روح المعاني - ج ١٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

في صلته للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره أو بيان أو نعت أو منصوب على المدح أو مرفوع على أنه خبر محذوف ؛ و (الْإِثْمِ) الفعل المبطئ عن الثواب وهو الذنب. وكبائره ما يكبر عقابه ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف ـ كبير الإثم ـ على إرادة الجنس ، أو الشرك (وَالْفَواحِشَ) ما عظم قبحه من الكبائر فعطفه على ما تقدم من عطف الخاص على العام ، وقيل : الفواحش والكبائر مترادفان (إِلَّا اللَّمَمَ) ما صغر من الذنوب وأصله ما قل قدره ، ومنه لمة الشعر لأنها دون الوفرة ، وفسره أبو سعيد الخدري بالنظرة والغمزة والقبلة وهو من باب التمثيل ، وقيل : معناه الدنو من الشيء دون ارتكاب له من ألممت بكذا أي نزلت به وقاربته من غير مواقعة ـ وعليه قول الرماني ـ هو الهمّ بالذنب وحديث النفس دون أن يواقع ، وقول ابن المسيب : ما خطر على القلب ، وعن ابن عباس وابن زيد هو ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام ، والآية نزلت لقول الكفار للمسلمين قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا فهي مثل قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٣] على ما في البحر ، وقيل : هو مطلق الذنب.

وفي رواية عن ابن عباس أنه ما يلم به المرء في الحين من الذنوب ثم يتوب ، والمعظم على تفسيره بالصغائر والاستثناء منقطع ، وقيل : إنه لا استثناء فيه أصلا ، و (إِلَّا) صفة بمعنى غير إما لجعل المضاف إلى المعرف باللام الجنسية أعني كبائر الإثم في حكم النكرة ، أو لأن غير و (إِلَّا) التي بمعناها قد يتعرفان بالإضافة كما في (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) [الفاتحة : ٧] وتعقبه بعضهم بأن شرط جواز وقوع (إِلَّا) صفة كونها تابعة لجمع منكر غير محصور ولم يوجد هنا ، ورد بأن هذا ما ذهب إليه ابن الحاجب ، وسيبويه يرى جواز وقوعها صفة مع جواز الاستثناء فهو لا يشترط ذلك ، وتبعه أكثر المتأخرين ، نعم كونها هنا صفة خلاف الظاهر ولا داعي إلى ارتكابه ، والآية عند الأكثرين دليل على أن المعاصي منها كبائر ومنها صغائر وأنكر جماعة من الأئمة هذا الانقسام وقالوا : سائر المعاصي كبائر ، منهم الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني ، والقاضي أبو بكر الباقلاني ، وإمام الحرمين في الإرشاد ، وتقي الدين السبكي وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الاشاعرة. واختاره في تفسيره فقال معاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالإضافة ، وحكي الانقسام عند المعتزلة ، وقال : إنه ليس بصحيح ، وقال القاضي عبد الوهاب : لا يمكن أن يقال في معصية إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر باجتناب الكبائر ويوافق ذلك ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال : كل ما نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة ، وفي رواية كل شيء عصى الله تعالى فيه فهو كبيرة ، والجمهور على الانقسام قيل : ولا خلاف في المعنى ، وإنما الخلاف في التسمية ، والإطلاق لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية صغيرة لأنها بالنظر إلى باهر عظمته كبيرة أي كبيرة ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم ؛ وقسموها إلى ما ذكر لظواهر الآيات والأحاديث ولذلك قال الغزالي : لا يليق إنكار الفرق بين الكبائر والصغائر وقد عرفنا من مدارك الشرع ، ثم القائلون بالفرق اختلفوا في حدّ الكبيرة فقيل : هي ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة وهي عبارة كثير من الفقهاء ، وقيل : كل معصية أوجبت الحدّ ـ وبه قال البغوي وغيره ـ والأول أوفق لما ذكروه في تفصيل الكبائر إذ عدوا الغيبة والنميمة والعقوق وغير ذلك منها ولا حدّ فيه فهو أصح من الثاني وإن قال الرافعي : إنهم إلى ترجيحه أميل ، وقد يقال : يرد على الأول أيضا أنهم عدوا من الكبائر ما لم يرد فيه بخصوصه وعيد شديد.

وقيل : هي كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حدّ وترك فريضة تجب فورا والكذب في

٦١

الشهادة والرواية واليمين ، زاد الهروي وشريح وكل قول خالف الإجماع العام ، وقيل : كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة وهو المحكي عن إمام الحرمين ، ورجحه جمع لما فيه من حسن الضبط ، وتعقب بأنه بظاهره يتناول صغيرة الخسة ، والإمام ـ كما قال الاذرعي ـ إنما ضبط به ما يبطل العدالة من المعاصي الشاملة لذلك لا الكبيرة فقط ، نعم هو أشمل من التعريفين الأولين ، وقيل : هي ما أوجب الحدّ أو توجه إليه الوعيد ذكره الماوردي في فتاويه ، وقيل : كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه فإن فعله على وجه يجمع وجهين أو وجوها من التحريم كان فاحشة ، فالزنا كبيرة وبحليلة الجار فاحشة والصغيرة تعاطي ما تنقص عن رتبته عن رتبته المنصوص عليه. أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه فإن تعاطاه على وجه يجمع وجهين أو أكثر من التحريم كان كبيرة فالقبلة واللمس والمفاخذة صغيرة ، ومع حليلة الجار كبيرة كذا نقله ابن الرفعة وغيره عن القاضي حسين عن الحليمي ، وقيل : هي كل فعل نص الكتاب على تحريمه أي بلفظ التحريم وهو أربعة أشياء : أكل الميتة ، ولحم الخنزير ، ومال اليتيم ، والفرار من الزحف ورد بمنع الحصر ، وقيل : إنها كل ذنب قرن به حدّ ، أو وعيد أو لعن بنص كتاب أو سنة أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به ذلك أو أكثر أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعارا صغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل من يعتقده معصوما فظهر أنه مستحق لدمه أو وطئ امرأة ظانا أنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته ، وإليه ذهب شيخ الإسلام البارزي وقال : هو التحقيق ؛ وقيل : غير ذلك ، واعتمد الواحدي أنها لا حدّ لها يحصرها فقال الصحيح أن الكبيرة ليس لها حدّ يعرفها العباد به وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ولكن الله تعالى أخفى ذلك عنهم ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر. ونظير ذلك إخفاء الاسم الأعظم والصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة ، وقال العلامة ابن حجر الهيتمي : كل ما ذكر من الحدود إنما قصد به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة ، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه؟ وذهب جمع إلى تعريفها بالعدّ ، فعن ابن عباس أنها ما ذكره الله تعالى في أول سورة النساء إلى قوله سبحانه : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [النساء : ٣١].

وقيل : هي سبع وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وعطاء وعبيد بن عمير ، واستدل له بما في الصحيحين «اجتنبوا السبع الموبقات : الإشراك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وقيل : خمس عشرة ، وقيل : أربع عشرة ، وقيل : أربع ، وعن ابن مسعود ثلاث ، وفي رواية أخرى عشرة ، وقال شيخ الإسلام العلائي : المنصوص عليه في الأحاديث أنه كبيرة خمس وعشرون ، وتعقبه ابن حجر بزيادة على ذلك ، وقال أبو طالب المكي : هي سبع عشرة أربع في القلب الشرك والإصرار على المعصية والقنوط والأمن من المكر ، وأربع في اللسان القذف وشهادة الزور والسحر ، وهو كل كلام يغير الإنسان أو شيئا من أعضائه. واليمين الغموس وهي التي تبطل بها حقا أو تثبت بها باطلا ، وثلاث في البطن أكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا وشرب كل مسكر ، واثنان في الفرج : الزنا واللواط ، واثنتان في اليد القتلة والسرقة ، وواحدة في الرجل الفرار من الزحف ، وواحدة في جميع الجسد عقوق الوالدين ، وفيه ما فيه ، وروى الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رجلا قال له : كم الكبائر سبع هي؟ فقال هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ، وقد ألف فيها غير واحد من العلماء ، وفي كتاب الزواجر تأليف العلامة ابن حجر ما فيه كفاية فليراجع ، والله تعالى الموفق وإنا لنستغفره ونتوب إليه (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) حيث يغفر الصغائر باجتناب

٦٢

الكبائر ، فالجملة تعليل لاستثناء اللمم ، وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية ، وجوز أن يكون المعنى له سبحانه أن يغفر لمن يشاء من المؤمنين ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها ، ولعل تعقيب وعيد المسيئين ووعد المحسنين بذلك حينئذ لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته تعالى ولا يتوهم وجوب العقاب عليه عزوجل ، وزعم بعض جواز كون الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره والرابط محذوف أي (واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) لهم ليس بشيء كما لا يخفى.

(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) أي بأحوالكم من كل أحد (إِذْ أَنْشَأَكُمْ) في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه‌السلام.

(مِنَ الْأَرْضِ) إنشاء إجماليا حسبما مر تحقيقه ، وقيل : إنشاؤهم من الأرض باعتبار أن المني الذي يتكونون منه في الأغذية التي منشؤها الأرض ، وأيا ما كان ـ فإذا ـ ظرف ـ لأعلم ـ وهو على بابه من التفصيل.

