روح المعاني - ج ١٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

وأنه لعظمه بمنزلة المحسوس وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخسران والإتيان به على فعلان الأبلغ من فعل ووصفه بالمبين من الدلالة على كمال هو له وفظاعته وأنه لا نوع من الخسر وراءه ما لا يخفى.

وقوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) إلى آخره نوع بيان لخسرانهم بعد تهويله بطريق الإبهام على أن (لَهُمْ) خبر لظلل و (مِنْ) فوقهم متعلق بمحذوف حال من ضميرها في الظرف المقدم لا منها نفسها لضعف الحال من المبتدأ ، وجعلها فاعل الظرف حينئذ اتباع لنظر الأخفش وهو ضعيف ، و (مِنَ النَّارِ) صفة لظلل.

والكلام جار مجرى التهكم بهم ولذا قيل لهم وعبر عما علاهم من النار بالظلل أي لهم كائنة من فوقهم ظلل كثيرة متراكمة بعضها فوق بعض كائنة من النار (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) كائنة من النار أيضا ، والمراد أطباق كثيرة منها وتسميتها ظللا من باب المشاكلة. وقيل هي ظلل لمن تحتهم في طبقة أخرى من طبقات النار ولا يطرد في أهل الطبقة الأخيرة من هؤلاء الخاسرين إلا أن يقال : إنها للشياطين ونحوهم مما لا ذكر لهم هنا ، وقيل : إن ما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيرا وليس بذاك ، والمراد أن النار محيطة بهم (ذلِكَ) العذاب الفظيع (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) يذكره سبحانه لهم بآيات الوعيد ليخافوا فيجتنبوا ما يوقعهم فيه ، وخص بعضهم العباد بالمؤمنين لأنهم المنتفعون بالتخويف وعمم آخرون.

وكذا في قوله سبحانه : (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي ، ويختلف المراد بالأمر على الوجهين كما لا يخفى ، وهذه عظة من الله جل جلاله وعم نواله منطوية على غاية اللطف والرحمة. وقرئ «يا عبادي» بالياء.

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ(٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ)(٢٣)

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) إلخ قال ابن زيد : نزلت في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله زيد ابن عمرو بن نفيل وسلمان وأبي ذر ، وقال ابن إسحاق : أشير بها إلى عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير وذلك أنه لما أسلم أبو بكر سمعوا ذلك فجاءوه وقالوا : أسلمت قال نعم وذكرهم بالله تعالى فآمنوا بأجمعهم فنزلت فيهم وهي محكمة في الناس إلى يوم القيامة ، والطاغوت فعلوت من الطغيان كما قالوا لا فاعول كما قيل بتقديم اللام على العين نحو صاعقة وصاقعة ، ويدل على ذلك الاشتقاق وأن طوغ وطيغ مهملان.

٢٤١

وأصله طغيوت أو طغووت من الياء أو الواو لأن طغى يطغى ويطغو كلاهما ثابتان في العربية نقله الجوهري ، ونقل أن الطغيان والطغوان بمعنى وكذا الراغب ، وجمعه على الطواغيت يدل على أن الجمع بني على الواو ، وقولهم : من الطغيان لا يريدون به خصوص الياء بل أرادوا المعنى وهو على ما في الصحاح الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال ، وقال الراغب : هو عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله تعالى وسمي به الساحر والكاهن والمارد من الجن والصارف عن الخير ويستعمل في الواحد والجمع.

وقال الزمخشري في هذه السورة : لا يطلق على غير الشيطان ، وذكر أن فيه مبالغات من حيث البناء فإن صيغة فعلوت للمبالغة ولذا قالوا الرحموت الرحمة الواسعة ، ومن حيث التسمية بالمصدر ، ومن حيث القلب فإنه للاختصاص كما في الجاه ، وقد أطلقه في النساء على كعب بن الأشرف وقال سمي طاغوتا لافراطه في الطغيان وعداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو على التشبيه بالشيطان فلعله أراد لا يطلق على غير الشيطان على الحقيقة ، وكأنه جعل كعبا على الأول من الوجهين من شياطين الإنس ، وفي الكشف كأنه لما رآه مصدرا في الأصل منقولا إلى العين كثير الاستعمال في الشيطان حكم بأنه حقيقة فيه بعد النقل مجاز في الباقي لظهور العلاقة إما استعارة وإما نظر إلى تناسب المعنى ، والذي يغلب على الظن أن الطاغوت في الأصل مصدر نقل إلى البالغ الغاية في الطغيان وتجاوز الحد ، واستعماله في فرد من هذا المفهوم العام شيطانا كان أو غيره يكون حقيقة ويكون مجازا على ما قرروا في استعمال العام في فرد من أفراده كاستعمال الإنسان في زيد ، وشيوعه في الشيطان ليس إلا لكونه رأس الطاغين ، وفسره هنا بالشيطان مجاهد ، ويجوز تفسيرها بالشياطين جمعا على ما سمعت عن الراغب ويؤيده قراءة الحسن «اجتنبوا الطواغيت» (أَنْ يَعْبُدُوها) بدل اشتمال من الطاغوت وعبادة غير الله تعالى عبادة للشيطان إذ هو الآمر بها والمزين لها ، وإذا فسر الطاغوت بالأصنام فالأمر ظاهر (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) وأقبلوا إليه سبحانه معرضين عما سواه إقبالا كليا (لَهُمُ الْبُشْرى) بالثواب من الله تعالى على ألسنة الرسل عليهم‌السلام أو الملائكة عند حضور الموت وحين يحشرون وبعد ذلك.

(فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) مدح لهم بأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب وكذلك المباح والندب.

وقيل يستمعون أوامر الله تعالى فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو والانتصار والإغضاء والإبداء والإخفاء لقوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧] (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٧١] والفرق بين الوجهين أن هذا أخص لأنه مخصوص بأوامر فيها تخيير بين راجح وأرجح كالعفو والقصاص مثلا كأنه قيل يتبعون أحسن القولين الواردين في معين وفي الأول يتبعون الأحسن من القولين مطلقا كالإيجاب بالنسبة إلى الندب مثلا.

