روح المعاني - ج ١٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

كلامهم مضطربا فيه ، والمسلمون مجمعون على وقوعه إلا أنهم مختلفون كما سمعت في كيفيته وكذا هم مختلفون في وجوبه سمعا أو عقلا ، فأهل السنة على وجوبه سمعا مطلقا ، والمعتزلة على أنه للمكلفين واجب عقلا لوجوب الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية عندهم وكل من الأمرين يتوقف على الحشر ، وفيه نظر والله تعالى أعلم. وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على تقرير مطالب علية وتضمنت أدلة جليلة جلية ألا ترى أنه تعالى أقسم على كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكمل الرسل وأن طريقه أوضح السبل وأشار سبحانه إلى أن المقصود ما ذكر بقوله تعالى (لِتُنْذِرَ) إلخ ثم بينه إجمالا أنه اتباع الذكر وخشية الرحمن بالغيب وتممه بضرب المثل مدمجا فيه التحريض على التمسك بحبل الكتاب والمنزل عليه وتفضيلهما على الكتب والرسل والتنبيه عليه ثانيا بأنه عبادة من إليه الرجعى وحده ثم أخذ في بيان المقدمات بذكر الآيات وأوثر منها الواضحات الدالة على العلم والقدرة والحكمة والرحمة وضمن فيه أن العبادة شكر المنعم وتلقي النعمة بالصرف في رضاه والحذر من الركون إلى من سواه ثم في بيان المتمم بذكر الوعد والوعيد بما ينال في المعاد وأدرج فيه حديث من سلك ومن ترك وذكر غايتهما ولخص فيه أن الصراط المستقيم هو عبادة الله تعالى بالإخلاص عن شائبتي الهوى والرياء حيث قدم على الأمر بعبادته تعالى التجنب عن عبادة الشيطان وضمن فيه أن أساسها التوحيد وكما أنه ذكر الآيات لئلا يكون الكلام خطابيا في المقدمات ختم بالبرهان على الإعادة ليكون على منواله في المتممات وجعل سبحانه ختام الخاتمة أنه عزوجل لا يتعاظمه شيء ولا ينقص خزائنه عطاء وأنه لا يخرج عن ملكته من قربه قبول أو بعده إباء تحقيقا لكل ما سلف على الوجه الأتم ، ولما كان كلاما صادرا عن مقام العظمة والجلال وجب أن يراعى فيه نكتة الالتفات في قوله تعالى (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ليكون إجمالا لتوضيح التفصيل كذا قرره صاحب الكشف والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.

«ومن باب الاشارة» قيل إن قوله سبحانه (يس) إشارة إلى سيادته عليه الصلاة والسلام على جميع المخلوقات فالسيد المتولي للسواد أي الجماعة الكثيرة وهي هاهنا جميع الخلق فكأنه قيل : يا سيد الخلق وتوليته عليه الصلاة والسلام عليهم لأنه الواسطة العظمى في الإفاضة والامداد ؛ وفي الخبر : الله تعالى المعطي وأنا القاسم فمنزلته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العالم بأسره بمنزلة القلب من البدن فما ألطف افتتاح قلب القرآن بقلب الأكوان وفي السين بيناتها وزبرها أسرار لا تحصى وكذا في مجموع (يس وَالْقُرْآنِ) قد يكون إشارة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد ذكر الصوفية أنه يشار به إلى الإنسان الكامل وكذا الكتاب المبين وعلى ذلك جاء قول الشيخ الأكبر قدس‌سره :

أنا القرآن والسبع المثاني

وروح الروح لا روح الأواني

ولا أحد أكمل من النبي عليه الصلاة والسلام ، وطبق بعضهم قصة أهل انطاكية على ما في الأنفس بجعل القرية إشارة إلى القلب وأصحابها إشارة إلى النفس وصفاتها والاثنين إشارة إلى الخاطر الرحماني والإلهام الرباني والثالث المعزز به إشارة إلى الجذبة والرجل الجائي من أقصى المدينة إشارة إلى الروح ، وطبق كثيرا من آيات هذه السورة على هذا الطرز ، وقيل : في قوله سبحانه (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) إنه إشارة إلى استعدادهم الشيء الذي طار بهم عنقاء مغربة :

إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم

وقيل : في (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) في قوله تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) إنه إشارة إلى طائفة من المؤمنين كان الغالب عليهم في الدنيا طلب الجنة ولذا أضيفوا إليها وهم دون أهل الله تعالى وخاصته الذين لم يلتفتوا إلى شيء سواه عزوجل فأولئك مشغولون بلذائذ ما

٦١

طلبوه وهؤلاء جلساء الحضرة المشغولون بمولاهم جل شأنه المتنعمون بوصاله ومشاهدة جماله وفرق بين الحالين وشتان ما بين الفريقين ، ولذا قيل : أكثر أهل الجنة البله فافهم الإشارة.

والشيطان في قوله تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) إشارة إلى كل ما يطاع ويذل له غير الله عزوجل كائنا ما كان وعداوته لما أنه سبب الحجاب عن رب الأرباب ، وفي قوله تعالى (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) إشارة إلى أنه لا ينبغي الاكتراث بأذى الأعداء والالتفات إليه فإن الله تعالى سيجازيهم عليه إذا أوقفهم بين يديه ، هذا ونسأل الله تعالى أن يحفظنا من شر الأشرار وأن ينور قلوبنا بمعرفته كما نور قلوب عباده الأبرار ونصلي ونسلم على حبيبه قلب جسد الأعيان وعلى آله وصحبه ما دامت سورة يس قلب القرآن.

٦٢

سورة الصّافّات

مكية ولم يحكوا في ذلك خلافا وهي مائة وإحدى وثمانون آية عند البصريين ومائة واثنتان وثمانون عند غيرهم ، وفيها تفصيل أحوال القرون المشار إلى إهلاكها في قوله تعالى في السورة المتقدمة (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) [يس : ٣١] وفيها من تفصيل أحوال المؤمنين وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة ما هو كالإيضاح لما في تلك السورة من ذلك ، وذكر فيها شيء مما يتعلق بالكواكب لم يذكر فيما تقدم ، ولمجموع ما ذكر ذكرت بعدها. وفي البحر مناسبة أول هذه السورة لآخر سورة يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته سبحانه على إحياء الموتى وأنه هو منشئهم وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء كان ذكر عزوجل هنا وحدانيته سبحانه إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا وإعداما إلا بكون المريد واحدا كما يشير إليه قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ)(١٤)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) إقسام من الله تعالى بالملائكة عليهم‌السلام كما روي عن ابن عباس وابن مسعود ومسروق ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي ، وأبي أبو مسلم ذلك وقال : لا يجوز حمل هذا اللفظ وكذا ما بعد على الملائكة لأن اللفظ مشعر بالتأنيث والملائكة مبرءون عن هذه الصفة ، وفيه أن هذا في معنى جمع الجمع فهو جمع صافة أي طائفة أو جماعة صافة ، ويجوز أن يكون تأنيث المفرد باعتبار أنه ذات ونفس والتأنيث المعنوي هو الذي لا يحسن أن يطلق عليهم وأما اللفظي فلا مانع منه كيف وهم المسمون بالملائكة ، والوصف

٦٣

المذكور منزل منزلة اللازم على أن المراد إيقاع نفس الفعل من غير قصد إلى المفعول أي الفاعلات للصفوف أو المفعول محذوف أي الصافات أنفسها أي الناظمات لها في سلك الصفوف بقيامها في مقاماتها المعلومة حسبما ينطق به قوله تعالى (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] وذلك باعتبار تقدم الرتبة والقرب من حظيرة القدس أو الصافات أنفسها القائمات صفوفا للعبادة ، وقيل : الصافات أقدامها للصلاة ، وقيل : الصافات أجنحتها في الهواء منتظرات أمر الله تعالى ، وقيل : المراد بالصافات الطير من قوله تعالى (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) [النور : ٤١] ولا يعول على ذلك ، و (صَفًّا) مصدر مؤكد وكذا (زَجْراً) في قوله تعالى (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) وقيل : صفا مفعول به وهو مفرد أريد به الجمع أي الصافات صفوفها وليس بذاك ، والمراد بالزاجرات الملائكة عليهم‌السلام أيضا عند الجمهور ، والزجر في الأصل الدفع عن الشيء بتسلط وصياح وأنشدوا :

زجر أبي عروة السباع إذا

أشفق أن يختلطن بالغنم

ويستعمل بمعنى السوق والحث وبمعنى المنع ، والنهي وإن لم يكن صياح والوصف منزل منزلة اللازم أو مفعوله محذوف أي الفاعلات للزجر أو الزاجرات ما نيط بها زجره من الأجرام العلوية والسفلية وغيرها على وجه يليق بالمزجور ، ومن جملة ذلك زجر العباد عن المعاصي بإلهام الخير وزجر الشياطين عن الوسوسة والإغواء وعن استراق السمع كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ، وعن قتادة المراد بالزاجرات آيات القرآن لتضمنها النواهي الشرعية ، وقيل كل ما زجر عن معاصي الله عزوجل ، والمعول عليه ما تقدم ، وكذا المراد كما روي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما في قوله تعالى : (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) الملائكة عليهم‌السلام.

و (ذِكْراً) نصب على أنه مفعول وتنوينه للتفخيم ، وهو بمعنى المذكور المتلو وفسر بكتاب الله عزوجل.

قال أبو صالح : هم الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله عزوجل إلى الناس فالمراد بتلاوته تلاوته على الغير ، وفسره بعضهم بالآيات والمعارف الإلهية والملائكة يتلونهما على الأنبياء والأولياء ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الاشارة ما يتعلق بتلاوة الملائكة ذلك على الأولياء قدس الله تعالى أسرارهم ، وقال بعض : أي فالتاليات آيات الله تعالى وكتبه المنزلة على الأنبياء عليهم‌السلام وغيرها من التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد ، ولعل التلاوة على هذا أعم من التلاوة على الغير وغيرها ، وقيل (ذِكْراً) نصب على أنه مصدر مؤكد على غير اللفظ لتكون المنصوبات على نسق واحد ، وقال قتادة : التاليات ذكرا بنو آدم يتلون كتابه تعالى المنزل وتسبيحه وتكبيره ، وجوز أن يكون الله تعالى أقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أنفسها في صفوف الجماعات أو أقدامها في الصلوات الزاجرات بالمواعظ والنصائح التاليات آيات الله تعالى الدارسات شرائعه وأحكامه أو بطوائف قواد الغزاة في سبيل الله تعالى التي تصف الصفوف في مواطن الحروب الزاجرات الخيل للجهاد سوقا أو العدو في المعارك طردا التاليات آيات الله سبحانه وذكره وتسبيحه في تضاعيف ذلك.

