في التعليل أن يكون فيمن يدفع إليه شيء من الفيء فقر ، ولا يلزم أن كل من يدفع إليه شيء منه فقيرا (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ) أي ما أعطاكم من الفيء (فَخُذُوهُ) لأنه حقكم الذي أحله الله تعالى لكم (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) أي عن أخذه منه (فَانْتَهُوا) عنه (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفته عليه الصلاة والسلام (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فيعاقب من يخالفه صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وحمل الآية على خصوص الفيء مروي عن الحسن وكان لذلك لقرينة المقام ، وفي الكشاف الأجود أن تكون عامة في كل ما أمر به صلى الله تعالى عليه وسلم ونهى عنه ، وأمر الفيء داخل في العموم ، وذلك لعموم لفظ (ما) على أن الواو لا تصح عاطفة فهي اعتراض على سبيل التذييل ، ولذلك عقب بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) تعميما على تعميم فيتناول كل ما

٢٤٣

يجب أن يتقى ؛ ويدخل ما سبق له الكلام دخولا أوليا كدخوله في العموم الأول ، وروي ذلك عن ابن جريج.

وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن مسعود أنه قال : «لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى» فبلع ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن : فأتته فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت ، فقال : ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو في كتاب الله عزوجل ، فقالت : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته ، قال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه ، أما قرأت قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)؟ قالت : بلى ، قال : فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهى عنه. وعن الشافعي أنه قال : سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقال عبد الله بن محمد بن هارون: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال : قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عنه حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل الزنبور ، وهذا من غريب الاستدلال ، وفيه على علاته ـ ككلام ابن مسعود ـ حمل ما في الآية على العموم ، وعن ابن عباس ما يدل على ذلك أيضا ، قيل : والمعنى حينئذ ما آتاكم الرسول من الأمر فتمسكوا به وما نهاكم عن تعاطيه فانتهوا عنه ، والأمر جوز أن يكون واحد الأمور وأن يكون واحد الأوامر لمقابلة نهاكم له ، قيل : والأول أقرب لأنه لا يقال : أعطاه الأمر بمعنى أمره إلا بتكلف كما لا يخفى ، واستنبط من الآية أن وجوب الترك يتوقف على تحقق النهي ولا يكفي فيه عدم الأمر فما لم يتعرض له أمرا ولا نهيا لا يجب تركه (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) قال الزمخشري : بدل من قوله تعالى : (لِذِي الْقُرْبى) والمعطوف عليه ، والذي منع الإبدال من (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) وما بعد وإن كان المعنى لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أن الله عزوجل أخرج رسوله عليه الصلاة والسلام من الفقراء في قوله سبحانه : و (يَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) وأنه يترفع برسول الله عليه الصلاة والسلام عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عزوجل ، وهذا كما لا يجوز أن يوصف سبحانه بعلامة لأجل التأنيث لفظا لأن فيه سوء أدب انتهى.

وعنى أنه بدل كل من كل لاعتبار المبدل منه مجموع ما ذكر ، قال الإمام : فكأنه قيل : أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين ، وما ذكر من الإبدال من (لِذِي الْقُرْبى) وما بعده مبني على قوله الحنفية إنه لا يعطى الغني من ذوي القربى وإنما يعطى الفقير ، ومن يرى كالشافعي أنه يعطى غنيهم كما يعطى فقيرهم خص الإبدال باليتامى وما بعده ، وقيل : يجوز ذلك أيضا إلا أنه يقول بتخصيص اعتبار الفقر بفيء بني النضير فإنه عليه الصلاة والسلام لم يعط غنيا شيئا منه ، والآية نازلة فيه وفيه تعسف ظاهر.

وفي الكشف أن (لِلْفُقَراءِ) ليس للقيد بل بيانا للواقع من حال المهاجرين وإثباتا لمزيد اختصاصهم كأنه قيل : لله وللرسول وللمهاجرين ، وقال ابن عطية : (لِلْفُقَراءِ) إلخ بيان لقوله تعالى : (الْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وكررت لام الجر لما كان ما تقدم مجرورا بها لتبيين أن البدل هو منها ، وقيل : اللام متعلقة بما دل عليه قوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) كأنه قيل : ولكن يكون للفقراء المهاجرين.

وسيأتي إن شاء الله تعالى ما خطر لنا في ذلك من الاحتمال بناء على ما يفهم من ظاهر كلام عمر بن الخطاب بمحضر جمع من الأصحاب (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) حيث اضطرهم كفار مكة وأحوجوهم إلى

٢٤٤

الخروج فخرجوا منها ، وهذا وصف باعتبار الغالب ، وقيل : كان هؤلاء مائة رجل (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي طالبين منه تعالى رزقا في الدنيا ومرضاة في الآخرة ، وصفوا أولا بما يدل على استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار والأموال ، وقيد ذلك ثانيا بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده مما يدل على توكلهم التام ورضاهم بما قدره المليك العلّام (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) عطف على (يَبْتَغُونَ) فهي حال مقدرة أي ناوين لنصرة الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أو مقارنة فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة وأي نصرة (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من الصفات الجليلة (هُمُ الصَّادِقُونَ) أي الكاملون في الصدق في دعواهم الإيمان حيث فعلوا ما يدل أقوى دلالة عليه مع إخراجهم من أوطانهم وأموالهم لأجله لا غيرهم ممن آمن في مكة ولم يخرج من داره وماله ، ولم يثبت منه نحو ما ثبت منهم لنحو لين منه مع المشركين فالحصر إضافي ووجه بغير ذلك. وحمل بعضهم الكلام على العموم لحذف متعلق الصدق وتمسك به لذلك في الاستدلال على صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يدعونه بخليفة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ، والله تعالى قد شهد بصدقهم فلا بد أن تكون إمامته رضي الله تعالى عنه صحيحة ثابتة في نفس الأمر وهو تمسك ضعيف مستغنية عن مثله دعوى صحة خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة ، ومنهم علي كرم الله تعالى وجهه ، ونسبة التقية إليه بالموافقة لا يوافق الشيعة عليها متق كدعوى الإكراه بل مستغنية بغير ذلك أيضا (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) الأكثرون على أنه معطوف على المهاجرين ، والمراد بهم الأنصار ، والتبوّؤ النزول في المكان ، ومنه المباءة للمنزل ، ونسبته إلى الدار والمراد بها المدينة ظاهر ، وأما نسبته إلى الايمان فباعتبار جعله مستقرا ومتوطنا على سبيل الاستعارة المكنية التخييلية ، والتعريف في الدار للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارا وهي التي أعدها الله تعالى لهم ليكون تبوءوهم إياها مدحا لهم.

وقال غير واحد : الكلام من باب :

علفتها تبنا وماء باردا

أي تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان ، وقيل : التبوؤ مجاز مرسل عن اللزوم وهو لازم معناه فكأنه قيل : لزموا الدار والإيمان ؛ وقيل : في توجيه ذلك أن أل في الدار للعهد ، والمراد دار الهجرة وهي تغني غناء الإضافة. وفي (وَالْإِيمانَ) حذف مضاف أي ودار الإيمان فكأنه قيل : تبوءوا دار الهجرة ودار الإيمان على أن المراد بالدارين المدينة ، والعطف كما في قولك : رأيت الغيث والليث وأنت تريد زيدا ، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف ، وقيل : إن الإيمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة وهو كما ترى ، وقيل : الواو للمعية والمراد تبوءوا الدار مع إيمانهم أي تبوءوها مؤمنين ، وهو أيضا ليس بشيء ، وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولا ، وذكر بعضهم أن الدار علم بالغلبة على المدينة كالمدينة ، وأنه أحد أسماء لها منها طيبة وطابة ويثرب وجابرة إلى غير ذلك.

وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثا مرفوعا يدل على ذلك (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل المهاجرين ، والجار متعلق بتبوءوا ، والكلام بتقدير مضاف أي من قبل هجرتهم فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين ، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم ليقال : إن الأمر بالعكس ، وجوز أن لا يقدر مضاف ، ويقال : ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان بل سبقهم إياهم في التمكن فيه لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه.

وقيل : الكلام على التقديم والتأخير ، والتقدير تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان فيفيد سبقهم إياهم في تبويء الدار فقط وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية وهي غير ظاهرة هاهنا ؛ وقيل : لا حاجة إلى

٢٤٥

شيء مما ذكر ، وقصارى ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبويء الأنصار وإيمانهم على تبويء المهاجرين وإيمانهم ، ويكفي في تقدم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو هاهنا تبوءوا الدار ، وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصلح أن يقال : بتقدم تبويء المهاجرين وإيمانهم على تبويء الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) في موضع الحال من الموصول ، وقيل : استئناف ، والكلام قيل : كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم ، وقيل : على ظاهره أي يحبون المهاجر إليهم من حيث مهاجرته إليهم لحبهم الإيمان (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ) أي ولا يعلمون في أنفسهم.

(حاجَةً) أي طلب محتاج إليه (مِمَّا أُوتُوا) أي مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره ، وحاصله أن نفوسهم لم تتبع ما أعطي المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه ، فالوجدان إدراك علمي وكونه في الصدر من باب المجاز ، ـ والحاجة ـ بمعنى المحتاج إليه ، وهو استعمال شائع يقال : خذ منه حاجتك وأعطاه من ماله حاجته ، و (مِنْ) تبعيضية ، وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب ، وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مرّ في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس.

ويجوز أن يكون المعنى ـ لا يجدون في أنفسهم ما يحصل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطي المهاجرون ـ على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها ، قيل : على أنه كناية عما ذكر لأنه لا ينفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم ، وما تقدم أولى ، وقول بعضهم : أي أثر حاجة تقدير معنى لا إعراب ، و (مِنْ) في قوله تعالى : (مِمَّا أُوتُوا) تعليلية (وَيُؤْثِرُونَ) أي يقدمون المهاجرين (عَلى أَنْفُسِهِمْ) في كل شيء من الطيبات حتى أن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا منهم ، ويجوز أن لا يعتبر مفعول ـ يؤثرون ـ خصوص المهاجرين ، أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة قال : أتى رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إليه نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال عليه الصلاة والسلام : «ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه‌الله؟ فقال رجل من الأنصار ـ وفي رواية ـ فقال أبو طلحة : أنا يا رسول الله فذهب به إلى أهله فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية قال : إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ففعلت ثم غدا الضيف على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال : لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل الله تعالى فيهما (وَيُؤْثِرُونَ)» إلخ.

وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله أهل سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول فنزلت (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي حاجة من خصاص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح ، والجملة في موضع الحال ، وقد تقدم وجه ذلك مرارا (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) الشح اللؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال :

يمارس نفسا بين جنبيه كزة

إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا

وأضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها ، وأما البخل فهو المنع نفسه ، وقال الراغب : الشح بخل مع حرص ؛ وذلك فيما كان عادة ، وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه قال : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب والحاكم

٢٤٦

وصححه وجماعة عن ابن مسعود أن رجلا قال له : إني أخاف أن أكون قد هلكت قال : وما ذاك؟ قال : إني سمعت الله تعالى يقول : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) الآية وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء فقال له ابن مسعود : ليس ذاك بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل ، وإن الشح الذي ذكره الله تعالى أن تأكل مال أخيك ظلما ، وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ولكنه البخل إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له ، ولم أر لأحد من اللغويين شيئا من هذه التفاسير للشح ، ولعل المراد أنه البخل المتناهي بحيث يبخل المتصف به بمال غيره أي لا يودّ جود الغير به وتنقبض نفسه منه ويسعى في أن لا يكون ، أو بحيث يبلغ به الحرص إلى أن يأكل مال أخيه ظلما أن تطمح عينه إلى ما ليس له ولا تسمح نفسه بأن يكون لغيره فتأمل.

وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «ومن يوقّ» بشدّ القاف ، وقرأ ابن عمر وابن عمر وابن أبي عبلة «شحّ» بكسر الشين ، وجاء فيه لغة الفتح أيضا ، ومعنى الكل واحد ، ومعنى الآية ومن يوق بتوفيق الله تعالى ومعونته شح نفسه حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه ، والجملة الشرطية تذييل حسن ومدح للأنصار بما هو غاية لتناوله إياهم تناولا أوليا ، وفي الإفراد أولا والجمع ثانيا رعاية للفظ من ومعناها وإيماء إلى قلة المتصفين بذلك في الواقع عددا وكثرتهم معنى :

والناس ألف منهم كواحد

وواحد كالألف إن أمر عنا

ويفهم من الآية ذم الشح جدا ، وقد وردت أخبار كثيرة بذمه ، أخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس مرفوعا «ما محق الإسلام محق الشح شيء قط» ، وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه عن أبي هريرة مرفوعا «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدا ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدا».

وأخرج أبو داود والترمذي ـ وقال غريب ـ والبخاري في الأدب وغيرهم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا «خصلتان لا يجتمعان في جوف مسلم البخل وسوء الخلق» وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عدي والحاكم والخطيب عن أنس قال : قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم : «خلق الله تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده ثم قال لها : انطقي فقالت : قد أفلح المؤمنون فقال الله عزوجل : وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل ثم تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» إلى غير ذلك من الأخبار ، لكن ينبغي أن يعلم أن تقوى الشح لا تتوقف على أن يكون الرجل جوادا بكل شيء ، فقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى والطبراني والضياء عن مجمع بن يحيى مرفوعا «بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأدى في النائبة».

وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما يقرب منه ، وكذا ابن جرير والبيهقي عن أنس ، وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : من أدى زكاة ماله فقد وقى شح نفسه ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) عطف عند الأكثرين أيضا على المهاجرين ، والمراد بهؤلاء قيل : الذين هاجروا حين قوي الإسلام ، فالمجيء حسي وهو مجيئهم إلى المدينة ، وضمير (مِنْ بَعْدِهِمْ) للمهاجرين الأولين ، وقيل : هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم

٢٤٧

القيامة ، فالمجيء إما إلى الوجود أو إلى الإيمان ، وضمير (مِنْ بَعْدِهِمْ) للفريقين المهاجرين والأنصار ، وهذا هو الذي يدل عليه كلام عمر رضي الله تعالى عنه وكلام كثير من السلف كالصريح فيه ، فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين ، وجملة قوله تعالى : (يَقُولُونَ) إلخ حالية ، وقيل : استئناف (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا) أي في الدين الذي هو أعز وأشرف عندهم من النسب (الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) وصفوهم بذلك اعترافا بفضلهم (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) أي حقدا ، وقرئ غمرا (لِلَّذِينَ آمَنُوا) على الإطلاق (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي مبالغ في الرأفة والرحمة. فحقيق بأن تجيب دعاءنا ، وفي الآية حث على الدعاء للصحابة وتصفية القلوب من بغض أحد منهم ، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية (وَالَّذِينَ جاؤُ) إلخ.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فدعاه فقرأ عليه (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) الآية ، ثم قال : هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت؟ قال : لا ، ثم قرأ عليه (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) الآية ، ثم قال : هؤلاء الأنصار أفمنهم أنت؟ قال : لا ، ثم قرأ عليه (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) الآية ، ثم قال : أفمن هؤلاء أنت؟ قال : أرجو قال : لا والله ليس من هؤلاء من سب هؤلاء.

