روح المعاني - ج ١٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

وقيل : أي الهالكين ، وقيل : أي المعذبين في الدرك الأسفل من النار والأول أنسب.

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١٣٢)

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) إلى حيث أمرني أو حيث أتجرد فيه لعبادته عزوجل جعل الذهاب إلى المكان الذي أمره ربه تعالى بالذهاب إليه ذهابا إليه وكذا الذهاب إلى مكان يعبده تعالى فيه لا أن الكلام بتقدير مضاف ، والمراد بذلك المكان الشام ، وقيل مصر وكأن المراد إظهار اليأس من إيمانهم وكراهة البقاء معهم أي إني مفارقكم ومهاجر منكم إلى ربي (سَيَهْدِينِ) إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي.

والسين لتأكيد الوقوع في المستقبل لأنها في مقابلة لن المؤكد للنفي كما ذكره سيبويه ، وبت عليه‌السلام القول لسبق وعده تعالى إياه بالهداية لما أمره سبحانه بالذهاب أو لفرط توكله عليه‌السلام أو للبناء على عادته تعالى معه وإنما لم يقل موسى عليه‌السلام مثل ذلك بل قال : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) [القصص : ٢٢] بصيغة التوقع قيل : لعدم سبق وعد وعدم تقدم عادة واقتضاء مقامه رعاية الأدب معه تعالى بأن لا يقطع عليه سبحانه بأمر قبل وقوعه ، وتقديمه على رعاية فرط التوكل ومقامات الأنبياء متفاوتة وكلها عالية ، وقيل لأن موسى عليه‌السلام قال ما قال قبل البعثة وإبراهيم عليه‌السلام قال ذلك بعدها ، وقيل لأن إبراهيم كان بصدد أمر ديني فناسبه الجزم وموسى كان بصدد أمر دنيوي فناسبه عدم الجزم ، ومن الغريب ما قيل ونحا إليه قتادة أنه لم يكن مراد إبراهيم عليه‌السلام بقوله (إِنِّي) إلخ الهجرة وإنما أراد بذلك لقاء الله تعالى بعد الإحراق ظانا أنه يموت في النار إذا ألقي فيها وأراد بقوله (سَيَهْدِينِ) الهداية إلى الجنة ، ويدفع هذا القول دعاؤه بالوالد حيث قال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة ، والتقدير ولدا من الصالحين وحذف لدلالة الهبة عليه فإنها

١٢١

في القرآن وكلام العرب غالب استعمالها مع العقلاء في الأولاد ، وقوله تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم : ٥٣] من غير الغالب أو المراد فيه هبة نبوته لا هبة ذاته وهو شيء آخر ، ولقوله تعالى (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) فإنه ظاهر في أن ما بشر به عين ما استوهبه مع أن مثله إنما يقال عرفا في حق الأولاد ، ولقد جمع بهذا القول بشارات أنه ذكر لاختصاص الغلام به وأنه يبلغ أو أن البلوغ بالسن المعروف فإنه لازم لوصفه بالحليم لأنه لازم لذلك السن بحسب العادة إذ قلما يوجد في الصبيان سعة صدر وحسن صبر وذلك إغضاء في كل أمر ، وجوز أن يكون ذلك مفهوما من قوله تعالى (غلام) فإنه قد يختص بما بعد البلوغ وإن كان ورد عاما وعليه العرف كما ذكره الفقهاء وأنه يكون حليما وأي حلم مثل حلمه عرض عليه أبوه وهو مراهق الذبح فقال (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) فما ظنك به بعد بلوغه ، وقيل مانعت الله تعالى نبيا بالحلم لعزة وجود غير إبراهيم وابنه عليهما‌السلام ، وحالهما المذكورة فيما بعد تدل على ما ذكر فيهما.

والفاء في قوله تعالى (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) فصيحة تعرب عن مقدر قد حذف تعويلا على شهادة الحال وإيذانا بعدم الحاجة إلى التصريح به لاستحالة التخلف أي فوهبناه له ونشأ فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه ، و «مع» ظرف للسعي وهي تدل على معنى الصحبة واستحداثها ، وتعلقها بمحذوف دل عليه المذكور لأن صلة المصدر لا تتقدمه لأنه عند العمل مؤول بأن المصدرية والفعل ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول لأنه كتقدم جزء الشيء المرتب الأجزاء عليه أو لضعفه عن العمل فيه بحث ، أما أولا فلأن التأويل المذكور على المشهور في المصدر المنكر دون المعرف ، وأما ثانيا فلأنه إذا سلم العموم فليس كل ما أول بشيء حكمه حكم ما أول به ، وأما ثالثا فلأن المقدم هنا ظرف وقد اشتهر أنه يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره.

وصرحوا بأنه يكفيه رائحة الفعل وبهذا يضعف حديث المنع لضعف العامل عن العمل فالحق أنه لا حاجة في مثل ذلك إلى التقدير معرفا كان المصدر أو منكرا كقوله تعالى (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) [النور : ٢] وهو الذي ارتضاه الرضى وقال به العلامة الثاني ، واختار صاحب الفرائد كونها متعلقة بمحذوف وقع حالا من (السَّعْيَ) أي فلما بلغ السعي حال كون ذلك السعي كائنا معه ، وفيه أن السعي معه معناه اتفاقهما فيه فالصحبة بين الشخصين فيه ، وما قدره يقتضي الصحبة بين السعي وإبراهيم عليه‌السلام ولا يطابق المقام ، وجوز تعلقه ببلغ ، ورد بأنه يقتضي بلوغهما معا حد السعي لما سمعت من معنى مع وهو غير صحيح ، وأجيب بأن مع على ذلك لمجرد الصحبة على أن تكون مرادفة عند نحو فلان يتغنى مع السلطان أي عنده ويكون حاصل المعنى بلغ عند أبيه وفي صحبته متخلقا بأخلاقه متطبعا بطباعه ويستدعي ذلك كمال محبة الأب إياه ، ويجوز على هذا أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل (بَلَغَ) ومن مجيء مع لمجرد الصحبة قوله تعالى حكاية عن بلقيس (أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [النمل : ٤٤] فلتكن فيما نحن فيه مثلها في تلك الآية وتعقب بأن ذاك معنى مجازي والحمل على المجاز هنالك للصارف ولا صارف فيما نحن فيه فليحمل على الحقيقة على أنه لا يتعين هنالك أن تكون لمعية الفاعل لجواز أن يراد أسلمت لله ولرسوله مثلا ، تقديم (مع) إشعارا منها بأنها كانت تظن أنها على دين قبل وأنها مسلمة لله تعالى فيما كانت تعبد من الشمس فدل على أنه إسلام يعتد به من أثر متابعة نبيه لا إسلام كالأول فاسد ، قال صاحب الكشف : وهذا معنى صحيح جمل الآية عليه أولى وإن حمل على معية الفاعل لم يكن بد من محذوف مع بلوغ دعوته وإظهار معجزته لأن فرق ما بين المقيد ومطلق الجمع معلوم بالضرورة ، وزعم بعض أنه لا مانع من إرادة الحقيقة واستحداث إسلامهما معا على معنى أنه عليه‌السلام وافقها أو لقنها وليس بشيء كما لا يخفى.

١٢٢

وقيل يراد بالسعي على تقدير تعلق مع ببلغ المسعى وهو الجبل المقصود إليه بالمشي وهو تكلف لا يصار إليه.

وبالجملة الأولى تعلقها بالسعي ، والتخصيص لأن الأب أكمل في الرفق وبالاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أوانه أو لأنه عليه‌السلام استوهبه لذلك ، وفيه على الأول بيان أوانه وأنه في غضاضة عوده كان فيه ما فيه من رصانة العقل ورزانة الحلم حتى أجاب بما أجاب ، وعلى الثاني بيان استجابة دعائه عليه‌السلام وكان للغلام يومئذ ثلاث عشرة سنة والولد أحب ما يكون عند أبيه في سن يقدر فيه على إعانة الأب وقضاء حاجة ولا يقدر فيه على العصيان (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) يحتمل أنه عليه‌السلام رأى في منامه أنه فعل ذبحه فحمله على ما هو الأغلب في رؤيا الأنبياء عليهم‌السلام من وقوعها بعينها ، ويحتمل أنه رأى ما تأويله ذلك لكن لم يذكره وذكر التأويل كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة ، وقيل إنه رأى معالجة الذبح ولم ير أنهار الدم فأني أذبحك أني أعالج ذبحك ، ويشعر صنيع بعضهم اختيار أنه عليه‌السلام أتى في المنام فقيل له اذبح ابنك ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة ، وفي رواية أنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول إن الله تعالى يأمرك بذبح ابنك فلما أصبح روأ في ذلك وفكر من الصباح إلى الرواح أمن الله تعالى هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى فمن ثم سمي يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر ، وقيل إن الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله فلما ولد وبلغ حد السعي معه قيل له أوف بنذرك ، ولعل هذا القول كان في المنام وإلا فما يصنع قوله (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) وفي كلام التوراة التي بأيدي اليهود اليوم ما يرمز إلى أن الأمر بالذبح كان ليلا فإنه بعد أن ذكر قول الله تعالى له عليه‌السلام خذ ابنك وامض إلى بلد العبادة وأصعده ثم قربانا على أحد الجبال الذي أعرفك به قيل فأدلج إبراهيم بالغداة إلخ فالأمر إما مناما وإما يقظة لكن وقع تأكيدا لما في المنام إذ لا محيص عن الإيمان بما قصه الله تعالى علينا فيما أعجز به الثقلين من القرآن والحزم الجزم بكونه في المنام لا غير إذ لا يعول على ما في أيدي اليهود وليس في الأخبار الصحيحة ما يدل على وقوعه يقظة أيضا.

ولعل السر في كونه مناما لا يقظة أن تكون المبادرة إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص.

وقيل : كان ذلك في المنام دون اليقظة ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة ومناما سواء في الصدق ، والأول أولى ، والتأكيد لما في تحقق المخبر به من الاستبعاد ، وصيغة المضارع في الموضعين قيل لاستحضار الصورة الماضية لنوع غرابة ، وقيل : في الأول لتكرر الرؤيا وفي الثاني للاستحضار المذكور أو لتكرر الذبح حسب تكرر الرؤيا أو للمشاكلة ؛ ومن نظر بعد ظهر له غير ذلك.

