روح المعاني - ج ١٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

عبادنا وضعا للجنس موضع الجمع فتتحد القراءتان (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين على أن الأيدي مجاز مرسل عن القوة ، والأبصار جمع بصر بمعنى بصيرة وهو مجاز أيضا لكنه مشهور فيه أو أولي الأعمال الجليلة والعلوم الشريفة على أن ذكر الأيدي من ذكر السبب وإرادة المسبب ، والأبصار بمعنى البصائر مجاز عما يتفرع عليها من العلوم كالأول أيضا ، وفي ذلك على الوجهين تعريض بالجهلة البطالين أنهم كفاقدي الأيدي والأبصار وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع تمكنهم منهما ، وقيل : الأيدي النعم أي أولى التي أسداها الله تعالى إليهم من النبوة والمكانة أو أولى النعم والإحسانات على الناس بإرشادهم وتعليمهم إياهم ، وفيه ما فيه. وقرئ «الأيادي» على جمع الجمع كاوطف واواطف ، وقرأ عبد الله والحسن وعيسى والأعمش «الأيد» بغير ياء فقيل يراد الأيدي بالياء وحذفت اجتزاء بالكسرة عنها ، ولما كانت أل تعاقب التنوين حذفت الياء معها كما حذفت مع التنوين حكاه أبو حيان ثم قال : وهذا تخريج لا يسوغ لأن حذف هذه الياء مع وجود أل ذكره سيبويه في الضرائر ، وقيل : الأيد القوة في طاعة الله تعالى نظير ما تقدم ، وقال الزمخشري بعد تعليل الحذف بالاكتفاء بالكسرة وتفسيره بالأيد من التأييد قلق غير متمكن وعلل بأن فيه فوات المقابلة وفوات النكتة البيانية فلا تغفل (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ) تعليل لما وصفوا به ، والباء للسببية وخالصة اسم فاعل وتنوينها للتفخيم ، وقوله تعالى : (ذِكْرَى الدَّارِ) بيان لها بعد ابهامها للتفخيم ، وجوز أن يكون خبرا عن ضميرها المقدر أي هي ذكرى الدار ، وأيا ما كان فذكرى مصدر مضاف لمفعوله وتعريف الدار للعهد أي الدار الآخرة ، وفيه إشعار بأنها الدار في الحقيقة وإنما الدنيا مجاز أي جعلناهم خالصين لنا سبب خصلة خالصة جليلة الشأن لا شوب فيها هي تذكرهم دائما الدار الآخرة فإن خلوصهم في الطاعة بسبب تذكرهم إياها وذلك لأن مطمح أنظارهم ومطرح أفكارهم في كل ما يأتون ويذرون جوار الله عزوجل والفوز بلقائه ولا يتسنى ذلك إلا في الآخرة.

وقيل أخلصناهم بتوفيقهم لها واللطف بهم في اختيارها والباء كما في الوجه الأول للسببية والكلام نحو قولك : أكرمته بالعلم أي بسبب أنه عالم أكرمته أو أكرمته بسبب أنك جعلته عالما ، وقد يتخيل في الثاني أنه صلة ، ويعضد الوجه الأول قراءة الأعمش وطلحة «بخالصتهم».

وأخرج ابن المنذر عن الضحاك أن ذكرى الدار تذكيرهم الناس الآخرة وترغيبهم إياهم فيها وتزهيدهم (١) إياهم فيها على وجه خالص من الحظوظ النفسانية كما هو شأن الأنبياء عليهم‌السلام ، وقيل المراد بالدار الدار الدنيا وبذكراها الثناء الجميل ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. وحكي ذلك عن الجبائي. وأبي مسلم وذكره ابن عطية احتمالا ، وحاصل الآية عليه كما قال الطبرسي إنا خصصناهم بالذكر الجميل في الأعقاب.

وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج ونافع وهشام بإضافة «خالصة» إلى «ذكرى» للبيان أي بما خلص من ذكرى الدار على معنى أنهم لا يشوبون ذكراها بهم آخر أصلا أو على غير ذلك من المعاني ، وجوز على هذه القراءة أن تكون «خالصة» مصدرا كالعاقبة والكاذبة مضافا إلى الفاعل أي أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار. وظاهر كلام أبي حيان أن احتمال المصدرية ممكن في القراءة الأولى أيضا لكنه قال : الأظهر أن تكون اسم فاعل (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ) أي المختارين من بين أبناء جنسهم ، وفيه إعلال معروف.

وعندنا يجوز فيه أن يكون من صلة الخبر وأن يكون من صلة محذوف دل عليه (لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ) أي

__________________

(١) وتزهيدهم إياهم فيها كذا في خط المؤلف رحمه‌الله وعبارة الكشاف تذكيرهم الناس الآخرة وترغيبهم فيها وتزهيدهم في الدنيا.

٢٠١

وأنهم مصطفون عندنا ، ولم يجوزوا أن يكون من صلة (الْمُصْطَفَيْنَ) المذكور لأن أل فيه موصولة ومصطفين صلة وما في حيز الصلة لا يتقدم معموله على الموصول لئلا يلزم تقدم الصلة على الموصول ، واعترض بأنا لا نسلم أن أل فيه موصولة إذ لم يرد منه الحدوث ولو سلم فالمتقدم ظرف وهو يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره ، والظاهر أن الجملة عطف على ما قبلها ، وتأكيدها لمزيد الاعتناء بكونهم عندهم تعالى من المصطفين من الناس (الْأَخْيارِ) الفاضلين عليهم في الخير وهو جمع خير مقابل شر الذي هو أفعل تفضيل في الأصل ، وكان قياس أفعل التفضيل أن لا يجمع على أفعال لكنه للزوم تخفيفه حتى أنه لا يقال أخير إلا شذوذا أو في ضرورة جعل كأنه بنية أصلية ؛ وقيل جمع خير المشدد أو خير المخف منه كأموات في جمع ميت بالتشديد أو ميت بالتخفيف.

(وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ)(٦٨)

(وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ) فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه اعتناء بشأنه من حيث إنه لا يشرك العرب فيه غيرهم أو للإشعار بعراقته في الصبر الذي هو المقصود بالذكر (وَالْيَسَعَ) قال ابن جرير هو ابن أخطوب بن العجوز ، وذكر أنه استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبئ ، واللام فيه زائدة لازمة لمقارنتها للوضع ، ولا ينافي كونه غير عربي فإنها قد لزمت في بعض الأعلام الأعجمية كالإسكندر فقد لحن التبريزي من قال إسكندر مجردا له منها ، والأولى عندي أنه إذا كان اسما أعجميا وأل فيه مقارنة للوضع أن لا يقال بزيادتها فيها ، وقيل هو اسم عربي منقول من يسع مضارع وسع حكاه الجلال السيوطي في الإتقان. وفي القاموس يسع كيضع اسم أعجمي أدخل عليه أل ولا تدخل على نظائره كيزيد.

وقرأ حمزة والكسائي «والليسع» بلامين والتشديد كان أصله ليسع بوزن فيعل من اللسع دخل عليه أل تشبيها بالمنقول الذي تدخله للمح أصله ، وجزم بعضهم بأنه على هذه القراءة أيضا علم أعجمي دخل عليه اللام.

(وَذَا الْكِفْلِ) قيل هو ابن أيوب ، وعن وهب أن الله تعالى بعث بعد أيوب شرف ابن أيوب نبيا وسماه ذا الكفل وأمره بالدعاء إلى توحيده وكان مقيما بالشام عمره حتى مات وعمره خمس وسبعون سنة.

وفي العجائب للكرماني قيل هو إلياس ، وقيل هو يوشع بن نون ، وقيل هو نبي اسمه ذو الكفل ، وقيل كان رجلا

٢٠٢

صالحا تكفل بأمور فوفى بها ، وقيل هو زكريا من قوله تعالى : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) [آل عمران : ٣٧] اه ، وقال ابن عساكر : هو نبي تكفل الله تعالى له في عمله بضعف عمل غيره من الأنبياء ، وقيل لم يكن نبيا وأن اليسع استخلفه فتكفل له أن يصوم النهار ويقوم الليل ، وقيل أن يصلي كل يوم مائة ركعة ، وقيل : كان رجلا من الصالحين كان في زمانه أربعمائة نبي من بني إسرائيل فقتلهم ملك جبار إلا مائة منهم فروا من القتل فآواهم وأخفاهم وقام بمئونتهم فسماه الله تعالى ذا الكفل ، وقيل هو اليسع وأن له اسمين ويأباه ظاهر النظم (وَكُلٌ) أي وكلهم (مِنَ الْأَخْيارِ) المشهورين بالخيرية (هذا) إشارة إلى ما تقدم من الآيات الناطقة بمحاسنهم (ذِكْرٌ) أي شرف لهم وشاع الذكر بهذا المعنى لأن الشرف يلزمه الشهرة والذكر بين الناس فتجوز به عنه بعلاقة اللزوم ، والمراد في ذكر قصصهم وتنويه الله تعالى بهم شرف عظيم لهم أو المعنى هذا المذكور من الآيات نوع من الذكر الذي هو القرآن ، وذكر ذلك للانتقال من نوع من الكلام إلى آخر كما يقول الجاحظ في كتبه : فهذا باب ثم شرع في باب آخر ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر : هذا وكان كيت وكيت ، ويحذف على ما قيل الخبر في مثل ذلك كثيرا وعليه (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) [ص : ٥٥] وستسمع إن شاء الله تعالى الكلام فيه فلا يقال : إنه لا فائدة فيه لأنه معلوم أنه من القرآن ، وقال ابن عباس : هذا ذكر من مضى من الأنبياء عليهم‌السلام ، وقوله تعالى : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) أي مرجع شروع في بيان أجرهم الجزيل في الآجل بعد بيان ذكرهم الجميل في العاجل ، والمراد بالمتقين إما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وإما نفس المذكورين عبر عنهم بذلك مدحا لهم بالتقوى التي هي الغاية القصوى في الكمال ، والجملة فيما أرى عطف على الجملة قبلها كأنه قيل : هذا شرف لهم في الدنيا وأن لهم ولأضرابهم أو إن لهم في الآخرة لحسن مآب أو هي من قبيل عطف القصة على القصة ، وقال الشهاب الخفاجي عليه الرحمة : هي حالية ولم يبين صاحب الحال ، ويبعد أن يكون (ذكرا) لأنه نكرة متقدمة وأن يكون (هذا) لأنه مبتدأ ومع ذلك في المعنى على تقدير الحالية خفاء ، وقال بعض أجلة المعاصرين : إنه أراد أن الكلام على معنى والحال كذا أي الأمر والشأن كذا ولم يرد أن الجملة حال بالمعنى المعروف الذي يقتضي ذا حال وعاملا في الحال إلى غير ذلك وادعى أن الأمر كذلك في كل جملة يقال إنها حال وليس فيها ضمير يعود على ما قبلها نحو جاء زيد والشمس طالعة وقال : إنه الذي ينبغي أن يعول عليه وإن لم يذكره النحويون اه ، والحال لا يخفى على ذي تمييز ، وإضافة (حسن) إلى (مَآبٍ) من إضافة الصفة إلى الموصوف إما بتأويل مآب ذي حسن أو حسن وإما بدونه قصدا للمبالغة.