وجوز أيضا أن يكون أقسم سبحانه بطوائف الأجرام الفلكية المرتبة كالصفوف المرصوصة بعضها فوق بعض والنفوس المدبرة لتلك الأجرام بالتحريك ونحوه والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم الملائكة الكروبيون ونحوهم ؛ وهذا بعيد بمراحل عن مذهب السلف الصالح بل عن مذهب أهل السنة مطلقا كما لا يخفى ، والفاء العاطفة للصفات قد تكون لترتيب معانيها الوصفية في الوجود الخارجي إذا كانت الذات المتصفة بها واحدة كما في قوله :

يا لهف زيابة للحادث الس

ابح فالغانم فالآئب

٦٤

أي الذي صبح فغنم فآب ورجع أو لترتيب معانيها في الرتبة إذا كانت الذات واحدة أيضا كما في قولك : أتم العقل فيك إذا كنت شابا فكهلا أو لترتيب الموصوفات بها في الوجود كما في قولك : وقفت كذا على بني بطنا فبطنا أو في الرتبة نحو رحم الله تعالى المحلقين فالمقصرين ، وكلاهما مع تعدد الموصوف والترتيب الرتبي إما باعتبار الترقي أو باعتبار التدلي ، وهي إذا كانت الذات المتصفة بالصفات هنا واحدة وهم الملائكة عليهم‌السلام بأسرهم تحتمل أن تكون للترتيب الرتبي باعتبار الترقي فالصف في الرتبة الأولى لأنه عمل قاصر والزجر أعلى منه لما فيه من نفع الغير والتلاوة أعلى وأعلى لما فيها من نفع الخاصة الساري إلى نفع العامة بما فيه صلاح المعاش والمعاد أو للترتيب الخارجي من حيث وجود ذوات الصفات فالصف يوجد أولا لأنه كمال للملائكة في نفسها ثم يوجد بعده الزجر للغير لأنه تكميل للغير يستعد به الشخص ما لم يكمل في نفسه لا يتأهل لأن يكمل غيره ثم توجد التلاوة بناء على أنها إفاضة على الغير المستعد لها وذا لا يتحقق إلا بعد حصول الاستعداد الذي هو من آثار الزجر ، وإذا كانت الذات المتصفة بها من الملائكة عليهم‌السلام متعددة بمعنى أن صنفا منهم كذا وصنفا آخر كذا فالظاهر أنها للترتيب الرتبي باعتبار الترقي كما في الشق الأول فالجماعات الصافات كاملون والزاجرات أكمل منها والتاليات أكمل وأكمل كما يعلم مما سبق ، وقيل يجوز أن يكون بعكس ذلك بأن يراد بالصافات جماعات من الملائكة صافات من حول العرش قائمات في مقام العبودية وهم الكروبيون المقربون أو ملائكة آخرون يقال لهم كما ذكر الشيخ الأكبر قدس الله سره المهيمون مستغرقون بحبه تعالى لا يدري أحدهم أن الله عزوجل خلق غيره وذكر أنهم لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه‌السلام لعدم شعورهم باستغراقهم به تعالى وأنهم المعنيون بالعالين في قوله تعالى : (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) [ص : ٧٥] وبالزاجرات جماعات أخر أمرت بتسخير العلويات والسفليات وتدبيرها لما خلقت له وهي في الفضل على ما لها من النفع للعباد دون الصافات وبالتاليات ذكرا جماعات أخر أمرت بتلاوة المعارف على خواص الخلق وهي لخصوص نفعها دون الزاجرات أو المراد بالزاجرات الزاجرات الناس عن القبيح بإلهام جهة قبحه وما ينفر عن ارتكابه وبالتاليات ذكرا المهمات للخير والجهات المرغبة فيه ، ولكون دفع الضر أولى من جلب الخير ودرأ المفاسد أهم من جلب المصالح ولذا قيل التخلية بالخاء مقدمة على التحلية كانت التاليات دون الزاجرات ، وحال الفاء على سائر الأقوال السابقة في الصفات لا يخفى على من له أدنى تأمل ويجوز عندي والله تعالى أعلم أن يراد بالصافات المصطفون للعبادة من صلاة ومحاربة كفرة مثلا ملائكة كانوا أم أناسي أم غيرهما وبالزاجرات الزاجرون عن ارتكاب المعاصي بأقوالهم أو أفعالهم كائنين من كانوا وبالتاليات ذكرا التالون لآيات الله تعالى على الغير للتعليم أو نحوه كذلك ، ولا عناد بين هذه الصفات فتجتمع في بعض الأشخاص ، ولعل الترتيب على سبيل الترقي باعتبار نفس الصفات فالاصطفاف للعبادة كمال والزجر عن ارتكاب المعاصي أكمل والتلاوة لآيات الله تعالى للتعليم لتضمنه الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والتخلي عن الرذائل والتحلي بالمعارف إلى أمور أخر أكمل وأكمل ؛ وجعل الصفات المذكورة لموصوف واحد من الملائكة على ما مر بأن تكون جماعات منهم صافات بمعنى صافات أنفسها في سلك الصفوف بالقيام في مقاماتها المعلومة أو القائمات صفوفا للعبادة وتاليات ذكرا بمعنى تاليات الآيات بطريق الوحي على الأنبياء عليهم‌السلام لا يخلو عن بعد فيما أرى على أن تعدد الملائكة التالين للوحي سواء كان صنفا مستقلا أم لا مما يشكل عليه ما ذكره غير واحد أن الأمين على الوحي التالي للذكر على الأنبياء هو جبريل عليه‌السلام لا غير ، نعم من الآيات ما ينزل مشيعا بجمع من الملائكة عليهم‌السلام ونطق الكتاب الكريم بالرصد عند إبلاغ الوحي وهذا أمر والتلاوة على الأنبياء عليهم‌السلام أمر آخر فتأمل جميع ذلك ، وفي المراد بالصفات المتناسقة احتمالات غير ما ذكر فلا تغفل.

٦٥

وأيا ما كان فالقسم بتلك الجماعات أنفسها ولا حجر على الله عزوجل فله سبحانه أن يقسم بما شاء فلا حاجة إلى القول بأن الكلام على حذف مضاف أي ورب الصافات مثلا ، والآية ظاهرة الدلالة على مذهب سيبويه والخليل في مثل (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [الليل : ١ ، ٢] من أن الواو الثانية وما بعدها للعطف خلافا لمذهب غيرهما من أنها للقسم لوقوع الفاء فيها موقع الواو إلا أنها تفيد الترتيب. وأدغم ابن مسعود ومسروق والأعمش وأبو عمرو وحمزة التاءات الثلاث فيما يليها للتقارب فإنها من طرف اللسان وأصول الثنايا.

(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) جواب للقسم وقد جرت عادتهم على تأكيد ما يهتم به بتقديم القسم ولذا قدم هاهنا فلا يقال : إنه كلام مع منكر مكذب فلا فائدة في القسم ، وما قيل من أن وحدة الصانع قد ثبتت بالدليل النقلي بعد ثبوتها بالعقل ففائدته ظاهرة هنا غير تام لأن الكلام مع من لا يعترف بالتوحيد ، وقد أشير إلى البرهان في قوله سبحانه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) فإن وجودها على هذا النمط البديع أوضح دليل على وحدته عزوجل بل في كل ذرة من ذرات العالم دليل على ذلك :

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد ، ورب خبر ثان لأن على مذهب من يجوز تعدد الأخبار أو خبر مبتدأ محذوف أو هو رب السماوات إلخ.

وجوز أبو البقاء وغيره كونه بدلا من «واحد» فهو المقصود بالنسبة أي خالق السماوات والأرض وما بينهما من الموجودات ويدخل في عموم الموصول أفعال العباد فتدل الآية على أنها مخلوقة له تعالى ولا ينافي ذلك كون قدرة العبد مؤثرة بإذنه عزوجل كما ذهب إليه معظم السلف حتى الأشعري نفسه في آخر الأمر على ما صرح به بعض الأجلة ، وفسر بعضهم الرب هنا بالملك وبالمربي ، ولعل الأول أظهر. وفي دلالة الآية على كون أفعال العباد مخلوقة له على ذلك بحث ، والمراد بالمشارق عند جمع مشارق الشمس لأنها المعروفة الشائعة فيما بينهم وهي بعدد أيام السنة فإنها في كل يوم تشرق من مشرق وتغرب من مغرب فالمغارب متعددة تعدد المشارق ، وكأن الاكتفاء بها لاستلزامها ذلك مع أن الشروق أدل على القدرة وأبلغ في النعمة. ولهذا استدل به إبراهيم عليه‌السلام عند محاجة النمروذ ، وعن ابن عطية أن مشارق الشمس مائة وثمانون ، ووفق بعضهم بين هذا وما يقتضيه ما تقدم من مضاعفة العدد بأن مشارقها من رأس السرطان وهو أول بروج الصيف إلى رأس الجدي وهو أول بروج الشتاء متحدة معها من رأس الجدي إلى رأس السرطان فإن اعتبر ما كانت عليه وما عادت إليه واحدا كانت مائة وثمانين وإن نظر إلى تغايرهما كانت ثلاثمائة وستين ، وفي هذا إسقاط الكسر فإن السنة الشمسية تزيد على ذلك العدد بنحو ستة أيام على ما بين في موضعه ، وفسرت المشارق أيضا بمشارق الكواكب ، ورجح بأنه المناسب لقوله تعالى بعد (إِنَّا زَيَّنَّا) إلخ ، وهي للسيارات منها متفاوتة في العدد ، وأكثرها مشارق على ما هو المعروف عند المتقدمين زحل ومشارقة إلى أن يتم دورته أكثر من مشارق الشمس إلى أن تتم دورتها بألوف ، ومشارق الثوابت إلى أن تتم الدورة أكثر وأكثر فلا تغفل وتبصر ، وتثنية المشرق والمغرب في قوله تعالى (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [الرحمن : ١٧] على إرادة مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغربيهما ، وإعادة (رَبُ) هنا مع المشارق لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي أقرب السماوات من أهل الأرض فالدنيا هنا مؤنث أدنى بمعنى أقرب أفعل تفضيل (بِزِينَةٍ) عجيبة بديعة (الْكَواكِبِ) بالجر بدل من «زينة» بدل كل على أن المراد بها الاسم أي ما يزان به لا المصدر فإن الكواكب بأنفسها وأوضاع بعضها من بعض زينة وأي زينة :

٦٦

فكأن أجرام النجوم لوامعا

درر نثرن على بساط أزرق

وجوز أن تكون عطف بيان. وقرأ الأكثرون (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) بالإضافة على أنها بيانية لما أن الزينة مبهمة صادقة على كل ما يزان به فتقع الكواكب بيانا لها ، ويجوز أن تكون لامية على أن الزينة للكواكب أضواؤها أو أوضاعها ، وتفسيرها بالأضواء منقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وجوز أن يكون الزينة مصدرا كالنسبة وإضافتها من إضافة المصدر إلى مفعوله أي زينا السماء الدنيا بتزييننا الكواكب فيها أو من إضافة المصدر إلى فاعله أي زيناها بأن زينتها الكواكب. وقرأ ابن وثاب ومسروق بخلاف عنهما والأعمش وطلحة وأبو بكر «بزينة» منونا «الكواكب» نصبا فاحتمل أن يكون زينة مصدرا والكواكب مفعول به كقوله تعالى (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) وليس هذا من المصدر المحدود كالضربة حتى يقال لا يصح أعماله كما نص عليه ابن مالك لأنه وضع مع التاء كالكتابة والإصابة وليس كل تاء في المصدر للوحدة ، وأيضا ليست هذه الصيغة صيغة الوحدة ، واحتمل أن يكون (الْكَواكِبِ) بدلا من (السَّماءَ) بدل اشتمال واشتراط الضمير معه للمبدل منه إذا لم يظهر اتصال أحدهما بالآخر ما قرروه في قوله تعالى (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ) [البروج : ٤].