وعن الزجاج يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل يستمعون القول ممن كان فيتبعون أولاه بالقبول وأرشده إلى الحق ويلزم من وصفهم بذلك أنهم يميزون القبيح من الحسن ويجتنبون القبيح ، وأريد بهؤلاء العباد الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم لئلا ينفك النظم فإن قوله تعالى : (فَبَشِّرْ) مرتب على قوله سبحانه (لَهُمُ الْبُشْرى) ووضع الظاهر موضع الضمير ليشرفهم تعالى بالإضافة إليه ولتكرير بيان الاستحقاق وليدل على أنهم نقادون حرصا على إيثار الطاعة ومزيد القرب عند الله تعالى وفيه تحقيق للإنابة وتتميم حسن ، وقيل الوقف على «عبادي» فيكون الذين مبتدأ خبره جملة قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) أي لدينه ، والكلام استئناف بإعادة صفة من استؤنف عنه الحديث ؛ وما تقدم أرجح لما سلف من الفوائد من إقامة الظاهر مقام المضمر والتتميم فإن ذلك دون الوصف لا يتم ،

٢٤٢

ولأن محرك السؤال المجاب بالجملة بعد قوله تعالى : (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أقوى وذلك الأصل في حسن الاستئناف (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي هم أصحاب العقول السليمة عن معارضة الوهم ومنازعة الهوى المستحقون للهداية لا غيرهم ، وفي الآية دلالة على حط قدر التقليد المحض ولذا قيل :

شمّر وكن في أمور الدين مجتهدا

ولا تكن مثل عير قيد فانقادا

واستدل بها على أن الهداية تحصل بفعل الله تعالى وقبول النفس لها كما ذهب إليه الأشاعرة ، وقوله تعالى: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) بيان لأضداد المذكورين على طريقة الإجمال وتسجيل عليهم بحرمان الهداية وهم عبدة الطاغوت ومتبعو خطواتها كما يلوح به التعبير عنهم بمن حق عليه كلمة العذاب فإن المراد بتلك الكلمة قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص: ٨٥] والآية على ما قيل نزلت في أبي جهل وأضرابه ، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ومن شرطية على ما ذهب إليه الحوفي وغيره وجواب الشرط (فَأَنْتَ تُنْقِذُ) إلخ والهمزة قبله لاستطالة الكلام على نحو قوله:

لقد علم الحزب اليمانون أنني

إذا قلت أما بعد أني خطيبها

لأن دخول الهمزة في الجواب أو الشرط كاف تقول : أإن أكرمك تكرمه كما تقول إن أكرمك أتكرمه ولا تكررها فيهما إلا للتأكيد لأن الجملتين أعني الشرط والجزاء بعد دخول الأداة مفردان والاستفهام إنما يتوجه على مضامين الجمل إذا كان المطلوب تصديقا والإنكار المفاد بالهمزة متعلق بمضمون المعطوف والمعطوف عليه إلا أن المقصود في المعطوف إنكار الجزاء والتقدير أأنت مالك أمر الناس قادر على التصرف فيه فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه على معنى لست أنت مالك أمر الناس ولا أنت تقدر على الإنقاذ بل المالك والقادر على الإنقاذ هو الله عزوجل ، وعدل عن فأنت تنقذه إلى ما في النظم الكريم لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد مع ما فيه من الإشارة إلى أنه نزل استحقاقهم للعذاب وهم في الدنيا المشعر به الشرط منزلة دخولهم النار وأنه مثل حاله عليه الصلاة والسلام في المبالغة في تحصيل هدايتهم والاجتهاد في دعائهم إلى الإيمان بحال من يريد أن ينقذ من في النار منها. وفي الحواشي الخفاجية نقلا عن السعد أن في هذه الآية استعارة لا يعرفها إلا فرسان البيان وهي الاستعارة التمثيلية المكنية لأنه نزل ما يدل عليه قوله تعالى : (أَفَمَنْ) إلخ من استحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار في الآخرة حتى يترتب عليه تنزيلا بذله عليه الصلاة والسلام جهده في دعائهم إلى الإيمان منزلة إنقاذهم من النار الذي هو من ملائمات دخول النار ثم قال : وقد عرفت من مذهبه أن قرينة المكنية قد تكون تحقيقية كما في نقض العهد انتهى فتأمل.

وقيل : إن النار مجاز عن الضلال من باب إطلاق اسم المسبب على السبب والإنقاذ بدل الهداية من ترشيح المجاز أو مجاز عن الدعاء للإيمان والطاعة وليس بذاك ، وجوز أن يكون الجزاء محذوفا وجملة (فَأَنْتَ تُنْقِذُ) إلخ مستأنفة مقررة للجملة الأولى والتقدير أفمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تخلصه أفأنت تنقذ من في النار.

ولا فرق بين الوجهين في أن الفاء في الأولى للعطف على محذوف ولا في كون المعنى على تنزيل استحقاق العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار وتمثيل حاله عليه الصلاة والسلام في المبالغة في تحصيل هدايتهم بحال من يريد أن ينقذ من في النار منها ، نعم الكلام على الأول جملة وعلى الثاني جملتان ، واستظهر أبو حيان أن (مَنْ) موصولة مبتدأ والخبر محذوف ، وحكي أن منهم من يقدره يتأسف عليه ومنهم من يقدره يتخلص منه ومنهم من يقدره فأنت تخلصه ، ولا يخفى أن التقدير الأخير أولى ، وذكر أن النحاة على أن الفاء في مثل هذا التركيب للعطف

٢٤٣

وموضعها قبل الهمزة لكن قدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وقال : إن القول بأن كلا منهما في مكانه قول انفرد به الزمخشري فيما علمنا وفي المغني ترجيح القول بأن الهمزة مقدمة من تأخير وعليه يقدر المعطوف عليه ما أنت مالك أمرهم أو ما أخبر الله تعالى به واقع لا محالة أو كل كافر مستحق للعذاب أو نحو ذلك مما يناسب المعنى المراد.