وقوله تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) بدل اشتمال ، وجوز أن يكون نصبا على المدح ، وجعله الزمخشري عطف بيان لحسن مآب ، وعدن قيل من الأعلام الغالبة غلبة تقديرية ولزوم الإضافة فيها أو تعريفها باللام أغلبي كما صرح به ابن مالك في التسهيل ، وجنات عدن كمدينة طيبة لا كإنسان زيد فإنه قبيح ، وقيل العلم مجموع (جَنَّاتِ عَدْنٍ) وهو أيضا من غير الغالب لأن المراد من الإضافة التي تعوضها العلم بالغلبة إضافة تفيده تعريفا ، وعلى القولين هو معين فيصلح للبيان لكن تعقب ذلك أبو حيان بأن للنحويين في عطف البيان مذهبين ، أحدهما أن ذلك لا يكون إلا في المعارف فلا يكون عطف البيان إلا تابعا لمعرفة وهو مذهب البصريين ، والثاني أنه يجوز أن يكون في النكرات فيكون عطف البيان تابعا لنكرة كما تكون المعرفة فيه تابعة لمعرفة وهذا مذهب الكوفيين وتبعهم الفارسي ؛ وأما تخالفهما في التنكير والتعريف فلم يذهب إليه أحد سوى الزمخشري كما قد صرح به ابن مالك في التسهيل فهو بناء للأمر على مذهبه.

وذهب آخرون أن عدنا مصدر عدن بمكان كذا استقر ، ومنه المعدن لمستقر الجواهر ولا علمية ولا نقل هناك

٢٠٣

ومعنى (جَنَّاتِ عَدْنٍ) جنات استقرار وثبات فإن كان عطف بيان فهو على مذهب الكوفيين والفارسي.

ومن الغريب ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال : سألت كعبا عن قوله تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) فقال : جنات كروم وأعناب بالسريانية ، وفي تفسير ابن جرير أنه بالرومية ، وقوله تعالى :

(مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) إما صفة لجنات عدن وإليه ذهب ابن إسحاق وتبعه ابن عطية أو حال من ضميرها المستتر في خبر إن والعامل فيه الاستقرار المقدر أو نفس الظرف لتضمنه معناه ونيابته عنه وإليه ذهب الزمخشري ومختصر وكلامه أو حال من ضميرها المحذوف مع العامل لدلالة المعنى عليه والتقدير يريد خلوها مفتحة وإليه ذهب الحوفي ، و (الْأَبْوابُ) نائب فاعل (مُفَتَّحَةً) عند الجمهور والرابط العائد على الجنات محذوف تقديره الأبواب منها ، واكتفى الكوفيون عن ذلك بال لقيامها مقام الضمير فكأنه قيل : مفتحة لهم أبوابها ، وذهب أبو علي إلى أن نائب فاعل (مُفَتَّحَةً) ضمير الجنات والأبواب بدل منه بدل اشتمال كما هو ظاهر كلام الزمخشري ، ولا يصح أن يكون بدل بعض من كل لأن أبواب الجنات ليست بعضا من الجنات على ما قال أبو حيان. وقرأ زيد بن علي وعبد الله بن رفيع وأبو حيوة «جنات عدن مفتحة» برفعهما على أنهما خبران لمحذوف أي هو أي المآب جنات عدن مفتحة لهم أبوابه أو هو جنات عدن هي مفتحة لهم أبوابها أو على أنهما مبتدأ وخبر.

ووجه ارتباط الجملة بما قبلها أنها مفسرة لحسن المآب لأن محصلها جنات أبوابها فتحت إكراما لها أو هي معترضة.

وقوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ فِيها) وقوله سبحانه : (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) قيل حالان من ضمير (لَهُمُ) وهما حالان مقدران لأن الاتكاء وما بعده ليس في حال تفتيح الأبواب بل بعده ، وقيل : الأول حال مقدرة من الضمير المذكور والثاني حال من ضمير متكئين ، وجوز جعلهما حالين من المتقين ، ولا يصح إلا أن قلنا بأن الفاصل ليس بأجنبي والظاهر أنه أجنبي ، وقال بعض الأجلة : الأظهر أن (مُتَّكِئِينَ) حال من ضمير (يَدْعُونَ) قدم رعاية للفاصلة ويدعون استئناف لبيان حالهم كأنه قيل ما حالهم بعد دخولها؟ فقيل : يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب متكئين فيها ، والاقتصار على الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي فإنه لتحصيل بدل ولا تحلل ثمت ولما كانت الفاكهة تتنوع وصفها سبحانه بالكثرة وكثرتها باختلاف أنواعها وكثرة كل نوع منها ، ولما كان الشراب نوعا واحدا وهو الخمر أفرد ، وقيل : وصفت الفاكهة بالكثرة ولم يوصف الشراب للإيذان بأنه يكون على الشراب نقل كثير سواء تعددت أنواعه أم اتحدت ، ويمكن أن يقال والله تعالى أعلم : التقدير وشراب كثير لكن حذف كثير لدلالة ما قبل ورعاية للفاصلة.

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم أو قاصرات طرف أزواجهن عليهن فلا ينظرون إلى غيرهن لشدة حسنهن ، وتمام الكلام قد مر وحلا (أَتْرابٌ) أي لدات على سن واحدة تشبيها في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو لسقوطهن معا على الأرض حين الولادة ومسهن ترابها فكأن الترب بمعنى المتارب كالمثل بمعنى المماثل ، والظاهر أن هذا الوصف بينهن فيكون في ذلك إشارة إلى محبة بعضهن لبعض وتصادقهن فيما بينهن فإن النساء الأتراب يتحاببن ويتصادقن وفي ذلك راحة عظيمة لأزواجهن كما أن في تباغض الضرائر نصبا عظيما وخطبا جسيما لهم ، وقد جرب ذلك وصح نسأل الله تعالى العفو والعافية.

وقيل : إن ذلك بينهن وبين أزواجهن أي إن أسنانهن كأسنانهم ليحصل كمال التحاب ، ورجح بأن اهتمام الرجل بحصول المحبة بينه وبين زوجته أشد من اهتمامه بحصولها بين زوجاته ، وفيه توقف ، ثم إن الوصف الأول على

٢٠٤

المعنى الأول متكفل بالدلالة على محبتهن لأزواجهن وعلى المعنى الثاني متكفل بالدلالة على محبة أزواجهن لهن وإذا حصلت المحبة من طرف فالغالب حصولها من الطرف الآخر ، وقد قيل : من القلب إلى القلب سبيل والأمر في الشاهد أن كون الزوجات أصغر من الأزواج أحب لهم لا التساوي ، واختار بعضهم كون ذلك بينهن وبين أزواجهن ، ويلزم منه مساواة بعضهن لبعض وهذا إذا كان المراد بقوله تعالى : (وَعِنْدَهُمْ) إلخ وعند كل واحد منهم ولو كان المراد وعند مجموعهم وكان الجمع موزعا بأن يكون لكل واحد واحد من أهل الجنة واحدة واحدة من قاصرات الطرف الأتراب كان اعتبار كون الوصف بينهن وبين الأزواج كالمتعين لكن هذا الفرض خلاف ما نطقت به الأخبار سواء قلنا بما روي عن ابن عباس من أن الآية في الآدميات أو قلنا بما قاله صاحب الفينان من أنها في الحور ، وقيل بناء على ما هو الظاهر في الوصف أن التساوي في الأعمار بين الحور وبين نساء الجنة فالآية فيهما (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي لأجل يوم الحساب فإن ما وعدوه لأجل طاعتهم وأعمالهم الصالحة وهي تظهر بالحساب فجعل كأنه علة لتوقف إنجاز الوعد فالنسبة لليوم والحساب مجازية ، وجوز أن تكون اللام بمعنى بعد كما في كتب لخمس خلون من جمادى الآخرة مثلا وهو أقل مئونة.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يوعدون» بياء الغيبة وعلى قراءة الجمهور بتاء الخطاب فيه التفات (إِنَّ هذا) أي ما ذكر من ألوان النعم والكرامات (لَرِزْقُنا) أعطيناكموه (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) انقطاع أبدا (هذا) قال الزجاج : أي الأمر هذا على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وقال أبو علي : أي هذا للمؤمنين على أنه مبتدأ خبره محذوف وقدره بعضهم كما ذكر.

وجوز أبو البقاء احتمال كونه مبتدأ محذوف الخبر واحتمال كونه خبرا محذوف المبتدأ ، وجوز بعضهم كونه فاعل فعل محذوف أي مضى هذا وكونه مفعولا لفعل محذوف أي خذ هذا ، وجوز أيضا كونها اسم فعل بمعنى خذ وذا مفعوله من غير تقدير ورسمه متصلا يبعده والتقدير أسهل منه ، وقوله تعالى : (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) عطف على ما قبله ، ولزوم عطف الخبر على الإنشاء على بعض الاحتمالات جوابه سهل ، وأشار الخفاجي إلى الحالية هنا أيضا ولعل أمرها على بعض الأقوال المذكورة هين ، والطاغون هنا الكفار كما يدل عليه كلام ابن عباس حيث قال : أي الذين طغوا عليّ وكذبوا رسلي ، وقال الجبائي : أصحاب الكبائر كفارا كانوا أو لم يكونوا ، وإضافة (شر) إلى (مَآبٍ) كإضافة (حسن) إليه فيما تقدم ، وظاهر المقابلة يقتضي أن يقال : لقبح مآب هنا أو لخير مآب فيما مضى لكنه مثله لا يلتفت إليه إذا تقابلت المعاني لأنه من تكلف الصنعة البديعية كما صرح به المرزوقي في شرح الحماسة كذا قيل ، وقيل إنه من الاحتباك وأصله إن للمتقين لخير مآب وحسن مآب وإن للطاغين لقبح مآب وشر مآب واستحسنه الخفاجي وفيه نوع بعد ، وقوله تعالى :

(جَهَنَّمَ) يعلم إعرابه مما سلف ؛ وقوله سبحانه : (يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها ويقاسون حرها حال من جهنم نفسها أو من الضمير المستتر في خبر أن الراجع لشر مآب المراد به هي والحال مقدرة (فَبِئْسَ الْمِهادُ) أي هي يعني جهنم فالمخصوص بالذم محذوف ، والمهاد كالفراش لفظا ومعنى وقد استعير مما يفترشه النائم ، والمهد كالمهاد وقد يخص بمقر الطفل (هذا) خبر مبتدأ محذوف أي العذاب هذا ، وقوله تعالى : (فَلْيَذُوقُوهُ) جملة مرتبة على الجملة قبلها فهي بمنزلة جزاء شرط محذوف ، وقوله تعالى : (حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هو حميم وغساق وذا قد يشاربه للمتعدد أو مبتدأ محذوف الخبر أي منه حميم ومنه غساق كما في قوله :

حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس

وغودر البقل ملوىّ ومحصود

أي منه ملويّ ومنه محصود أو (هذا) مبتدأ خبره (حَمِيمٌ) وجملة (فَلْيَذُوقُوهُ) معترضة كقولك زيد

٢٠٥

فافهم رجل صالح أو هذا مبتدأ أخبره (فَلْيَذُوقُوهُ) على مذهب الأخفش في إجازته زيد فاضربه مستدلا بقوله:

وقائلة خولان فانكح

فتاتهم أو (هذا) في محل نصب بفعل مضمر يفسره (فَلْيَذُوقُوهُ) أي ليذوقوا هذا فليذوقوه ، ولعلك تختار القول بأن (هذا) مبتدأ وحميم خبره وما في البين اعتراض وقد قدمه في الكشاف والفاء تفسيرية تعقيبية وتشعر بأن لهم إذاقة بعد إذاقة ، وفي حميم وغساق على هذين الوجهين الاحتمالان المذكوران أولا والحميم الماء الشديد الحرارة.