(فَانْظُرْ ما ذا تَرى) من الرأي ؛ وإنما شاوره في ذلك وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله عزوجل فيثبت قدمه إن جزع ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون عليه ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله تعالى قبل نزوله وليكون سنة في المشاورة ، فقد قيل : لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك ، وقرأ حمزة والكسائي «ما ذا ترى» بضم التاء وكسر الراء خالصة أي ما الذي تريني إياه من الصبر وغيره أو أي شيء تريني على أن ما مبتدأ وذا موصول خبره ومفعولي ترى محذوفان أو ما ذا كالشيء الواحد مفعول ثان لترى والمفعول الأول محذوف ، وقرئ «ما ذا ترى» بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول أي ما ذا تريك نفسك من الرأي ، و (انظر) في جميع القراءات معلقة عن العمل وفي (ما ذا) الاحتمالان فلا تغفل.

(قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي الذي تؤمر به فحذف الجار والمجرور دفعة أو حذف الجار أولا فعدي الفعل

١٢٣

بنفسه نحو أمرتك الخير ثم حذف المجرور بعد أن صار منصوبا ثانيا ، والحذف الأول شائع مع الأمر حتى كاد يعد متعديا بنفسه فكأنه لم يجتمع حذفان أو افعل أمرك على أن ما مصدرية والمراد بالمصدر الحاصل بالمصدر أي المأمور به ، ولا فرق في جواز إرادة ذلك من المصدر بين أن يكون صريحا وأن يكون مسبوكا.

وإضافته إلى ضمير إبراهيم إضافة إلى المفعول ولا يخفى بعد هذا الوجه ، وهذا الكلام يقتضي تقدم الأمر وهو غير مذكور فإما أن يكون فهم من كلامه عليه‌السلام أنه رأى أنه يذبحه مأمورا أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر ، وصيغة المضارع للإيذان بغرابة ذلك مثلها في كلام إبراهيم على وجه وفيه إشارة إلى أن ما قاله لم يكن إلا عن حلم غير مشوب بجهل بحال المأمور به ، وقيل : للدلالة على أن الأمر متعلق به متوجه إليه مستمر إلى حين الامتثال به ، وقيل : لتكرر الرؤيا ، وقيل : جيء بها لأنه لم يكن بعد أمر وإنما كانت رؤيا الذبح فأخبره بها فعلم لعلمه بمقام أبيه وإنه ممن لا يجد الشيطان سبيلا بإلقاء الخيالات الباطلة إليه في المنام أنه سيكون ذلك ولا يكون إلا بأمر إلهي فقال له افعل ما تؤمر بعد من الذبح الذي رأيته في منامك ، ولما كان خطاب الأب (يا بُنَيَ) على سبيل الترحم قال هو (يا أَبَتِ) على سبيل التوقير والتعظيم ومع ذلك أتى بجواب حكيم لأنه فوض الأمر حيث استشاره فأجاب بأنه ليس مجازها وإنما الواجب إمضاء الأمر.

(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) على قضاء الله تعالى ذبحا كان أو غيره ، وقيل : على الذبح والأول أولى لعموم ويدخل الذبح دخولا أوليا ، وفي قوله (مِنَ الصَّابِرِينَ) دون صابرا وإن كانت رءوس الآي تقتضي ذلك من التواضع ما فيه ، وقيل ولعله وفق للصبر ببركته مع بركة الاستثناء وموسى عليه‌السلام لما لم يسلك هذا المسلك من التواضع في قوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) [الكهف : ٦٩] حيث لم ينظم نفسه الكريمة في سلك الصابرين بل أخرج الكلام على وجه لا يشعر بوجود صابر سواه لم يتيسر له الصبر مع أنه لم يهمل أمر الاستثناء. وفيه أيضا إغراء لأبيه عليه‌السلام على الصبر لما يعلم من شفقته عليه مع عظم البلاء حيث أشار إلى أن لله تعالى عبادا صابرين وهي زهرة ربيع لا تتحمل الفرك (فَلَمَّا أَسْلَما) أي استسلما وانقادا لأمر الله تعالى فالفعل لازم أو سلم الذبيح نفسه وإبراهيم ابنه على أنه متعد والمفعول محذوف.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وعبد الله ومجاهد والضحاك وجعفر بن محمد والأعمش والثوري «سلما» وخرجت على ما سمعت ويجوز أن يكون المعنى فوضا إليه تعالى في قضائه وقدره ، وقرئ «استسلما» وأصل لأفعال الثلاثة سلم هذا لفلان إذا خلص له فإنه سلم من أن ينازع فيه (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض ، وأصل التل الرمي على التل وهو التراب المجتمع ثم عمم في كل صرع ، والجبين أحد جانبي الجبهة وشذ جمعه على أجبن وقياسه في القلة أجبنة ككثيب وأكثبة وفي الكشرة جبنان وجبن ككثبان وكثب ، واللام لبيان ماخر عليه كما في قوله تعالى (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) [الإسراء : ١٠٧ ، ١٠٩] وقوله :

وخر صريعا لليدين وللفم

وليست للتعدية ، وقيل المراد كبه على وجهه وكان ذلك بإشارة منه. أخرج غير واحد عن مجاهد أنه قال لأبيه : لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي عسى أن ترحمني فلا تجهز علي اربط يدي إلى رقبتي ثم ضع وجهي للأرض ففعل فكان ما كان ، ولا يخفى أن ارادة ذلك من الآية بعيد ، نعم لا يبعد أن يكون الذبيح قال هذا.

وفي الآثار حكاية أقوال غير ذلك أيضا ، منها ما في خبر للسدي أنه قال لأبيه عليهما‌السلام : يا أبت اشدد رباطي حتى لا اضطرب واكفف عن ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء فتراه أمي فتحزن واسرع مر السكين

١٢٤

على حلقي فيكون أهون للموت علي فإذا أتيت أمي فاقرأ عليها‌السلام مني فأقبل عليه إبراهيم يقبله. وكل منهما يبكي ، ومنها ما في حديث أخرجه أحمد وجماعة عن ابن عباس أنه قال لأبيه وكان عليه قميص أبيض يا أبت ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه فعالجه ليخلعه فكان ما قص الله عزوجل. وكان ذلك عند الصخرة التي بمنى ، وعن الحسن في الموضع المشرف على مسجد مني ، وعن الضحاك في المنحر الذي ينحر فيه اليوم ، وقيل كان ببيت المقدس وحكي ذلك عن كعب ، وحكى الإمام مع هذا القول أنه كان بالشام.

(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) قيل ناداه من خلفه ملك من قبله تعالى بذلك ، و (أَنْ) مفسرة بمعنى أي (١) وقرأ زيد بن علي قد صدقت بحذفها ، وقرئ «صدقت» بالتخفيف ، وقرأ فياض «الريا» بكسر الراء والإدغام ، وتصديقه عليه‌السلام الرؤيا توفيته حقها من العمل وبذل وسعه في إيقاعها وذلك بالعزم والإتيان بالمقدمات ولا يلزم فيه وقوع ما رآه بعينه ، وقيل هو إيقاع تأويلها وتأويلها ما وقع ، ويفهم من كلام الإمام أنه الاعتراف بوجوب العمل بها ، ولا يدل على الإتيان بكل ما رآه في المنام ، وهل أمر عليه‌السلام الشفرة على حلقه أم لا قولان ذهب إلى الثاني منهما كثير من الأجلة ، وقد أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أنه عليه‌السلام لما أخذ الشفرة وأراد أن يذبحه نودي من خلفه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ، وأخرج هو وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عنه أنه عالج قميصه ليخلعه فنودي بذلك.

وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه من طريق مجاهد عنه أيضا فلما أدخل يده ليذبحه فلم يحمل المدية حتى نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده ، وأخرج عبد بن حميد وغيره من مجاهد فلما أدخل يده ليذبحه نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده ورفع رأسه فرأى الكبش ينحط إليه حتى وقع عليه فذبحه ، وفي رواية أخرى عنه أخرجها عبد بن حميد أيضا وابن المنذر أنه أمرّ السكين فانقلبت ، وإلى عدم الإمرار ذهبت اليهود أيضا لما في توراتهم مد إبراهيم يده فأخذ السكين فقال له ملاك الله من السماء قائلا : يا إبراهيم يا إبراهيم قال : لبيك قال : لا تمد يدك إلى الغلام ولا تصنع به شيئا ، وذهب إلى الأول طائفة فمنهم من قال : إنه أمرها ولم تقطع مع عدم المانع لأن القطع بخلق الله تعالى فيها أو عندها عادة وقد لا يخلق سبحانه ، ومنهم من قال : أنه أمرها ولم تقطع لمانع ، فقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء بن يسار أنه عليه‌السلام قام إليه بالشفرة فبرك عليه فجعل الله تعالى ما بين لبته إلى منحره نحاسا لا تؤثر فيه الشفرة ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه عليه‌السلام جر السكين على حلقه فلم ينحر وضرب الله تعالى على حلقه صفيحة من نحاس ، وأخرج الخطيب في تالي التلخيص عن فضيل بن عياض قال : أضجعه ووضع الشفرة فقلبها جبريل عليه‌السلام ، وأخرج الحاكم بسند فيه الواقدي عن عطاء أنه نحر في حلقه فإذا هو قد نحر في نحاس فشحذ الشفرة مرتين أو ثلاثا بالحجر ، وضعف جميع ذلك. وقيل إنه عليه‌السلام ذبح لكن كان كلما قطع موضعا من الحلق أوصله الله تعالى ، وزعموا ورود ذلك في بعض الأخبار ولا يكاد يصح ، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بهذا المقام من الكلام ، وجواب لما محذوف مقدر بعد (صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به المقال من استبشارهما وشكرهما الله تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق لما لم يوفق غيرهما لمثله وإظهار فضلهما مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك ، وهو أولى من تقدير فإذا ونحوه ، وقدره بعض البصريين بعد (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي أجزلنا أجرهما ، وعن الخليل وسيبويه تقديره قبل

__________________

(١) قوله وقرأ زيد بن علي قد صدقت بحذفها كذا في الأصل ولعل قد صدقت من زيادة القلم وحرر القراءة اه.

١٢٥

(وَتَلَّهُ) قال في البحر : والتقدير فلما أسلما أسلما وتله ، وقال ابن عطية : وهو عندهم كقول امرئ القيس :

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

أي أجزنا وانتحى ، وهو كما ترى ، وقال الكوفيون : الجواب مثبت وهو (وَنادَيْناهُ) على زيادة الواو ، وقالت فرقة : هو و (تَلَّهُ) على زيادتها أيضا ، ولعل الأولى ما تقدم.

وقوله تعالى : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ابتداء كلام غير داخل في النداء وهو تعليل لإفراج تلك الشدة المفهوم من الجواب المقدر أو من الجواب المذكور أعني نادينا إلخ على القول بأنه الجواب أو منه وإن لم يكن الجواب والعلة في المعنى إحسانهما ، وكونه تعليلا لما انطوى عليه الجواب من الشكر ليس بشيء.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي الابتلاء والاختبار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره أو المحنة البينة وهي المحنة الظاهرة صعوبتها وما وقع لا شيء أصعب منه ولا تكاد تخفى صعوبته على أحد ولله عزوجل أن يبتلي من شاء بما شاء وهو سبحانه الحكيم الفعال لما يريد. ولعل هذه الجملة لبيان كونهما من المحسنين ، وقيل لبيان حكمة ما نالهما ، وعلى التقديرين هي مستأنفة استئنافا بيانيا فليتدبر.