وقيل : اللام بدل منه ، وجوز كونه بدلا من محل الجار والمجرور أو المجرور وحده على القولين ، وكونه منصوبا بتقدير أعني. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «بزينة» منونا «الكواكب» رفعا على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي الكواكب أو فاعل المصدر ورفعه الفاعل قد أجازه البصريون على قلة ، وزعم الفراء أنه ليس بمسموع.

وظاهر الآية أن الكواكب في السماء الدنيا ولا مانع من ذلك وإن اختلفت حركاتها وتفاوتت سرعة وبطأ لجواز أن تكون في أفلاكها وأفلاكها في السماء الدنيا وهي ساكنة ولها من الثخن ما يمكن معه نضد تلك الأفلاك المتحركة بالحركات المتفاوتة وارتفاع بعضها فوق بعض. وحكى النيسابوري في تفسير سورة التكوير عن الكلبي أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور وتلك السلاسل بأيدي الملائكة عليهم‌السلام ، وهو مما يكذبه الظاهر ولا أراه إلا حديث خرافة. وأما ما ذهب إليه جل الفلاسفة من أن القمر وحده في السماء الدنيا وعطارد في السماء الثانية والزهرة في الثالثة والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والمشتري في السادسة وزحل في السابعة والثوابت في فلك فوق السابعة هو الكرسي بلسان الشرع فمما لا يقوم عليه برهان يفيد اليقين ، وعلى فرض صحته لا يقدح في الآية لأنه يكفي لصحة كون السماء الدنيا مزينة بالكواكب كونها كذلك في رأي العين (وَحِفْظاً) نصب على أنه مفعول مطلق لفعل معطوف على (زَيَّنَّا) أي وحفظناها حفظا أو عطف على «زينة» باعتبار المعنى فإنه معنى مفعول له كأنه قيل : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا لها ، والعطف على المعنى كثير وهو غير العطف على الموضوع وغير عطف التوهم وجوز كونه مفعولا له بزيادة الواو أو على تأخير العامل أي ولحفظها زيناها. وقوله تعالى : (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) متعلق بحفظنا المحذوف أو بحفظا ، والمارد كالمريد المتعري عن الخيرات من قولهم شجر أمرد إذا تعرى من الورق ، ومنه قيل رملة مرداء إذا لم تنبت شيئا ، ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر ، وفسر هنا أيضا بالخارج عن الطاعة وهو في معنى التعري عنها ، وقوله تعالى : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي لا يتسمعون وهذا أصله فأدغمت التاء في السين ، وضمير الجمع لكل شيطان لأنه بمعنى الشياطين.

وقرأ الجمهور «لا يسمعون» بالتخفيف ، والملأ في الأصل جماعة يجتمعون على رأي فيملئون العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء ، ويطلق على مطلق الجماعة وعلى الأشراف مطلقا ، والمراد بالملإ الأعلى الملائكة عليهم‌السلام كما روي عن السدي لأنهم في جهة العلو ويقابله الملأ الأسفل وهم الإنس والجن لأنهم في جهة السفل.

٦٧

وقال ابن عباس : هم أشراف الملائكة عليهم‌السلام ، وفي رواية أخرى عنه أنهم كتابهم ، وفسر العلو على الروايتين بالعلو المعنوي.

وتعدية الفعل على قراءة الجمهور بإلى لتضمينه معنى الإصغاء أي لا يسمعون مصغين إلى الملأ الأعلى ، والمراد نفي سماعهم مع كونهم مصغين ، وفيه دلالة على مانع عظيم ودهشة تذهلهم عن الإدراك ، وكذا على القراءة الأخرى وهي قراءة ابن عباس بخلاف عنه. وابن وثاب وعبد الله بن مسلم وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وحفص بناء على ما هو الظاهر من أن التفعل لا يخالف ثلاثيه في التعدية ، واستعمال تسمع مع إلى لا يقتضي كونه غير مضمن ، وقيل لا يحتاج إلى اعتبار التضمين عليها والتفعل مؤذن بالطلب فتسمع بمعنى طلب السماع ، قيل : ويشعر ذلك بالإصغاء لأن طلب السماع يكون بالإصغاء فتتوافق القراءتان وإن لم يقل بالتضمين في قراءة التشديد ، ولعل الأولى القول بالتضمين ونفي طلبهم السماع مع وقوعه منهم حتى قيل : إنه يركب بعضهم بعضا لذلك إما ادعائي للمبالغة في نفي سماعهم أو هو على ما قيل بعد وصولهم إلى محل الخطر لخوفهم من الرجم حتى يدهشوا عن طلب السماع ، وقال أبو حيان : إن نفي التسمع لانتفاء ثمرته وهو السمع. وقال ابن كمال : عدي الفعل في القراءتين بإلى لتضمنه معنى الانتهاء أي لا ينتهون بالسمع أو التسمع إلى الملأ إلا على وليس بذاك كما لا يخفى على المتأمل الصادق ، والجملة في المشهور مستأنفة استئنافا نحويا ولم يجوز كونها صفة لشيطان قالوا إذ لا معنى للحفظ من شياطين لا تسمع أو لا تسمع مع إيهامه لعدم الحفظ عمن عداها. وكذا لم يجوز كونها استئنافا بيانيا واقعا جواب سؤال مقدر إذ المتبادر أن يؤخذ السؤال من فحوى ما قبله فتقديره حينئذ لم تحفظ فيعود محذور الوصفية ، وكذا كونها حالا مقدرة لأن الحال كذلك يقدرها صاحبها والشياطين لا يقدرون عدم السماع أو عدم التسمع ولا يريدونه ، وجوز ابن المنير كونها صفة والمراد حفظ السماوات ممن لا يسمع أو لا يسمع بسبب هذا الحفظ ، وهو نظير (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) [المؤمنون : ٤٤] ، (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهار) [إبراهيم : ٣٣ ، النحل : ١٢] ، (وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) [الأعراف : ٥٤] ومن هنا لم يجعل بعض الأجلة قوله عليه الصلاة والسلام «من قتل قتيلا فله سلبه» من مجاز الأول. وتعقب بأن ذلك خلاف المتبادر ولا يكاد يفهم من أضرب الرجل المضروب كونه مضروبا بهذا الضرب المأمور به لا بضرب آخر قبله ، وكذا جوز صاحب الكشف كونها صفة وكونها مستأنفة استئنافا بيانيا أيضا ودفع المحذور وأبعد في ذلك المغزى كعادته في سائر تحقيقاته فقال : المعنى لا يمكنون من السماع مع الإصغاء أو لا يمكنون من التسمع مبالغة في نفي السماع كأنهم مع مبالغتهم في الطلب لا يمكنهم ذلك ، ولا بد من ذلك جعلت الجملة وصفا أولا جمعا بين القراءتين وتوفية لحق الإصغاء المدلول عليه بإلى وحينئذ يكون الوصف شديد الطباق ؛ ورد الاستئناف البياني وارد على تقدير السؤال لم تحفظ؟ (١) وليس كذلك بل السؤال عما يكون عند الحفظ وعن كيفيته لأن قوله تعالى (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) مما يحرك الذهن له فقيل (لا يَسَّمَّعُونَ) جوابا عما يكون عنده و (يُقْذَفُونَ) لكيفية الحفظ ، وهذا أولى من جعلها مبدأ اقتصاص مستطرد لئلا ينقطع ما ليس بمنقطع معنى انتهى.

واستدقه الخفاجي واستحسنه وذكر أن حاصله أنه ليس المنفي هنا السماع المطلق حتى يلزم ما ظنوه من فساد المعنى لأنه لما تعدى بإلى وتضمن معنى الإصغاء صار المعنى حفظناها من شياطين لا تنصت لما فيها إنصاتا تاما تضبط به ما تقوله الملائكة عليهم‌السلام ، ومآله حفظناها من شياطين مسترقة للسمع ، وقوله سبحانه : (إِلَّا مَنْ

__________________

(١) هكذا الأصل فليحرر.

٦٨

خَطِفَ) إلخ ينادي على صحته ، والمناقشة بحديث الأوصاف قبل العلم بها أخبار إن جاءت لا تتم فالحديث غير مطرد ، وقيل : إن الأصل لأن لا يسمعوا على أن الجار متعلق بحفظا فحذفت اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذفت أن ورفع الفعل كما في قوله :

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

وفيه أن حذف اللام وحذف أن ورفع الفعل وإن كان كل منهما واقعا في الفصيح إلا أن اجتماع الحذفين منكر يصان كلام الله تعالى عنه. وأبو البقاء يجوز كون الجملة صفة وكونها استئنافا وكونها حالا فلا تغفل.

(وَيُقْذَفُونَ) أي يرمون ويرجمون (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها ، وليس المراد أن كل واحد يرمى من كل جانب بل هو على التوزيع أي كل من صعد من جانب رمي منه.

