روح المعاني - ج ١٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

وهل يقول باب مدينة العلم على علم لم يفض عليك من تلك المدينة حاشاه ثم حاشاه وكذا ابن عمه العباس عبد الله. واستشكل هذا الخبر بأن فيه رسالة العبد وقد قالوا العبد لا يكون رسولا ، وأجيب بأن العبد فيه ليس بمعنى المملوك وهو الذي لا يكون رسولا لنقصان تصرفه ونفرة النفوس عن اتباعه بل هو أحد العبيد بمعنى السودان عرفا ولو قيل : إن العبد بهذا المعنى لا يكون رسولا أيضا لنفرة النفوس عن اتباعه كنفرتها عن اتباع المملوك قلنا : على تقدير تسليم النفرة إنما هي فيما إذا كان الإرسال لغير السودان وأما إذا كان الإرسال للسودان فليست هناك نفرة أصلا ، وظاهر لفظ ابن عباس أن ذلك الأسود إنما بعث في الحبش والتزام أنه لا يكون رسول من السودان أولاد حام مما لا يساعد عليه الدليل لأنه إن كانت النفرة مانعة من الإرسال فهي لا تتحقق فيما إذا كان الإرسال إلى بني صنفه ؛ وإن كان المانع أنه لا يوجد متأهل للإرسال في بني حام لنقصان عقولهم وقلة كمالهم فدعوى ذلك جهل والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته وكم رأينا في أبناء حام من هو أعقل وأكمل من كثير من أبناء سام ويافث ، وإن كان قد ورد قاطع من نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يكون من أولئك رسول فليذكر وأني به ثم إن أمر النبوة فيمن ذكر أهون من أمر الرسالة كما لا يخفى ، وكأنه لمجموع ما ذكرنا قال الخفاجي عليه الرحمة : في صحة الخبر نظر (وَما كانَ لِرَسُولٍ) أي وما صح وما استقام لرسول من أولئك الرسل (أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) بمعجزة (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فالمعجزات على تشعب فنونها عطايا من الله تعالى قسمها بينهم حسبما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة كسائر القسم ليس لهم اختيار في إيثار بعضها والاستبداد بإتيان المقترح بها (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) بالعذاب في الدنيا والآخرة (قُضِيَ بِالْحَقِ) بإنجاء المحق وإثابته وإهلاك المبطل وتعذيبه (وَخَسِرَ هُنالِكَ) أي وقت مجيء أمر الله تعالى اسم مكان استعير للزمان (الْمُبْطِلُونَ) المتمسكون بالباطل على الإطلاق فيدخل فيهم المعاندون المقترحون دخولا أوليا ومن المفسرين من فسر المبطلين بهم وفسر أمر الله بالقيامة ، ومنهم من فسره بالقتل يوم بدر وما ذكرنا أولى.

وأبعد ما رأينا في الآية أن المعنى فإذا أراد الله تعالى إرسال رسول وبعثة نبي قضى ذلك وأنفذه بالحق وخسر كل مبطل وحصل على فساد آخرته.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) المراد بها الإبل خاصة كما حكي عن الزجاج واختاره صاحب الكشاف ، واللام للتعليل لا للاختصاص فإن ذلك هو المعروف في نظير الآية أي خلقها لأجلكم ولمصلحتكم ، وقوله تعالى : (لِتَرْكَبُوا مِنْها) إلخ تفصيل لما دل عليه الكلام إجمالا ، ومن هنا جعل ذلك بعضهم بدلا مما قبله بدل مفصل من مجمل بإعادة حرف الجر ، و (من) لابتداء الغاية أي ابتداء تعلق الركوب بها أو تبعيضية وكذا (من) في قوله تعالى : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) وليس المراد على إرادة التبعيض إن كلا من الركوب والأكل مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على أن كل بعض منها صالح لكل منهما. نعم كثيرا ما يعدون النجائب من الإبل للركوب ، والجملة على ما ذهب إليه الجلبي عطف على المعنى فإن قوله تعالى : (لِتَرْكَبُوا مِنْها) في معنى منها تركبون أو إن منها تأكلون في معنى لتأكلوا منها لكن لم يؤت به كذلك لنكتة.

وقال العلامة التفتازاني : إن هذه الجملة حالية لكن يرد على ظاهره أن فيه عطف الحال على المفعول له ولا محيص عنه سوى تقدير معطوف أي خلق لكم الأنعام منها تأكلون ليكون من عطف جملة على جملة.

وتعقبه الخفاجي بقوله : لم يلح لي وجه جعل هذه الواو عاطفة محتاجة إلى التقدير المذكور مع أن الظاهر أنها واو حالية سواء قلنا إنها حال من الفاعل أو المفعول والمنساق إلى ذهني العطف بحسب المعنى ، ولعل اعتباره في جانب المعطوف أيسر فيعتبر أيضا في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أي غير الركوب والأكل كالألبان والأوبار

٣٤١

والجلود ويقال : إنه في معنى ولتنتفعوا بمنافع فيها أو نحو ذلك (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) أي أمرا ذا بال تهتمون به وذلك كحمل الأثقال من بلد إلى بلد ، وهذا عطف على لتركبوا منها جاء على نمطه ، وكان الظاهر المزاوجة بين الفوائد المحصلة من الأنعام بأن يؤتى باللام في الجميع أو تترك فيه لكن عدل إلى ما في النظم الجليل لنكتة.

قال صاحب الكشف : إن الأنعام هاهنا لما أريد بها الإبل خاصة جعل الركوب وبلوغ الحاجة من أتم الغرض منها لأن من منافعها الركوب والحمل عليها ، وأما الأكل منها والانتفاع بأوبارها وألبانها بالنسبة إلى ذينك الأمرين فنزر قليل ، فأدخل اللام عليهما وجعلا مكتنفين لما بينهما تنبيها على أنه أيضا مما يصلح للتعليل ولكن قاصرا عنهما ، وأما الاختصاص المستفاد من قوله تعالى : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فلأنها من بين ما يقصد للركوب ويعد للأكل فلا ينتقض بالخيل على مذهب من أباح لحمها ولا بالبقر ، وقال صاحب الفرائد : إنما قيل (وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) ولم يقل : لتأكلوا منها ولتصلوا إلى المنافع لأنهم في الحال آكلون وآخذون المنافع وأما الركوب وبلوغ الحاجة فأمران منتظران فجيء فيهما بما يدل على الاستقبال. وتعقب بأن الكل مستقبل بالنسبة إلى زمن الخلق.

وقال القاضي : تغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة ، وقيل في توجيهه : يعني أن مدخول الغرض لا يلزم أن يترتب على الفعل ، فالتغيير إلى صورة الجملة الحالية مع الإتيان بصيغة الاستمرار لتنبيه على امتيازه عن الركوب في كونه من ضروريات الإنسان. ويطرد هذا الوجه في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) لأن المراد منفعة الشرب واللبس وهذا مما يلحق بالضروريات وهو لا يضر نعم فيه دغدغة لا تخفى. وقال الزمخشري : إن الركوب وبلوغ الحاجة يصح أن يكونا غرض الحكيم جل شأنه لما فيهما من المنافع الدينية كإقامة دين وطلب علم واجب أو مندوب فلذا جيء فيهما باللام بخلاف الأكل وإصابة المنافع فإنهما من جنس المباحات التي لا تكون غرض الحكيم. وهو مبني على مذهبه من الربط بين الأمر والإرادة ولا يصح أيضا لأن المباحات التي هي نعمة تصح أن تكون غرض الحكيم جل جلاله عندهم ، ويا ليت شعري ما ذا يقول في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) [يونس : ٦٧] نعم لو ذكر أنه لاشتماله على الغرض الديني كان أنسب بدخول اللام لكان وجها إن تم.

وقيل : تغيير النظم الجليل في الأكل لمراعاة الفواصل كما أن تقديم الجار والمجرور لذلك. وأما قوله تعالى :

(وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) فكالتابع للأكل فأجري مجراه وهو كما ترى ، وقوله تعالى : (وَعَلَيْها) توطئة لقوله سبحانه : (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) ليجمع بين سفائن البر وسفائن البحر فكأنه قيل : وعليها في البر وعلى الفلك في البحر تحملون فلا تكرار. وفي إرشاد العقل السليم لعل المراد بهذا الحمل حمل النساء والولدان عليها بالهودج وهو السر في فصله عن الركوب ، وتقديم الجار قيل : لمراعاة الفواصل كتقديمه قبل.

وقيل التقديم هنا وفيما تقدم للاهتمام ؛ وقيل : (عَلَى الْفُلْكِ) دون في الفلك كما في قوله تعالى : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [هود : ٤٠] لأن معنى الظرفية والاستعلاء موجود فيها فيصح كل من العبارتين ، والمرجح لعلى هنا المشاكلة.

وذهب غير واحد إلى أن المراد بالأنعام الأزواج الثمانية فمعنى الركوب والأكل منها تعلقهما بالكل لكي لا على أن كلا منهما مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على أن بعضها يتعلق به الأكل فقط كالغنم وبعضها يتعلق به كلاهما كالإبل ومنهم من عد البقر أيضا وركوبه معتاد عند بعض أهل الأخبية ، وأدرج بعضهم الخيل والبغال وسائر ما ينتفع به من البهائم في الأنعام وهو ضعيف.