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ) بحيوان يذبح بدله (عَظِيمٍ) قيل أي عظيم الجثة سمين وهو كبش أبيض أقرن أعين وفي رواية : أملح بدل أبيض ، وعن الحسن أنه وعل اهبط عن ثبير ، والجمهور على الأول ووافقهم الحسن في رواية رواها عنه ابن أبي حاتم وفيها أن اسمه حرير ، واليهود على أنه كبش أيضا. وفسر المعظم العظيم بعظيم القدر وذلك على ما روي عن ابن عباس لأنه الكبش الذي قربه هابيل فتقبل منه وبقي يرعى في الجنة إلى يوم هذا الفداء ، وفي رواية عنه وعن ابن جبير أنهما قالا : عظمه كونه من كباش الجنة رعى فيها أربعين خريفا.

وقال مجاهد وصف بالعظم لأنه متقبل يقينا ، وقال الحسن بن الفضل : لأنه كان من عند الله عزوجل ، وقال أبو بكر الوراق : لأنه لم يكن عن نسل بل عن التكوين ، وقال عمرو بن عبيد : لأنه جرت السنة به وصار دينا باقيا آخر الدهر ، وقيل لأنه فدى به نبي وابن نبي ، وهبوطه من ثبير كما قال الحسن في الوعل وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس.

وفي رواية عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه وجده عليه‌السلام قد ربط بسمرة في أصل ثبير. وعن عطاء بن السائب أنه قال : كنت قاعدا بالمنحر فحدثني قرشي عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : إن الكبش نزل على إبراهيم في هذا المكان. وفي رواية عن ابن عباس أنه خرج عليه كبش من الجنة قد رعى فيها أربعين خريفا فأرسل إبراهيم عليه‌السلام ابنه واتبعه فرماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الأولى فافلت ورماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الوسطى فأفلت ورماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الكبرى فأتى به المنحر من منى فذبح قيل وهذا أصل سنية رمي الجمار ، والمشهور أن أصل السنية رمي الشيطان هناك ففي خبر عن قتادة أن الشيطان أراد أن يصيب حاجته من إبراهيم وابنه يوم أمر يذبحه فتمثل بصديق له فأراد أن يصده عن ذلك فلم يتمكن فتعرض لابنه فلم يتمكن فأتى الجمرة فانتفخ حتى سد الوادي ومع إبراهيم ملك فقال له : ارم يا إبراهيم فرمى بسبع حصيات يكبر في أثر كل حصاة فأفرج له عن الطريق ثم انطلق حتى أتى الجمرة الثانية فسد الوادي أيضا فقال الملك : ارم يا إبراهيم فرمى كما في الأولى وهكذا في الثالثة ، وظاهر الآية أن الفداء كان بحيوان واحد وهو المعروف. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس أنه فدى بكبشين أملحين أقرنين أعينين ولا أعرف له صحة ، ويراد بالذبح عليه لو صح الجنس ، والفادي على الحقيقة إبراهيم عليه‌السلام ، وقال سبحانه : (فَدَيْناهُ) على التجوز في الفداء أي أمرنا أو أعطينا أو في اسناده إليه تعالى ، وجوز أن يكون هناك استعارة مكنية أيضا ، وفائدة العدول عن الأصل التعظيم.

١٢٦

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) سبق ما يعلم منه بيانه عند تفسير نظيره في آخر قصة نوح ، ولعل ذكر في العالمين هناك وعدم ذكره هنا لما أن لنوح عليه‌السلام من الشهرة لكونه كآدم ثان للبشر ونجاة من نجا من أهل الطوفان ببركته ما ليس لإبراهيم عليه‌السلام.

(كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ذلك إشارة إلى إبقاء ذكره الجميل فيما بين الأمم لا إلى ما يشير إليه فيما سبق فلا تكرار وطرح هنا (إِنَّا) قيل مبالغة في دفع توهم اتحاده مع ما سبق كيف وقد سبق الأول تعليلا لجزاء إبراهيم وابنه عليهما‌السلام بما أشير إليه قبل وسيق هذا تعليلا لجزاء إبراهيم وحده بما تضمنه قوله تعالى (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ) إلخ وما ألطف الحذف هنا اقتصارا حيث كان فيما قبله ما يشبه ذلك من عدم ذكر الابن والاقتصار على إبراهيم.

وقيل لعل ذلك اكتفاء بذكر (إِنَّا) مرة في هذه القصة ، وقال بعض الأجلة : إنه للإشارة إلى أن قصة إبراهيم عليه‌السلام لم تتم فإن ما بعد من قوله تعالى (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) إلخ من تكملة ما يتعلق به عليه‌السلام بخلاف سائر القصص التي جعل (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) مقطعا لها فإن ما بعد ليس مما يتعلق بما قبل ومع هذا لم تخل القصة من مثل تلك الجملة بجميع كلماتها وسلك فيها هذا المسلك اعتناء بها فتأمل ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الكلام فيه كما تقدم (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا) حال من إسحاق ، وكذا قوله تعالى (مِنَ الصَّالِحِينَ) وفي ذلك تعظيم شأن الصلاح ، وفي تأخيره إيماء إلى أنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل والمقصود منهما الإتيان بالأفعال الحسنة السديدة وهو في الاستعمال يختص بها.

وجوز كون (مِنَ الصَّالِحِينَ) حالا وكون (نَبِيًّا) حالا من الضمير المستتر فيه ، وقدم في اللفظ للاهتمام ولئلا تختل رءوس الآي وفيه من البعد ما فيه ، على أن في جواز تقديم الحال مطلقا أو اطراده في مثل هذا التركيب كلاما لا يخفى على من راجع الألفية وشروحها وفيه ما فيه بعد ، وجوز أيضا كونه في موضع الصفة لنبيا والكلام على الأول وهو الذي عليه الجمهور أمدح كما لا يخفى ، والمراد كونه نبيا وكونه من الصالحين في قضاء الله تعالى وتقديره أي مقتضيا كون نبيا مقتضيا كونه من الصالحين وإن شئت فقل مقدرا ولا يكونان بذلك من الحال المقدرة التي تذكر في مقابلة المقارنة بل هما بهذا الاعتبار حالان مقارنان للعامل وهو فعل البشارة أو شيء آخر محذوف أي بشرناه بوجود إسحاق نبيا إلخ ، وأوجب غير واحد تقدير ذلك معللا بأن البشارة لا تتعلق بالأعيان بل بالمعاني. وتعقب بأنه إن أريد أنها لا تستعمل إلا متعلقة بالأعيان فالواقع خلافه كبشر أحدهم بالأنثى ، فإن قيل إنما يصح بتقدير ولادة ونحوه من المعاني فهو محل النزاع فلا وجه له ، والذي يميل إليه القلب أن المعنى على إرادة ذلك ، وربما يدعي أن معنى البشارة تستدعي تقدير معنى من المعاني ، وقيل هما حالان مقدران كقوله تعالى (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣] أي على إبراهيم عليه‌السلام (وَعَلى إِسْحاقَ) أي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا بأن كثرنا نسلهما وجعلنا منهم أنبياء ورسلا.

(وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفر والمعاصي ويدخل فيها ظلم الغير (مُبِينٌ) ظاهر ظلمه ، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في الأعقاب لا يعود على الأصول بنقيصة وعيب ، هذا وفي الآيات بعد أبحاث الأول أنهم اختلفوا في الذبيح فقال ـ على ما ذكره الجلال السيوطي في رسالته القول الفصيح في تعيين الذبيح ـ علي وابن عمر ، وأبو هريرة وأبو الطفيل وسعيد جبير ومجاهد والشعبي ويوسف بن مهران والحسن البصري ، ومحمد ابن كعب القرظي وسعيد بن المسيب وأبو جعفر الباقر وأبو صالح والربيع بن أنس ، والكلبي. وأبو عمرو بن العلاء. وأحمد بن حنبل وغيرهم أنه إسماعيل عليه‌السلام لا إسحاق عليه‌السلام وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ورجحه

١٢٧

جماعة خصوصا غالب المحدثين وقال أبو حاتم : هو الصحيح ، وفي الهدى أنه الصواب عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم ، وسئل أبو سعيد الضرير عن ذلك فأنشد :

