روح المعاني - ج ١٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

جدا بالنسبة إلى الآخرين (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) نقل الشعراني أن خلافته عليه‌السلام وكذا خلافة آدم كانت في عالم الصور وعالم الأنفس المدبرة لها دون العالم النوراني فإن لكل شخص من أهله مقاما معلوما عينه له ربه سبحانه ، وللشيخ الأكبر قدس‌سره كلام طويل في الخلافة ، ويحكى عن بعض الزنادقة أن الخليفة لا يكتب عليه خطيئة ولا هو داخل في ربقة التكليف لأن مرتبته مرتبة مستخلفة وهو كفر صراح ، وفرق العلماء بين الخليفة والملك.

أخرج الثعلبي من طريق العوام بن حوشب قال : حدثني رجل من قومي شهد عمر رضي الله تعالى عنه أنه سأل طلحة والزبير وكعبا وسلمان رضي الله تعالى عنهم ما الخليفة من الملك؟ فقال طلحة والزبير : ما ندري فقال سلمان : الخليفة الذي يعدل في الرعية ويقسم بينهم بالسوية ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله ويقضي بكتاب الله تعالى فقال كعب : ما كنت أحسب أحدا يعرف الخليفة من الملك غيري فقوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) كالتفسير لهذه الخلافة وفيه إشارة إلى ذم الهوى ، وفي بعض الآثار ما عبد إله في الأرض أبغض على الله تعالى من الهوى فهو أعظم الأصنام.

وقوله تعالى : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) فيه إشارة بناء على المشهور في القصة إلى أن كل محبوب سوى الله تعالى إذا حجبك عن الله تعالى لحظة يلزمك أن تعالجه بسيف نفى لا إله إلا الله وقد سمعت استدلال الشبلي بذلك على تخريق ثيابه وما قيل فيه قال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) لم يقصد بذلك السؤال إلا ما يوجب مزيد القرب إليه عزوجل وليس فيه ما يخل بكماله عليه‌السلام وإلا لعوتب عليه ، وقد تقدم الكلام في ذلك ومنه يعلم كذب ما في الجواهر والدرر نقلا عن الخواص قال : بلغنا أن النملة التي كلمت سليمان عليه‌السلام قالت : يا نبي الله أعطني الأمان وأنا أنصحك بشيء ما أظنك تعلمه فأعطاها الأمان فأسرت إليه في أذنه وقالت : إني أشم من قولك (هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) رائحة الحسد فتغير سليمان وأغير لونه ثم قالت له : قد تركت الأدب مع الله تعالى من وجوه ، منها عدم خروجك من شح النفس الذي نهاك الله تعالى عنه إلى حضرة الكرم الذي أمرك الله تعالى به ، ومنها مبالغتك في السؤال بأن لا يكون ذلك العطاء لأحد من عبيد سيدك من بعدك فحجرت على الحق تعالى بأن لا يعطي أحدا بعد موتك ما أعطاه كل ذلك لمبالغتك في شدة الحرص ، ومنها طلبك أن يكون ملك سيدك لك وحدك تقول هب لي وغاب عنك أنك عبد له لا يصح أن تملك معه شيئا مع أن فرحك بالعطاء لا يكون إلا مع شهود ملكك له وكفى بذلك جهلا ثم قالت له : يا سليمان وما ذا ملكك الذي سألته أن يعطيكه فقال : خاتمي قالت : أف لملك يحويه خاتم انتهى ، ويدل على كذب ما بلغه وجوه أيضا لا تخفى على الخواص والعجب من أنها خفيت على الخواص ، وقوله تعالى : (يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) يشير إلى فضل آدم عليه‌السلام وأنه أكمل المظاهر ، واليد أن عندهم إشارة إلى صفتي اللطف والقهر وكل الصفات ترجع إليهما ، ولا شك عندنا في أنه أفضل من الملائكة عليهم‌السلام. وذكر الشعراني أنه سأل الخواص عن مسألة التفضيل الذي أشرنا إليه فقال : الذي ذهب إليه جماعة من الصوفية أن التفاضل إنما يصح بين الأجناس المشتركة كما يقال أفضل الجواهر الياقوت وأفضل الثياب الحلة وأما إذا اختلفت الأجناس فلا تفاضل فلا يقال أيما أفضل الياقوت أم الحلة؟ ثم قال : والذي نذهب إليه أن الأرواح جميعها لا يصح فيها تفاضل إلا بطريق الأخبار عن الله تعالى فمن أخبره الحق تعالى بذلك فهو الذي حصل له العلم التام وقد تنوعت الأرواح إلى ثلاثة أنواع. أرواح تدبر أجسادا نورية وهم الملأ الأعلى. وأرواح تدبر أجسادا نارية وهم الجن وأرواح تدبر أجسادا ترابية وهم البشر ، فالأرواح جميعها ملائكة

٢٢١

حقيقة واحدة وجنس واحد فمن فاضل من غير علم إلهي فليس عنده تحقيق فإنّا لو نظرنا التفاضل من حيث النشأة مطلقا قال العقل بتفضيل الملائكة ولو نظرنا إلى كمال النشأة وجمعيتها حكمنا بتفضيل البشر ، ومن أين لنا ركون إلى ترجيح جانب على آخر مع أن الملك جزء من الإنسان من حيث روحه لأن الأرواح ملائكة فالكل من الجزء والجزء من الكل ، ولا يقال أيما أفضل جزء الإنسان أو كله فافهم انتهى ، والكلام في أمر التفضيل طويل محله كتب الكلام ثم أن حظ العارف من القصص المذكورة في هذه السورة الجليلة لا يخفى إلا على ذوي الأبصار الكليلة نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم كتابه بحرمة سيد أنبيائه وأحبابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وعظم وكرم.

٢٢٢

سورة الزّمر

وتسمى سورة الغرف كما في الإتقان والكشاف لقوله تعالى : (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) [الزمر : ٢٠] أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنها أنزلت بمكة ولم يستثن ، وأخرج النحاس عنه أنه قال : نزلت سورة الزمر بمكة سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة في وحشي قاتل حمزة (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣] إلى ثلاث آيات ، وزاد بعضهم (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) [الزمر : ١٠] الآية ذكره السخاوي في جمال القراء وحكاه أبو حيان عن مقاتل ، وزاد بعض (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر : ٢٣] حكاه ابن الجوزي ، والمذكور في البحر عن ابن عباس استثناء (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) وقوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) إلخ ، وعن بعضهم إلا سبع آيات من قوله سبحانه (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) إلى آخر السبع وأيها خمس وسبعون في الكوفي وثلاث في الشامي واثنتان في الباقي وتفصيل الاختلاف في مجمع البيان وغيره ، ووجه اتصال أولها بأخر صاد انه قال سبحانه هناك : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) [ص : ٨٧] وقال جل شأنه هنا (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) [الزمر : ١] وفي ذلك كمال الالتئام بحيث لو أسقطت البسملة لم يتنافر الكلام ثم إنه تعالى ذكر آخر (ص) قصة خلق آدم وذكر في صدر هذه قصة خلق زوجه منه وخلق الناس كلهم منه وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق ثم ذكر أنهم ميتون ثم ذكر سبحانه القيامة والحساب والجنة والنار وختم بقوله سبحانه: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الزمر : ٧٥] فذكر جل شأنه أحوال الخلق من المبدأ إلى آخر المعاد متصلا بخلق آدم عليه‌السلام المذكور في السورة قبلها وبين السورتين أوجه أخر من الربط تظهر بالتأمل فتأمل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ(٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ

٢٢٣

مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٧)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ) قال الفراء والزجاج : هو مبتدأ وقوله تعالى :

(مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) خبره أو خبر مبتدأ محذوف أي هذا المذكور تنزيل ، و (مِنَ اللهِ) متعلق بتنزيل والوجه الأول أوجه كما في الكشف ، والكتاب القرآن كله وكأن الجملة عليه تعليل لكونه ذكرا للعالمين أو لقوله تعالى : (لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [ص : ٨٨] والظاهر أن المراد بالكتاب على الوجه الثاني السورة لكونها على شرف الذكر فهي أقرب لاعتبار الحضور الذي يقتضيه اسم الإشارة فيها ، و (تَنْزِيلُ) بمعنى منزل أو قصد به المبالغة ، وقدر أبو حيان المبتدأ هو عائدا على الذكر في (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) وجعل الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل هذا الذكر ما هو فقيل هو تنزيل الكتاب والكتاب عليه القرآن وفي (تَنْزِيلُ) الاحتمالان ، وجوز على احتمال كونه خبر مبتدأ محذوف كون (مِنَ اللهِ) خبرا ثانيا وكونه خبر مبتدأ محذوف أيضا أي هذا أو هو تنزيل الكتاب هذا أو هو من الله وكونه حالا من (الْكِتابِ) وجاز الحال من المضاف إليه لأن المضاف مما يعمل عمل الفعل وكونه حالا من الضمير المستتر في (تَنْزِيلُ) على تقدير كونه بمعنى منزل وكونه حالا من (تَنْزِيلُ) نفسه والعامل فيه معنى الإشارة. وتعقب بأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هي فيه محذوفا ولذلك ردوا على المبرد قوله في بيت الفرزدق : وإذ ما مثلهم بشر أن مثلهم منصوب على الحالية وعامله الظرف المقدر أي ما في الوجود بشر مماثلا لهم بأن الظرف عامل معنوي لا يعمل محذوفا ، وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي وعيسى «تنزيل» بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ والزم. والتعرض لوصفي العزة والحكمة للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب بجريان أحكامه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مدافع ولا ممانع وبابتناء جميع ما فيه على أساس الحكم الباهرة ، وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) بيان لكونه نازلا بالحق وتوطئة لما يذكر بعد. وفي إرشاد العقل السليم أنه شروع في بيان المنزل إليه وما يجب عليه أثر بيان شأن المنزل وكونه من عند الله تعالى ، وأيا ما كان لا يتكرر مع ما تقدم ، نعم كان الظاهر على تقدير كون المراد بالكتاب هناك القرآن الإتيان بضميره هاهنا إلا أنه أظهر قصدا إلى تعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنه.