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) استدراك بين ما يشبه النقيضين والضدين وهما المؤمنين والكافرون وأحوالهما ، والمراد بالذين اتقوا الموصوفون بما عدد من الصفات الفاضلة ، والغرف جمع غرفة وهي العلية أي لهم علالي كثيرة جليلة بعضها فوق بعض (مَبْنِيَّةٌ) قيل : هو كالتمهيد لقوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت تلك الغرف الفوقانيات والتحتانيات (الْأَنْهارُ) أي مبنية بناء يتأتى معه جري الأنهار من تحتها وذلك على خلاف علالي الدنيا فيفيد الوصف بذلك أنها سويت تسوية البناء على الأرض وجعلت سطحا واحدا يتأتى معه جري الأنهار عليه على أن مياه الجنة لما كانت منحدرة من بطنان العرش على ما في الحديث فهي أعلى من الغرف فلا عجب من جري الماء عليها فوقا وتحتا لكن لا بد من وضع يتأتى معه الجري فالوصف المذكور لإفادة ذلك.

وقال بعض الأجلة : الظاهر أن هذا الوصف تحقيق للحقيقة وبيان أن الغرف ليست كالظلل حيث أريد بها المعنى المجازي على الاستعارة التهكمية ، وقال بعض فضلاء إخواننا المعاصرين : فائدة التوصيف بما ذكر الإشارة إلى رفعة شأن الغرف حيث آذن أن الله تعالى بانيها وما ذا عسى يقال في بناء بناه الله جل وعلا.

وأقول والله تعالى أعلم : وصفت الغرف بذلك للإشارة إلى أنها مهيأة معدة لهم قد فرغ من أمرها كما هو ظاهر الوصف لا أنها تبنى يوم القيامة لهم ، وفي ذلك من تعظيم شأن المتقين ما فيه ، وفي الآية على هذا رد على المعتزلة وكأن الزمخشري لذلك لم يحم حول هذا الوجه واقتصر على ما حكيناه أولا مع أن ما قلناه أقرب منه فليحفظ.

(وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله فإنه وعد أي وعد (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) لما في خلفه من النقص المستحيل عليه عزوجل (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) استئناف وارد إما لتمثيل الحياة الدنيا في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال بما ذكر من أحوال الزرع تحذيرا من الاغترار بزهرتها أو للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغرف بما يشاهد من إنزال الماء من السماء وما يترتب عليه من آثار قدرته سبحانه وأحكام حكمته ورحمته ، والمراد بالماء المطر وبالسماء جهة العلو ، وقيل : الأجرام العلوية وكون إنزال المطر منها باعتبار أنه بأسباب ناشئة منها فإن تصاعد الأبخرة وتكون الغيوم بسبب جذب الشمس واختلاف أوضاعها ونحو ذلك من الأسباب التي يعلمها الله تعالى ، وأما كون إنزال المطر نفسه من جرم السماء المعروفة نفسها فكثير ما يرتفع سحاب ويمطر مطرا غزيرا وهناك من هو على ذروة جبل لا سحاب عنده ولا مطر والتزام أن المطر في ذلك نازل من جرم السماء أيضا على السحاب لكن لا يشاهده من هو مشرف على السحاب وواقف فوق الجبل لا يخفى حاله ، وقيل : المراد بالماء كل ماء في الأرض ، والمراد بالإنزال المذكور الإنزال في مبدأ الخليقة وذلك أنه عزوجل لما خلق الأرض خلقها خالية من الماء فأنزل من بحر تحت العرش ماء (فَسَلَكَهُ) فأدخله (يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) أي في ينابيع أي عيون ومجاري كائنة في الأرض كالعروق في الأجساد فعلى الأول يقتضي ظاهر الآية أن ماء العيون والقنوات من ماء المطر وعلى الثاني ليس منه ، وشاع عن الفلاسفة أن ماء العيون وما يجري مجراها من الأبخرة قالوا : إن البخار إذا احتبس في الأرض يميل إلى جهة وتبرد بها فتنقلب مياه مختلطة بأجزاء بخارية فإذا كثر بحيث لا تسعه الأرض أوجب انشقاقها فانفجر منها العيون ، ورده أبو البركات البغدادي فقال في المعتبر : السبب في العيون وما يجري مجراها هو ما يسيل من الثلوج ومياه الأمطار لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها وأن استحالة الأهوية والأبخرة

٢٤٤

المنحصرة في الأرض لا مدخل لها في ذلك فإن باطن الأرض في الصيف أشد بردا منه في الشتاء فلو كان سبب هذه استحالتها لوجب أن تكون العيون والقنوات ومياه الآبار في الصيف أزيد وفي الشتاء أنقص مع أن الأمر بخلاف ذلك على ما دلت عليه التجربة ، وقال الميبدي : الحق أن السبب الذي ذكره صاحب المعتبر معتبر لا محالة إلا أنه غير مانع من اعتبار السبب الذي ذكر يعني ما شاع ، واحتجاجه في المنع إنما يدل على أنه لا يجوز أن يكون ذلك هو السبب التام لا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك سببا في الجملة اه.