والغساق بالتشديد كما قرأ به ابن أبي إسحاق وقتادة وابن وثاب وطلحة وحمزة والكسائي وحفص والفضل وابن سعدان وهارون عن أبي عمرو ، وبالتخفيف كما قرأ به باقي السبعة اسم لما يجري من صديد أهل النار كما روي عن عطاء وقتادة وابن زيد ، وعن السدي ما يسيل من دموعهم. وأخرج ابن جرير عن كعب أنه عين في جهنم تسيل إليها حمة كل ذي حمة من حية وعقرب وغيرهما يغمس فيها الكافر فيتساقط جلده ولحمه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه الزمهرير ، وقيل : هو مشددا ومخففا وصف من غسق كضرب وسمع بمعنى سال يقال غسقت العين إذا سال دمعها فيكون على ما في البحر صفة حذف موصوفها أي ومذوق غساق ويراد به سائل من جلود أهل النار مثلا ، والوصفية في المشدد أظهر لأن فعالا بالتشديد قليل في الأسماء ، ومنه الفياد ذكر البوم والخطار دهن يتخذ من الزيت والعقار ما يتداوى به من النبات ، ومن الغريب ما قاله الجواليقي والواسطي أن الغساق هو البارد المنتن بلسان الترك والحق أنه عربي نعم النتونة وصف له في الواقع وليست مأخوذة في المفهوم ، فقد أخرج أحمد والترمذي وابن حبان وجماعة وصححه الحاكم عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» وقيل الغساق عذاب لا يعلمه إلا الله عزوجل ويبعده هذا الخبر (وَآخَرُ) أي ومذوق آخر وفسره ابن مسعود كما رواه عنه جمع بالزمهرير أو وعذاب آخر.

وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري وابن جبير وعيسى وأبو عمرو و «أخر» على الجمع أي ومذوقات أو أنواع عذاب أخر (مِنْ شَكْلِهِ) أي من مثل هذا المذوق أو العذاب في الشدة والفظاعة ، وتوحيد الضمير دون تثنيته نظرا للحميم والغساق على أنه لما ذكر أو للشراب الشامل للحميم والغساق أو للغساق. وقرأ مجاهد «شكله» بكسر الشين وهي لغة فيه كمثل وإذا كان بمعنى الغنج فهو بالكسر لا غير (أَزْواجٌ) أي أجناس و (آخَرُ) على القراءتين يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي وهذا مذوق أو عذاب آخر أو هذه مذوقات أو أنواع عذاب أخر ، والجملة معطوفة على هذا حميم ، وإن شئت فقدر هو أو هي واعطف الجملة على هو حميم ، وأن يكون مبتدأ خبره محذوف أي ومنه مذوق أو عذاب آخر أو ومنه مذوقات أو أنواع عذاب أخر والعطف على منه حميم وجوز أن يقدر الخبر لهم أي ولهم مذوق أو عذاب آخر أو ولهم مذوقات أو أنواع عذاب أخر والعطف على (هذا فَلْيَذُوقُوهُ) ومن شكله وأزواج في جميع ذلك صفتان لآخر أواخر و (آخَرُ) وإن كان مفردا في اللفظ فهو جمع وصادق على متعدد في المعنى.

ويحتمل أن يكون آخر أو أخر مبتدأ و (مِنْ شَكْلِهِ) صفته و (أَزْواجٌ) خبر والجواب عن عدم المطابقة على قراءة الافراد ما سمعت ، وأن يكون ذلك عطفا على حميم عطف المفرد على المفرد ومن شكله صفته وأزواج صفة للثلاثة المتعاطفة ، وجوز أن يكون آخر مبتدأ ومن شكله خبره وأزواج فاعل الظرف ، وأن يكون الأول مبتدأ ومن شكله خبر مقدم وأزواج مبتدأ والجملة خبر المبتدأ الأول أعني آخر ، وصح الابتداء به لأنه من باب ضعيف عاذ بقرملة فالمبتدأ في الحقيقة الموصوف المحذوف أي نوع آخر أو مذوق آخر ، وقيل لأنه جيء به للتفصيل ، ومما ذكروا من المسوغات أن تكون النكرة للتفصيل نحو الناس رجلان رجل أكرمته ورجل أهنته وبحث فيه ابن هشام في المغني ،

٢٠٦

وجعلوا ضمير شكله على الوجهين عائدا على آخر وهما لا يكادان يتسنيان على القراءة بالجمع فتدبر ولا تغفل ، (هذا فَوْجٌ) جمع كثير من أتباعكم في الضلال.

(مُقْتَحِمٌ) راكب الشدة داخل فيها أو متوسط شدة مخفية (مَعَكُمْ) والمراد هذا فوج داخل معكم النار مقاس فيها ما تقاسونه ، وهذا حكاية ما تقوله ملائكة العذاب لرؤساء الضلال عند دخول النار تقريعا لهم فهو بتقدير فيقال لهم عند الدخول هذا إلخ.

وفي الكشاف واستظهره أبو حيان أنه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض يخاطب بعضهم بعضا في شأن أتباعهم يقول هذا فوج مقتحم معكم ، والظرف متعلق بمقتحم ، وجوز فيه أن يكون نعتا ثانيا لفوج أو حالا منه لأنه قد وصف أو من الضمير المستتر فيه ، ومنع أبو البقاء جواز كونه ظرفا قائلا : إنه يلزم عليه فساد المعنى وتبعه الكواشي وصاحب الأنوار. وتعقبه صاحب الكشف بأنه إن كان الفساد لإنبائه عن تزاحمهم في الدخول وليس المعنى على المزاحمة بين الفريقين الأتباع والمتبوعين لأنهم بعد الدخول يقولون ذلك لا عند المزاحمة فغير لازم لأن الاقتحام لا ينبئ عن التزاحم ولا هو لازم له وإنما مثل ضربت معه زيدا ينبئ عن المشاركة في الضرب والمقارنة فكذلك اقتحام المتبوعين النار مع الأتباع ينبئ عن المشاركة في ركوب كل من الطائفتين قحمة النار ومقاساة شدتها في زمان متقارب عرفا ، ولو قيل هذا فوج معكم مقتحمون لم يفد أن المخاطبين أيضا كذلك وفسد المعنى المقصود ، والعجب ممن جوز أن يكون حالا من ضمير (مُقْتَحِمٌ) ولم يجوز أن يكون ظرفا وإن كان بغير ذلك فليفد أولا ثم ليعترض انتهى ، وقال بعضهم : إن وجه فساد الظرفية دون الحالية أنه ليس المراد أنهم اقتحموا في الصحبة ودخلوا فيها بل اقتحموا في النار مصاحبين لكم ومقارنين إياكم ، وهو كلام فاسد لا محصل له لأن مدلول مع المعبر عنه بالصحبة معناه الاجتماع في التلبس بمدلول متعلقها فيفيد اشتراك الطائفتين في الاقتحام لا في الصبحة كما توهمه ولا يدل على اتحاد زمانيهما كما صرح به في المغني ، ولو سلم فهو لتقاربه عد متحدا كما أشير في عبارة الكشف إليه فالحق أنه لا فساد ، وقوله تعالى : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) دعاء من المتبوعين على أتباعهم سواء كان قائل ما تقدم الملائكة عليهم‌السلام أو بعض الرؤساء لبعض أو صفة لفوج أو حال منه لوصفه أو من ضميره ، وأيا ما كان يؤول بمقول لهم لا مرحبا لأنه دعاء فهو إنشاء لا يوصف به ، وكذا لا يكون حالا بدون تأويل ، والمعنى على استحقاقهم أن يقال لهم ذلك لا أنهم قيل لهم ذلك بالفعل ، وهو على الوصفية والحالية من كلام الملائكة عليهم‌السلام إن كانوا هم القائلين أو من كلام بعض الرؤساء ، وجوز كونه ابتداء كلام منهم و (مَرْحَباً) من الرحب بضم الراء وهو السعة ومنه الرحبة للفضاء الواسع وهو مفعول به لفعل واجب الإضمار و (بِهِمْ) بيان للمدعو عليهم ، وتكون الباء للبيان كاللام في نحو سقيا له ، وكون اللام دون الباء كذلك دعوى من غير دليل أي ما أتوا بهم رحبا وسعة ، وقيل : الباء للتعدية فمجرورها مفعول ثان لأتوا وهو مبني على زعم أن اللام لا تكون للبيان ، وكفى بكلام الزمخشري وأبي حيان دليلا على خلافه ، ويقال : مرحبا بك على معنى رحبت بلادك رحبا كما يقال على معنى أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا ؛ ويفهم من كلام بعضهم جواز أن يكون (مَرْحَباً) مفعولا مطلقا لمحذوف أي لا رحبت بهم الدار مرحبا ، والجمهور على الأول ، وأيا ما كان فالمراد بذلك مثبتا الدعاء بالخير ومنفيا الدعاء بالسوء.

(إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) تعليل من جهة الملائكة لاستحقاقهم الدعاء عليهم أو وصفهم بما ذكر أو تعليل من الرؤساء لذلك ، والكلام عليه يتضمن الإشارة إلى عدم انتفاعهم بهم كأنه قيل : إنهم داخلون النار بأعمالهم مثلنا فأي نفع لنا منهم فلا مرحبا بهم (قالُوا) أي الأتباع وهم الفوج المقتحم للرؤساء.

٢٠٧

(بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) أي بل أنتم أحق بما قيل لنا أو بما قلتم لنا ، ولعلهم إنما خاطبوهم بذلك على تقدير كون القائل الملائكة الخزنة عليهم‌السلام مع أن الظاهر أن يقولوا بطريق الاعتذار إلى أولئك القائلين بل هم لا مرحبا بهم قصدا منهم إلى إظهار صدقهم بالمخاصمة مع الرؤساء والتحاكم إلى الخزنة طمعا في قضائهم بتخفيف عذابهم أو تضعيف عذاب خصمائهم.

وفي البحر خاطبوهم لتكون المواجهة لمن كانوا لا يقدرون على مواجهتهم في الدنيا بقبيح أشفى لصدورهم حيث تسببوا في كفرهم وأنكى للرؤساء ، وهذا أيضا بتأويل القول بناء على أن الإنشاء لا يكون خبرا أي بل أنتم مقول فيكم أي أحق أن يقال فيكم لا مرحبا بكم (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) تعليل لأحقيتهم بذلك ، وضمير الغيبة في (قَدَّمْتُمُوهُ) للعذاب لفهمه مما قبله أو للمصدر الذي تضمنه (قالُوا) وهو الصلى أي أنتم قدمتم العذاب أو الصلى ودخول النار لنا باغوائنا وإغرائنا على ما قدمنا من العقائد الزائغة والأعمال السيئة لا أنا باشرناها من تلقاء أنفسنا.