وقال ابن عطية : الذي يظهر لي أن الكتاب الأول عام لجميع ما تنزل من عند الله تعالى والكتاب الثاني خاص بالقرآن فكأنه أخبر أخبارا مجردا أن الكتب الهادية الشارعة تنزيلها من الله عزوجل وجعله توطئة لقوله سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) اه وهو كما ترى ، والباء متعلقة بالإنزال وهي للسببية أي أنزلناه بسبب الحق أي إثباته وإظهاره أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وهي للملابسة أي أنزلناه ملتبسا بالحق والصواب ، والمراد أن كل ما فيه موجب للعمل والقبول حتما ، وجوز كون المحذوف حالا من الفاعل أي أنزلناه ملتبسين بالحق أي محقين في ذلك ، والفاء في قوله تعالى : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) لترتيب الأمر بالعبادة على إنزال الكتاب إليه عليه الصلاة والسلام بالحق أي فاعبده تعالى ممحضا له الدين من شوائب الشرك والرياء حسبما بين في تضاعيف ما أنزل إليك ، والعدول إلى

٢٢٤

الاسم الجليل مما ملاءمة هذا الأمر أتم ملاءمة. وقرأ ابن أبي عبلة «الدين» بالرفع كما رواه الثقات فلا عبرة بإنكار الزجاج ، وخرج ذلك الفراء على أنه مبتدأ خبره الظرف المقدم للاختصاص أو لتأكيده. واعترض بأنه يتكرر مع قوله تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) وأجيب بأن الجملة الأولى استئناف وقع تعليلا للأمر بإخلاص العبادة وهذه الجملة تأكيد لاختصاص الدين به تعالى أي ألا هو سبحانه الذي يجب أن يخص بإخلاص الدين له تعالى لأن المتفرد بصفات الألوهية التي من جملتها الاطلاع على السرائر والضمائر ، وهي على قراءة الجمهور استئناف مقرر لما قبله من الأمر بإخلاص الدين له عزوجل ووجوب الامتثال به ، وفي الإتيان بألا واسمية الجملة وإظهار الجلالة والدين ووصفه بالخالص والتقديم المفيد للاختصاص مع اللام الموضوعة له عند بعض ما لا يخفى من الدلالة على الاعتناء بالدين الذي هو أساس كل خير ، قيل ومن هنا يعلم أنه لا بأس بجعل الجملة تأكيدا للجملة قبلها على القراءة الأخيرة وإليه ذهب صاحب التقريب وقال : بتغاير دلالتي الجملتين إجمالا وتفصيلا. ورد بذلك زعم إباء هذه الجملة صحة تخريج الفراء.

والحق أنه تخريج لا يعول عليه ، ففي الكشف لما كان قوله تعالى : (لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) بمنزلة التعليل لقوله سبحانه : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً) كان الأصل أن يقال فتنة الدين الخالص ثم ترك إلى (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) مبالغة لما عرفت من أنه أقوى الوصلين ثم صدر بحرف التنبيه زيادة على زيادة وتحقيقا بأن غير الخالص كالعدم فلو قدر الاستئناف التعليلي أولا من دون الوصف المطلوب الذي هو الأصل في العلة ومن دون حرف التنبيه للفائدة المذكورة كان كلاما متنافرا ويلزم زيادة التنافر من وصف الدين بالخلوص ثانيا لدلالته على العي في الأول إذ ليس فيه ما يرشد إلى هذا الوصف حتى يجعل من باب الإجمال والتفصيل ؛ وأما جعله تأكيدا فلا وجه له للوصف المذكور ولأن حرف التنبيه لا يحسن موقعها حينئذ فإنها يؤتى بها في ابتداء الاستئناف المضاد لقصد التأكيد اه.

ونص العلامة الثاني أيضا على أن كون الجملة الثانية تأكيدا للأولى فاسد عند من له معرفة بأساليب الكلام وصياغات المعاني ففيها ما ينبو عنه مقام التأكيد ولا يكاد يقترن به المؤكد لكن في قول صاحب الكشف : ليس في الأول ما يرشد إلى وصف الخلوص حتى يجعل من باب الإجمال والتفصيل بحثا إذ لقائل أن يقول : إن (لَهُ الدِّينَ) على معنى الدين الكامل ومن المعلوم أن كمال الدين بكونه خالصا فيكون في الأول ما يرشد إلى هذا الوصف نعم وهن ذلك التخريج على حاله قبل هذا البحث أم لم يقبل.

وقال أبو حيان : الدين مرفوع على أنه فاعل بمخلصا الواقع حالا والراجع لذي الحال محذوف على رأي البصريين أي الدين منك أو تكون أل عوضا من الضمير أي دينك وعليه يكون وصف الدين بالإخلاص وهو وصف صاحبه من باب الإسناد المجازي كقولهم شعر شاعر ، وفي الآية دلالة على شرف الإخلاص بالعبادة وكم من آية تدل على ذلك.

وأخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلا قال : يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الأجر والذكر فهل لنا من أجر؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا قال : يا رسول الله إنا نعطي التماس الذكر فهل لنا أجر؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى لا يقبل إلا من أخلص له» ثم تلا رسول الله عليه الصلاة والسلام هذه الآية (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) ويؤيد هذا أن المراد بالدين في الآية الطاعة لا كما روي عن قتادة من أنه شهادة أن لا إله إلا الله وعن الحسن من أنه الإسلام ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) إلخ تحقيق لحقية التوحيد ببطلان الشرك ليعلم منه حقية الإخلاص وبطلان تركه وفيه من ترغيب المخلصين وترهيب غيرهم ما لا يخفى ، والموصول عبارة عن المشركين من

٢٢٥

قريش وغيرهم كما روي عن مجاهد ، وأخرج جويبر عن ابن عباس أن الآية نزلت في ثلاثة أحياء عامر وكنانة وبني سلمة كانوا يعبدون الأوثان ويقولون : الملائكة بنات الله فالموصول إما عبارة عنهم أو عبارة عما يعمهم وأضرابهم من عبدة غير الله سبحانه وهو الظاهر فيكون الأولياء عبارة عن كل معبود باطل كالملائكة وعيسى عليهم‌السلام والأصنام ، ومحل الموصول رفع على الابتداء خبره الجملة الآتية المصدرة بأن ، وقوله تعالى : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) حال بتقدير القول من واو (اتَّخَذُوا) مبينة لكيفية اشراكهم وعدم خلوص دينهم أي اتخذوا قائلين ذلك ، وجوز أن يكون القول المقدر قالوا ويكون (١) بدلا من (اتَّخَذُوا) وأن يكون المقدر ذلك ويكون هو الخبر للموصول والجملة الآتية استئناف بياني كأنه قيل بعد حكاية ما ذكر : فما ذا يفعل الله تعالى بهم؟ فقيل إن الله يحكم بينهم إلخ ، والوجه الأول هو المنساق إلى الذهن ، نعم قرأ عبد الله وابن عباس ومجاهد وابن جبير قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ) الآية لكن لا يتعين فيه البدلية أو الخبرية ، وقد اعترض البدلية صاحب الكشف بأن المقام ليس مقام الإبدال إذ ليس فيه إعادة الحكم لكون الأول غير واف بالغرض اعتناء بشأنه لا سيما وحذف البدل ضعيف بل ينافي في الغرض من الإتيان به ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل و (زُلْفى) مصدر مؤكد على غير لفظ المصدر أي والذين لم يخلصوا العبادة لله تعالى بل شابوها بعبادة غيره سبحانه قائلين ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تعالى تقريبا.

وقرئ «نعبدهم» بضم النون اتباعا لحركة الباء (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي وبين خصمائهم الذين هم المخلصون للدين وقد حذف لدلالة الحال عليه كما في قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] على أحد الوجهين أي بين أحد منهم وبين غيره ، وعليه قول النابغة :

فما كان بين الخير لو جاء سالما

أبو حجر إلا ليال قلائل

أي بين الخير وبيني ، وقيل الضمير للفريقين المتخذين والمتخذين وكذا الكلام في ضميري الجمع في قوله تعالى : (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) والمعنى على الأول أنه تعالى يفصل الخصومة بين المشركين والمخلصين فيما اختلفوا فيه من التوحيد والإشراك وادعى كل صحة ما اتصف به بإدخال المخلصين الموحدين الجنة وإدخال المشركين النار أو يميزهم سبحانه تمييزا يعلم منه حال ما تنازعوا فيه بذلك ، والمعنى على الثاني أنه تعالى يحكم بين العابدين والمعبودين فيما يختلفون حيث يرجو العابدون شفاعتهم وهم يتبرءون منهم ويلعنونهم قالا أو حالا بإدخال من له أهلية دخول الجنة من المعبودين الجنة وإدخال العابدين ومن ليس له أهلية دخول الجنة ممن عبد كالأصنام النار ، وإدخال الأصنام النار ليس لتعذيبها بل لتعذيب عبدتها بها ، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يضعفه.

وأجاز الزمخشري كون الموصول السابق عبارة عن المعبودين على حذف العائد إليه وإضمار المشركين من غير ذكر تعويلا على دلالة السياق عليهم ويكون التقدير والذين اتخذهم المشركون أولياء قائلين ما نعبدهم إلا ليقربونا عند الله زلفى إن الله يحكم بينهم وبين عبدتهم فيما الفريقان فيه يختلفون حيث يرجو العبدة شفاعتهم وهم يلعنوهم بإدخال ما هو منهم أهل للجنة الجنة وإدخال العبدة مع أصنامهم النار. وتعقب بأنه بعد الإغضاء عما فيه من التعسفات بمعزل من السداد كيف لا وليس فما ذكر من طلب الشفاعة واللعن مادة يختلف فيها الفريقان اختلافا محوجا إلى الحكم والفصل فإنما ذاك ما بين فريقي الموحدين والمشركين في الدنيا من الاختلاف في الدين الباقي إلى يوم القيامة فتدبر ولا تغفل.

__________________

(١) قوله «بدلا» من اتخذوا قال في البحر : كأنه بدل اشتمال اه مؤلف.

٢٢٦

وقرئ «ما نعبدكم إلا لتقربونا» حكاية لما خاطبوا به آلهتهم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) أي لا يوفق للاهتداء الذي هو طريق النجاة عن المكروه والفوز بالمطلوب (مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) في حد ذاته وموجب سيئ استعداده لأنه غير قابل للاهتداء والله عزوجل لا يفيض على القوابل إلا حسب القابليات كما يشير إليه قوله سبحانه : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] وقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) [الإسراء : ٨٤] وقوله عزوجل : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [النحل : ١١٨] وهذا هو الذي حتم عليه جل شأنه لسيئ استعداده بالموافاة على الضلال قاله بعض الأجلة ، وقال الطبرسي : لا يهدي إلى الجنة أي يوم القيامة من هو كاذب كفار في الدنيا.

