روح المعاني - ج ١٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ) إلى هذا المقام لدلالته على أنه تعالى يكفي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهم دينه ودنياه ويكفي أتباعه المؤمنين أيضا المهمين وفيه أنه سبحانه يكفيهم شر الكافرين من وجهين من طريق المقابلة ومن أنه داخل في كفاية مهمي الرسول عليه الصلاة والسلام واتباعه ، وهذا ما تقتضيه البلاغة القرآنية ويلائم ما بني عليه السورة الكريمة من ذكر الفريقين وأحوالهما توكيدا لما أمر به أولا من العبادة والإخلاص وقرئ «بكافي عباده» بالإضافة و «يكافي عباده» مضارع كافي ونصب «عباده» فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية كقولك : يجاري في يجري وهو أبلغ من كفى لبنائه على لفظ المبالغة وهو الظاهر لكثرة تردد هذا المعنى في القرآن نحو (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٣٧] ويحتمل أن يكون مهموزا من المكافأة وهي المجازاة ، ووجه الارتباط أنه تعالى لما ذكر حال من كذب على الله وكذب بالصدق وجزاءه وحال مقابله أعني الذي جاء بالصدق وصدق به وجزاءه وعرض بقوله سبحانه : (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) بأن ما سلف جزاء الكافرين المسيئين لما هو معروف من فائدة البناء على اسم الإشارة ثم عقبه تعالى بقوله عزوجل : (لِيُكَفِّرَ) إلخ على معنى ليكفر عنهم ويجزيهم خصهم بما خص فنبه على المقابل أيضا من ضرورة الاختصاص والتعليل ، وفيه أيضا ما يدل على حكم المقابل على اعتبار المتعلق غير ما ذكر كما يظهر بأدنى التفات أردف بقوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) وحيث إن مطمح النظر من العباد السيد الحبيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان المعنى الله تعالى يجازي عبده ونبيه عليه الصلاة والسلام هذا الجزاء المذكور وفيه أنه الذي يجزيه البتة ويلائمه قوله تعالى : (وَيُخَوِّفُونَكَ) فإنه لما كان في مقابلة ذم آلهتهم كما سمعت في سبب النزول كان تحذيرا من جزاء الآلهة فلا مغمز بعدم الملاءمة. نعم لا ننكر أن معنى الكفاية أبلغ كما هو مقتضى القراءة المشهورة فاعلم ذاك والله تعالى يتولى هداك.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) حتى غفل عن كفايته تعالى عبده وخوف بما لا ينفع ولا يضر أصلا (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يهديه إلى خير ما (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) فيجعل كونه تعالى كافيا نصب عينه عاملا بمقتضاه (فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يخل بسلوكه إذ لا راد لفعله ولا معارض لإرادته عزوجل كما ينطق به قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ) غالب لا يغالب منيع لا يمانع ولا ينازع (ذِي انْتِقامٍ) ينتقم من أعدائه لأوليائه ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتحقيق مضمون الكلام وتربية المهابة.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لظهور الدليل ووضوح السبيل فقد تقرر في العقول وجوب انتهاء الممكنات إلى واجب الوجود ، والاسم الجليل فاعل لفعل محذوف أي خلقهن الله (قُلْ) تبكيتا لهم (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) أي إذا كان خالق العالم العلوي والسفلي هو الله عزوجل كما أقررتم فأخبروني أن آلهتكم إن أرادني الله سبحانه بضر هل هن يكشفن عني ذلك الضر ، فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر ؛ وقال بعضهم : التقدير إذا لم يكن خالق سواه تعالى فهل يمكن غيره كشف ما أراد من الضر ، وجوز أن تكون عاطفة على مقدر أي أتفكرتم بعد ما أقررتم فرأيتم ما تدعون إلخ (أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ) أي أو إن أرادني بنفع (هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) فيمنعها سبحانه عني. وقرأ الأعرج وشيبة وعمرو بن عبيد وعيسى بخلاف عنه. وأبو عمرو وأبو بكر «كاشفات» و «ممسكات» بالتنوين فيهما ونصب ما بعدهما وتعليق إرادة الضر والرحمة بنفسه النفيسة عليه الصلاة والسلام للرد في نحورهم حيث كانوا خوفوه معرة الأوثان ولما فيه من الإيذان بإمحاض النصيحة ، وقدم الضر لأن دفعه أهم ، وقيل : «كاشفات» و «ممسكات» على ما يصفونها به من الأنوثة تنبيها على كمال ضعفها (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ) كافي جل شأنه في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر. روي عن مقاتل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سألهم سكتوا فنزل ذلك.

٢٦١

(عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ) لا على غيره في كل شيء (الْمُتَوَكِّلُونَ) لعلمهم أن كل ما سواه تحت ملكوته تعالى.

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) على حالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنتم فيها فإن المكانة نقلت من المكان المحسوس إلى الحالة التي عليها الشخص واستعيرت لها استعارة محسوس لمعقول ، وهذا كما استعار حيث وهنا للزمان بجامع الشمول والإحاطة ، وجوز أن يكون المعنى اعملوا على حسب تمكنكم واستطاعتكم.

وروي عن عاصم «مكاناتكم» بالجمع والأمر للتهديد ، وقوله تعالى : (إِنِّي عامِلٌ) وعيد لهم وإطلاقه لزيادة الوعيد لأنه لو قيل : على مكانتي لتراءى أنه عليه الصلاة والسلام على حالة واحدة لا تتغير ولا تزداد فلما أطلق أشعر بأن له صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل زمان مكانة أخرى وأنه لا يزال يزداد قوة بنصر الله تعالى وتأييده ويؤيد ذلك قوله تعالى : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) فإنه دال على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منصور عليهم في الدنيا والآخرة بدليل قوله تعالى : (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) فإن الأول إشارة إلى العذاب الدنيوي وقد نالهم يوم بدر والثاني إشارة إلى العذاب الأخروي فإن العذاب المقيم عذاب النار فلو قيل إني عامل على مكانتي وكان إذ ذاك غير غالب بل الأمر بالعكس لم يلائم المقصود ، و (مَنْ) تحتمل الاستفهامية والموصولية وجملة (يُخْزِيهِ) صفة (عَذابٌ) والمراد بمقيم دائم وفي الكلام مجاز في الظرف أو الإسناد وأصله مقيم فيه صاحبه (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ) لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في المعاش والمعاد (بِالْحَقِ) حال من مفعول (أَنْزَلْنا) أو من فاعله أي أنزلنا الكتاب ملتبسا أو ملتبسين بالحق (فَمَنِ اهْتَدى) بأن عمل بما فيه (فَلِنَفْسِهِ) إذ نفع به نفسه (وَمَنْ ضَلَ) بأن لم يعمل بموجبه (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) لما أن وبال ضلاله مقصور عليها (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) لتجبرهم على الهدى وما وظيفتك إلا البلاغ وقد بلغت أي بلاغ.

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) أي يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلقها تعلق التصرف فيها عنها (حِينَ مَوْتِها) أي في وقت موتها (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ) أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت (فِي مَنامِها) متعلق ـ بيتوفى ـ أي يتوفاها في وقت نومها على أن مناما اسم زمان ، وجوز فيه كونه مصدرا ميميا بأن يقطع سبحانه تعلقها بالأبدان تعلق التصرف فيها عنها أيضا فتوفي الأنفس حين الموت وتوفيها في وقت النوم بمعنى قبضها عن الأبدان وقطع تعلقها بها تعلق التصرف إلا أن توفيها حين الموت قطع لتعلقها بها تعلق التصرف ظاهرا أو باطنا وتوفيها في وقت النوم قطع لذلك ظاهرا فقط ، وكأن التوفي الذي يكون عند الموت لكونه شيئا واحدا في أول زمان الموت وبعد مضي أيام منه قيل : (حِينَ مَوْتِها) والتوفي الذي يكون في وقت النوم لكونه يتفاوت في أول وقت النوم وبعد مضي زمان منه قوة وضعفا قيل : (فِي مَنامِها) أي في وقت نومها كذا قيل فتدبره ولمسلك الذهن السليم اتساع ، وإسناد الموت والنوم إلى الأنفس قيل : مجاز عقلي لأنهما حالا أبدانها لا حالاها ، وزعم الطبرسي أن الكلام على حذف مضاف أعني الأبدان ، وجعل الزمخشري الأنفس عبارة عن الجملة دون ما يقابل الأبدان ، وحمل توفيها على إماتتها وسلب صحة أجزائها بالكلية فلا تبقى حية حساسة دراكة حتى كأن ذاتها قد سلبت ، وحيث لم يتحقق هذا المعنى في التوفي حين النوم لأنه ليس إلا سلب كمال الصحة وما يترتب عليه من الحركات الاختيارية وغيرها قال في قوله تعالى : (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى ، ومنه قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام : ٦٠] حيث لا تميزون ولا تتصرفون كما أن الموتى كذلك ، وما يتخايل فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز يدفع بالتأمل ؛ وتقديم الاسم الجليل وبناء (يَتَوَفَّى) عليه للحصر أو للتقوى أو لهما ، واعتبار الحصر أوفق بالمقام من اعتبار التقوى وحده أي الله يتوفى الأنفس حقيقة لا غيره عزوجل (فَيُمْسِكُ الَّتِي) أي الأنفس التي (قَضى) في الأزل (عَلَيْهَا

٢٦٢

الْمَوْتَ) ولا يردها إلى أبدانها بل يبقيها على ما كانت عليه وينضم إلى ذلك قطع تعلق التصرف باطنا ، وعبر عن ذلك بالإمساك ليناسب التوفي.