وفي رواية أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه بلغه أن رجلا نال من عثمان رضي الله تعالى عنه فدعاه فقرأ عليه الآيات وقال له ما قال ، وقال الإمام مالك : من كان له في أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قول سيئ أو بغض فلا حظّ له في الفيء أخذا من هذه الآية ، وفيها ما يدل على ذم الغل لأحد من المؤمنين ، وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : في أيام ثلاثة يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع فيها رجل من الأنصار فبات معه عبد الله بن عمرو بن العاص ثلاث ليال مستكشفا حاله فلم ير له كثير عمل فأخبره الخبر فقال له : ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي غلا لأحد من المسلمين ولا أحسده على خير أعطاه الله تعالى إياه فقال له عبد الله : هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق ـ وفي رواية ـ أنه قال : لو كانت الدنيا لي فأخذت مني لم أحزن عليها ولو أعطيتها لم أفرح بها وأبيت وليس في قلبي غل على أحد فقال عبد الله : لكني أقوم الليل وأصوم النهار ولو وهبت لي شاة لفرحت بها ولو ذهبت لحزنت عليها والله لقد فضلك الله تعالى علينا فضلا بيّنا» هذا وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا) إلخ مبتدأ ، وجملة (يُحِبُّونَ) إلخ خبره ، والكلام استئناف مسوق لمدح الأنصار ، وجوز كون ذلك معطوفا على (أُولئِكَ) فيفيد شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق ، وجملة (يُحِبُّونَ) إلخ إما استئناف مقرر لصدقهم أو حال من ضمير (تَبَوَّؤُا) وإلى أن قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ) إلخ مبتدأ ، وجملة (يَقُولُونَ) إلخ خبره ، والجملة معطوفة على الجملة السابقة مسوقة لمدح هؤلاء بمحبتهم من تقدمهم من المؤمنين ومراعاتهم لحقوق الأخوة في الدين والسبق بالإيمان كما أن ما عطفت عليه من الجملة السابقة لمدح الأنصار.

واستدل لعدم عطف (الَّذِينَ تَبَوَّؤُا) على (الْمُهاجِرِينَ) بما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة كما تقدم ، وقال عليه الصلاة والسلام لهم : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم من هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقالوا : بل نقسم لهم ـ أي للمهاجرين ـ من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها» فنزلت الآية (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) إلى آخره ، وبعض القائلين بالعطف يقولون : إن قوله تعالى :

٢٤٨

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا) إلخ بيان لحكم الأخماس الأربعة على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسب اختياره وأن الأنصار مصرف من المصارف ، ولكن قد اختار صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يكون إعطاؤهم بالشرط الذي ذكره عليه الصلاة والسلام لهم ، وهم اختاروا ما اختاروا إيثارا منهم ، وذلك لا يخرجهم عن كونهم مصرفا بل في قوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) رمز إليه على أن في الأخبار ما هو أصح وأصرح في الدلالة على عطفهم على ما تقدم ، وأنهم يعطون من الفيء ، وكذا عطف ـ الذين جاءوا من بعدهم ـ فقد اخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حيان وغيرهم عن مالك بن أوس بن الحدثان في حديث طويل أن عمر رضي الله تعالى عنه قال ـ أي في قضاء بين علي كرم الله تعالى وجهه وعمه العباس رضي الله تعالى عنه في فدك ، وقد كان عمر دفعها إليهما وأخذ عليهما عهد الله تعالى على أن يعملا فيها بما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يعمل به فيها فتنازعا ـ إن الله تعالى قال : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكانت لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم خاصة ، ثم قال سبحانه : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) إلى آخر الآية ، ثم والله ما أعطاها هؤلاء وحدهم حتى قال تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) ، ثم والله ما جعلها لهؤلاء وحدهم حتى قال سبحانه : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) إلى قوله تعالى : (رَحِيمٌ) فقسمها هذا القسم على هؤلاء الذين ذكر ، ولئن بقيت ليأتين الرويعي بصنعاء حقه ودمه في وجهه ، وظاهر هذا الخبر يقتضي أن للمهاجرين سهما غير السهام السابقة فلا يكون (لِلْفُقَراءِ) بدل من ـ لذي القربى ـ وما بعده ولا مما بعده دونه ، وكذا ظاهر ما في مصحف عبد الله وزيد بن ثابت كما أخرجه ابن الأنباري في المصاحف عن الأعمش ـ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والمهاجرين في سبيل الله ـ على أن الإبدال يقتضي ظاهرا كون اليتامى مهاجرين أخرجوا من ديارهم وأموالهم إلى آخر الصفات ، وفي صدق ذلك عليهم بعد ، وكذا يقتضي كون ابن السبيل كذلك ، وفيه نوع بعد أيضا كما لا يخفى فلعله اعتبر تعلقه بفعل محذوف والجملة استئناف بياني ، وذلك أنهم كانوا يعلمون أن الخمس يصرف لمن تضمنه قوله تعالى : (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فلما ذكر ذلك انقدح في أذهانهم أن المذكورين مصرف الخمس ولم يعلموا مصرف الأخماس الأربعة الباقية فكأنهم قالوا : فلمن تكون الأخماس الأربعة الباقية أو فلمن يكون الباقي؟ فقيل : تكون الأخماس الاربعة الباقية أو يكون الباقي (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) إلى آخره ولم أر من تعرض لذلك فتأمل ، والله تعالى الهادي إلى أحسن المسالك.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ

٢٤٩

قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٤)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة وتعجيب منها بعد حكاية محاسن أحوال المؤمنين على اختلاف طبقاتهم. والخطاب لرسول الله عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب والآية كما أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس في رهط من بني عوف منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول ووديعة بن مالك وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله تعالى : (يَقُولُونَ) إلخ.