وقال ابن عطية : المراد لا يهدي الكاذب الكافر في حال كذبه وكفره وهذا ليس بشيء أصلا ، والمراد ممن هو كاذب كفار قيل من يعم أولئك المحدث عنهم وغيرهم ، وقيل : أولئك المحدث عنهم وكذبهم في دعواهم استحقاق غير الله تعالى للعبادة أو قولهم في بعض من اتخذوهم أولياء من دون الله إنهم بنات الله سبحانه أو أن المتخذ ابن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فمن هو كاذب من الظاهر الذي أقيم مقام المضمر على معنى أن الله تعالى لا يهديهم أي المتخذين تسجيلا عليهم بالكذب والكفر وجعل تمهيدا والكفر وجعل تمهيد لما بعده ، وقال بعضهم : الجملة تعليل للحكم.

وقرأ أنس بن مالك والجحدري والحسن والأعرج وابن يعمر «كذاب كفار» وقرأ زيد بن علي «كذوب كفور» وحملوا الكاذب هنا على الراسخ في الكذب لهاتين القراءتين وكذا حملوا الكفر على كفر النعم دون الكفر في الاعتقاد لقراءة زيد ، وذكر الإمام فيه احتمالين.

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) استئناف مسوق لتحقيق الحق وإبطال القول بأن الملائكة بنات الله وعيسى ابنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقه سبحانه على الإطلاق ليندرج فيه استحالة ما قيل اندراجا أوليا ، وحاصل المعنى لو أراد الله سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ لكن لا يجوز للباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض الممكنات على بعض.

وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الألوهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ ثم حذف هذا الجواب وجيء بدله لاصطفى تنبيها على أن الممكن هذا لا الأول وإنه لو كان هذا من اتخاذ اتخاذ الولد في شيء لجاز الولد عليه سبحانه وتعالى شأنه عن ذلك فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم وإثبات الملزوم دون صعوبة ؛ ويجوز أن يكون المراد لو أراد الله أن يتخذ لامتنع ولم يصح لكن على إرادة نفي الصحة على كل تقدير من تقديري الإرادة وعدمها من باب ـ لو لم يخف الله لم يعصه ـ فلا ينفي الثاني إذ ذاك ولا يحتاج إلى بيان الملازمة وإذا امتنع ذلك فالممكن الاصطفاء وقد اصطفى سبحانه من مخلوقاته من شاء كالملائكة وعيسى وذهب عليكم أن الاصطفاء ليس باتخاذ ، والجواب على هذا الوجه أيضا محذوف أقيم مقامه ما يفيد زيادة مبالغة ، وإنما لم يجعل لاصطفى هو الجواب عليه لصيرورة المعنى حينئذ لو أراد اتخاذ الولد لاصطفى ولو لم يرد لاصطفى من طريق الأولى وحينئذ يكون إثبات الاصطفاء هو المطلوب من الإيراد كما أن التمدح بنفي العصيان في مثال الباب هو المطلوب وليس الكلام فيه ، وعلى الوجهين هو من أسلوب :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وجوز أن يكون المعنى في الآية لو أراد الله تعالى أن يتخذ ولدا لجعل المخلوق ولدا إذ لا موجود سواه إلا وهو

٢٢٧

مخلوق له تعالى والتالي محال للمباينة التامة بين المخلوق والخالق والولدية تأبى تلك المباينة فالمقدم مثله ويكون قوله تعالى : (لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) على معنى لاتخذه ابنا على سبيل الكناية وما تقدم أولى لما فيه من المبالغة التي نبهت عليها ، وقوله تعالى : (سُبْحانَهُ) تقرير لما ذكر من استحالة اتخاذ الولد في حقه تعالى وتأكيد له ببيان تنزهه سبحانه عنه أي تنزهه الخاص به تعالى على أن سبحانه مصدر من سبح إذا بعد أو أسبحه تسبيحا لائقا به لأنه علم التسبيح مقول على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحا لائقا بشأنه جل شأنه ، وقوله تعالى:

(هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) استئناف مقرر لتنزهه عن ذلك أيضا فإن اتخاذ الولد يقتضي تبعضا وانفصال شيء من شيء وكذا يقتضي المماثلة بين الولد والوالد والوحدة الذاتية الحقيقية التي هي في أعلى مراتب الوحدة الواجبة له تعالى بالبراهين القطعية العقلية تأبى التبعض والانفصال إباء ظاهرا لأنهما من خواص الكم وقد اعتبر في مفهوم الوحدة الذاتية سلبه فتأبى الاتخاذ المذكور وكذا تأبى المماثلة سواء فسرت بما ذهب إليه قدماء المعتزلة كالجبائي وابنه أبي هاشم وهي المشاركة في أخص صفات الذات كمشاركة زيد لعمرو في الناطقية أم فسرت بما ذهب إليه المحققون من الماتريدية وهي المشاركة في جميع الصفات الذاتية كمشاركته له في الحيوانية والناطقية أم فسرت بما نسب إلى الأشعري وهو التساوي بين الشيئين من كل وجه ، ولعل مراده نحو ما مر عن الماتريدي وإلا فمع التساوي من كل وجه ينتفي التعدد فينتفي التماثل بناء على ما قرروا من أن الوحدة الذاتية كما تقتضي نفي الأبعاض المقدارية تقتضي نفي الكثرة العقلية وأن التماثل يقتضي التعدد وهو يقتضي ثبوت الأجزاء المذكورة كذا قيل ، وفيه بحث طويل وكلام غير قليل وسنذكر بعضا منه إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الإخلاص فالأولى أن يقتصر على منافاة الوحدة الذاتية للتبعض والانفصال لاستلزامهما التركب الخارجي والحكماء والمتكلمون مجمعون على استحالته في حقه تعالى ودليلها أظهر من أن يذكر ، وكذا وصف القهارية يأبى اتخاذ الولد وقرر ذلك على أوجه ، فقيل وجه إبائها ذلك أن القهارية تقتضي الغنى الذاتي الذي هو أعلى مراتب الغنى وهو يقتضي التجرد عن المادة وتولد الولد عن الشيء يقتضيها ، وقيل إن القهارية تقتضي كمال الغنى وهو يقتضي كمال التجرد الذي هو البساطة من كل الوجوه فلا يكون هناك جنس وفصل ومادة وصورة واعراض وأبعاض إلى غير ذلك مما يخل بالبساطة الكاملة الحقيقية واتخاذ الولد لما فيه من الانفصال والمثلية مخل بتلك البساطة فيخل بالغنى فيخل بالقهارية ، وقد أشار سبحانه إلى أن الغنى ينافي أن يكون له سبحانه ولد بقوله تعالى : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ) [يونس : ٦٨] وقيل : إن اتخاذ الولد يقتضي انفصال شيء عنه تعالى وذلك يقتضي أن يكون متأثرا مقهورا لا مؤثرا قهارا تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فحيث كان جل وعلا قهارا كما هو مقتضى الألوهية استحال أن يكون له عزوجل ولد ، وقيل : إن القهارية منافية للزوال لأن القهار لو قبله كان مقهورا إذ المزيل قاهر له ولذا قيل سبحان من قهر العباد بالموت.

والولد من أعظم فوائده عندهم قيامه مقام الأب بعد زواله فإذا لم يكن الزوال لم يكن حاجة إلى الولد وهذا مع كونه إلزاميا لا يخلو عن بحث كما لا يخفى.

والزمخشري جعل قوله تعالى : (سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ) إلخ متصلا بقوله عزوجل (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) إلخ على أنه مقرر نفي أن يكون له تعالى ولي ونفى أن يكون له ولد ، ولعل بيان ذلك لا يخفى فتدبر.

وقوله سبحانه : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) إثبات لما ذكر أولا من الوحدة والقهر ، وفيه أيضا ما ستعلمه إن شاء الله تعالى أي خلق هذا العالم المشاهد ملتبسا بالحق والصواب مشتملا على الحكم والمصالح.

وقوله تعالى : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) بيان لكيفية تصرفه فيما ذكر بعد بيان

٢٢٨

الخلق فإن حدوث الليل والنهار منوط بتحريك أجرام سماوية ، والتكوير في الأصل هو اللف واللّي من كار العمامة على رأسه وكورها ، والمراد على ما روي عن قتادة يغشى أحدهما الآخر ، وهو على ما قيل معنى يذهب أحدهما ويغشى مكانه الآخر أي يلبسه مكانه فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا وبالعكس فالمغشى حقيقة المكان ، ويجوز أن يكون المغشى الليل والنهار على الاستعارة ويكون المكان ظرفا ، والمقصود أنه لما كان أحدهما غاشيا للآخر أشبه اللباس الملفوف على لابسه في ستره إياه واشتماله عليه وتغطيه به.

وتحقيقه أن أحدهما لما كان محيطا على جميع ما أحاط به الآخر من غير أن يكون ثم شيء زائد غير الظهور والخفاء جعل إحاطته على محاط الآخر إحاطة عليه مجاز ملابسته وعبر عنها بالغشيان والتكوير للشبه المذكور.

وجوز أن يكون المراد أن كل واحد من الليل والنهار يغيب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار ورجح الأول بأن فيه مع اعتبار الستر اعتبار اللّي وإحاطة الأطراف ثم إن هذا لظهوره تشبيه مبذول وأن يكون المراد أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض قيل وهو الأرجح لأنه اعتبر فيه ما اعتبر مع الأول مع النظر إلى المطرد فيه لفظ الكور فإنه لف بعد لف وهو أيضا كذلك إلا أن أكوار العمامة متظاهرة وفيما نحن فيه متعاورة وهذا مما لا بأس به فإن كل ليلة تسمى كورا حقيقة.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى يحمل أحدهما على الآخر ، وفسر هذا الحمل بالضم والزيادة أي يزيد الليل على النهار ويضمه إليه بأن يجعل بعض أجزاء الليل نهارا فيطول النهار ويقصر الليل ويزيد النهار على الليل ويضمه إليه بأن يجعل سبحانه بعض أجزاء النهار ليلا فيطول الليل ويقصر النهار.