ورجح القول بأن المراد الأزواج الثمانية على القول المحكي عن الزجاج من أن المراد الإبل خاصة بأن المقام

٣٤٢

مقام امتنان وهو مقتض للتعميم ، والظاهر ذاك ، وكون المقام مقام امتنان غير مسلم بل هو مقام استدلال كقوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية : ١٧] كما يشعر به السياق ، ولا يأباه ذكر المنافع فإنه استطرادي (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي دلائله الدالة على كمال شئونه جل جلاله (فَأَيَّ آياتِ اللهِ) أي فأي آية من تلك الآيات الباهرة (تُنْكِرُونَ) فإن كلا منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترئ على إنكارها من له عقل في الجملة. فأين للاستفهام التوبيخي وهي منصوبة بتنكرون ، وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل إنكارها وتنكير أي في مثل ما ذكر هو الشائع المستفيض والتأنيث قليل ومنه قوله :

بأي كتاب أم بأية سنة

ترى حبهم عارا علي وتحسب

قال الزمخشري : لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في أي أغرب لإبهامه لأنه اسم استفهام عما هو مبهم مجهول عند السائل والتفرقة مخالفة لما ذكر لأنها تقتضي التمييز بين ما هو مؤنث ومذكر فيكون معلوما له (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي أقعدوا فلم يسيروا على أحد الرؤيين : (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المهلكة ، وقوله تعالى : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) إلخ استئناف نظير ما مر في نظيره أول السورة بل أكثر الكلام هناك جار هاهنا (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ما) الأولى نافية أو استفهامية في معنى النفي في محل نصب بأغنى ، والثانية موصولة في موضع رفع به أو مصدرية والمصدر الحاصل بالتأويل مرفوع به أيضا أي لم يغن عنهم أو أي شيء أغنى عنهم الذي كسبوه أو كسبهم (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات أو الآيات الواضحات الشاملة لذلك (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ذكر فيه ستة أوجه. الأول أن المراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة فيما يتعلق بالمبدإ والمعاد وغيرهما أو عقائدهم المتعلقة بأحوال الآخرة كما هو ظاهر كلام الكشاف ، والتعبير عن ذلك بالعلم على زعمهم للتهكم كما في قوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [النمل : ٦٦]. والمعنى أنهم كانوا يفرحون بذلك ويستحقرون له علم الرسل عليهم‌السلام ويدفعون به البينات. الثاني أن المراد به علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان على اختلاف أنواعه فكانوا إذا سمعوا بوحي الله تعالى دفعوه وصغروا علم الأنبياء عليهم‌السلام إلى ما عندهم من ذلك. وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه الصلاة والسلام ، وقيل له : لو هاجرت إليه فقال : نحن قوم مهذبون فلا حاجة لنا إلى من يهذبنا. والزمان متشابه فقد رأينا من ترك متابعة خاتم المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستنكف عن الانتساب إلى شريعة أحد منهم فرحا بما لحس من فضلات الفلاسفة وقال : إن العلم هو ذاك دون ما جاء به الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين. الثالث أن أصل المعنى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات لم يفرحوا بما جاءهم من العلم فوضعوا موضعه فرحوا بما عندهم من الجهل ثم سمي ذلك الجهل علما لاغتباطهم به ووضعهم إياه مكان ما ينبغي لهم من الاغتباط بما جاءهم من العلم ، وفيه التهكم بفرط جهلهم والمبالغة في خلوهم من العلم ، وضمير (فَرِحُوا) و (عِنْدَهُمْ) على هذه الأوجه للكفرة المحدث عنهم.

الرابع أن يجعل ضمير (فَرِحُوا) للكفرة وضمير (عِنْدَهُمْ) للرسل عليهم‌السلام ، والمراد بالعلم الحق الذي جاء المرسلون به أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به ، وخلاصته أنهم استهزءوا بالبينات وبما جاء به الرسل من علم الوحي ، ويؤيد هذا قوله تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

الخامس أن يجعل الضمير أن للرسل عليهم‌السلام ، والمعنى أن الرسل لما رأوا جهل الكفرة المتمادي واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم فرحوا بما أوتوا من العلم

٣٤٣

وشكروا الله تعالى وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم ، وحكي هذا عن الجبائي.

السادس أن يجعل الضمير أن للكفار ، والمراد بما عندهم من العلم علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) [الروم : ٧] (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) [النجم : ٣٠] فلما جاءهم الرسل بعلم الديانات وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزءوا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به ، قال صاحب الكشف : والأرجح من بين هذه الأوجه الستة الثالث ففيه التهكم والمبالغة في خلوهم من العلم ومشتمل على ما يشتمل عليه الأول وزيادة سالم عن عدم الطباق للواقع كما في الثاني وعن قصور العبارة عن الأداء كالرابع وعن فك الضمائر كما في الخامس ، والسادس قريب لكنه قاصر عن فوائد الثالث انتهى فتأمله جدا. وأبو حيان استحسن الوجه السادس وتعقب الوجه الثالث بأنه لا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام نحو شر أهر ذا ناب على خلاف فيه ، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز ، وأما الآية فينبغي أن لا تحمل على القليل لأن في ذلك تخليطا لمعاني الجمل المتباينة فلا يوثق بشيء منها ، وأنت تعلم أنه لا تباين معنى بين لم يفرحوا بما جاءهم من العلم و (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) على ما قرر. نعم هذا الوجه عندي مع ما فيه من حسن لا يخلو عن بعد ، وكلام صاحب الكشف لا يخلو عن دغدغة (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) شدة عذابنا ومنه قوله تعالى : (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) [الأعراف : ١٦٥] (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) يعنون الأصنام أو سائر آلهتهم الباطلة : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي عند رؤية عذابنا لأن الحكمة الإلهية قضت أن لا يقبل مثل ذلك الإيمان ، و (إِيمانُهُمْ) رفع بيك اسما لها أو فاعل (يَنْفَعُهُمْ) وفي (يَكُ) ضمير الشأن على الخلاف الذي في كان يقوم زيد ، ودخل حرف النفي على الكون لا على النفع لإفادة معنى نفي الصحة فكأنه لم يصح ولم يستقم حكمة نفع إيمانهم إياهم عند رؤية العذاب ، وهاهنا أربعة فاءات فاء (فَما أَغْنى) وفاء (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) وفاء (فَلَمَّا رَأَوْا) وفاء (فَلَمْ يَكُ) فالفاء الأولى مثلها في نحو قولك : رزق المال فمنع المعروف فما بعدها نتيجة مالية لما كانوا فيه من التكاثر بالأموال والأولاد والتمتع بالحصون ونحوها ، والثانية تفسيرية مثلها في قولك : فلم يحسن إلى الفقراء بعد فمنع المعروف في المثال فما بعدها إلى قوله تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ) إيضاح لذلك المجمل وأنه كيف انتهى بهم الأمر إلى عكس ما أملوه وأنهم كيف جمعوا واحتشدوا وأوسعوا في إطفاء نور الله وكيف حاق المكر السيئ بأهله إذ كان في قوله سبحانه : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) إيماء بأنهم زاولوا أن يجعلوها مغنية ، والثالث للتعقيب ، وجعل ما بعدها تابعا لما قبلها واقعا عقيبه (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) مترتب على قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) إلخ تابع له لأنه بمنزلة فكفروا إلا أن (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) الآية بيان كفر مفصل مشتمل على سوء معاملتهم وكفرانهم بنعمة الله تعالى العظمى من الكتاب والرسول فكأنه قيل : فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا ، ومثلها الفاء الرابعة فما بعدها عطف على آمنوا دلالة على أن عدم نفع إيمانهم ورده عليهم تابع للإيمان عند رؤية العذاب كأنه قيل : فلما رأوا بأسنا آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم إذ النافع إيمان الاختيار (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) أي سن الله تعالى ذلك أعني عدم نفع الإيمان عند رؤية البأس سنة ماضية في البعاد ، وهي من المصادر المؤكدة كوعد الله وصبغة الله ، وجوز انتصابها على التحذير أي احذروا يا أهل مكة سنة الله تعالى في أعداء الرسل.

(وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) أي وقت رؤيتهم البأس على أنه اسم مكان قد استعير للزمان كما سلف آنفا ، وهذا الحكم خاص بإيمان البأس وأما توبة البأس فهي مقبولة نافعة بفضل الله تعالى وكرمه ، والفرق ظاهر.

٣٤٤

وعنه بعض الأكابر أن إيمان البأس مقبول أيضا ومعنى (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أن نمس إيمانهم لم ينفعهم وإنما نفعهم الله تعالى حقيقة به ، ولا يخفى عليك حال هذا التأويل وما كان من ذلك القبيل والله تعالى أعلم.