وقال مكي : هو بمعنى عالم إذ تعلق علمه تعالى بأحوالهم في ذلك الوقت لا مشارك له تعالى فيه ، وتعقب بأنه قد يتعلق علم من أطلعه الله تعالى من الملائكة عليه ، وقيل : (إِذْ) منصوب بمحذوف ، والتقدير اذكروا (إِذْ أَنْشَأَكُمْ) وهو كما ترى (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ) ووقت كونكم أجنة (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) على أطوار مختلفة مترتبة لا يخفى عليه سبحانه حال من أحوالكم وعمل من أعمالكم التي من جملتها اللمم الذي لو لا المغفرة الواسعة لأصابكم وباله. فالجملة استئناف مقرر لما قبلها وذكر (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) مع أن الجنين ما كان في البطن للإشارة إلى الأطوار كما أشرنا إليه ، وقيل : لتأكيد شأن العلم لما أن بطن الأم في غاية الظلمة ، والفاء في قوله تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) لترتيب النهي عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم ليس لعدم كونه من قبيل الذنوب بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه سبحانه بصدوره عنكم أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية أو بزكاء العمل وزيادة الخير بل اشكروا الله تعالى على فضله ومغفرته جل شأنه (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) المعاصي جميعا وهو استئناف مقرر للنهي ومشعر بأن فيهم من يتقيها بأسرها كذا في الإرشاد ، وقيل : اتقى الشرك ، وقيل : اتقى شيئا من المعاصي ، والآية نزلت على ما قيل : في قوم من المؤمنين كانوا يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا وهذا مذموم منهي عنه إذا كان بطريق الإعجاب ، أو الرياء أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به ولا يعد فاعله من المزكين أنفسهم ، ولذا قيل : المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر ، ولا فرق في التزكية بين أن تكون عبارة وأن تكون إشارة وعدّ منها التسمية بنحو برّة ، أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن مردويه وابن سعد عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برّة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم سموها زينب» وكذا غير عليه الصلاة والسلام إلى ذلك اسم برة بنت جحش ، وتغيير مثل ذلك مستحب وكذا ما يوقع نفيه بعض الناس في شيء من الطيرة كبركة ويسار ، والنهي عن التسمية به للتنزيه وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم كما روى جابر : «إن عشت إن شاء الله أنهى أمتي أن يسمعوا نافعا وأفلح وبركة» محمول كما قال النووي على إرادة أنهى نهي تحريم ، والظاهر أن كراهة ما يشعر بالتزكية مخصوصة بما إذا كان الاشعار قويا كما إذا كان الاسم قبل النقل ظاهر الدلالة على التسمية مستعملا فيها فلا كراهة في التسمية بما يشعر بالمدح إذا لم يكن كذلك كسعيد وحسن ، وقد كان لعمر رضي الله تعالى عنه ابنة يقال لها : عاصية فسماها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جميلة كذا قيل ، والمقام بعد لا يخلو عن بحث

٦٣

فليراجع ، وقيل : معنى ـ لا تزكوا أنفسكم ـ لا يزكي بعضكم بعضا ، والمراد النهي عن تزكية السمعة أو المدح للدنيا ، أو تزكية على سبيل القطع ، وأما التزكية لإثبات الحقوق ونحوه فهي جائزة ، وذهب بعضهم إلى أن الآية نزلت في اليهود.

أخرج الواحدي وابن المنذر وغيرهما عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال : «كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا : هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله تعالى في بطن أمها إلا يعلم سعادتها أو شقاوتها» فأنزل الله سبحانه عند ذلك (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) الآية.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٦٢)

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) أي عن اتباع الحق والثبات عليه (وَأَعْطى قَلِيلاً) أي شيئا قليلا ، أو إعطاء قليلا (وَأَكْدى) أي قطع العطاء من قولهم حفر فأكدى إذا بلغ إلى كدية أي صلابة في الأرض فلم يمكنه الحفر ، قال مجاهد وابن زيد : نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد سمع قراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجلس إليه ووعظه فقرب من الإسلام وطمع فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم إنه عاتبه رجل من المشركين ، وقال له : أتترك ملة آبائك؟! ارجع إلى دينك واثبت عليه وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال فوافقه الوليد على ذلك ورجع عما همّ به من الإسلام وضل ضلالا بعيدا ، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح ، وقال الضحاك : هو النضر بن الحارث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه وضمن له أن يحمل عنه مأثم رجوعه ، وقال السدي : نزلت في العاص بن وائل السهمي كان يوافق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض الأمور ، وقال محمد بن كعب : في أبي جهل قال : والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق ، والأول هو الأشهر الأنسب لما بعده من قوله سبحانه : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ) إلى آخره ، وأما ما في الكشاف من أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعيد بن أبي سرح : يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان : إن لي ذنوبا وخطايا وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه فقال عبد الله : أعطني ناقتك برحلها وأنا أحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فباطل ـ كما قال ابن عطية ـ ولا أصل له ، وعثمان رضي الله تعالى عنه منزه عن مثل ذلك ، و (أَفَرَأَيْتَ) هنا على ما في البحر بمعنى أخبرني ومفعولها الأول الموصول ، والثاني الجملة الاستفهامية ، والفاء في قوله تعالى : (فَهُوَ يَرى) للتسبب

٦٤

عما قبله أي عنده علم بالأمور الغيبية فهو بسبب ذلك يعلم أن صاحبه يتحمل عنه يوم القيامة ما يخافه ، وقيل : يرى أن ما سمعه من القرآن باطل : وقال الكلبي : المعنى أأنزل عليه قرآن فرأى أن ما صنعه حق ، وأيا ما كان ـ فيرى ـ من الرؤية القلبية ، وجوز أن تكون من الرؤية البصرية أي فهو يبصر ما خفي عن غيره مما هو غيب (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ) أي بل ألم يخبر.

(بِما فِي صُحُفِ مُوسى) وهي التوراة (وَإِبْراهِيمَ) وبما في صحف إبراهيم التي نزلت عليه (الَّذِي وَفَّى) أي وفر وأتم ما أمر به ، أو بالغ في الوفاء بما عاهد عليه الله تعالى ، وقال ابن عباس : وفى بسهام الإسلام كلها ولم يوفها أحد غيره وهي ثلاثون سهما منها عشرة في براءة (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [التوبة : ١١١] الآيات ، وعشرة في الأحزاب (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) [الأحزاب : ٣٥] الآيات ، وست في ـ قد أفلح المؤمنون ـ الآيات التي في أولها ، وأربع في سأل سائل (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المعارج : ٢٦] الآيات ، وفي حديث ضعيف عن أبي أمامة يرفعه ، وفّى بأربع ركعات كان يصليهن في كل يوم ، وفي رواية يصليهن أول النهار.

وأخرج أحمد من حديث معاذ بن أنس مرفوعا أيضا «ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفى لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون الآية» وقال عكرمة : (وَفَّى) بتبليغ هذه العشرة أن لا تزر إلى آخره «وقيل ، وقيل :» والأولى العموم وهو مروي عن الحسن قال : ما أمره الله تعالى بشيء إلا وفى به وتخصيصه عليه‌السلام بهذا الوصف لاحتماله ما لا يحتمله غيره ، وفي قصة الذبح ما فيه كفاية وخص هذان النبيان عليهما‌السلام بالذكر قيل : لأنه فيما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بابنه وبأبيه وعمه وخاله ، والزوج بامرأته ، والعبد بسيده فأول من خالفهم إبراهيم وقرر ذلك موسى ولم يأت قبله مقرر مثله عليه‌السلام ، وتقديمه لما أن صحفه أشهر عندهم وأكثر ، وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي «وفى» بتخفيف الفاء (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي إنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل حمل نفس أخرى على أن (أن) هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف ، والجملة المنفية خبرها ومحل الجملة الجر على أنها بدل مما في صحف موسى ، أو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والاستئناف بياني كأنه قيل : ما في صحفهما؟ فقيل : هو (أَلَّا تَزِرُ) إلخ ، والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ليتخلص الثاني عن عقابه ، ولا يقدح في ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من علم بها إلى يوم القيامة» فإن ذلك وزر الإضلال الذي هو وزره لا وزر غيره ، وقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) بيان لعدم إثابة الإنسان بعمل غيره إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب غيره (وَأَنْ) كأختها السابقة ، و (ما) مصدرية وجوز كونها موصولة أي ليس له إلا سعيه ، أو إلا الذي سعى به وفعله ، واستشكل بأنه وردت أخبار صحيحة بنفع الصدقة عن الميت ، منها ما أخرجه مسلم والبخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة «أن رجلا قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال : نعم» وكذا بنفع الحج.

أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس قال : «أتى رجل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إن أختي نذرت لأن تحج وأنها ماتت فقال النبي عليه الصلاة والسلام : لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم قال : فحق الله أحق بالقضاء» وأجيب بأن الغير لما نوى ذلك الفعل له صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعا فكأنه بسعيه ، وهذا لا يتأتى إلا بطريق عموم المجاز ، أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه ، وأجيب أيضا بأن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعي نفسه من الإيمان فكأنه سعيه ، ودل على بنائه على ذلك ما أخرجه أحمد عن

٦٥

عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة وأن هشاما ابنه نحو حصته خمسين وأن عمرا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فقال : «وأما أبوك فلو كان أقرّ بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك» وأجيب بهذا عما قيل : إن تضعيف الثواب الوارد في الآيات ينافي أيضا القصر على سعيه وحده ، وأنت تعلم ما في الجواب من النظر ، وقال بعض أجلة المحققين إنه ورد في الكتاب والسنة ما هو قطعي في حصول الانتفاع بعمل الغير وهو ينافي ظاهر الآية فتقيد بما لا يهبه العامل ، وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١] فقال : ليس له بالعدل إلا ما سعى وله بالفضل ما شاء الله تعالى فقبل عبد الله رأس الحسين ؛ وقال عكرمة : كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى عليهما‌السلام ، وأما هذه الأمة فللإنسان منها سعي غيره يدل عليه حديث سعد بن عبادة «هل لأمي إذا تطوعت عنها؟ قال صلى الله تعالى عليه وسلم : نعم» وقال الربيع: الإنسان هنا الكافر ، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره ، وعن ابن عباس أن الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور : ٢١] وقد أخرج عنه ما يشعر به أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ ، وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ، وتعقب أبو حيان رواية النسخ بأنها لا تصح لأن الآية خبر لم تتضمن تكليفا ولا نسخ في الأخبار. وما يتوهم جوابا من أنه تعالى أخبر في شريعة موسى وإبراهيم عليهما‌السلام أن لا يجعل الثواب لغير العامل ثم جعله لمن بعدهم من أهل شريعتنا مرجعه إلى تقييد الأخبار لا إلى النسخ إذ حقيقته أن يراد المعنى ، ثم من بعد ذلك ترتفع إرادته ، وهذا تخصيص الإرادة بالنسبة إلى أهل الشرائع فافهمه ، وقيل : اللام بمعنى على أي ليس على الإنسان غير سعيه ، وهو بعيد من ظاهرها ومن سياق الآية أيضا فإنها وعظ للذي تولى وأعطى قليلا وأكدا ، والذي أميل إليه كلام الحسين ، ونحوه كلام ابن عطية قال : والتحرير عندي في هذا الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله سبحانه : (لِلْإِنْسانِ) فإذا حققت الشيء الذي حق الإنسان أن يقول فيه لي كذا لم تجده إلا سعيه وما يكون من رحمة بشفاعة ، أو رعاية أب صالح ، أو ابن صالح ، أو تضعيف حسنات ، أو نحو ذلك فليس هو للإنسان ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوّز ، وإلحاق بما هو حقيقة انتهى.

ويعلم من مجموع ما تقدم أن استدلال المعتزلة بالآية على أن العبد إذا جعل ثواب عمله أي عمل كان لغيره لا ينجعل ويلغو جعله غير تام ؛ وكذا استدلال الإمام الشافعي بها على أن ثواب القراءة لا تلحق الأموات ـ وهو مذهب الإمام مالك ـ بل قال الامام ابن الهمام : إن مالكا والشافعي لا يقولان بوصول العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة بل غيرها كالصدقة والحج ، وفي الإذكار للنووي عليه الرحمة المشهور من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وجماعة أنها لا تصل ، وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي إلى أنه تصل ، فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان ، والظاهر أنه إذا قال ذلك ونحوه كوهبت ثواب ما قرأته لفلان بقلبه كفى ، وعن بعضهم اشتراط نية النيابة أول القراءة وفي القلب منه شيء ، ثم الظاهر أن ذلك إذا لم تكن القراءة بأجرة أما إذا كانت بها كما يفعله أكثر الناس اليوم فإنهم يعطون حفظة القرآن أجرة ليقرءوا لموتاهم فيقرءون لتلك الأجرة فلا يصل ثوابها إذ لا ثواب لها ليصل لحرمة أخذ الاجرة على قراءة القرآن وإن لم يحرم على تعليمه كما حققه خاتمة الفقهاء المحققين الشيخ محمد الأمين بن عابدين الدمشقي رحمه‌الله تعالى ، وفي الهداية من كتاب الحج عن الغير إطلاق صحة جعل الإنسان عمله لغيره ولو صلاة وصوما عند أهل السنة والجماعة ، وفيه ما علمت ما مرّ آنفا.

٦٦

وقال الخفاجي : هو محتاج إلى التحرير وتحريره أن محل الخلاف العبادة البدنية هل تقبل النيابة فتسقط عمن لزمته فعل غيره سواء كان بإذنه أو لا بعد حياته أم لا فهذا وقع في الحج كما ورد في الأحاديث الصحيحة ، أما الصوم فلا ، وما ورد في حديث «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» وكذا غيره من العبادات فقال الطحاوي : إنه كان في صدر الإسلام ثم نسخ وليس الكلام في الفدية وإطعام الطعام فإنه بدل وكذا إهداء الثواب سواء كان بعينه أو مثله فإنه دعاء وقبوله بفضله عزوجل كالصدقة عن الغير فأعرفه انتهى فلا تغفل.

(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أي يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة في صحيفته وميزانه من أريته الشيء ، وفي البحر يراه حاضرو القيامة ويطلعون عليه تشريفا للمحسن وتوبيخا للمسيء (ثُمَّ يُجْزاهُ) أي يجزى الإنسان سعيه ، يقال : جزاه الله عزوجل بعمله وجزاه على عمله وجزاه عمله بحذف الجار وإيصال الفعل ، وقوله تعالى : (الْجَزاءَ الْأَوْفى) مصدر مبين للنوع وإذا جاز وصف المجزي به بالأوفى جاز وصف الحدث عن الجزاء لملابسته له ، وجوز كونه مفعولا به بمعنى المجزي به وحينئذ يكون الفعل في حكم المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل. ولا بأس لأن الثاني بالحذف والإيصال لا التوسع فيجيء فيه الخلاف ، وبعضهم يجعل الجزاء منصوبا بنزع الخافض ، وجوز أن يكون الضمير المنصوب في (يُجْزاهُ) للجزاء لا للسعي ، و (الْجَزاءَ الْأَوْفى) عليه عطف بيان ، أو بدل كما في قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء : ٣] وتعقبه أبو حيان بأن فيه إبدال الظاهر من الضمير وهي مسألة خلافية والصحيح المنع (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أي إن انتهاء الخلق ورجوعهم إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا ، والمراد بذلك رجوعهم إليه سبحانه يوم القيامة حين يحشرون ولهذا قال غير واحد : أي إلى حساب ربك أو إلى ثوابه تعالى من الجنة وعقابه من النار الانتهاء ، وقيل : المعنى أنه عزوجل منتهى الأفكار فلا تزال الأفكار تسير في بيداء حقائق الأشياء وماهياتها والإحاطة بما فيها حتى إذا وجهت إلى حرم ذات الله عزوجل وحقائق صفاته سبحانه وقفت وحرنت وانتهى سيرها ، وأيد بما أخرجه البغوي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في الآية : «لا فكرة في الرب» وأخرجه أبو الشيخ في العظمة عن سفيان الثوري ، وروي عنه عليه الصلاة والسلام «إذا ذكر الرب فانتهوا» ، وأخرج ابن ماجة عن ابن عباس قال : «مر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال : تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروه» وأخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا».

واستدل بذلك من قال باستحالة معرفته عزوجل بالكنه ، والبحث في ذلك طويل ، وأكثر الأدلة النقلية على عدم الوقوع ، وقرأ أبو السمال ، وإن بالكسر هنا وفيما بعد على أن الجمل منقطعة عما قبلها فلا تكون مما في الصحف (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) خلق فعلي الضحك والبكاء ، وقال الزمخشري : خلق قوتي الضحك والبكاء ، وفيه دسيسة اعتزال ، وقال الطيبي : المراد خلق السرور والحزن أو ما يسر ويحزن من الأعمال الصالحة والطالحة ، ولذا قرن بقوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) وعليه فهو مجاز ولا يخفى أن الحقيقة أيضا تناسب الإماتة والإحياء لا سيما والموت يعقبه البكاء غالبا والإحياء عند الولادة الضحك وما أحسن قوله :

ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا

والناس حولك يضحكون سرورا

فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا

في يوم موتك ضاحكا مسرورا

وقال مجاهد الكلبي : (أَضْحَكَ) أهل الجنة (وَأَبْكى) أهل النار ، وقيل : (أَضْحَكَ) الأرض بالنبات (وَأَبْكى) السماء بالمطر ، وتقديم الضمير وتكرير الإسناد للحصر أي إنه تعالى فعل ذلك لا غيره سبحانه ، وكذا في

٦٧

أنه (هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) فلا يقدر على الإماتة والإحياء غير عزوجل ، والقاتل إنما ينقض البنية الإنسانية ويفرق أجزاءها والموت الحاصل بذلك فعل الله تعالى على سبيل العادة في مثله فلا إشكال في الحصر (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) من نوع الإنسان وغيره من أنواع الحيوانات ولم يذكر الضمير على طرز ما تقدم لأنه لا يتوهم نسبة خلق الزوجين إلى غيره عزوجل (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) أي تدفق في الرحم يقال : أمنى الرجل ومنى بمعنى ، وقال الأخفش : أي تقدر يقال منى لك الماني أي قدر لك المقدر ، ومنه المنا الذي يوزن به فيما قبل ، والمنية وهي الأجل المقدر للحيوان (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي الإحياء بعد الإماتة وفاء بوعده جل شأنه : وفي البحر لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله تعالى عليه كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه ، وفي الكشاف قال سبحانه : (عَلَيْهِ) لأنها واجبة في الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة وفيه مع كونه على طريق الاعتزال نظر ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ـ النشاءة ـ بالمد وهي أيضا مصدر نشأة الثلاثي (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) وأعطى القنية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ببقاء نفسه أو أصله كالرياض والحيوان والبناء ، وإفراد ذلك بالذكر مع دخوله في قوله تعالى : (أَغْنى) لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها ، وفي البحر يقال : قنيت المال أي كسبته ويعدى أيضا بالهمزة والتضعيف فيقال : أقناه الله تعالى مالا وقناه الله تعالى مالا ، وقال الشاعر :

كم من غني أصاب الدهر ثروته

ومن فقير يقني بعد إقلال

أي يقني المال ، وعن ابن عباس (أَغْنى) مول ، (وَأَقْنى) أرضى. وهو بهذا المعنى مجاز من القنية قال الراغب : وتحقيق ذلك أنه جعل له قنية من الرضا والطاعة وذلك أعظم القنائن ، ولله تعالى در من قال :