وفي الكلام مجازان عقليان ، الأول إسناد التقديم إلى الرؤساء لأنهم السبب فيه بإغوائهم ، والثاني إيقاعه على العذاب أو الصلى مع أنه ليس المقدم بل المقدم عمل السوء الذي هو سبب له ، وقيل : أطلق الضمير الذي هو عبارة عن العذاب أو الصلى المسبب عن العمل على العمل مجازا لغويا ، وقيل : لا حاجة إلى ارتكاب المجاز فيه فتقديم العذاب أو الصلى بتأخير الرحمة منهم (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي فبئس المقر جهنم ، وهو من كلام الأتباع وكأنهم قصدوا بذلك التشفي والإنكاء وإن ذلك المقر مشترك ، وقيل : قصدوا بالذم المذكور تغليظ جناية الرؤساء عليهم (قالُوا) أي الأتباع أيضا ، وقول ابن السائب : القائل جميع أهل النار خلاف الظاهر جدا فلا يصار إليه ، وتوسيط الفعل بين كلاميهم لما بينهما من التباين ذاتا وخطابا أي قالوا معرضين عن خصومة رؤسائهم متضرعين إلى الله عزوجل (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) أي مضاعفا ومعناه ذا ضعف أي مثل وهو أن يزيد على عذابه مثله فيصير بتلك الزيادة مثلين لعذاب غيره ، ويطلق الضعف على الزيادة المطلقة.

وقال ابن مسعود هنا : الضعف حيات وعقارب ، والظاهر من بعض عباراتهم أن (مَنْ) موصولة ، ونص الخفاجي على أنها شرطية. وفي البحر (مَنْ قَدَّمَ) هم الرؤساء ، وقال الضحاك : هو إبليس وقابيل ، وهو أنسب بخلاف الظاهر المحكي عن ابن السائب (وَقالُوا) الضمير للطاغين عند جمع أي قال الطاغون بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا) في الدنيا (نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) أي الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى يعنون بذلك فقراء المؤمنين وكانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم لفقرهم ومخالفتهم إياهم في الدين ، وقيل : الضمير لصناديد قريش كأبي جهل وأمية بن خلف وأصحاب القليب ، والرجال عمار وصهيب وسلمان وخباب وبلال وأضرابهم رضي الله تعالى عنهم بناء على ما روي عن مجاهد من أن الآية نزلت فيهم ، واستضعفه صاحب الكشف وسبب النزول لا يكون دليلا على الخصوص ، واستظهر بعضهم أن الضمير للاتباع لأنه فيما قبل يعني قوله تعالى : (قالُوا بَلْ أَنْتُمْ) إلخ لهم أيضا ، وكانوا أيضا يسخرون من فقراء المؤمنين تبعا لرؤسائهم ، وأيا ما كان فجملة (كُنَّا) إلخ صفة (رِجالاً).

وقوله تعالى : (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل كما قرأ بذلك الحجازيان وابن عامر وعاصم وأبو جعفر والأعرج والحسن وقتادة استئناف لا محل له من الإعراب قالوه حيث لم يروهم معهم إنكارا على أنفسهم وتأنيبا لها في الاستسخار منهم ، وقوله تعالى : (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) متصل بقوله تعالى : (ما لَنا لا نَرى) إلخ ، وأم فيه متصلة وتقدم ما فيه معنى الهمزة يغني عن تقدمها على ما يقتضيه كلام الزمخشري ،

٢٠٨

والمعنى ما لنا لا نراهم في النار أليسوا فيها فلذلك لا نراهم بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها أو بقوله تعالى : (أَتَّخَذْناهُمْ) إلخ ، وأم فيه إما متصلة أيضا ، والمقابلة باعتبار اللازم ، والمعنى أن الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم الازدراء بهم وتحقيرهم وإن أبصارنا تعلو عنهم وتقتحمهم على معنى إنكار الأمرين جميعا على أنفسهم ، وعن الحسن كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم ، وإما منقطعة كأنهم أضربوا عن إنكار الاستسخار وأنكروا على أنفسهم أشد منه وهو أنهم جعلوهم محقرين لا ينظر إليهم بوجه ، وفي (زاغَتْ) دون أزغنا مبالغة عظيمة كأن العين بنفسها تمجهم لقبح منظرهم وأين هذا من السخر فقد يكون المسخور منه محبوبا مكرما. وجوز أن يكون معنى أم زاغت على الانقطاع بل زاغت أبصارنا وكلت أفهامنا حتى خفي عنا مكانهم وأنهم على الحق المبين. وقرأ النحويان وحمزة «اتخذناهم» بغير همزة فجوز أن تكون مقدرة لدلالة أم عليها فتتحد القراءتان ، وأن لا تكون كذلك ويكون الكلام أخبارا فقال ابن الأنباري : الجملة حال أي وقد اتخذناهم ، وجوز كونها مستأنفة لبيان ما قبلها. وقال الزمخشري وجماعة : صفة ثانية لرجالا و (أَمْ زاغَتْ) متصل بقوله تعالى : (ما لَنا لا نَرى) إلخ كما سمعت أولا.

وجوز أن تكون أم فيه منقطعة كأنهم أضربوا عما قبل وأنكروا على أنفسهم ما هو أشد منه أو أضربوا عن ذلك إلى بيان أن ما وقع منهم في حقهم كان لزيغ أبصارهم وكلال أفهامهم عن إدراك أنهم على الحق بسبب رثاثة حالهم ، وقرأ عبد الله وأصحابه ومجاهد والضحاك وأبو جعفر وشيبة والأعرج ونافع وحمزة والكسائي «سخريا» بضم السين ومعناه على ما في البحر من السخرة والاستخدام ، ومعنى سخريا بالكسر على المشهور من السخر وهو الهزء وهو معنى ما حكي عن أبي عمرو قال : ما كان من مثل العبودية فسخري بالضم وما كان من مثل الهزء فسخري بالكسر ، وقيل : هو بالكسر من التسخير (إِنَّ ذلِكَ) أي الذي حكي عنهم (لَحَقٌ) لا بد أن يتكلموا به فالمراد من حقيته تحققه في المستقبل.

وقوله تعالى : (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) خبر مبتدأ محذوف أي هو تخاصم ، والجملة بيان لذلك ، وفي الإبهام أولا والتبيين ثانيا مزيد تقرير له ، وقال ابن عطية : بدل من حق والمبدل منه ليس في حكم السقوط حقيقة ، وقيل بدل من محل اسم إن ، والمراد بالتخاصم التقاول ، وجوز إرادة ظاهرة فإن قول الرؤساء (لا مَرْحَباً بِهِمْ) وقول الأتباع (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) من باب الخصومة فسمي التفاوض كله تخاصما لاشتماله عليه ، قيل وهذا ظاهر أن التقاول بين المتبوعين والأتباع أما لو جعل الكل من كلام الخزنة فلا ، ولو جعل (لا مَرْحَباً) من كلام الرؤساء و (هذا فَوْجٌ) من كلام الخزنة فيصح أن يجعل تخاصما مجازا. وقرأ ابن أبي عبلة «تخاصم» بالنصب فهو بدل من ذلك.

وقال الزمخشري : صفة له ، وتعقب بأن وصف اسم الإشارة وإن جاز أن يكون بغير المشتق إلا أنه يلزم أن يكون معرفا بال كما ذكره في المفصل من غير نقل خلاف فيه فبينه وبين ما يستدعيه القول بالوصفية تناقض مع ما في ذلك من الفصل الممتنع أو القبيح. وأجاب صاحب الكشف بأن القياس يقتضي التجويز لأن اسم الإشارة يحتاج إلى رافع لإبهامه دال على ذات معينة سواء كان فيه اختصاص بحقيقة أخرى أو بحقائق أولا ، وهذا القدر لا يخرج الاسم عن الدلالة على حقيقة الذات المعينة التي يصح بها أن يكون وصفا لاسم الإشارة ، وأما الاستعمال فمعارض بأصل الاستعمال في الصفة فكما أن الجمهور حملوا على الصفة في نحو هذا الرجل مع احتمال البدل والبيان كذلك الزمخشري حمل على الوصف مع احتمال البدل لأنه التفت لفت المعنى ، ولا يناقض ما في المفصل لأنه ذكر ذلك في باب النداء خاصة على تقدير عدم استقلال اسم الإشارة ولأن حال الاستقلال أقل لم يتعرض له ، وقد بين في

٢٠٩

موضعه أنه في النداء خاصة يمتنع وصف اسم الإشارة إذا لم يستقل بالمضاف إلى المعرف باللام على أنه كثيرا ما يخالف في أحد الكتابين الكشاف والمفصل الآخر ، والاشكال بأنه يلزم الفصل غير قادح فإنه يجوز لا سيما على تقدير استقلال اسم الإشارة اه. ولا يخلو عن شيء.

وقرأ ابن السميفع «تخاصم» فعلا ماضيا «أهل» بالرفع على أنه فاعل له (قُلْ) يا محمد لمشركي مكة (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) أنذرتكم عذاب الله تعالى للمشركين ، والكلام رد لقولهم هذا ساحر كذاب فإن الإنذار ينافي السحر والكذب.

وقد يقال : المراد إنما أنا رسول منذر لا ساحر كذاب ، وفيه من الحسن ما فيه فإن كل واحد من وصفي الرسالة والإنذار ينافي كل واحد من وصفي السحر والكذب لكن منافاة الرسالة للسحر أظهر وبينهما طباق فكذلك الإنذار للكذب ، وضم إلى ذلك قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) لإفادة أن له صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفة الدعوة إلى توحيده عزوجل أيضا فالأمران مستقلان بالإفادة.

و (مِنْ) زائدة للتأكيد أي ما إله أصلا إلا الله (الْواحِدُ) أي الذي لا يحتمل الكثرة في ذاته بحسب الجزئيات بأن يكون له سبحانه ماهية كلية ولا بحسب الأجزاء (الْقَهَّارُ) لكل شيء.

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) من الموجودات منه سبحانه خلقها وإليه تدبير جميع أمورها (الْعَزِيزُ) الذي يغلب ولا يغلب في أمر من أموره جل شأنه فتندرج في ذلك المعاقبة (الْغَفَّارُ) المبالغ في المغفرة يغفر ما يشاء لمن يشاء تقرير للتوحيد ، أما الوصف الأول فظاهر في ذلك غير محتاج للبيان ، وأما القهار لكل شيء فلأنه لو كان إله غيره سبحانه لم يكن قهارا له ضرورة أنه لا يكون حينئذ لها بل ربما يلزم أن يكون مقهورا وذلك مناف للألوهية تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وأما (رَبُّ السَّماواتِ) إلخ فلأنه لو أمكن غيره معه تعالى شأنه جاء دليل التمانع المشار إليه بقوله سبحانه : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء: ٢٢] فلم تتكون السماوات والأرض وما بينهما ، وقيل : لأن معنى (رَبُّ السَّماواتِ) إلخ رب كل موجود فيدخل فيه كل ما سواه فلا يكون إلها ، وأما العزيز فلأنه يقتضي أن يغلب غيره ولا يغلب ومع الشركة لا يتم ذلك.

وأما الغفار فلأنه يقتضي أن يغفر ما يشاء لمن يشاء فربما شاء مغفرة لأحد وشاء لآخر منه العقاب فإن حصل مراده فالآخر ليس بإله وإن حصل مراد الآخر ولم يحصل مراده لم يكن هو إلها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وما قيل في برهان التمانع سؤالا وجوابا يقال هنا ، وفي هذه الأوصاف من الدلالة على الوعد والوعيد ما لا يخفى ، وللاقتصار على وصف الانذار صريحا فيما تقدم قدم وصف القهار على وصف الغفار هنا ، وجوز أن يكون المقصود هو تحقيق الإنذار وجيء بالثاني تتميما له وإيضاحا لما فيه من الإجمال أي قل لهم ما أنا إلا منذر لكم بما أعلم وإنما أنذرتكم عقوبة من هذه صفته فإن مثله حقيق بأن يخاف عقابه كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه ، والوجه الأول أوفق لمقتضى المقام لأن التعقيب بتلك الصفات في الدلالة على أن الدعوة إلى التوحيد مقصودة بالذات بمكان لا ينكر ولأن هذا بالنسبة إلى ما مر من صدر السورة إلى هنا بمنزلة أن يقول المستدل بعد تمام تقريره فالحاصل فالأولى أن يكون على وزان المبسوط وفيه قوله تعالى : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥] فافهم.