وفي شرح المواقف اختلفوا في أن المياه متولدة من أجزاء مائية متفرقة في عمق الأرض إذا اجتمعت أو من الهواء البخاري الذي ينقلب ماء. وهذا الثاني وإن كان ممكنا إلا أن الأول أولى لأن مياه العيون والقنوات والآبار تزيد بزيادة الثلوج والأمطار ، والأولى عندي أن يحمل الماء في الآية على المطر ونحوه من الثلج ، والآية تدل على أن ذلك الماء يسلكه الله تعالى في ينابيع في الأرض ولا تدل على أن ما في الينابيع ليس إلا ذلك الماء فيجوز أن يكون بعض ما فيها هو الماء المنزل من السماء والبعض الآخر حادثا من الهواء البخاري بانقلابه ماء بأسباب يعلمها الله عزوجل ، وحمل الإنزال على الإنزال في مبدأ الخليقة على ما سمعت مع كونه مما لم أقف على خبر صحيح يقتضيه خلاف الظاهر في الآية جدا لأن الخطاب في (أَلَمْ تَرَ) عام ولا يتأتى العموم في رؤية ذلك ، وكأنه يتعين عليه جعل الخطاب خاصا بسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد ألم تعلم ذلك بالوحي ومع ذلك لا يخفى حال حمل الآية على ما ذكر ، وقريب مما قيل ما حكاه الزمخشري في الآية عن بعض من أن كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله تعالى بين البقاع ، هذا لكن يعكر على ما اخترناه ظاهر ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : ليس في الأرض ماء إلا ما أنزل الله تعالى من السماء ولكن عروق في الأرض تغيره فمن سره أن يعود الملح عذبا فليصعد. وأخرج نحوه عن سعيد بن جبير والشعبي ، فإن صح هذا الخبر وقلنا إنه في حكم المرفوع فما علينا إذا قلنا بظاهره فالعقل لا يأباه والله تعالى على كل شيء قدير ، هذا وجوز أن تكون الينابيع جمع ينبوع بمعنى النابع فإنه كما يطلق على المنبع يطلق على ما ذكر وحينئذ تكون منصوبة على الحال ، والمعنى فسلكه مياها نابعة في الأرض ، ولا يخلو من الكدر لأنه لو قصد هذا كان الظاهر أن يقال من الأرض وعلى ما هو المشهور يكون (يَنابِيعَ) منصوبا بنزع الخافض كما أشرنا إليه. واحتمال كونه منصوبا على المصدرية في إطلاقية بأن يكون الأصل فسلكه سلوكا في ينابيع أي مجاري فحذف المصدر وأقيم ما هو في موضع الصفة مقامه أو يكون الأصل فسلكه سلوك ينابيع أي مياه نابعة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه بعيد كما لا يخفى.

(ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ) أي بواسطته مراعاة للحكمة لا لتوقف الإخراج عليه في نفس الأمر ، وقالت الأشاعرة : أي يخرج عنده بلا مدخلية له بوجه من الوجوه سوى المقارنة (زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أي أنواعه وأصنافه من بر وشعير وغيرهما أو كيفياته المدركة بالبصر من خضرة وحمرة وغيرهما أو كيفياته مطلقا من الألوان والطعوم وغيرهما على ما قيل ، وشمل الزرع المقتات وغيره ، وثم للتراخي في الرتبة أو الزمان ، وصيغة المضارع لاستحضاره الصورة (ثُمَّ يَهِيجُ) ييبس ، وظاهر كلام أهل اللغة أن هذا معنى حقيقي للهيجان ، ويفهم من كلام بعض المفسرين أن يهيج بمعنى يثوب واستعماله بمعنى ييبس من مجاز المشارفة لأن الزرع إذا يبس وتم جفافه يشرف على أن يثور ويذهب من منابته (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) من بعد خضرته ونضارته. وقرئ «مصفارا» (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) فتاتا متكسرا كأن لم يغن بالأمس ، ولكون هذه الحالة من الآثار القوية علقت بجعل الله تعالى كالإخراج. وقرأ أبو بشر «ثم يجعله» بالنصب قال صاحب الكامل وهو ضعيف ولم يبين وجه النصب ، وكأنه إضمار أن كما في قوله :

٢٤٥

إني وقتلي سليكا ثم أعقله

ولا يخفى وجه ضعفه هنا (إِنَّ فِي ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر تفصيلا ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الغرابة والدلالة على ما قصد بيانه (لَذِكْرى) لتذكيرا عظيما (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لأصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وتنبيها لهم على حقيقة الحال يتذكرون بذلك حال الحياة الدنيا وسرعة تقضيها فلا يغترون ببهجتها ولا يفتنون بفتنتها أو يجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء والتصرف به على أتم وجه قادر على إجراء الأنهار من تحت تلك الغرف ، وكأن الأول أولى ليكون ما تقدم ترغيبا في الآخرة وهذا تنفيرا عن الدنيا ، وقيل المعنى إن في ذلك لتذكيرا وتنبيها على أنه لا بد لذلك من صانع حكيم وأنه كائن على تقدير وتدبير لا عن تعطيل وإهمال وهو بمعزل عما يقتضيه السياق على أن الأنسب بإرادة ذلك ذكر الآثار غير مسندة إليه عزوجل فحيث ذكرت مسندة إليه سبحانه فالظاهر أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شئونه تعالى أو شئون آثاره حسبما أشير إليه لا وجوده جل وعلا.

وقوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) إلخ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تخصيص الذكرى بأولي الألباب ، والشرح في الأصل البسط والمد للحم ونحوه ويكنى به عن التوسيع ، وتجوز به هنا عن خلق النفس الناطقة مستعدة استعدادا تاما للقبول بجامع عدم التأبي عن القبول وسهولة الحصول وذلك بعد التجوز في الصدر ، وإرادة النفس الناطقة منه من حيث إنه محل للقلب وفي تجويفه بخار لطيف يتكون من صفوة الأغذية وبه تتعلق النفس أولا وبواسطته تتعلق بسائر البدن تعلق التدبير والتصريف ، وتلك النفس هي التي تتصف بالإسلام والإيمان ، وجعل بعض الأجلة شرح الله صدره استعارة تمثيلية ، والهمزة للإنكار داخلة على محذوف على أحد القولين المارين آنفا ، والفاء للعطف على ذلك المحذوف ، وخبر من محذوف لدلالة ما بعده عليه والتقدير أكل الناس سواء فمن شرح الله تعالى صدره وخلقه مستعدا للإسلام فبقي على الفطرة الأصلية ولم تتغير بالعوارض المكتسبة القادحة فيها (فَهُوَ) بموجب ذلك مستقر (عَلى نُورٍ) عظيم (مِنْ رَبِّهِ) وهو اللطف الإلهي المشرق عليه من بروج الرحمة عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية والتوفيق للاهتداء بها إلى الحق كمن قسا قلبه وحرج صدره بتبديل فطرة الله تعالى بسوء اختياره واستولى عليه ظلمات الغي والضلال فأعرض عن تلك الآيات بالكلية حتى لا يتذكر بها ولا يغتنمها ، وعدل عن فعنده أو فله نور إلى ما في النظم الجليل للدلالة على استمرار ذلك واستقراره في النور وهو مستعار للطف والتوفيق للاهتداء ، وقد يقال : هو أمر إلهي غير اللطف والتوفيق يدرك به الحق ؛ وجاء برواية الثعلبي في تفسيره والحاكم في مستدركه والبيهقي في شعب الإيمان وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال : تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ) إلخ فقلنا : يا رسول الله كيف انشراح الصدر؟ قال : إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا : فما علامة ذلك يا رسول الله؟ فقال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله. واستشكل ذلك بأن ظاهر الآية ترتب دخول النور على الانشراح ، لأنه الاستعداد لقبوله وما في الحديث الشريف عكسه والظاهر أن السؤال عما في الآية وأن الجواب بيان لكيفيته. وأجيب بأن الاهتداء له مراتب بعضها مقدم وبعضها مؤخر وانشراح الصدر بحسب الفطرة والخلق وبحسب ما يطرأ عليه بعد فيض الألطاف عليه وبينهما تلازم ، والمراد بانشراح الصدر في الحديث ما يكون بعد التمكن فيه ، وفي الآية ما تقدم وقس عليه النور ، والجواب من قبيل الأسلوب الحكيم فتأمل.

(فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) أي من أجل ذكره سبحانه الذي حقه أن تلين منه القلوب أي إذا ذكر الله تعالى عندهم أو آياته عزوجل اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قساوة. وقرئ «عن ذكر الله» والمتواترة أبلغ لأن

٢٤٦

القاسي من أجل الشيء أشد تأبيا من قبوله من القاسي عنه بسبب آخر ، وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بالامتناع ذكر شرح الصدر لأن توسعته وجعله محلا للإسلام دون القلب الذي فيه يدل على شدته وافراط كثرته التي فاضت حتى ملأت الصدر فضلا عن القلب ، وإسناده إلى الله تعالى الظاهر في أنه على أتم الوجوه لأنه فعل قادر حكيم وقابله بالقساوة مع أن مقتضى المقابلة أن يعبر بالضيق لأن القساوة كما في الصخرة الصماء تقتضي عدم قبول شيء بخلاف الضيق فإنه مشعر بقبول شيء قليل ، وعدل عن التعبير بما يفيد مجعولية القساوة له تعالى وخلقه إياها للإشارة إلى غاية لزومها لهم حتى كأنها لو لم تجعل لتحققت فيهم بمقتضى ذواتهم ، وأما إسنادها إلى القلوب دون الصدور فللتنصيص على فساد هذا العضو الذي إذا فسد فسد الجسد كله ، واعتبر الجمع في هؤلاء الكفرة والإفراد في أولئك المؤمنين حيث قال سبحانه : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ) دون أفمن شرح الله صدورهم للإشارة إلى أن المؤمنين وأن تعددوا كرجل واحد ولا كذلك الكفار.

(أُولئِكَ) البعداء المتصفون بما ذكر من قساوة القلوب (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ظاهر كونه ضلالا لكل أحد.

والآية نزلت في علي وحمزة رضي الله تعالى عنهما وأبي لهب وابنه فعلي كرم الله تعالى وجهه وحمزة رضي الله تعالى عنه ممن شرح الله تعالى صدره للإسلام وأبو لهب وابنه من القاسية قلوبهم (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) هو القرآن الكريم ، وكونه حديثا بمعنى كونه كلاما محدثا به لا بمعنى كونه مقابلا للقديم ، ومن قال بالتلازم من الأشاعرة القائلين بحدوث الكلام اللفظي جعل الأوصاف الدالة على الحدوث لذلك الكلام ، وجوز أن يكون إطلاق الحديث هنا على القرآن من باب المشاكلة. عن ابن عباس أن قوما من الصحابة قالوا : يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر فنزلت ، وعن ابن مسعود أن الصحابة ملوا ملة فقالوا عليه الصلاة والسلام حدثنا فنزلت أي إرشادا لهم إلى ما يزيل مللهم وهو تلاوة القرآن واستماعه منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضا طريا. وفي إيقاع اسم الله تعالى مبتدأ وبناء (نَزَّلَ) عليه تفخيم لأحسن الحديث واستشهاد على أحسنيته وتأكيد لاستناده إلى الله عزوجل وأن مثله لا يمكن أن يتكلم به غيره سبحانه ، أما التفخيم فلأنه من باب الخليفة عند فلان ، وأما الاستشهاد على أحسنيته فلكونه ممن لا يتصور أكمل منه بل لا كمال لشيء ما في جنبه بوجه ، وأما توكيد الاستناد إليه تعالى فمن التقوى ، وأما أن مثله لا يمكن أن يتكلم به غيره سبحانه فلمكان التناسب لأن أكمل الحديث إنما يكون من أكمل متكلم ضرورة ، ومذهب الزمخشري أن مثل هذا التركيب يفيد الحصر وأنه لا تنافي بينه وبين التقوى جمعا فافهم.

(كِتاباً) بدل من (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) أو حال منه كما قال الزمخشري ، وليس مبنيا على القول بأن إضافة أفعل التفضيل تفيده تعريفا كما ظن أبو حيان فإن مطلق الإضافة كافية في صحة الحالية كما لا يخفى على من له أدنى إلمام بالعربية ، ووقوعه حالا مع كونه اسما لا صفة إما لوصفه بقوله تعالى : (مُتَشابِهاً) أو لكونه في قوة مكتوبا. والمراد بكونه متشابها هنا تشابه معانيه في الصحة والأحكام والابتناء على الحق والصدق واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش وتناسب ألفاظه في الفصاحة وتجاوب نظمه في الإعجاز ، وما أشبه هذا بقول العرب في الوجه الكامل حسنا وجه متناصف كأن بعضه أنصف بعضا في القسط من الجمال ، وقوله تعالى : (مَثانِيَ) صفة أخرى لكتابا أو حال أخرى منه ، وهو جمع مثنّى بضم الميم وفتح النون المشدد على خلاف القياس إذ قياسه مثنيات بمعنى مردد ومكرر لما مكرر وثني من أحكامه ومواعظه وقصصه ، وقيل : لأنه يثنى في التلاوة.