وقرأ محبوب عن أبي عمرو «يقذفون» بالبناء للفاعل ولعل الفاعل الملائكة ، وجوز أن يكون الكواكب ، وأمر ضمير العقلاء سهل ، وقوله تعالى (دُحُوراً) مفعول له وعلة للقذف أي للدحور وهو الطرد والإبعاد أو مفعول مطلق ليقذفون كقعدت جلوسا لتنزيل المتلازمين منزلة المتحدين فيقام دحورا مقام قذفا أو (يُقْذَفُونَ) مقام يدحرون ، وعلى التقديرين هو مصدر مؤكد أو حال من ضمير (يُقْذَفُونَ) على أنه مصدر باسم المفعول على القراءة الشائعة وهو في معنى الجمع لشموله للكثير أي مدحورين ، وجوز كونه جمع داحر بمعنى مدحور كقاعد وقعود ، وكونه جمع داحر من غير تأويل بناء على القراءة الأخرى ، وجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض وهو الباء على أنه جمع دحر كدهر ودهور وهو ما يدحر به أي يقذفون بدحور. وقرأ السلمي وابن أبي عبلة والطبراني عن أبي جعفر «دحورا» بفتح الدال فاحتمل كونه نصبا بنزع الخافض أيضا وهو على هذه القراءة أظهر لأن فعولا بالفتح بمعنى ما يفعل به كثير كطهور وغسول لما يتطهر ويغسل به ، واحتمل أن يكون صفة كصبور لموصوف مقدر أي قذفا دحورا طاردا لهم ، وأن يكون مصدرا كالقبول وفعول في المصادر نادر ولم يأت في كتب التصريف منه إلا خمسة أحرف الوضوء والطهور والولوع والوقود والقبول كما حكي عن سيبويه وزيد عليه الوزوع بالزاي المعجمة والهوى بفتح الهاء بمعنى السقوط والرسول بمعنى الرسالة. (وَلَهُمْ) أي في الآخرة (عَذابٌ) آخر غير ما في الدنيا من عذاب الرجم بالشهب (واصِبٌ) أي دائم كما قال قتادة وعكرمة وابن عباس وأنشدوا لأبي الأسود :

لا أشتري الحمد القليل بقاؤه

يوما بذم الدهر أجمع واصبا

وفسره بعضهم بالشديد ، قيل والأول حقيقة معناه وهذا تفسير له بلازمه. والآية على ما سمعت كقوله تعالى : (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) [الملك : ٥] وجوز أبو حيان أن يكون هذا العذاب في الدنيا وهو رجمهم دائما وعدم بلوغهم ما يقصدون من استراق السمع (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) استثناء متصل من واو (يَسَّمَّعُونَ) و (مَنْ) بدل منه على ما ذكره الزمخشري ومتابعوه ، وقال ابن مالك : إذا فصل بين المستثنى والمستثنى منه فالمختار النصب لأن الإبدال للتشاكل وقد فات بالتراخي ، وذكره في البحر هنا وجها ثانيا ، وقيل : هو منقطع على أن (مَنْ) شرطية جوابها الجملة المقرونة بالفاء بعد وليس بذاك ، والخطف الاختلاس والأخذ بخفة وسرعة على غفلة المأخوذ منه ، والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة كما يعرف عنه تعريف الخطفة بلام العهد لأن المراد بها أمر معين معهود فهي نصب على المصدرية ، وجوز أن تكون مفعولا به على إرادة الكلمة. وقرأ الحسن وقتادة «خطّف» بكسر الخاء والطاء مشددة ، قال أبو حاتم : ويقال هي لغة بكر بن وائل وتميم بن مر والأصل اختطف فسكنت التاء للإدغام وقبلها خاء ساكنة

٦٩

فالتقى ساكنان فحركت الخاء بالكسر على الأصل وكسرت الطاء للاتباع وحذفت ألف الوصل للاستغناء عنها. وقرئ «خطّف» بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة ونسبها ابن خالويه إلى الحسن وقتادة وعيسى ، واستشكلت بأن فتح الخاء سديد لإلقاء حركة التاء عليها ، وأما كسر الطاء فلا وجه له ، وقيل في توجيهها : إنهم نقلوا حركة الطاء إلى الخاء وحذفت ألف الوصل ثم قلبوا التاء وأدغموا وحركوا الطاء بالكسر على أصل التقاء الساكنين وهو كما ترى ، وعن ابن عباس «خطف» بكسر الخاء والطاء مخففة أتبع على ما في البحر حركة الخاء لحركة الطاء كما قالوا نعم (فَأَتْبَعَهُ) أي تبعه ولحقه على أن أتبع من الأفعال بمعنى تبع الثلاثي فيتعدى لواحد (شِهابٌ) هو في الأصل الشعلة الساطعة من النار الموقدة ، والمراد به العارض المعروف في الجو الذي يرى كأنه كوكب منقض من السماء (ثاقِبٌ) مضيء كما قال الحسن وقتادة كأنه ثقب الجو بضوئه ، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يزيد الرقاشي أنه قال : يثقب الشيطان حتى يخرج من الجانب الآخر فذكر ذلك لأبي مجلز فقال : ليس ذاك ولكن ثقوبه ضوؤه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد «الثاقب» المتوقد وهو قريب مما تقدم.

وأخرج عن السدي «الثاقب» المحرق ، وليست الشهب نفس الكواكب التي زينت بها السماء فإنها لا تنقض وإلا لانتقصت زينة السماء بل لم تبق ، على أن المنقض إن كان نفس الكواكب بمعنى أنه ينقلع عن مركزه ويرمي به الخاطف فيرى لسرعة الحركة كرمح من نار لزم أن يقع على الأرض وهو إن لم يكن أعظم منها فلا أقل من أن ما انقض من الكواكب من حين حدث الرمي إلى اليوم أعظم منها بكثير فيلزم أن تكون الأرض اليوم مغشية بإجرام الكواكب والمشاهدة تكذب ذلك بل لم نسمع بوقوع جرم كوكب أصلا.

وأصغر الكواكب عند الإسلاميين كالجبل العظيم ، وعند الفلاسفة أعظم وأعظم بل صغار الثوابت عندهم أعظم من الأرض وإن التزم أنه يرمى به حتى إذا تم الغرض رجع إلى مكانه قيل عليه : إنه حينئذ يلزم أن يسمع لهويه صوت هائل فإن الشهب تصل إلى محل قريب من الأرض ، وأيضا عدم مشاهدة جرم كوكب هابطا أو صاعدا يأبى احتمال انقلاع الكوكب والرمي به نفسه ، وإن كان المنقض نوره فالنور لا أذى فيه فالأرض مملوءة من نور الشمس وحشوها الشياطين ، على أنه إن كان المنقض جميع نوره يلزم انتقاص الزينة أو ذهابها بالكلية ، وإن كان بعض نوره يلزم أن تتغير أضواء الكواكب ولم يشاهد في شيء منها ذلك ، وأمر انقضاضه نفسه أو انفصال ضوئه على تقدير كون الكواكب الثوابت في الفلك الثامن المسمى بالكرسي عند بعض الإسلاميين وإنه لا شيء في السماء الدنيا سوى القمر أبعد وأبعد. والفلاسفة يزعمون استحالة ذلك لزعمهم عدم قبول الفلك الخرق والالتئام إلى أمور أخر ، ويزعمون في الشهب أنها أجزاء بخارية دخانية لطيفة وصلت كرة النار فاشتعلت وانقلبت نارا ملتهبة فقد ترى ممتدة إلى طرف الدخان ثم ترى كأنها طفئت وقد تمكث زمانا كذوات الأذناب وربما تتعلق بها نفس على ما فصلوه ، وهم مع هذا لا يقولون بكونها ترمى بها الشياطين بل هم ينكرون حديث الرمي مطلقا ، وفي النصوص الإلهية رجوم لهم ، ولعل أقرب الاحتمالات فى أمر الشهب أن الكوكب يقذف بشعاع من نوره فيصل أثره إلى هواء وتكيف بكيفية مخصوصة يقبل بها الاشتعال بما يقع عليه من شعاع الكوكب بالخاصية فيشتعل فيحصل ما يشاهد من الشهب ، وإن شئت قلت : إن ذلك الهواء المتكيف بالكيفية المخصوصة إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو أثرت فيه أشعة الكواكب بما أودعه الله تعالى فيها من الخاصية فيشتعل فيحصل ما يحصل ، وتأثير الأشعة الحرق في القابل له مما لا ينكر فإنا نرى شعاع الشمس إذا قوبل ببعض المناظر على كيفية مخصوصة أحرق قال الإحراق ولو توسط بين المنظرة وبين القابل إناء بلور مملوء ماء ، ويقال : إن الله تعالى يصرف ذلك الحاصل إلى الشيطان المسترق للسمع وقد يحدث ذلك وليس هناك

٧٠

مسترق ، ويمكن أن يقال : إنه سبحانه يخلق الكيفية التي بها يقبل الهواء الإحراق في الهواء الذي في جهة الشيطان ، ولعل قرب الشيطان من بعض أجزاء مخصوصة من الهواء معد بخاصية أحدثها الله تعالى فيه لخلقه عزوجل تلك الكيفية في ذلك الهواء القريب منه مع أنه عزوجل يخلق تلك الكيفية في بعض أجزاء الهواء الجوية حيث لا شيطان هناك أيضا.