وقرأ حمزة والكسائي وعيسى وطلحة والأعمش وابن وثاب «قضي» على البناء للمفعول ورفع «الموت» (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) أي الأنفس الأخرى وهي النائمة إلى أبدانها فتكون كما كانت حال اليقظة متعلقة بها تعلق التصرف ظاهرا وباطنا ، وعبر بالإرسال رعاية للتقابل (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو الوقت المضروب للموت حقيقة وهو غاية لجنس الإرسال الواقع بعد الإمساك لا لفرد منه فإنه آني لا امتداد له فلا يغيا ، واعتبر بعضهم كون الغاية للجنس لئلا يرد لزوم أن لا يقع نوم بعد اليقظة الأولى أصلا وهو حسن ، وقيل : (يُرْسِلُ) مضمن معنى الحفظ والمراد يرسل الأخرى حافظا إياها عن الموت الحقيقي إلى أجل مسمى ، وروي عن ابن عباس أن في ابن آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس هي التي بها العقل والتمييز والروح هي التي بها النفس والتحرك فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم ، وهو قول بالفرق بين النفس والروح ، ونسبه بعضهم إلى الأكثرين ويعبر عن النفس بالنفس الناطقة وبالروح الأمرية وبالروح الإلهية ، وعن الروح بالروح الحيوانية وكذا بالنفس الحيوانية ، والثانية كالعرش للأولى ، قال بعض الحكماء المتألهين إن القلب الصنوبري فيه بخار لطيف هو عرش للروح الحيوانية وحافظ لها وآلة يتوقف عليها آثارها ، والروح الحيوانية عرش ومرآة للروح الإلهية التي هي النفس الناطقة وواسطة بينها وبين البدن بها يصل حكم تدبير النفس إليه ، وإلى عدم التغاير ذهب جماعة ، وهو قول ابن جبير واحد قولين لابن عباس ، وما روي عنه أولا في الآية يوافق ما ذكرناه من حيث إنّ النفس عليه ليست بمعنى الجملة كما قال الزمخشري وادعى أن الصحيح ما ذكره دون هذا المروي بدليل موتها ومنامها ، والضمير للأنفس وما أريد منها غير متصف بالموت والنوم وإنما الجملة هي التي تتصف بهما.

وقال في الكشف ولأن الفرق بين النفسين رأي يدفعه البرهان ، وإيقاع الاستيفاء أيضا لا بد له من تأويل أيضا فلا ينبغي أن يعدل عن المشهور الملائم يعني حمل التوفي على الأمانة فإن أصله أخذ الشيء من المستوفى منه وافيا كملا وسلبه منه بالكلية ثم نقل عن ذلك إلى الإماتة لما أنه موجود فيها حتى صارت المتبادرة إلى الفهم منه ، وفيه دغدغة ، والذي يشهد له كثير من الآثار الصحيحة أن المتوفى في الأنفس التي تقابل الأبدان دون الجملة.

أخرج الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليقل اللهم باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين من عبادك» وأخرج أحمد البخاري وأبو داود والنسائي وابن أبي شيبة عن أبي قتادة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم ليلة الوادي : «إن الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء» وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : «كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فقال : من يكلؤنا الليلة؟ فقلت : أنا فنام ونام الناس ونمت فلم نستيقظ إلا بحرّ الشمس فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام : أيها الناس إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد فيقبضها الله إذا شاء ويرسلها إذا شاء».

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال : العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فتكون رؤياه كأخذ باليد ويرى الرجل الرؤيا فلا تكون رؤياه شيئا فقال علي كرم تعالى وجهه : أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ يقول الله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فالله تعالى يتوفى الأنفس كلها فما

٢٦٣

رأت وهي عنده سبحانه في السماء. فهي الرؤيا الصادقة وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها فهي الكاذبة لأنها إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها فعجب عمر من قوله رضي الله تعالى عنهما ؛ وظاهر هذا الأثر أن النفس النائمة المقبوضة تكون في السماء حتى ترسل ، ومثل ذلك مما يجب تأويله على القول بتجرد النفس ولا يجب على القول الآخر. نعم لعلك تختاره وكأنك تقول : إن النفس شريفة علوية هبطت من المحل الأرفع وأرسلت من حمى ممنع وشغلت بتدبير منزلها في نهارها وليلها ولم تزل تنتظر فرصة العود إلى ذياك الحمى والمحل الرفيع الاسمى وعند النوم تنتهز تلك الفرصة وتهون عليها في الجملة هاتيك الغصة فيحصل لها نوع توجه إلى عالم النور ومعلم السرور الخالي من الشرور بحيث تستعد استعدادا ما لقبول بعض آثاره والاستضاءة بشيء من أنواره وجعلها كذلك هو قبضها وبه لعمري بسطها وقبضها ، فمتى رأت وهي راجعة في تلك الحال مستفيضة من ذلك العالم الموصوف بالكمال رؤيا كانت صادقة ومتى رأت وهي القهقرى إلى ما ابتليت به من تدبير منزل تحوم فيه شياطين الأوهام وتزدحم فيه أي ازدحام كانت رؤياها كاذبة ثم إنها في كلا الحالين متفاوتة الإفراد فيما يكون من الاستعداد ، والوقوف على حقيقة الحال لا يتم إلا بالكشف دون القيل والقال (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الإشارة إلى ما ذكر من التوفي والإمساك والإرسال ، والإفراد لتأويله بالمذكور أو نحوه ، وصيغة البعيد باعتبار مبدئه أو تقضي ذكره أو بعد منزلته ، والتنوين في (آيات) للتكثير والتعظيم أي أن فيما ذكر الآيات كثيرة عظيمة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته وشمول رحمته سبحانه لقوم يتفكرون في كيفية تعلق الأنفس بالأبدان وتوفيها عنها تارة بالكلية عند الموت وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها إلى أن يعيد الله تعالى الخلق وما يعتريها من السعادة والشقاوة وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النوم وإرسالها حينا بعد حين إلى انقضاء آجالها.

(أَمِ اتَّخَذُوا) أي بل اتخذ قريش ـ فأم ـ منقطعة والاستفهام المقدر لإنكار اتخاذهم (مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) تشفع لهم عند الله تعالى في رفع العذاب ، وقيل : في أمورهم الدنيوية والأخروية ، وجوز كونها متصلة بتقدير معادل كما ذكره ابن الشيخ في حواشي البيضاوي وهو تكلف لا حاجة إليه ، ومعنى (مِنْ دُونِ اللهِ) من دون رضاه أو إذنه لأنه سبحانه لا يشفع عنده إلا من إذن له ممن أرضاه ومثل هذه الجمادات الخسيسة ليست مرضية ولا مأذونة ولو لم يلاحظ هذا اقتضى أن الله تعالى شفيع ولا يطلق ذلك عليه سبحانه أو التقدير أم اتخذوا آلهة سواه تعالى لتشفع لهم وهو يؤول لما ذكر (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) أي أيشفعون حال تقدير عدم ملكهم شيئا من الأشياء وعدم عقلهم إياه ، وحاصله أيشفعون وهم جمادات لا تقدر ولا تعلم فالهمزة داخلة على محذوف والواو للحال والجملة حال من فاعل الفعل المحذوف. وذهب بعضهم إلى أنها للعطف على شرطية قد حذفت لدلالة (لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ) إلخ عليها أي أيشفعون لو كانوا يملكون شيئا ويعقلون ولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ، والمعنى على الحالية أيضا كأنه قيل : أيشفعون على كل حال ، وقال بعض المحققين من النحاة : إنها اعتراضية ويعني بالجملة الاعتراضية ما يتوسط بين أجزاء الكلام متعلقا به معنى مستأنفا لفظا على طريق الالتفات كقوله :

فأنت طلاق والطلاق ألية

وقوله :

ترى كل من فيها وحاشاك فانيا

وقد تجيء بعد تمام الكلام كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» وفي احتياج أداة الشرط في مثل هذا التركيب إلى الجواب خلاف وعلى القول بالاحتياج هو محذوف لدلالة ما قبل عليه وتحقيق الأقوال في كتب العربية.

٢٦٤

وجوز أن يكون مدخول الهمزة المحذوف هنا الاتخاذ أي قل لهم أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئا من الأشياء فضلا عن أن يملكوا الشفاعة عند الله تعالى ولا يعقلون (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) لعله كما قال الإمام رد لما يجيبون به وهو أن الشفعاء ليست الأصنام أنفسها بل أشخاص مقربون هي تماثيلهم ، والمعنى أنه تعالى مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة ما إلا أن يكون المشفوع مرتضى والشفيع مأذونا له وكلاهما مفقودان هاهنا ، وقد يستدل بهذه الآية على وجود الشفاعة في الجملة يوم القيامة لأن الملك أن الاختصاص الذي هو مفاد اللام هنا يقتضي الوجود فالاستدلال بها على نفي الشفاعة مطلقا في غاية الضعف.

وقوله تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) استئناف تعليلي لكون الشفاعة جميعا له عزوجل كأنه قيل : له ذلك لأنه جل وعلا مالك الملك كله فلا يتصرف أحد بشيء منه بدون إذنه ورضاه فالسماوات والأرض كناية عن كل ما سواه سبحانه ، وقوله تعالى : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) عطف على قوله تعالى : (لَهُ مُلْكُ) إلخ وكأنه تنصيص على مالكية الآخرة التي فيها معظم نفع الشفاعة وإيماء إلى انقطاع الملك الصوري عما سواه عزوجل.

وجوز أن يكون عطفا على قوله تعالى : (لِلَّهِ الشَّفاعَةُ) وجعله في البحر تهديدا لهم كأنه قيل : ثم إليه ترجعون فتعلمون أنهم لا يشفعون لكم ويخيب سعيكم في عبادتهم ، وتقديم (إِلَيْهِ) للفاصلة وللدلالة على الحصر إذ المعنى إليه تعالى لا إلى أحد غيره سبحانه لا استقلالا ولا اشتراكا ترجعون (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) أي مفردا بالذكر ولم تذكر معه آلهتهم ، وقيل : أي إذا قيل لا إله إلا الله (اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي انقبضت ونفرت كما في قوله تعالى : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) [الإسراء : ٧٦] (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) فرادى أو مع ذكر الله عزوجل (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) لفرط افتتانهم بهم ونسيانهم حق الله تعالى ، وقد بولغ في بيان حالهم القبيحة حيث بين الغاية فيهما فإن الاستبشار أن يمتلئ القلب سرورا حتى ينبسط له بشرة الوجه ، والاشمئزاز أن يمتلئ غيظا وغما ينقبض عنه أديم الوجه كما يشاهد في وجه العابس المحزون ، و (إِذا) الأولى شرطية محلها النصب على الظرفية وعاملها الجواب عند الأكثرين وهو (اشْمَأَزَّتْ) أو الفعل الذي يليها وهو (ذُكِرَ) عند أبي حيان وجماعة ، وليست مضافة إلى الجملة التي تليها عندهم ، وكذا (إِذا) الثانية فالعامل فيها إما (ذُكِرَ) بعدها وإما (يَسْتَبْشِرُونَ) و (إِذا) الثالثة فجائية رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط كالفاء ، فعلى القول بحرفيتها لا يعمل فيها شيء وعلى القول باسميتها وأنها ظرف زمان أو مكان عاملها هنا خبر المبتدأ بعدها ، وقال الزمخشري : عاملها فعل مقدر مشتق من لفظ المفاجأة تقديره فاجئوا وقت الاستبشار فهي مفعول به ، وجوز أن تكون فاعلا على معنى فاجأهم وقت الاستبشار ، وهذا الفعل المقدر هو جواب إذا الثانية فتتعلق به بناء على قول الأكثرين من أن العامل في إذا جوابها ، ولا يلزم تعلق ظرفين بعامل واحد لأن الثاني منهما ليس منصوبا على الظرفية.