وجوز أن يكون جمع مثنى بالفتح مخففا من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما كان قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] بمعنى كرة بعد كرة وكذلك لبيك وسعديك ، والمراد أنه جمع لمعنى التكرير والإعادة كما ثنى ما ذكر لذلك لكن استعمال المثنى في هذا المعنى أكثر لأنه أول مراتب التكرار ، ويحتمل أن يراد أن مثنى

٢٤٧

بمعنى التكرير والإعادة كما أن صريح المثنى كذلك في نحو كرتين ثم جمع للمبالغة ، وقيل : جمع مثنية لاشتمال آياته على الثناء على الله تعالى أو لأنها تثنى ببلاغتها واعجازها على المتكلم بها ، ولا يخفى أن رعاية المناسبة مع (مُتَشابِهاً) تجعل ذلك مرجوحا وأنه حسن إذا حمل على الثناء باعتبار الإعجاز ، وفي الكشف الأقيس بحسب اللفظ أن (مَثانِيَ) اشتقت من الثناء أو الثني جمع مثنى مفعل منهما إما بمعنى المصدر جمع لما صير صفة أو بمعنى المكان في الأصل نقل إلى الوصف مبالغة نحو أرض مأسدة لأن محل الثناء يقع على سبيل المجاز على الثاني والمثنى عليه وكذلك محل الثني انتهى ، ووقوعه صفة لكتاب باعتبار تفاصيله وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ألا تراك تقول : القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات فكذلك تقول : هو أحكام ومواعظ وأقاصيص مثاني ونظيره قولك الإنسان عروق وعظام وأعصاب إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة والأصل كتابا متشابها فصولا مثاني ، ويجوز أن يكون تمييزا محولا عن الفاعل والأصل متشابها مثانية فحول ونكر لأن الأكثر فيه التنكير وهذا كقولك : رأيت رجلا حسنا شمائل ، وقرأ هشام وأبو بشر «مثاني» بسكون الياء فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف وإن يكون منصوبا وسكن الياء على لغة من يسكنها في كل الأحوال لانكسار ما قبلها استثقالا للحركة عليها ، وقوله تعالى : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) قيل صفة لكتابا أو حال منه لتخصصه بالصفة ، وقال بعض : الأظهر أنه استئناف مسوق لبيان آثاره الظاهرة في سامعيه بعد بيان أوصافه في نفسه ولتقرير كونه أحسن الحديث.

والاقشعرار التقبض يقال اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضا شديدا وتركيبه من القشع وهو الأديم اليابس قد ضم إليه الراء ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد يقال : اقشعر جلده وقف شعره إذا عرض له خوف شديد من أمر هائل دهمه بغتة ، والمراد تصوير خوفهم بذكر لوازمه المحسوسة ويطلق عليه التمثيل وإن كان من باب الكناية.

وقيل : هو تصوير للخوف بذكر آثاره وتشبيه حالة بحالة فيكون تمثيلا حقيقة ، والأول أحسن لأن تشبيه القصة بالقصة على سبيل الاستعارة هاهنا لا يخلو عن تكلف ، واستظهر كون المراد بيان حصول تلك الحالة وعروضها لهم بطريق التحقيق ، والمعنى أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارع آيات وعبده أصابتهم رهبة وخشية تقشعر منها جلودهم وإذا ذكروا رحمة الله تعالى عند سماع آيات وعده تعالى وألطافه تبدلت خشيتهم رجاء ورهبتهم رغبة وذلك قوله تعالى : (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي ساكنة مطمئنة إلى ذكر رحمته تعالى ، وإنما لم يصرح بالرحمة إيذانا بأنها أول ما يخطر بالبال عند ذكره تعالى لأصالتها كما يرشد إليه خبر : سبقت رحمتي غضبي ، وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها ولعله إنما لم تذكر هناك على طرز ذكرها هنا لأنها لا توصف بالاقشعرار وتوصف باللين ، وليس في الآية أكثر من نعت أوليائه باقشعرار الجلود من القرآن ثم سكونهم إلى رحمته عزوجل ، وليس فيها نعتهم بالصعق والتواجد والصفق كما يفعله بعض الناس ، أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال : قلت لجدتي أسماء كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرءوا القرآن؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله تعالى تدفع أعينهم وتقشعر جلودهم قلت : فإن ناسا هاهنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم غشية قالت : أعوذ بالله تعالى من الشيطان ، وأخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن عامر عن عبد الله بن الزبير قال : جئت أمي فقلت وجدت قوما ما رأيت خيرا منهم قط يذكرون الله تعالى فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله تعالى فقالت : لا تقعد معهم ثم قالت : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو القرآن ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا أفتراهم أخشى من أبي بكر وعمر ، وقال ابن عمر وقد رأى ساقطا من سماع القرآن فقال إنا لنخشى الله تعالى وما نسقط : هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم ، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة أنه قال في الآية هذا نعت أولياء الله تعالى قال : تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله تعالى ولم ينعتهم الله