وإن شئت قلت : إنه يخرج شؤبوب من شعاع الكوكب فيتأذى به المارد أو يحترق ، والله عزوجل قادر على أن يحرق بالماء ويروى بالنار والمسببات عند الأسباب لا بها وكل الأشياء مسندة إليه تعالى ابتداء عند الأشاعرة ، ولا يلزم على شيء مما ذكر انتقاص ضوء الكوكب ، ولو سلم أنه يلزم انتقاص على بعض الاحتمالات قلنا : إنه عزوجل يخلق بلا فصل في الكوكب بدل ما نقص منه وأمره سبحانه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

ولا ينافي ما ذكرنا قوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : ٥] لأن جعلها رجوما يجوز أن يكون لأنه بواسطة وقوع إشعاع على ما ذكرنا من الهواء تحدث الشهب فهي رجوم بذلك الاعتبار ولا يتوقف جعلها رجوما على أن تكون نفسها كذلك بأن تنقلع عن مراكزها ويرجم بها ، وهذا كما تقول : جعل الله تعالى الشمس يحرق بها بعض الأجسام فإنه صادق فيما إذا أحرق بها بتوسيط بعض المناظر وانعكاس شعاعها على قابل الإحراق. وزعم بعض الناس أن الشهب شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة إلى كرة النار وهي الرجوم ولكونها بواسطة تسخين الكواكب للأرض قال سبحانه : (وَجَعَلْناها رُجُوماً) على التجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها ، ولا يخفى أن كرة النار مما لم تثبت في كلام السلف ولا ورد فيها عن الصادق عليه الصلاة والسلام خبر ، وقيل : يجوز أن تكون المصابيح هي الشهب وهي غير الكواكب وزينة والسماء بالمصابيح لا يقتضي كونها فيها حقيقة إذ يكفي كونها في رأي العين ذلك ، وقيل : يجوز أن يراد بالسماء جهة العلو وهي مزينة بالمصابيح والشهب كما هي مزينة بالكواكب. وتعقب هذا بأن وصف السماء بالدنيا يبعد إرادة الجهة منها. وتعقب ما قبله بأن المتبادر أن المصابيح هي الكواكب ولا يكاد يفهم من قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) إلا شيء واحد ، وأن كون الشهب المعروفة زينة السماء مع سرعة تقضيها وزوالها وربما دهش من بعضها مما لا يسلم ، والقول بأنه يجوز اطلاق الكوكب على الشهاب للمشابهة فيجوز أن يراد بالكواكب ما يشمل الشهب وزينة السماء على ما مر آنفا زيد فيه على ما تقدم ما لا يخفى ما فيه ، نعم يجوز أن يقال : إن الكوكب ينفصل منه نور إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو انقلب نارا ورؤى منقضا ولا يعجز الله عزوجل شيء ، وقد يقال : إن في السماء كواكب صغارا جدا غير مرئية ولو بالأرصاد لغاية الصغر وهي التي يرمي بها أنفسها ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) من باب عندي درهم ونصفه و (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً) الآية إن كان على معنى وحفظا بها فهو من ذلك الباب أيضا وإلا فالأمر أهون فتدبر. واختلف في أن المرجوم هل يهلك بالشهاب إذا أصابه أو يتأذى به من غير هلاك فعن ابن عباس أن الشياطين لا تقتل بالشهاب ولا تموت ولكنها تحرق وتخبل أي يفسد منها بعض أعضائها ، وقيل تهلك وتموت ومتى أصاب الشهاب من اختطف منهم كلمة قال للذي يليه كان كذا وكذا قبل أن يهلك ، ولا يأبى تأثير الشهاب فيهم كونهم مخلوقين من النار لأنهم ليسوا من النار الصرفة كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها ، وأيا ما كان لا يقال : إن الشياطين ذوو فطنة فكيف يعقل منهم العود إلى استراق السمع مرة بعد مرة مع أن المسترق يهلك أو يتأذى الأذى الشديد واستمرار انقضاض الشهب دليل استمرار هذا الفعل

٧١

منهم لأنا نقول : لا نسلم استمرار هذا الفعل منهم واستمرار الانقضاض ليس دليلا عليه لأن الانقضاض ليس دليلا عليه لأن الانقضاض يكون للاستراق ويكون لغيره فقد أشرنا فيما سبق أن الهواء قد يتكيف بكيفية مخصوصة فيحترق بسبب أشعة الكواكب وإن لم يكن هناك مسترق ، وقيل : يجوز أن ترى الشهب لتعارض في الأهوية واصطكاك يحصل منه ما ترى كما يحصل البرق باصطكاك السحاب على ما روي عن بعض السلف وحوادث الجو لا يعلمها إلا الله تعالى فيجوز أن يكونوا قد استرقوا أولا فشاهدوا ما شاهدوا فتركوا واستمرت الشهب تحدث لما ذكر لا لاستراق الشياطين ، ويجوز أن يقع أحيانا ممن حدث منهم ولم يعلم بما جرى على رءوس المسترقين قبله أو ممن لا يبالي بالأذى ولا بالموت حبا لأن يقال ما أجسره أو ما أشجعه مثلا كما يشاهد في كثير من الناس يقدمون في المعارك على ما يتيقنون هلاكهم به حبا لمثل ذلك ، ولعل في وصف الشيطان بالمارد ما يستأنس به لهذا الاحتمال ، وأما ما قيل : إن الشهاب قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأسا فخلاف المأثور ، فقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إذا رمي بالشهاب لم يخطئ من رمي به ، ثم إن ما ذكر من احتمال أنهم قد تركوا بعد أن صحت عندهم التجربة لا يتم إلا على ما روي عن الشعبي من أنه لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما قذف بها جعل الناس يسيبون أنعامهم ويعتقون رقيقهم يظنون أنه القيامة فأتوا عبد يا ليل الكاهن وقد عمي وأخبروه بذلك فقال : انظروا إن كانت النجوم المعروفة من السيارة والثوابت فهو قيام الساعة وإلا فهو أمر حادث فنظروا فإذا هي غير معروفة فلم يمض زمن حتى أتى خبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووافق على عدم حدوثه قبل ابن الجوزي في المنتظم لكنه قال : إنه حدث بعد عشرين يوما من مبعثه ، والصحيح أن القذف كان قبل ميلاده عليه الصلاة والسلام ، وهو كثير في أشعار الجاهلية إلا أنه يحتمل أنه لم يكن طاردا للشياطين وأن يكون طاردا لهم لكن لا بالكلية وأن يكون طاردا لهم بالكلية ، وعلى هذا لا يتأتى الاحتمال السابق ، وعلى الاحتمال الأول من هذه الاحتمالات يكون الحادث يوم الميلاد طردهم بذلك ، وعلى الثاني طردهم بالكلية وتشديد الأمر عليهم لينحسم أمرهم وتخليطهم ويصح الوحي فتكون الحجة أقطع ، والذي يترجح أنه كان قبل الميلاد طاردا لكن لا بالكلية فكان يوجد استراق على الندرة وشدد في بدء البعثة ، وعليه يراد بخبر لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لم يكثر القذف بها ، وعلى هذا يخرج غيره إذا صح كالخبر المنقول في السير أن إبليس كان يخترق السماوات قبل عيسى عليه‌السلام فلما بعث أو ولد حجب عن ثلاث سماوات ولما ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجب عنها كلها وقذفت الشياطين بالنجوم فقالت قريش : قامت الساعة فقال عتبة بن ربيعة : انظروا إلى العيوق فإن كان رمي به فقد آن قيام الساعة وإلا فلا ، وقال بعضهم : اتفق المحدثون على أنه كان قبل لكن كثر وشدد لما جاء الإسلام ولذا قال تعالى (مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) [الجن : ٨] ولم يقل حرست ، وبالجملة لا جزم عندنا بأن ما يقع من الشهب في هذه الأعصار ونحوها رجوم للشياطين والجزم بذلك رجم بالغيب هذا وقد استشكل أمر الاستراق بأمور ، منها أن الملائكة في السماء مشغولون بأنواع العبادة أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد فما ذا تسترق الشياطين منهم؟ وإذا قيل : إن منهم من يتكلم بالحوادث الكونية فهم على «محدبها» والشياطين تسترق تحت مقعرها وبينهما كما صح في الأخبار خمسمائة عام فكيف يتأتى السماع لا سيما والظاهر أنهم لا يرفعون أصواتهم إذا تكلموا بالحوادث إذ لا يظهر غرض برفعها ، وعلى تقدير أن يكون هناك رفع صوت فالظاهر أنه ليس بحيث يسمع من مسيرة خمسمائة عام. وعلى تقدير أن يكون بهذه الحيثية فكرة الهواء تنقطع عند كرة النار ولا يسمع صوت بدون هواء.

٧٢

وأجيب بأن الاستراق من ملائكة العنان وهم يتحدثون فيما بينهم بما أمروا به من السماء من الحوادث الكونية. و (لَمَسْنَا السَّماءَ) [الجن : ٨] طلبنا خبرها أو من الملائكة النازلين من السماء بالأمر فإن ملائكة على أبواب السماء ومن حيث ينزلون يسألونهم بما ذا تذهبون؟ فيخبرونهم ، وليس الاستراق من الملائكة الذين على محدب السماء ، وأمر كرة النار لا يصح ، والهواء غير منقطع وهو كلما رق ولطف كأن أعون على السماع ، على أن وجود الهواء مما لا يتوقف عليه السماع على أصول الأشاعرة ومثله عدم البعد المفرط ، وظاهر خبر أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة أن الاستراق من الملائكة في السماء قال : «إذا قضى الله تعالى أمرا تكلم تبارك وتعالى فتخر الملائكة كلهم سجدا فتحسب الجن أن أمرا يقضى فتسترق فإذا فزع عن قلوب الملائكة عليهم‌السلام ورفعوا رءوسهم قالوا : ما ذا قال ربكم؟ قالوا جميعا : الحق وهو العلي الكبير» وجاء في خبر أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن إبراهيم التيمي «إذا أراد ذو العرش أمرا سمعت الملائكة كجر السلسلة على الصفا فيغشى عليهم فإذا قاموا قالوا : ما ذا قال ربكم؟ قال من شاء : الله الحق وهو العلي الكبير» ولعله بعد هذا الجواب يذكر الأمر بخصوصه فيما بين الملائكة عليهم‌السلام ، وظاهر ما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس من تفسير الملأ الأعلى بكتبة الملائكة عليهم‌السلام أيضا أن الاستراق من ملائكة في السماء إذ الظاهر أن الكتبة في السماء ، ولعله يتلى عليهم من اللوح ما يتلى فيكتبونه لأمر ما فتطمع الشياطين باستراق شيء منه ، وأمر البعد كأمر الهواء لا يضر في ذلك على الأصول الأشعرية ، ويمكن أن يدعى أن جرم السماء لا يحجب الصوت وإن كثف ، وكم خاصية أثبتها الفلاسفة للأفلاك ليس عدم الحجب أغرب منها. ومنها أنه يغني عن الحفظ من استراق الشياطين عدم تمكينهم من الصعود إلى حيث يسترق السمع ، أو أمر الملائكة عليهم‌السلام بإخفاء كلامهم بحيث لا يسمعونه ، أو جعل لغتهم مخالفة للغتهم بحيث لا يفهمون كلامهم. وأجيب بأن وقوع الأمر على ما وقع من باب الابتلاء ، وفيه أيضا من الحكم ما فيه ، ولا يخفى أن مثل هذا الإشكال يجري في أشياء كثيرة إلا أن كون الصانع حكيما وأنه جل شأنه قد راعى الحكمة فيما خلق وأمر على أتم وجه حتى قيل : ليس في الإمكان أبدع مما كان يحل ذلك ولا يبقى معه سوى تطلب وجه الحكمة وهو مما يتفضل الله تعالى به على من يشاء من عباده ، والكلام في هذا المقام قد مر شيء منه فارجع إليه ، ومما هنا وما هناك يحصل ما يسر الناظرين ويرضي العلماء المحققين.