نعم قيل على الزمخشري : إنه لا سلف له فيما ذهب إليه ، وأنت تعلم أن الرجل في العربية لا يقلد غيره ، ومن العجيب قول الحوفي إن (إِذا) الثالثة ظرفية جيء بها تكرارا لإذا قبلها وتوكيدا وقد حذف شرطها والتقدير إذا كان ذلك هم يستبشرون ، ولا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا ، والآية في شأن المشركين مطلقا. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه فسر (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) بأبي جهل بن هشام والوليد بن عقبة وصفوان وأبيّ بن خلف ، وفسر (الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) باللات والعزى وكأن ذلك تنصيص على بعض أفراد العام. وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أن الآية حكت ما كان من المشركين يوم قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالنَّجْمِ) [النجم : ١] عند باب الكعبة : وهذا أيضا لا ينافي العموم كما لا يخفى ، وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين يهشون

٢٦٥

لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق هواهم واعتقادهم فيهم ويعظمون من يحكي لهم ذلك وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عزوجل وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره ، وقد قلت يوما لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني فقلت له : قل يا الله فقد قال سبحانه : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦] فغضب وبلغني أنه قال : فلان منكر على الأولياء ، وسمعت عن بعضهم أنه قال : الولي أسرع إجابة من الله عزوجل وهذا من الكفر بمكان نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان.

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما

٢٦٦

قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)(٦٨)

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أمر بالدعاء والالتجاء إلى الله تعالى لما قاساه في أمر دعوتهم وناله من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد فإنه تعالى القادر على الأشياء بجملتها والعالم بالأحوال برمتها ، والمقصود من الأمر بذلك بيان حالهم ووعيدهم وتسلية حبيبه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن جده وسعيه معلوم مشكور عنده عزوجل وتعليم العباد الالتجاء إلى الله تعالى والدعاء بأسمائه العظمى ، ولله تعالى در الربيع بن خيثم فإنه لما سئل عن قتل الحسين رضي الله تعالى عنه تأوه وتلا هذه الآية ، فإذا ذكر لك شيء مما جرى بين الصحابة قل : (اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ) إلخ فإنه من الآداب التي ينبغي أن تحفظ ، وتقديم المسند إليه في (أَنْتَ تَحْكُمُ) للحصر أي أنت تحكم وحدك بين العباد فيما استمر اختلافهم فيه حكما يسلمه كل مكابر معاند ويخضع له كل عات مارد وهو العذاب الدنيوي أو الأخروي ، والمقصود من الحكم بين العباد الحكم بينه عليه الصلاة والسلام وبين هؤلاء الكفرة.

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) إلخ قيل مستأنف مسوق لبيان آثار الحكم الذي استدعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغاية شدته وفظاعته أي لو أن لهم جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر (وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي لجعلوا كل ذلك فدية لأنفسهم من العذاب السيئ الشديد وقيل الجملة معطوفة على مقدر والتقدير فأنا أحكم بينهم وأعذبهم ولو علموا ذلك ما فعلوا ما فعلوا ، والأول أظهر ، وليس المراد إثبات الشرطية بل التمثيل لحالهم بحال من يحاول التخلص والفداء مما هو فيه بما ذكر فلا يتقبل منه ، وحاصله أن العذاب لازم لا يخلصون منه ولو فرض هذا المحال ففيه من الوعيد والإقناط ما لا يخفى.

وقوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي ظهر لهم من فنون العقوبات ما لم يكن في حسابهم زيادة مبالغة في الوعيد ، ونظير ذلك في الوعد قوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧] والجملة قيل : الظاهر أنها حال من فاعل (افتدوا).

(وَبَدا لَهُمْ) حين تعرض عليهم صحائفهم (سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي الذي كسبوه وعملوه على أن (ما) موصولة أو كسبهم وعملهم على أنها مصدرية ، وإضافة (سَيِّئاتُ) على معنى من أو اللام (وَحاقَ) أي أحاط (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي جزاء ذلك على أن الكلام على تقدير المضاف أو على أن هناك مجازا بذكر السبب وإرادة مسببه ، و (ما) محتملة للموصولية والمصدرية أيضا (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) إخبار عن الجنس بما يغلب فيه ، وقيل : المراد بالإنسان حذيفة بن المغيرة ، وقيل : الكفرة (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) أي أعطيناه إياها تفضلا فإن التخويل على ما قيل مختص به لا يطلق على ما أعطي جزاء (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) أي على علم مني بوجوه كسبه أو بأني سأعطاه لما لي من الاستحقاق أو على علم من الله تعالى بي وباستيجابي ، وإنما للحصر أي ما أوتيته لشيء من الأشياء إلا لأجل علم ، والهاء للنعمة ، والتذكير لتأويلها بشيء من النعم ، والقرينة على ذلك التنكير ، وقيل : لأنها بمعنى الإنعام ، وقيل : لأن المراد بها المال ، وقيل : لأنها تشتمل على مذكر ومؤنث فغلب المذكر ، وجوز أن يكون لما في (إِنَّما) على أنها موصولة أي إن الذي أوتيته كائن على علم ويبعد موصوليتها كتابتها متصلة

٢٦٧

في المصاحف (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) رد لقوله ذلك ، والضمير للنعمة باعتبار لفظها كما أن الأول لها باعتبار معناها ، واعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى جائز وإن كان الأكثر العكس ، وجوز أن يكون التأنيث باعتبار الخبر ، وقيل : هو ضمير الإتيان وقرئ بالتذكير فهو للنعمة أيضا كالذي مر أو للإتيان أي ليس الأمر كما يقول بل ما أوتيه امتحان له أيشكر أم يكفر ، وأخبر عنه بالفتنة مع أنه آلة لها لقصد المبالغة ، ونحو هذا يقال على تقدير عود الضمير للإتيانة أو الإتيان (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) إن الأمر كذلك وهذا ظاهر في أن المراد بالإنسان الجنس إذ لو أريد العهد لقيل لكنه لا يعلم أو لكنهم لا يعلمون وإرادة العهد هناك وإرجاع الضمير للمطلق هنا على أنه استخدام نظير عندي درهم ونصفه تكلف.

والفاء للعطف وما بعدها عاطف على قوله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) إلخ وهي لترتيبه عليه والغرض منه التهكم والتحميق ، وفيه ذمهم بالمناقضة والتعكيس حيث إنهم يشمئزون عن ذكر الله تعالى وحده ويستبشرون بذكر الآلهة فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا من ذكره دون من استبشروا بذكره ، وهذا كما تقول : فلان يسيء إلى فلان فإذا احتاج سأله فأحسن إليه ، ففي الفاء استعارة تبعية تهكمية ، وقيل : يجوز أن تكون للسببية داخلة على السبب لأن ذكر المسبب يقتضي ذكر سببه لأن ظهور ما لم يكونوا يحتسبون إلخ مسبب عما بعد الفاء إلا أنه يتكرر مع قوله تعالى الآتي : و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) منهم إلى آخره إن لم يتغايرا بكون أحدهما في الدنيا والآخرة في الأخرى ، وإلى ما قدمنا ذهب الزمخشري ، والجمل الواقعة في البين عليه أعني قوله سبحانه : (قُلِ اللهُمَ) ـ إلى ـ (يَسْتَهْزِؤُنَ) اعتراض مؤكد للإنكار عليهم ، وزعم أبو حيان أن في ذلك تكلفا واعتراضا بأكثر من جملتين وأبو علي الفارسي لا يجيز الاعتراض بجملتين فكيف يجيزه بالأكثر ، وأنا أقول : لا بأس بذلك لا سيما وقد تضمن معنى دقيقا لطيفا ، والفارسي محجوج بما ورد في كلام العرب من ذلك (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ضمير (قالَهَا) لقوله تعالى : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) [القصص : ٧٨] لأنها كلمة أو جملة. وقرئ بالتذكير أي القول أو الكلام المذكور ، والذين من قبلهم قارون وقومه فإنه قال ورضوا به فالإسناد من باب إسناد ما للبعض إلى الكل وهو مجاز عقلي.

وجوز أن يكون التجوز في الظرف فقالها الذين من قبلهم بمعنى شاعت فيهم ، والشائع الأول ، والمراد قالوا مثل هذه المقالة أو قالوها بعينها ولاتحاد صورة اللفظ تعد شيئا واحدا في العرف (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من متاع الدنيا ويجمعونه منه.

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي أصابهم جزاء سيئات كسبهم أو الذي كسبوه على أن الكلام بتقدير مضاف أو أنه تجوز بالسيئات عما تسبب عنها وقد يقال لجزاء السيئة سيئة مشاكلة نحو قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) فيكون ما هنا من المشاكلة التقديرية ، وإذا كان المعنى على جعل جزاء جميع ما كسبوا سيئا دل الكلام على أن جميع ما كسبوا سيئ إذ لو كان فيه حسن جوزي عليه جزاء حسنا ، وفيه من ذمهم ما فيه.

(وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) المشركين ، و (مِنْ) للبيان فإنهم كلهم كانوا ظالمين إذا الشرك ظلم عظيم أو للتبعيض فالمراد بالذين ظلموا من أصر على الظلم حتى تصيبهم قارعة وهم بعض منهم (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) كما أصاب الذين من قبلهم ، والمراد به العذاب الدنيوي وقد قحطوا سبع سنين ، وقتل ببدر صناديدهم وقيل العذاب الأخروي ، وقيل : الأعم ، ورجح الأول بأنه الأوفق للسياق ، وأشير بقوله تعالى : (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي بفائتين على ما قيل إلى العذاب الأخروي.

(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أن يبسطه له (وَيَقْدِرُ) لمن يشاء أن يقدر له من غير أن

٢٦٨

يكون لأحد ما مدخل في ذلك حيث حبس عنهم الرزق سبعا ثم بسطه لهم سبعا (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر (لَآياتٍ) دالة على أن الحوادث كافة من الله تعالى شأنه والأسباب في الحقيقة ملغاة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إذ هم المستدلون بها على مدلولاتها (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي أفرطوا في المعاصي جائين عليها ، وأصل الإسراف الإفراط في صرف المال ثم استعمل فيما ذكر مجازا بمرتبتين على ما قيل ، وقال الراغب : هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر وهذا ظاهر في أنه حقيقة فيما ذكرنا وهو حسن.