(قُلْ) تكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمر جليل له شأن خطير لا بد من الاعتناء به أمرا وائتمارا (هُوَ) أي ما أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا وأن الله تعالى واحدا لا شريك له (نَبَأٌ عَظِيمٌ) خبر ذو فائدة عظيمة جدا لا ريب فيه أصلا (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) متمادون في الإعراض عنه لتمادي غفلتكم ، وهذه الجملة صفة ثانية لنبأ والكلام بجملته تحسير لهم وتنبيه على مكان الخطأ وإظهار لغاية الرأفة والعطف الذي يقتضيه مقام الدعوة. واستظهر بعض الأجلة أن

٢١٠

(هُوَ) للقرآن كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، واستشهد بآخر السورة وقال : إنه يدخل ما ذكر دخولا أوليا ، واختار كون هذه الجملة استئنافا ناعيا عليهم سوء حالهم بالنسبة إليه وأنهم لا يقدرون قدره الجليل مع غاية عظمته الموجبة للإقبال عليه وتلقيه بحسن القبول ؛ وكأن الكلام عليه ناظر إلى ما فيه أول السورة من قوله تعالى : (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) [ص : ١ ، ٢] جيء به ليستدل على أنه وارد من جهته تعالى بما يشير إليه قوله تعالى :

(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ(٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)(٨٨)

(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) إلخ حيث تضمن ذكر نبأ من أنبائه على التفصيل من غير سابقة معرفة به ولا مباشرة سبب من أسبابها المعتادة كالنظر في الكتب الإلهية والسماع من الكتابين وهو حجة بينة دالة على أنه بطريق الوحي من عند الله تعالى وأن سائر أنبائه أيضا كذلك ؛ وهو على ما قلنا تذكير لإثبات النبوة بذكر مختصر منه تمهيدا لإرشاد الطريق وتذكيرا للباقي وتسلقا منه إلى استماع ما ذكره لطف للمدعوين وتنويه للداعي ، وعدم التعرض لنحو ذلك في أمر التوحيد لظهور أدلته مع كونه ذكر شيء منها غضا طريا وهو ما أشارت إليه الصفات المذكورة آنفا ، فلا يقال : إن التعرض لإثبات النبوة دون التوحيد دليل على أن المقصود بالإفادة هو النبوة وأن الثاني جيء به تتميما لذلك.

وأنت تعلم أن النبوة وكون القرآن وحيا من عند الله تعالى مثلا زمان متى ثبت أحدهما ثبت الآخر ، لكن يرجح جعل الآية في النبوة وإثباتها القرب وتصدير هذه الآية بنحو ما صدرت به الآية المتضمنة دعوى النبوة قبلها من قوله تعالى (قل) فإن سلم لك هذا المرجح فذاك وإلا فلا تعدل عما روي عن ابن عباس ومن معه ، وعن الحسن أن ذلك يوم القيامة كما في قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : ١ ، ٢] وقيل : ما تقدم من أنباء الأنبياء عليهم‌السلام ، وقيل : تخاصم أهل النار ، وعدي العلم بالباء نظرا إلى معنى الإحاطة ، والملأ الجماعة الأشراف لأنهم يملئون العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء وهو اسم جمع ولذا وصف بالمفرد أعني (الْأَعْلى) والمراد به عند ملأ الملائكة وآدم عليهم‌السلام وإبليس عليه اللعنة وكانوا في السماء فالعلو حسي وكان التقاول بينهم على ما ستعلمه إن شاء الله ، وإذ متعلقة بمحذوف يقتضيه المقام إذ المراد نفي علمه عليه الصلاة والسلام بحالهم لا بذواتهم ، والتقدير ما كان لي فيما سبق علم ما بوجه من الوجوه بحال الملأ إلا على وقت اختصامهم ، وهو أولى من تقدير الكلام كما ذهب إليه الجمهور أي ما كان لي علم بكلام الملأ إلا على وقت اختصامهم لأن علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مقصور على ما جرى بينهم من

٢١١

الأقوال فقط بل عام لها وللأفعال أيضا من سجود الملائكة عليهم‌السلام وإباء إبليس واستكباره حسبما ينطق به الوحي فالأولى اعتبار العموم في نفيه أيضا ، وقيل : إذ بدل اشتمال من (الملأ) أو ظرف لعلم وفيه بحث والاختصام فيما يشير إليه سبحانه بقوله عزوجل (إِذْ قالَ رَبُّكَ) إلخ ، والتعبير بيختصمون المضارع لأنه أمر غريب فأتى به لاستحضاره حكاية للحال ، وضمير الجمع للملإ. وحكى أبو حيان كونه لقريش واستبعده وكأن في (يَخْتَصِمُونَ) حينئذ التفاتا من الخطاب في (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) إلى الغيبة والاختصام في شأن رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو في شأن القرآن أو شأن المعاد وفيه عدول عن المأثور وارتكاب لما لا يكاد يفهم من الآية من غير داع إلى ذلك ومع هذا لا يقبله الذوق السليم ، وقوله تعالى : (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) اعتراض وسط بين إجمال اختصامهم وتفصيله تقريرا لثبوت علمه عليه الصلاة والسلام وتعيينا لسببه إلا أن بيان انتفائه فيما سبق لما كان منبئا عن ثبوته الآن ، ومن البين عدم ملابسته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء من مبادئه المعهودة تعين أنه ليس إلا بطريق الوحي حتما فجعل ذلك أمرا مسلم الثبوت غنيا عن الإخبار به قصدا وجعل مصب الفائدة إخباره بما هو داع إلى الوحي ومصحح له ، فالقائم مقام الفاعل ليوحى إما ضمير عائد إلى الحال المقدر كما أشير إليه سابقا أو ما يعمه وغيره ، فالمعنى ما يوحى إلي حال الملأ الأعلى أو ما يوحى إلى الذي يوحى من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور إلا لأني نذير مبين من جهته تعالى فإن كونه عليه الصلاة والسلام كذلك من دواعي الوحي إليه ومصححاته ، وجوز كون الضمير القائم مقام الفاعل عائدا إلى المصدر المفهوم من (يُوحى) أي ما يفعل الإيحاء إلى بحال الملأ الأعلى أو بشيء من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور إلا لأني إلخ.

وجوز أيضا كون الجار والمجرور نائب الفاعل و (أَنَّما) على تقدير اللام ، قال في الكشف : ومعنى الحصر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يوح إليه لأمر إلا لأنه نذير مبين وأي مبين كقولك : لم تستقض يا فلان إلا لأنك عالم عامل مرشد. وجوز الزمخشري أن يكون بعد حذف اللام مقاما مقام الفاعل ، ومعنى الحصر أني لم أومر إلا بهذا الأمر وحده وليس إلى غير ذلك لأنه الأمر الذي يشتمل على كل الأوامر إما تضمنا وإما التزاما أو لم أومر إلا بإنذاركم لا بهدايتكم وصدكم عن العناد فإن ذلك ليس إليّ ، وما ذكر أولا أوفق بحال الاعتراض كما لا يخفى على من ليس أجنبيا عن إدراك اللطائف. وقرأ أبو جعفر إنما بالكسر على الحكاية أي ما يوحى إلي إلا هذه الجملة وإيحاؤها إليه أمره عليه الصلاة والسلام أن يقولها وحاصل معنى الحصر قريب مما ذكر آنفا ، وجوز أن يراد لم أومر إلا بأن أقول لكم هذا القول دون أن أقول أعلم الغيب بدون وحي مثلا فتدبر ولا تغفل.

وقوله تعالى : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) إلخ شروع في تفصيل ما أجمل من الاختصام الذي هو ما جرى بينهم من التقاول فهو بدل من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) بدل كل من كل ، وجوز كونه بدل بعض ، وصح إسناد الاختصام إلى الملائكة مع أن التقاول كان بينهم وبين الله تعالى كما يدل عليه (إِذْ قالَ رَبُّكَ) إلخ لأن تكليمه تعالى إياهم كل بواسطة الملك فمعنى المقاولة بين الملأ الأعلى مقاولة ملك من الملائكة مع سائر الملائكة عليهم‌السلام في شأن الاستخلاف ومع إبليس في شأن السجود ومع آدم في قوله : (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) [البقرة : ٣٣] ومعنى كون المقاولة بين الملائكة وآدم وإبليس وجودها فيما بينهم في الجملة ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الإسناد فالكل حقيقة لأن الملأ الأعلى شامل للملك المتوسط وهو المقاول بالحقيقة وهو عزوجل مقاول بالمجاز ، ولا تقل المخاصم ليكون الأمر بالعكس ، وما يقال : إن قوله تعالى : (إِذْ قالَ رَبُّكَ) يقتضي بأن يكون مقاولته تعالى إياهم بلا واسطة فهو ممنوع لأنه إبدال زمان قصة عن زمان التفاوض فيها ، والغرض أن تعلم القصة لا مطابقة كل جزء جزء لكل جزء جزء فذلك غير لازم ولا مراد ، ثم فيه فائدة جليلة وهي أن مقاولة الملك إياهم أو إياهما عن الله تعالى فهم مقاولوه

٢١٢

تعالى أيضا ، وأريد هذا المعنى من هذا إلا يراد لا من اللفظ ليلزم الجمع المذكور آنفا ، وجعل الله عزوجل من الملأ الأعلى بأن يراد به ما عدا البشر ليكون الاختصام قائما به تعالى وبهم على معنى أنه سبحانه في مقابلتهم يخاصمونه ويخاصمهم مع ما فيه من إيهام الجهة له عزوجل ينبو المقام عنه نبوا ظاهرا ، ولم يذكر سبحانه جواب الملائكة عليهم‌السلام لتتم المقاولة اختصارا بما كرر مرارا ولهذا لم يقل جل شأنه إني خالق خلقا من صفته كيت وكيت جاعل إياه خليفة.

وروعي هذا النسق هاهنا لنكتة سرية وهي أن يجعل مصب الغرض من القصة حديث إبليس ليلائم ما كان فيه أهل مكة وأنه بامتناعه عن امتثال أمر واحد جرى عليه ما جرى فكيف يكون حالهم وهم مغمورون في المعاصي ؛ وفيه أنه أول من سن العصيان فهو إمامهم وقائدهم إلى النار ، وذكر حديث سجود الملائكة وطي مقاولتهم في شأن الاستخلاف ليفرق بين المقاولتين وأن السؤال قبل الأمر ليس مثله بعده فإن الثاني يلزمه التواني ، ثم فيه حديث تكريم آدم عليه‌السلام ضمنا دلالة على أن المعلم والناصح يعظم وأنه شرع منه تعالى قديم ، وكان على أهل مكة أن يعاملوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاملة الملائكة لآدم لا معاملة إبليس له قاله صاحب الكشف وهو حسن بيد أن ما علل به الاختصار من تكرار ذلك مرارا لا يتم إلا إذا كان ذلك في سورة مكية نزلت قبل هذه السورة ، وقد علل بعضهم ترك الذكر بالاكتفاء بما في البقرة ، وفيه أن نزولها متأخر عن نزول هذه السورة لأنها مدنية وهذه مكية فلا يصح الاكتفاء إحالة عليها قبل نزولها ، وكون المراد اكتفاء السامعين للقرآن بعد ذلك لا يخفى حاله ، ولعل القصة كانت معلومة سماعا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان عالمها بها بواسطة الوحي وإن لم تكن إذ ذاك نازلة قرآنا فاختصرت هاهنا لما ذكر في الكشف اكتفاء بذلك ، وقال فيه أيضا : وذلك أن تقول التقاول بين الملائكة وآدم عليهم‌السلام حيث قال : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) [البقرة : ٣١] تبكيتا لهم بما نسبوا إليه من قولهم (أَتَجْعَلُ) [البقرة : ٣٠] فيها وبينه وبين إبليس إما لأنه داخل في الإنكار والتبكيت بل هو أشدهم في ذلك لكن غلب الله تعالى الملائكة لأنه أخس من أن يقرن مع هؤلاء مفردا في الذكر أو لأنه أمر بالسجود لمعلمه فامتنع وأسمعه ما اسمع.