هل هي إلا مدة وتنقضي

ما يغلب الأيام إلا من رضي

وعن ابن زيد والأخفش (أَقْنى) أفقر ، ووجه بأنهما جعلا الهمزة فيه للسلب والإزالة كما في أشكى ، وقيل : إنهما جعلا (أَقْنى) بمعنى جعل له الرضا والصبر قنية كناية عن ذلك ليظهر فيه الطباق كما في (أَماتَ وَأَحْيا) و (أَضْحَكَ وَأَبْكى) وفسره بأفقر أيضا الحضرمي إلا أنه كما أخرج عنه ابن جرير وأبو الشيخ قال (أَغْنى) نفسه سبحانه و «أفقر» الخلائق إليه عزوجل ، والظاهر على تقدير اعتبار المفعول في جميع الأفعال المتقدمة أن يكون من المحدثات الصالحة لتعلق الفعل ، وعندي أن (أَغْنى) سبحانه نفسه كأوجد جل شأنه نفسه لا يخلو عن سماجة وإيهام محذور ، وإنما لم يذكر مفعول لأن القصد إلى الفعل نفسه (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) هي (الشِّعْرى) العبور بفتح العين المهملة والباء الموحدة والراء المهملة بعد الواو ، وتقال (الشِّعْرى) أيضا على الغميصاء بغين معجمة مضمومة وميم مفتوحة بعدها ياء مثناة تحتية وصاد مهملة ومد ، والأولى في الجوزاء ، وإنما قيل لها العبور لأنها عبرت المجرة فلقيت سهيلا ولأنها تراه إذا طلع كأنها ستعبر وتسمى أيضا كلب الجبار لأنها تتبع الجوزاء المسماة بالجبار كما تتبع الكلب الصائد أو الصيد ، والثانية في ذراع الأسد المبسوطة ، وإنما قيل لها الغميصاء لانها بكت من فراق سهيل فغمصت عينها ، والغمص ما سال من الرمص وهو وسخ أبيض يجتمع في الموق ، وذلك من زعم العرب أنهما أختا سهيل ، وفي القاموس من أحاديثهم أن الشعرى العبور قطعت المجرة فسميت عبورا وبكت الأخرى على أثرها حتى غمصت ويقال لها الغموص أيضا ، وقيل : زعموا أن سهيلا و (الشِّعْرى) كانا زوجين فانحدر سهيل وصار يمانيا فاتبعه الشعرى فعبرت المجرة فسميت العبور وأقامت الغميصاء وسميت بذلك لأنها دون الأولى ضياء ، وكل ذلك من تخيلاتهم الكاذبة التي لا حقيقة لها ، والمتبادر عند الإطلاق وعدم الوصف العبور لأنها أكبر جرما وأكثر ضياء وهي التي عبدت من دون الله سبحانه في الجاهلية.

٦٨

قال السدي : عبدتها حمير وخزاعة ، وقال غيره : أول من عبدها أبو كبشة رجل من خزاعة ، أو هو سيدهم واسمه وخز بن غالب وكان المشركون يقولون للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ابن أبي كبشة شبهوه به لمخالفته قومه في عبادة الأصنام ، وذكر بعضهم أنه أحد أجداده عليه الصلاة والسلام من قبل أمه وأنهم كانوا يزعمون أن كل صفة في المرء تسري إليه من أحد أصوله فيقولون نزع إليه عرق كذا ، وعرق الخال نزاع ، وقيل : هو كنية وهب بن عبد مناف جده صلى الله تعالى عليه وسلم من قبل أمه ، وقولهم له عليه الصلاة والسلام ذلك على ما يقتضيه ظاهر القاموس لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم في الشبه الخلقي دون المخالفة ، وقيل : كنية زوج حليمة السعدية مرضعته عليه الصلاة والسلام ، وقيل : كنية عم ولدها ولكونها عبدت من دونه عزوجل خصت بالذكر ليكون ذلك تجهيلا لهم بجعل المربوب ربا ، ولمزيد الاعتناء بذلك جيء بالجملة على ما نطق به النظم الجليل.

ومن العرب من كان يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم ويزعمون أنها تقطع السماء عرضا وسائر النجوم تقطعها طولا ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ففي قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) إشارة إلى نفي تأثيرها.

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) أي القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح كما قاله ابن زيد والجمهور ، وقال الطبري : وصفت الأولى لأن في القبائل (عاداً) أخرى وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال ، وقال المبرد : عاد الأخرى هي ثمود ، وقيل : الجبارون ، وقيل : عاد الأولى ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح ، وعاد الأخرى من ولد عاد الأولى ، وفي الكشاف (الْأُولى) قوم هود والأخرى إرم والله تعالى أعلم.

وجوز أن يراد بالأولى المتقدمون الأشراف : وقرأ قوم عاد الولي بحذف الهمزة ونقل ضمها إلى اللام قبلها ، وقرأ نافع وأبو عمرو عاد الولي بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة ، وعاب هذه القراء المازني والمبرد ، وقالت العرب : في الابتداء بعد النقل ـ الحمر ، ولحمر ـ فهده القراءة جاءت على لحمر فلا عيب فيها ، وأتى قالون بعد ضمة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو كما في قوله :

أحب الموقدين إليّ مؤسى

وكما قرأ بعضهم ـ على سؤقه ـ وفيه شذوذ ، وفي حرف أبيّ عاد غير مصروف للعلمية والتأنيث ومن صرفه فباعتبار الحي ، أو عامله معاملة هند لكونه ثلاثيا ساكن الوسط (وَثَمُودَ) عطف على (عاداً) ولا يجوز أن يكون مفعولا ـ لأبقى ـ في قوله تعالى : (فَما أَبْقى) لأن ـ ما ـ النافيه لها صدر الكلام والفاء على ما قيل : مانعة أيضا فلا يتقدم معمول ما بعدها ، وقيل : هو معمول ـ لأهلك ـ مقدر ولا حاجة إليه ، وقرأ عاصم وحمزة ـ ثمود ـ بلا تنوين ويقفان بغير ألف والباقون بالتنوين ويقفون بالألف ، والظاهر أن متعلق (أَبْقى) يرجع إلى عاد وثمود معا أي فما أبقى عليهم ، أي أخذهم بذنوبهم ، وقيل : أي ما أبقى منهم أحدا ، والمراد ما أبقى من كفارهم (وَقَوْمَ نُوحٍ) عطف على (عاداً) أيضا (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل إهلاك عاد وثمود ، وصرح بالقبلية لأن نوحا عليه‌السلام آدم الثاني وقومه أول الطاغين والهالكين (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ (١) أَطْغى) أي من الفريقين حيث كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكاد يتحرك وكان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه يتمشى به إليه يحذره منه ويقول : يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذ فإياك أن تصدقه فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه ولم يتأثروا من دعائه وقد دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، وقيل : ضمير (إِنَّهُمْ) يعود على جميع من تقدم عاد وثمود وقوم نوح أي كانوا أظلم من قريش وأطغى منهم ، وفيه من التسلية للنبي عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى ، و (هُمْ) يجوز أن يكون تأكيدا للضمير المنصوب ويجوز أن يكون فصلا لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل ، وحذف المفضول مع الواقع خبرا لكان لأنه جار مجرى خبر المبتدأ

٦٩

وحذفه فصيح فيه فكذلك في خبر كان (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) هي قرى قوم لوط سميت بذلك لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت بهم ، ومنه الإفك لأنه قلب الحق ، وجوز أن يراد بالمؤتفكة كل ما انقلبت مساكنه ودثرت أماكنه.

وقرأ الحسن «والمؤتفكات» جمعا (أَهْوى) أي أسقطها إلى الأرض بعد أن رفعها على جناح جبريل عليه‌السلام إلى السماء ، وقال المبرد : جعلها تهوي.

والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة وأخر العامل لكونه فاصلة ، وجوز أن يكون ـ المؤتفكة ـ معطوفا على ما قبله و (أَهْوى) مع فاعله جملة في موضع الحال بتقدير قد ، أو بدونه توضح كيفية إهلاكهم.

(فَغَشَّاها ما غَشَّى) فيه تهويل للعذاب وتعميم لما أصابهم منه لأن الموصول من صيغ العموم والتضعيف في غشاها يحتمل أن يكون للتعدية فيكون (ما) مفعولا ثانيا والفاعل ضميره تعالى : ويحتمل أن يكون للتكثير والمبالغة ف (ما) هي الفاعل (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) تتشكك والتفاعل هنا مجرد عن التعدد في الفاعل والمفعول للمبالغة في الفعل ، وقيل : إن فعل التماري للواحد باعتبار تعدد متعلقه وهو الآلاء المتمارى فيها ، والخطاب قيل : لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أنه من باب الإلهاب والتعريض بالغير ، وقيل : للإنسان على الإطلاق وهو أظهر والاستفهام للإنكار ، والآلاء جمع إلى النعم ، والمراد بها ما عد في الآيات قبل وسمي الكل بذلك مع أن منه نقما لما في النقم من العبر والمواعظ للمعتبرين والانتفاع للأنبياء والمؤمنين فهي نعم بذلك الاعتبار أيضا ، وقيل : التعبير بالآلاء للتغليب وتعقب بأن المقام غير مناسب له ، وقرأ يعقوب وابن محيصن ـ ربك تمارى ـ بتاء مشددة (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) الإشارة إلى القرآن. وقال أبو مالك : إلى الأخبار عن الأمم ، أو الإشارة إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم. والنذير يجيء مصدرا ووصفا ، والنذر جمعه مطلقا وكل من الامرين محتمل هنا ، ووصف (النُّذُرِ) جمعا للوصف بالأولى على تأويل الفرقة ، أو الجماعة ، واختير على غيره رعاية للفاصلة ، وأيا ما كان فالمراد (هذا نَذِيرٌ مِنَ) جنس (النُّذُرِ الْأُولى).