إن الذبيح هديت إسماعيل

نص الكتاب بذاك والتنزيل

شرف به خص الإله نبينا

وأتى به التفسير والتأويل

إن كنت أمته فلا تنكر له

شرفا به قد خصه التفضيل

وفي دعواه النص نظر وهو المشهور عند العرب قبل البعثة أيضا كما يشعر به أبيات نقلها الثعالبي في تفسير عن أمية بن الصلت واستدل له بأنه الذي وهب لإبراهيم عليه‌السلام أثر الهجرة وبأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام ، والظاهر التغاير فيتعين كونه إسماعيل وبأنه بشر بأن يوجد وينبأ فلا يجوز ابتلاء إبراهيم عليه‌السلام بذبحه لأنه علم أن شرط وقوعه منتف ، والجواب بأن الأول بشارة بالوجود وهذا بشارة بالنبوة ولكن بعد الذبح ـ قال صاحب الكشف ـ ضعيف لأن نظم الآية لا يدل على أن البشارة بنبوته بل على أن البشارة بأمر مقيد بالنبوة فإما أن يقدر بوجود إسحاق بعد الذبح ولا دلالة في اللفظ عليه وإما أن يقدر الوجود مطلقا وهو المطلوب ، فإن قلت : يكفي في الدلالة تقدم البشارة بالوجود أو لا قلت : ذاك عليك لا لك ومن يسلم أن المتقدم بشارة بإسحاق حتى يستتب لك المرام وبأن البشارة به وقعت مقرونة بولادة يعقوب منه على ما هو الظاهر في قوله تعالى في هود (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] ومتى بشر بالولد وولد الولد دفعة كيف يتصور الأمر بذبح الولد مراهقا قبل ولادة ولده ، ومنع كونه إذ ذاك مراهقا لجواز أن يكون بالغا كما ذهب إليه اليهود قد ولد له يعقوب وغيره مكابرة لا يلتفت إليها وبأنه تعالى وصف إسماعيل عليه‌السلام بالصبر في قوله سبحانه (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الأنبياء : ٨٥] وبأنه عزوجل وصفه بصدق الوعد في قوله تعالى (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) [مريم : ٥٤] ولم يصف سبحانه إسحاق بشيء منهما فهو الأنسب دونه بأن يقول القائل (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [مريم : ٥٤] المصدق في قوله بفعله وبأن ما وقع كان بمكة وإسماعيل هو الذي كان فيها وبأن قرني الكبش كانا معلقين في الكعبة حتى احترقا معها أيام حصار الحجاج بن الزبير رضي الله تعالى عنه وكانا قد توارثهما قريش خلفا عن سلف ، والظاهر أن ذاك لم يكن منهم إلا للفخر ولا يتم لهم إذا كان الكبش فدى لإسحاق دون أبيهم إسماعيل ، وبأنه روى الحاكم في المستدرك وابن جرير في تفسيره. والأموي في مغازيه والخلعي في فوائده من طريق إسماعيل بن أبي كريمة عن عمر بن أبي محمد الخطابي عن العتبي عن أبيه عن عبد الله بن سعيد الصنابحي قال : حضرنا مجلس معاوية فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق أيهما الذبيح؟ فقال بعض القوم : إسماعيل وقال بعضهم : بل إسحاق فقال معاوية : على الخبير سقطتم كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتاه أعرابي فقال : يا رسول الله خلفت الكلأ يابسا والماء عابسا هلك العيال وضاع المال فعد علي مما أفاء الله تعالى عليك يا ابن الذبيحين فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم ينكر عليه فقال القوم : من الذبيحان يا أمير المؤمنين؟ قال : إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله تعالى إن سهل أمرها أن ينحر بعض بنيه فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة فخرج السهم على عبد الله فأراد أن ينحره فمنعه أخواله بنو مخزوم وقالوا : ارض ربك وافد ابنك ففداه بمائة ناقة قال معاوية : هذا واحد والآخر إسماعيل وبأنه ذكر في التوراة إن الله تعالى امتحن إبراهيم فقال له : يا إبراهيم فقال : لبيك قال : خذ ابنك وحيدك الذي تحبه وامض إلى بلد العبادة وأصعده ثم قربانا على أحد الجبال الذي أعرفك به فإن معنى وحيدك الذي ليس لك وغيره ولا يصدق ذلك على إسحاق حين الأمر بالذبح لأن إسماعيل كان موجودا إذ ذاك لأنه ولد لإبراهيم على ما في التوراة وهو ابن ست وثمانين سنة وولد

١٢٨

إسحاق على ما فيها أيضا وهو ابن مائة سنة ، وأيضا قوله تعالى الذي تحبه أليق بإسماعيل لأن أول ولد له من المحبة في الأغلب ما ليس لمن بعده من الأولاد ويعلم مما ذكر أن ما في التوراة الموجودة بأيدي اليهود اليوم من ذكر هو إسحاق بعد الذي تحبه من زياداتهم وأباطيلهم التي أدرجوها في كلام الله تعالى إذ لا يكاد يلتئم مع ما قبله ، وأجاب بعض اليهود عن ذلك بأن إطلاق الوحيد على إسحاق لأن إسماعيل كان إذ ذاك بمكة وهو تحريف وتأويل باطل لأنه لا يقال الوحيد وصفا للابن إلا إذا كان واحدا في النبوة ولم يكن له شريك فيها ، وقال لي بعض منهم : إن إطلاق ذلك عليه لأنه كان واحدا لأمه ولم يكن لها ابن غيره فقلت : يبعد ذلك كل التبعيد إضافته إلى ضمير إبراهيم عليه‌السلام ، ويؤيد ما قلنا ما قاله ابن إسحاق ذكر محمد بن كعب أن عمر بن عبد العزيز أرسل إلى رجل كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه وكان من علمائهم فسأله أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال إسماعيل : والله يا أمير المؤمنين وأن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب ، وذكر ابن كثير أن في بعض نسخ التوراة بكرك بدل وحيدك وهو أظهر في المطلوب ، وقيل : هو إسحاق ونسبه القرطبي للأكثرين وعزاه البغوي. وغيره إلى عمر وعلي وابن مسعود والعباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعبيد بن عمير وأبي ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق والزهري والقاسم بن يزيد ومكحول وكعب وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة وأبي الهذيل وابن سابط ومسروق وعطاء ومقاتل وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس واختاره أبو جعفر بن جرير الطبري وجزم به القاضي عياض في الشفاء. والسهيلي في التعريف والأعلام واستدل له بأنه لم يذكر الله تعالى أنه بشر بإسماعيل قبل كونه فهو إسحاق لثبوته بالنص ولأنه لم تكن تحته هاجر أم إسماعيل فالمدعو ولد من سارة ، وأجيب بأنه كفى هذه الآية دليلا على أنه مبشر به أيضا لأن قوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) بعد استيفاء هذه القصة وتذييلها بما ذيل ظاهر الدلالة على أن هنالك بشارتين متغايرتين ثم عدم الذكر لا يدل على عدم الوجود ولا يلزم أن يكون طلب ولد من سارة ولا علم أنه عليه‌السلام دعا بذلك قبل أن وهبت هاجر منه لأنها أهديت إليه في حران قبل الوصول إلى الشام على أن البشارة بإسحاق كانت في الشام نصا فظاهر هذه الآية أنها قبل الوصول إليها لأن البشارة عقيب الدعاء وكان قبل الوصول إلى الشام قاله في الكشف.

وبما رواه ابن جرير عن أبي كريب عن زيد بن حباب عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الذبيح إسحاق».

وتعقب بأن الحسن بن دينار متروك وشيخه منكر الحديث ، وبما أخرج الديلمي في مسند الفردوس من طريق عبد الله بن ناجية عن محمد بن حرب النسائي عن عبد المؤمن بن عباد عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن داود سأل ربه مسألة فقال اجعلني مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فأوحى الله تعالى إليه إني ابتليت إبراهيم بالنار فصبر وابتليت إسحاق بالذبح فصبر وابتليت يعقوب فصبر» وبما أخرجه الدارقطني والديلمي في مسند الفردوس من طريقه عن محمد بن أحمد بن إبراهيم الكاتب عن الحسين بن فهم عن خلف بن سالم عن بهز بن أسد عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذبيح إسحاق» وبما أخرجه الطبراني في الأوسط وابن أبي حاتم في تفسيره من طريق الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله تعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي أو شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأمتي ولو لا الذي سبقني إليه العبد الصالح لعجلت دعوتي إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له : يا إسحاق سل تعطه قال : أما والله لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان اللهم من مات

١٢٩

لا يشرك بك شيئا قد أحسن فاغفر له» وتعقب هذا بأن عبد الرحمن ضعيف ، وقال ابن كثير الحديث غريب منكر وأخشى أن يكون فيه زيادة مدرجة وهي قوله : إن الله تعالى لما فرج إلخ وإن كان محفوظا فالأشبه أن السياق عن إسماعيل وحرفوه بإسحاق إلى غير ذلك من الأخبار وفيها من الموقوف والضعيف والموضوع كثير ، ومتى صح حديث مرفوع في أنه إسحاق قبلناه ووضعناه على العين والرأس.

والذاهبون إلى هذا القول يدعون صحة شيء منها في ذلك. وأجيب عن بعض ما استدل به للأول بأن وقوع القصة بمكة غير مسلم بل كان ذلك بالشام وتعليق القرنين في الكعبة لا يدل على وقوعها بمكة لجواز أنهما نقلا من بلاد الشام إلى مكة فعلقا فيها ، وعلى تسليم الوقوع بمكة لا مانع من أن يكون إبراهيم قد سار به من الشام إليها بل قد روي القول به ، أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن سعيد بن جبير قال : لما رأى إبراهيم في المنام ذبح إسحاق سار به من منزله إلى المنحر بمنى مسيرة شهر في غداة واحدة فلما صرف عنه الذبح وأمر بذبح الكبش ذبحه ثم راح به رواحا إلى منزله في عشية واحدة مسيرة شهر طويت له الأودية والجبال ، وأمر الفخر لو سلم ليس بالاستدلال به كثير فخر ، والخبر الذي فيه يا ابن الذبيحين غريب وفي إسناده من لا يعرف حاله وفيه ما هو ظاهر الدلالة على عدم صحته من قوله فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة فخرج السهم على عبد الله فإن عبد الله بإجماع أهل الأخبار لم يكن مولودا عند حفر زمزم ، وقصة نذر عبد المطلب ذبح أحد أولاده تروى بوجه آخر وهو أنه نذر الذبح إذا بلغ أولاده عشرا فلما بلغوها بولادة عبد الله كان ما كان.

وما شاع من خبر أنا ابن الذبيحين قال العراقي لم أقف عليه ، والخبر السابق بعد ما عرف حاله لا يكفي لثبوته حديثا فلا حاجة إلى تأويله بأنه أريد بالذبيحين فيه إسحاق وعبد الله بناء على أن الأب قد يطلق على العم أو أريد بهما الذابحان وهما إبراهيم وعبد المطلب بحمل فعيل على معنى فاعل لا مفعول ، وحمل هؤلاء (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا) على البشارة بنبوته وما تقدم على البشارة بأن يوجد قبل ولما كان التبشير هناك قبل الولادة والتسمية إنما تكون بعدها في الأغلب لم يسم هناك وسماه هنا لأنه بعد الولادة واستأنس للاتحاد بوصفه بكونه من الصالحين لأن مطلوبه كان ذلك فكأنه قيل له هذا الغلام الذي بشرت به أولا هو ما طلبته بقولك (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١٠٠] وأنت تعلم أن حمل على البشارة بالنبوة خلاف الظاهر إذ كان الظاهر أن يقال لو أريد ذلك بشرناه بنبوته ونحوه. وتقدير أن يوجد نبيا لا يدفعه كما لا يخفى وكذا وصفه بالصلاح الذي طلبه فتأمل.

ومن العلماء من رأى قوة الأدلة من الطرفين ولم يترجح شيء منها عنده فتوقف في التعيين كالجلال السيوطي عليه الرحمة فإنه قال في آخر رسالته السابقة : كنت ملت إلى القول بأن الذبيح إسحاق في التفسير وأنا الآن متوقف عن ذلك ، وقال بعضهم كما نقله الخفاجي : إن في الدلالة على كونه إسحاق أدلة كثيرة وعليه جملة أهل الكتاب ولم ينقل في الحديث ما يعارضه فلعله وقع مرتين مرة بالشام لإسحاق ومرة بمكة لإسماعيل عليهما‌السلام ، والتوقف عندي خير من هذا القول ، والذي أميل أنا إليه أنه إسماعيل عليه‌السلام بناء على ظاهر الآية يقتضيه وأنه المروي عن كثير من أئمة أهل البيت ولم أتيقن صحة حديث مرفوع يقتضي خلاف ذلك ، وحال أهل الكتاب لا يخفى على ذوي الألباب.