وضمن معنى الجناية ليصح تعديه بعلى والمضمن لا يلزم فيه أن يكون معناه حقيقيا ، وقيل : هو مضمن معنى الحمل ، وحمل غير واحد الإضافة في (عِبادِيَ) على العهد أو على التشريف ، وذهبوا إلى أن المراد بالعباد المؤمنون وقد غلب استعماله فيهم مضافا إليه عزوجل في القرآن العظيم فكأنه قيل : أيها المؤمنون المذنبون (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) أي لا تيأسوا من مغفرته سبحانه وتفضله عزوجل على أن المغفرة مدرجة في الرحمة أو أن الرحمة مستلزمة لها لأنه لا يتصور الرحمة لمن لم يغفر له ، وتعليل النهي بقوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) يقتضي دخولها في المعلل ، والتذييل بقوله سبحانه : (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) كالصريح في ذلك ، وجوز أن يكون في الكلام صنعة الاحتباك كأنه قيل : لا تقنطوا من رحمة الله ومغفرته إن الله يغفر الذنوب جميعا ويرحم ، وفيه بعد ، وقالوا : المراد بمغفرة الذنوب التجافي عنها وعدم المؤاخذة بها في الظاهر والباطن وهو المراد بسترها ، وقيل : المراد بها محوها من الصحائف بالكلية مع التجافي عنها وأن الظاهر إطلاق الحكم وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر كيف لا وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] ظاهر في الإطلاق فيما عدا الشرك ، ويشهد للإطلاق أيضا أمور ، الأول نداؤهم بعنوان العبودية فإنها تقتضي المذلة وهي أنسب بحال العاصي إذا لم يتب واقتضاؤها للترحم ظاهر. الثاني الاختصار الذي تشعر به الإضافة إلى ضميره تعالى فإن السيد من شأنه أن يرحم عبده ويشفق عليه. الثالث تخصيص ضرر الإسراف المشعرة به «على» بأنفسهم فكأنه قيل : ضرر الذنوب عائد عليهم لا علي فيكفي ذلك من غير ضرر آخر كما في المثل أحسن إلى من أساء كفى المسيء إساءته ، فالعبد إذا أساء ووقف بين يدي سيده ذليلا خائفا عالما بسخط سيده عليه ناظرا لإكرام غيره ممن أطاع لحقه ضرر إذ استحقاق العقاب عقاب عند ذوي الألباب.

الرابع النهي عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة وإطلاقها. الخامس إضافة الرحمة إلى الاسم الجليل المحتوي على جميع معاني الأسماء على طريق الالتفات فإن ذلك ظاهر في سعتها وهو ظاهر في شمولها التائب وغيره. السادس التعليل بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ) إلخ فإن التعليل يحسن مع الاستبعاد وترك القنوط من الرحمة مع عدم التوبة أكثر استبعادا من تركه مع التوبة. السابع وضع الاسم الجليل فيه موضع الضمير لإشعاره بأن المغفرة من مقتضيات ذاته لا لشيء آخر من توبة أو غيرها. الثامن تعريف الذنوب فإنه في مقام التمدح ظاهر في الاستغراق فتشمل الذنب الذي يعقبه التوبة والذي لا تعقبه. التاسع التأكيد بالجميع. العاشر التعليل ـ بأنه هو ـ إلخ. الحادي عشر التعبير بالغفور فإنه صيغة مبالغة وهي إن كانت باعتبار الكم شملت المغفرة جميع الذنوب أو باعتبار الكيف شملت الكبائر بدون توبة. الثاني عشر حذف معمول (الْغَفُورُ) فإن حذف المعمول يفيد العموم. الثالث عشر إفادة الجملة الحصر فإن من المعلوم أن الغفران قد يوصف به غيره تعالى فالمحصور فيه سبحانه إنما هو الكامل العظيم وهو ما يكون بلا توبة الرابع عشر المبالغة في ذلك الحصر.

الخامس عشر الوعد بالرحمة بعد المغفرة فإنه مشعر بأن العبد غير مستحق للمغفرة لو لا رحمته وهو ظاهر فيما

٢٦٩

إذا لم يتب. السادس عشر التعبير بصيغة المبالغة فيها. السابع عشر إطلاقها ، ومنع المعتزلة مغفرة الكبائر والعفو عنها من غير توبة وقالوا : إنها وردت في غير موضع من القرآن الكريم مقيدة بالتوبة فإطلاقها هنا يحمل على التقييد لاتحاد الواقعة وعدم احتمال النسخ ، وكون القرآن في حكم كلام واحد ، وأيدوا ذلك بقوله تعالى : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) فإنه عطف على ألا تقنطوا والتعليل معترض ، وبعد تسليم حديث حمل الإطلاق على التقييد يكون عطفا لتتميم الإيضاح كأنه قيل : لا تقنطوا من رحمة الله تعالى فتظنوا أنه لا يقبل توبتكم وأنيبوا إليه تعالى وأخلصوا له عزوجل.

وأجاب بعض الجماعة بمنع وجوب حمل الإطلاق على التقييد في كلام واحد نحو أكرم الفضلاء أكرم الكاملين فضلا عن كلام لا يسلم كونه في حكم كلام واحد وحينئذ لا يكون المعطوف شرطا للمعطوف عليه إذ ليس من تتمته ، وقيل : إن الأمر بالتوبة والإخلاص لا يحل بالإطلاق إذ ليس المدعي أن الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن الأمر بهما وتنافي الوعيد بالعذاب.

وقال بعض أجلة المدققين : إن قوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) خطاب للكافرين والعاصين وإن كان المقصود الأولى الكفار لمكان القرب وسبب النزول ، فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : إن أهل مكة قالوا : يزعم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه من عبد الأوثان ودعا مع الله تعالى إلها آخر وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له فكيف تهاجر وتسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) إلخ.

وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول : لا يقبل الله تعالى من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا أقوام أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوه فنزلت هؤلاء الآيات وكان عمر رضي الله تعالى عنه كاتبا فكتبها بيده ثم كتب بها إلى عياش وإلى الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا.

وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال : نزلت هذه الآيات الثلاث (قُلْ يا عِبادِيَ) ـ إلى ـ (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) بالمدينة في وحشي وأصحابه ونحلل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) بين المعطوفين تعليلا للجزء الأول قبل الوصول إلى الثاني للدلالة على سعة رحمته تعالى وأن مثله حقيق بأن يرجى وإن عظم الذنب لا سيما وقد عقب بقوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ) الآية الدال على انحصار الغفران والرحمة على الوجه الأبلغ فالوجه أن يجري على عمومه ليناسب عموم الصدر ولا يقيد بالتوبة لئلا ينافي غرض التخلل مع أنه جمع محلى باللام ، وقد أكد بما صار نصا في الاستغراق ، ولا يغني المعتزلي أن القرآن العظيم كالكلام الواحد وأنه سليم من التناقض بل يضره ، وكذلك ما ذكر من أسباب النزول انتهى ، وقد تضمن الإشارة إلى بعض مؤكدات الإطلاق التي حكيناها آنفا والذي يترجح فى نظري ما اختاره من عموم الخطاب في (يا عِبادِيَ) للعاصين والكافرين ، وأمر الإضافة سهل ، وإن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) مقيد بلمن يشاء بقرينة التصريح به في قراءة عبد الله هنا ، وكون الأمور كلها معلقة بالمشيئة ولا نسلم أن متعلق المشيئة التائب وحده ، وكونها تابعة للحكمة على تقدير صحته لا ينفع إذ دون إثبات كون المغفرة لغير التائب منافية للحكمة خرط القتاد. نعم لا تتعلق بالمشرك ما لم يؤمن لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨] فمغفرة الشرك مشروطة بالإيمان داخل فيمن يشاء لكن بالشرط المعروف ، واعتبار الشرط فيه لا يضر في عدم اعتبار شرط التوبة في العاصي بما دونه.

٢٧٠

ويشهد لذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده. وابن جرير وابن أبي حاتم. وابن مردويه. والبيهقي في شعب الإيمان عن ثوبان قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إلى آخر الآية فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعة ثم قال : إلا ومن أشرك ثلاث مرات» لا يقال المغفرة لمن أشرك بشرط الإسلام أمر واضح فلا يجوز أن تخفى على السائل وعليه عليه الصلاة والسلام حتى يسكت لانتظار الوحي أو الاجتهاد لأنا نقول : السؤال للاستبعاد من حيث العادة والسكوت لتعليم سلوك طريق التأني والتدبر وإن كان الأمر واضحا.

وقيل : الظاهر أنه لانتظار الإذن أو الاجتهاد في التصريح بعموم المغفرة فإنهم ربما اتكلوا على ذلك فيخشى التفريط في العمل وهو لا ينافي التعليم فإنه عليه الصلاة والسلام إنما يعلمهم التدبر بعد أن يتدبر هو في نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وزعم أن الحديث دال على اشتراط التوبة ليس بشيء ، ويؤيد إطلاق المغفرة عن قيد التوبة ما أخرجه الإمام أحمد وعبد ابن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد قالت : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم» فإنه ليس للا يبالي كثير حسن إن كانت المغفرة مشروطة بالتوبة كما لا يخفى ، وكذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن سيرين قال : قال علي كرم الله تعالى وجهه أي آية أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [النساء : ١١٠] الآية ونحوها فقال علي كرم الله تعالى وجهه : ما في القرآن أوسع آية من (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية.

والمؤكدات السابقة أعني السبعة عشر لا يخلو بعضها عن بحث ، والظاهر أن مغفرة ذنب لا تجامع العذاب عليه أصلا ، وذهب بعضهم إلى أنها تجامعه إذا كان أنقص من الذنب لا إذا كان بمقداره فمن عذب بمقدار ذنبه في النار ، وأخرج منها لا يقال إنه غفر له إذ السيئات إنما تجزى بأمثالها ، وقيل : تجامعه مطلقا وكون السيئات لا تجزى إلا بأمثالها بلطفه تعالى أيضا فهو نوع من عفوه عزوجل وفيه ما فيه فتأمل ، وأصل الإنابة الرجوع.