وفي الكشف أن قوله تعالى : (هذا نَذِيرٌ) إلخ فذلكة للكلام إما لما عدد من المشتمل عليه الصحف وإما لجميع الكلام من مفتتح السورة فتدبر ولا تغفل (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي قربت الساعة الموصوفة بالقرب في غير آية من القرآن ، فأل في (الْآزِفَةُ) للعهد لا للجنس ، وقيل : (الْآزِفَةُ) علم بالغلبة للساعة هنا ، وقيل : لا بأس بإرادة الجنس ووصف القريب بالقرب للمبالغة (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله تعالى أو إلا الله عزوجل (كاشِفَةٌ) نفس قادرة على كشفها إذا وقعت لكنه سبحانه لا يكشفها ؛ والمراد بالكشف الإزالة ، وقريب من هذا ما روي عن قتادة وعطاء والضحاك أي إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد ، أو ليس لها الآن نفس كاشفة أي مزيلة للخوف منها فإنه باق إلى أن يأتي الله سبحانه بها وهو مراد الزمخشري بقوله : أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير ، وقيل : معناه لو وقعت الآن لم يردّها إلى وقتها أحد إلا الله تعالى ، فالكشف بمعنى التأخير وهو إزالة مخصوصة ، وقال الطبري والزجاج : المعنى ليس لها من دون الله تعالى نفس كاشفة تكشف وقت وقوعها وتبينه لأنها من أخفى المغيبات ، فالكشف بمعنى التبيين والآية كقوله تعالى : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف : ١٨٧] والتاء في (كاشِفَةٌ) على جميع الأوجه للتأنيث ، وهو لتأنيث الموصوف المحذوف كما سمعت ، وبعضهم يقدر الموصوف حالا ، والأول أولى ؛ وجوز أن تكون للمبالغة مثلها في علامة ، وتعقب بأن المقام يأباه لإيهامه ثبوت أصل الكشف لغيره عزوجل وفيه نظر ، وقال الرماني وجماعة : يحتمل أن يكون (كاشِفَةٌ) مصدرا كالعافية ، وخائنة الأعين أي ليس لها كشف من دون الله تعالى (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) أي القرآن (تَعْجَبُونَ) إنكارا (وَتَضْحَكُونَ)

٧٠

استهزاء مع كونه أبعد شيء من ذلك (وَلا تَبْكُونَ) حزنا على ما فرطتم في شأنه وخوفا من أن يحيق بكم ما حاق بالأمم المذكورة (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي لاهون كما روي عن ابن عباس جوابا لنافع بن الأزرق ، وأنشد عليه قول هزيلة بنت بكر وهي تبكي قوم عاد :

ليت عادا قبلوا الحق

ولم يبدوا جحودا

قيل : قم فانظر إليهم

ثم دع عنك السمودا

وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه سئل عن السمود ، فقال : البرطمة وهي رفع الرأس تكبرا أي وأنتم رافعون رءوسكم تكبرا ، وروي تفسيره بالبرطمة عن مجاهد أيضا ، وقال الراغب : السامد اللاهي الرافع رأسه ـ من سمد البعير في سيره ـ إذا رفع رأسه ، وقال أبو عبيدة : السمود الغناء بلغة حمير يقولون : يا جارية اسمدي لنا أي غني لنا ، وروي نحوه عن عكرمة ، وأخرج عبد الرازق. والبزار وابن جرير والبيهقي في سننه. وجماعة عن ابن عباس أنه قال : هو الغناء باليمانية وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلا عنه ، وقيل : يفعلون ذلك ليشغلوا الناس عن استماعه ، والجملة الاسمية على جميع ذلك حال من فاعل ـ لا تبكون ـ ومضمونها قيد للنفي والإنكار متوجه إلى نفي البكاء ووجود السمود ، وقال المبرد : السمود الجمود والخشوع كما في قوله :

رمى الحدثان نسوة آل سعد

بمقدار سمدن له سمودا

فرد شعورهن السود بيضا

ورد وجوههن البيض سودا

والجملة عليه حال من فاعل ـ تبكون ـ أيضا إلا أن مضمونها قيد للمنفى ، والإنكار وارد على نفي البكاء والسمود معا فلا تغفل ، وفي حرف أبيّ وعبد الله ـ تضحكون ـ بغير واو ، وقرأ الحسن ـ تعجبون تضحكون ـ بغير واو وضم التاءين وكسر الجيم والحاء ، واستدل بالآية كما في أحكام القرآن على استحباب البكاء عند سماع بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حنينهم بكى معهم فبكينا ببكائه فقال عليه الصلاة والسلام : لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى ولا يدخل الجنة مصرّ على معصيته ولو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي شيبة وهناد وغيرهم بمن صالح أبي الخليل قال : «لما نزلت هذه الآية (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) ما ضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك إلا أن يتبسم» ولفظ عبد بن حميد «فما رئي النبي عليه الصلاة والسلام ضاحكا ولا مبتسما حتى ذهب من الدنيا» وفيه سد باب الضحك عند قراء القرآن ولو لم يكن استهزاء والعياذ بالله عزوجل.

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) الفاء لترتيب الأمر أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالتعجب والضحك وحقية مقابلته بما يليق به ، ويدل على عظم شأنه أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله تعالى الذي أنزله واعبدوه جل جلاله ، وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم ، وقد سجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عندها.

أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال : «أول سورة أنزلت فيها سجدة (وَالنَّجْمِ) فسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا» الحديث.

وأخرج ابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «قال : صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأ النجم فسجد بنا فأطال السجود» وكذا عمر رضي الله تعالى عنه ، أخرج سعيد بن منصور عن سبرة قال : صلى بنا عمر بن الخطاب الفجر فقرأ في الركعة الأولى سورة يوسف ، ثم قرأ في الثانية سورة النجم فسجد ، ثم قام فقرأ إذا زلزلت ثم ركع ، ولا يرى مالك السجود هنا ، واستدل له بما أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي

٧١

والنسائي والطبراني وغيرهم عن زيد بن ثابت قال : قرأت النجم عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يسجد فيها ، وأجيب بأن الترك إنما ينافي وجوب السجود وليس بمجمع عليه وهو عند القائل به على التراخي في مثل ذلك على المختار وليس في الحديث ما يدل على نفيه بالكلية فيحتمل أنه عليه الصلاة والسلام سجد بعد ، وكذا زيد رضي الله تعالى عنه ، نعم التأخير مكروه تنزيها ولعله فعل لبيان الجواز ، أو لعذر لم نطلع عليه ، وما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس من قوله : «إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة» ناف وضعيف ، وكذا قوله فيما رواه أيضا عنه «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسجد في النجم بمكة فلما هاجر إلى المدينة تركها» على أن الترك إنما ينافي ـ كما سمعت ـ الوجوب ، والله تعالى أعلم.

٧٢

سورة القمر

وتسمى أيضا «اقتربت» وعن ابن عباس أنها تدعى في التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه ، أخرجه عنه البيهقي في شعب الإيمان لكن قال : إنه منكر «وهي مكية» في قول الجمهور ، وقيل مما نزل يوم بدر ، وقال مقاتل : مكية إلا ثلاث آيات (أَمْ يَقُولُونَ) إلى (وَأَمَرُّ) [القمر : ٤٤ ـ ٤٦] واقتصر بعضهم على استثناء (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) [القمر : ٤٥] إلخ ، ورد بما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي هريرة قال : أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة قبل يوم بدر (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) وقال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف وهو يقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) فكانت ليوم بدر ، وفي الدر المنثور : أخرج البخاري عن عائشة قالت : «نزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) [القمر : ٤٦]» ويرد به وبما قبله ما حكي عن مقاتل أيضا ، وقيل : إلا (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) [القمر : ٤٥] الآيتين وآيها خمس وخمسون بالإجماع ، ومناسبة أولها لآخر السورة التي قبلها ظاهرة فقد قال سبحانه : ثم (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) [النجم : ٥٧] وهنا (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] وقال الجلال السيوطي : لا يخفى ما في توالي هاتين السورتين من حسن التناسق للتناسب في التسمية لما بين ـ النجم ، والقمر ـ من الملابسة ، وأيضا إن هذه بعد تلك ـ كالأعراف بعد الأنعام ، وكالشعراء بعد الفرقان ، وكالصافات بعد يس ـ في أنها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ) [النجم : ٥٠] إلى قوله سبحانه : (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) [النجم : ٥٣].

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ(٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨)

٧٣

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أي قربت جدا (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) انفصل بعضه عن بعض وصار فرقتين وذلك على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل الهجرة بنحو خمس سنين فقد صح من رواية الشيخين وابن جرير عن أنس أن أهل مكة سألوه عليه الصلاة والسلام أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما ، وخبر أبي نعيم من طريق الضحاك عن ابن عباس ـ أن أحبار اليهود سألوا آية فأراهم الله تعالى القمر قد انشق ـ لا يعوّل عليه ، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرقتين فرقة على الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اشهدوا» ومن حديثه أيضا «انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة فقال رجل : انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فأخبروهم بذلك» رواه أبو داود. والطيالسي ، وفي رواية البيهقي «فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا : رأيناه» فأنزل الله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).

وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس من وجه ضعيف قال : «اجتمع المشركون على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وربيعة بن الأسود والنضر بن الحارث فقالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع فقال لهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن فعلت تؤمنوا؟ قالوا : نعم وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ربه عزوجل أن يعطيه ما سألوا فأمسى القمر قد مثل نصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم اشهدوا».

والأحاديث الصحيحة في الانشقاق كثيرة ، واختلف في تواتره فقيل : هو غير متواتر ، وفي شرح المواقف الشريفي أنه متواتر وهو الذي اختاره العلامة ابن السبكي قال في شرحه لمختصر ابن الحاجب : الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر منصوص عليه في القرآن مروي في الصحيحين وغيرهما من طرق شتى بحيث لا يمترى في تواتره انتهى باختصار ، وقد جاءت أحاديثه في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة منهم علي كرم الله تعالى وجهه وأنس وابن سعود وابن عباس وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم ، نعم إن منهم من لم يحضر ذلك كابن عباس فإنه لم يكن مولودا إذ ذاك وكأنس فإنه كان ابن أربع أو خمس بالمدينة ، وهذا لا يطعن في صحة الخبر كما لا يخفى ، ووقع في رواية البخاري وغيره عن ابن مسعود «كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمنى فانشق القمر» ولا يعارض ما صح عن أنس أن ذلك كان بمكة لأنه لم يصرح بأنه عليه الصلاة والسلام كان ليلتئذ بمكة ، فالمراد أن الانشقاق كان والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذ ذاك مقيم بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة ، ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي ما هو نص في وقوع الانشقاق عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طريق مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال : رأيت القمر منشقا شقتين مرتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الحديث ، وأما الإجماع فغير مسلم ، وفي المواهب قال الحافظ بن حجر : أظن أن قوله : بالإجماع يتعلق ـ بانشق ـ لا بمرتين فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولعل قائل مرتين أراد فرقتين ، وهذا الذي لا يتجه غيره جمعا بين الروايات انتهى ، ولا يخفى أن هذا التأويل مع بعده لا يتسنى في خبر ابن مسعود المذكور آنفا لمكان شقتين وهي بمعنى فرقتين ومرتين معا ، والذي عندي في تأويل ذلك أن مرتين في كلام ابن مسعود قيد للرؤية وتعددها لا يقتضي تعدد الانشقاق بأن يكون رآه منشقا

٧٤

فصرف نظره عنه ثم أعاده فرآه كذلك لم يتغير ففيه إشارة إلى أنه رؤية لا شبهة فيها وقد فعل نحو ذلك الكفرة ، أخرج أبو نعيم من طريق عطاء عن ابن عباس قال : انتهى أهل مكة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : هل من آية نعرف بها أنك رسول الله؟ فهبط جبريل عليه‌السلام فقال : يا محمد قل لأهل مكة أن يجتمعوا هذه الليلة يروا آية فأخبرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمقالة جبريل عليه‌السلام فخرجوا ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا ما هذا إلا سحر فأنزل الله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) فلو قال أحد هؤلاء رأيت القمر منشقا ثلاث مرات على معنى تعدد الرؤية صح بلا غبار ولم يقتض تعدد الانشقاق فليخرج كلام ابن مسعود على هذا الطرز ليجمع بين الروايات ، ثم هذا الحديث إن صح كان دليلا لما أشار إليه البوصيري في قوله:

شق عن صدره وشق له البد

ر ومن شرط كل شرط جزاء

من أن الشق كان ليلة أربع عشرة لأن البدر هو القمر ليلة أربع عشرة ويعلم من ذلك ما في قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرحه : ظاهر التعبير بالبدر دون القمر أن الشق كان ليلة أربع عشرة ولم أر له في ذلك سلفا ، ولعله أراد بالبدر مطلق القمر ، ويؤيد كونه ليلة البدر ما أخرجه الطبراني ، وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : سحر القمر فنزلت (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) إلى (مُسْتَمِرٌّ) فإن الكسوف وإن جاز عادة أن يكون ليلة الثالث عشر وليلة الخامس عشر إلا أن الأغلب كونه ليلة الرابع عشر ولا ضرورة إلى حمل الكسوف في هذا الخبر على الانشقاق إذ لا مانع كما في البداية والنهاية أن يكون قد حصل للقمر مع انشقاقه كسوف ، نعم ذكر فيها أن سياق الخبر غريب.

ثم إن القمر بعد انشقاقه لم تفارق قطعتاه السماء بل بقيتا فيها متباعدتين تباعدا ما لحظة ثم اتصلتا ، وما يذكره بعض القصاص من أنه دخل في جيب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخرج من كمه فباطل لا أصل له كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشي عن شيخه العماد بن كثير ولعنة الله تعالى على من وضعه. وما في خبر أبي نعيم ـ الذي أخرجه من طريق الضحاك عن ابن عباس من أنه انشق فصار قمرين أحدهما على الصفا والآخر على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب ـ لا يعوّل عليه ، كيف وقد تضمن ذلك الخبر أن الانشقاق وقع لطلب أحبار اليهود وأن القائل هذا (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) هم ، وهو مخالف لما نطقت به الأخبار الصحيحة الكثيرة كما لا يخفى على المتتبع ، وقد شاع «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أشار إلى القمر بسبابته الشريفة فانشق» ولم أره في خبر صحيح والله تعالى أعلم.

وأنكر الفلاسفة أصل الانشقاق بناء على زعمهم استحالة الخرق والالتئام على الأجرام العلوية ودليلهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت وقد خرق بأدنى نسمة من نسمات أفكار أهل الحق العلويين خرقا لا يقبل الالتئام كما بين في موضعه ، وقال بعض الملاحدة : لو وقع لنقل متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة لأنه أمر محسوس مشاهد والناس فيه شركاء والطباع حريصة على رواية الغريب ونقل ما لم يعهد ، ولا أغرب من انشقاق هذا الجرم العظيم ولم يعهد أصلا في الزمن القديم ولو كان له أصل لخلد أيضا في كتب التسيير والتنجيم ولذكره أهل الإرصاد فقد كانت موجودة قبل البعثة بكثير وإطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره مما لا تجوزه العادة ، وأيضا لا يعقل سبب لخرق هذا الجرم العظيم وأيضا خرقه يوجب صوتا هائلا أشد من أصوات الصواعق المهلكة بأضعاف مضاعفة لا يبعد هلاك أكثر أهل الأرض منه ، وأيضا متى خرق وصار قطعتين ذهبت منه قوة

٧٥

التجاذب كالجبل إذا انشق فيلزم بقاؤه منشقا ولا أقل من أن يبقى كذلك سنين كثيرة ؛ والجواب عن ذلك أنه وقع في الليل وزمان الغفلة وكان في زمان قليل ورؤية القمر في بلد لا تستلزم ورؤيته في جميع البلاد ضرورة اختلاف المطالع فقد يكون القمر طالعا على قوم غائبا عن آخرين ومكسوفا عند قوم غير مكسوف عند آخرين والاعتناء بأمر الأرصاد لم يكن بمثابته اليوم وغفلة أهلها لحظة غير مستبعد والانشقاق لا تختلف به منازله ولا يتغير به سيره غاية ما في الباب أن يحدث في القطعة الشرقية قوة سير لتلحق أختها الغربية ، وأي مانع من أن يخلق الله تعالى فيها من السرعة نحو ما خلق الله سبحانه في ضوء الشمس فقد قال أهل الحكمة الجديدة : إن بين الأرض والشمس ثلاثمائة ألف فرسخ وأربعون ألف فرسخ وأن ضوءها ليصل إلى الأرض في مدة ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية فيقطع الضوء في كل ثانية سبعين ألف فرسخ ولا يلزم أن يعلم سبب كل حادث بل كثير من الحوادث المتكررة المشاهدة لم يوقف على أسبابها كرؤية الكواكب قريبة مع بعدها المفرط فقد ذكروا أنهم لم يقفوا على سببه ويكفي في ذلك عدم وقوفهم على سبب الإبصار بالعين على الحقيقة ولو أخبرهم مخبر بفرض إن لم يكن لهم إبصار بخواص البصر مع كونه قطعة شحم صغيرة معروفة أحوالها عند أهل التشريح لأنكروا عليه غاية الإنكار وكذبوه غاية التكذيب ونسبوه إلى الجنون.

ومن سلم تأثير النفوس إلى حدّ أن يصرع الشخص آخر بمجرد النظر إليه وتوجيه نفسه نحوه لم يستبعد أن يكون هناك سبب نحو ذلك ، وقد صح في إصابة العين أن بعض الأعراب ممن له عين صائبة يفلق سنام الناقة فلقتين ، وربما تصور له من رمل فينظر إليه ويفلقه فينفلق سنامها مع عدم رؤيته لها نفسها وهذا كله من باب المماشاة وإلا فإرادة الله تعالى كافية في الانشقاق وكذا في كل المعجزات وخوارق العادات ولو كان لكل حادث سبب لزم التسلسل وقد قامت الأدلة على بطلانه ، وكون الخرق يوجب صوتا هائلا ممنوع فيما نحن فيه ومثله ذهاب التجاذب والأجسام مختلفة من حيث الخواص فلا يلزم اتحاد جرم القمر والأرض فيها ويمكن أن يكون إحدى القطعتين كالجبل العظيم بالنسبة إلى الأرض إذا ارتفع عنها بقاسر مثلا جذبته إليه إذا لم يخرج عن حدّ جذبها على ما زعموه ويلتزم في تلك القطعة عدم الخروج عن حدّ الجذب على أنا في غنى عن كل ذلك أيضا بعد إثبات الإمكان وشمول قدرته عزوجل وأنه سبحانه فعال لما يريد.