وإلى هذا ذهب الراغب وهو معنى واضح والآية عليه كقوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [الحج : ٦١ ، لقمان : ٢٩ ، فاطر : ١٣ ، الحديد : ٦] في قوله ، وذكر بعض الفضلاء أنها على المعنى الأول فيها شيء من قوله تعالى : (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) [الفرقان : ٦٢] وعلى المعنى الثاني فيها شيء من قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [الليل : ١ ، ٢] وعلى الثالث شيء من قوله سبحانه : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) [الأعراف : ٥٤] وأنها يحتمل أن يكون فيها الاستعارة التبعية والمكنية والتخييلية والتمثيلية والتمثيل أولى بالاعتبار ؛ وأيا ما كان فصيغة المضارع للدلالة على التجدد.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) جعلهما منقادين لأمره عزوجل (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) بيان لكيفية تسخيرهما أي كل منهما يجري لمنتهى دورته أو منقطع حركته ، وقد مر تمام الكلام عليه ، وفيه دليل على أن الشمس متحركة ، وزعم بعض الكفرة أنها ساكنة وأنها مركز العالم وسمعت في هذه الأيام أنه ظهر في الإفرنج منذ سنتين تقريبا من يزعم أنها تتحرك على مركز آخر كما تتحرك الأرض عليها نفسها بزعمهم وزعم بعض المتقدمين ، ولهم في الهيئة كلام غير هذا وفيه الغث والسمين إلا أن نفيهم السماوات الناطقة بها الشرائع بالكلية من العجب العجاب وأنظارهم السخيفة تفضي بهم إلى ما هو أعجب من ذلك عند ذوي العقول السليمة نسأل الله تعالى السلامة والتوفيق ، ولي عزم على تأليف كتاب أبين فيه إن شاء الله تعالى ما هو الأقرب إلى الحق من الهيئتين القديمة والجديدة متحركا على محور الإنصاف ساكتا عن سلوك مسالك الاعتساف والله تعالى الموفق لذلك.

(أَلا هُوَ الْعَزِيزُ) القادر على عقاب المصرين (الْغَفَّارُ) لذنوب التائبين أو الغالب الذي يقدر أن يعاجلهم بالعقوبة وهو سبحانه يحمل عليهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى فيكون قد سمي الحلم عنهم وقد ترك تعجيل العقوبة بالمغفرة التي هي ترك العقاب على طريق الاستعارة للمناسبة بينهما في الترك.

٢٢٩

وجوز كون ذلك من باب المجاز المرسل ، والأول أبلغ وأحسن ، وهذان الوجهان في (الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) قد ذكرهما الزمخشري ، وظن بعضهم أن الداعي للأول ورعاية مذهب الاعتزال حيث خص فيه المغفرة بذنوب التائبين فتركه وقال : العزيز القادر على كل ممكن الغالب على كل شيء الغفار حيث لم يعاجل بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة وما علينا أن نفسر كما فسر ونقول بأن مغفرته تعالى لا تخص التائبين بل قد يغفر جل شأنه لغيرهم إلا أن التقييد ليلائم ما تقدم أتم ملاءمة ، ففي الكشف أن الوجه الأول من ذينك الوجهين المذكورين يناسب قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) من وجهين أحدهما ما فيه من الدلالة على كمال القدرة وكمال الرحمة المقتضي لعقاب المصرّ وغفران ذنوب التائب ، وثانيهما أن قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ) إلخ مسوق لأمرين إثبات الوحدة والقهر المذكورين فيما قبل نفيا للولد بل حسبما للشرك من أصله والتسلق إلى ما مهد أولا من العبادة والإخلاص لئلا يزول عن الخاطر فقيل (بِالْحَقِ) كما قيل هنالك (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) [النساء : ١٠٥ ، المائدة : ٤٨ ، الزمر : ٢] وادمج فيه أن إنزال الكتاب كما يدل على استحقاقه تعالى للعبادة فكذلك خلق السماوات والأرض بالحق والحكمة التي منها الجزاء على ما سلف فالتذييل بالا هو العزيز الغفار للترغيب في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص والتحذير عن خلاف ذلك سواء خالف أصل الدين كالكفر أو خالف الإخلاص فيه كسائر المعاصي في غاية الملاءمة ، وإنما أفرد مخالفة الدين بالذكر صريحا في قوله تعالى : «والذين اتخذوا» إلخ تحذيرا من حالهم لأنها هاتكة لعصمة النجاة فكانت أحق بالتحذير ، ورمز إلى هذا الثاني بالتذييل المذكور تكميلا للمعنى المراد ومدار هذه السورة الكريمة على الأمر بالعبادة والإخلاص والتحذير من الكفر والمعاصي ، والوجه الثاني من ذينك الوجهين يناسب حديث الشرك والتذييل به لتوكيد تفظيع ما نسبوا إليه ، ولما ذكر تنزيل الكتاب وعقب بالأوصاف المقتضية للعبادة والإخلاص ذيله بقوله سبحانه : «ألا لله الدين الخالص» على ما تحقق وجهه وقد نقلناه نحن عنه فيما مر ، ثم لما ذكر بعده عظيم ما نسبوا إليه سبحانه : من الشرك والأولاد وما دل على تنزهه تعالى بالألوهية ناسب أن يذيله بقوله تعالى : «ألا هو العزيز الغفار» للتوكيد المذكور ، وقد آثر هذا العلامة الطيبي ويعلم مما ذكرنا وجه رجحان الأول اه ، والوجه الثاني من وجهي المناسبة على الوجه الأول أولى الوجهين ، والآية على ما ذكره البعض يجوز ارتباطها بما عندها من الخلق والتكوير والتسخير ، وقوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) إلخ دليل آخر على الوحدة والقهر.

وترك عطفه على (خَلَقَ السَّماواتِ) للإيذان باستقلاله في الدلالة ولتعلقه بالعالم السفلي ، والبداءة بخلق الإنسان لأنه أقرب وأعجب بالنسبة إلى غيره باعتبار ما فيه من العقل وقبول الأمانة الإلهية وغير ذلك حتى قيل :

وتزعم أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

والمراد بالنفس آدم عليه‌السلام ، وقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي حواء فإنها خلقت من قصيري ضلعه عليه‌السلام اليسرى وهي أسفل الأضلاع على معنى أنها خلقت من بعضها أو خلقت منها كلها وخلق الله تعالى لآدم مكانها عطف على محذوف هو صفة ثانية لنفس أي من نفس واحدة خلقها ثم جعل منها زوجها ، أو على (واحِدَةٍ) لأنه في الأصل اسم مشتق فيجوز عطف الفعل عليه كقوله تعالى : «فالق الإصباح وجعل الليل سكنا» ويعتبر ماضيا لأن اسم الفاعل قد يكون للمضي إذا لم يعمل أي من نفس وحدت من جعل منها زوجها ورجح بسلامته من التقدير الذي هو خلاف الأصل أو على (خَلَقَكُمْ) لتفاوت ما بينهما في الدلالة فإنهما وإن كانتا آيتين دالتين على ما مر من الصفات الجليلة لكن خلق حواء من الضلع أعظم وأجلب للتعجب ولذا عبر بالجعل دون الخلق فثم للتراخي الرتبي ، ويجوز فيه كون الثاني أعلى مرتبة من الأول وعكسه ، وقيل : إنه تعالى أخرج ذرية آدم عليه‌السلام من

٢٣٠

ظهره كالذر ثم خلق منه حواء فالمراد بخلقهم منه إخراجهم من ظهره كالذر فالعطف على (خَلَقَكُمْ) وثم على ظاهرها ، وهذا لا يقبل إلا إذا صح مرفوعا أو في حكمه ، وقد تضمنت الآية ثلاث آيات خلق آدم عليه‌السلام بلا أب وأم وخلق حواء من قصيراه وخلق ذريته التي لا يحصي عددها إلا الله عزوجل ، وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) استدلال بنوع آخر من العالم السفلي ، والإنزال مجاز عن القضاء والقسمة فإنه تعالى إذا قضى وقسم أثبت ذلك في اللوح المحفوظ ونزلت به الملائكة الموكلة بإظهاره ، ووصفه بالنزول مع أنه معنى شائع متعارف كالحقيقة والعلاقة بين الإنزال والقضاء الظهور بعد الخفاء ففي الكلام استعارة تبعية ، وجوز أن يكون فيه مجاز مرسل ، ويجوز أن يكون التجوز في نسبة الإنزال إلى الأنعام والمنزل حقيقة أسباب حياتها كالأمطار ووجه ذلك الملابسة بينهما ، وقيل يراد بالأزواج أسباب تعيشها أو يجعل الإنزال مجازا عن إحداث ذلك بأسباب سماوية وهو كما ترى ، وقيل الكلام على ظاهره والله تعالى خلق الأنعام في الجنة ثم أنزلها منها ولا أرى لهذا الخبر صحة ، والأنعام الإبل والبقر والضأن والمعز وكانت ثمانية أزواج لأن كلا منها ذكر وأنثى ، وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر ، وقوله تعالى : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) بيان لكيفية خلق من ذكر من الاناسي والانعام إظهارا لما فيه من عجائب القدرة ، وفيه تغليبان تغليب أولي العقل على غيرهم وتغليب الخطاب على الغيبة كذا قيل ، والأظهر أن الخطاب خاص وصيغة المضارع للدلالة على التدرج والتجدد ، وقوله تعالى : (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) مصدر مؤكد أن تعلق من بعد بالفعل وإلا فغير مؤكد أي يخلقكم فيها خلقا مدرجا حيوانا سويا من بعدم عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية من بعد مضغ غير مخلقة من بعد علقة من بعد نطفة فقوله سبحانه : «خلقا من بعد خلق» لمجرد التكرير كما يقال مرة بعد مرة لا أنه مخصوص بخلقين. وقرأ عيسى وطلحة «يخلقكم» بإدغام القاف في الكاف (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ظلمة البطن والرحم والمشيمة ، وقيل ظلمة الصلب والبطن والرحم ، والجار والمجرور متعلق بيخلقكم ، وجوز الشهاب تعلقه بخلقا بناء على أنه غير مؤكد وكونه بدلا من قوله تعالى : (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) إشارة إليه تعالى باعتبار أفعاله المذكورة على وجه يدل على بعد منزلته تعالى في العظمة والكبرياء ، واسم الإشارة مبتدأ والاسم الجليل خبره و (رَبُّكُمْ) خبر بعد خبر أو الاسم الجليل نعت أو بدل وهو الخبر أي ذلكم العظيم الشأن الذي عددت أفعاله الله مربيكم فيما ذكر من الأطوار وفيما بعدها ومالككم المستحق لتخصيص العبادة به سبحانه (لَهُ الْمُلْكُ) على الإطلاق في الدنيا والآخرة ليس لغيره تعالى شركة ما في ذلك بوجه من الوجوه والجملة خبر آخر ، وقوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة متفرعة على ما قبلها ولم يصرح معها بالفاء التفريعية اعتمادا على فهم السامع. وفي إرشاد العقل السليم أنه خبر آخر ، والفاء في قوله تعالى : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) لترتيب ما بعدها على ما ذكر من شئونه عزوجل أي فكيف تصرفون عن عبادته تعالى مع وفور موجباتها ودواعيها وانتفاء الصارف عنها بالكلية إلى عبادة غيره سبحانه من غير داع إليها مع كثرة الصوارف عنها.