٢٤٨

سبحانه بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما هذا في أهل البدع وإنما هو من الشيطان ، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن جبير : قال الصعقة من الشيطان ، وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه ثم يقرأ عليهم القرآن كله فإن رمى بنفسه فهو صادق ، فهذه أخبار ناعية على بعض المتصوفة صعقهم وتواجدهم وضرب رءوسهم الأرض عند سماع القرآن ويقول مشايخهم : إن ذلك لضعف القلوب عن تحمل الوارد وليس فاعلو ذلك في الكمال كالصحابة أهل الصدر الأول في قوة التحمل فما هو إلا دليل النقص بدليل أن السالك إذا كمل رسخ وقوي قلبه ولم يصدر منه شيء من ذلك ويقولون : ليس في الآية أكثر من إثبات الاقشعرار واللين وليس فيها نفي أن يعتريهم حال آخر بل في الآية إشعار بأن المذكور حال الراسخين الكاملين حيث قال سبحانه : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) فعبر بالموصول ومقتضى معلومية الصلة أن لهم رسوخا في الخشية حتى يعلموا بها فلا يلزم من كون حالهم ما ذكر ليس إلا على فرض دلالتها على الحصر كون حال غيرهم كذلك ثم إنه متى كان الأمر ضروريا كالعطاس لا اعتراض على من يتصف به ، وفي كلام ابن سيرين ما يؤيد ذلك ، وهذا غاية ما يقال في هذا المجال ونحن نسأل الله تعالى أن يتفضل علينا بما تفضل به على أصحاب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ذلِكَ هُدَى اللهِ) الإشارة إلى الكتاب الذي شرح أحواله (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي من يشاء الله تعالى هدايته بأن يوفقه سبحانه للتأمل فيما في تضاعيفه من شواهد الحقية ودلائل كونه من عنده عزوجل ، وجوز أن يكون ضمير (يَشاءُ) لمن والمعنى يهدي به الله تعالى من يشاء هداية الله تعالى وليس بذاك.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي يخلق سبحانه فيه الضلال لإعراضه عما يرشده إلى الحق بسوء استعداده (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يخلصه من ورطة الضلال ، وقيل : الإشارة بذلك إلى المذكور من الاقشعرار واللين والمعنى ذلك الذي ذكر من الخشية والرجاء أثر هداه تعالى يهدي بذلك الأثر من يشاء من عباده ومن يضلله أي ومن لم يؤثر فيه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره فما له من هاد أي من مؤثر فيه بشيء قط وهو كما ترى.

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)(٣١)

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تباين حال المهتدي والضال ، والكلام في الهمزة والفاء والخبر كالذي مر في نظائره ، ويقال هنا على أحد القولين : التقدير أكلّ الناس سواء فمن شأنه أن يتقي بوجهه الذي هو أشرف أعضائه يوم القيامة العذاب السيئ الشديد لكون يده التي بها كان يتقي المكاره مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه مكروه ولا يحتاج إلى الاتقاء بوجه من الوجوه فالوجه على حقيقته وقد يحمل على ذلك من غير حاجة إلى حديث كون اليد مغلولة تصويرا لكمال اتقائه وجده فيه وهو أبلغ ، وفي هذا المضمار يجري قول الشاعر :

٢٤٩

يلقى السيوف بوجهه وبنحره

ويقيم هامته مقام المغفر

وجوز أن يكون الوجه بمعنى الجملة والمبالغة عليه دون المبالغة فيما قبله. وقيل الاتقاء بالوجه كناية عن عدم ما يتقى به الاتقاء بالوجه لا وجه له لأنه مما لا يتقى به ، ولا يخلو عن خدش ، وإضافة سوء إلى العذاب من إضافة الصفة إلى الموصوف و (يَوْمَ الْقِيامَةِ) معمول يتقي كما أشرنا إلى ذلك. وجوز أن يكون من تتمة سوء العذاب ، والمعنى أفمن يتقي عذاب يوم القيامة كالمصر على كفره ، وهو وجه حسن والوجه حينئذ كما في الوجه السابق إما الجملة مبالغة في تقواه وإما على الحقيقة تصويرا لكمال تقواه وجده فيها وهو أبلغ. والمتبادر إلى الذهن المعنى السابق ، والآية قيل نزلت في أبي جهل (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) عطف على يتقي أي ويقال لهم من جهة خزنة النار ، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق والتقرر ؛ وقيل الواو للحال والجملة حال من ضمير (يَتَّقِي) بإضمار قد أو بدونه ، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والإشعار بعلة الأمر في قوله تعالى : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي وبال ما كنتم تكسبون في الدنيا على الدوام من الكفر والمعاصي.

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) استئناف مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوي إثر بيان ما يصيب الكل من العذاب الأخروي أي كذب الذين من قبلهم من الأمم السالفة (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ) المقدر لكل أمة منهم (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) من الجهة التي لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم إتيانه منها لأن ذلك أشد على النفس (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ) أي الذل والصغار (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كالمسخ والخسف والقتل والسبي والإجلاء وغير ذلك من فنون النكال ، والفاء تفسيرية مثلها في قوله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ) [الأنبياء : ٧٦] (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) المعد لهم (أَكْبَرُ) لشدته وسرمديته (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا من شأنهم أن يعلموا شيئا لعلموا ذلك واعتبروا به (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ) العظيم الشأن (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يحتاج إليه الناظر أمور دينه (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي كي يتذكروا ويتعظوا أو مرجوا تذكرهم واتعاظهم ، والرجاء بالنسبة إلى غيره تعالى والتعليل أظهر (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال من هذا والاعتماد فيها على الصفة أعني عربيا وإلا فقرآنا جامدا لا يصلح للحالية وهو أيضا عين ذي الحال فلا يظهر حاله فالحال في الحقيقة (عَرَبِيًّا) وقرآنا للتمهيد ونظيره جاء زيد رجلا صالحا ، قيل وذلك بمنزلة عربيا محققا.

وجوز أن يكون منصوبا بمقدر تقديره أعني أو أخص أو أمدح ونحوه ، وأن يكون مفعول (يَتَذَكَّرُونَ) وهو كما ترى (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) لا اختلال فيه بوجه من الوجوه وهو أبلغ من مستقيم لأن عوجا نكرة وقعت في سياق النفي لما في غير من معناه ، والاستقامة يجوز أن تكون من وجه دون وجه ونفي مصاحبة العوج عنه يقتضي نفي اتصافه به بالطريق الأولى فهو أبلغ من غير معوج ، والعوج بالكسر يقال فيما يدرك بفكر وبصيرة والعوج بالفتح يقال فيما يدرك بالحس ، وعبر بالأول ليدل على أنه بلغ إلى حد لا يدرك العقل فيه عوجا فضلا عن الحس ، وتمام الكلام مر في الكهف. وقيل المراد بالعوج الشك واللبس ، وروي ذلك عن مجاهد وأنشدوا قول الشاعر :

وقد أتاك يقين غير ذي عوج

من الإله وقول غير مكذوب

ولا استدلال به على أن العوج بمعنى الشك لأن عوج اليقين هو الشك لا محالة ، والقول في وجه الاستدلال أن الشاعر فهم هذا المعنى من الآية لأنه اقتباس وإذا فهمه الفصيح مع صحة التجوز كان محملا تعسف ظاهر لأنه لم يتبين أنه اقتبسه منها ولو سلم يكون محتملا لما يحتمله العوج في النظم الذي لا عوج فيه ، وقد يقال : مراد من قال أي