وقال السدي : أسلم ناس من بني قريظة والنضير وكان فيهم منافقون فبعثوا إلى بني النضير ما قص الله تعالى ، والمعول عليه الأول ، وقوله سبحانه : (يَقُولُونَ) استئناف لبيان المتعجب منه ، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم ، أو لاستحضار صورته ، واللام في قوله عزوجل : (لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) للتبليغ ؛ والمراد بإخوتهم الإخوة في الدين واعتقاد الفكرة أو الصداقة ، وكثر جمع الأخ مرادا به ما ذكر على إخوان ، ومرادا به الأخوة في النسب على إخوة ، وقل خلاف ذلك ، واللام في قوله تعالى : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) موطئة للقسم ؛ وقوله سبحانه (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) جواب القسم أي والله لئن أخرجتم من دياركم قسرا لنخرجن من ديارنا معكم البتة ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) في شأنكم (أَحَداً) يمنعنا من الخروج معكم وهو لدفع أن يكونوا وعدوهم الخروج بشرط أن يمنعوا منه (أَبَداً) وإن طال الزمان ، وقيل : لا نطيع في قتالكم أو خذلانكم ، قال في الإرشاد : وليس بذاك لأن تقدير القتال مترقب بعد ، ولأن وعدهم لهم على ذلك التقدير ليس مجرد عدم طاعتهم لمن يدعوهم إلى قتالهم بل نصرتهم عليه كما ينطق به قوله تعالى : (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) أي لنعاوننكم على عدوكم على أن دعوتهم إلى خذلان اليهود مما لا يمكن صدوره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين حتى يدعوا عدم طاعتهم فيها ضرورة أنها لو كانت لكانت عند استعدادهم لنصرتهم وإظهار كفرهم ، ولا ريب في أن ما يفعله عليه الصلاة والسلام عند ذلك قتلهم لا دعوتهم إلى ترك نصرتهم ، وأما الخروج معهم فليس بهذه المرتبة من إظهار الكفر لجواز أن يدّعوا أن

٢٥٠

خروجهم معهم لما بينهم من الصداقة الدنيوية لا للموافقة في الدين ، ونوقش في ذلك ، وجواب (إِنْ) محذوف ، و (لَنَنْصُرَنَّكُمْ) جواب قسم محذوف قبل (إِنْ) الشرطية ، وكذا يقال فيما بعد على ما هو القاعدة المشهورة فيما إذا تقدم القسم على الشرط (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في مواعيدهم المؤكدة بالأيمان ، وقوله تعالى : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) إلى آخره تكذيب لهم في كل واحد من أقوالهم على التفصيل بعد تكذيبهم في الكل على الإجمال (وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) وكان الأمر كذلك ، والإخبار عن خلفهم في الميعاد قيل : من الإخبار بالغيب وهو من أدلة النبوة وأحد وجوه الإعجاز ، وهذا مبني على أن السورة نزلت قبل وقعة بني النضير ، وكلام أهل الحديث والسير على ما قيل : يدل على خلافه.

وقال بعض الأجلة : إن قوله تعالى : (يَقُولُونَ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) إلخ من باب الإخبار بالغيب بناء على ما روي أن عبد الله بن أبيّ دس إليهم لا يخرجوا فأطلع الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام على ما دسه (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) على سبيل الفرض والتقدير (لَيُوَلُّنَ) أي المنافقون (الْأَدْبارَ) فرارا (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) بعد ذلك أي يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم ، أو (لَيُوَلُّنَ) أي اليهود المفروضة نصرة المنافقين إياهم ولينهزمن ، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين ، وقيل : الضمير المرفوع في (نَصَرُوهُمْ) لليهود ، والمنصوب للمنافقين أي ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار وليس بشيء ، وكأنه دعا قائله إليه دفع ما يتوهم من المنافاة بين (لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) على الوجه السابق ، وقد أشرنا إلى دفع ذلك من غير حاجة إلى هذا التوجيه الذي لا يخفى حاله (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) أي أشد مرهوبية على أن (رَهْبَةً) مصدر من المبني للمفعول لأن المخاطبين وهم المؤمنين مرهوب منهم لا راهبون (فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) أي رهبتهم منكم في السر أشد مما يظهرونه لكم من رهبة الله عزوجل وكانوا يظهرون لهم رهبة شديدة من الله عزوجل ، ويجوز أن يراد أنهم يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله تعالى ولشدة البأس والتشجع ما كانوا يظهرون ذلك ، قيل : إن (فِي صُدُورِهِمْ) على الوجه الأول مبالغة وتصوير على نحو رأيته بعيني (ذلِكَ) أي ما ذكر من كونكم أشد رهبة في صدورهم من الله تعالى (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) شيئا حتى يعلموا عظمة الله عزوجل فيخشوه حق خشيته سبحانه وتعالى ، والمراد بهؤلاء اليهود ، وقيل : المنافقون ؛ وقيل : الفريقان (لا يُقاتِلُونَكُمْ) أي اليهود والمنافقون ، وقيل : اليهود يعني لا يقتدرون على قتالكم (جَمِيعاً) أي مجتمعين متفقين في موطن من المواطن (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) بالدروب والخنادق ونحوها (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) يتسترون بها دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم لقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم ومزيد رهبتهم منكم.

وقرأ أبو رجاء والحسن وابن وثاب «جدر» بإسكان الدال تخفيفا ، ورويت عن ابن كثير وعاصم والأعمش ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير في الرواية المشهورة وكثير من المكيين جدار بكسر الجيم وألف بعد الدال وهي مفرد الجدر ، والقصد فيه إلى الجنس ، أو المراد به السور الجامع للجدر والحيطان.

وقرأ جمع من المكيين وهارون عن ابن كثير «جدر» بفتح الجيم وسكون الدال ، قال صاحب اللوامح : وهو الجدار بلغة اليمن ، وقال ابن عطية : معناه أصل بنيان كسور وغيره ، ثم قال : ويحتمل أن يكون من جدر النخل أي من وراء نخلهم إذ هي مما يتقى به عند المصافة (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) استئناف سيق لبيان أن ما ذكر من رهبتهم ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم فإن بأسهم إذا اقتتلوا شديد وإنما ضعفهم وجبنهم بالنسبة

٢٥١

إليكم بما قذف الله تعالى في قلوبهم من الرعب (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) أي مجتمعين ذوي إلفة واتحاد (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) جمع شتيت أي متفرقة لا إلفة بينها يعني أن بينهم إحنا وعدوات فلا يتعاضدون حق التعاضد ولا يرمون عن قوس واحدة ، وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم.

وقرأ مبشر بن عبيد «شتى» بالتنوين جعل الألف ألف الإلحاق ، وعبد الله ـ وقلوبهم أشت ـ أي أكثر أو أشد تفرقا (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي ما ذكر من تشتت قلوبهم بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) شيئا حتى يعلموا طرق الألفة وأسباب الاتفاق ، وقيل : (لا يَعْقِلُونَ) أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم المركوزة فيهم بحسب الخلقة ويعين على تدميرهم واضمحلالهم وليس بذاك ، وقوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) خبر مبتدأ محذوف تقديره مثلهم أي مثل المذكورين من اليهود بني النضير ، أو منهم ومن المنافقين كمثل أهل بدر ـ كما قال مجاهد ـ أو كبني قينقاع ـ كما قال ابن عباس ـ وهم شعب من اليهود الذين كانوا حوالى المدينة غزاهم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يوم السبت على رأس عشرين شهرا من الهجرة في شوال قبل غزوة بني النضير حيث كانت في ربيع سنة أربع وأجلاهم عليه الصلاة والسلام إلى أذرعات على ما فصل في كتب السير.

وقيل : أي مثل هؤلاء المنافقين كمثل منافقي الأمم الماضية (قَرِيباً) ظرف لقوله تعالى : (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي ذاقوا سوء عاقبة كفرهم في زمن قريب من عصيانهم أي لم تتأخر عقوبتهم وعوقبوا في الدنيا إثر عصيانهم.