(إِنْ تَكْفُرُوا) به تعالى مع مشاهدة ما ذكر من موجبات الإيمان والشكر (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي فأخبركم أنه عزوجل غني عن إيمانكم وشكركم غير متأثر من انتفائهما (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) لما فيه من الضرر عليهم (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ) أي الشكر (لَكُمْ) لما فيه من نفعكم ، ومن قال بالحسن والقبح العقليين قال : عدم الرضا بالكفر لقبحه العقلي والرضا بالشكر لحسنه العقلي ، والرضا إما بمعنى المحبة أو بمعنى الإرادة مع ترك الاعتراض ويقابله السخط كما في شرح المسايرة فعباده على ظاهره من العموم ، ومنهم من فسره بالإرادة من غير قيد ويقابله الكره وهؤلاء يقولونه قد يرضى بالكفر أي يريده لبعض الناس كالكفرة ونقله السخاوي عن النووي في كتابه الأصول والضوابط. وابن

٢٣١

الهمام عن الأشعري. وإمام الحرمين كذا قاله الخفاجي في حواشيه على تفسير البيضاوي. والذي رأيته في الضوابط وهي نسخة صغيرة جدا ما نصه مسألة مذهب أهل الحق الإيمان بالقدر وإثباته وأن جميع الكائنات خيرها وشرها بقضاء الله تعالى وقدره وهو مريد لها كلها ويكره المعاصي مع أنه سبحانه مريد لها لحكمة يعلمها جل وعلا ، وهل يقال إنه تعالى يرضى المعاصي ويحبها فيه مذهبان لأصحابنا المتكلمين حكاهما إمام الحرمين وغيره ، قال إمام الحرمين في الإرشاد : مما اختلف فيه أهل الحق إطلاق المحبة والرضاء ، فقال بعض أصحابنا لا يطلق القول بأن الله تعالى يحب المعاصي ويرضاها لقوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) ومن حقق من أئمتنا لم يلتفت إلى تهويل المعتزلة بل قال الله تعالى يريد الكفر ويحبه ويرضاه والإرادة والمحبة والرضا بمعنى واحد قال : والمراد بعباده في الآية الموفقون للإيمان وأضيفوا إلى الله تعالى تشريفا لهم كل في قوله تعالى : (يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الإنسان : ٦] أي خواصهم لا كلهم اه فلا تغفل عن الفرق بينه وبين ما ذكره الخفاجي ، وحكي تخصيص العباد في البحر عن ابن عباس.

وقيل يجوز مع ذلك حمل العباد على العموم ويكون المعنى ولا يرضى لجميع عباده الكفر بل يرضاه ويريده لبعضه نظير قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] على قول ، ولعلامة الأعصار صاحب الكشف تحقيق نفيس في هذا المقام لم أره لغيره من العلماء الأعلام وهو أن الرضا يقابل السخط وقد يستعمل بعن والباء ويعدى بنفسه فإذا قلت : رضيت عن فلان فإنما يدخل على العين لا المعنى ولكن باعتبار صدور معنى منه يوجب الرضا وفي مقابلة سخطت عليه وبينهما فرقان أنك إذا قلت : رضيت عن فلان بإحسانه لم يتعين الباء للسببية بل جاز أن يكون صلة مثله في رضيت بقضاء الله تعالى وإذا قلت : سخطت عليه بإساءته تعين السببية فكان الأصل هاهنا ذكر الصلة لكنه كثر الحذف في الاستعمال بخلافه ثمت إذ لا حذف ، وإذا قيل : رضيت به فهذا يجب دخوله على المعنى إلا إذا دخل على الذات تمهيدا للمعنى ليكون أبلغ تقول : رضيت بقضاء الله تعالى ورضيت بالله عزوجل ربا وقاضيا ، وقريب منه سمعت حديث فلان وسمعته يتحدث وإذا عدي بنفسه جاز دخوله على الذات كقولك : رضيت زيدا وإن كان باعتبار المعنى تنبيها على أن كله مرضي بتلك الخصلة وفيه مبالغة وجاز دخوله على المعنى كقولك : رضيت إمارة فلان ، والأول أكثر استعمالا وهو على نحو قولهم : حمدت زيدا وحمدت علمه ، وأما إذا استعمل باللام تعدى بنفسه كقولك رضيت لك هذا فمعناه ما سيجيء إن شاء الله تعالى قريبا ، وإذا تمهد هذا لاح لك أن الرضا في الأصل متعلقة المعنى وقد يكون الذات باعتبار تعلقه بالمعنى أو باعتبار التمهيد فهذه ثلاثة أقسام حققت بأمثلتها وأنه في الحقيقة حالة نفسانية تعقب حصول ملائم مع ابتهاج به واكتفاء فهو غير الإرادة بالضرورة لأنها تسبق الفعل وهذا يعقبه ، وهذا المعنى في غير المستعمل باللام من الوضوح بمكان لا يخفى على ذي عينين ، وأما فيه فإنما اشتبه الأمر لأنك إذا قلت : رضيت لك التجارة فالراضي بالتجارة هو مخاطبك وإنما أنت بينت له أن التجارة مما يحق أن يرضى به وليس المعنى رضيت بتجارتك بل المعنى استحمادك التجارة له فالملاءمة هاهنا بين الواقع عليه الفعل والداخل عليه اللام ثم إنه قد يرضى بما ترضاه له إذا عرف وجه الملاءمة وقد لا يرضى ، وفيه تجوز إما لجعل الرضا مجازا على الاستحماد لأن كل مرضي محمود أو لأنك جعلت كونه مرضيا له بمنزلة كونه مرضيا لك فاعلم أن الرضا في حق الله تعالى شأنه محال لأنه سبحانه لا يحدث له صفة عقيب أمر البتة فهو مجاز كما أن الغضب كذلك إما من أسماء الصفات إذا فسر بإرادة أن يثيبهم إثابة من رضي عمن تحت يده وإما من أسماء الأفعال إذا أريد الاستحماد وأن مثل قوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المائدة : ١١٩] إما من باب المشاكلة وإما من باب المجاز المذكور ، وأن مثل قوله سبحانه : (رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣] متعين أن يكون من ذلك الباب بالنسبة إلى من يصح اتصافه بالرضا حقيقة

٢٣٢

أيضا فإذن قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) كلام وارد على نهجه من غير تأويل دال على أنه جل شأنه لا يستحمد الكفر لعباده كما يستحمد الإسلام لهم ويرتضيه ، وأما أنه لا يريد الكفر أن يوجد فليس من هذا الباب في شيء ولا هو من مقتضيات هذا التركيب وأن الخروج إلى تخصيص العباد من ضيق العطن وأن قول المحققين رضي الله تعالى عنهم : إن الطاعات برضى الله تعالى والمعاصي ليست كذلك ليس لهذه الآية بل لأن الرضا بالمعنى الأصلي يستحيل عليه تعالى وقد أخبر أنه رضي عن المؤمنين بسبب طاعتهم في مواضع عديدة من كتابه الكريم.

والزمخشري عامله الله تعالى بعدله فسر الرضا في نحوه بالاختيار وهو لا ينفك عن الإرادة ، وأنت تعلم سقوطه مما حقق هذا ثم إنا نقول : لما أرشد سبحانه إلى الحق وهدد على الباطل إكمالا للرحمة على عباده كلهم الفريقين بقوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا) إلى قوله سبحانه : (يَرْضَهُ لَكُمْ) تنبيها على الغنى الذاتي وأنه سبحانه تعالى أن يكون أمره بالخير لانتفاعه به ونهيه عن الشر لتضرره منه ، ثم في العدول عن مقتضى الظاهر من الخطاب إلى قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) ما ينبه على أن عبوديتهم وربوبيته جل شأنه يقتضي أن لا يرضى لهم ذلك ، وفيه أنهم إذا اتصفوا بالكفر فكأنهم قد خرجوا عن رتبة عبوديته تعالى وبقوا في الذل الدائم ثم قيل (يَرْضَهُ لَكُمْ) للتنبيه على مزيد الاختصاص فهذا هو النظم السري الذي يحار دون إدراك لطائفة من لطائفة الفكر البشري والله أعلم اه. وهو كلام رصين وبالقبول قمين إلا أنه ربما يقال إنه : لا يتمشى على مذهب السلف حيث إنهم لا يؤولون الرضا في حقه تعالى وكونه عبارة عن حالة نفسانية إلى آخر ما ذكر في تفسيره إنما هو فينا وحيث أن ذاته تعالى مباينة لسائر الذوات فصفاته سبحانه كذلك فحقيقة الرضا في حقه تعالى مباينة لحقيقته فينا وأين التراب من رب الأرباب ، وقد تقدم الكلام في هذا المقام على وجه يروي الأوام ويبرئ السقام فنقول عدم التأويل لا يضر فيما نحن بصدده فالرضا أن أول أو لم يؤول غير الإرادة لحديث السبق والتأخر السابق ، وممن صرح بذلك ابن عطية قال : تأمل الإرادة فإن حقيقتها إنما هي فيما لم يقع بعد والرضا حقيقته إنما هي فيما وقع واعتبر هذا في آيات القرآن تجده وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا.

وقد ذهب إلى المغايرة بينهما بما ذكر هنا ابن المنير أيضا إلا أنه أول الرضا وذكر أنه لا يتأتى حمله في الآية على الإرادة وشنع على الزمخشري في ذلك جزاء ما تكلم على بعض أهل السنة المخالفين للمعتزلة في زعمهم اتحاد الرضا والإرادة وأنه تعالى قد يريد ما لا يفعله العبد وقد يفعل العبد ما لا يريده عزوجل فقال : هب أن المصر على هذا المعتقد على قلبه رين أو في ميزان عقله غين أليس يدعي أو يدعى له أنه الخريت في معابر العبارات فكيف هام عن جادة الإجادة في بهماء وأعار منادي الحذاقة أذنا صماء اللهم إلا أن يكون الهوى إذا تمكن أرى الباطل حقا وغطى على مكشوف العبارة فسحقا سحقا أليس مقتضى العربية فضلا عن القوانين العقلية أن المشروط مرتب على الشرط فلا يتصور وجود المشروط قبل الشرط عقلا ولا مضيه واستقبال الشرط لغة ونقلا واستقر باتفاق الفريقين أهل السنة وأهل البدعة أن إرادة الله تعالى لشكر العباد مثلا مقدمة على وجود الشكر منهم فحينئذ كيف ينساغ حمل الرضا على الإرادة وقد جعل في الآية مشروطا وجزاء وجعل وقوع الشكر شرطا ومجزيا واللازم من ذلك عقلا تقدم المراد وهو الشكر على الإرادة وهي الرضا ولغة تقدم المشروط على الشرط فإذا ثبت بطلان حمل الرضا على الإرادة عقلا ونقلا تعين المحمل الصحيح له ، وهو المجازاة على الشكر بما عهد أن يجازي به المرضي عنه من الثواب والكرامة فيكون معنى الآية والله تعالى أعلم وأن تشكروا يجازكم على شكركم جزاء المرضي عنه ، ولا شك أن المجازاة مستقبلة بالنسبة إلى الشكر فجرى الشرط والجزاء على مقتضاها لغة وانتظم ذلك بمقتضى الأدلة العقلية على بطلان تقدم المراد على الإرادة

٢٣٣

عقلا ، ومثل هذا يقال في قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أي لا يجازى الكافر مجازاة المرضي عنه بل مجازاة المغضوب عليه من النكار والعقوبة انتهى.