«ومن باب الإشارة في بعض الآيات» على ما أشار إليه بعض السادات (حم) إشارة إلى ما أفيض على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرحمن فإن الحاء والميم من وسط الاسمين الكريمين ، وفي ذلك أيضا سر لا يجوز كشفه ولما صدرت السورة بما أشار إلى الرحمة وأنها وصف المدعو إليه والداعي ذكر بعد من صفات المدعو إليه وهو الله عزوجل ما يدل على عظيم الرحمة وسبقها ، وفي ذلك من بشارة المدعو ما فيه.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) إلخ فيه إشارة إلى شرف الإيمان وجلالة قدر المؤمنين وإلى أنه ينبغي للمؤمنين من بني آدم أن يستغفر بعضهم لبعض ؛ وفي ذلك أيضا من تأكيد الدلالة على عظم رحمة الله عزوجل ما لا يخفى (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) بأن يكون غير مشوب بشيء من مقاصد الدنيا والآخرة (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) قيل : في إطلاق الروح إشارة إلى روح النبوة وهو يلقى على الأنبياء ، وروح الولاية ويلقى على العارفين ، وروح الدراية ويلقى على المؤمنين الناسكين (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) قيل التلاقي مع الله تعالى ولا وجود لغيره تعالى وهو مقام الفناء المشار إليه بقوله سبحانه : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) من قبول وجودهم (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) إذ ليس في الدار غيره ديار (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ) من التجلي (بِما كَسَبَتْ) في بذل الوجود للمعبود (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) فتنال كل نفس من التجلي بقدر بذلها من الوجود لا أقل من ذلك.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) هذه قيامة العوام المؤجلة ويشير إلى قيامة الخواص المعجلة لهم ، فقد قيل : إن لهم في كل نفس قيامة من العتاب والعقاب والثواب والبعاد والاقتراب وما لم يكن لهم في حساب ، وخفقان القلب ينطق والنحول يخبر واللون يفصح والمشوق يستر ولكن البلاء يظهر ، وإذا أزف فناء الصفات بلغت القلوب الحناجر وشهدت العيون بما تخفي الضمائر (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) خائنة أعين المحبين استحسانهم تعمد النظر إلى غير المحبوب باستحسان واستلذاذ وما تخفيه الصدور من متمنيات النفوس ومستحسنات القلوب ومرغوبات الأرواح (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قيل أي اطلبوني مني أجبكم فتجدوني ومن وجدني وجد كل شيء فالدعاء الذي لا يرد هو هذا الدعاء ، ففي بعض الأخبار من طلبني وجدني (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) دعائي وطلبي (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ) الحرمان والبعد مني (داخِرِينَ) ذليلين مهينين (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) فيه إشارة إلى ليل البشرية ونهار الروحانية ، وذكر أن سكون الناس في الليل المعروف على أقسام فأهل الغفلة يسكنون إلى استراحة النفوس والأبدان ، وأهل الشهوة يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم من الرجال والنسوان ، وأهل الطاعة يسكنون إلى حلاوة أعمالهم وقوة آمالهم. وأهل المحبة يسكنون إلى أنين النفوس وحنين القلوب وضراعة الأسرار واشتعال الأرواح بالأشواق التي هي أحر من النار (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) يشير إلى أنه تعالى جعل أرض البشرية مقرا للروح (وَالسَّماءَ) بناء أي سماء الروحانية مبنية عليها (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) بأن جعلكم مرايا جماله وجلاله ، وفي الخبر «خلق الله تعالى آدم على صورته» وفي ذلك إشارة إلى رد (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] ولله تعالى من قال :

٣٤٥

ما حطك الواشون عن رتبة

عندي ولا ضرك مغتاب

كأنهم أثنوا ولم يعلموا

عليك عندي بالذي عابوا

والكافر لسوء اختياره التحق بالشياطين وصار مظهرا لصفات القهر من رب العالمين وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين ، تم الكلام على سورة المؤمن والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا.

٣٤٦

سورة فصّلت

وتسمى سورة السجدة وسورة حم السجدة وسورة المصابيح وسورة الأقوات ، وهي مكية بلا خلاف ولم أقف فيها على استثناء ، وعدد آياتها كما قال الداني خمسون وآيتان بصري وشامي وثلاث مكي ومدني وأربع كوفي ، ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر قبل (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [غافر : ٨٢] إلخ وكان ذلك متضمنا تهديدا وتقريعا لقريش وذكر جل شأنه هنا نوعا آخر من التهديد والتقريع لهم وخصهم بالخطاب في قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣] ثم بين سبحانه كيفية إهلاكهم وفيه نوع بيان لما في قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) الآية ، وبينهما أوجه من المناسبة غير ما ذكر. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الخليل بن مرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا ينام حتى يقرأ تبارك وحم السجدة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ

٣٤٧

رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ)(١٥)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم) أن جعل اسما للسورة أو القرآن فهو إما خبر لمحذوف أو مبتدأ خبره (تَنْزِيلٌ) على المبالغة أو التأويل المشهور ، وهو على الأول خبر بعد خبر ، وخبر مبتدأ محذوف أن جعل (حم) مسرودا على نمط التعديد عند الفراء ، وقوله تعالى : (مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) من تتمته مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أو خبر آخر للمبتدإ المحذوف أو تنزيل مبتدأ لتخصصه بما بعده خبره (كِتابٌ) وحكي ذلك عن الزجاج والحوفي ، وهو على الأوجه الأول بدل منه أو خبر آخر أو خبر لمحذوف ، وجملة (فُصِّلَتْ آياتُهُ) على جميع الأوجه في موضع الصفة لكتاب ، وإضافة التنزيل إلى (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) من بين أسمائه تعالى للإيذان بأنه مدار للمصالح الدينية والدنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية حسبما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] وتفصيل آياته تمييزها لفظا بفواصلها ومقاطعها ومبادئ السور وخواتمها ، ومعنى بكونها وعدا ووعيدا وقصصا وأحكاما إلى غير ذلك بل من أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمباحث المتباينة عبارة وإشارة مثل ما في القرآن. وعن السدي (فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي بينت ففصل بين حرامه وحلاله وزجره وأمره ووعده ووعيده ، وقال الحسن : فصلت بالوعد والوعيد ، وقال سفيان : بالثواب والعقاب ، وما ذكرنا أولا أعم ولعل ما ذكروه من باب التمثيل لا الحصر ، وقيل : المراد فصلت آياته في التنزيل أي لم تنزل جملة واحدة وليس بذاك. وقرئ «فصلّت» بفتح الفاء والصاد مخففة أي فرقت بين الحق والباطل ، وقال ابن زيد : بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن خالفه على أن فصل متعد أو فصل متعد أو فصل بعضها من بعض باختلاف الفواصل والمعاني على أن فصل لازم بمعنى انفصل كما في قوله تعالى : (فَصَلَتِ الْعِيرُ) [يوسف : ٩٤].

وقرئ «فصلت» بضم الفاء وكسر الصاد مخففة على أنه مبني للمفعول والمعنى على ما مر (قُرْآناً عَرَبِيًّا) نصب على المدح بتقدير أعني أو أمدح أو نحوه أو على الحال فقيل : من (كِتابٌ) لتخصصه بالصفة ، وقيل : من (آياتُهُ) وجوز في هذه الحال أن تكون مؤكدة لنفسها وأن تكون موطئة للحال بعدها ، وقيل : نصب على المصدر أي يقرؤه قرآنا ، وقال الأخفش : هو مفعول ثان لفصلت ، وهو كما ترى إن لم تكن أخفش ، وأيا ما كان ففي (قُرْآناً عَرَبِيًّا) امتنان بسهولة قراءته وفهمه لنزوله بلسان من نزل بين أظهرهم (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي معانيه لكونه على لسانهم على أن المفعول محذوف أو لأهل العلم والنظر على أن الفعل منزل منزلة اللازم ولام (لِقَوْمٍ) تعليلية أو اختصاصية وخصهم بذلك لأنهم هم المنتفعون به والجار والمجرور إما في موضع صفة أخرى ـ لقرآنا ـ أو صلة ـ لتنزيل ـ أو ـ لفصلت ـ قال الزمخشري : ولا يجوز أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده أي قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب لئلا يفرق بين الصلات والصفات ، ولعله أراد لئلا يلزم التفريق بين الصفة وهي قوله تعالى : (بَشِيراً وَنَذِيراً) وموصوفها وهو (قُرْآناً) بناء على أنه صفة له بالصلة وهي (لِقَوْمٍ) على تقدير تعلقه ـ بتنزيل ـ أو ـ بفصلت ـ وبين الصلة ـ وموصولها بالصفة أي (تَنْزِيلٌ) أو (فُصِّلَتْ) و (لِقَوْمٍ) والجمع للمبالغة على حد قولك لمن يفرق بين آخرين : لا تفعل فإن التفريق بين الأخوان مذموم أو أراد لئلا يفرق بين الصلتين في الحكم مع عدم الموجب للتفريق وهو أن يتصل (مِنَ الرَّحْمنِ) بموصوله ولا يتصل (لِقَوْمٍ) وكذلك بين الصفتين وهو (عَرَبِيًّا) بموصوفه ولا يتصل (بَشِيراً) والجمع لذلك أيضا. واختار أبو حيان كون الجار والمجرور صلة (فُصِّلَتْ) وقال : يبعد تعلقه ـ بتنزيل ـ لكونه وصف قبل أخذ متعلقه إن كان (مِنَ الرَّحْمنِ) في موضع الصفة أو أبدل منه (كِتابٌ) أو كان خبرا ـ لتنزيل

٣٤٨

ـ فيكون في ذلك البدل من الموصول أو الإخبار عنه قبل أخذه متعلقه وهو لا يجوز ولعل ذلك غير مجمع عليه ، وكون (بَشِيراً) صفة (قُرْآناً) هو المشهور ، وجوز أن يكون مع ما عطف عليه حال من (تابٌ) أو من (آياتُهُ) وقرأ زيد بن علي «بشير» و «نذير» برفعهما وهي رواية شاذة عن نافع على الوصفية لكتاب أو الخبرية لمحذوف أي هو بشير لأهل الطاعة ونذير لأهل المعصية (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) عن تدبره وقبوله ، والضمير للقوم على المعنى الأول ليعلمون وللكفار المذكورين حكما على المعنى الثاني ، ويجوز أن يكون للقوم عليه أيضا بأن يراد به ما من شأنهم العلم والنظر (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا يقبلون ولا يطيعون من قولك : تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه فكأنه لم يسمعه وهو مجاز مشهور.

وفي الكشف أن قوله تعالى : (فَأَعْرَضَ) مقابل قوله تعالى : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) وقوله سبحانه : (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) مقابل قوله جل شأنه : (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي أنكروا إعجازه والإذعان له مع العلم ولم يقبلوا بشائره ونذره لعدم التدبر.

(وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أي أغطية متكاثفة (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) من الإيمان بالله تعالى وحده وترك ما ألفينا عليه آباءنا و (مِنْ) على ما في البحر لابتداء الغاية (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي صمم وأصله الثقل.

وقرأ طلحة بكسر الواو وقرئ بفتح القاف (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) غليظ يمنعنا عن التواصل ومن للدلالة على أن الحجاب مبتدأ من الجانبين بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة ولم يبق ثمت فراغ أصلا.