(فَاسْتَفْتِهِمْ) أي فاستخبرهم ، وأصل الاستفتاء الاستخبار عن أمر حدث ، ومنه الفتى لحداثة سنه ، والضمير لمشركي مكة ، قيل : والآية نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي وكني بذلك لشدة بطشه وقوته واسمه أسيد ، والفاء فصيحة أي إذا كان لنا من المخلوقات ما سمعت أو إذا عرفت ما مر فاستخبر مشركي مكة واسألهم على سبيل التبكيت (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أي أقوى خلقة وأمتن بنية أو أصعب خلقا وأشق إيجادا (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) من الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشياطين والشهب الثواقب. وتعريف الوصول عهدي أشير به إلى ما تقدم صراحة ودلالة وغلب العقلاء على غيرهم والاستفهام تقريري ، وجوز أن يكون إنكاريا ، وفي مصحف عبد الله «أم من عددنا» وهو مؤيد لدعوى العهد بل قاطع بها. وقرأ الأعمش «أمن» بتخفيف الميم دون أم جعله استفهاما ثانيا تقريريا فمن مبتدأ خبره محذوف أي أمن خلقنا أشد (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي ملتصق كما أخرج ذلك ابن جرير وجماعة عن ابن عباس ، وفي رواية أرى بلفظ ملتزق وبه أجاب ابن الأزرق وأنشد له قول النابغة :

فلا تحسبون الخير لا شر بعده

ولا تحسبون الشر ضربة لازب

قيل : والمراد ملتزق بعضه ببعض ، وبذلك فسره ابن مسعود كما أخرجه ابن أبي حاتم ويرجع إلى حسن العجن

٧٣

جيد التخمير ، وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه يلزق باليد إذا مس بها ، وقال الطبري : خلق آدم من تراب وماء وهواء ونار وهذا كله إذا خلط صار طينا لازبا يلزم ما جاوره ، واللازب عليه بمعنى اللازم وهو قريب مما تقدم ، وقد قرئ «لازم» بالميم بدل الباء و «لاتب» بالتاء بدل الزاي والمعنى واحد. وحكي في البحر عن ابن عباس أنه عبر عن اللازب بالحر أي الكريم الجيد ، وفي رواية أنه قال : اللازب الجيد.

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنه قال : لازب أي لازم منتن ، ولعل وصفه بمنتن مأخوذ من قوله تعالى (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر : ٢٦ ، ٢٧ ، ٣٣] لكن أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : اللازب والحمأ والطين واحد كان أوله ترابا ثم صار حمأ منتنا ثم صار طينا لازبا فخلق الله تعالى منه آدم عليه‌السلام.

وأيا ما كان فخلقهم من طين لازب إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة أو احتجاج عليهم في أمر البعث بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه في ضمن خلق أبيهم آدم عليه‌السلام تراب فمن أين استنكروا أن يخلقوا منه مرة ثانية حيث قالوا (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [المؤمنون : ٨٢ ، الصافات : ١٦ ، الواقعة : ٤٧] ويعضد هذا على ما في الكشاف ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث. وقوله تعالى : (بَلْ عَجِبْتَ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوز أن يكون لكل من يقبله. و (بَلْ) للإضراب إما عن مقدر يشعر به (فَاسْتَفْتِهِمْ) إلخ أي هم لا يقرون ولا يجيبون بما هو لحق بل مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل أو عن الأمر بالاستفتاء أي لا تستفتهم فإنهم معاندون لا ينفع فيهم الاستفتاء ولا يتعجبون من تلك الدلائل بل مثلك ممن يتعجب منها (وَيَسْخَرُونَ) أي وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات ، وجوز أن يكون المعنى بل عجبت من إنكارهم البعث مع هذه الآيات وهم يسخرون من أمر البعث ، واختير أن يكون المعنى بل عجبت من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإنكارهم البعث وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث ، وزعم بعضهم أن المراد بمن خلقنا الأمم الماضية وليس بشيء إذ لم يسبق لهذه الأمم ذكر وإنما سبق الذكر للملائكة عليهم‌السلام وللسماوات والأرض وما سمعت مع أن حرف التعقيب مما يدل على خلافه ، ومن قال كصاحب الفرائد عليه جمهور المفسرين سوى الإمام ووجهه بأنه لما احتج عليهم بما هم مقرون به من كونه رب السماوات والأرض ورب المشارق وألزمهم بذلك وقابلوه بالعناد قيل لهم : فانتظروا الإهلاك كمن قبلكم لأنكم لستم أشد خلقا منهم فوضع موضعه (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) وقوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ) تعليل لأنهم ليسوا أشد خلقا أو دليل لاستكبارهم المنتج للعناد. وأيده بدلالة الاضراب واستبعاد البعث بعده لدلالته على أنه غير متعلق بما قبل الإضراب فقد ذهب عليه أن اللفظ خفي الدلالة على ما ذكر من العناد واستحقاق الإهلاك كسالف الأمم ؛ وتعليل نفي الأشدية بما علل ليس بشيء لوضوح أن السابقين أشد في ذلك ، وكم من ذلك في الكتاب العزيز ، وأما الإضراب فعن الاستفتاء إلى أن مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل ولذا عطف عليه (وَيَسْخَرُونَ) وجعل ما أنكروه من البعث من بعض مساخرهم قاله صاحب الكشف فلا تغفل. وقرأ حمزة والكسائي وابن سعدان وابن مقسم «عجبت» بتاء المتكلم ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود والنخعي وابن وثاب وطلحة وشقيق والأعمش.

وأنكر شريح القاضي هذه القراءة وقال : إن الله تعالى لا يعجب من شيء وإنما يعجب من لا يعلم ، وإنكار هذا القاضي مما أفتي بعدم قبوله لأنه في مقابل بينة متواترة ، وقد جاء أيضا في الخبر عجب ربكم من إلكم وقنوطكم.

وأولت القراءة بأن ذلك من باب الفرض أي لو كان العجب مما يجوز عليّ لعجبت من هذه الحال أو التخييل فيجعل تعالى كأنه لإنكاره لحالهم يعدها أمرا غريبا ثم يثبت له سبحانه العجب منها ، فعلى الأول تكون الاستعارة

٧٤

تخييلية تمثيلية كما في قولهم : قال الحائط للوتد لم تشقني فقال سل من يدقني ، وعلى الثاني تكون مكنية وتخييلية كما في نحو لسان الحال ناطق بكذا والمشهور في أمثاله الحمل على اللازم فيكون مجازا مرسلا فيحمل العجب على الاستعظام وهو رؤية الشيء عظيما أي بالغا في الحسن أو القبح ، والمراد هنا رؤية ما هم عليه بالغا الغاية في القبح ، وليس استعظام الشيء مسبوقا بانفعال يحصل في الروع عن مشاهدة أمر غريب كما توهم ليقال : إن التأويل المذكور لا يحسم مادة الاشكال.

وقال أبو حيان : يؤول على أن صفة فعل يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم أو تحقير حتى يصير الناس متعجبين منه فالمعنى بل عجبت من ضلالتهم وسوء نحلتهم وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن بها من شرعي وهداي متعجبا ، وقال مكي وعلي بن سليمان : ضمير (عَجِبْتَ) للنبي عليه الصلاة والسلام والكلام بتقدير القول أي قل بل عجبت ، وعندي لو قدر القول بعد بل كان أحسن أي بل قل عجبت ، والذي يقتضيه كلام السلف إن العجب فينا انفعال يحصل للنفس عند الجهل بالسبب ولذا قيل : إذا ظهر السبب بطل العجب وهو في الله تعالى بمعنى يليق لذاته عزوجل هو سبحانه أعلم به فلا يعينون المراد والخلف يعينون.

(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) أي ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به أو أنهم إذا ذكر لهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرهم ، واستفادة الاستمرار من مقام الذم ، ولعل في إذا والعطف على الماضي ما يؤيده ، وقرأ ابن حبيش «ذكروا» بتخفيف الكاف (وَإِذا رَأَوْا آيَةً) أي معجزة تدل على صدق من يعظهم ويدعوهم إلى ترك ما هم فيه إلى ما هو خير أو معجزة تدل على صدق القائل بالحشر (يَسْتَسْخِرُونَ) أي يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر أو يطلب بعضهم من بعض أن يسخر منها ، روي أن ركانة رجلا من المشركين من أهل مكة لقيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جبل خال يرعى غنما له وكان من أقوى الناس فقال له : يا ركانة أرأيت إن صرعتك أتؤمن بي؟ قال : نعم فصرعه ثلاثا ثم عرض له بعض الآيات دعا عليه الصلاة والسلام شجرة فأقبلت فلم يؤمن وجاء إلى مكة فقال : يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت فيه وفي أضرابه. وقرئ «يستسحرون» بالحاء المهملة أي يعدونها سحرا.

(وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ

٧٥

مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ)(٦١)

(وَقالُوا إِنْ هذا) ما يرونه من الآيات الباهرة (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر سحريته في نفسه. (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً) أي كان بعض أجزائنا ترابا وبعضها عظاما ، وتقديم التراب لأنه منقلب عن الأجزاء البادية ، وإذا إما شرطية وجوابها محذوف دل عليه قوله تعالى : (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي نبعث وفي عاملها الكلام المشهور ، وإما متمحضة للظرفية فلا جواب لها ومتعلقها محذوف يدل عليه ذلك أيضا لا هو لأن ما بعد إن واللام لا يعمل فيما قبله أي أنبعث إذا متنا ، وإن شئت فقدره مؤخرا فتقديم الظرف لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إلى حالة منافية له غاية المنافاة ، وكذا تكرير الهمزة للمبالغة والتشديد في ذلك وكذا تحلية الجملة بأن ، واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم الكريم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة. وقرأ ابن عامر بطرح الهمزة الأولى. وقرأ نافع والكسائي ويعقوب بطرح الثانية (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) مبتدأ حذف خبره لدلالة خبر أن عليه أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون أيضا والجملة معطوفة على الجملة قبلها. وهذا أحد مذاهب في نحو هذا التركيب. وظاهر كلام أبي حيان في شرح التسهيل أن حذف الخبر واجب فقد قال : قال من نحا إلى هذا المذهب : الأصل في هذه المسألة عطف الجمل إلا أنهم لما حذفوا الخبر لدلالة ما قبل عليه أنابوا حرف العطف مكانه ولم يقدروا إذ ذاك الخبر المحذوف في اللفظ لئلا يكون جمعا بين العوض والمعوض عنه فأشبه عطف المفردات من جهة أن حرف العطف ليس بعده في اللفظ إلا مفرد. وثاني المذاهب أن يكون معطوفا على الضمير المستتر في خبر إن إن كان مما يتحمل الضمير وكان الضمير مؤكدا أو كان بينه وبين المعطوف فاصل ما وإلا ضعف العطف. ونسب ابن هشام هذا المذهب والذي قبله إلى المحققين من البصريين. وفي تأتيه هنا من غير ضعف للفصل بالهمزة بحث فقد قال أبو حيان : إن همزة الاستفهام لا تدخل على المعطوف إلا إذا كان جملة لئلا يلزم عمل ما قبل الهمزة فيما بعدها وهو غير جائز لصدارتها. والجواب بأن الهمزة هنا مؤكدة للاستبعاد فهي في النية مقدمة داخلة على الجملة في الحقيقة لكن فصل بينهما بما فصل قد بحث فيه بأن الحرف لا يكرر للتوكيد بدون مدخوله والمذكور في النحو أن الاستفهام له الصدر من غير فرق بين مؤكد ومؤسس مع أن كون الهمزة في نية التقديم يضعف أمر الاعتداد بالفصل بها لا سيما وهي حرف واحد فلا يقاس الفصل بها على الفصل بلا في قوله تعالى : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨].