لا يقال : حيث كان قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) جزاء باعتبار الأخبار كما أشير إليه فيما سلف فليكن قوله تعالى : (يَرْضَهُ لَكُمْ) جزاء بذلك الاعتبار فحينئذ لا يلزم أن يكون نفس الرضا مؤخرا لأنا نقول : مثل هذا الاعتبار شائع في الجملة الاسمية المتحقق مضمونها قبل الشرط نحو (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام : ١٧] وفي الفعل الماضي إذا وقع جزاء نحو (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) [يوسف : ٧٧] وأما في الفعل المضارع فليس كذلك والذوق السليم يأبى هذا الاعتبار فيه ومع هذا أي حاجة تدعو إلى ذلك هنا ولا أراها إلا نصرة الباطل والعياذ بالله تعالى ، ثم إنه يعلم من مجموع ما قدمنا حقية ما قالوا من أنه لا تلازم بين الإرادة والرضا كما أن الرضا ليس عبارة عن حقيقة الإرادة لكن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قسما الإرادة إلى قسمين تكوينية وشرعية ، وذكرا أن المعاصي كالكفر وغيره واقعة بإرادة الله تعالى التكوينية دون إرادته سبحانه الشرعية وعلى هذا فالرضا لا ينفك عن الإرادة الشرعية فكل مراد لله تعالى بالإرادة الشرعية مرضي له سبحانه وهذا التقسيم لا أتعقله إلا أن تكون الإرادة الشرعية هي الإرادة التي يرتضي المراد بها فتدبر هذا ، وقرأ ابن كثير ونافع في رواية وأبو عمرو والكسائي «يرضه» بإشباع ضمة الهاء ، والقاعدة في إشباع الهاء وعدمه أنها إن سكن ما قبلها لم تشبع نحو عليه وإليه وإن تحرك أشبعت نحو به وغلامه وهاهنا قبلها ساكن تقديرا وهو الألف المحذوفة للجازم فإن جعلت موجودة حكما لم تشبع كما في قراءة ابن عامر وحفص وإن قطع النظر عنها أشبعت كما في قراءة من سمعت وهذا هو الفصيح وقد تشبع وتختلس في غير ذلك وقد يحسن اشباعها مع فقد الشرط لنكتة ، وقرأ أبو بكر «يرضه» بسكون الهاء ولم يرضه أبو حاتم وقال : هو غلط لا يجوز ، وفيه أنه لغة لبني كلاب وبني عقيل اجراء للوصل مجرى الوقف.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) بيان لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره ، وقد تقدم الكلام في هذه الجملة وكذا في قوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فتذكر.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ)(١٦)

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) من مرض وغيره من المكاره (دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) راجعا ممن كان يدعوه في حالة الرخاء من دون الله عزوجل لعلمه بأنه بمعزل من القدرة على كشف ضره وهذا وصف للجنس بحال بعض أفراده

٢٣٤

كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم : ٣٤] ، واستظهر أبو حيان أن المراد بالإنسان جنس الكافر ، وقيل : هو معين كعتبة بن ربيعة (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ) أي أعطاه نعمة عظيمة من جنابه من الخول بفتحتين وهو تعهد الشيء أي الرجوع إليه مرة بعد أخرى وأطلق على العطاء لما أن المعطي الكريم يتعهد من هو ربيب إحسانه ونشو امتنانه بتكرير العطاء عليه مرة بعد أخرى ، وقال بعضهم : معنى (خَوَّلَهُ) في الأصل أعطاه خولا بفتحتين أي عبيدا وخدما أو أعطاه ما يحتاج إلى تعهده والقيام عليه ثم عمم لمطلق العطاء ، وجوز الزمخشري كونه من خال يخول خولا بسكون الواو إذا افتخر ، واعترض بأنه صرح في الصحاح أن خال بمعنى افتخر يائي والخيلاء بمعنى التكبر يدل عليه دلالة بينة ، وأيضا خول متعد إلى مفعولين وأخذه منه لا يقتضي أن يتعدى للمفعول الثاني.

وأجيب عن الأول بأن الزمخشري من أئمة النقل وقد ثبت عنده وأصله من الخال الذي هو العلامة ، وقد نقل فيه الواو والياء ثم قيل لسيما الجمل والخير خال من ذلك وأخذ منه الخيال وأما الاختيال بمعنى التكبر فهو مأخوذ من الخيال لأنه خال نفسه فوق قدره أو جعل لنفسه خال الخير كما يقال : أعجب الرجل فقد وضح أن الاشتقاق يناسبهما ولا ينكر ثبوت الياء بدليل الخيلاء لكن لا مانع من ثبوت الياء أيضا وليس الاختيال مأخوذا من الخيلاء بل الخيلاء هو الاسم منه فلا يصلح مانعا لكن يصلح مثبتا للياء ، وعن الثاني بأنه ليس المراد أن خول مضعف خال بمعنى افتخر حتى يشكل تعديته للمفعول الثاني بل أنه موضوع في اللغة لمعنى أعطى وما ذكر بيان لمأخذ اشتقاقه وأصل معناه الملاحظ في وضعه له ومثله كثير فأصل خوله جعله مفتخرا بما أنعم عليه ثم قطع النظر عنه وصار بمعنى أعطاه مطلقا (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ) أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إزالته وكشفه (مِنْ قَبْلُ) التخويل فما واقعة على الضر ودعا من الدعوة وهو يتعدى بإلى يقال دعا المؤذن الناس إلى الصلاة ودعا فلان الناس إلى مأدبته والدعوة مجاز عن الدعاء ، والمعنى على اعتبار المضاف كما أشير إليه ، ويجوز أن يراد بما معنى من للدلالة على الوصفية والتفخيم واقعا عليه تعالى كما في قوله تعالى : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [الليل : ٣] وقوله سبحانه : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٥] والدعاء على ظاهره وتعديته بإلى لتضمينه معنى الإنابة أو التضرع والابتهال ، والمعنى نسي ربه الذي كان يدعو منيبا أو متضرعا إليه وهو وجه لا بأس به ، وما قيل من أنه تكلف إذ لا يقال دعا إليه بمعنى دعاه ولا حاجة إلى جعل ما بمعنى من مردود لحسن موقع التضمين واستعمال ما في مقام التفخيم. وفي الإرشاد أن في ذلك الجعل إيذانا بأن نسيانه بلغ إلى حيث لا يعرف مدعوه ما هو فضلا من أن يعرفه من هو ، وقيل : ما مصدرية أي نسي كونه يدعو ، وقيل : هي نافية وتم الكلام عند قوله تعالى : (نَسِيَ) أي نسي ما كان فيه من الضر ثم نفي أن يكون دعاء هذا الكافر خالصا لله تعالى من قبل أي من قبل الضر ولا يخفى ما فيه (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) شركاء في العبادة ، والظاهر من استعمالاتهم إطلاق الأنداد على الشركاء مطلقا ، وفي البحر أندادا أي أمثالا يضاد بعضها بعضا ويعارض ، قال قتادة : أي الرجال يطيعهم في المعصية ، وقال غيره أوثانا (لِيُضِلَ) الناس بذلك (عَنْ سَبِيلِهِ) عزوجل الذي هو التوحيد.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعيسى «ليضلّ» بفتح الياء أي ليزداد ضلالا أو ليثبت عليه وإلا فاصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور ، واللام لام العاقبة كما في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] بيد أن هذا أقرب إلى الحقيقة لأن الجاعل هاهنا قاصد بجعله المذكور حقيقة الإضلال والضلال وأن لم يعرف بجهله أنهما إضلال وضلال وأما آل فرعون فهم غير قاصدين بالتقاطهم العداوة أصلا.

(قُلْ) تهديدا لذلك الجاعل وبيانا لحاله ومآله (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) أي ملازميها والمعذبين فيها على الدوام ، وهو تعليل لقلة التمتع وفيه من الاقناط من النجاة وذم الكفر

٢٣٥

ما لا يخفى كأنه قيل : إذ قد أبيت ما أمرت به من الإيمان والطاعة فمن حقك أن تؤمر بتركه لتذوق عقوبته (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) إلخ من تمام الكلام المأمور به في قول ، وأم إما متصلة قد حذف معادلها ثقة بدلالة مساق الكلام عليه كأنه قيل له تأكيدا للتهديد وتهكما به أأنت أحسن حالا ومآلا أم من هو قائم بمواجب الطاعات ودائم على وظائف العبادات في ساعات الليل التي فيها العبادة أقرب إلى القبول وأبعد عن الرياء حالتي السراء والضراء لا عند مساس الضر فقط كدأبك حال كونه (ساجِداً وَقائِماً) وإلى كون المحذوف المعادل الأول ذهب الأخفش ووافقه غير واحد ولا بأس به عند ظهور المعنى لكن قال أبو حيان : إن مثل ذلك يحتاج إلى سماع من العرب ، ونصب (ساجِداً وَقائِماً) على الحالية كما أشير إليه أي جامعا بين الوصفين المحمودين وصاحب الحال الضمير المستتر في (قانِتٌ).