البحث الثاني أنه استدل بما في القصة على جواز النسخ قبل الفعل وهو مذهب كثير من الأصوليين وخالف فيه المعتزلة والصيرفي ، ووجه الاستدلال على ما قرره بعض الأجلة أن إبراهيم عليه‌السلام أمر بذبح ولده بدليل قوله

١٣٠

(افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ولأنه عليه‌السلام أقدم على الذبح وترويع الولد ولو لم يكن مأمورا به لكان ذلك ممتنعا شرعا وعادة ونسخ عنه قبل الفعل لأنه لم يفعل ولو كان ترك الفعل مع حضور الوقت لكان عاصيا.

واعترض عليه بأنا لا نسلم أنه لو لم يفعل وقد حضر الوقت لكان عاصيا لجواز أن يكون الوقت موسعا فيحصل التمكن فلا يعصى بالتأخير ثم ينسخ. وأجيب أما أولا فبأنه لو كان موسعا لكان الوجوب متعلقا بالمستقبل لأن الأمر باق عليه قطعا فإذا نسخ فقد نسخ تعلق الوجوب بالمستقبل وهو المانع من النسخ عندهم فإنهم يقولون : إذا تعلق الوجوب بالمستقبل مع بقاء الأمر عليه امتنع رفع ذلك التعلق بالنهي عنه وإلا لزم توارد الأمر والنهي على شيء واحد وهو محال ، فإذا جوزوا النسخ في الواجب الموسع في وقته قبل فعله مع أن الوجوب فيه تعلق بالمستقبل والأمر باق عليه فقد اعترفوا بجواز ما منعوه وهو المطلوب ، وأما ثانيا فبأنه لو كان موسعا لأخر الفعل ولم يقدم على الذبح وترويع الولد عادة إما رجاء أن ينسخ عنه وإما رجاء أن يموت فيسقط عنه لعظم الأمر ومثله مما يؤخر عادة. وتعقب هذا بأن عادة الأنبياء عليهم‌السلام المبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى على خلاف عادة أكثر الناس ولا تستبعد منهم خوارق العادات وإبراهيم من أجلّهم قدرا سلمنا أن العادة ولو بالنسبة إلى الأنبياء تقتضي التأخير لكن من أين علم أنه عليه‌السلام لم يؤخر إلى آخر الوقت اتباعا للعادة فالمعول عليه الجواب الأول وبه يتم الاستدلال ، وربما دفعوه بوجوه أخر ، منها أنه لم يؤمر بشيء وإنما توهم ذلك توهما بإراءة الرؤيا ولو سلم فلم يؤمر بالذبح إنما أمر بمقدماته من إخراج الولد وأخذه المدية وتله للجبين ، وتعقب هذا بأنه ليس بشيء لما مر من قوله (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) واقدامه على الذبح والترويع المحرم لو لا الأمر كيف ويدل على خلافه قوله تعالى (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) وقوله سبحانه (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ولو لا الأمر لما كان بلاء مبينا ولما احتاج إلى الفداء ، وكون الفداء عن ظنه أنه مأمور بالذبح لا يخفى حاله ، وعلى أصل المعتزلة هو توريط لإبراهيم عليه‌السلام في الجهل بما يظهر أنه أمر وليس بأمر وذلك غير جائز ، ومن لا يجوز الظن الفاسد على الأنبياء عليهم‌السلام فهذا عنده أدنى من لا شيء ، ومنها أنا لا نسلم أنه لم يذبح بل روي أنه ذبح وكان كلما قطع شيئا يلتحم عقيب القطع وأنه خلق صفيحة نحاس أو حديد تمنع الذبح ، وتعقب بأن هذا لا يسمع ، أما أولا فلأنه خلاف العادة والظاهر ولم ينقل نقلا معتبرا. وأجيب بأن الرواية سند للمنع والضعف لا ينافيه والاحتمال كاف في المقام ولا ريب في جوازه كإرسال الكبش من الجنة ، وأما ثانيا فلأنه لو ذبح لما احتيج إلى الفداء ، وكونه لأن الإزهاق لم يحصل ليس بشيء ، ولو منع الذبح بالصفيحة مع الأمر به لكان تكليفا بالمحال وهم لا يجوزونه ثم قد نسخ عنه وإلا لأثم بتركه فيكون نسخا قبل التمكن فهو لنا لا علينا. ومن السادة الحنفية من قال : ما نحن فيه ليس من النسخ لأنه رفع الحكم لا إلى بدل وهنا له بدل قائم مقامه كالفدية للصوم في حق الشيخ الفاني فعلم أنه لم يرفع حكم المأمور به. وفي التلويح فإن قيل : هب أن الخلف قام مقام الأصل لكنه استلزم حرمة الأصل أي ذبحه وتحريم الشيء بعد وجوبه نسخ لا محالة لرفع حكمه ، قيل : لا نسلم كونه نسخا وإنما يلزم لو كان حكما شرعيا وهو ممنوع فإن حرمة ذبح الولد ثابتة في الأصل فزالت بالوجوب ثم عادت بقيام الشاة مقام الولد فلا تكون حكما شرعيا حتى يكون ثبوتها نسخا للوجوب انتهى ، وتعقب بأن هذا بناء على ما تقرر من أن رفع الإباحة الأصلية ليس نسخا أما على أنه نسخ كما التزمه بعض الحنفية إذ لا إباحة ولا تحريم إلا بشرع كما قرروه يكون رفع الحرمة الأصلية نسخا وإذا كان رفعها نسخا أيضا يبقى الإيراد المذكور من غير جواب على ما قرر في شرح التحرير ، هذا وتمام الكلام في حجة الفريقين مفصل في أصول الفقه وهذا المقدار كاف لغرض المفسر.

البحث الثالث أنه استدل أبو حنيفة بالقصة على أن لو نذر أن يذبح ولده فعليه شاة ، ووافقه في ذلك محمد ،

١٣١

ونقله الإمام القرطبي عن مالك. وفي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار نذر أن يذبح ولده فعليه شاة لقصة الخليلعليه‌السلام وألغاه الثاني والشافعي كنذره قتله (١) ونقل الجصاص أن نذر القتل كنذر الذبح ، واعترض على الإمام بأنه نذر معصية وجاء لا نذر في معصية الله تعالى ، وقال هو : إن ذلك في شرع إبراهيم عليه‌السلام عبارة عن ذبح شاة ولم يثبت نسخه فليس معصية ، وقال بعض الشافعية : ليس في النظم الجليل ما يدل على أنه كان نذرا من إبراهيمعليه‌السلام حتى يستدل به. وأجيب بأنه ورد في التفسير المأثور أنه نذر ذلك وهو في حكم النص ولذا قيل له لما بلغ معه السعي : أوف بنذرك ، وبأنه إذا قامت الشاة مقام ما أوجبه الله تعالى عليه علم قيامها مقام ما يوجبه على نفسه بالطريق الأولى فيكون ثابتا بدلالة النص ، والإنصاف أن مدرك الشافعي وأبي يوسف عليهما الرحمة أظهر وأقوى من مدرك الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة فتأمل (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) هذا وما بعده من قبيل عطف الخاص على العام ، والكرب العظيم تغلب فرعون ومن معه من القبط ، وقيل الغرق وليس بذاك (وَنَصَرْناهُمْ) الضمير لهما مع القوم وقيل لهما فقط وجيء به ضمير جمع لتعظيمهما (فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) بسبب ذلك على فرعون وقومه ؛ و (هُمُ) يجوز أن يكون فصلا أو توكيدا أو بدلا ، والتنجية وإن كانت بحسب الوجود مقارنة لما ذكر من النصر لكنها لما كانت بحسب المفهوم عبارة عن التخليص عن المكروه بدأ بها ثم بالنصر الذي يتحقق مدلوله بمحض تنجية المنصور من عدوه من غير تغلب عليه ثم بالغلبة لتوفية مقام الامتنان حقه بإظهار أن كل مرتبة من هذه المراتب الثلاث نعمة جليلة على حيالها (وَآتَيْناهُمَا) بعد ذلك (الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) أي البليغ في البيان والتفصيل كما يشعر به زيادة البنية وهو التوراة (وَهَدَيْناهُمَا) بذلك (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الموصل إلى الحق والصواب بما فيه من تفاصيل الشرائع وتفاريع الأحكام (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ* إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الكلام فيه نظير ما سبق في نظيره (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) قال الطبري : هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى عليهما‌السلام فهو إسرائيلي من سبط هارون ، وحكى القتيبي أنه من سبط يوشع ، وحكى الطبرسي أنه ابن عم اليسع وأنه بعث بعد حزقيل ، وفي العجائب للكرماني أنه ذو الكفل ، وعن وهب أنه عمر كما عمر الخضر ويبقى إلى فناء الدنيا.

وأخرج ابن عساكر عن الحسن أنه موكل بالفيافي والخضر بالبحار والجزائر وإنهما يجتمعان بالموسم في كل عام ، وحديث اجتماعه مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض الأسفار وأكله معه من مائدة نزلت عليهما عليهما الصلاة والسلام من السماء هي خبز وحوت وكرفس وصلاتهما العصر معا رواه الحاكم عن أنس وقال : هذا حديث صحيح الإسناد وكل ذلك من التعمير وما بعده لا يعول عليه. وحديث الحاكم ضعفه البيهقي ، وقال الذهبي. موضوع قبح الله تعالى من وضعه ثم قال : وما كنت أحسب ولا أجوز أن الجهل يبلغ بالحاكم إلى أن يصحح هذا ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر : عن ابن مسعود أن إلياس هو إدريس ونقل عنه أنه قرأ «وإن إدريس لمن المرسلين» والمستفيض عنه أنه قرأ كالجمهور نعم قرأ ابن وثاب والأعمش والمنهال بن عمرو والحكم بن عتيبة الكوفي كذلك.

وقرئ «إدراس» وهو لغة في إدريس كإبراهام في إبراهيم ، وإذا فسر إلياس بإدريس على أن أحد اللفظين اسم

__________________

(١) قوله «كنذره قتله» قال الخفاجي عليه كفارة يمين عند الثاني نذر الذبح أو القتل اه منه.

١٣٢

والآخر لقب فإن كان المراد بهما من سمعت نسبه فلا بأس به وإن كان المراد بهما إدريس المشهور الذي رفعه الله تعالى مكانا عليا وهو على ما قيل أخنوخ بن يزد بن مهلائيل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم وكان على ما ذكره المؤرخون قبل نوح ، وفي المستدرك عن ابن عباس أن بينه وبين نوح ألف سنة ، وعن وهب أنه جد نوح أشكل الأمر في قوله تعالى (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) [الأنعام : ٨٣ ـ ٨٦] لأن ضمير (ذُرِّيَّتِهِ) إما أن يكون لإبراهيم لأن الكلام فيه وإما أن يكون لنوح لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليسا من ذرية إبراهيم ، وعلى التقديرين لا يتسنى نظم إلياس المراد به إدريس الذي هو قبل نوح على ما سمعت في عداد الذرية ، ويرد على القول بالاتحاد مطلقا أنه خلاف الظاهر فلا تغفل.