وثالثها أن يكون عطفا على محل إن مع ما عملت فيه ، والظاهر أنه حينئذ من عطف الجمل في الحقيقة ، ورابعها أن يكون عطفا على محل اسم إن لأنه كان قبل دخولها في موضع رفع ، والظاهر أنه حينئذ من عطف المفردات.

٧٦

واعترض بأن الرفع كان بالابتداء وهو عامل معنوي ، وقد بطل بالعامل اللفظي. وأجيب بأن وجوده كلا وجود لشبهه بالزائد من حيث إنه لا يغير معنى الجملة وإنما يفيد التأكيد فقط. واعترض أيضا بأن الخبر المذكور كمبعوثون في الآية يكون حينئذ خبرا عنهما وخبر المبتدأ رافعه الابتداء أو المبتدأ أو هما وخبر إن رافعه إن فيتوارد عاملان على معمول واحد : وأجيب بأن العوامل النحوية ليست مؤثرات حقيقية بل هي بمنزلة العلامات فلا يضر تواردها على معمول واحد وهو كما ترى ، وتمام الكلام في محله ، وعلى كل حال الأولى ما تقدم من كونه مبتدأ حذف خبره ؛ وقد قال أبو حيان : إن أرباب الأقوال الثلاثة الأخيرة متفقون على جواز القول الأول وهو يؤيد القول بأولويته ، وأيا ما كان فمراد الكفرة زيادة استبعاد بعث آبائهم بناء على أنهم أقدم فبعثهم أبعد على عقولهم القاصرة. وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن عامر ونافع في رواية. وقالوا «أو» بالسكون على أنها حرف عطف وفيه الاحتمالات الأربعة إلا أن العطف على الضمير على هذه القراءة ضعيف لعدم الفصل بشيء أصلا (قُلْ نَعَمْ) أي تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون والخطاب في قوله سبحانه : (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) لهم ولآبائهم بطريق التغليب ، والجملة في موضع الحال من فاعل ما دل عليه (نَعَمْ) أي تبعثون كلكم والحال إنك صاغرون أذلاء ، وهذه الحال زيادة في الجواب نظير ما وقع في جوابه عليه الصلاة والسلام لأبي ابن خلف حين جاء بعظم قد رم وجعل يفته بيده ويقول : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم له على ما في بعض الروايات «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم» وقال غير واحد : إن ذلك من الأسلوب الحكيم. وتعقب بأن عد الزيادة منه لا توافق ما قرر في المعاني وإن كان ذلك اصطلاحا جديدا فلا مشاحة في الاصطلاح واكتفى في الجواب عن إنكارهم البعث على هذا المقدار ولم يقم دليل عليه اكتفاء بسبق ما يدل على جوازه في قوله سبحانه (فَاسْتَفْتِهِمْ) إلخ مع أن المخبر قد علم صدقه بمعجزاته الواقعة في الخارج التي دل عليها قوله سبحانه (وَإِذا رَأَوْا آيَةً) الآية. وهزؤهم وتسميتهم لها سحرا لا يضر طالب الحق ، والقول بأن ذلك للاكتفاء بقيام الحجة عليهم في القيامة ليس بشيء. وقرأ ابن وثاب والكسائي «نعم» بكسر العين وهي لغة فيه. وقرئ «قال» أي الله تعالى أو رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) الضمير راجع إلى البعثة المفهومة مما قبل ، وقيل للبعث والتأنيث باعتبار الخبر. والزجرة الصيحة من زجر الراعي غنمه صاح عليها. والمراد بها النفخة الثانية في الصور ولما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازا. والفاء واقعة في جواب شرط مقدر أو تعليلية لنهي مقدر أي إذا كان كذلك فإنما البعثة زجرة واحدة أو لا تستصعبوها فإنما هي زجرة. وجوز الزجاج أن تكون للتفسير والتفصيل وما بعدها مفسر للبعث وتعقب بأن تفسير البعث الذي في كلامهم لا وجه له والذي في الجواب غير مصرح به. وتفسير ما كني عنه بنعم مما لم يعهد. والظاهر أنه تفسير لما كني عنه بنعم وهو بمنزلة المذكور لا سيما وقد ذكر ما يقوى إحضاره من الجملة الحالية. وعدم عهد التفسير في مثل ذلك مما لا جزم لي به.

وأبو حيان نازع في تقدير الشرط فقال : لا ضرورة تدعو إليه ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب الأمر والنهي وما ذكر معهما على قول بعضهم إما ابتداء فلا يجوز حذفه والجمهور على خلاف والحق معهم ، وهذه الجملة إما من تتمة المقول وإما ابتداء كلام من قبله عزوجل.

(فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء يبصرون كما كانوا في الدنيا أو ينتظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به (وَقالُوا) أي المبعوثون ، وصيغة الماضي لتحقق الوقوع (يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك (هذا يَوْمُ الدِّينِ) استئناف منهم لتعليل دعائهم الويل.

والدين بمعنى الجزاء كما في كما تدين تدان أي هذا اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا ، وإنما علموا ذلك لأنهم

٧٧

كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويحاسبون ويجزون بأعمالهم فلما شاهدوا البعث أيقنوا بما بعده أيضا ، وقوله تعالى : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) كلام الملائكة جوابا لهم بطريق التوبيخ والتقريع ، وقيل : هو من كلام بعضهم لبعض أيضا ، ووقف أبو حاتم على (يا وَيْلَنا) وجعل ما بعده كلام الله تعالى أو كلام الملائكة عليهم‌السلام لهم كأنهم أجابوهم بأنه لا تنفع الولولة والتلهف ، والفصل القضاء أو الفرق بين المحسن والمسيء وتمييز كل عن الآخر بدون قضاء (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) خطاب من الله تعالى للملائكة أو من الملائكة بعضهم لبعض. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقول الملائكة للزبانية : احشروا إلخ ، وهو أمر بحشر الظالمين من أماكنهم المختلفة إلى موقف الحساب ؛ وقيل من الموقف إلى الجحيم ، والسباق والسياق يؤيدان الأول (وَأَزْواجَهُمْ) أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن منيع في مسنده والحاكم وصححه وجماعة من طريق النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : أزواجهم أمثالهم الذين هم مثلهم يحشر أصحاب الربا مع أصحاب الربا وأصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر. وأخرج جماعة عن ابن عباس في لفظ أشباههم وفي آخر نظراءهم. وروي تفسير الأزواج بذلك أيضا عن ابن جبير ومجاهد وعكرمة وأصل الزوج المقارن كزوجي النعل فأطلق على لازمه وهو المماثل. وجاء في رواية عن ابن عباس أنه قال : أي نساءهم الكافرات ورجحه الرماني. وقيل قرناءهم من الشياطين وروي هذا عن الضحاك والواو للعطف وجوز أن تكون للمعية. وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي «وأزواجهم» بالرفع عطفا على ضمير (ظَلَمُوا) على ما في البحر أي وظلم أزواجهم.

وأنت تعلم ضعف العطف على الضمير المرفوع في مثله ، والقراءة شاذة (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام ونحوها ، وحشرهم معهم لزيادة التحسير والتخجيل ، و (ما) قيل عام في كل معبود حتى الملائكة والمسيح وعزير عليهم‌السلام لكن خص منه البعض بقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء: ١٠١] الآية.

وقيل (ما) كناية عن الأصنام والأوثان فهي لما لا يعقل فقط لأن الكلام في المشركين عبدة ذلك ، وقيل (ما) على عمومها والأصنام ونحوها غير داخلة لأن جميع المشركين إنما عبدوا الشياطين التي حملتهم على عبادتها ، ولا يناسب هذا تفسير (أَزْواجَهُمْ) بقرنائهم من الشياطين ، ومع هذا التخصيص أقرب ، وفي هذا العطف دلالة على أن الذين ظلموا المشركون وهم الأحقاء بهذا الوصف فإن الشرك لظلم عظيم (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) فعرفوهم طريقها وأروهم إياه ، والمراد بالجحيم النار ويطلق على طبقة من طبقاتها وهو من الجحمة شدة تأجج النار ، والتعبير بالصراط والهداية للتهكم بهم (وَقِفُوهُمْ) أي احبسوهم في الموقف (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) عن عقائدهم وأعمالهم ، وفي الحديث «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس عن شبابه فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن ماله مما كسبه وفيما أنفقه وعن علمه ما ذا عمل به» وعن ابن مسعود يسألون عن لا إله إلا الله ، وعنه أيضا يسألون عن شرب الماء البارد على طريق الهزء بهم. وروى بعض الإمامية عن ابن جبير عن ابن عباس يسألون عن ولاية علي كرم الله تعالى وجهه ، ورووه أيضا عن أبي سعيد الخدري وأولى هذه الأقوال أن السؤال عن العقائد والأعمال ، ورأس ذلك لا إله إلا الله ، ومن أجله ولاية علي كرم الله تعالى وجهه وكذا ولاية إخوانه الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

وظاهر الآية أن الحبس للسؤال بعد هدايتهم إلى صراط الجحيم بمعنى تعريفهم إياه ودلالتهم عليه لا بمعنى ادخالهم فيه وإيصالهم إليه ، وجوز أن يكون صراط الجحيم طريقهم له من قبورهم إلى مقرهم وهو ممتد فيجوز كون الوقف في بعض منه مؤخرا عن بعض ، وفيه من البعد ما فيه ، وقيل : إن الوقف للسؤال قبل الأمر المذكور والواو لا تقتضي الترتيب ، وقيل الوقف بعد الأمر عند مجيئهم النار والسؤال عما ينطق به قوله تعالى (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) أي