وتوضيحه أن البين بمعنى الوسط بالسكون وإذا قيل : بيننا وبينك حجاب صدق على حجاب كائن بينهما استوعب أولا ، وأما إذا قيل : من بيننا فيدل على أن مبتدأ الحجاب من الوسط أعني طرفه الذي يلي المتكلم فسواء أعيد (مِنْ) أو لم يعد يكون الطرف الآخر منتهي باعتبار ومبتدأ باعتبار فيكون الظاهر الاستيعاب لأن جميع الجهة أعني البين جعل مبتدأ الحجاب فالمنتهي غيره البتة ، وهذا كاف في الفرق بين الصورتين كيف وقد أعيد البين لاستئناف الابتداء من تلك الجهة أيضا إذ لو قيل : ومن بيننا بتغليب المتكلم لكفى ، ثم ضرورة العطف على نحو بيني وبينك إن سلمت لا تنافي إرادة الإعادة له فتدبر ، وما ذكروه من الجمل الثلاث تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله ومج أسماعهم له وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرادوا بذلك إقناطه عليه الصلاة والسلام عن اتباعهم إياه عليه الصلاة والسلام حتى لا يدعوهم إلى الصراط المستقيم.

وذكر أبو حيان أنه لما كان القلب محل المعرفة والسمع والبصر معينان على تحصيل المعارف ذكروا أن هذه الثلاثة محجوبة عن أن يصل إليها مما يلقيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء ولم يقولوا على قلوبنا أكنة كما قالوا : وفي آذاننا وقر ليكون الكلام على نمط واحد في جعل القلوب والآذان مستقر الأكنة والوقر وإن كان أحدهما استقرار استعلاء والثاني استقرار احتواء إذ لا فرق في المعنى بين قلوبنا في أكنة وعلى قلوبنا أكنة والدليل عليه قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) [الكهف : ٥٧] ولو قيل إنا جعلنا قلوبهم في أكنة لم يختلف المعنى فالمطابقة حاصلة من حيث المعنى والمطابيع من العرب لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني ، واختصاص كل من العبارتين بموضعه للتفنن على أنه لما كان منسوبا إلى الله تعالى في سورة بني إسرائيل والكهف كان معنى الاستعلاء والقهر أنسب ، وهاهنا لما كان حكاية عن مقالهم كان معنى الاحتواء أقرب ، كذا حققه بعض الأجلة ودغدغ فيه ، وتفسير الأكنة بالأغطية هو الذي عليه جمهور المفسرين فهي جمع كنان كغطاء لفظا ومعنى ، وقيل : هي ما يجعل فيها السهام. أخرج عبد بن حميد. وابن المنذر عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) قالوا كالجعبة للنبل

٣٤٩

(فَاعْمَلْ) على دينك وقيل في إبطال أمرنا (إِنَّنا عامِلُونَ) على ديننا وقيل : في ابطال أمرك والكلام على الأول متاركة وتقنيط عن اتباعه عليه الصلاة والسلام ، ومقصودهم أننا عاملون ، والأول توطئة له ، وحاصل المعنى أنا لا نترك ديننا بل نثبت عليه كما نثبت على دينك ، وعلى الثاني هو مبارزة بالخلاف والجدال ، وقائل ما ذكر أبو جهل ومعه جماعة من قريش.

ففي خبر أخرجه أبو سهل السري من طريق عبد القدوس عن نافع بن الأزرق عن ابن عمر عن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : أقبلت قريش إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم : ما يمنعكم من الإسلام فتسودوا العرب؟ فقالوا : يا محمد ما نفقة ما تقول ولا نسمعه وأن على قلوبنا لغلفا وأخذ أبو جهل ثوبا فمده فما بينه وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال : يا محمد قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ، وفيه فلما كان من الغد أقبل منهم سبعون رجلا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد اعرض علينا الإسلام فلما عرض عليهم‌السلام أسلموا عن آخرهم فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال : الحمد لله بالأمس تزعمون أن على قلوبكم غلفا وقلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه وفي آذانكم وقرا وأصبحتم اليوم مسلمين فقالوا : يا رسول الله كذبنا والله بالأمس لو كذلك ما اهتدينا أبدا ولكن الله تعالى الصادق والعباد الكاذبون عليه وهو الغني ونحن الفقراء إليه (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) لست ملكا ولا جنيا لا يمكنكم التلقي منه ض. وهو رد لقولهم : بيننا وبينك حجاب (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول وإنما أدعوكم إلى التوحيد الذي دلت عليه دلائل العقل وشهدت له شواهد السمع ، وهذا جواب عن قولهم : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) فاستووا إليه تعالى بالتوحيد وإخلاص العبادة ولا تتمسكوا بعرا الشرك وتقولوا لمن يدعوكم إلى التوحيد : قلوبنا في أكنة إلخ (وَاسْتَغْفِرُوهُ) مما سلف منكم من القول والعمل وهذا وجه لا يخلو عن حسن في ربط الأمر بما قبله ، وفي ارشاد العقل السليم أي لست من جنس مغاير لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان كما ينبئ عنه قولكم : (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) بل إنما أنا بشر مثلكم مأمور بما آمركم به حيث أخبرنا جميعا بالتوحيد بخطاب جامع بيني وبينكم ، فإن الخطاب في (إِلهُكُمْ) محكي منتظم للكل لا أنه خطاب منه عليه الصلاة والسلام للكفرة كما في مثلكم وهو مبني على اختيار الوجه الأول في (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) ولا بأس به من هذه الجهة نعم فيه قصور من جهة أخرى ، وقال صاحب الفرائد : ليس هذا جوابا لقولهم إذ لا يقتضي أن يكون له جواب ، وحاصله لا تتركهم وما يدينون لقولهم ذلك المقصود منه أن تتركهم ، سلمنا أنه جواب لكن المراد منه أني بشر فلا أقدر أن أخرج قلوبكم من الأكنة وأرفع الحجاب من البين والوقر من الآذان ولكني أوحى إلي وأمرت بتبليغ (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وللإمام كلام قريب مما ذكر في حيز التسليم ، وكلا الكلامين غير واف بجزالة النظم الكريم ، وجعله الزمخشري جوابا من أن المشركين طالما يتمسكون في رد النبوة بأن مدعيها بشر ويجب أن يكون ملكا ولا يجوز أن يكون بشرا ولذا لا يصغون إلى قول الرسول ولا يتفكرون فيه فقوله عليه الصلاة والسلام : إني لست بملك وإنما أنا بشر من باب القلب عليهم لا القول بالموجب ولا من الأسلوب الحكيم في شيء كما قيل كأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما تمسكتم به في رد نبوتي من أني بشر هو الذي يصحح نبوتي إذ لا يحسن في الحكمة أن يرسل إليكم الملك فهذا يوجب قبولكم لا الرد والغلو في الإعراض.

وقوله : (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ) تمهيد للمقصود من البعثة بعد إثبات النبوة أولا مفصلا بقوله تعالى : (حم) الآيات ومجملا ثانيا بقوله : (يُوحى إِلَيَ) ثم قيل : (أَنَّما إِلهُكُمْ) بيانا للمقصود فقوله (يُوحى إِلَيَ) مسوق

٣٥٠

للتمهيد ، وفيه رمز إلى إثبات النبوة ، وهذا المعنى على القول بأن المراد من (فَاعْمَلْ) إلخ فاعمل في ابطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك ظاهر ، وأما على القول الأول فوجهه أن الدين هو جملة ما يلتزمه المبعوث إليه من طاعة الباعث تعالى بوساطة تبليغ المبعوث فهو مسبب عن نبوته المسببة عن دليلها فأظهروا بذلك أنهم منقادون لما قرر لديهم آباؤهم من منافاة النبوة للبشرية وأنه دينهم فقيل لهم ما قيل ، وهو على هذا الوجه أكثر طباقا وأبلغ ، وهذا حسن دقيق وما ذكر أولا أسرع تبادرا ، وفي الكشف أن (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) في مقابلة إنكارهم الإعجاز والنبوة وقوله : (فَاسْتَقِيمُوا) يقابل عدم القبول وفيه رمز إلى شيء مما سمعت فتأمل ، وقرأ ابن وثاب والأعمش قال إنما فعلا ماضيا ، وقرأ النخعي والأعمش «يوحي» بكسر الحاء على أنه مبني للفاعل أي يوحي الله إلي أنما إلهكم إله واحد.

(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) من شركهم بربهم عزوجل (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) لبخلهم وعدم إشفاقهم على الخلق وذلك من أعظم الرذائل (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) مبتدأ وخبر ـ وهم ـ الثاني ضمير فصل و (بِالْآخِرَةِ) متعلق بكافرون ، والتقديم للاهتمام ورعاية الفاصلة ، والجملة حال مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في الدنيا وإنكارهم للآخرة ، وحمل الزكاة على معناها الشرعي مما قاله ابن السائب ، وروي عن قتادة والحسن والضحاك ومقاتل ، وقيل : الزكاة بالمعنى اللغوي أي لا يفعلون ما يزكي أنفسهم وهو الإيمان والطاعة.