والحاصل أنه ليس عند المنكر سوى الاستبعاد ولا يستطيع أن يأتي بدليل على الاستحالة الذاتية ولو انشق ، والاستبعاد في مثل هذه المقامات قريب من الجنون عند من له عقل سلم ، وروي عن الحسن أنه قال : هذا الانشقاق بعد النفخة الثانية ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع ، وروي ذلك عن عطاء أيضا ، ويؤيد ما تقدم الذي عليه الأكثرون قراءة حذيفة وقد انشق القمر فإن الجملة عليها حالية فتقتضي المقارنة لاقتراب الساعة ووقوع الانشقاق قبل يوم القيامة ، وكذا قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) فإنه يقتضي أن الانشقاق آية رأوها وأعرضوا عنها ، وزعم بعضهم أن انشقاق القمر عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه وهذا كما يسمى الصبح فلقا عند انفلاق الظلمة عنه وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق كما في قوله النابغة :

فلما أدبروا ولهم دوي

دعانا عند شق الصبح داعي

وزعم آخر أن معنى انشق القمر وضح الأمر وظهر وكلا الزعمين مما لا يعول عليه ولا يلتفت إليه لا أظن الداعي إليهما عند من يقرّ بالساعة التي هي أعظم من الانشقاق ويعترف بالعقائد الإسلامية التي وقع عليها الاتفاق سوى عدم ثبوت الاخبار في وقوع ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام عنده ، ومنشأ ذلك القصور التام والتمسك بشبه هي على طرف الثمام ، ومع هذا لا يكفر المنكر بناء على عدم الاتفاق على تواتر ذلك وعدم كون الآية نصا فيه ، والإخراج من

٧٦

الدين أمر عظيم فيحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره والله تعالى الموفق.

والظاهر أن المراد باقتراب الساعة القرب الشديد الزماني ، وكل آت قريب ، وزمان العالم مديد ، والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير ، ومال الإمام إلى أن المراد به قربها في العقول والأذهان ، وحاصله أنها ممكنة إمكانا قريبا لا ينبغي لاحد إنكارها ، واستعمال الاقتراب مع أنه أمر مقطوع به كاستعمال (لَعَلَ) في قوله تعالى : (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) [الأحزاب : ٦٣] مع أن الأمر معلوم عند الله تعالى وانشقاق القمر آية ظاهرة على هذا القرب ، وعلى الاول قيل : هو آية لأصل الإمكان الذي يقتضيه قرب الوقوع ، وقيل : هو آية لقرب الوقوع ومعجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باعتبار أن الله تعالى مخبر في كتبه السالفة بأنه إذا قربت الساعة انشق القمر معجزة وكلاهما كما ترى ، واختار بعضهم أنه آية لصدق النبي عليه الصلاة والسلام في جميع ما يقول ويبلغ ربه سبحان لأنه معجزة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنه دعوى الرسالة والإخبار باقتراب الساعة وغير ذلك ، و (آيَةً) نكرة في سياق الشرط فتعم ، فالمعنى «وإن يروا كل آية يعرضوا» عن التأمل فيها ليقفوا على وجه دلالتها وعلو طبقتها (وَيَقُولُوا سِحْرٌ) أي هذا أو هو أي ما نراه سحر (مُسْتَمِرٌّ) أي مطرد دائم يأتي به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم على مر الزمان وهو ظاهر في ترادف الآيات وتتابع المعجزات.

وقال أبو العالية والضحاك : (مُسْتَمِرٌّ) محكم موثق من المرة بالفتح أو الكسر بمعنى القوة وهو في الأصل مصدر مررت الحبل مرة إذا فتلته فتلا محكما فأريد به مطلق المحكم مجازا مرسلا ، وقال أنس ويمان ومجاهد والكسائي والفراء ـ واختاره النحاس ـ مستمر أي مارّ ذاهب زائل عن قريب عللوا بذلك أنفسهم ومنوها بالأماني الفارغة كأنهم قالوا : إن حاله عليه الصلاة والسلام وما ظهر من معجزاته سبحانه

سحابة صيف عن قريب تقشع

(وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [التوبة : ٣٢] وقيل : (مُسْتَمِرٌّ) مشتدّ المرارة أي مستبشع عندنا منفور عنه لشدة مرارته يقال : مرّ الشيء وأمرّ إذا صار مرّا وأمرّ غيره ومرّه يكون لازما ومتعديا ، وقيل : (مُسْتَمِرٌّ) يشبه بعضه بعضا أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخييلات ، وقيل : (مُسْتَمِرٌّ) مار من الأرض إلى السماء أي بلغ من سحره أنه سحر القمر وهذا ليس بشيء ، ولعل الأنسب بغلوهم في العناد والمكابرة ما روي عن أنس ومن معه ، وقرئ ـ وأن يروا ـ بالبناء للمفعول من الاراءة (وَكَذَّبُوا) النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبما أظهره الله تعالى على يده من الآيات (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) التي زينها الشيطان لهم ، وقيل : (كَذَّبُوا) الآية التي هي انشقاق القمر (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) وقالوا سحر القمر أو سحرت أعيننا والقمر بحاله ، والعطف على الجزاء السابق وصيغة الماضي للدلالة على التحقق ، وقيل : العطف على (اقْتَرَبَتِ) والجملة الشرطية اعتراض لبيان عادتهم إذا شاهدوا الآيات ، وقوله تعالى : (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) استئناف مسوق للرد على الكفار في تكذيبهم ببيان أنه لا فائدة لهم فيه ولا يمنع علو شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو لإقناطهم عما علقوا به أمانيهم الفارغة من عدم استقرار أمره عليه الصلاة والسلام حسبما قالوا : (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ببيان ثبوته ورسوخه أي وكل أمر من الأمور منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة ومن جملتها أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسيصير إلى غاية يتبين عندها حقيته وعلو شأنه ، وللإشارة إلى ظهور هذه الغاية لأمره عليه الصلاة والسلام لم يصرح بالمستقر عليه ، وفي الكشاف أي كل أمر لا بدّ أن يصير إلى غاية يستقر عليها وأن أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق أو باطل وسيظهر له عاقبتهم أو وكل أمر من أمره عليه الصلاة والسلام وأمرهم مستقر أي سيثبت ويستقر على حالة نصرة أو خذلان في الدنيا أو سعادة وشقاوة في الآخرة ، قال في الكشف : والكلام على الأول تذييل جار مجرى المثل وعلى الثاني تذييل غير مستقل ، وقرأ شيبة

٧٧

«مستقر» بفتح القاف ورويت عن نافع ، وزعم أبو حاتم أنها لا وجه لها وخرجت على أن مستقرا مصدر بمعنى استقرار ، وحمله على كل أمر بتقدير مضاف أي ذو مستقر ولو لم يقدر وقصد المبالغة صح ، وجوز كونه اسم زمان أو مكان بتقدير مضاف أيضا أي ذو زمان استقرار ، أو ذو موضع استقرار ، وتعقب بأن كون كل أمر لا بد له من زمان أو مكان أمر معلوم لا فائدة في الأخبار به ، وأجيب بأن فيه إثبات الاستقرار له بطريق الكناية وهي أبلغ من التصريح.

وقرأ زيد بن علي «مستقر» بكسر القاف والجر ، وخرج على أنه صفة أمر وأن كل معطوف على الساعة أي اقتربت الساعة ؛ واقترب كل أمر يستقر ويتبين حاله أي بقربها ، قال في الكشف : وفيه شمة من التجريد وتهويل عظيم حيث جعل في اقترابها اقتراب كل أمر يكون له قرار وتبين حال مما له وقع ، وقوله تعالى : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) على هذا إما على تقدير قد وينصره القراءة بها ، وإما منزل منزلة الإعراض لكونه مؤكدا لقرب الساعة ، وقوله سبحانه : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) إلخ مستطرد عند ذكر انشقاق القمر.

واعترض ذلك أبو حيان بأنه بعيد لكثرة الفواصل بين المعطوف والمعطوف عليه وجعل الكلام عليه نظير ـ أكلت خبزا ، وضربت خالدا ، وإن يجىء زيد أكرمه ، ورحل إلى بني فلان ، ولحما بعطف ـ لحما على خبزا ـ ثم قال بل لا يوجد مثله في كلام العرب ، وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذا دل على العطف الدليل لا يعد ذلك مانعا منه على أن بين الآية والمثال فرقا لا يخفى ، وقال صاحب اللوامح إن (مُسْتَقِرٌّ) خبر كل ، والجر للجوار ، واعترضه أبو حيان أيضا بأنه ليس بجيد لأن الجر على الجوار في غاية الشذوذ في مثله إذ لم يعهد في خبر المبتدأ ، وإنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده ، واستظهر كون كل مبتدأ وخبره مقدر كآت ، أو معمول به ونحوه مما يشعر به الكلام أو مذكور بعد وهو قوله تعالى : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) وقد اعترض بينهما بقوله سبحانه : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) في القرآن (مِنَ الْأَنْباءِ) أي أخبار القرون الخالية أو أخبار الآخرة ، والجار والمجرور في موضع الحال من ما في قوله عزوجل : (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) قدم عليه رعاية للفاصلة وتتويقا إليه و (مِنَ) للتبعيض ، أو للتبيين بناء على المختار من جواز تقديمه على المبين ، قال الرضى : إنما جاز تقديم (مِنَ) المبينة على المبهم في نحو ـ عندي من المال ما يكفي ـ لأنه في الأصل صفة لمقدر أي شيء من المال ، والمذكور عطف بيان للمبين المقدر قبلها ليحصل البيان بعد الإبهام أي بالله لقد جاءهم كائنا من الأنباء ما فيه ازدجار لهم ومنع عما هم فيه من القبائح ، أو موضع ازدجار ومنع ، وهي أنباء التعذيب ، أو أنباء الوعيد ، وأصل (مُزْدَجَرٌ) مزتجر بالتاء موضع الدال وتاء الافتعال تقلب دالا مع الدال والذال والراء للتناسب ، وقرئ مزجر بقلبها زايا وإدغام الزاي فيها ، وقرأ زيد بن علي مزجر اسم فاعل من أزجر أي صار ذا زجر كأعشب صار ذا عشب (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) أي واصلة غاية الإحكام لا خلل فيها ، ورفع (حِكْمَةٌ) على أنها بدل كل ، أو اشتمال من (ما) ، وقيل : من (مُزْدَجَرٌ) أو خبر مبتدأ محذوف أي هي ، أو هذه على أن الإشارة لما يشعر به الكلام من إرسال الرسل وإيضاح الدليل والإنذار لمن مضى ، أو إلى ما في الأنباء ، أو إلى الساعة المقتربة ، والآية الدالة عليها ـ كما قاله الإمام وتقدم آنفا ـ احتمال كونها خبرا عن كل في قراءة زيد ، وقرأ اليماني (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) بالنصب حالا من (ما) فإنها موصولة أو نكرة موصوفة ، ويجوز مجيء الحال منها مع تأخرها أو هو بتقدير أعني.