وقوله تعالى : (إِذْ قالَ رَبُّكَ) إلخ للإتيان بطرف مشتمل على قصة المقاولة وتصوير أصلها فلم يلزم منه أن يكون الرب جل شأنه من المقاولين وإن كان بينه سبحانه وبينهم تقاول قد حكاه الله تعالى ، وهذا أقل تكلفا مما فيه دعوى أن تكليمه تعالى كان بواسطة الملك إذ للمانع أن يمنع التوسط على أصلنا وعلى أصل المعتزلة أيضا لا سيما إذا جعل المبكتون الملائكة كلهم ، وعلى الوجهين ظهر فائدة إبدال (إِذْ قالَ رَبُّكَ) من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) على وجه بين ، والاعتراض بأنه لو كان بدلا لكان الظاهر إذ قال ربي لقوله : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ) فليس المقام مما يقتضي الالتفات غير قادح فإنه على أسلوب قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) [الزخرف : ٩ ، ١٠] فالخطاب بلكم نظرا إلى أنه من قول الله تعالى تمم قولهم وذنبه كذلك هاهنا هو من قول الله تعالى لتتميم قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا على نحو ما يقول مخاطبك : جاءني الأمير فتقول الذي أكرمك وحباك أو يقول رأيت الأمير يوم الجمعة فتقول : يوم خلع عليك الخلعة الفلانية ، ومنه علم أنه ليس من الالتفات في شيء وأن هذا الإبدال على هذا الأسلوب لمزيد الحسن انتهى ، وجوز أن يقول : إن (إِذْ) قوله تعالى : (إِذْ قالَ رَبُّكَ) ظرف ليختصمون ، والمراد بالملإ الأعلى الملائكة وباختصامهم قولهم لله تعالى (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] في مقابلة قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ) [البقرة : ٣٠] إلى غير ذلك ، ولا يتوقف صحة إرادة ذلك على جعل الله تعالى من الملأ ولا على أنه سبحانه كلمهم بواسطة ملك ولا تقدم

٢١٣

تفصيل الاختصام مطلقا بل يكفي ذكره بعد النزول سواء ذكر قرآنا أم لا ، ويرجح تفسير الملأ بما ذكر على تفسيره بما يعم آدم عليه‌السلام أن ذاك على ما سمعت يستدعي القول بأن آدم كان في السماء وهو ظاهر في أنه عليه‌السلام خلق في السماء أو رفع إليها بعد خلقه في الأرض وكلا الأمرين لا يسلمهما كثير من الناس ، وقد نقل ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة عن جمع أن آدم عليه‌السلام إنما خلق في الأرض وأن الجنة التي أسكنها بعد أن جرى ما جرى كانت فيها أيضا وأتى بأدلة كثيرة قوية على ذلك ولم يجب عن شيء منها فتدبر. وذهب بعضهم إلى أن الملأ الأعلى الملائكة وأن اختصامهم كان في الدرجات والكفارات ، فقد أخرج الترمذي وصححه والطبراني وغيرهما من معاد بن جبل قال : «احتبس عنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعا فثوب بالصلاة فصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما سلم دعا بصوته فقال : على مصافكم ثم التفت إلينا ثم قال : أما إني أحدثكم بما حبسني عنكم الغداة إني قمت الليلة فقمت وصليت ما قدر لي ونعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال : يا محمد قلت : لبيك ربي قال : فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا أدري فوضع كفه بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفته فقال : يا محمد قلت : لبيك قال : فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : في الدرجات والكفارات فقال : ما الدرجات؟ فقلت : إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام قال : صدقت فما الكفارات؟ قلت إسباغ الوضوء في المكاره وانتظار الصلاة بعد الصلاة ونقل الاقدام إلى الجماعات قال : صدقت سل يا محمد فقلت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون اللهم إني أسألك حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : تعلموهن وادرسوهن فإنهن حق» ومعنى اختصامهم في ذلك على ما في البحر اختلافهم في قدر ثوابه ، ولا يخفى أن حمل الاختصام في الآية على ما ذكر بمراحل عن السياق فإنه مما لم يعرفه أهل الكتاب فلا يسلمه المشركون له عليه الصلاة والسلام أصلا ، نعم هو اختصام آخر لا تعلق له بالمقام ، وجعل هؤلاء ـ إذ ـ في (إِذْ قالَ) منصوبا باذكر مقدرا ، وكذا كل من قال : إن الاختصام ليس في شأن آدم عليه‌السلام يجعله كذلك. والشهاب الخفاجي قال : الأظهر أي مطلقا تعلق إذ باذكر المقدر على ما عهد في مثله ليبقى (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) على عمومه ولئلا يفصل بين البدل والمبدل منه وليشمل ما في الحديث الصحيح من اختصامهم في الكفارات والدرجات ولئلا يحتاج إلى توجيه العدول عن ربي إلى (رَبُّكَ) انتهى ، وفيه شيء لا يخفى.

ومن غريب ما قيل في اختصامهم ما حكاه الكرماني في عجائبه أنه عبارة عن مناظرتهم بينهم في استنباط العلوم كمناظرة أهل العلم في الأرض ، ويرد به على من يزعم أن جميع علومهم بالفعل ، والمعروف عن السلف أنه المقاولة في شأن عليه‌السلام والرد به حاصل أيضا ، والمراد بالملائكة في (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) ما يعم إبليس لأنه إذا ذاك كان مغمورا فيهم ، ولعل التعبير بهم دون الضمير الراجع إلى الملأ الأعلى على القول بالاتحاد لشيوع تعلق القول بهم بين أهل الكتاب بهذا العنوان أو لشهرة المقابلة بين الملك والبشر فيلطف جدا قوله سبحانه (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) وقيل : عبر بذلك إظهار للاستغراق في المقول له ، والمراد إني خالق فيما سيأتي ، وفي التعبير بما ذكر ما ليس في التعبير بصيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل البتة من غير صارف ، والبشر الجسم الكثيف يلاقي ويباشر أو بادي البشرة ظاهر الجلد غير مستور بشعر أو وبر أو صوف ، والمراد به آدم عليه‌السلام ؛ وذكر هنا خلقه من طين وفي آل عمران خلقه من تراب وفي الحجر من صلصال من حمأ مسنون وفي الأنبياء من عجل ولا منافاة غاية ما في الباب أنه ذكر في بعض المادة القريبة وفي بعض المادة البعيدة ، ثم إن ما جرى عند

٢١٤

وقوع المحكي ليس اسم البشر الذي لم يخلق مسماه حينئذ فضلا عن تسميته به بل عبارة كاشفة عن حاله وإنما عبر عنه بهذا الاسم عند الحكاية.

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي صورته بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية أو سويت أجزاء بدنه بتعديل طبائعه (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها فليس ثمت نفخ ولا منفوخ أي فإذا أكملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح الطاهرة التي هي أمري (فَقَعُوا لَهُ) أمر من وقع ، وفيه دليل على أن المأمور به ليس مجرد الانحناء كما قيل : أي فاسقطوا له (ساجِدِينَ) تحية له وتكريما (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ) أي فخلقه فسواه فنفخ فيه الروح فسجد له الملائكة (كُلُّهُمْ) بحيث لم يبق أحد منهم إلا سجد (أَجْمَعُونَ) أي بطريق المعية بحيث لم يتأخر أحد منهم عن أحد فكل للإحاطة وأجمع للاجتماع ، ولا اختصاص لإفادته ذلك بالحالية خلافا لبعضهم ، وتحقيقه على ما في الكشف أن الاشتقاق الواضح يرشد إلى أن فيه معنى الجمع والضم والأصل في الإطلاق الخطابي التنزيل على أكمل أحوال الشيء ولا خفاء في أن الجمع في وقت واحد أكمل أصنافه لكن لما شاع استعماله تأكيدا أقيم مقام كل في إفادة الإحاطة من غير نظر إلى الكمال فإذا فهمت الإحاطة بلفظ آخر لم يكن بد من ملاحظة الأصل صونا للكلام عن الإلغاء ولو سلم فكل تأكيد الشمول بإخراجه عن الظهور إلى النصوص ، و (أَجْمَعُونَ) تأكيد ذلك التأكيد فيفيد أتم أنواع الإحاطة وهو الإحاطة في وقت واحد ، واستخراج هذه الفائدة من جعله كإقامة المظهر مقام المضمر لا يلوح وجهه ، والنقض بقوله سبحانه : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٣٩ ، ص : ٨٢] منشؤه عدم تصور وجه الدلالة ، وظاهر هذه الآية وآية الحجر أن سجودهم مترتب على ما حكي من الأمر التعليقي وكثير من الآيات الكريمة كالتي في البقرة والأعراف وغيرهما ظاهرة في أنه مترتب على الأمر التنجيزي وقد مر تحقيق ذلك فليراجع.

وقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء متصل لما أنه وإن كان جنيا معدود في زمرة الملائكة موصوف بصفاتهم لا يقوم ولا يقعد إلا معهم فشملته الملائكة تغليبا ثم استثني استثناء واحد منهم أو لأن من الملائكة جنسا يتوالدون وهو منهم أو هو استثناء منقطع ، وقوله تعالى : (اسْتَكْبَرَ) على الأول استئناف مبين لكيفية ترك السجود المفهوم من الاستثناء فإن تركه يحتمل أن يكون للتأمل والتروي وبه يتحقق أنه للإباء والاستكبار وعلى الثاني يجوز اتصاله بما قبله أي لكن إبليس استكبر وتعظم (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي وصار منهم باستكباره وتعاظمه على أمر الله تعالى ، وترك الفاء المؤذنة بالسببية إحالة على فطنة السامع أو لظهور المراد.