وعن مجاهد والربيع لا يزكون أعمالهم ، وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس أنه قال : في ذلك أي لا يقولون لا إله إلا الله ، وكذا الحكيم الترمذي. وغيره عن عكرمة فالمعنى حينئذ لا يطهرون أنفسهم من الشرك ، واختار ذلك الطيبي قال : والمعنى عليه فاستقيموا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة له تعالى وتوبوا إليه سبحانه مما سبق لكم من الشرك وويل لكم إن لم تفعلوا ذلك كله فوضع موضعه منع إيتاء الزكاة ليؤذن بأن الاستقامة على التوحيد وإخلاص العمل لله تعالى والتبري عن الشرك هو تزكية النفس ، وهو أوفق لتأليف النظم ، وما ذهب إليه حبر الأمة إلا لمراعاة النظم ، وجعل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع مذكورا على جهة الاستطراد تعريضا بالمشركين وأن نصيبهم مقطوع حيث لم يزكّوا أنفسهم كما زكوا ، واستدل على الاستطراد بالآية بعد ، وفي الكشف القول الأول أظهر والمشركون باق على عمومه لا من باب إقامة الظاهر مقام المضمر كهذا القول وأن الجملة معترضة كالتعليل لما أمرهم به وكذلك (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية لأنه بمنزلة وويل للمشركين وطوبى للمؤمنين ، وفيهما من التحذير والترغيب ما يؤكد أن الأمر بالإيمان والاستقامة تأكيد لا يخفى حاله على ذي لب ، وكذلك الزكاة فيه على الظاهر ، وخص من بين أوصاف الكفرة منعها لما أنها معيار على الإيمان المستكن في القلب كيف ، وقد قيل : المال شقيق الروح بل قال بعض الأدباء :

وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ

به فأجبت المال خير من الروح

أرى حفظه يقضي بتحسين حالتي

وتضييعه يفضي لتسآل مقبوح

والصرف عن الحقيقة الشرعية الشائعة من غير موجب لا يجوز كيف ومعنى الإيتاء لا يقر قراره ، نعم لو كان بدله يأتون كما في قوله تعالى : (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) [التوبة : ٥٤] لحسن لا يقال : إن الزكاة فرضت بالمدينة والسورة مكية لأنا نقول : إطلاق الاسم على طائفة مخرجة من المال على وجه من القربة مخصوص كان شائعا قبل فرضيتها بدليل شعر أمية بن أبي الصلت الفاعلون للزكوات ، على أن هذا الحق على هذا الوجه المعروف فرض بالمدينة ، وقد كان في مكة فرض شيء من المال يخرج إلى المستحق لا على هذا الوجه وكان يسمى زكاة أيضا ثم نسخ انتهى.

٣٥١

ومنه يعلم سقوط ما قاله الطيبي. بقي مخالفة الحبر وهي لا تتحقق إلا إذا تحققت الرواية عنه وبعده الأمر أيضا سهل ، ولعله رضي الله تعالى عنه كان يقرأ لا يأتون من الإتيان إذ القراءة المشهورة تأبى ذلك إلا بتأويل بعيد ، والعجب نسبة ما ذكر عن الحبر في البحر إلى الجمهور أيضا ، وحمل الآية على ذلك مخلص بعض ممن لا يقول بتكليف الكفار بالفروع لكن لا يخفى حال الحمل وهي على المعنى المتبادر دليل عليه وممن لا يقول به قال : هم مكلفون باعتقاد حقيتها دون إيقاعها والتكليف به بعد الإيمان فمعنى الآية لا يؤتون الزكاة بعد الإيمان ، وقيل : المعنى لا يقرون بفرضيتها ، والقول بتكليف المجنون أقرب من هذا التأويل ، وقيل كلمة (وَيْلٌ) تدل على الذم لا التكليف وهو مذموم عقلا ، وفيه بحث لا يخفى ، هذا وقيل : في (مَمْنُونٍ) لا يمن به عليهم من المن بمعنى تعداد النعم ، وأصل معناه الثقل فأطلق على ذلك لثقله على الممنون عليه ، وعن ابن عباس تفسيره بالمنقوص ، وأنشدوا لذي الأصبع العدواني :

إني لعمرك ما بابي بذي غلق

عن الصديق ولا زادي بممنون

والآية على ما روي عن السدي نزلت في المرضى والهرمى إذا عجزوا عن كمال الطاعات كتب لهم من الأجر في المرض والهرم مثل الذي كان يكتب لهم وهم أصحاء وشبان ولا تنقص أجورهم وذلك من عظيم كرم الله تعالى ورحمته عزوجل (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) إلى آخر الآيات والكلام فيها كثير ومنه ما ليس بالمشهور ولنبدأ بما هو المشهور وبعد التمام نذكر الآخر فنقول : هذا إنكار وتشنيع لكفرهم ، وأن اللام إما لتأكيد الإنكار وتقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة لا لإنكار التأكيد وإما للإشعار بأن كفرهم من البعد بحيث ينكر العقلاء وقوعه فيحتاج إلى التأكيد ، وعلق سبحانه كفرهم بالموصول لتفخيم شأنه تعالى واستعظام كفرهم به عزوجل ، والظاهر أن المراد بالأرض الجسم المعروف ، وقيل : لعل المراد منها ما في جهة السفل من الأجرام الكثيفة واللطيفة من التراب والماء والهواء تجوزا باستعمالها في لازم المعنى على ما قيل بقرينة المقابلة وحملت على ذلك لئلا يخلو الكلام عن التعرض لمدة خلق ما عدا التراب ، ومن خلقها في يومين أنه سبحانه خلق لها أصلا مشتركا ثم خلق لها صورا بها تنوعت إلى أنواع ، واليوم في المشهور عبارة عن زمان كون الشمس فوق الأفق وأريد منه هاهنا الوقت مطلقا لأنه لا يتصور ذلك قبل خلق السماء والكواكب والأرض نفسها ثم إن ذلك الوقت يحتمل أن يكون بمقدار اليوم المعروف ويحتمل أن يكون أقل منه أو أكثر والأقل أنسب بالمقام ، وأيا ما كان فالظاهر أن اليومين ظرفان لخلق الأرض مطلقا من غير توزيع.

وقال بعض الأجلة : إنه تعالى خلق أصلها ومادتها في يوم وصورها وطبقاتها في آخر ، وقال في إرشاد العقل السليم المراد بخلق الأرض تقدير وجودها أي حكم بأنها ستوجد في يومين مثله في قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] والمراد بكفرهم به تعالى إلحادهم في ذاته سبحانه وصفاته عزوجل وخروجهم عن الحق اللازم له جل شأنه على عباده من توحيده واعتقاد ما يليق بذاته وصفاته جل جلاله فلا ينزهونه تعالى عن صفات الأجسام ولا يثبتون له القدرة التامة والنعوت اللائقة به سبحانه وتعالى ولا يعترفون بإرساله تعالى الرسل وبعثه سبحانه الأموات حتى كأنهم يزعمون أنه سبحانه خلق العباد عبثا وتركهم سدى ، وقوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) عطف على تكفرون داخل معه في حكم الإنكار والتوبيخ ، وجعله حالا من الضمير في (خَلَقَ) لا يخفى حاله ، وجمع الأنداد باعتبار ما هو الواقع لا بأن يكون مدار الإنكار هو التعدد أي وتجعلون له أندادا وأكفاء من الملائكة والجن وغيرهم والحال أنه لا يمكن أن يكون له سبحانه ند واحد (ذلِكَ)

٣٥٢

إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في العظمة ، وإفراد الكاف لما أن المراد ليس تعيين المخاطبين ، وهو مبتدأ خبره ما بعده أي ذلك العظيم الشأن الذي فعل ما ذكر في مدة يسيرة (رَبُّ الْعالَمِينَ) أي خالق جميع الموجودات ومربيها دون الأرض خاصة فكيف يتصور أن يكون شيء من مخلوقاته ندا له عزوجل ، وقوله تعالى : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) على ما اختاره غير واحد عطف على (خَلَقَ الْأَرْضَ) داخل في حكم الصلة ، ولا ضير في الفصل بينهما بالجملتين المذكورتين لأن الأولى متحدة بقوله تعالى : ـ تكفرون ـ بمنزلة إعادتها والثانية معترضة مؤكدة لمضمون الكلام فالفصل بهما كلا فصل ، وفيه بلاغة من حيث المعنى لدلالته على أن المعطوف عليه أن (خَلَقَ الْأَرْضَ) كاف في كونه تعالى رب العالمين وأن لا يجعل له ند فكيف إذا انضمت إليه هذه المعطوفات.

وتعقب بأن الاتحاد لا يخرجه عن كونه فاصلا مشوشا للذهن مورثا للتعقيد فالحق والأقرب أن تجعل الواو اعتراضية وكل من الجملتين معترض ليندفع بالاعتراض الاعتراض أو يجعل ابتداء كلام بناء على أنه يصدر بالواو أو يقال : هو معطوف على مقدر كخلق ، واختار هذا الأخير صاحب الكشف فقال : أوجه ما ذكر فيه أنه عطف على مقدر بعد (رَبُّ الْعالَمِينَ) أي خلقها وجعل فيها رواسي فكأنه ساق قوله تعالى : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) أولا ردا عليهم في كفرهم ثم ذكره ثانيا تتميما للقصة وتأكيدا للإنكار ، وليس سبيل قوله سبحانه : (ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) سبيل الاعتراض حتى تجعل الجملة عطفا على الصلة ويعتذر عن تخلل (تَجْعَلُونَ) عطفا على (تكفرون) باتحاده بما قبله على أسلوب (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ٢١٧] وذلك لأنه مقصود لذاته في هذا المساق وهو ركن للإنكار مثل قوله تعالى : (بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ) وأكد على ما لا يخفى على ذي بصيرة.

والرواسي الجبال من رسا إذا ثبت ، والمراد بجعلها إبداعها بالفعل ، وفي الإرشاد المراد تقدير الجعل لا الجعل بالفعل ، وقوله تعالى : (مِنْ فَوْقِها) متعلق بجعل أو بمحذوف صفة لرواسي أي كائنة من فوقها والضمير للأرض وفي ذلك استخدام على ما قيل في المراد منها لأن الجبال فوق الأرض المعروفة لا فوق جميع الأجسام السفلية والبسائط العنصرية ، وفائدة (مِنْ فَوْقِها) الإشارة إلى أنها جعلت مرتفعة عليها لا تحتها كالأساطين ولا مغروزة فيها كالمسامير لتكون منافعها معرضة لأهلها ويظهر للنظار ما فيها من مراصد الاعتبار ومطارح الأفكار ؛ ولعمري إنّ في ارتفاعها من الحكم التكوينية ما تدهش منه العقول ، والآية لا تأبى أن يكون في المغمور من الأرض في الماء جبالا كما لا يخفى والله تعالى أعلم.