وقرأ عكرمة. والحسن بخلاف عنهما والأعرج وأبو رجاء وابن عامر وابن محيصن «وإن الياس» بوصل الهمزة فاحتمل أن يكون قد وصل همزة القطع واحتمل أن يكون اسمه يأسا ودخلت عليه أل كما قيل في اليسع ، وفي حرف أبي ومصحفه و «أن إبليس» بهمزة مكسورة بعدها ياء أيضا ساكنة آخر الحروف بعدها لام مكسورة بعدها ياء أيضا ساكنة وسين مهملة مفتوحة.

(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) وهم على المشهور في إلياس سبط من بني إسرائيل أسكنهم يوشع لما فتح الشام المدينة المعروفة اليوم ببعلبك وزعم بعضهم أنها كانت تسمى بكة وقيل بك بلاها. ثم سميت بما عرف على طريق التركيب المزجي ، و (إِذْ) عند جمع مفعول اذكر محذوفا أي اذكر وقت قوله لقومه (أَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله تعالى ونقمته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) أي أتعبدونه أو تطلبون حاجكم منه ، وهو اسم صنم لهم كما قال الضحاك والحسن وابن زيد وفي بعض نسخ القاموس أنه لقوم يونس ، ولا مانع من أن يكون لهما أو ذلك تحريف. قيل وكان من ذهب طوله عشرون ذراعا وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه فكان الشيطان يدخل في جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس ، وقيل هو اسم امرأة أتتهم بضلالة فاتبعوها واستؤنس له بقراءة بعضهم ، بعلاء بالمد على وزن حمراء ، وظاهر صرفه أنه عربي على القولين فلا تغفل.

وقال عكرمة وقتادة ، البعل الرب بلغة اليمن : وفي رواية أخرى عن قتادة بلغة أزد شنوءة واستام ابن عباس ناقة رجل من حمير فقال له : أنت صاحبها؟ قال : بعلها فقال ابن عباس أتدعون بعلا : أتدعون ربا ممن أنت؟ قال : من حمير ، والمراد عليه أتدعون بعض البعول أي الأرباب والمراد بها الأصنام أو المعبودات الباطلة فالتنكير للتبعيض فيرجع لما قيل قبله (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) أي وتتركون عبادته تعالى أو طلب جميع حاجكم منه عزوجل على أن الكلام على حذف مضاف ؛ وقيل إن المراد بتركهم إياه سبحانه تركهم عبادته عزوجل والمراد بالخالق من يطلق عليه ذلك ، وله بهذا الاعتبار إفراد وإن اختلفت جهة الإطلاق فيها فلا إشكال في إضافة أفعل إلى ما بعده ، وهاهنا سؤال مشهور وهو ما وجه العدول عن تدعون بفتح التاء والدال مضارع ودع بمعنى ترك إلى (تَذَرُونَ) مع مناسبته ومجانسته لتدعون قبله دون تذرون وأجيب عن ذلك بأجوبة الأول أن في ذلك نوع تكلف والجناس المتكلف غير ممدوح عند البلغاء ولا يمدح عندهم ما لم يجىء عفوا بطريق الاقتضاء ولذا ذموا متكلفة فقيل فيه :

طبع المجنس فيه نوع قيادة

أو ما ترى تأليفه للأحرف

قاله الخفاجي ، وفي كون هذا البيت في خصوص المتكلف نظر وبعد فيه ما فيه ، الثاني أن في تدعون إلباسا

١٣٣

على من يقرأ من المصحف دون حفظ من العوام بأن يقرأه كتدعون الأول ويظن أن المراد إنكار بين دعاء بعل ودعاء أحسن الخالقين ، وليس بالوجه إذ ليس من سنة الكتاب ترك ما يلبس على العوام كما لا يخفى على الخواص.

والصحابة أيضا لم يراعوهم وإلا لما كتبوا المصحف غير منقوط ولا ذا شكل كما هو المعروف اليوم ، وفي بقاء الرسم العثماني معتبرا إلى انقضاء الصحابة ما يؤيد ما قلنا ، الثالث أن التجنيس تحسين وإنما يستعمل في مقام الرضا والإحسان لا في مقام الغضب والتهويل ، وفيه بأنه وقع فيما نفاه قال تعالى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) [الروم : ٥٥] وقال سبحانه (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [النور : ٤٣ ، ٤٤] وفيهما الجناس التام ولا يخفى حال المقام ، الرابع ما نقل عن الإمام فإنه سئل عن سبب ترك تدعون إلى (تَذَرُونَ) فقال : ترك لأنهم اتخذوا الأصنام آلهة وتركوا الله تعالى بعد ما علموا أن الله سبحانه ربهم ورب آبائهم الأولين استكبارا واستنكارا فلذلك قيل (وَتَذَرُونَ) ولم يقل وتدعون ، وفيه القول بأن دع أمر بالترك قبل العلم وذر أمر بالترك بعده ولا تساعده اللغة والاشتقاق ، الخامس أن لإنكار كل من فعلي دعاء بعل وترك أحسن الخالقين علة غير علة إنكار الآخر فترك التجنيس رمزا إلى شدة المغايرة بين الفعلين ، السادس أنه لما لم يكن مجانسة بين المفعولين بوجه من الوجوه ترك التجنيس في الفعلين المتعلقين بهما وإن كانت المجانسة المنفية بين المفعولين شيئا والمجانسة التي نحن بصددها بين الفعلين شيئا آخر ، وكلا الجوابين كما ترى ، السابع أن يدع إنما استعملته العرب في الترك الذي لا يذم مرتكبه لأنه من الدعة بمعنى الراحة ويذر بخلافه لأنه يتضمن إهانة وعدم اعتداد لأنه من الوذر قطعة اللحم الحقيرة التي لا يعتد بها. واعترض بأن المتبادر من قوله بخلافه أن يذر إنما استعملته العرب في الترك الذي يذم مرتكبه فيرد عليه قوله تعالى (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) [الأنعام : ١١٢ ، ١٣٧] وقوله سبحانه (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٨] إلى غير ذلك وفيه تأمل. الثامن أن يدع أخص من يذر لأنه بمعنى ترك الشيء مع اعتناء به بشهادة الاشتقاق نحو الإيداع فإنه ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها ولهذا يختار لها من هو مؤتمن ونحوه موادعة الأحباب وأما يذر فمعناه الترك مطلقا أو مع الاعراض والرفض الكلي ، قال الراغب يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة الاعتداد به ومنه الوذر وهو ما سمعت آنفا ، ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول إذ المراد تبشيع حالهم في الإعراض عن ربهم وهو قريب من سابقه لكنه سالم عن بعض ما فيه ، التاسع أن في تدعون بفتح التاء والدال ثقلا ما لا يخفى على ذي الذوق السليم والطبع المستقيم (وَتَذَرُونَ) سالم عنه فلذا اختير عليه فتأمل والله تعالى أعلم ، وقد أشار سبحانه وتعالى بقوله (أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) إلى المقتضي للانكار المعنى بالهمز وصرح به للاعتناء بشأنه في قوله تعالى :

(اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) بالنصب على البدلية من أحسن الخالقين ، قال أبو حيان : ويجوز كون ذاك عطف بيان إن قلنا إن إضافة أفعل التفضيل محضة ، وقرأ غير واحد من السبعة بالرفع على أن الاسم الجليل مبتدأ و (رَبَّكُمْ) خبره أو هو خبر مبتدأ محذوف وربكم عطف بيان أو بدل منه ، وروي عن حمزة أنه إذا وصل نصب وإذا وقف رفع ، والتعرض لذكر ربوبيته تعالى لآبائهم الأولين لتأكيد إنكار تركهم إياه تعالى والإشعار ببطلان آراء آبائهم أيضا (فَكَذَّبُوهُ) فيما تضمنه كلامه من إيجاب الله تعالى التوحيد وتحريمه سبحانه الإشراك وتعذيبه تعالى عليه ، وجوز أن يكون تكذيبهم راجعا إلى ما تضمنه قوله الله ربكم (فَإِنَّهُمْ) بسبب ذلك (لَمُحْضَرُونَ) أي في العذاب وإنما أطلقه اكتفاء بالقرينة أو لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر في العرف العام أو حيث استعمل في القرآن لإشعاره بالجبر (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء متصل من الواو في كذبوه فيدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه ، ومنع

١٣٤

كونه استثناء متصلا من ضمير (محضرون) لأنه للمكذبين فإذا استثني منه اقتضى أنهم كذبوه ولم يحضروا وفساده ظاهر ، وقيل : لأنه إذا لم يستثن من ضمير كذبوا كانوا كلهم مكذبين فليس فيهم مخلص فضلا عن مخلصين ومآله ما ذكر ، لكن اعترضه ابن كمال بأنه لا فساد فيه لأن استثناءهم من القوم المحضرين لعدم تكذيبهم على ما دل عليه التوصيف بالمخلصين لا من المكذبين فمآل المعنى واحد.

ورد بأن ضمير محضرين للقوم كضمير كذبوا. وقال الخفاجي : لا يخفى أن اختصاص الإحضار بالعذاب كما صرح به غير واحد يعين كون ضمير محضرين للمكذبين لا لمطلق القوم فإن لم يسلمه فهو أمر آخر ، وفي البحر ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعا إذ يصير المعنى لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون في العذاب وفيه بحث.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ* إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الكلام فيه كما في نظيره بيد أنه يقال هاهنا إن آل ياسين لغة في إلياس وكثيرا ما يتصرفون في الأسماء الغير العربية. وفي الكشاف لعل لزيادة الياء والنون معنى في اللغة السريانية ، ومن هذا الباب سيناء وسينين ، واختار هذه اللغة هنا رعاية للفواصل ، وقيل : هو جمع إلياس على طريق التغليب بإطلاقه على قومه وأتباعه كالمهلبين للمهلب وقومه.