وقيل : انتصاب (قَرِيباً) ـ بمثل ـ إذ التقدير كوقوع مثل الذين ، وتعقب بأن الظاهر أنه أريد أن في الكلام مضافا هو العامل حقيقة في الظرف إلا أنه لما حذف عمل المضاف إليه فيه لقيامه مقامه ، ولا يخفى أن المعنى ليس عليه لأن المراد تشبيه المثل بالمثل أي الصفة الغريبة لهؤلاء بالصفة الغريبة للذين من قبلهم دون تشبيه المثل بوقوع المثل ، وأجيب بأن الإضافة من إضافة الصفة إلى موصوفها فيرجع التشبيه إلى تشبيه المثل بالمثل فكأنه قيل : مثلهم كمثل الذين من قبلهم الواقع قريبا ، وفيه أن ذلك التقدير ركيك وما ذكر لا يدفع الركاكة ، والقول بتقدير مضاف في جانب المبتدأ أيضا أي وقوع مثلهم كوقوع مثل الذين من قبلهم قريبا فيكون قد شبه وقوع المثل بوقوع المثل تعسف لا ينبغي أن يرتكب في الفصيح.

وقيل : إن العامل فيه التشبيه أي يشبهونهم في زمن قريب ، وقيل : متعلق الكاف لأنه يدل على الوقوع ، وكلا القولين كما ترى ، ولا يبعد تعلقه بما تعلقت به الصلة أعني من قبلهم أي الذين كانوا من قبلهم في زمن قريب فيفيد أن قبليتهم قبلية قريبة ، ويلزم من ذلك قرب ما فعل بهم وهو المثل ، ويكون هذا مطمح النظر في الإفادة ويتضمن تعييرهم بأنهم كانت لهم في أهل بدر ؛ أو بني قينقاع أسوة فبعد لم ينطمس آثار ما وقع بهم وهو كذلك على تقدير الوقوع ونحوه ، وجملة (ذاقُوا) مفسرة للمثل لا محل لها من الإعراب ، ويتعين تعلق (قَرِيباً) بما بعد على تقدير أن يراد بمن قبل منافقو الأمم الماضية فتدبر (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) لا يقادر قدره ، والجملة قيل : عطف على الجملة السابقة وإن اختلفا فعلية واسمية ، وقيل : حال مقدرة من ضمير (ذاقُوا) وأيا ما كان فهو داخل في حيز المثل ، وقيل : عطف على جملة ـ مثلهم كمثل الذين من قبلهم ـ ولا يخفى بعده ، وقوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) جعله غير واحد خبر مبتدأ محذوف أيضا أي مثلهم كمثل الشيطان على أن ضمير ـ مثلهم ـ هاهنا للمنافقين وفيما تقدم لبني النضير ، وقال بعضهم : ضمير ـ مثلهم ـ المقدر في الموضعين للفريقين ، وجعله بعض المحققين خبرا ثانيا للمبتدإ المحذوف في قوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِينَ) على أن الضمير هناك للفريقين إلا أن المثل الأول يخص بني

٢٥٢

النضير ، والثاني يخص المنافقين ، وأسند كل من الخبرين إلى ذلك المقدر المضاف إلى ضميرهما من غير تعيين ما أسند إليه بخصوص ثقة بأن السامع يرد كلا إلى ما يليق به ويماثله كأنه قيل : مثل أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب في حلول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال حسبما نقل عنهم كمثل الشيطان (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) أي أغراه على الكفر إغراء الآمر للمأمور به فهو تمثيل واستعارة (فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال سبحانه : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) أبد الآبدين (وَذلِكَ) أي الخلود في النار (جَزاءُ الظَّالِمِينَ) على الإطلاق دون المذكورين خاصة ، والجمهور على أن المراد بالشيطان والإنسان الجنس فيكون التبري يوم القيامة وهو الأوفق بظاهر قوله : (إِنِّي أَخافُ) إلخ.

وذهب بعضهم إلى أن المراد بالشيطان إبليس ، وبالإنسان أبو جهل عليهما اللعنة قال له يوم بدر : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم حتى وقعوا فيما وقعوا قال : إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله الآية ، وفي الآية عليه مع ما تقدم عن مجاهد لطيفة ، وذلك أنه لما شبه أولا حال إخوان المنافقين من أهل الكتاب بحال أهل بدر شبه هنا حال المنافقين بحال الشيطان في قصة أهل بدر ، ومعنى (اكْفُرْ) على تخصيص الإنسان بأبي جهل دم على الكفر عند بعض ، وقال الخفاجي : لا حاجة لتأويله بذلك لأنه تمثيل.

وأخرج أحمد في الزهد والبخاري في تاريخه والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه وغيرهم عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلا كان يتعبد في صومعته وأن امرأة كانت لها إخوة فعرض لها شيء فأتوه بها فزينت له نفسه فوقع عليها فحملت فجاءه الشيطان فقال : اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها فجاءوه فأخذوه فذهبوا به فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال : أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له أي ثم تبرأ منه وقال له ما قال ، فذلك قوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) الآية ، وهذا الرجل هو برصيصا الراهب ، وقد رويت قصته على وجه أكثر تفصيلا مما ذكر وهي مشهورة في القصص ، وفي البحر إن قول الشيطان : «إني أخاف الله» كان رياء وهو لا يمنعه الخوف عن سوء يوقع فيه ابن آدم ؛ وقرئ أنا بريء ، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وسليم ابن أرقم ـ فكان عاقبتهما ـ بالرفع على أنه اسم كان ، وأنهما إلخ في تأويل مصدر خبرها على عكس قراءة الجمهور.

وقرأ عبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن أبي عبلة ـ خالدان ـ بالألف على أنه خبر إن ، (وَفِي النَّارِ) متعلق به ، وقدم للاختصاص ، وفيها تأكيد له وإعادة تضميره ، وجوز أن يكون «في النار» خبر إن ، و ـ خالدان ـ خبر ثانيا وهو في قراءة الجمهور حال من الضمير في الجار والمجرور (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) في كل ما تأتون وتذرون (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة عبر عنه بذلك لدنوه دنو الغد من أمسه ، أو لأن الدنيا كيوم والآخرة غده يكون فيها أحوال غير الأحوال السابقة ، وتنكيره لتفخيمه وتهويله كأنه قيل : «لغد» لا يعرف كنهه لغاية عظمه ، وأما تنكير (نَفْسٌ) فلاستقلال الأنفس النواظر كأنه قيل : ولتنظر نفس واحدة في ذلك ، وفيه حث عظيم على النظر وتعيير بالترك وبأن الغفلة قد عمت الكل فلا أحد خلص منها ، ومنه ظهر ـ كما في الكشف ـ أن جعله من قبيل قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) [التكوير : ١٤] غير مطابق للمقام أي فهو كما في الحديث «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» لأن الأمر بالنظر وإن عم لكن المؤتمر الناظر أقل من القليل ، والمقصود بالتقليل هو هذا لأن المأمور لا ينظر إليه ما لم يأتمر ، وجوز ابن عطية أن يراد بغد يوم الموت ، وليس بذاك ، وقرأ أبو حيوة ويحيى بن الحارث ـ ولتنظر ـ بكسر اللام ، وروي ذلك عن حفص عن عاصم ، وقرأ الحسن بكسرها وفتح الراء