(وَبارَكَ فِيها) أي كثر خيرها ، وفي الإرشاد قدر سبحانه أن يكثر خيرها بأن يكثر فيها أنواع النباتات وأنواع الحيوانات التي من جملتها الإنسان (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي بين كميتها وأقدارها ، وقال في الإرشاد : أي حكم بالفعل بأن يوجد فيما سيأتي لأهلها من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة والكلام على تقدير مضاف ، وقيل : لا يحتاج إلى ذلك والإضافة لأدنى ملابسة ، وإليه يشير كلام السدي حيث قال : أضاف الأقوات إليها من حيث هي فيها وعنها برزت ، وفسر مجاهد الأقوات بالمطر والمياه.

وفي رواية أخرى عنه وإليه ذهب عكرمة والضحاك أنها ما خص به كل إقليم من الملابس والمطاعم والنباتات ليكون الناس محتاجين بعضهم لبعض وهو مقتض لعمارة الأرض وانتظام أمور العالم ، ويؤيد هذا قراءة بعضهم «وقسم فيها أقواتها» (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) متعلق بحصول الأمور المذكورة لا بتقديرها على ما في إرشاد العقل السليم ، والكلام على تقدير مضاف أي قدر حصولها في تتمة أربعة أيام ؛ وكان الزجاج يعلقه ـ بقدر ـ كما هو رأي الإمام أبي حنيفة في

٣٥٣

القيد إذا وقع بعد متعاطفات نحو أكرمت زيدا وضربت عمرا ورأيت خالدا في الدار ، والشافعي يقول : المتعقب للجمل يعود إليها جميعا لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات فيكون القيد هنا عائدا إلى جعل الرواسي وما بعده وهو الذي يتبادر إلى فهمي ولا بد من تقدير المضاف الذي سمعت وقد صرح الزجاج بتقديره ولم يقدره الزمخشري وجعل الجار متعلقا بمحذوف وقع خبرا لمبتدإ محذوف أي كل ذلك من خلق الأرض وما بعده كائن في أربعة أيام على أنه فذلكة أي كلام منقطع أتى به لمجمل ما ذكر مفصلا مأخوذة من فذلكة الحساب وقولهم : فذلك كذا بعد استقرار الجمع فما نحن فيه ألحق فيه أيضا جملة من العدد بجملة أخرى وجعله كذلك لا يمنع عطف (جَعَلَ فِيها رَواسِيَ) على مقدر لأن الربط المعنوي كاف. والقول بأن الفذلكة تقتضي التصريح بذكر الجملتين مثل أن يقال : سرت من البصرة إلى واسط في يومين ومن واسط إلى الكوفة في يومين فذلك أربعة أيام وهاهنا لم ينص إلا على أحد المبلغين غير سديد لأن العلم بالمبلغين في تحقيق الفذلكة كاف على أن المراد أنه جار مجراها وإنما لم يجز الحمل على أن جعل الرواسي وما ذكر عقيبه أو تقدير الأقوات في أربعة أيام لأنه يلزم أن يكون خلق الأرض وما فيها في ستة أيام وقد ذكر بعده أن خلق السماوات في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام.

وقد تكرر في كتاب الله تعالى أن خلقهما أعني السماوات والأرض في ستة أيام ، وقيدت الأيام الأربعة بقوله تعالى : (سَواءً) فإنه مصدر مؤكد لمضمر هو صفة لأيام أي استوت سواء أي استواء كما يدل عليه قراءة زيد بن علي ، والحسن وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد وعيسى ويعقوب «سواء» بالجر فإنه صريح في الوصفية وبذلك يضعف القول بكونه حالا من الضمير في (أَقْواتَها) مع قلة الحال من المضاف إليه في غير الصور الثلاث ولزوم تخالف القراءتين في المعنى.

ويعلم من ذلك أنه على قراءة أبي جعفر بالرفع يجعل خبر المبتدأ محذوف أي هو سواء وتجعل الجملة صفة لأيام أيضا لا حالا من الضمير لدفع التجوز فإنه شائع في مثل ذلك مطرد في عرفي العرب والعجم فتراهم يقولون : فعلته في يومين ويريدون في يوم ونصف مثلا وسرت أربعة أيام ويريدون ثلاثة ونصفا مثلا ، ومنه قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) [البقرة : ١٩٧] فإن المراد بالأشهر فيه شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة وليلة النحر وذلك لأن الزائد جعل فردا مجازا.

ثم أطلق على المجموع اسم العدد الكامل فالمعنى هاهنا في أربعة أيام لا نقصان فيها ولا زيادة وكأنه لذلك أوثر ما في التنزيل على أن يقال : وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كما قيل أولا (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) وحاصله أنه لو قيل ذلك لكان يجوز أن يراد باليومين الأولين والأخيرين أكثرهما وإنما لم يقل خلق الأرض في يومين كاملين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كاملين أو خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين تلك أربعة سواء لأن ما أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن طباقا لما عليه التنزيل من مغاصات القرائح ومصاك الركب ليتميز الفاضل من الناقص والمتقدم من الناكص وترتفع الدرجات وتتضاعف المثوبات.

وقال بعض الأجلة : إن في النظم الجليل دلالة أي مع الاختصار على أن اليومين الأخيرين متصلان باليومين الأولين لتبادره من جعلهما جملة واحدة واتصالهما في الذكر ، وقوله تعالى : (لِلسَّائِلِينَ) متعلق بمحذوف وقع خبرا لمبتدإ محذوف أي هذا الحصر في أربعة كائن للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها ، ولا ضير في توالي حذف مبتدأين بناء على ما آثره الزمخشري في الجار والمجرور قبل ، وقيل هو متعلق ـ بقدر ـ السابق أي وقدر فيها أقواتها

٣٥٤

لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين ، وقيل : متعلق بمقدر هو حال من الأقوات ، والكل لا يستقيم إلا على ما آثره الزجاج دون ما آثره الزمخشري لأن الفذلكة كما يعلم مما سبق لا تكون إلا بعد تمام الجملتين فلا يجوز أن تتوسط بين الجملة الثانية وبعض متعلقاتها وقيل متعلق بسواء على أنه حال من الضمير والمعنى مستوية مهيأة للمحتاجين أو به على قراءة الرفع وجعله خبر مبتدأ محذوف أي هو أي أمر هذه المخلوقات ونفعها مستو مهيأ للمحتاجين إليه من البشر وهو كما ترى (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثير في غيرها من قولهم : استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه لا يلوي على غيره.

وذكر الراغب أن الاستواء متى عدي بعلى فبمعنى الاستيلاء كقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] وإذا عدي بإلى فبمعنى الانتهاء إلى الشيء إما بالذات أو بالتدبير ، وعلى الثاني قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) الآية ، وكلام السلف في الاستواء مشهور.

وقد ذكرنا فيما سلف طرفا منه ويشعر ظاهر كلام البعض أن في الكلام مضافا محذوفا أي ثم استوى إلى خلق السماء (وَهِيَ دُخانٌ) أمر ظلماني ولعله أريد به مادتها التي منها تركبت وأنا لا أقول بالجواهر الفردة لقوة الأدلة على نفيها ولا يلزم من ذلك محذور أصلا كما لا يخفى على الذكي المنصف ، وقيل : إن عرشه تعالى كان قبل خلق السماوات والأرض على الماء فأحدث الله تعالى في الماء سخونة فارتفع زبد ودخان فأما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله تعالى فيه اليبوسة وأحدث سبحانه منه الأرض وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله تعالى منه السماوات.

وقيل : كان هناك ياقوتة حمراء فنظر سبحانه إليها بعين الجلال فذابت وصارت ماء فأزبد وارتفع منه دخان فكان ما كان ، وأيا ما كان فليس الدخان كائنا من النار التي هي إحدى العناصر لأنها من توابع الأرض ولم تكن موجودة إذ ذاك على قول كما ستعرف إن شاء الله تعالى ، وعلى القول بالوجود لم يذهب أحد إلى تكون ذلك من تلك النار والحق الذي ينبغي أن لا يلتفت إلى ما سواه أن كره النار التي يزعمها الفلاسفة المتقدمون ووافقهم كثير من الناس عليها ليست بموجودة ولا توقف لحدوث الشهب على وجودها كما يظهر لذي ذهن ثاقب.

(فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا) بما خلقت فيكما من المنافع فليس المعنى على إتيان ذاتهما وإيجادهما بل إتيان ما فيهما مما ذكر بمعنى إظهاره والأمر للتسخير قيل ولا بد على هذا أن يكون المترتب بعد جعل السماوات سبعا أو مضمون مجموع الجمل المذكورة بعد الفاء وإلا فالأمر بالإتيان بهذا المعنى مترتب على خلق الأرض والسماء.