٧٨

لا ينصر بعضكم بعضا ، والخطاب لهم وآلهتهم أو لهم فقط أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تزعمون في الدنيا ، فقد روي أن أبا جهل قال يوم بدر : نحن جميع منتصر ، وتأخير هذا السؤال إلى ذلك الوقت لأنه وقت تنجيز العذاب وشدة الحاجة إلى النصرة وحالة انقطاع الرجاء والتقريع والتوبيخ حينئذ أشد وقعا وتأثيرا ، وقيل : السؤال عن هذا في موقف المحاسبة بعد استيفاء حسابهم والأمر بهدايتهم إلى الجحيم كأن الملائكة عليهم‌السلام لما أمروا بهدايتهم إلى النار وتوجيههم إليها سارعوا إلى ما أمروا به فقيل لهم قفوهم أنهم مسئولون ، والذي يترجح عندي أن الأمر بهدايتهم إلى الجحيم إنما هو بعد إقامة الحجة عليهم وقطع أعذارهم وذلك بعد محاسبتهم ، وعطف (اهدوهم) على (احْشُرُوا) بالفاء إشارة إلى سرعة وقوع حسابهم ، وسؤالهم ما لكم لا تناصرون الأليق أن يكون بعد تحقق ما يقتضي التناصر وليس ذلك إلا بعد الحساب والأمر بهم إلى النار فلعل الوقف لهذا السؤال في ابتداء توجههم إلى النار والله تعالى أعلم. وقرأ عيسى «أنهم» بفتح الهمزة بتقدير لأنهم ، وقرأ البزي عن ابن كثير «لا تتناصرون» بتاءين بلا إدغام ، وقرئ بإدغام إحداهما في الأخرى (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) منقادون لعجزهم وانسداد الحيل عليهم ، وأصل الاستسلام طلب السلامة والانقياد لازم لذلك عرفا فلذا استعمل فيه أو متسالمون كأنه يسلم بعضهم بعضا للهلاك ويخذله ، وجوز في الاضراب أن يكون عن مضمون ما قبله أي لا ينازعون في الوقوف وغيره بل ينقادون أو يخذلون أو عن قوله سبحانه (لا تَناصَرُونَ) أي لا يقدر بعضهم على نصر بعض بل هم منقادون للعذاب أو مخذولون (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) هم الأتباع والرؤساء المضلون أو الكفرة من الإنس وقرناؤهم من الجن ، وروي هذا عن مجاهد وقتادة وابن زيد (يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا سؤال تقريع بطريق الخصومة والجدال (قالُوا) استئناف بياني كأنه قيل : كيف يتساءلون؟ فقيل : قالوا أي الأتباع للرؤساء أو الكفرة مطلقا للقرناء (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا) في الدنيا (عَنِ الْيَمِينِ) أي من جهة الخير وناحيته فتنهونا عنه وتصدونا قاله قتادة ، ولشرف اليمين جاهلية وإسلاما دنيا وأخرى استعيرت لجهة الخير استعارة تصريحية تحقيقية ، وجعلت اليمين مجازا عن جهة الخير مع أنه مجاز في نفسه فيكون ذلك مجازا على المجاز لأن جهة الخير لشهرة استعماله التحق بالحقيقة فيجوز فيه المجاز على المجاز كما قالوا في المسافة فإنها موضع الشم في الأصل لأنه من ساف التراب إذا شمه فإن الدليل إذا اشتبه عليه الطريق أخذ ترابا فشمه ليعرف أنه مسلوك أولا ثم جعل عبارة عن البعد بين المكانين ثم استعير لفرق ما بين الكلامين ولا بعد هناك ، واستظهر بعضهم حمل الكلام على الاستعارة التمثيلية واعتبار التجوز في مجموع (تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) لمعنى تمنعوننا وتصدوننا عن الخير فيسلم الكلام من دعوى المجاز على المجاز ؛ وكأن المراد بالخير الإيمان بما يجب الإيمان به ، وجوز أن يكون المراد به الخير الذي يزعمه المضلون خيرا وأن المعنى تأتوننا من جهة الخير وتزعمون ما أنتم عليه خيرا ودين حق فتخدعوننا وتضلوننا وحكي هذا عن الزجاج.

وقال الجبائي : المعنى كنتم تأتوننا من جهة النصيحة واليمن والبركة فترغبوننا بما أنتم عليه فتضلوننا وهو قريب مما قبله ، وجوزوا أن تكون اليمين مجازا مرسلا عن القوة والقهر فإنها موصوفة بالقوة وبها يقع البطش فكأنه أطلق المحل على الحال أو السبب على المسبب ، ويمكن أن يكون ذلك بطريق الاستعارة وتشبيه القوة بالجانب الأيمن في التقدم ونحوه ، والمعنى إنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه وإليه ذهب الفراء ، وأن يكون اليمين حقيقة بمعنى القسم ومعنى إتيانهم عنه أنهم يأتونهم مقسمين لهم على حقية ما هم عليه من الباطل ، والجار والمجرور في موضع الحال ، وعن بمعنى الباء كما في قوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣] أو هو ظرف لغو ، وفيه بعد ، وأبعد منه أن يفسر اليمين بالشهوة والهوى لأن جهة اليمين

٧٩

موضع الكبد ، وهو مخالف لما حكي عن بعض من أن من أتاه الشيطان من جهة اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق ومن أتاه من جهة الشمال أتاه من قبل الشهوات ومن أتاه من بين يديه أتاه من قبل التكذيب بالقيامة والثواب والعقاب ومن أتاه من خلفه خوفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده فلم يصل رحما ولم يؤد زكاة (قالُوا) استئناف على طرز السابق أي قال الرؤساء أو قال القرناء في جوابهم بطريق الاضراب عما قالوه لهم (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وهو إنكار لإضلالهم إياهم أي أنتم أضللتم أنفسكم بالكفر ولم تكونوا مؤمنين في حد ذاتكم لا أنّا نحن أضللناكم ، وقولهم : (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي من قهر وتسلط نسلبكم به اختياركم (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) مجاوزين الحد في العصيان مختارين له مصرين عليه جواب آخر تسليمي على فرض اضلالهم بأنهم لم يجبروهم عليه وإنما دعوهم له فأجابوا باختيارهم لموافقة ما دعوا له هواهم ، وقيل : الكل جواب واحد محصله إنكم اتصفتم بالكفر من غير جبر عليه ، وقولهم : (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) تفريع على صريح ما تقدم من عدم إيمان أولئك المخاصمين لهم وكونهم قوما طاغين في حد ذاتهم وعلى ما اقتضاه وأشعر به خصامهم من كفر هؤلاء المجيبين لأولئك الطاغين وغوايتهم في أنفسهم ، وضمائر الجمع للفريقين فكأنهم قالوا : ولأجل أنا جميعا في حد ذاتنا لم نكن مؤمنين وكنا قوما طاغين لزمنا قول ربنا وخالقنا العالم بما نحن عليه وبما يقتضيه استعدادنا وثبت علينا وعيده سبحانه بأنا ذائقون لا محالة لعذابه عزوجل ، ومرادهم أن منشأ الخصام في الحقيقة الذي هو العذاب أمر مقضي لا محيص عنه وأنه قد ترتب على كل منا بسبب أمر هو عليه في نفسه وقد اقتضاه استعداده وفعله باختياره فلا يلومن بعضنا بعضا ولكن ليلم كل منا نفسه ، ونظموا أنفسهم معهم في ذلك للمبالغة في سد باب اللوم والخصام من أولئك القوم ، والفاء في قولهم : (فَأَغْوَيْناكُمْ) أي فدعونا كم إلى الغي لتفريع الدعاء المذكور على حقية الوعيد عليهم لا لمجرد التعقيب كما قيل ، وعلية ذلك للدعاء باعتبار أن وجوده الخارجي متعلقا بهم كان متفرعا عن ذلك في نفس الأمر لا باعتبار أن إصداره وإيقاعه منهم على المخاطبين كان بملاحظة ذلك كما تلاحظ العلل الغائية في الأفعال الاختيارية لأن الظاهر أو رؤساء الكفر لم يكونوا عالمين في الدنيا حقية الوعيد عليهم ، نعم لا يبعد أن يكون القرناء من الشياطين عالمين بذلك من أبيهم ، وكذا تسمية دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه إغواء أي دعاء إلى الغي بناء على أن الكلام المذكور من الرؤساء باعتبار نفس الأمر التي ظهرت لهم في يوم القيامة ، ومثل هذا يقال في قولهم : (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) بناء على أنهم إنما علموا ذلك يوم التساؤل والخصام ، والجملة مستأنفة لتعليل ما قبلها ، وكأن ما أشعر به التفريع باعتبار تعلق الإغواء بالمخاطبين وهذا باعتبار صدور الإغواء نفسه منهم ، وهو تصريح بما يستفاد من التفريع السابق.

ويجوز أن يكون إشارة إلى وجه ترتب إغوائهم إياهم على حقية الوعيد عليهم وهو حب أن يتصف أولئك المخاطبون بنحو ما اتصفوا به من الغي ويكونوا مثلهم فيه. وملخص كلامهم أنه ليس منافي حقكم على الحقيقة سوى حب أن تكونوا مثلنا وهو غير ضار لكم وإنما الضار سوء اختياركم وقبح استعدادكم فذلك الذي ترتب عليه حقية الوعيد عليكم وثبوت هذا العذاب لكم ، وجوز أن يقال : إنهم نفوا عنهم الإيمان والاعتقاد الحق وأثبتوا لهم الطغيان ومجاوزة الحد في العصيان حيث لم يلتفتوا إلى ما يجب الاعتقاد الصحيح مع كثرته وظهوره ورتبوا على ذلك مع ما يقتضيه البحث حقية الوعيد وفرعوا على مجموع الأمرين أنهم دعوهم إلى الغي مرادا به الكفر لاعتقاد أمر فاسد لا مجرد عدم الإيمان أي عدم التصديق بما يجب التصديق به بدون اعتقاد أمر آخر يكفر باعتقاده ، وأشاروا إلى وجه ترتب ذلك على ما ذكر وهو محبة أن يكونوا مثلهم فكأنهم قالوا : كنتم تاركين الاعتقاد الحق غير ملتفتين إليه مع ظهور أدلته

٨٠