٢٥٣

جعلها لام كي ، وكان المعنى ولكي تنظر نفس ما قدمت لغد أمرنا بالتقوى (وَاتَّقُوا اللهَ) تكرير للتأكيد ، أو الأول في أداء الواجبات كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل وهذا في ترك المحارم كما يؤذن به الوعيد بقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي من المعاصي ، وهذا الوجه الثاني أرجح لفضل التأسيس على التأكيد ، وفي ورود الأمرين مطلقين من الفخامة ما لا يخفى ، وقيل : إن التقوى شاملة لترك ما يؤثم ولا وجه وجيه للتوزيع والمقام مقام الاهتمام بأمرها ، فالتأكيد أولى وأقوى ، وفيه منع ظاهر ، وكيف لا والمتبادر مما قدمت أعمال الخير كذا قيل ، ولعل من يقول بالتأكيد يقول : إن قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ) إلخ يتضمن الوعد والوعيد ويعمم ما قدمت أيضا ، ولعلك مع هذا تميل للتأسيس.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) أي نسوا حقوقه تعالى شأنه : وما قدروا الله حق قدره ولم يراعوا مواجب أمره سبحانه ونواهيه عزوجل حق رعايتها (فَأَنْساهُمْ) الله تعالى بسبب ذلك (أَنْفُسَهُمْ) أي جعلهم سبحانه ناسين لها حتى لم يسعوا بما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلّصها ، أو أراهم جل جلاله يوم القيامة من أهوال ما أنساهم أنفسهم أي أراهم أمرا هائلا وعذابا أليما ، ونسيان النفس حقيقة قيل : مما لا يكون لأن العلم بها حضوري ، وفيه نظر وإن نص عليه ابن سينا وأشياعه (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الكاملون في الفسوق.

وقرأ أبو حيوة ـ ولا يكونوا ـ بياء الغيبة على سبيل الالتفات ، وقال ابن عطية : كناية عن نفس المراد بها الجنس (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ) الذين نسوا لله تعالى فاستحقوا الخلود في النار (وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) الذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة ، ولعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص ، وعليه قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) [الرعد : ١٦] إلى غير ذلك.

ولعل تقديم الفاضل في قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] لأن صفته ملكة لصفة المفضول الإعدام مسبوقة بملكاتها ، والمراد بعدم الاستواء عدم الاستواء في الأحوال الأخروية كما ينبئ عنه التعبير عن الفريقين بصاحبية النار وصاحبية الجنة ، وكذا قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) فإنه استئناف مبين لكيفية عدم الاستواء بينهما أي هم الفائزون في الآخرة بكل مطلوب الناجون عن كل مكروه ، والآية تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرتهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات الزائلة كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز مع أصحاب الجنة فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه ، وهذا كما تقول لمن عق أباه : هو أبوك تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبهه على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف ، ومما ذكر يعلم ضعف استدلال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه بالآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر ، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر ، وانتصر لهم بأن لهم أن يقولوا : لما حث سبحانه على التقوى فعلا وتركا وزجر عزوجل عن الغفلة التي تضادها غاية المضادة بذكر غايتها أعني نسيان الله تعالى ترشيحا للتقريع أردفه سبحانه بأن أصحاب التقوى وأصحاب هذه الغفلة لا يستوون في شيء ما ، وعبر عنهم بأصحاب الجنة وأصحاب النار زيادة تصوير وتبيين ، فالمقام يقتضي التباين في حكمي الدارين وإن كان المقصود بالقصد الأول تباينهم في الدار التي هي المدار ، وأنت تعلم أن بيان اقتضاء المقام ذلك في مقابلة قول أصحاب أبي حنيفة. إن المقام يقتضي التخصيص وإلا فالشافعية يقولون : إن العموم مدلول نفي المساواة لغة لأن النفي داخل على مسمى المساواة

٢٥٤

فلا بد من انتفائها من جميع الوجوه إذ لو وجدت من وجه لما كان مسماها منتفيا وهو خلاف مقتضى اللفظ ، وقول الحنفية : إن الاستواء مطلقا أعم من الاستواء من كل وجه ومن وجه دون وجه ، والنفي إنما دخل على الاستواء الأعم فلا يكون مشعرا بأحد القسمين الخاصين.

وحاصله أن الأعم لا يشعر بالأخص فيه إن ذلك في الإثبات مسلم وفي النفي ممنوع ، ألا ترى أن من قال : ما رأيت حيوانا وكان قد رأى إنسانا مثلا عد كاذبا؟ وتمام ذلك في كتب الأصول ، والإنصاف أن كون المراد هنا نفي الاستواء في الأمور الأخروية ظاهر جدا فلا ينبغي الاستدلال بها على ما ذكر.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ) العظيم الشأن المنطوي على فنون القوارع (عَلى جَبَلٍ) من الجبال أو جبل عظيم (لَرَأَيْتَهُ) مع كونه علما في القسوة وعدم التأثر مما يصادمه (خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي متشققا منها.

وقرأ أبو طلحة مصدعا بإدغام التاء في الصاد ، وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر ، والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع وهو الذي لو أنزل على جبل وقد ركب فيه العقل لخشع وتصدع ، ويشير إلى كونه تمثيلا قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ (١) نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فإن الإشارة فيه إلى قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا) إلخ وإلى أمثاله ، فالكلام بتقدير وقوع تلك ، أو المراد تلك وأشباهها والأمثال في الأغلب تمثيلات متخيلة (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وحده سبحانه (عالِمُ الْغَيْبِ) وهو ما لم يتعلق به علم مخلوق وإحساسه أصلا وهو الغيب المطلق (وَالشَّهادَةِ) وهو ما يشاهده مخلوق.

قال الراغب : الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة إما بالبصر أو بالبصيرة ، وقد يعتبر الحضور مفردا لكن الشهود بالحضور المجرد أولى والشهادة مع المشاهدة أولى ، وحمل الغيب على المطلق هو المتبادر ، وأل فيه للاستغراق إذ لا قرينة للعهد ، ومقام المدح يقتضيه مع قوله تعالى : (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة : ١٠٩ ، ١١٦ ، التوبة : ٧٨ ، سبأ : ٤٨] فيشمل كل غيب واجبا كان أو ممكنا موجودا أو معدوما أو ممتنعا لم يتعلق به علم مخلوق ، ويطلق الغيب على ما لم يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف أي الغيب بالنسبة إلى ذلك المخلوق وهو على ما قيل : مراد الفقهاء في قولهم : مدعي علم الغيب كافر ، وهذا قد يكون من عالم الشهادة كما لا يخفى ، وذكر الشهادة مع أنه إذا كان كل غيب معلوما له تعالى كان كل شهادة معلوما له سبحانه بالطريق الأولى من باب قوله عزوجل : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] ، وقيل : الغيب ما لا يقع عليه الحس من المعدوم أو الموجود الذي لا يدرك ، والشهادة ما يقع عليه الإدراك بالحس.