ومعنى (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) إلخ أي ارجعوا إليه سبحانه بالإعراض عن معاصيه والندم عليها ، وقيل : بالانقطاع إليه تعالى بالعبادة وذكر الرب كالتنبيه على العلة ، وقال القشيري : الإنابة الرجوع بالكلية ، والفرق بين الإنابة والتوبة أن التائب يرجع من خوف العقوبة والمنيب يرجع استحياء لكرمه تعالى ، والإسلام له سبحانه الإخلاص في طاعاته عزوجل ، وذكر أن الإخلاص بعد الإنابة أن يعلم العبد أن نجاته بفضل الله تعالى لا بإنابته فبفضله سبحانه وصل إلى إنابته لا بإنابته وصل إلى فضله جل فضله. وعن ابن عباس من حديث أخرجه ابن جرير وابن المنذر عنه «من آيس العباد من التوبة فقد جحد كتاب الله تعالى ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله تعالى عليه» (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الظاهر أنه خطاب للعباد المخاطبين فيما تقدم سواء أريد بهم المؤمنون أو ما يعمهم والكافرين ، والمراد بما أنزل القرآن وهو كما أنزل إلى المؤمنين أنزل إلى الكافرين ضرورة أنه أنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لدعوة الناس كافة ، والمراد بأحسنه ما تضمن الإرشاد إلى خير الدارين دون القصص ونحوها أو المأمور به أو العزائم أو الناسخ ، وأفعل على الأول والثالث على ظاهره وعلى الثاني والرابع فيه احتمالان ؛ وقيل : لعل الأحسن ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة وأفعل فيه على ظاهره أيضا ، وجوز أن يكون الخطاب للجنس ، والمراد بما أنزل الكتب السماوية وبأحسنه القرآن ، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر ، وفي ذكر الرب ترغيب في الاتباع (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً)

٢٧١

أي فجأة (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) لا تعلمون أصلا بمجيئه فتتداركون ما يدفعه (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) في موضع المفعول له بتقدير مضاف ، وقدره الزمخشري كراهة وهو منصوب بفعل محذوف يدل عليه ما قبل أي أنذركم وأمركم بأحسن ما أنزل إليكم كراهة أن تقول ، ومن لا يشترط للنصب اتحاد الفاعل يجوز كون الناصب (أَنِيبُوا) أو (اتَّبِعُوا) وأيا ما كان فهذه الكراهة مقابل الرضا دون الإرادة فلا اعتزال في تقديرها ، وهو أولى من تقدير مخافة كما فعل الحوفي حيث قال : أي أنذرناكم مخافة أن تقول ، وابن عطية جعل العامل (أَنِيبُوا) ولم يقدر شيئا من الكراهة والمخافة حيث قال : أي أنيبوا من أجل أن تقول ، وذهب بعض النحاة إلى أن التقدير لئلا تقول ؛ وتنكير (نَفْسٌ) للتكثير بقرينة المقام كما في قول الأعشى :

ورب بقيع لو هتفت بجوه

أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا

فإنه أراد أفواجا من الكرام ينصرونه لا كريما واحدا ، وجوز أن يكون للتبعيض لأن القائل بعض الأنفس واستظهره أبو حيان ، قيل : ويكفي ذلك في الوعيد لأن كل نفس يحتمل أن تكون تلك ، وجوز أيضا أن يكون للتعظيم أي نفس متميزة من الأنفس اما بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم ، وليس بذاك (يا حَسْرَتى) بالألف بدل ياء الإضافة ، والمعنى كما قال سيبويه يا حسرتي احضري فهذا وقتك. وقرأ ابن كثير في الوقف «يا حسرتاه» بهاء السكت. وقرأ أبو جعفر «يا حسرتي» بياء الإضافة ، وعنه «يا حسرتاي» بالألف والياء التحتية مفتوحة أو ساكنة جمعا بين العوض والمعوض كذا قيل ، ولا يخفى أن مثل هذا غير جائز اللهم إلا شاذا استعمالا وقياسا ، فالأوجه أن يكون ثنى الحسرة مبالغة على نحو لبيك وسعديك وأقام بين ظهريهم وظهرانيهم على لغة بلحارث بن كعب من إبقاء المثنى على الألف في الأحوال كلها ، واختار ذلك صاحب الكشف ، وجوز أبو الفضل الرازي أيضا في كتابه اللوامح أن تكون التثنية على ظاهرها على تلك اللغة ؛ والمراد حسرة فوت الجنة وحسرة دخول النار ، واعتبار التكثير أولى لكثرة حسراتهم يوم القيامة (عَلى ما فَرَّطْتُ) أي بسبب تفريطي ـ فعلى ـ تعليلية و (ما) مصدرية كما في قوله تعالى : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [البقرة : ١٨٥] والتفريط التقصير (فِي جَنْبِ اللهِ) أي جانبه ، قال الراغب : أصل الجنب الجارحة ثم يستعار للناحية والجهة التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال ، والمراد هنا الجهة مجازا ، والكلام على حذف مضاف أي في جنب طاعة الله أو في حقه تعالى أي ما يحق له سبحانه ويلزم وهو طاعته عزوجل ؛ وعلى ذلك قول سابق البربري من شعراء الحماسة :

أما تتقين الله في جنب عاشق

له كبد حرى عليك تقطع

والتفريط في جهة الطاعة كناية عن التفريط في الطاعة نفسها لأن من ضيع جهة ضيع ما فيها بطريق الأولى الأبلغ لكونه بطريق برهاني ، ونظير ذلك قول زياد الأعجم :

إن السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج

ولا مانع من أن يكون للطاعة وكذا حق الله تعالى بمعنى طاعته سبحانه جهة بالتبعية للمطيع كمكان السماحة وما معها في البيت ، ومما ذكرنا يعلم أنه لا مانع من الكناية كما توهم ، وقال الإمام : سمي الجنب جنبا لأنه جانب من جوانب الشيء ، والشيء الذي يكون من لوازم الشيء وتوابعه يكون كأنه جند من جنوده وجانب من جوانبه فلما حصلت المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازما للشيء وتابعا له لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب على الحق والأمر والطاعة انتهى. وجعلوا في الكلام عليه استعارة تصريحية وليس هناك مضاف مقدر ، وليس بذاك. وقول ابن عباس : يريد على ما ضيعت من ثواب الله ، ومقاتل : على ما ضيعت من ذكر الله ؛ ومجاهد والسدي : على ما

٢٧٢

فرطت في أمر الله ، والحسن : في طاعة الله ، وسعيد بن جبير : في حق الله بيان لحاصل المعنى ، وقيل : الجنب مجاز عن الذات كالجانب أو المجلس يستعمل مجازا لربه ، فيكون المعنى على ما فرطت في ذات الله. وضعف بأن الجنب لا يليق إطلاقه عليه تعالى ولو مجازا ، وركاكته ظاهرة أيضا ، وقيل : هو مجاز عن القرب أي على ما فرطت في قرب الله. وضعف بأنه محتاج إلى تجوز آخر ، ويرجع الأمر في الآخرة إلى طاعة الله تعالى ونحوها. وبالجملة لا يمكن إبقاء الكلام على حقيقته لتنزهه عزوجل من الجنب بالمعنى الحقيقي.

ولم أقف على عد أحد من السلف إياه من الصفات السمعية ، ولا أعول على ما في المواقف ، وعلى فرض العد كلامهم فيها شهير وكلهم مجمعون على التنزيه وسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وفي حرف عبد الله وحفصة «في ذكر الله» (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي المستهزئين بدين الله تعالى وأهله ، و (أَنْ) هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة والجملة في محل النصب على الحال عند الزمخشري أي فرطت في حال سخريتي.

وقال في البحر : ويظهر أنها استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا لا حال ، والمقصود من ذلك الإخبار التحسر والتحزن (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي من الشرك والمعاصي.

وفسر غير واحد الهداية هنا بالإرشاد والدلالة الموصولة بناء على أنه الأنسب بالشرطية والمطابق للرد بقوله سبحانه : (بَلى) إلخ ، وفسرها أبو حيان بخلق الاهتداء. وأيا ما كان فالظاهر أن هذه المقالة في الآخرة.

(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) أي رجوعا إلى الحياة الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في العقيدة والعمل ، و (لَوْ) للتمني (فَأَكُونَ) منصوب في جوابها ، وجوز في البحر أن يكون منتصبا بالعطف على (كَرَّةً) إذ هو مصدر فيكون مثل قوله :

فما لك عنها غير ذكرى وحسرة

وتسأل عن ركبانها أين يمموا

وقول الآخر :

ولبس عباءة وتقر عيني

أحب لي من لبس الشفوف

ثم قال : والفرق بينهما أن الفاء إذا كانت في جواب التمني كانت أن واجبة الإضمار وكان الكون مترتبا على حصول المتمني لا متمنى ، وإذا كانت للعطف على (كَرَّةً) جاز إظهار أن وإضمارها وكان الكون متمنى.

وقوله تعالى : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) جواب من الله عزوجل لما تضمنه قول القائل (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) من نفي أن يكون الله تعالى هداه ورد عليه ، ولا يشترط في الجواب ببلى تقدم النفي صريحا وقد وقع في موقعه اللائق به لأنه لو قدم على القرينة الأخيرة أعني (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ) إلخ وأوقع بعده غير مفصول بينهما بها لم يحسن لتبتير النظم الجليل. فإن القرائن الثلاثة متناسبة متناسقة متلاصقة ، والتناسب بينهن أتم من التناسب بين القرينة الثانية وجوابها ، ولو أخرت القرينة الثانية وجعلت الثالثة ثانية لم يحسن أيضا لأن رعاية الترتيب المعنوي وهي أهم تفوت إذ ذاك ، وذلك لأن التحسر على التفريط عند تطاير الصحف على ما يدل عليه مواضع من القرآن العظيم ، والتعلل بعدم الهداية إنما يكون بعد مشاهدة حال المتقين واغتباطهم ، ولأنه للتسلي عن بعض التحسر أو من باب تمسك الغريق فهو لاحق وتمنى الرجوع بعد ذوق النار ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ) [الأنعام : ٢٧] وكذلك لو حمل الوقوف على الحبس على شفيرها أو مشاهدتها ، وكل بعد مشاهدة حال المتقين وما لقوا من خفة الحساب والتكريم في الموقف ، ولأن اللجأ إلى التمني بعد تحقق أن لا جدوى للتعليل.

٢٧٣

وقال الطيبي : إن النفس عند رؤية أهوال يوم القيامة يرى الناس مجزيين بأعمالهم فيتحسر على تفويت الأعمال عليها ثم قد يتعلل بأن التقصير لم يكن مني فإذا نظر وعلم أن التقصير كان منه تمنى الرجوع ، ثم الظاهر من السياق أن النفوس جمعت بين الأقوال الثلاثة ـ فاو ـ لمنع الخلو ، وجيء بها تنبيها على أن كل واحد يكفي صارفا عن إيثار الكفر وداعيا إلى الإنابة واتباع أحسن ما أنزل وتذكير الخطاب في (جاءَتْكَ) إلخ على المعنى لأن المراد بالنفس الشخص وإن كان لفظها مؤنثا سماعيا.