وكون التعاظم على أمره عزوجل لا سيما الشفاهي موجبا للكفر مما لا ينبغي أن يشك فيه على أن هذا الاستكبار كان متضمنا استقباح الأمر وعده جورا ، ويجوز أن يكون المعنى وكان من الكافرين في علم الله تعالى لعلمه عزوجل أنه سيعصيه ويصدر عنه ما يصدر باختياره وخبث طويته واستعداده (قالَ) عزوجل على سبيل الإنكار والتوبيخ (يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) أي من السجود (لِما خَلَقْتُ) أي للذي خلقته على أن ما موصولة والعائد محذوف ، واستدل به على جواز إطلاق (ما) على آحاد من يعقل ومن لم يجز قال : إن (ما) مصدرية ويراد بالمصدر المفعول أي أن تسجد لمخلوق (بِيَدَيَ) وهذا عند بعض أهل التأويل من الخلف تمثيل لكونه عليه‌السلام معتنى بخلقه فإن من شأن المعتنى به أن يعمل باليدين ، ومن آثار ذلك خلقه من غير توسط أب وأم وكونه جسما صغيرا انطوى فيه العالم الأكبر وكونه أهلا لأن يفاض عليه ما لا يفاض على غيره إلى غير ذلك من مزايا الآدمية. وعند بعض آخر منهم اليد بمعنى القدرة والتثنية للتأكيد الدال على مزيد قدرته تعالى لأنها ترد لمجرد التكرير نحو (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] فأريد به لازمة وهو التأكيد وذلك لأن الله تعالى في خلقه أفعالا مختلفة من جعله طينا مخمرا

٢١٥

ثم جسما ذا لحم وعظم ثم نفخ الروح فيه وإعطائه قوة العلم والعمل ونحو ذلك مما هو دال على مزيد قدرة خالق القوى والقدر ، وجوز أن يكون ذلك لاختلاف فعل آدم فقد يصدر منه أفعال ملكية كأنها من آثار اليمين وقد يصدر منه أفعال حيوانية كأنها من آثار الشمال وكلتا يديه سبحانه يمين. وعند بعض اليد بمعنى النعمة والتثنية إما لنحو ما مر وإما على إرادة نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.

والسلف يقولون : اليد مفردة وغير مفردة ثابتة لله عزوجل على المعنى اللائق به سبحانه ولا يقولون في مثل هذا الموضع إنها بمعنى القدرة أو النعمة ، وظاهر الأخبار أن للمخلوق بها مزية على غيره ، فقد ثبت في الصحيح أنه سبحانه قال في جواب الملائكة : اجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة وعزتي وجلالي لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له كن فكان.

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : خلق الله تعالى أربعا بيده : العرش وجنات عدن والقلم وآدم ثم قال لكل شيء كن فكان ، وجاء في غير ما خبر أنه تعالى كتب التوراة بيده ، وفي حديث محاجة آدم وموسى عليهما‌السلام ما يدل على أن المخلوقية بها وصف تعظيم حيث قال له موسى : أنت آدم الذي خلقك الله تعالى بيده ، وكذلك في حديث الشفاعة أن أهل الموقف يأتون آدم ويقولون له : أنت آدم أبو الناس خلقك الله تعالى بيده ، ويعلم من ذلك أن ترتيب الإنكار في (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) على خلق الله تعالى إياه بيديه لتأكيد الإنكار وتشديد التوبيخ كأنه قيل : ما منعك أن تعظم بالسجود من هو أهل للتعظيم للعناية الربانية التي حفت إيجاده.

وزعم الزمخشري أن (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) من باب رأيته بعيني فبيدي لتأكيد أنه مخلوق لا شك فيه وحيث إنّ إبليس ترك السجود لآدم عليه‌السلام لشبهة أنه سجود لمخلوق وانضم إلى ذلك أنه مخلوق من طين وأنه هو مخلوق من نار وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر من هو أجل منه وأقرب عباده إليه زلفى وهم الملائكة امتثلوا ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له تعظيما لأمر ربهم وإجلالا لخطابه ذكر له ما يتشبث به من الشبهة وأخرج له الكلام مخرج القول بالموجب مع التنبيه على مزلة القدم فكأنه قيل له ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي لا شك في كونه مخلوقا امتثالا لأمري وإعظاما لخطابي كما فعلت الملائكة ولا يخفى أن المقام ناب عما ذكره أشد النبو ، وجعل ذلك من باب رأيت بعيني لا يفيد إلا تأكيد المخلوقية ، وإخراج الكلام مخرج القول بالموجب مما لا يكاد يقبل فإن سياق القول بالموجب أن يسلم له ثم ينكر عليه لا أن يقدم الإنكار أصلا ويؤتى به كالرمز بل كالألغاز ، وأيضا الأخبار الصحيحة ظاهرة في أن ذاك وصف تعظيم لا كما زعمه ، وأيضا جعل سجود الملائكة لآدم راجعا إلى محض الامتثال من غير نظر إلى تكريم آدم عليه‌السلام مردود بما سلم في عدة مواضع أنه سجود تكريم كيف وهو يقابل (أَتَجْعَلُ فِيها) وكذلك تعليمه إياهم فليلحظ فيه جانب الآمر تعالى شأنه وجانب المسجود له عليه الصلاة والسلام توفية للحقين وكأنه قال ما قال وأخرج الآية على وجه لم يخطر ببال إبليس حذرا من خرم مذهبه ولا عليه أن يسلم دلالة الآية على التكريم ويخصه بوجه وحينئذ لا تدل على الأفضلية مطلقا حتى يلزم خرم مذهبه ، ولعمري إنّ هذا الرجل عق أباه آدم عليه‌السلام في هذا المبحث من كشافه حيث أورد فيه مثالا لما قرره في الآية جعل فيه سقاط الحشم مثالا لآدم عليه‌السلام وبر عدو الله تعالى إبليس حيث أقام له عذره وصوب اعتقاده أنه أفضل من آدم لكونه من نار وآدم من طين وإنما غلطه من جهة أخرى وهو أنه لم يقس نفسه على الملائكة إذ سجدوا له على علمهم أنه بالنسبة إليهم محطوط الرتبة ساقط المنزلة وكم له من عثرة لا يقال لصاحبها لعا مع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم في هذا المقام ، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من مهاوي الهوى ويثبت لنا الأقدام ، وقرئ «بيدي»

٢١٦

بكسر الدال كمصرخي و «بيدي» على التوحيد (أَسْتَكْبَرْتَ) بهمزة الإنكار وطرح همزة الوصل أي أتكبرت من غير استحقاق (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) أو كنت مستحقا للعلو فائقا فيه ، وقيل المعنى أحدث لك الاستكبار أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين فالتقابل على الأول باعتبار الاستحقاق وعدمه وعلى الثاني باعتبار الحدوث والقدم ولذا قيل (كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) دون أنت من العالين ، وقيل إن العالين صنف من الملائكة يقال لهم المهيمون مستغرقون بملاحظة جمال الله تعالى وجلاله لا يعلم أحدهم أن الله تعالى خلق غيره لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه‌السلام أو هم ملائكة السماء ولم يؤمروا بالسجود وإنما المأمور ملائكة الأرض فالمعنى أتركت السجود استكبارا أم تركته لكونك ممن لم يؤمر به ولا يخفى ما فيه ، وأم في كل ذلك متصلة ونقل ابن عطية عن كثير من النحويين أنها لا تكون كذلك إذا اختلف الفعلان نحو أضربت زيدا أم قتلته.

وتعقبه أبو حيان بأنه مذهب غير صحيح وأن سيبويه صرح بخلافه. وقرأت فرقة منهم ابن كثير فيما قيل (أَسْتَكْبَرْتَ) بصلة الألف وهي قراءة أهل مكة وليست في مشهور ابن كثير فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام قد حذفت لدلالة أم عليها كقوله :

بسبع رمينا الجمر أم بثمان

واحتمل أن يكون الكلام إخبارا وأم منقطعة والمعنى بل أنت من العالين والمراد استخفافه سبحانه به (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) قيل هو جواب عن الاستفهام الأخير يؤدي مؤدى أنه كذلك أي هو من العالين على الوجه الأول وأنه ليس من الاستكبار سابقا ولا حقا في شيء على الوجه الثاني ويجري مجرى التعليل كونه فائقا إلا أنه لما لم يكن وافيا بالمقصود لأنه مجرد دعوى أوثر بيانه بما يفيد ذلك وزيادة وهو قوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأنه ذكر النوعين تنبيها على أن المماثلة كافية فضلا عن الأفضلية ولهذا أبهم وفصل وقابل وآثر (خَلَقْتَنِي) و (خَلَقْتَهُ) دون أنا من نار وهو من طين ليدل على أن المماثلة في المخلوقية مانعة فكيف إذا انضم إليها خيرية المادة ، وفيه تنبيه على أن الآمر كان أولى أن يستنكف فإنه أعني السجود حق الآمر ، واستلطفه صاحب الكشف ثم قال : ومنه يعلم أن جواب إبليس من الأسلوب الأحمق. وجعل غير واحد قوله (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) جوابا أولا وبالذات عن الاستفهام بقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) بادعاء شيء مستلزم للمانع من السجود على زعمه ، وقوله : (خَلَقْتَنِي) إلخ تعليلا لدعوى الخيرية.

وأيا ما كان فقد أخطأ اللعين إذ لا مماثلة في المخلوقية فمخلوقية آدم عليه‌السلام باليدين ولا كذلك مخلوقيته وأمر خيرية المادة على العكس في النظر الدقيق ومع هذا الفضل غير منحصر بما كان من جهتها بل يكون من جهة الصورة والغاية أيضا وفضل آدم عليه‌السلام في ذلك لا يخفى ، وكأن خطاه لظهوره لم يتعرض لبيانه بل جعل جوابه طرده وذلك قوله تعالى : (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) والفاء لترتيب الأمر على ما ظهر من اللعين من المخالفة للأمر الجليل وتعليلها بأظهر الأباطيل أي فاخرج من الجنة ، والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها.

وعن ابن عباس أنه كان في عدن لا في جنة الخلد ثم إنه يكفي في صحة الأمر كونه ممن اتخذ الجنة وطنا ومسكنا ولا تتوقف على كونه فيها بالفعل وقت الخطاب كما هو شائع في المحاورات يقول من يخاصم صاحبه في السوق أو غيره في دار : اخرج من الدار مع أنه وقت المخاصمة ليس فيها بالفعل وهذا إن قيل : إن المحاورة لم تكن في الجنة ، وقيل : منها أي من زمرة الملائكة المعززين وهو المراد بالهبوط لا الهبوط من السماء كما قيل فإن وسوسته لآدم عليه‌السلام كانت بعد هذا الطرد وكانت على ما روي عن الحس بطريق النداء من باب الجنة على أن كثيرا من

٢١٧

العلماء أنكروا الهبوط من السماء بالكلية ، بناء على أن الجنة التي أسكنها آدم عليه‌السلام كانت في الأرض ، وقيل : اخرج من الخلقة التي أنت فيها وانسلخ منها والأمر للتكوين ، وكان عليه اللعنة يفتخر بخلقته فغير الله تعالى خلقته فاسود بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسنا وأظلم بعد ما كان نورانيا.