وضعف بما ذكره النحاة من أن العلم إذا جمع أو ثني وجب تعريفه باللام جبرا لما فاته من العلمية ، ولا فرق فيه بين ما فيه تغليب وبين غيره كما صرح به ابن الحاجب في شرح المفصل ، لكن هذا غير متفق عليه ، قال ابن يعيش في شرح المفصل (١) يجوز استعماله نكرة بعد التثنية والجمع نحو زيدان كريمان وزيدون كريمون ؛ وهو مختار الشيخ عبد القاهر وقد أشبعوا الكلام على ذلك في مفصلات كتب النحو ، ثم إن هذا البحث إنما يتأتى مع من لم يجعل لام إلياس للتعريف أما من جعلها له فلا يتأتى البحث معه ، وقيل : هو جمع إلياسي بياء النسبة فخفف لاجتماع الياءات في الجر والنصب كما قيل أعجمين في أعجميين وأشعرين في أشعريين ، والمراد بالياسين قوم إلياس المخلصون فإنهم الاحقاء بأن ينسبوا إليه ، وضعف بقلة ذلك وإلباسه بإلياس إذا جمع وإن قيل : حذف لام إلياس مزيل للإلباس ، وأيضا هو غير مناسب للسياق والسباق إذ لم يذكر آل أحد من الأنبياء.

وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب وزيد بن علي «آل ياسين» بالإضافة ، وكتب في المصحف العثماني منفصلا ففيه نوع تأييد لهذه القراءة ، وخرجت عن أن ياسين اسم أبي إلياس ويحمل الآل على إلياس وفي الكناية عنه تفخيم له كما في آل إبراهيم عن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجوز أن يكون الآل مقحما على أن ياسين هو إلياس نفسه.

وقيل : ياسين فيها اسم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآل ياسين آله عليه الصلاة والسلام ، أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في «سلام على آل ياسين» نحن آل محمد آل ياسين ، وهو ظاهر في جعل ياسين اسما له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : هو اسم للسورة المعروفة ، وقيل : اسم للقرآن فآل ياسين هذه الأمة المحمدية أو خواصها.

وقيل : اسم لغير القرآن من الكتب ، ولا يخفى عليك أن السياق والسباق يأبيان أكثر هذه الأقوال.

وقرأ أبو رجاء والحسن «على الياسين» بوصل الهمزة وتخريجها يعلم مما مر. وقرأ ابن مسعود ومن قرأ معه فيما سبق إدريس «سلام على ادراسين» وعن قتادة «وأن إدريس» وقرأ «على إدريسين» وقرأ أبي «على إيليس» كما قرأ «وإنّ إيليس لمن المرسلين».

__________________

(١) وهو في عشرة أجزاء من أنفس كتب النحو وقد طبعناه والحمد لله.

١٣٥

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ(١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)

وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ* (١) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ* ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) سبق بيانه في الشعراء (وَإِنَّكُمْ) يا أهل مكة (لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) على منازلهم في متاجركم إلى الشام فإن سذوم (٢) في طريقه (مُصْبِحِينَ) داخلين في الصباح (وَبِاللَّيْلِ) قيل أي ومساء بأن يراد بالليل أوله لأنه زمان السير ولوقوعه مقابل الصباح ، وقيل : أي نهارا وليلا وهو تأويل قبل الحاجة ولذا اختير الأول ، ووجه التخصيص عليه بأنه لعل سدوم وقعت قريب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحا والقاصد مساء ، وقال بعض الأجلة : لو أبقى على ظاهره لأن ديار العرب لحرها يسافر فيها في الليل إلى الصباح خلا عن التكلف في توجيه المقابلة (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتى تعتبروا به وتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فإن منشأ ذلك مخالفتهم رسولهم ومخالفة الرسول قدر مشترك بينكم.

__________________

(١) قال الضحاك مسخت حجرا وكانت تسمى هيشفع انتهى منه.

(٢) سذوم بالدال المهملة والذال المعجمة بلد قوم لوط عليه‌السلام.

١٣٦

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) يروى على ما في البحر أنه عليه‌السلام نبئ وهو ابن ثمان وعشرين سنة ، وحكي في البحر أنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس وهو ابن متى بفتح الميم وتشديد التاء الفوقية مقصور ، وهل هذا اسم أمه أو أبيه فيه خلاف فقيل اسم أمه وهو المذكور في تفسير عبد الرزاق ، وقيل : اسم أبيه وهذا ـ كما قال ابن حجر ـ أصح ، وبعض أهل الكتاب يسميه يونان بن مائي ، وبعضهم يسميه يونه بن امتياي ؛ ولم نقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه ، وفي اسمه عند العرب ست لغات تثليث النون مع الواو والياء والهمزة ، والقراءة المشهورة بضم النون مع الواو. وقرأ أبو طلحة بن مصرف بكسر النون قيل أراد أن يجعله عربيا مشتقا من أنس وهو كما ترى (إِذْ أَبَقَ) هرب ، وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه كما هو الأنسب بحال الأنبياء عليهم‌السلام حسن إطلاقه عليه فهو إما استعارة أو مجاز مرسل من استعمال المقيد في المطلق ، والأول أبلغ ، وقال بعض الكمل : الإباق الفرار من السيد بحيث لا يهتدي إليه طالب أي بهذا القصد ، وكان عليه‌السلام هرب من قومه بغير إذن ربه سبحانه إلى حيث طلبوه فلم يجدوه فاستعير الإباق لهربه باعتبار هذا القيد لا باعتبار القيد الأول ، وفيه بعد تسليم اعتبار هذا القيد على ما ذكره بعض أهل اللغة أنه لا مانع من اعتبار ذلك القيد فلا اعتبار بنفي اعتباره (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) المملوء (فَساهَمَ) فقارع عليه‌السلام من في الفلك ، واستدل به من قال بمشروعية القرعة.

(فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) فصار من المغلوبين بالقرعة ، وأصله المزلق اسم مفعول عن مقام الظفر.

يروى أنه وعد قومه العذاب وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام فلما كان اليوم الثالث خرج يونس قبل أن يأذن الله تعالى له ففقده قومه فخرجوا بالكبير والصغير والدواب وفرقوا بين كل والدة وولدها فشارف نزول العذاب بهم فعجوا إلى الله تعالى وأنابوا واستقالوا فأقالهم الله تعالى وصرف عنهم العذاب فلما لم ير يونس نزول العذاب استحى أن يرجع إليهم وقال : لا أرجع إليهم كذابا أبدا ومضى على وجهه فأتى سفينة فركبها فلما وصلت اللجة وقفت فلم تسر فقال صاحبها : ما يمنعها أن تسير إلا أن فيكم رجلا مشئوما فاقترعوا ليلقوا من وقعت عليه القرعة في الماء فوقعت على يونس ثم أعادوا فوقعت عليه ثم أعادوا فوقعت عليه فلما رأى ذلك رمى بنفسه في الماء.

(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) أي ابتلعه من اللقمة ، وفي خبر أخرجه أحمد وغيره عن ابن مسعود أنه أتى قوما في سفينة فحملوه وعرفوه فلما دخلها ركدت والسفن تسير يمينا وشمالا فقال : ما بال سفينتكم؟ قالوا : ما ندري قال : ولكني أدري إن فيها عبدا آبق من ربه وإنها والله لا تسير حتى تلقوه قالوا : أما أنت والله يا نبي الله فلا نلقيك فقال لهم : اقترعوا فمن قرع فليلق فاقترعوا ثلاث مرات وفي كل مرة تقع القرعة عليه فرمى بنفسه فكان ما قص الله تعالى. وكيفية اقتراعهم على ما في البحر عن ابن مسعود أنهم أخذوا لكل سهما على أن من طفا سهمه فهو ومن غرق سهمه فليس إياه فطفا سهم يونس. وروي أنه لما وقف على شفير السفينة ليرمي بنفسه رأى حوتا ـ واسمه على ما أخرج ابن أبي حاتم وجماعة عن قتادة نجم ـ قد رفع رأسه من الماء قدر ثلاثة أذرع يرقبه ويترصده فذهب إلى ركن آخر فاستقبله الحوت فانتقل إلى آخر فوجده وهكذا حتى استدار بالسفينة فلما رأى ذلك عرف أنه أمر من الله تعالى فطرح نفسه فأخذه قبل أن يصل إلى الماء (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي داخل في الملامة على أن بناء افعل للدخول في الشيء نحو أحرم إذا دخل الحرم أو آت بما يلام عليه على أن الهمزة فيه للصيرورة نحو أغد البعير أي صار ذا غدة فهو هنا لما أتى بما يستحق اللوم عليه صار ذا لوم أو مليم نفسه على أن الهمزة فيه للتعدية نحو أقدمته والمفعول محذوف ، وما روي عن ابن عباس ومجاهد من تفسيره بالمسيء والمذنب فبيان لحاصل المعنى وحسنات الأبرار سيئات المقربين. وقرئ «مليم» بفتح أوله اسم مفعول وقياسه ملوم لأنه واوي يقال لمته ألومه لوما لكنه جيء به على ليم كما قالوا مشيب

١٣٧

ومدعي في مشوب ومدعو بناء على شيب ودعي وذلك أنه لما قلبت الواو ياء في المجهول جعل كالأصل فحمل الوصف عليه.

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) أي من الذاكرين الله تعالى كثيرا بالتسبيح كما قيل ، وفي كلام قتادة ما يشعر باعتبار الكثرة ، واستفادتها على ما قال الخفاجي من جعله من المسبحين دون أن يقال مسبحا فإنه يشعر بأنه عريق فيهم منسوب إليهم معدود في عدادهم ومثله يستلزم الكثرة ، وقيل : من التفعيل. ورد بأن معنى سبح لم يعتبر فيه ذلك إذ هو قال سبحان الله ، وقد يقال : هي من إرادة الثبوت من (الْمُسَبِّحِينَ) فإنه يشعر بأن التسبيح ديدن لهم ، والمراد بالتسبيح هاهنا حقيقته وهو القول المذكور أو ما في معناه وروي ذلك عن ابن جبير.

وهذا الكون عند بعض قبل التقام الحوت أيام الرخاء ، واستظهر أبو حيان أنه في بطن الحوت وأن التسبيح ما ذكره الله تعالى في قوله سبحانه : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧] وحمله بعضهم على الذكر مطلقا ، وبعض آخر على العبادة كذلك ، وجماعة منهم ابن عباس على الصلاة بل روي عنه أنه قال : كل ما في القرآن من التسبيح فهو بمعنى الصلاة ، وأنت تعلم أن كان اللفظ فيما ذكر حقيقة شرعية ولم يكن للتسبيح حقيقة أخرى شرعية أيضا لم يحتج إلى قرينة ، وإن كان مجازا أو كان للتسبيح حقيقة شرعية أخرى احتيج إلى قرينة فإن وجدت فذاك وإلا فالأمر غير خفي عليك ، وكما اختلف في زمان التسبيح بالمعنى السابق اختلف في زمانه بالمعاني الأخر ، أخرج أحمد في الزهد. وغيره عن ابن جبير في قوله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) قال : من المصلين قبل أن يدخل بطن الحوت ، وأخرج أحمد وغيره أيضا عن الحسن في الآية قال : ما كان إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت فذكر ذلك لقتادة فقال : لا إنما كان يعمل في الرخاء ، وروي عن الحسن غير ما ذكر ، فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان والحاكم أنه قال في الآية : كان يكثر الصلاة في الرخاء فلما حصل في بطن الحوت ظن أنه الموت فحرك رجليه فإذا هي تتحرك فسجد وقال : يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يسجد فيه أحد.

وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك بن قيس قال : اذكروا الله تعالى في الرخاء يذكركم في الشدة فإن يونس عليه‌السلام كان عبدا صالحا ذاكر الله تعالى فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) [يونس : ٩٠] إلخ وإن فرعون كان عبدا طاغيا ناسيا لذكر الله تعالى فلما أدركه الغرق قال (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس : ٩٠]. فقيل له : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) يونس : ٩١] والأولى حمل زمان كونه من المسبحين على ما يعم زمان الرخاء وزمان كونه في بطن الحوت فإن لاتصافه بذلك في كلا الزمانين مدخلا في خروجه من بطن الحوت المفهوم من قوله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) كما يشعر به ما في حديث أخرجه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس مرفوعا من أنه عليه‌السلام لما التقمه الحوت وهوى به حتى انتهى إلى ما انتهى من الأرض سمع تسبيح الأرض فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فأقبلت الدعوة نحو العرش فقالت الملائكة : يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا من بلاد غربة قال سبحانه : وما تدرون ما ذاكم؟ قالوا : لا يا ربنا قال : ذاك عبدي يونس قالوا : الذي كنا لا نزال نرفع له عملا متقبلا ودعوة مجابة؟ قال : نعم قالوا : يا ربنا ألا ترحم ما كان يصنع في الرخاء وتنجيه عند البلاء؟ قال : بلى فأمر عزوجل الحوت فلفظه.

واستظهر أبو حيان أن المراد بقوله سبحانه (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ) إلخ لبقي في بطنه حيا إلى يوم البعث وبه أقول.

١٣٨

وتعقب بأنه ينافيه ما ورد من أنه لا يبقى عند النفخة الأولى ذو روح من البشر والحيوان في البر والبحر. وأجيب بعد تسليم ورود ذلك أو ما يدل عليه بأنه مبالغة في طول المدة مع أنه في حيز لو فلا يرد رأسا (١) أو المراد بوقت البعث ما يشمل زمان النفخة لأنه من مقدماته فكأنه منه ، وعن قتادة لكان بطن الحوت قبرا له ، وظاهره أنه أريد للبث ميتا في بطنه إلى يوم البعث ، ولا مانع من بقاء بنية الحوت كبنيته من غير تسلط البلاء إلى ذلك اليوم ، وضمير (يُبْعَثُونَ) لغير مذكور وهو ظاهر (فَنَبَذْناهُ) بأن حملنا الحوت على لفظه فالإسناد مجازي ، والنبذ على ما في القاموس طرحك الشيء أماما أو وراء أو هو عام.

وقال الراغب : النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به ، والمراد به هنا الطرح والرمي والقيد الذي ذكره الراغب لا أرغب فيه فإنه عليه‌السلام وإن أبق وخرج من غير إذن مولاه واعتراه من تأديبه تعالى ما اعتراه فالرب عزوجل بأنبيائه رحيم وله سبحانه في كل شأن اعتداد بهم عظيم فهو عليه‌السلام معتد به في حال الإلقاء وإن كان ذلك (بِالْعَراءِ) أي بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت ، يروى أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس ويونس يسبح حتى انتهوا إلى البر فلفظه. ورد بأنه يأباه قوله تعالى (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) وأجيب بأنه بمجرد رفع رأسه للتنفس لا يخرج منها ، ثم إنّ هذا لئلا يختنق يونس أو تنحصر نفسه بحكم العادة لا ليمتنع دخول الماء جوف الحوت حتى يقال السمك لا يحتاج لذلك ، ومع هذا نحن لا نجزم بصحة الخبر فقد روي أيضا أنه طاف به البحار كلها ثم نبذه على شط دجلة قريب نينوى بكسر النون الأولى وضم الثانية كما في الكشف من أرض الموصل ، والالتقام كان في دجلة أيضا على ما صرح به البعض وخالف فيه أهل الكتاب ، وسيأتي إن شاء الله تعالى نقل كلامهم لك في هذه القصة لتقف على ما فيه.

والظاهر أن الحوت من حيتان دجلة أيضا وقد شاهدنا فيها حيتانا عظيمة جدا ، وقيل كان من حيتان النيل. أخرج ابن شيبة عن وهب أنه جلس هو وطاوس ونحوهما من أهل ذلك الزمان فذكروا أي أمر الله تعالى أسرع؟ فقال بعضهم : قول الله تعالى (كَلَمْحِ الْبَصَرِ) [النحل : ٧٧ ، القمر : ٥٠] وقال بعضهم : السرير حين أتى به سليمان ، وقال وهب : أسرع أمر الله تعالى أن يونس على حافة السفينة إذ أوحى الله سبحانه إلى نون في نيل مصر فما خر من حافتها إلا في جوفه ، ولا شبهة في أن قدرة الله عزوجل أعظم من ذلك لكن الشبهة في صحة الخبر.

وكأني بك تقول : لا شبهة في عدم صحته. واختلف في مدة لبثه فأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وغيره عن الشعبي قال : التقمه الحوت ضحى ولفظه عشية وكأنه أراد حين أظلم الليل ، وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال : إنه لبث في جوفه ثلاثا ، وفي كتب أهل الكتاب ثلاثة أيام وثلاث ليال ، وعن عطاء وابن جبير سبعة أيام ، وعن الضحاك عشرين يوما ، وعن ابن عباس وابن جريج وأبي مالك والسدي ومقاتل بن سليمان والكلبي وعكرمة أربعين يوما ، وفي البحر ما يدل على أنه لم يصح خبر في مدة لبثه عليه‌السلام في بطن الحوت (وَهُوَ سَقِيمٌ) مما ناله ، قال ابن عباس والسدي : إنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد ، وعن ابن جبير أنه عليه‌السلام ألقي ولا شعر له ولا جلد ولا ظفر. ولعل ذلك يستدعي بحكم العادة أن لمدة لبثه في بطن الحوت طولا ما.

(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) أي أنبتناها مطلة عليه مظلة له كالخيمة فعليه حال من (شَجَرَةً) قدمت

__________________

(١) أو أنه يبقى حيا إلى وقت النفخة ثم يموت مع من يموت ويبقى إلى يوم البعث في بطن الحوت فلا إشكال اه عبد الله نجل المصنف.

١٣٩

عليها لأنها نكرة ، واليقطين يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به ، وزاد الطبرسي إقامة زائل لا إقامة راسخ ، والمراد به على ما جاء عن الحسن والسبط. وابن عباس في رواية وابن مسعود وأبي هريرة وعمرو بن ميمون وقتادة وعكرمة وابن جبير ومجاهد في إحدى الروايتين عنهما الدباء وهو القرع المعروف ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبه ، وأنبتها الله تعالى مطلة عليه لأنها تجمع خصالا برد الظل والملمس وعظم الورق وأن الذباب لا يقع عليها على ما قيل ، وكان عليه‌السلام لرقة جلده بمكثه في بطن الحوت يؤذيه الذباب ومماسة ما فيه خشونة ويؤلمه حر الشمس ويستطيب بارد الظل فلطف الله تعالى به بذلك ، وذكر أن ورق القرع أنفع شيء لمن ينسلخ جلده ؛ واشتهر أن الشجر ما كان على ساق من عود فيشكل تفسير الشجرة هنا بالدباء.

وأجاب أبو حيان بأنه يحتمل أن الله تعالى أنبتها على ساق لتظله خرقا للعادة ، وقال الكرماني : العامة تخصص الشجر بما له ساق ، وعند العرب كل شيء له أرومة تبقى فهو شجر وغيره نجم ، ويشهد له قول أفصح الفصحاء صلى‌الله‌عليه‌وسلم شجرة الثوم انتهى.

وقال بعض الأجلة : لك أن تقول أصل معناه ما له أرومة لكنه غلب في عرف أهل اللغة على ما له ساق وأغصان فإذا أطلق يتبادر منه المعنى الثاني وإذا قيد كما هنا. وفي الحديث يرد على أصله وهو الظاهر ، ثم ذكر أن ما قاله أبو حيان تمحل في محل لا مجال للرأي فيه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن جبير أنه قال: كل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين والذي يكون على وجه الأرض من البطيخ والقثاء ، وفي رواية أخرى عنه أنه سئل عن اليقطين أهو القرع؟ قال : لا ولكنها شجرة سماها الله تعالى اليقطين أظلته.

وفي رواية عن ابن عباس أنه كل شيء ينبت ثم يموت من عامه ، وفي أخرى كل شيء يذهب على وجه الأرض.

وقيل شجرة اليقطين هي شجرة الموز تغطي بورقها واستظل بأغصانها وأفطر على ثمارها ، وقيل شجرة التين والأصح ما تقدم.

وروي عن قتادة أنه عليه‌السلام كان يأكل من ذلك القرع ، وجاء في رواية عن أبي هريرة أنه قال : طرح بالعراء فأنبت الله تعالى عليه يقطينة فقيل له : ما اليقطينة؟ قال : شجرة الدباء هيأ الله تعالى له أروية وحشية تأكل من حشاش الأرض فتفسح عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبتت ، وقيل : إنه كان يستظل بالشجرة وتختلف إليه الأروية فيشرب من لبنها ، وفي بعض الآثار أنها نبتت وأظلته في يومها.

أخرج أحمد في الزهد وغيره عن وهب أنه لما خرج من البحر نام نومة فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين وهي الدباء فأظلته وبلغت في يومها فرآها قد أظلته ورأى خضرتها فأعجبته ثم نام نومة فاستيقظ فإذا هي قد يبست فجعل يحزن عليها فقيل له : أنت الذي لم تخلق ولم تسق ولم تنبت تحزن عليها وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون ثم رحمتهم فشق عليك وهؤلاء هم أهل نينوى المعنيون بقوله تعالى :

(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) والإرسال على ما أخرج غير واحد عن مجاهد والحسن وقتادة هو الإرسال الأول الذي كان قبل أن يلتقمه الحوت فالعطف على قوله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ) إلخ على سبيل البيان لدلالته على ابتداء الحال وانتهائه وعلى ما هو المقصود من الإرسال من الإيمان ، واعترض بينهما بقصته اعتناء بها لغرابتها. وأورد عليه أنه يأبى عن حمله على الإرسال الأول الفاء في قوله تعالى : (فَآمَنُوا) فإن أولئك لم يؤمنوا عقيب إرساله الأول بل بعد ما فارقهم. وأجيب بأنه تعقيب عرفي نحو تزوج فولد له.

١٤٠