وقرأ ابن يعمر والجحدري وأبو حيوة والزعفراني وابن مقسم ومسعود بن صالح والشافعي عن ابن كثير ومحمد ابن عيسى في اختياره. والعبسي «جاءتك» إلخ بكسر الكاف والتاء ، وهي قراءة أبي بكر الصديق وابنته عائشة رضي الله تعالى عنهما ، وروتها أم سلمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ الحسن والأعمش والأعرج «جاءتك» بالهمز من غير مد بوزن فعتك ، وهو على ما قال أبو حيان : مقلوب من جاءتك قدمت لام الكلمة وأخرت العين فسقطت الألف واستدل المعتزلة بالآية على أن العبد خالق لأفعاله. وأجاب الأشاعرة بأن إسناد الأفعال إلى العبد باعتبار قدرته الكاسبة. وحقق الكوراني أنه باعتبار قدرته المؤثرة بإذن الله عزوجل لا كما ذهب إليه المعتزلة من أنه باعتبار قدرته المؤثرة أذن الله تعالى أم لم يأذن.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) بما ينالهم من الشدة التي تغير ألوانهم حقيقة ، ولا مانع من أن يجعل سواد الوجوه حقيقة علامة لهم غير مترتب على ما ينالهم ، وجوز أن يكون ذلك من باب المجاز لا أنها تكون مسودة حقيقة بأن يقال : إنهم لما يلحقهم من الكآبة ويظهر عليهم من آثار الجهل بالله عزوجل يتوهم فيهم ذلك. والظاهر أن الرؤية بصرية والخطاب إما لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام ، وإما لكل من تتأتى منه الرؤية ، وجملة (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) في موضع الحال على ما استظهره أبو حيان ، وكون المقصود رؤية سواد وجوههم لا ينافي الحالية كما توهم لأن القيد مصب الفائدة ، ولا بأس بترك الواو والاكتفاء بالضمير فيها لا سيما وفي ذكرها هاهنا اجتماع واوين وهو مستثقل. وزعم الفراء شذوذ ذلك ، ومن سلمه جعل الجملة هنا بدلا من (الَّذِينَ) كما ذهب إليه الزجاج ، وهم جوزوا إبدال الجملة من المفرد ، أو مستأنفة كالبيان لما أشعرت به الجملة قبلها وأدركه الذوق السليم منها من سوء حالهم ، أو جعل الرؤية علمية والجملة في موضع الثاني ، وأيد بأنه قرئ «وجوههم مسودة» بنصبهما على أن (وُجُوهُهُمْ) مفعول ثان و (مُسْوَدَّةٌ) حال منه. وأنت تعلم أن اعتبار الرؤية بصرية أبلغ في تفضيحهم وتشعير فظاعة حالهم لا سيما مع عموم الخطاب ، والنصب في القراءة الشاذة يجوز أن يكون على الإبدال ، والمراد بالذين ظلموا أولئك القائلون المتحسرون فهو من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ، وينطبق على ذلك أشد الانطباق قوله تعالى : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) أي مقام (لِلْمُتَكَبِّرِينَ) الذين جاءتهم آيات الله فكذبوا بها واستكبروا عن قبولها والانقياد لها ، وهو تقرير لرؤيتهم كذلك ، وينطبق عليه أيضا قوله الآتي : (وَيُنَجِّي) إلخ.

وكذبهم على الله تعالى لوصفهم له سبحانه بأن له شريكا ونحو ذلك تعالى عما يصفون علوا كبيرا ، وقيل: لوصفهم له تعالى بما لا يليق في الدنيا وقولهم في الأخرى : (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) المتضمن دعوى أن الله سبحانه لم يهدهم ولم يرشدهم ، وقيل : هم أهل الكتابين ، وعن الحسن أنهم القدرية القائلون إن شئنا فعلنا وإن لم يشإ الله تعالى وإن شئنا لم نفعل وإن شاء الله سبحانه ؛ وقيل : المراد كل من كذب على الله تعالى ووصفه بما لا يليق به سبحانه نفيا وإثباتا فأضاف إليه ما يجب تنزيهه تعالى عنه أو نزهه سبحانه عما يجب أن يضاف إليه ، وحكي ذلك عن القاضي وظاهره يقتضي تكفير كثير من أهل القبلة ، وفيه ما فيه ، والأوفق لنظم الآية الكريمة ما قدمنا ، ولا يبعد أن يكون حكم كل من كذب على الله تعالى عالما بأنه كذب عليه سبحانه أو غير عالم لكنه مستند إلى شبهة واهية كذلك ؛ وكلام

٢٧٤

الحسن إن صح لا أظنه إلا من باب التمثيل ، وتعريض الزمخشري بأهل الحق بما عرض خارج عن دائرة العدل فما ذهبوا إليه ليس من الكذب على الله تعالى في شيء ، والكذب فيه وفي أصحابه ظاهر جدا. وقرأ أبي «أجوههم» بإبدال الواو همزة (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) ما اتصف به أولئك المتكبرون من جهنم. وقرئ «ينجي» بالتخفيف من الإنجاء (بِمَفازَتِهِمْ) اسم مصدر كالفلاح على ما في الكشف أو مصدر ميمي على ما في غيره من فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده منه ، وقال الراغب : هي مصدر فاز أو اسم الفوز ويراد بها الظفر بالبغية على أتم وجه كالفلاح وبه فسرها السدي ، والباء للملابسة متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول مفيدة لمقارنة تنجيتهم من العذاب لنيل الثواب أي ينجيهم الله تعالى من جهنم مثوى المتكبرين لتقواهم مما اتصف المتكبرون به ملتبسين بفلاحهم وظفرهم بالبغية وهي الجنة ، ومآله ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة ، وكون الجنة بغية المتقي كائنا من كان مما لا شبهة فيه. نعم هي بغية لبعض المتقين من حيث إنها محل رؤية محبوبهم التي هي غاية مطلوبهم ولك أن تعمم البغية ، وقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في موضع الحال أيضا إما من الموصول أو من ضمير (بِمَفازَتِهِمْ) مفيدة لكونهم مع التنجية أو الفوز منفيا عنهم على الدوام مساس جنس السوء والحزن ، والظاهر أن هذه الحال مقدرة ، وقيل : إنها مقارنة مفيدة لكون تنجيتهم أو مفازتهم بالجنة غير مسبوقة بمساس العذاب والحزن ، ولا يخفى أنه لا يتسنى بالنسبة إلى جميع المتقين إذ منهم من يمسه العذاب ويحزن لا محالة ، وعد وجود ذلك لقلته وانقطاعه كلا وجود تكلف بعيد ، وجوز أن يراد بالمفازة الفلاح ويجعل قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُمُ) إلخ استئنافا لبيانها كأنه قيل : ما مفازتهم؟ فقيل : لا يمسهم إلخ.

والباء حينئذ على ما في الكشف سببية متعلقة بينجي أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم. وتعقب بأن في جعل عدم الحزن وعدم السوء سبب النجاة تكلفا فهما من النجاة ، والظاهر أنه لو جعلت الباء على هذا الوجه أيضا للملابسة لا يرد ذلك ، وجوز كون المفازة اسم مكان أي محل الفوز ، وفسرت بالمنجاة مكان النجاة ، وصح ذلك لأن النجاة فوز وفلاح ، وجعلت الباء عليه للسببية وهناك مضاف محذوف بقرينة باء السببية وإن المنجاة لا تصلح سببا أي ينجيهم بسبب منجاتهم وهو الإيمان ، وهو كالتصريح بما اقتضاه تعليق الفعل بالموصول السابق ، وفسره الزمخشري بالأعمال الصالحة ، وقواه بما حكاه عن ابن عباس ليتم مذهبه ؛ أو لا مضاف بل هناك مجاز بتلك القرينة من إطلاق اسم المسبب على السبب ، والجملة بعد على الاحتمالين في هذا الوجه حال ولا يخفى أن المفازة بمعنى المنجاة مكان النجاة هي الجنة والإيمان أو العمل الصالح ليس سببا لها نفسها وإنما هو سبب دخولها فلا بد من اعتباره فلا تغفل ، وجوز أن تكون المفازة مصدرا ميميا من فاز منه أي نجا منه يقال : طوبى لمن فاز بالثواب وفاز من العقاب أي ظفر به ونجا ، والباء إما للملابسة والجملة بيان للمفازة أي ينجيهم الله تعالى ملتبسين بنجاتهم الخاصة لهم أي بنفي السوء والحزن عنهم ، ولا يخفى ركاكة هذا المعنى ، وإما للسببية إما على حذف المضاف أو التجوز نظير ما مر آنفا ، ولا يحتاج هنا إلى اعتبار الدخول كما لا يخفى ، والجملة في موضع الحال أيضا.

وجوز على بعض الأوجه تعلق (بِمَفازَتِهِمْ) بما بعده ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وبالجملة الاحتمالات العقلية في الآية كثيرة لأن المفازة إما اسم مصدر أو مصدر ميمي أو اسم مكان من فاز به ظفر أو من فاز منه نجا والباء إما للملابسة أو للسببية أو للاستعانة ، وهي إما متعلقة بما قبلها أو بما بعدها وهذه ستة وثلاثون احتمالا وإذا ضممت إليها احتمال حذف المضاف في بمفازتهم بمعنى منجاتهم أو نجاتهم واحتمال التجوز فيه كذلك وكذا احتمال كون جملة (لا يَمَسُّهُمُ) إلخ حالا من الموصول واحتمال كونها حالا من ضمير ـ مفازتهم ـ واحتمال كون الحال مقدرة وكونها مقارنة زادت كثيرا ، ولا يخفى أن فيها المقبول ودونه بل فيها ما لا يتسنى أصلا فأمعن النظر ولا تجمد. وقرأ السلمي