وجوز كون الحال من ضمير (يَحْذَرُ) الآتي قدم عليه ولا داعي لذلك. وقرأ الضحاك «ساجد وقائم» برفع كل على أنه خبر بعد خبر ، وجوز أبو حيان كونه نعتا لقانت وليس بذاك ، والواو كما أشير إليه للجمع بين الصفتين ، وترك العطف على (قانِتٌ) قيل لأن القنوت مطلق العبادة فلم يكن مغايرا للسجود والقيام فلم يعطفا عليه بخلاف السجود والقيام فإنهما وصفان متغايران فلذا عطف أحدهما على الآخر ، وتقديم السجود على القيام لكونه أدخل في معنى العبادة ، وذهب المعظم إلى أنه أفضل من القيام لحديث «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وقوله تعالى : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) حال أخرى على التداخل أو الترادف أو استئناف وقع جوابا عما نشأ من حكاية حاله كأنه قيل ما باله يفعل ذلك؟ فقيل : يحذر الآخرة أي عذاب الآخرة كما قرأ به ابن جبير.

(وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) فينجو بذلك مما يحذره ويفوز بما يرجوه كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضمير الراجي لا أنه يحذر ضر الدنيا ويرجو خيرها فقط ، وأما منقطعة وما فيها من الاضراب للانتقال من التبكيت بتكليف الجواب الملجئ إلى الاعتراف بما بينهما من التباين البين كأنه قيل : بل أمن هو قانت إلخ ، وقدر الزمخشري كغيره مثلك أيها الكافر. وقال النحاس : بمعنى بل ومن بمعنى الذي والتقدير بل الذي هو قانت إلخ أفضل مما قبله ، وتعقبه في البحر بأنه لا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة لدلالة مقابلة أعني (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) عليه ولا يبعد أن يقدر أفضل منك ويكون ذلك من باب التهكم.

وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والأعمش وعيسى وشيبة والحسن في رواية «أمن» بتخفيف الميم وضعفها الأخفش وأبو حاتم ولا التفات إلى ذلك ، وخرجت على إدخال همزة الاستفهام التقرير على من والمقابل محذوف أي الذي هو قانت إلخ خير أم أنت أيها الكافر ، ومثله في حذف المعادلة قوله :

دعاني إليها القلب إني لأمره

سميع فما أدري أرشد طلابها

فإنه أراد أم غي ، وقال الفراء : الهمزة للنداء كأنه قيل يا من هو قانت وجعل قوله تعالى : (قُلْ) خطابا له ، وضعف هذا القول أبو علي الفارسي وهو كذلك ، وقوله تعالى : (قُلْ) على معنى قل له أيضا بيانا للحق وتصريحا به وتنبيها على شرف العلم والعمل (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) فيعملون بمقتضى علمهم ويقنتون الليل سجدا وركعا يحذرون الآخرة ويرجون رحمة ربهم (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فيعملون بمقتضى جهلهم وضلالهم كدأبك أيها الكافر الجاعل لله تعالى أندادا ، والاستفهام للتنبيه على أن كون الأولين في أعلى معارج الخير وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد من منصف ومكابر ، ويعلم مما ذكرنا أن المراد بالذين يعلمون العاملون من علماء الديانة وصرح بإرادة ذلك بعض الأجلة على تقديري الاتصال والانقطاع وأن الكلام تصريح بنفي

٢٣٦

المساواة بين القانت وغيره المضمنة من حرفي الاستفهام أعني الهمزة وأم على الاتصال أو من التشبيه على الانقطاع وعلى قراءة التخفيف أيضا قال : وإنما عدل إلى هذه العبارة دلالة على أن ذلك مقتضى العلم وأن العلم الذي لا يترتب عليه العمل ليس بعلم عند الله تعالى سواء جعل من باب إقامة الظاهر مقام المضمر للإشعار المذكور أو استئناف سؤال تبكيتي توضيحا للأول من حيث التصريح ومن حيث إنهم وصفوا بوصف آخر يقتضي اتصافهم بتلك الأوصاف ومباينتهم لطبقة من لا يتصف. وهذا أبلغ وأظهر لفظا لقوله تعالى : (قُلْ) وجوز أن يكون الكلام واردا على سبيل التشبيه فيكون مقررا لنفي المساواة لا تصريحا بمقتضى الأول أي كما لا استواء بين العالم وغيره عندكم من غير ريبة فكذلك ينبغي أن لا يكون لكم ارتياب في نفي المساواة بين القانت المذكور وغيره ، وكونه للتصريح بنفي المساواة وحمل الذين يعلمون على العاملين من علماء الديانة على ما سمعت مما لا ينبغي أن يختار غيره لتكثير الفائدة ، وأما من ارتاب في ذلك الواضح فلا يبعد منه الارتياب في هذا الواضح أيضا بجوابه أن الاستنكاف عن الجهل مركوز في الطباع بخلاف الأول ، ويشعر كلام كثير أن قوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ) إلخ غير داخل في حيز القول والمعنى عليه كما في الأول بتغيير يسير لا يخفى ، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه تلا (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) الآية فقال : نزلت في عثمان بن عفان ، وأخرج ابن سعد في طبقاته وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس أنها نزلت في عمار بن ياسر ، وأخرج جويبر عنه أنها نزلت في عمار وابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة ، وعن عكرمة الاقتصار على عمار ، وعن مقاتل المراد بمن هو قانت عمار وصهيب وابن مسعود وأبو ذر ، وفي رواية الضحاك عن ابن عباس وأبو بكر وعمر ، وقال يحيى بن سلام : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والظاهر أن المراد المتصف بذلك من غير تعيين ولا يمنع من ذلك نزولها فيمن علمت وفيها دلالة على فضل الخوف والرجاء ، وقد أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رجل وهو في الموت فقال : كيف تجدك؟ قال : أرجو وأخاف فقال عليه الصلاة والسلام : لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الذي يرجو وآمنه الذي يخاف ، وفيها رد على من ذم العبادة خوفا من النار ورجاء الجنة وهو الإمام الرازي كما قال الجلال السيوطي ، نعم العبادة لذلك ليس إلا مذمومة بل قال بعضهم بكفر من قال : لو لا الجنة والنار ما عبدت الله تعالى على معنى نفي الاستحقاق الذاتي ، وفيها دلالة أيضا على فضل صلاة الليل وأنها أفضل من صلاة النهار ، ودل قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي) إلخ على فضل العلم ورفعة قدره وكون الجهل بالعكس. واستدل به بعضهم على أن الجاهل لا يكافئ العالمة كما أنه لا يكافئ بنت العالم ، وقوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) كلام مستقل غير داخل عند الكافة في الكلام المأمور وارد من جهته تعالى بعد الأمر بما تضمن القوارع الزاجرة عن الكفر والمعاصي لبيان عدم تأثيرها في قلوب الكفرة لاختلال عقولهم كما في قوله :

عوجوا فحيوا لنعمى دمنة الدار

ما ذا تحيون من نؤي وأحجار

وهو أيضا كالتوطئة لأفراد المؤمنين بعد بالخطاب والإعراض عن غيرهم أي إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة أصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وأما هؤلاء فبمعزل عن ذلك. وقرئ «يذّكر» بالإدغام.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذكر المؤمنين ويحملهم على التقوى والطاعة إثر تخصيص التذكر بأولي الألباب وفيه إيذان بأنهم هم أي قل لهم قولي هذا بعينه وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة ومزيد اعتناء بشأن المأمور به فإن نقل عين أمر الله تعالى أدخل في إيجاب الامتثال به ، وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) إلى آخره تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو خبر مقدم وقوله سبحانه : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) متعلق بأحسنوا واسم الإشارة للإحضار ، وقوله تبارك وتعالى : (حَسَنَةٌ) مبتدأ

٢٣٧

وتنوينه للتفخيم أي للمحسنين في الدنيا حسنة في الآخرة أي حسنة والمراد بها الجنة ، وقوله عزوجل : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) جملة معترضة إزاحة لما عسى أن يتوهم من التعلل في التفريط بعدم التمكن في الوطن من رعاية الأوامر والنواهي على ما هي عليه ، وقوله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) من تتمة الاعتراض فكأنه قيل : اتقوا ربكم فإن للمحسنين في هذه الدنيا الجنة في الأخرى ولا عذر للمفرطين في الإحسان بعدم التمكن في الأوطان فإن أرض الله تعالى واسعة وبلاده كثيرة فليتحولوا إن لم يتمكنوا عنها وليهاجروا إلى ربهم لنيل الرضوان فإن لهم في جنب ذلك ما يتقاصر عنه الجنة ويستلذ له كل محنة وكأنه لما أزاح سبحانه علتهم بأن في أرض الله تعالى سعة وقع في خلدهم هل نكون نحن ومن يتمكن من الإحسان في بلدته فارغ البال رافع الحال سواء بسواء فأجيبوا إنما يوفى الصابرون الذين صبروا على الهجرة ومفارقة المحاب والاقتداء بالأنبياء والصالحين أجرهم بغير حساب ، وأصله إنما توفون أجوركم بغير حساب على الخطاب وعدل عنه إلى المنزل تنبيها على أن المقتضي لذلك صبرهم فيفيد أنكم توفون أجوركم بصبركم كما وفي أجر من قبلكم بصبرهم وهو محمول على العموم شامل للصبر على كل بلاء غير مخصوص بالصبر على المهاجرة لكنه إنما جيء به في الآية لذلك وليشمل الصابرين على ألم المهاجرة شمولا أوليا ، والجار والمجرور في موضع الحال إما من الأجر أي إنما يوفون أجرهم كائنا بغير حساب وذلك بأن يغرف لهم غرفا ويصب عليهم صبا ، وأما من الصابرين أي إنما يوفون ذلك كائنين بغير حساب عليه ، والمراد على الوجهين المبالغة في الكثرة وهو المراد بقول ابن عباس لا يهتدي إليه حساب الحساب ولا يعرف ، وجوز جعل الحال من الصابرين على من لا يحاسبون أصلا ، والمتبادر ما يفيد المبالغة في كثرة الأجر ، ومعنى القصر ما يوفي الصابرون أجرهم إلا بغير حساب جعل الجار والمجرور حالا من المنصوب أو المرفوع لأن القصر في الجزء الأخير ، وفيه من الاعتناء بأمر الأجر ما فيه ، وأما اختصاصه بالصابرين دون غيرهم فمن ترتب الحكم على المشتق ، وهذا ونقل عن السدي أن قوله تعالى : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) متعلق بحسنة من حيث المعنى فقيل : هو حينئذ حال من (حَسَنَةٌ) ورد بأنها مبتدأ ولا يجوز الحال منه على الصحيح ، فإن قيل : يلتزم جعلها فاعل الظرف قيل : لا يتسنى إلا على مذهب الأخفش وهو ضعيف.