وقال الإمام أبو جعفر رضي الله تعالى عنه : الغيب ما لم يكن والشهادة ما كان ، وقال الحسن : الغيب السر والشهادة العلانية ، وقيل : الأول الدنيا بما فيها والثاني الآخرة بما فيها ، وقيل : الأول الجواهر المجردة وأحوالها والثاني الأجرام والأجسام وأعراضها ، وفيه أن في ثبوت المجردات خلافا قويا ، وأكثر السلف على نفيها ، وتقديم الغيب لأن العلم به كالدليل على العلم بالشهادة ، وقيل : لتقدمه على الشهادة فإن كل شهادة فإن كل شهادة كان غيبا وما برز ما برز إلا من خزائن الغيب ، وصاحب القيل الأخير يقول : إن تقديم الغيب لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به ، واستدل بالآية على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، ووجهه ما أشرنا إليه ، وتتضمن على ما قيل : دليلا آخر عليه لأنها تدل على أنه لا معبود إلا هو ويلزمه أن يكون سبحانه خالقا لكل شيء بالاختيار كما هو الواقع في نفس الأمر ، والخلق بالاختيار يستحيل بدون العلم ، ومن هنا قيل : الاستدلال بها على هذا المطلب أولى من الاستدلال بقوله تعالى : (وَاللهُ

٢٥٥

بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٨٢ ، النساء : ١٧٦ ، النور : ٣٥ ، ٦٤ ، الحجرات : ١٦ ، التغابن : ١١] (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) برحمة تليق بذاته سبحانه ، والتأويل وإن ذكره علماء أجلاء من الماتريدية والأشاعرة لا يحتاج إليه سلفي كما حقق في التمييز وغيره.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كرر لإبراز كمال الاعتناء بأمر التوحيد (الْمَلِكُ) المتصرف بالأمر والنهي ، أو المالك لجميع الأشياء الذي له التصرف فيها ، أو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء ويستحيل عليه الاذلال ، أو الذي يولي ويعزل ولا يتصور عليه تولية ولا عزل ، أو المنفرد بالعز والسلطان ، أو ذو الملك والملك خلقه ، أو القادر أقوال حكاها الآمدي ، وحكي الأخير عن القاضي أبي بكر (الْقُدُّوسُ) البليغ في النزاهة عما يوجب نقصانا ، أو الذي له الكمال في كل وصف اختص به ، أو الذي لا يحدّ ولا يتصور ، وقرأ أبو السمال وأبو دينار الأعرابي «القدّوس» بفتح القاف وهو لغة فيه لكنها نادرة ، فقد قالوا : فعول بالضم كثير ، وأما بالفتح فيأتي في الأسماء ـ كسمور وتنور وهبود ـ اسم جبل باليمامة ، وأما في الصفات فنادر جدا ، ومنه سبوح بفتح السين (السَّلامُ) ذو السلامة من كل نقص وآفة مصدر وصف به للمبالغة ، وعن الجبائي هو الذي ترجى منه السلامة ، وقيل : أي الذي يسلم على أوليائه فيسلمون من كل مخوف (الْمُؤْمِنُ) قيل : المصدق لنفسه ولرسله عليهم‌السلام فيما بلغوه عنه سبحانه إما بالقول أو بخلق المعجزة ، أو واهب عبادة الأمن من الفزع الأكبر أو مؤمنهم منه إما بخلق الطمأنينة في قلوبهم أو بإخبارهم أن لا خوف عليهم ، وقيل : مؤمن الخلق من ظلمه ، وقال ثعلب : المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا ، وقال النحاس : في شهادتهم على الناس يوم القيامة ؛ وقيل : ذو الأمن من الزوال لاستحالته عليه سبحانه ، وقيل : غير ذلك ، وقرأ الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم ـ وقيل ـ أبو جعفر المدني «المؤمن» بفتح الميم على الحذف والإيصال كما في قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] أي المؤمن به.

وقال أبو حاتم : لا يجوز إطلاق ذلك عليه تعالى لإيهامه ما لا يليق به سبحانه إذ المؤمن المطلق من كان خائفا وآمنه غيره ، وفيه أنه متى كان ذلك قراءة ولو شاذة لا يصح هذا لأن القراءة ليست بالرأي (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن بقلب همزته هاء ، وإليه ذهب غير واحد ، وتحقيقه كما في الكشف أن أيمن على فيعل مبالغة أمن العدو للزيادة في البناء ، وإذا قلت : أمن الراعي الذئب على الغنم مثلا دل على كمال حفظه ورقبته ، فالله تعالى أمن كل شيء سواه سبحانه على خلقه وملكه لإحاطة علمه وكمال قدرته عزوجل ثم استعمل مجرد الدلالة بمعنى الرقيب والحفيظ على الشيء من ذكر المفعول بلا واسطة للمبالغة في كمال الحفظ كما قال تعالى : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨] وجعله من ذاك أولى من جعله من الأمانة نظرا إلى أن الأمين على الشيء حافظ له إذ لا ينبئ عن المبالغة ولا عن شمول العلم والقدرة ، وجعله في الصحاح اسم فاعل من آمنه الخوف على الأصل فأبدلت الهمزة الأصلية ياء كراهة اجتماع الهمزتين وقلبت الأولى هاء كما في هراق الماء ، وقولهم في إياك : هياك كأنه تعالى بحفظه المخلوقين صيرهم آمنين ، وحرف الاستعلاء ـ كمهيمنا عليه ـ لتضمين معنى الاطلاع ونحوه ، وأنت تعلم أن الاشتقاق على ما سمعت أولا أدل والخروج عن القياس فيه أقل ، وظاهر كلام الكشف أنه ليس من التصغير في شيء.

وقال المبرد : إنه مصغر ، وخطئ في ذلك فإنه لا يجوز تصغير أسمائه عزوجل (الْعَزِيزُ) الغالب.

وقيل : الذي لا مثل له ، وقيل : الذي يعذب من أراد ، وقيل : الذي عليه ثواب العاملين ، وقيل : الذي لا يحط عن منزلته ، وقيل : غير ذلك (الْجَبَّارُ) الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه : ويقال في فعله : أجبر ، وأمثلة المبالغة

٢٥٦

تصاغ من غير الثلاثي لكن بقلة ، وقيل : إنه من جبره بمعنى أصلحه ، ومنه جبرت العظم فانجبر فهو الذي جبر أحوال خلقه أي أصلحها ، وقيل : هو المنيع الذي لا ينال يقال للنخلة إذا طالت وقصرت عنها الأيدي : جبارة ، وقيل : هو الذي لا ينافس في فعله ولا يطالب بعلة ولا يحجر عليه في مقدوره.

وقال ابن عباس : هو العظيم ، وقيل : غير ذلك (الْمُتَكَبِّرُ) البليغ الكبرياء والعظمة لأنه سبحانه بريء من التكليف الذي تؤذن به الصيغة فيرجع إلى لازمه من أن الفعل الصادر عن تأنق أقوى وأبلغ ، أو الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيه الله تعالى عما يشركون به سبحانه ، أو عن إشراكهم به عزوجل إثر تعداد صفاته تعالى التي لا يمكن أن يشارك سبحانه في شيء منها أصلا (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة ، أو مبدع الأشياء من غير أصل ولا احتذاء ، ويفسر الخلق بإيجاد الشيء (الْبارِئُ) الموجد لها بريئة من تفاوت ما تقتضيه بحسب الحكمة والجبلة ، وقيل : المميز بعضها عن بعض بالاشكال المختلفة (الْمُصَوِّرُ) الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد.

وقال الراغب : الصورة ما تنتقش بها الأعيان وتتميز بها عن غيرها ، وهي ضربان : محسوسة تدركها العامة والخاصة بل الإنسان وكثير من الحيوانات كصورة الفرس المشاهدة. ومعقولة تدركها الخاصة دون العامة كالصورة التي اختص الإنسان بها من العقل والروية والمعاني التي خص بها شيء بشيء ، وإلى الصورتين أشار بقوله سبحانه: (خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) [الأعراف : ١١] إلى آيات أخر انتهى فلا تغفل.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وحاطب بن أبي بلتعة والحسن وابن السميفع «المصور» بفتح الواو والنصب على أنه مفعول للبارئ ، وأريد به جنس المصور ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه فتح الواو وكسر الراء على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول نحو الضارب الغلام ، وفي الخانية إن قراءة «المصور» بفتح الواو هنا تفسد الصلاة ؛ ولعله أراد إذا أجراه حينئذ على الله سبحانه ، وإلا ففي دعوى الفساد بعد ما سمعت نظر.

(لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الدالة على محاسن المعاني (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الموجودات بلسان الحال لما تضمنته من الحكم والمصالح التي يضيق عن حصرها نطاق البيان ، أو بلسان المقال الذي أوتيه كل منها حسبما يليق به على ما قاله كثير من العارفين ، وقد تقدم الكلام فيه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الجامع للكمالات كافة فإنها مع تكثرها وتشعبها راجعة إلى كمال القدرة المؤذن به (الْعَزِيزُ) بناء على تفسيره بالغالب وإلى كمال العلم المؤذن به (الْحَكِيمُ) بناء على تفسيره بالفاعل بمقتضى الحكمة ، وفي ذلك إشارة إلى التحلية بعد التخلية كما في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: ١١] فتأمل ولا تغفل.

ولهذه الآيات فضل عظيم كما دلت عليه عدة روايات ، وأخرج الإمام أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والطبراني وابن الضريس والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قال : «من قال : حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة».

وأخرج الديلمي عن ابن عباس مرفوعا «اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر».

وأخرج أبو علي عبد الرحمن بن محمد النيسابوري في فوائده عن محمد بن الحنفية أن البراء بن عازب قال لعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه : أسألك بالله إلا ما خصصتني بأفضل ما خصك به رسول الله عليه الصلاة

٢٥٧

والسلام مما خصه به جبريل مما بعث به الرحمن عزوجل ، قال : يا براء إذا أردت أن تدعو الله باسمه الأعظم فاقرأ من أول الحديد عشر آيات وآخر الحشر ، ثم قل : يا من هو هكذا وليس شيء هكذا غيره أسألك أن تفعل لي كذا وكذا فو الله يا براء لو دعوت عليّ لخسف بي.

وأخرج الديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال في قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا) إلى آخر السورة هي رقية الصداع ، وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه قال : أنبأنا أبو عبيد الحافظ أنبأ أبو الطيب محمد بن أحمد بن يوسف بن جعفر المقرئ البغدادي ـ يعرف بغلام ابن شنبوذ ـ أنبأ إدريس بن عبد الكريم الحداد قال : قرأت على خلف فلما بلغت هذه الآية (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على حمزة فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على الأعمش فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على يحيى بن وثاب فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على علقمة والأسود فلما بلغت هذه الآية قالا ضع يدك على رأسك فإنا قرأنا على عبد الله رضي الله تعالى عنه فلما بلغنا هذه الآية قال ضعا أيديكما على رءوسكما فإني قرأت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلما بلغت هذه الآية قال لي : «ضع يدك على رأسك فإن جبريل عليه‌السلام لما نزل بها إلي قال : ضع يدك على رأسك فإنها شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت» إلى غير ذلك من الآثار ، والله تعالى أعلم.

٢٥٨

سورة الممتحنة

قال ابن حجر : المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء وقد تكسر ؛ فعلى الأول هي صفة المرأة التي أنزلت بسببها ، وعلى الثاني صفة السورة كما قيل لبراءة : الفاضحة ، وفي جمال القراء تسمى أيضا سورة الامتحان وسورة المودة ، وأطلق ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم القول بمدنيتها ، وذكر بعضهم أن أولها نزل يوم فتح مكة فكونها مدنية إما من باب التغليب أو مبني على أن المدني ما نزل بعد الهجرة ، وهي ثلاث عشرة آية بالاتفاق.

ومناسبتها لما قبلها أنه ذكر فيما قبل موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب ، وذكر في هذه نهي المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء لئلا يشابهوا المنافقين ، وبسط الكلام فيه أتم بسط ؛ وقيل في ذلك أيضا : إن فيما قبل ذكر المعاهدين من أهل الكتاب وفي هذه ذكر المعاهدين من المشركين لأن فيها ما نزل في صلح الحديبية ، ولشدة اتصالها بالسورة قبلها فصل بها بينها وبين الصف مع تواخيهما في الافتتاح ـ بسبح ـ.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧)

٢٥٩

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) نزلت في حاطب بن عمرو أبي بلتعة ـ وهو مولى عبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى ـ أخرج الإمام أحمد والبخاري مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوني به فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا : أخرجي الكتاب قالت : ما معي من كتاب قلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فإذا فيه : من خاطب ابن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام ما هذا يا حاطب؟! قال : لا تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني فقال عمر رضي الله تعالى عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقال عليه الصلاة والسلام : إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ)» إلخ.

وفي رواية ابن مردويه عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام بعث عمر وعليا رضي الله تعالى عنهما في أثر تلك المرأة فلحقاها في الطريق فلم يقدرا على شيء معها فأقبلا راجعين ثم قال أحدهما لصاحبه : والله ما كذبنا ولا كذبنا ارجع بنا إليها فرجعا فسلا سيفيهما وقالا : والله لنذيقنك الموت أو لتدفعن الكتاب فأنكرت ثم قالت : أدفعه إليكما على أن لا ترداني إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقبلا ذلك فأخرجته لهما من قرون رأسها ، وفيه ـ على ما في الدر المنثور ـ أن المرأة تدعى أم سارة كانت مولاة لقريش ، وفي الكشاف يقال لها : سارة مولاة لأبي عمرو بن صيفي ابن هاشم ، وفي صحة خبر أنس تردد ، وما تضمنه من رجوع الإمامين رضي الله تعالى عنهما بعيد ، وقيل : إن المبعوثين في أثرها عمر وعلي وطلحة والزبير وعمار والمقداد وأبو مرثد وكانوا فرسانا ، والمعول عليه ما قدمنا ، والذين كانوا له في مكة بنوه وإخوته على ما روي عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن حاطب المذكور ، وفي رواية لأحمد عن جابر أن حاطبا قال : كانت والدتي معهم فيحتمل أنها مع بنيه وإخوته.

وصورة الكتاب ـ على ما في بعض الروايات ـ أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل ، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده ، وفي الخبر السابق على ما قيل : دليل على جواز قتل الجاسوس لتعليله صلّى الله تعالى عليه وسلم المنع عن قتله بشهوده بدرا ـ وفيه بحث ـ وفي التعبير عن المشركين بالعدو مع الإضافة إلى ضميره عزوجل تغليظ لأمر اتخاذهم أولياء وإشارة إلى حلول عقاب الله تعالى بهم ، وفيه رمز إلى معنى قوله :

إذا صافى صديقك من تعادي

فقد عاداك وانقطع الكلام

والعدو فعول من عدا كعفو من عفا ، ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد ، ونصب (أَوْلِياءَ) على أنه مفعول ثان ـ لتتخذوا ـ وقوله تعالى : (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) تفسير للموالاة أو لاتخاذها أو استئناف فلا محل لها من الاعراب ، والباء زائدة في المفعول كما في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] وإلقاء المودة مجاز عن إظهارها ، وتفسيره بالإيصال أي توصلون إليهم المودة لا يقطع التجوز.

٢٦٠