٢٧٥

والحسن والأعرج والأعمش وحمزة والكسائي وأبو بكر «بمفازاتهم» جمعا لتكون على طبق المضاف إليه في الدلالة على التعدد صريحا (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) من خير وشر وإيمان وكفر لكن لا بالجبر بل بمباشرة المتصف بهما لأسبابهما فالآية رادة على المعتزلة ردا ظاهر (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) يتولى التصرف فيه كيفما يشاء حسبما تقتضيه الحكمة ، وكأن ذكر ذلك للدلالة على أنه سبحانه الغني المطلق وأن المنافع والمضار راجعة إلى العباد ، ولك أن تقول : المعنى أنه تعالى حفيظ على كل شيء كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [الأنعام : ١٠٧ ، الزمر : ٤١ ، الشورى : ٦] وحاصله أنه تعالى يتولى حفظ كل شيء بعد خلقه فيكون إشارة إلى احتياج الأشياء إليه تعالى في بقائها كما أنها محتاجة إليه عزوجل في وجودها.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مفاتيحها كما قال ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم فقيل هو جمع لا واحد له من لفظه ، وقيل : جمع مقليد وقيل : جمع مقلاد من التقليد بمعنى الإلزام ومنه تقليد القضاء وهو إلزامه النظر في أموره ، وكذا القلادة للزومها للعنق ، وجعل اسما للآلة المعروفة للإلزام بمعنى الحفظ وهو على جميع هذه الأقوال عربي والأشهر الأظهر كونه معربا فهو جمع إقليد معرب إكليد وهو جمع شاذ لأن جمع أفعيل على مفاعيل مخالف للقياس وجاء أقاليد على القياس ويقال : في اكليد كليد بلا همزة ، وذكر الشهاب أنه بلغة الروم أقليدس وكليد واكليد منه ، والمشهور أن كليد فارسي ولم يشتهر في الفارسية إكليد بالهمز ، وله مقاليد كذا قيل : مجاز عن كونه مالك أمره ومتصرفا فيه بعلاقة اللزوم ، ويكنى به عن معنى القدرة والحفظ ، وجوز كون المعنى الأول كنائيا لكن قد اشتهر فنزل منزلة المدلول الحقيقي فكني به عن المعنى الآخر فيكون هناك كناية على كناية وقد يقتصر على المعنى الأول في الإرادة وعليه قيل هنا المعنى لا يملك أمر السماوات والأرض ولا يتمكن من التصرف فيها غيره عزوجل. والبيضاوي بعد ذكر ذلك قال : هو كناية عن قدرته تعالى وحفظه لها وفيه مزيد دلالة على الاستقلال والاستبداد لمكان اللام والتقديم ، وقال الراغب : مقاليد السماوات والأرض ما يحيط بها ، وقيل : خزائنها ، وقيل : مفاتيحها ، والإشارة بكلها إلى المعنى واحد وهو قدرته تعالى عليها وحفظه لها انتهى.

وجوز أن يكون المعنى لا يملك التصرف في خزائن السماوات والأرض أي ما أودع فيها واستعدت له من المنافع غيره تعالى ، ولا يخفى أن هذه الجملة إن كانت في موضع التعليل لقوله سبحانه : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) على المعنى الأول فالأظهر الاقتصار في معناها على أنه لا يملك أمر السماوات والأرض أي العالم بأسره غيره تعالى فكأنه قيل : هو تعالى يتولى التصرف في كل شيء لأنه لا يملك أمره سواه عزوجل ، وإن كانت تعليلا له على المعنى الثاني فالأظهر الاقتصار في معناها على أنه لا قدرة عليها لأحد غيره جل شأنه فكأنه قيل : هو تعالى يتولى حفظ كل شيء لأنه لا قدرة لأحد عليه غيره تعالى ، وجوز أن تكون عطف بيان للجملة قبلها وأن تكون صفة (وَكِيلٌ) وأن تكون خبرا بعد خبر فأمعن النظر في ذلك وتدبر. وأخرج أبو يعلى ويوسف القاضي في سننه ، وأبو الحسن القطان في المطولات ، وابن السني في عمل اليوم والليلة ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله تعالى : له مقاليد السماوات والأرض فقال : لا إله إلا الله والله أكبر سبحانه الله والحمد لله استغفر الله الذي لا إله إلا هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير» الحديث.

وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أن عثمان جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : أخبرني عن مقاليد السماوات والأرض فقال : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الأول والآخر

٢٧٦

والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير يا عثمان من قالها إذا أصبح عشر مرات وإذا أمسى أعطاه الله ست خصال. أما أولهن فيحرس من إبليس وجنوده. وأما الثانية فيعطى قنطارا من الأجر وأما الثالثة فيتزوج من الحور العين. وأما الرابعة فيغفر له ذنوبه. وأما الخامسة فيكون مع إبراهيم عليه‌السلام. أما السادسة فيحضره اثنا عشر ملكا عند موته يبشرونه بالجنة ويزفونه من قبره إلى الموقف فإن أصابه شيء من أهاويل يوم القيامة قالوا له لا تخف إنك من الآمنين ثم يحاسبه الله حسابا يسيرا ثم يؤمر به إلى الجنة فيزفونه إلى الجنة من موقفه كما تزف العروس حتى يدخلوه الجنة بإذن الله تعالى والناس في شدة الحساب. وفي رواية العقيلي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر أن عثمان سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تفسير (له مقاليد السماوات والأرض) فقال عليه الصلاة والسلام : ما سألني عنها أحد تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحانه الله وبحمده واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وفي رواية الحارث بن أبي أسامة. وابن مردويه عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال : «وهي سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله» وبالجملة اختلفت الروايات في الجواب ، وقيل في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : إنه ضعيف في سنده من لا تصلح روايته ، وابن الجوزي قال : إنه موضوع ولم يسلم له وحال الأخبار الأخر الله تعالى أعلم به والظن الضعف.

والمعنى عليها أن لله تعالى هذه الكلمات يوحد بها سبحانه ويمجد وهي مفاتيح خير السماوات والأرض من تكلم بها من المؤمنين أصابه ، فوجه إطلاق المقاليد عليها أنها موصلة إلى الخير كما توصل المفاتيح إلى ما في الخزائن ، وقد ذكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من الخير في حديث ابن عباس وعد في الحديث قبله عشر خصال لمن قالها كل يوم مائة مرة وهو بتمامه في الدر المنثور.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) معطوف على قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) إلخ أي إنه عز شأنه متصف بهذه الصفات الجليلة الشأن والذين كفروا وجحدوا ذلك أولئك هم الكاملون في الخسران ، وقيل : على قوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولا يظهر ذلك على بعض الأوجه السابقة فيه.

وقيل : على مقدر تقديره فالذين اتقوا أو فالذين آمنوا بآيات الله هم الفائزون والذين كفروا إلخ ، وفيه تكلف.

وجوز أن يكون معطوفا على قوله تعالى : (وَيُنَجِّي اللهُ) إلخ فيكون التقدير وينجي الله المتقين والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون وما بينهما اعتراض للدلالة على أنه تعالى مهيمن على العباد مطّلع على أفعالهم مجاز عليها ، وفيه تأكيد لثواب المؤمنين وفلاحهم وعقاب الكفرة وخسرانهم ولم يقل ويهلك الذين كفروا بخسرانهم كما قال سبحانه : (وَيُنَجِّي) إلخ للإشعار بأن العمدة في فوز المؤمنين فضله تعالى فلذا جعل نجاتهم مسندة له تعالى حادثة له يوم القيامة غير ثابتة قبل ذلك بالاستحقاق والأعمال بخلاف هلاك الكفرة فإنهم قدموه لأنفسهم بما اتصفوا به من الكفر والضلال ولم يسند له تعالى ولم يعبر عنه بالمضارع أيضا ، وفي ذلك تصريح بالوعد وتعريض بالوعيد حيث قيل : (الْخاسِرُونَ) ولم يقل الهالكون أو المعذبون أو نحوه وهو قضية الكرم. وعطف الجملة الاسمية على الفعلية مما لا شبهة في جوازه عند النحويين ، ومما ذكرنا يعلم رد قول الإمام الرازي : إن هذا الوجه ضعيف من وجهين : الأول وقوع الفضل الكثير بين المعطوف عليه. الثاني وقوع الاختلاف بينهما في الفعلية والاسمية وهو لا يجوز ، والإمام أبو حيان منع كون الفاصل كثيرا.

وقال في الوجه الثاني : إنه كلام من لم يتأمل كلام العرب ولا نظر في أبواب الاشتغال. نعم قال في الكشف

٢٧٧

يؤيد الاتصال بما يليه دون قوله تعالى : (وَيُنَجِّي) أن قوله سبحانه : (وَيُنَجِّي اللهُ) متصل بقوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا) فلو قيل بعده : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لم يحسن لأن الأحسن على هذا المساق أن يقدم على قوله تعالى : (وَيُنَجِّي اللهُ) على ما لا يخفى ولأنه كالتخلص إلى ما بعده من حديث الأمر بالعبادة والإخلاص إذ ذاك ، وهو كلام حسن ، ثم الحصر الذي يقتضيه تعريف الطرفين وضمير الفصل باعتبار الكمال كما أشرنا إليه لا باعتبار مطلق الخسران فانه لا يختص بهم ؛ وجوز أن يكون قصر قلب فإنهم يزعمون المؤمنين خاسرين.

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أي أبعد الآيات المقتضية لعبادته تعالى وحده غير الله أعبد ، فغير مفعول مقدم لأعبد و (تَأْمُرُونِّي) اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك وقالوا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك لفرط غباوتهم ولذا نودوا بعنوان الجهل ، وجوز أن يكون (أَعْبُدُ) في موضع المفعول ـ لتأمروني ـ على أن الأصل تأمروني أن أعبد فحذفت أن وارتفع الفعل كما قيل في قوله :

ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى

ويؤيد قراءة من قرأ «أعبد» بالنصب ، و «غير» منصوب بما دل عليه (تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) أي تعبدونني غير الله أي أتصيرونني عابدا غيره تعالى ، ولا يصح نصبه بأعبد لأن الصلة لا تعمل فيما قبلها والمقدر كالموجود ، وقال بعضهم : هو منصوب به وأن بعد الحذف يبطل حكمها المانع عن العمل ، وقرأ ابن كثير (تَأْمُرُونِّي) بالإدغام وفتح الياء.

وقرأ ابن عامر «تأمرونني» بإظهار النونين على الأصل ، ونافع «تأمروني» بنون واحدة مكسورة وفتح الياء ، وفي تعيين المحذوف من النونين خلاف فقيل : الثانية لأنها التي حصل بها التكرار ، وقيل : الأولى لأنها حرف إعراب عرضة للتغيير (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) أي من الرسل عليهم‌السلام (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) أي بالله تعالى شيئا ما (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الظاهر أن جملة (لَئِنْ) إلخ نائب فاعل (أُوحِيَ) لكن قيل في الكلام حذف والأصل أوحى إليك لئن أشركت ليحبطن عملك إلخ ، وإلى الذين من قبلك مثل ذلك ، وقيل : لا حذف ، وإفراد الخطاب باعتبار كل واحد منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمرسلين الموحى إليهم فإنه أوحى لكل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) إلخ بالإفراد ، وذهب البصريون إلى أن الجمل لا تكون فاعلة فلا تقوم مقام الفاعل ، ففي البحر أن (إِلَيْكَ) حينئذ نائب الفاعل ، والمعنى كما قال مقاتل أوحى إليك وإلى الذين من قبلك بالتوحيد ، وقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) إلخ استئناف خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة وهو كما ترى ، وأيا ما كان فهو كلام على سبيل الفرض لتهييج المخاطب المعصوم وإقناط الكفرة والإيذان بغاية شناعة الإشراك وقبحه وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يباشره فكيف بمن عداه ، فالاستدلال بالآية على جواز صدور الكبائر من الأنبياء عليهم‌السلام كما في المواقف ليس بشيء ، فاحتمال الوقوع فرضا كاف في الشرطية لكن ينبغي أن يعلم أن استحالة الوقوع شرعية ، ولا ما (لَقَدْ) و (لَئِنْ). موطئتان للقسم واللامان بعد للجواب ، وفي عدم تقييد الإحباط بالاستمرار على الإشراك إلى الموت دليل للحنفية الذاهبين إلى أن الردة تحبط الأعمال التي قبلها مطلقا. نعم قالوا : لا يقضي منها بعد الرجوع إلى الإسلام إلا الحج ، ومذهب الشافعي أن الردة لا تحبط العمل السابق عليها ما لم يستمر المرتد على الكفر إلى الموت ، وترك التقييد هنا اعتمادا على التصريح به في قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٢١٧] ويكون ذلك من حمل المطلق على المقيد.