وقال بعض : الكلام على التقديم والتأخير والأصل ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقضاهن سبع سماوات إلخ فقال لها وللأرض ائتيا إلخ وهو أبعد عن القيل والقال إلا أنه خلاف الظاهر أو كونا وأحدثا على وجه معين وفي وقت مقدر لكل منكما فالمراد إتيان ذاتهما وإيجادهما فالأمر للتكوين على أن خلق وجعل وبارك وقدر بالمعنى الذي حكيناه عن إرشاد العقل السليم ويكون هذا شروعا في بيان كيفية التكوين أثر بيان كيفية التقدير ، ولعل تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين وترتيب مبادئ معايشهم قبل خلقهم مما يحملهم على الإيمان ويزجرهم عن الكفر والطغيان ، وخص الاستواء بالسماء مع أن الخطاب المترتب عليه متوجه إليهما معا اكتفاء بذكر تقدير الأرض وتقدير ما فيها كأنه قيل : فقيل لها وللأرض التي قدر وجودها ووجود ما فيها كونا وأحدثا وهذا الوجه هو الذي قدمه صاحب الإرشاد وذكره غيره احتمالا وجعل الأمر عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقا فعليا بطريق التمثيل من غير أن يكون هناك آمر ومأمور كما قيل في قوله تعالى : (كُنْ) وقوله تعالى : (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) تمثيلا لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع والكره لهما ، وهما مصدران

٣٥٥

وقعا موقع الحال أي طائعتين أو كارهتين ، وقوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) أي منقادين تمثيلا لكمال تأثرهما عن القدرة الربانية وحصولهما كما أمرا به وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جاريا على مقتضى الحكمة البالغة فإن الطوع منبئ عن ذلك والكره موهم لخلافه ، وقيل : (طائِعِينَ) بجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء باعتبار كونهما في معرض الخطاب والجواب ولا وجه للتأنيث عند أخبارهم عن أنفسهم لكون التأنيث بحسب اللفظ فقط ، وقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) تفسيرا وتفصيلا لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر وجوابه لا أنه فعل مترتب على تكوينهما أي خلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة في وقتين وضمير (هن) إما للسماء على المعنى لأنه بمعنى السماوات ولذا قيل : هو اسم جمع ـ فسبع ـ حال من الضمير وإما مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز فهو له وإن تأخر لفظا ورتبة لجوازه في التمييز نحو ربه رجلا وهو وجه عربي.

وقال أبو حيان : انتصب (سَبْعَ) على الحال وهو حال مقدرة ، وقال بعضهم : بدل من الضمير ، وقيل : مفعول به والتقدير قضى منهن سبع سماوات ، وقال الحوفي : على أنه مفعول ثان على تضمين القضاء معنى التصيير ولم يذكر مقدار زمن خلق الأرض وخلق ما فيها اكتفاء بذكره في بيان تقديرهما ، وقوله تعالى : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) عطفا على (قضاهن) أي خلق في كل منها ما استعدت له واقتضت الحكمة أن يكون فيها من الملائكة والنيرات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى كما يقتضيه كلام السدي. وقتادة فالوحي عبارة عن التكوين كالأمر مقيد بما قيد به المعطوف عليه من الوقت أو أوحى إلى أهل كل منها أو امره وكلفهم ما يليق بهم من التكاليف كمل قيل : فالوحي بمعناه المشهور من بين معانيه ومطلق عن القيد المذكور أو مقيد به فيما أرى ، واحتمال التقييد والإطلاق جار في قوله تعالى : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي من الكواكب وهي فيها وإن تفاوتت في الارتفاع والانخفاض على ما يقتضيه الظاهر أو بعضها فيها وبعضها فيما فوقها لكنها لكونها كلها ترى متلألئة عليها صح كون تزيينها بها ، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية ، وأما قوله تعالى : (وَحِفْظاً) فهو مفعول مطلق لفعل مقدر معطوف على قوله تعالى : (زَيَّنَّا) أي وحفظناها حفظا ، والضمير للسماء وحفظها إما من الآفات أو من الشياطين المسترقة للسمع وتقدم الكلام في ذلك وقيل الضمير للمصابيح وهو خلاف الظاهر ، وجوز كونه مفعولا لأجله على المعنى أي معطوفا على مفعول له يتضمنه الكلام السابق أي زينة وحفظا ، ولا يخفى أنه تكلف بعيد لا ينبغي القول به مع ظهور الأول وسهولته كما أشار إليه في البحر.

وجعل قوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى جميع الذي ذكر بتفاصيله أي ذلك المذكور (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي البالغ في القدرة والبالغ في العلم ، ثم قال صاحب الإرشاد بعد ما سمعت مما حكي عنه : فعلى هذا لا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب بين إيجاد الأرض وإيجاد السماء وإنما الترتيب بين التقدير أي تقدير إيجاد الأرض وما فيها وإيجاد السماء وأما على تقدير كون الخلق وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظاهرة فهي تدل على تقدم خلق الأرض وما فيها وعليه إطباق أكثر أهل التفسير ، ولا يخفى عليك أن حمل تلك الأفعال على ما حملها عليه خلاف الظاهر كما هو مقر به ، وعدم التعرض لخلق الأرض وما فيها بالفعل كما تعرض لخلق السماوات كذلك لا يلائم دعوى الاعتناء التي أشار إليها في بيان وجه تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها على أن خلق ما فيها بالفعل غير ظاهر من قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) لا سيما وقد ذكرت الأرض قبل مستقلة وذكر ما فيها مستقلا فلا يتبادر من الأرض هنا إلا تلك الأرض المستقلة لا هي مع ما فيها ، وأمر تقدم خلق الأرض وتأخره سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه.

٣٥٦

وقيل : إن إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة وفيه جمع بين معنيين مجازيين حيث شبه البروز من العدم وبسط الأرض وتمهيدها بالإتيان من مكان آخر وفي صحة الجمع بينهما كلام على أن في كون الدحو مؤخرا عن جعل الرواسي كلاما أيضا ستعرفه إن شاء الله تعالى ، وقيل : المراد لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما وأيد بقراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد «آتيا» و «قالتا أتينا» على أن ذلك من المواتاة بمعنى الموافقة ، قال الجوهري : تقول آتيته على ذلك الأمر مواتاة إذا وافقته وطاوعته لأن المتوافقين يأتي كل منهما صاحبه وجعل ذلك من المجاز المرسل وعلاقته اللزوم ، وقال ابن جني : هي المسارعة وهو حسن أيضا ولم يجعله أكثر الأجلة من الإيتاء لأنه غير لائح وجعله ابن عطية منه وقدر المفعول أي أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما وما تقدم أحسن وما أسلفناه في أول الأوجه من الكلام يأتي نحوه هنا كما لا يخفى.

واختلف الناس في أمر التقدم والتأخر في خلق كل من السماوات وما فيها والأرض وما فيها وذلك للآيات والأحاديث التي ظاهرها التعارض فذهب بعض إلى تقدم خلق الأرض لظاهر هذه الآية حيث ذكر فيها أولا خلق الأرض وجعل الرواسي فيها وتقدير الأقوات ثم قال سبحانه : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) إلخ وأبى أن يكون الأمر بالإتيان للأرض أمر تكوين ، ولظاهر قوله تعالى : في آية [البقرة : ٢٩] (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) وأول آية النازعات أعني قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [النازعات : ٢٧ ـ ٣٣] لما أن ظاهره يدل على تأخر خلق الأرض وما فيها من الماء والمرعى والجبال لأن ذلك إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية ، والأرض منصوب بمضمر على شريطة التفسير أي ودحا الأرض بعد رفع السماء وتسويتها دحاها إلخ بأن الأرض منصوب بمضمر نحو تذكر وتدبر أو اذكر الأرض بعد ذلك لا بمضمر على شريطة التفسير أو به وبعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقا من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيها على أنه قاصر في الأول لكنه تتميم كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت وهذا كثير في استعمال العرب والعجم ، وكأن بعد ذلك بهذا المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة والتعظيم ؛ وقد تستعمل ثم أيضا بهذا المعنى وكذا الفاء ، وبعضهم يذهب في الجواب إلى ما قاله ابن عباس.

فقد روى الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال : رأيت أشياء تختلف علي في القرآن قال : هات ما اختلف عليك من ذلك فقال : اسمع الله تعالى يقول : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ) ـ حتى بلغ ـ (طائِعِينَ) فبدأ بخلق الأرض في هذه الآية قبل خلق السماء ثم قال سبحانه في الآية الأخرى (أَمِ السَّماءُ بَناها) ـ ثم قال ـ (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) فبدأ جل شأنه بخلق السماء قبل خلق الأرض. فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أما خلق الأرض في يومين فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخانا فسواهن سبع سماوات في يومين بعد خلق الأرض ، وأما قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) يقول جعل فيها جبلا وجعل فيها نهرا وجعل فيها شجرا وجعل فيها بحورا انتهى ، قال الخفاجي : يعني أن قوله تعالى : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها) بدل أو عطف بيان لدحاها بمعنى بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها في هذه الآية ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر خلق ما فيها وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإن البعيدة كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير وقيده المذكور كما لو قلت : بعثت إليك رسولا ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعث الثاني وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر عنه فجعل نفسه متأخرا. فإن قلت : كيف هذا مع

٣٥٧

ما رواه ابن جرير وغيره وصححوه عن ابن عباس أيضا أن اليهود أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال عليه الصلاة والسلام : «خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة فقال تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة» فإنه يخالف الأول لاقتضائه خلق ما في الأرض من الأشجار والأنهار ونحوها قبل خلق السماء قلت : الظاهر حمله على أنه خلق فيما ذكر مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور العمران والخراب قبل خلق السماء فعطفه عليه قرينة لذلك فلا تعارض بين الحديثين كما أنه ليس بين الآيات اختلاف انتهى كلام الخفاجي ، ولا يخفى أن قول ابن عباس السابق نص في أن جعل الجبال في الأرض بعد خلق السماء وهو ظاهر آية النازعات إذا كان بعد ذلك معتبرا في قوله تعالى : (وَالْجِبالَ أَرْساها) [النازعات : ٣٢] وآية حم السجدة ظاهرة في أن جعل الجبال قبل خلق السماوات ، ثم إن رواية ابن جرير المذكورة عنه مخالفة لخبر مسلم عن أبي هريرة قال : «أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي فقال : خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل» واستدل في شرح المهذب بهذا الخبر على أن السبت أول أيام الأسبوع دون الأحد ونقله عن أصحابه الشافعية وصححه الأسنوي وابن عساكر ، وقال العلامة ابن حجر : هو الذي عليه الأكثرون وهو مذهبنا يعني الشافعية كما في الروضة وأصلها بل قال السهيلي في روضه لم يقل بأن أوله الأحد إلا ابن جرير ، وجرى النووي في موضع على ما يقتضي أن أوله الأحد فقال : في يوم الاثنين سمي به لأنه ثاني الأيام. وأجيب بأنه جرى في توجيه التسمية المكتفي فيه بأدنى مناسبة على القول الضعيف.