(فَما تُغْنِ النُّذُرُ) نفى للإغناء أو استفهام إنكاري والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكمة البالغة مع كونه مظنة الإغناء وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار ، و (ما) على الوجه الثاني في محل نصب على أنها مفعول مطلق أي فأي إغناء تغني النذر ، وجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء ، والجملة بعدها خبر ، والعائد مقدر أي فما تغنيه النذر وهو جمع نذير بمعنى المنذر ، وجوز أن يكون جمع نذير بمعنى الإنذار ، وتعقب بأن حق

٧٨

المصدر أن لا يثنى ولا يجمع وأن يكون مصدرا كالإنذار ، وتعقب بأنه يأباه تأنيث الفعل المسند إليه وكونه باعتبار أنه بمعنى النذارة لا يخفى حاله (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) الفاء للسببية والمسبب التولي أو الأمر به والسبب عدم الاعناء أو العلم به ، والمراد بالتولي إما عدم القتال ، فالآية منسوخة ، وإما ترك الجدال للجلاد فهي محكمة والظاهر الأول (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) ظرف ـ ليخرجون ـ أو مفعول به لاذكر مقدرا ، وقيل : لانتظر ، وجوز أن يكون ظرفا لتغني ، أو لمستقر وما بينهما اعتراض ، أو ظرفا ـ ليقول الكافر ـ أو ـ لتول ـ أي تول عن الشفاعة لهم يوم القيامة ، أو هو معمول له بتقدير إلى ، وعليه قول الحسن ـ فتول عنهم إلى يوم ..

والمراد استمرار التولي والكل كما ترى ، والداعي إسرافيل عليه‌السلام ، وقيل : جبرائيل عليه‌السلام ، وقيل : ملك غيرهما موكل بذلك ، وجوز أن يكون الدعاء للإعادة في ذلك اليوم كالأمر في (كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة : ١١٧] وغيرها على القول بأنه تمثيل ، فالداعي حينئذ هو الله عزوجل ، وحذفت الواو من (يَدْعُ) لفظا لالتقاء الساكنين ورسما اتباعا للفظ ، والياء من (الدَّاعِ) تخفيفا ، وإجراء لال مجرى التنوين لأنها تعاقبه ، والشيء يحمل على ضده كما يحمل على نظيره (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي فظيع تنكره النفوس لعدم العهد بمثله وهو هول القيامة ويكنى بالنكر عن الفظيع لأنه في الغالب منكر غير معهود ، وجوز أن يكون من الإنكار ضد الإقرار وأيما كان فهو وصف على فعل بضمتين وهو قليل في الصفات ، ومنه ـ روضة أنف لم ترع ، ورجل شلل خفيف في الحاجة سريع حسن الصحبة طيب النفس ، وسجح لين سهل وقرأ الحسن وابن كثير وشبل «نكر» بإسكان الكاف كما قالوا : شغل وشغل ، وعسر وعسر وهو إسكان تخفيف ، أو السكون هو الأصل والضم للإتباع ، وقرأ مجاهد وأبو قلابة والجحدري وزيد بن علي «نكر» فعلا ماضيا مبنيا للمفعول بمعنى أنكر (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) حال من فاعل (يَخْرُجُونَ) أي يخرجون (مِنَ الْأَجْداثِ) أي القبور أذلة أبصارهم من شدة الهول أي أذلاء من ذلك ، وقدم الحال لتصرف العامل والاهتمام ، وفيه دليل على بطلان مذهب الجرمي من عدم تجويز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفا ، ويرده أيضا قولهم : شتى تؤب الحلبة ، وقوله :

سريعا يهون الصعب عند أولي النهى

إذا برجاء صادق قابلوا البأسا

وجعل حالا من ذلك لقوله تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) [المعارج : ٤٣] إلى قوله تعالى : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) [المعارج : ٤٣ ـ ٤٤] وقيل : هو حال من الضمير المفعول المحذوف في (يَدْعُ الدَّاعِ) أي يدعوهم الداع ؛ وتعقب بأنه لا يطابق المنزل وأيضا يصير حالا مقدرة لأن الدعاء ليس حال خشوع البصر وليست في الكثرة كغيرها وكذلك جعله مفعول ـ يدعو ـ على معنى يدعو فريقا خاشعا أبصارهم أي سيخشع وإن كان هذا أقرب مما قبل : وقيل : هو حال من الضمير المجرور في قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) وفيه ما لا يخفى ، وأبصارهم فاعل خشعا وطابقه الوصف في الجمع لأنه إذا كسر لم يشبه الفعل لفظا فتحسن فيه المطابقة وهذا بخلاف ما إذا جمع جمع مذكر سالم فإنه لم يتغير زنته وشبهه للفعل فينبغي أن لا يجمع إذا رفع الظاهر المجموع على اللغة الفصيحة دون لغة أكلوني البراغيث ، لكن الجمع حينئذ في الاسم أخف منه في الفعل كما قال الرضى ، ووجهه ظاهر ، وفي التسهيل إذا رفعت الصفة اسما ظاهرا مجموعا فان أمكن تكسيرها ـ كمررت برجل قيام غلمانه ـ فهو أولى من إفرادها ـ كمررت برجل قائم غلمانه ـ وهذا قول المبرد ومن تبعه والسماع شاهد له كقوله :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجمّل

٧٩

وقوله :

بمطرد لدن صحاح كعوبه

وذي رونق عضب يقد القوانسا

وقال الجمهور : الإفراد أولى والقياس معهم ، وعليه قوله :

ورجال حسن أوجههم

من إياد بن نزار بن معد

وقيل : إن تبع مفردا فالإفراد أولى ـ كرجل قائم غلمانه ـ وإن تبع جمعا فالجمع أولى ـ كرجال قيام غلمانهم ـ وأما التثنية والجمع السالم فعلى لغة أكلونى البراغيث ؛ وجوز أن يكون في (خُشَّعاً) ضمير مستتر ، و (أَبْصارُهُمْ) بدلا منه ، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي ـ خاشعا ـ بالإفراد ، وقرأ أبيّ وابن مسعود «خاشعة» وقرئ «خشع» على أنه خبر مقدم ، و (أَبْصارُهُمْ) مبتدأ ، والجملة في موضع الحال ، وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) حال أيضا وتشبيههم بالجراد المنتشر في الكثرة والتموج والانتشار في الأقطار ، وجاء تشبيههم بالفراش المبثوث ولهم يوم الخروج سهم من الشبه لكل ، وقيل : يكونون أولا كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون لأن الفراش لا جهة لها تقصدها ، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر فهما تشبيهان باعتبار وقتين ، وحكي ذلك عن مكي بن أبي طالب.

(مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) مسرعين إليه قال أبو عبيدة : وزاد بعضهم مادّي أعناقهم ، وآخر مع هز ورهق ومدّ بصر ، وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت ، وعن ابن عباس ناظرين إليه لا تقلع أبصارهم عنه وأنشد قول تبع :

تعبدني نمر بن سعد وقد أرى

ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع

وفي رواية أنه فسره بخاضعين وأنشد البيت ، وقيل : خافضين ما بين أعينهم ، وقال سفيان : شاخصة أبصارهم إلى السماء ، وقيل : أصل الهطع مد العنق ، أو مد البصر ، ثم يكنى به عن الإسراع ، أو عن النظر والتأمل فلا تغفل ، (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) صعب شديد لما يشاهدون من مخايل هوله وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه ، وفي إسناد القول المذكور إلى الكفار تلويح بأنه على المؤمنين ليس كذلك.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ(١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٢١)

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) شروع في تعداد بعض ما ذكر من الأنبياء الموجبة للازدجار ؛ ونوع تفصيل لها وبيان لعدم تأثرهم بها تقريرا لفحوى قوله تعالى : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) والفعل منزل منزلة اللازم أي فعلت التكذيب قبل تكذيب قومك قوم نوح : وقوله تعالى : (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) تفسير لذلك التكذيب المبهم كما في قوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ) [هود : ٤٥] إلخ ، وفيه مزيد تحقيق وتقرير للتكذيب ، وجوز أن يكون المعنى كذبوا تكذيبا إثر تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب جاء عقيبه قرن آخر مكذب مثله ، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين للرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل ، والفاء عليه سببية ، وقيل : معنى كذبت قصدت التكذيب وابتدأته ، ومعنى فكذبوا أتموه وبلغوا نهايته كما قيل في قوله :

٨٠