وأجاب بعض الحنفية بأن في الآية المذكورة توزيعا (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) ناظر إلى الارتداد عن الدين

٢٧٨

(وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) إلخ ناظر إلى الموت على الكفر فلا مقيد ليحمل المطلق عليه ، ومن هذا الخلاف نشأ الخلاف في الصحابي إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو قبلها ولم يره هل يقال له : صحابي أم لا ، فمن ذهب إلى الإطلاق قال لا ومن ذهب إلى التقييد قال : نعم ، وقيل : يجوز أن يكون الإحباط مطلقا من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام إذ شركه وحاشاه أقبح ، وفيه ضعف لأن الغرض تحذير أمته وتصوير فظاعة الكفر فتقدير أمر يختص به لا يتعدى من النبي إلى الأمة لا اتجاه له مع أنه لا مستند له من نقل أو عقل ، والمراد بالخسران على مذهب الحنفية ما لزم من حبط العمل فكان الظاهر ـ فتكون ـ إلا أنه عدل إلى ما في النظم الجليل للإشعار بأن كلا من الإحباط والخسران يستقل في الزجر عن الإشراك ، وقيل : الخلود في النار فيلزم التقييد بالموت كما هو عند الشافعي عليه الرحمة.

وقرئ «ليحبطن» من أحبط «عملك» بالنصب أي ليحبطن الله تعالى أو الإشراك عملك ، وقرئ بالنون ونصب «عملك» أيضا (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم ، والفاء جزائية في جواب شرط مقدر كأنه قيل : إن كنت عابدا أو عاقلا فاعبد الله فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا عنه ، وإلى هذا ذهب الزمخشري وسلفه في كونها جزائية الزجاج ، وأنكر أبو حيان كون التقديم عوضا عن الشرط ، ومذهب الفراء والكسائي أن الفاء زائدة بين المؤكد والمؤكد والاسم الجليل منصوب بفعل محذوف والتقدير الله أعبد فاعبده وقدر مؤخرا ليفيد الحصر.

وفي الانتصاف مقتضى كلام سيبويه أن الأصل تنبه فاعبد الله فحذفوا الفعل الأول اختصارا واستنكروا الابتداء بالفاء ومن شأنها التوسط بين المعطوف والمعطوف عليه فقدموا المفعول فصارت الفاء متوسطة لفظا ودالة على المحذوف وانضاف إليها فائدة الحصر لإشعار التقديم بالاختصاص ، واعتبار الاختصاص قيل : مما لا بد منه لأنه لم يكن الكلام ردا عليهم فيما أمروه به لولاه فإنهم لم يطلبوا منه عليه الصلاة والسلام ترك عبادة الله سبحانه بل استلام آلهتهم والشرك به عزوجل اللهم إلا أن يقال : عبادة الله سبحانه مع الشرك كلا عبادة ، والله جل وعلا أغنى الشركاء فمن أشرك في عمله أحدا معه عزوجل فعمله لمن أشرك كما يدل عليه كثير من الأخبار ، وقرأ عيسى «بل الله» بالرفع (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) إنعامه تعالى عليك الذي يضيق عنه نطاق الحصر ، وفيه إشارة إلى موجب الاختصاص (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه جل جلاله حق عظمته إذ عبدوا غيره تعالى وطلبوا من نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبادة غيره سبحانه قاله الحسن. والسدي ، وقال المبرد : أصله من قولهم : فلان عظيم القدر يريدون بذلك جلالته ، وأصل القدر اختصاص الشيء بعظم أو صغر أو مساواة ، وقال الراغب : أي ما عرفوا كنهه عزوجل. وتعقب بأن معرفة كنهه تعالى أي حقيقته سبحانه لا يخص هؤلاء لتعذر الوقوف على الحقيقة ، ومن هنا :

العجز عن درك الإدراك إدراك

والبحث عن كنه ذات الله إشراك

ولا يخفى أن المسألة خلافية ، وما ذكر على تقدير التسليم يمكن دفعه بالعناية. نعم أولى منه ما قيل : أي ما عرفوه كما يليق به سبحانه حيث جعلوا له سبحانه شريكا ، وظاهر كلام بعضهم أن الكلام على تقدير مضاف أي ما قدروا في أنفسهم وما تصوروا عظمة الله حق التصور فلم يعظموه كما هو حقه عزوجل حيث وصفوه بما لا يليق بشئونه الجليلة من الشركة ونحوها ، وأيا ما كان فهو متعلق بما قبله من حيث إنّ فيه تجهيلهم في الإشراك ودعائهم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه ، وقيل : المعنى ما وصفوا الله تعالى حق صفته إذ جحدوا البعث ووصفوه سبحانه بأنه خالق الخلق عبثا وأنه سبحانه عاجز عن الإعادة والبعث وهو خلاف الظاهر ، وعليه يكون للتمهيد لأمر النفخ في الصور ، وضمير الجمع

٢٧٩

على جميع ما ذكر لكفار قريش كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : الضمير لليهود تكلموا في صفات الله تعالى وجلاله فألحدوا وجسموا وجاءوا بكل تخليط فنزلت.

وقرأ الأعمش حق «قدره» بفتح الدال ، وقرأ الحسن وعيسى وأبو نوفل وأبو حيوة (وَما قَدَرُوا) بتشديد الدال «حقّ قدره» بفتح الدال (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) الجملة في موضع الحال من الاسم الجليل و (جَمِيعاً) حال من المبتدأ عند من يجوزه أو من مقدر كأثبتها جميعا كما قيل ، وهو جار مجرى الحال المؤكدة في أن العامل منتزع من مضمون الجملة ، وفي التقريب هو حال من الضمير في (قَبْضَتُهُ) لأنه بمعنى مقبوضة وكان الظاهر أن يؤخر عنه وإنما قدم عليه ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة أو بعض دون بعض ولكن عن الأرضين كلها أو عن جميع أبعاضها. وجاز هذا التقديم لأن المصدر لم يعمل من حيث كونه مصدرا بل لكونه بمعنى اسم المفعول ، وقال الحوفي : العامل في الحال ما دل عليه قبضته لا هي ، وهو كما ترى ، و (يَوْمَ الْقِيامَةِ) معمول (قَبْضَتُهُ) وهي في الأصل المرة الواحدة من القبض وتطلق على المقدار المقبوض كالقبضة بضم القاف وجعلت صفة مشبهة حينئذ ، وجوز كل من إرادة المقبوضة والمعنى المصدري هنا ، والكلام على الثاني على تقدير مضاف أي ذوات قبضته أي يقبضهن سبحانه قبضة واحدة ، وقرأ الحسن «قبضته» بالنصب على أنه ظرف مختص مشبه بالمبهم ولذا لم يصرح بفي معه وهو مذهب الكوفيين ، والبصريون يقولون : إن النصب في مثل خطأ غير جائز وأنه لا بد من التصريح بفي.

وقرأ عيسى والجحدري «مطويات» بالنصب على أن «السماوات» عطف على «الأرض» مشاركة لها في الحكم أي والسماوات قبضته ، و «مطويات» حال من «السماوات» عند من يجوز مجيء الحال من مثل ذلك أو من ضميرها المستتر في (قبضته) على أنها بمعنى مقبوضته أو من ضميرها محذوفا أي أثبتها مطويات ، و (بِيَمِينِهِ) متعلق بمطويات أو على أن (السَّماواتُ) مبتدأ و (بِيَمِينِهِ) الخبر و «مطويات» حال أيضا إما من المبتدأ أو من الضمير المحذوف أو من الضمير المستتر في الخبر بناء على مذهب الأخفش من جواز تقديم الحال في مثل ذلك.

والكلام عند كثير من الخلف تمثيل لحال عظمته تعالى ونفاذ قدرته عزوجل وحقارة الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإضافة إليها بحال من يكون له قبضة فيها الأرض جميعا ويمين بها يطوي السماوات أو بحال من يكون قبضة فيها الأرض والسماوات ويمين بها يطوي السماوات من غير ذهاب القبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز بالنسبة إلى المجرى عليه وهو الله عزّ شأنه ، وقال بعضهم : المراد التنبيه على مزيد جلالته عزوجل وعظمته سبحانه بإفادة أن الأرض جميعا تحت ملكه تعالى يوم القيامة فلا يتصرف فيها غيره تعالى شأنه بالكلية كما قال سبحانه : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الحج : ٥٦] والسماوات مطويات طي السجل للكتب بقدرته التي لا يتعاصاها شيء.

وفيه رمز إلى أن ما يشركونه معه عزوجل أرضيا كان أم سماويا مقهور تحت سلطانه جل شأنه وعزّ سلطانه فالقبضة مجاز عن الملك أو التصرف كما يقال : بلد كذا في قبضة فلان ، واليمين مجاز عن القدرة التامة ، وقيل :

القبضة مجاز عما ذكر ونحوه والمراد باليمين القسم أي والسماوات مفنيات بسبب قسمه تعالى لأنه عزوجل أقسم أن يفنيها ، وهو مما يهزأ منه لا مما يهتز استحسانا له ، والسلف يقولون أيضا : إن الكلام تنبيه على مزيد جلالته تعالى وعظمته سبحانه ورمز إلى أن آلهتهم أرضية أم سماوية مقهورة تحت سلطانه عزوجل إلا أنهم لا يقولون : إن القبضة مجاز عن الملك أو التصرف ولا اليمين مجاز عن القدرة بل ينزهون الله تعالى عن الأعضاء والجوارح ويؤمنون بما نسبه إلى ذاته بالمعنى الذي أراده سبحانه وكذا يفعلون في الأخبار الواردة في هذا المقام.

٢٨٠