وانتصر القفال من الشافعية لكون أوله الأحد بأن الخبر المذكور تفرد به مسلم وقد تكلم عليه الحفاظ على ابن المدائني والبخاري وغيرهما وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه منه ولكن اشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعا. وأجيب بأن من حفظ الرفع حجة على من لم يحفظه والثقة لا يرد حديثه بمجرد الظن ولأجل ذلك أعرض مسلم عما قاله أولئك واعتمد الرفع وخرج طريقه في صحيحه فوجب قبولها. وذكر أحمد بن أحمد المقرئ المالكي أن الإمام أحمد رواه أيضا في مسنده عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ شبك بيدي أبو القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «خلق الله تعالى الأرض يوم السبت» الحديث ، وفي الدر المنثور عدة أخبار عن ابن عباس ناطقة بأن مبدأ خلق الأرض كان يوم الأحد ، وفيه أيضا أخرج ابن جرير عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال : «جاء اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد أخبرنا ما خلق الله تعالى من الخلق في هذه الأيام الستة فقال : خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء وخلق السماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة وخلق في أول ساعة الآجال وفي الثانية الآفة وفي الثالثة آدم قالوا : صدقت إن تممت فعرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله تعالى (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ).

واليهود قاطبة على أن أول الأسبوع يوم الأحد احتجاجا بما يسمونه التوراة وظاهره الاشتقاق يقتضي ذلك.

ومن ذهب إلى أن الأول السبت قال : لا حجة في ذلك لأن التسمية لم تثبت بأمر من الله تعالى ولا من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلعل اليهود وضعوا أسماء الأسبوع على ما يعتقدون فأخذتها العرب عنهم ولم يرد في القرآن إلا الجمعة والسبت

٣٥٨

وليسا من أسماء العدد على أن هذه التسمية لو ثبتت عن العرب لم يكن فيها دليل لأن العرب تسمي خامس الورد ربعا وتاسعه عشرا وهذا هو الذي أخذ منه ابن عباس قوله الذي كاد ينفرد به أن يوم عاشوراء هو يوم تاسع المحرم وتاسوعاء هو يوم ثامنه ، ولا يخفى أن الجواب الأول خارج عن الإنصاف فلأيام الأسبوع عند العرب أسماء أخر فيها ما يدل على ذلك أيضا ، وهي أول وأهون وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشيار ، ولا يسوغ لمنصف أن يظن أن العرب تبعوا في ذلك اليهود وجاء الإسلام وأقرهم على ذلك ، وليت شعري إذا كانت تلك الأسماء وقعت متابعة لليهود فما الأسماء الصحيحة التي وضعها واضع لغة العرب غير تابع فيها لليهود ، والجواب الثاني خلاف الظاهر جدا.

ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها واختاره الإمام ونسبه بعضهم إلى المحققين من المفسرين وأوّلوا الآية بأن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد بل هو عبارة عن التقدير ، والمراد به في حقه تعالى حكمه تعالى أن سيوجد وقضاؤه عزوجل بذلك مثله في قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] ولا بد على هذا من تأويل (جَعَلَ) و (بارَكَ) بنحو ما سمعت عن الإرشاد ، وجوز أن يبقى خلق وكذا ما بعده على ما يتبادر منه ويكون الكلام على إرادة الإرادة كما في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٦] أي بالذي أراد خلق الأرض في يومين وأراد أن يجعل فيها رواسي وقالوا : إن ثم للتفاوت في الرتبة المنزلة منزلة التراخي الزماني كما في قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧] فإن اسم كان ضمير يرجع إلى فاعل (فَلَا اقْتَحَمَ) [البلد : ١١] وهو الإنسان الكافر وقوله سبحانه : (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) [البلد : ١٣ ـ ١٦] تفسير للعقبة ، والترتيب الظاهري يوجب تقديم الإيمان عليه لكن ثم هنا للتراخي في الرتبة مجازا ، وفي الكشف أن ما نقله الواحدي لا إشكال فيه ويتعين (ثُمَ) في هذه السورة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما جاء من أن الابتداء من يوم الأحد كان ، وخلق السماوات وما فيها من يوم الخميس والجمعة وفي آخر يوم الجمعة تم خلق آدم عليه‌السلام ، وفي البخر الذي نقوله : إن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني وإن (ثُمَ) لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان والمهلة كأنه قال سبحانه بالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء فلا تعرض في الآية لترتيب الوقوع الترتيب الزماني ، ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض استؤنف الإخبار فيه بثم فهي لترتيب الأخبار كما في قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) بعد قوله سبحانه : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) وقوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الأنعام : ١٥٤] بعد قوله عزوجل : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) [الأنعام : ١٥١] ويكون قوله جل شأنه (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ) بعد إخباره تعالى أخبر به تصويرا لخلقهما على وفق إرادته تعالى كقولك أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت له إنك عالم صالح فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له فكذلك أخبر سبحانه بأنه خلق كيت وكيت فأوجد ذلك إيجادا لم يتخلف عن إرادته انتهى ، وظاهر ما ذكره في قوله تعالى : (فَقالَ لَها) إلخ أن القول بعد الإيجاد ، وقال بعض الأجلة يجوز أن يكون ذلك للتمثيل أو التخييل للدلالة على أن السماء والأرض محلا قدرته تعالى يتصرف فيهما كيف يشاء إيجادا وإكمالا ذاتا وصفة ويكون تمهيدا لقوله سبحانه : (فَقَضاهُنَ) أي لما كان الخلق بهذه السهولة قضى السماوات وأحكم خلقها في يومين فيصح هذا القول قبل كونهما وبعده ، وفي أثنائه إذ ليس الغرض دلالة على وقوع.

وذكر في نكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الذكر هاهنا وفي سورة البقرة على خلق السماوات والعكس في

٣٥٩

سورة النازعات أنها يجوز أن يكون أن المقام في الأوليين مقام الامتنان وتعداد النعم فمقتضاه تقديم ما هو أقرب النعم إلى المخاطبين والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها ، وروي عن الحسن أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض ، وذلك قوله تعالى : (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء : ٣٠] الآية.

وجعله بعضهم دليلا على تأخر دحو الأرض عن خلق السماء ، وفي الإرشاد أنه ليس نصا في ذلك فإن بسط الأرض معطوف على إصعاد الدخان وخلق السماء بالواو فلا دلالة في ذلك على الترتيب قطعا ، وفي الكشف أنه يدل على أن كون السماء دخانا سابق على دحو الأرض وتسويتها بل ظاهر قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) يدل على ذلك ، وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال ذويها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات. واختار بعضهم أن خلق المادة البعيدة للسماء والأرض كان في زمان واحد وهي الجوهرة النورية أو غيرها وكذا فصل مادة كل عن الأخرى وتمييزها عنها أعني الفتق وإخراج الأجزاء اللطيفة وهي المادة القريبة للسماوات وإبقاء الكثيفة وهي المادة القريبة للأرض فإن فصل اللطيف عن الكثيف يستلزم فصل الكثيف عنه وبالعكس ، وأما خلق كل على الهيئة التي يشاهد بها فليس في زمان واحد بل خلق السماوات سابق في الزمان على خلق الأرض ، ولا ينبغي لأحد أن يرتاب في تأخر خلق الأرض بجميع ما فيها عن خلق السماوات كذلك ، ومتى ساغ حمل (ثُمَ) للترتيب في الأخبار هان أمر ما يظن من التعارض في الآيات والأخبار هذا والله تعالى أعلم. ولبعض المتأخرين في الآية كلام غريب دفع به ما يظن من المنافاة بين الآيات الدالة على أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الفرقان : ٥٩ ، السجدة : ٤] وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) [ق : ٣٨] وهذه الآية التي يخيل منها أن خلق ذلك في ثمانية أيام وهو أن للشيء حكما من حيث ذاته ونفسه وحكما من حيث صفاته وإضافاته ونسبه وروابطه واقتضاءاته ومتمماته وسائر ما يضاف إليه ولكل من ذلك أجل معدود وحد محدود يظهره سبحانه في ذلك بالأزمان الخاصة به والأوقات المؤجلة له وهي متفاوتة مختلفة ، والله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في حد ذاتها في ستة أيام ، وذلك عند نشئها في ذاتها من خلقه سبحانه إياها من البحر الحاصل من ذوبان الياقوتة الحمراء لما نظر إليها جل شأنه بنظر الهيبة فتموج إلى أن حصل منه الزبد وثار الدخان فخلق السماء من الدخان والأرض والزبد والنجوم من الشعلات المستجنة في زبد البحر والنار والهواء والماء من جسم أكثف من الدخان وألطف من الزبد ، والسماء حقيقة وحدانية في ذاتها ولها صلاحية التعدد والكثرة على حسب بدو شأنها في علم الغيب فتعينها بالسبعة على الجهة الخاصة ووقوع كل سماء في محلها الخاص مترتبا عليها حكم خاص يحتاج إلى جعل غير جعلها في نفسها وهو المسمى بالقدر وتعيين الحدود التي هي الهندسة الإيجادية ، وهذا الجعل متفرع على الخلق ونحوه غير نحوه قطعا كما يشعر به قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢] وقد يسمى بالتسوية وبالقضاء أيضا كما في قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة : ٢٩] وقوله تعالى هنا (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) ـ إلى قوله سبحانه ـ (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) وأما تقدير أقوات الأرض وإعطاء البركة وتوليد المتولدات فلها أيام معدودات وحدود محدودات لا تدخل في أيام خلق السماوات والأرض لأنها لإيجاد أنفسها ، فالأيام الأربعة المذكورة في الآية إنما هي

٣٦٠