وقوله تعالى : (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) تعليل للأمر بالخروج أي مطرود من كل خير وكرامة فالرجم كناية عن الطرد لأن المطرود يرجم بالحجارة أو شيطان يرجم بالشهب كذا قالوا ، وقد يقال : المراد برجيم ذليل فإن الرجم يستدعي الذلة ، وهو أبعد من توهم التكرار مع الجملة بعد من الوجه الأول وأوفق لما في [الأعراف : ١٣] من قوله تعالى : (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) أي إبعادي عن الرحمة ، وفي [الحجر : ٣٥] (اللَّعْنَةَ) فإن كانت أل فيه للعهد أو عوضا عن الضمير المضاف إليه فعدم الفرق بين ما هناك وما هنا ظاهر وإن أريد كل لعنة فذاك لما أن لعنة اللاعنين من الملائكة والثقلين أيضا من جهته تعالى فهم يدعون عليه بلعنة الله تعالى وإبعاده من رحمته (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) يوم الجزاء والعقوبة ، وفيه إيذان بأن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست كافية في جزاء جنايته بل هي أنموذج مما سيلقاه مستمرة إلى ذلك اليوم ، لكن لا على أنها تنقطع يومئذ كما يوهمه ظاهر التوقيت ونسب القول به إلى بعض الصوفية بل على أنه سيلقى يومئذ من ألوان العذاب وأفانين العقاب ما تنسى عنده اللعنة وتصير كالزائل ألا يرى إلى قوله تعالى : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [الأعراف : ٤٤] وقوله تعالى : (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥] (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أي أمهلني وأخرني ، والفاء متعلقة بمحذوف ينسحب عليه الكلام كأنه قال : إذا جعلتني رجيما فأمهلني ولا تمتني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي آدم وذريته للجزاء بعد الموت وهو وقت النفخة الثانية ، وأراد اللعين بذلك أن يجد فسحة من إغوائهم ويأخذ منهم ثأره وينجو من الموت لأنه لا يكون بعد البعث وكان أمر البعث معروفا بين الملائكة فسمعه منهم فقال ما قال ، ويمكن أن يكون قد عرفه عقلا حيث عرف ببعض الأمارات أو بطريق آخر من طرق المعرفة أن أفراد هذا الجنس لا تخلو من وقوع ظلم بينها وأن الدار ليست دار قرار بل لا بد من الموت فيها وأن الحكمة تقتضي الجزاء.

(قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) ورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرض لشمول ما سأله الآخرين على وجه يشعر بأن السائل تبع لهم في ذلك صريح في أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلا لا إنشاء لإنظار خاص به قد وقع إجابة لدعائه وأن استنظاره كان طلبا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه منهم لا لتأخير العقوبة كما قيل فإن ذلك معلوم من إضافة اليوم إلى الدين أي إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه حكمة التكوين (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) الذي قدرته وعينته لفناء الخلائق وهو وقت النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذي هو المسئول فالفاء ليست لربط نفس الأنظار بالاستنظار بل لربط الإخبار المؤكد به كما في قوله تعالى : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) [يوسف : ٧٧] وقول الشافعي :

فإن ترحم فأنت لذلك أهل

(قالَ فَبِعِزَّتِكَ) قسم بسلطان الله عزوجل وقهره وهو كما يكون بالذات يكون بالصفة فالباء للقسم على ما عليه الأكثرون والفاء لترتيب مضمون الجملة على الأنظار أي فاقسم بعزتك (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أي أفراد هذا النوع بتزيين المعاصي لهم (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وهم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته وعصمهم عن الغواية. وقرئ «المخلصين» على صيغة الفاعل أي الذين أخلصوا قلوبهم أو أعمالهم لله تعالى.

(قالَ) أي الله عزوجل (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) برفع الأول على أنه مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف

٢١٨

المبتدأ ونصب الثاني على أنه مفعول لما بعده قدم عليه للقصر أي لا أقول إلا الحق ، والفاء لترتيب مضمون ما بعدها على ما قبلها أي فالحق قسمي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) على أن الحق إما اسمه تعالى أو نقيض الباطل عظمه الله تعالى بإقسامه به ، ورجح بحديث إعادة الاسم معرفة أو فأنا الحق أو فقولي الحق ، وقوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَ) إلخ حينئذ جواب لقسم محذوف أي والله لأملان إلخ ، وقوله تعالى : (وَالْحَقَّ أَقُولُ) على تقدير اعتراض مقرر على الوجهين الأولين لمضمون الجملة القسمية وعلى الوجه الثالث لمضمون الجملة المتقدمة أعني فقولي الحق.

وقول (فَالْحَقُ) مبتدأ خبره (لَأَمْلَأَنَ) لأن المعنى أن املأ ليس بشيء أصلا. وقرأ الجمهور «فالحقّ والحقّ» بنصبهما وخرج على أن الثاني مفعول مقدم كما تقدم والأول مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب كما في بيت الكتاب :

إن عليك الله أن تبايعا

تؤخذ كرها أو تجيء طائعا

وقولك : الله لأفعلن وجوابه (لَأَمْلَأَنَ) وما بينهما اعتراض وقيل هو منصوب على الإغراء أي فالزموا الحق و (لَأَمْلَأَنَ) جواب قسم محذوف ، وقال الفراء : هو على معنى قولك حقا لآتينك ووجود أل وطرحها سواء أي لأملأن جهنم حقا فهو عنده نصب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، ولا يخفى أن هذا المصدر لا يجوز تقديمه عند جمهور النحاة وأنه مخصوص بالجملة التي جزءاها معرفتان جامدان جمودا محضا. وقال صاحب البسيط : وقد يجوز أن يكون الخبر نكرة والمبتدأ يكون ضميرا نحو هو زيد معروفا وهو الحق بينا وأنا الأمير مفتخرا ويكون ظاهرا نحو زيد أبوك عطوفا وأخوك زيد معروفا اه فكأن الفراء لا يشترط في ذلك ما يشترطون.

وقرأ ابن عباس ومجاهد والأعمش بالرفع فيهما ، وخرج رفع الأول على ما مر ورفع الثاني على أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والرابط محذوف أي أقوله كقراءة ابن عامر وكل وعد الله الحسنى [النساء : ٩٥] وقول أبي النجم :

قد أصبحت أم الخيار تدعي

عليّ ذنبا كله لم أصنع

برفع كل ليتأتى السلب الكلي المقصود للشاعر ، وقرأ الحسن وعيسى وعبد الرحمن بن أبي حماد عن أبي بكر بجرهما ، وخرج على أن الأول مجرور بواو القسم محذوفة أي فو الحق ، والثاني مجرور بالعطف عليه كما تقول : والله والله لأقومن ، و (أَقُولُ) اعتراض بين القسم وجوابه ، وجعله الزمخشري مفعولا مقدما لأقول والجر على حكاية لفظ المقسم به قال : ومعناه التوكيد والتشديد وإفادته ذلك زيادة على ما يفيده أصل الاعتراض لأن العدول عما يقتضيه من الإعراب إلى الحكاية لما كان لاستبقاء الصورة الأولى دل على أنها من العناية في شأنها بمكان وهذا جار في كل حكاية من دون فعل قول وما يقوم مقامه فيدل فيما نحن فيه على فضل عناية بشأن القسم ويفيد التشديد والتوكيد. وقرئ بجر الأول على إضمار حرف القسم ونصب الثاني على المفعولية (مِنْكَ) أي من جنسك من الشياطين (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) في الغواية والضلالة (مِنْهُمْ) من ذرية آدم عليه‌السلام (أَجْمَعِينَ) توكيد للضمير في (مِنْكَ) والضمير المجرور بمن الثانية ، والمعنى لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين لا أترك منهم أحدا أو توكيد للتابعين فحسب والمعنى لأملأنها من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم ، وتأكيد التابعين دون المتبوعين لما أن حال التابعين إذا بلغ إلى أن اتصل إلى أولاد الأنبياء فما بال المتبوعين. وقال صاحب الكشف : صاحب هذا القول اعتبر القرب وأن الكلام بين الحق تعالى شأنه وبين الملعون في شأن التابعين فأكد ما هو المقصود وترك توكيد الآخر للاكتفاء. هذا واعلم أن هذه القصة قد ذكرت في عدة سور وقد ترك في بعضها بعض ما ذكر في البعض الآخر للإيجاز ثقة ما ذكر في ذلك وقد يكون

٢١٩

فيها في موضعين مثلا لفظان متحدان مآلا مختلفان لفظا رعاية للتفنن ، وقد يحمل الاختلاف على تعدد الصدور فيقال مثلا : إن اللعين أقسم مرة بالعزة فحكى ذلك في سورة (ص) بقوله تعالى : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ) وأخرى بإغواء الله تعالى الذي هو أثر من آثار قدرته وعزته عزوجل وحكم من أحكام سلطانه فحكى ذلك في سورة [الأعراف : ١٦] بقوله تعالى : (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) وقد يحمل الاختلاف على اختلاف المقامات كترك الفاء من قوله (أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ومن قوله تعالى : (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) في [الأعراف : ١٤ ، ١٥] مع ذكرها فيهما في (ص) والذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله الذي يفيده وأما كيفية إفادته له فليس مما يجب مراعاته عند النقل البتة بل قد تراعى وقد لا تراعى حسب اقتضاء المقام ، ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها بل قد تراعى عند نقله كيفيات وخصوصيات لم يراعها المتكلم أصلا حيث إنّ مقام الحكاية اقتضتها وهي ملاك الأمر ولا يخل ذلك بكون المنقول أصل المعنى كما قد حققه صدر المفتين أبو السعود وأطال الكلام فيه فليراجع (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على القرآن كما روي عن ابن عباس أو على تبليغ ما يوحى إلي أو على الدعاء إلى الله تعالى على ما قيل (مِنْ أَجْرٍ) أي أجرا دنيويا جل أو قل (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله وما عرفتموني قط متصنعا ولا مدعيا ما ليس عندي حتى انتحل النبوة وأتقول القرآن فأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم عن نفسه هذه المقالة ليس لإعلامهم بالمضمون بل للاستشهاد بما عرفوه منه عليه الصلاة والسلام وللتذكير بما علموه وفي ذلك ذم التكلف.

وأخرج ابن عدي عن أبي برزة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قلنا : بلى يا رسول الله قال : هم الرحماء بينهم قال : ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا : بلى قال : هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون» وعلامة المتكلف كما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن المنذر ثلاث أن ينازل من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم ، وفي الصحيحين أن ابن مسعود قال : أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله تعالى أعلم قال الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ) أي ما هو أي القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) جليل الشأن من الله تعالى. (لِلْعالَمِينَ) للثقلين كافة (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) أي ما أنبأ به من الوعد والوعيد وغيرهما أو خبره الذي يقال فيه في نفس الأمر وهو أنه الحق والصدق (بَعْدَ حِينٍ) قال ابن عباس وعكرمة وابن زيد : يعني يوم القيامة ، وقال قتادة : والفراء والزجاج : بعد الموت ، وكان الحسن يقول : يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين ، وفسر نبؤه بالوعد والوعيد الكائنين في الدنيا ، والمراد لتعلمن ذلك بتحققه إذا أخذتكم سيوف المسلمين وذلك يوم بدر وأشار إلى هذا السدي ، وأيا ما كان ففي الآية من التهديد ما لا يخفى.

هذا وممّا قاله بعض السّادة الصّوفيّة في بعض الآيات قالوا في قوله تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أنه ظاهر في أن الجماد والحيوان الذي هو عند أهل الحجاب غير ناطق حي دراك له علم بالله عزوجل ، ونقل الشعراني عن شيخه على الخواص قدس‌سره القول بتكليف البهائم من حيث لا يشعر المحجوبون ، وجوز أن يكون نذيرها من ذواتها وأن يكون خارجا عنها من جنسها ، وقال : ما سميت بهائم إلا لكون أمر كلامها وأحوالها قد أبهم على غالب الخلق لا لأن الأمر مبهم عليها نفسها. وحكي عنه أنه كان يعامل كل جماد في الوجود معاملة الحي ويقول : إنه يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان.

وقيل : في قوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إشارة إلى أن النفوس مجبولة على الظلم وسائر الصفات الذميمة وإلى أن الذين تزكت أنفسهم قليل

٢٢٠