وقيل حال من الضمير المستتر في الخبر الراجع إلى (حَسَنَةٌ) وقال الزمخشري : هو بيان لحسنة والتقدير هي في الدنيا ، والمراد بها الصحة والعافية أي للمحسنين صحة وعافية في الدنيا ، قال في الكشف : وإنما آثر كونه بيانا مع جواز كونه حالا عن الضمير الراجع إلى (حَسَنَةٌ) في الخبر لأن المعنى على البيان لا على التقييد بالحال وذلك لأن المعنى على هذا الوجه أن للمحسنين جزاء يسيرا في الدنيا هو الصحة والعافية وإنما توفية أجورهم في الآخرة ولو قيد بالحال لم يلائم على ما لا يخفى ، وحق قوله تعالى : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) على هذا أن يكون اعتراضا ازاحة لما قد يختلج في بعض النفوس من خلاف ذلك الجزاء بواسطة اختلاف الهواء والتربة وغير ذلك مما يؤدي إلى آفات في البدن فقيل وأرض الله تعالى واسعة فلا يعدم أحد محلا يناسب حاله فليتحول عنه إليه إن لم يلائمه ثم يكون فيه تنبيه على أن من جعل الأرض ذات الطول والعرض قطعا متجاورات تكميلا لانتعاشهم وارتياشهم يجب أن تقابل نعمه بالشكر ليعدوا من المحسنين ثم قيل : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) أي توفية الأجر لهؤلاء المحسنين إنما يكون في الآخرة والذي نالوه في الدنيا عاجل حظهم وأما الأجر الموفى بغير حساب فذلك للصابرين ، ومن سلبناه تلك العاجلة تمحيصا له وتقريبا وفي ذلك تسلية لأهل البلاء وتنشيط للعباد على مكابدة العبادات وتحريض على ملازمة الطاعات ثم قال : وهذا أيضا وجه حسن دقيق والرجحان للأول من وجوه:

أحدها أن الاعتراض لإزاحة العلة في التفريط أظهر لأنه المقصود من السياق على ما يظهر من قوله تعالى: (اتَّقُوا رَبَّكُمْ). الثاني أنه المطابق لما ورد في التنزيل من نحو (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء :

٢٣٨

٩٧] (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [العنكبوت : ٥٦]. الثالث أن تعلق الظرف بالمذكور المتقدم هو الوجه ما لم يصرف صارف.

الرابع أنه على ذلك التقدير ليس بمطرد ولا أكثري فإن الحسنة بذلك المعنى في شأن المخالفين أتم والقول بأنها استدراج في شأنهم لا حسنة ليس بالظاهر فقد قال سبحانه : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ) انتهى ، ولعمري إن ما رجحه بالترجيح حقيق وما استحسنه واستدقه ليس بالحسن ولا الدقيق ، والذي نقله الطبرسي عن السدي تفسير الحسنة في الدنيا بالثناء الحسن والذكر الجميل والصحة والسلامة ، وفسرها بعضهم بولاية الله تعالى وعليه فليس للمخالفين منها نصيب ، وفي الآية أقوال أخر فعن عطاء أرض الله تعالى المدينة قال أبو حيان : فعلى هذا يكون (أَحْسَنُوا) هاجروا و (حَسَنَةٌ) راحة من الأعداء ، وقال قوم : أرض الله تعالى الجنة ، وتعقبه ابن عطية بأنه تحكم لا دليل عليه.

وقال أبو مسلم : لا يمتنع ذلك لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى ثم بين سبحانه أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة وهي الخلود في الجنة ثم بين جل شأنه أن أرض الله واسعة لقوله تعالى : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤] وقوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] والرجحان لما سمعت أولا ، واختير فيه شمول الحسنة لحسنات الدنيا والآخرة ، والمراد بالإحسان الإتيان بالأعمال الحسنة القلبية والقالبية ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسيره في حديث جبريل عليه‌السلام «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» والآية على ما في بعض الآثار نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة وفيها من الدلالة على فضل الصابرين ما فيها (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي من كل ما يخل به من الشرك والرياء وغير ذلك ؛ أمر عليه الصلاة والسلام ببيان ما أمر به نفسه من الإخلاص في عبادة الله عزوجل الذي هو عبارة عما أمر به المؤمنون من التقوى مبالغة في حثهم على الإتيان بما كلفوه وتمهيدا لما يعقبه مما خوطب به المشركون.

وعدم التصريح بالآمر لتعين أنه الله عزوجل ، وقيل : للإشارة إلى أن هذا الأمر مما ينبغي امتثاله سواء صدر منه تعالى أم صدر من غيره سبحانه (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرت بذلك لأجل أن أكون مقدم المسلمين في الدنيا والآخرة لأن إحراز قصب السبق في الدين بالإخلاص فيه وإخلاصه عليه الصلاة والسلام أتم من اخلاص كل مخلص فالمراد بالأولية الأولية في الشرف والرتبة ، والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة والإشعار بأن العبادة المذكورة كما تقتضي الأمر بها لذاتها تقتضيه لما يلزمها من السبق في الدين ، وإلى حذف متعلق الأمر وكون اللام تعليلية ذهب البصريون في هذه الآية ونحوها ؛ وذهب غيرهم إلى أنها زائدة ، واستدل له بتركها في قوله تعالى : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس : ٧٢] (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس : ١٠٤] و (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) [الأنعام : ١٤] وكل ذلك محتمل لتقدير اللام فلا تغفل ؛ ولا تزاد إلا مع أن لفظا أو تقديرا دون الاسم الصريح وذلك لأن الأصل في المفعول به أن يكون اسما صريحا فكأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه كما يعوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع ، وهذه الزيادة وإن كانت شاذة قياسا إلا أنها لما كثرت استعمالا جاز استعمالها في القرآن والكلام الفصيح ، ومثل هذا يقال في زيادتها مع فعل الإرادة نحو أردت لأن أفعل. وجعل الزمخشري وجه زيادتها معه أنها لما كان فيها معنى الإرادة زيدت تأكيدا لها وجعل وجها في زيادتها مع فعل الأمر أيضا لا سيما والطلب والإرادة عندهم من باب واحدة ، وفي المعنى أوجه أن

٢٣٩

أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي أي إسلاما على وفق الأمر ، وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما ، وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره لأكون مقتدى بي قولي وفعلي جميعا ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون ، وأن أفعل ما أستحق به الأولية والشرف من أعمال السابقين دلالة على السبب وهي الأعمال التي يستحق بها الشرف بالمسبب وهو الأولية والشرف المذكور في النظم الجليل ذكر ذلك الزمخشري. وفي الكشف المختار من الأوجه الأربعة الوجه الثاني فإنه المكرر الشائع في القرآن الكريم وفيه سائر المعاني الآخر من موافقة القول الفعل ولزوم أولية الشرف من أولية التأسيس مع أنه ليس فيه أنه أمر بأن يكون أشرف وأسبق فافهم (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك ، وجوز العموم أي أخاف إن عصيته بشيء من المعاصي (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم القيامة ، ووصفه بالعظمة لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال ، وهو مجاز في الظرف أو الإسناد وهو أبلغ ولذا عدل عن توصيف العذاب بذاك والمقصود من قول ذلك لهم تهديدهم والتعريض لهم بأنه عليه الصلاة والسلام مع عظمته لو عصى الله تعالى ما أمن من العذاب فكيف بهم (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ) لا غيره سبحانه لا استقلالا ولا اشتراكا (مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) حال من فاعل (أَعْبُدُ) فقيل مؤكدة لما أن تقديم المفعول قد أفاد الحصر وهو يدل على إخلاصه عن الشرك الظاهر والخفي ، وقيل : مؤسسة وفسر اخلاص الدين له تعالى بعبادته سبحانه لذاته من غير طلب شيء كقول رابعة : سبحانك ما عبدتك خوفا من عقابك ولا رجاء ثوابك أو يفسر بتجريده عن الشرك بقسميه وأن يكون معه ما يشينه من غير ذلك كما أشير إليه آنفا ، والفرق بين هذا وقوله سبحانه : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ) إلخ أن ذاك أمر ببيان كونه عليه الصلاة والسلام مأمورا بعبادته تعالى مخلصا له الدين وهذا أمر بالإخبار بامتثاله بالأمر على أبلغ وجه وآكده إظهارا لتصلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدين وحسبما لأطماعهم الفارغة حيث أن كفار قريش دعوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى دينهم فنزلت لذلك وتمهيدا لتهديدهم بقوله عزوجل :

(فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ) أن تعبدوه (مِنْ دُونِهِ) عزوجل ، وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى كأنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه أمروا به كي يحل بهم العقاب (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ) أي الكاملين في الخسران وهو إضاعة ما بهم وإتلاف ما لا بد منه لجمعهم أعاظم أنواع الخسران (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) باختيارهم الكفر لهما فالمراد بالأهل أتباعهم الذين أضلوهم أي أضاعوا أنفسهم وأضاعوا أهليهم وأتلفوهما (يَوْمَ الْقِيامَةِ) حين يدخلون النار حيث عرضوهما للعذاب السرمدي وأوقعوهما في هلكة ما وراءها هلكة ؛ ولو أبقى يوم القيامة على ظاهره لأن يتبين فيه أمرهم ويتحقق مبدأ خسرانهم صح على ما قيل ، وقيل : المراد بالأهل الاتباع مطلقا وخسرانهم إياهم لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروا هم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا إياب بعده ، وتعقب بأن المحذور ذهاب من لو آب لانتفع به الخاسر وذلك غير متصور في الشق الأخير ، وقيل : المراد بالأهل ما أعده الله تعالى لمن يدخل الجنة من الخاصة أي وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم في الجنة لو آمنوا ، أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال : ليس أحد إلا قد أعد الله تعالى له أهلا في الجنة أن أطاعه ، وأخرج نحوه عن مجاهد ، وروي أيضا عن ميمون بن مهران وكلهم ذكروا ذلك في الآية ، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال فيها أيضا : خسروا أهليهم من أهل الجنة كانوا أعدوا لهم لو عملوا بطاعة الله تعالى فغبنوهم ، وهو الذي يقتضيه كلام الحسن فقد روي عنه أنه فسر الأهل بالحور العين ، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك لا يخلو عن بعد.

وأيا ما كان فليس المراد مجرد تعريف الكاملين في الخسران بما ذكر بل بيان أنهم المخاطبون بما تقدم إما بجعل الموصول عبارة عنهم أو بجعله عبارة عما هم مندرجون فيه اندراجا أوليا ، وما في قوله تعالى : (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) من استئناف الجملة ، وتصديرها بحرف التنبيه والإشارة بذلك إلى بعد منزلة المشار إليه في الشر

٢٤٠