٢٥٠

لا لبس فيه ولا شك نفي بعض أنواع الاختلال ، وعلى ذلك ما روي عن عثمان بن عفان من أنه قال : أي غير مضطرب ولا متناقض وما قيل أي غير ذي لحن. وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : غير ذي عوج غير مخلوق ولعله إن صح الخبر تفسير باللازم فتأمل. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) علة أخرى مترتبة على الأولى.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) إيراد لمثل من الأمثال القرآنية بعد بيان أن الحكمة في ضربها هو التذكر والاتعاظ بها وتحصيل التقوى ، والمراد بضرب المثل هاهنا تطبيق حالة عجيبة بأخرى مثلها وجعلها مثلها ، و (مَثَلاً) مفعول ثان لضرب و (رَجُلاً) مفعوله الأول أخر عن الثاني للتشويق إليه وليتصل به ما هو من تتمته التي هي العمدة في التمثيل أو (مَثَلاً) مفعول ضرب و (رَجُلاً) إلخ بدل منه بدل كل من كل.

وقال الكسائي : انتصب (رَجُلاً) على إسقاط الخافض أي مثلا في رجل وقيل غير ذلك وقد تقدم الكلام في نظيره.

و (فِيهِ) خبر مقدم و (شُرَكاءُ) مبتدأ و (مُتَشاكِسُونَ) صفته والنكرة وإن وصفت يحسن تقديم خبرها. والجملة صفة (رَجُلاً) والرابط الهاء أو الجار والمجرور في موضع الصفة له و (شُرَكاءُ) مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على الموصوف ، وقيل (فِيهِ) صلة شركاء وهو مبتدأ خبره متشاكسون ، وفيه أنه ليس لتقديمه نكتة ظاهرة.

والمعنى ضرب الله تعالى مثلا للمشرك حسبما يقود إليه مذهبه من ادعاء كل من معبودية عبوديته عبدا يتشارك فيه جماعة متشاجرون لشكاسة أخلاقهم وسوء طبائعهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المتباينة في تحيره وتوزع قلبه (وَرَجُلاً) أي وضرب للموحد مثلا رجلا (سَلَماً) أي خالصا (لِرَجُلٍ) فرد ليس لغيره سبيل إليه أصلا فهو في راحة عن التحير وتوزع القلب وضرب الرجل مثلا لأنه أفطن لما شقي به أو سعد فإن الصبي والمرأة قد يغفلان عن ذلك.

وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والزهري والحسن بخلاف عنه والجحدري وابن كثير وأبو عمرو «سالما» اسم فاعل من سلم أي خالصا له من الشركة. وقرأ ابن جبير «سلما» بكسر السين وسكون اللام ، وقرئ «سلما» بفتح فسكون وهما مصدران وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة.

وقرئ «ورجل سالم» برفعهما أي وهناك رجل سالم ، وجوز أن لا يقدر شيء ويكون رجل مبتدأ وسالم خبره لأنه موضع تفصيل إذ قد تقدم ما يدل عليه فيكون كقول امرئ القيس :

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له

بشق وشق عندنا لم يحول

وقوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) انكار واستبعاد لاستوائهما ونفي له على أبلغ وجه وآكده وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور بحيث لا يقدر أحد أن يتفوه باستوائهما أو يتلعثم في الحكم بتباينهما ضرورة أن أحدهما في لوم وعناء والآخر في راحة بال ورضاء ، وقيل ضرورة أن أحدهما في أعلى عليين والآخر في أسفل سافلين ، وأيا ما كان فالسر في إبهام الفاضل والمفضول الإشارة إلى كمال الظهور عند من له أدنى شعور.

وانتصاب (مَثَلاً) على التمييز المحول عن الفاعل إذ التقدير هل يستوي مثلهما وحالهما ، والاقتصار في التمييز على الواحد لبيان الجنس والاقتصار عليه أولا في قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) وقرئ «مثلين» أي هل يستوي مثلاهما وحالاهما ، وثني مع أن المقصود من التمييز حاصل بالإفراد من غير لبس لقصد الإشعار بمعنى زائد وهو اختلاف النوع ، وجوز أن يكون ضمير يستويان للمثلين لأن التقدير فيما سبق مثل رجل ومثل رجل أي هل يستوي المثلان مثلين وهو على نحو كفى بهما رجلين وهو من باب ـ لله تعالى دره فارسا ـ ويرجع ذلك إلى هل يستويان

٢٥١

رجلين فيما ضرب من المثال ولما كان المثل بمعنى الصفة العجيبة التي هي كالمثل كان المعنى هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية ، وقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تقرير لما قبله من نفي الاستواء بطريق الاعتراض وتنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية بتوفيق الله تعالى وأنها نعمة جليلة تقتضي الدوام على حمده تعالى وعبادته أو على أن بيانه تعالى بضرب المثل أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السوء صنع جميل ولطف تام منه عزوجل مستوجب لحمده تعالى وعبادته ، وقوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره أو ليسوا من ذوي العلم فلا يعلمون ذلك فيبقون في ورطة الشرك والضلال ، وقيل المراد أنهم لا يعلمون أن الكل منه تعالى وأن المحامد إنما هي له عزوجل فيشركون به غيره سبحانه فالكلام من تتمة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ولا اعتراض ، ولا يخفى أن بناء الكلام على الاعتراض كما سمعت أولى ، وقوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة. وفي البحر أنه لما لم يلتفتوا إلى الحق ولم ينتفعوا بضرب المثل أخبر سبحانه بأن مصير الجميع بالموت إلى الله تعالى وأنهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو عزوجل الحكم العدل فيتميز هناك المحق والمبطل.

وقال بعض الأجلة : إنه لما ذكرت من أول السورة إلى هنا البراهين القاطعة لعرق الشركة المسجلة لفرط جهل المشركين وعدم رجوعهم مع جهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ردهم إلى الحق وحرصه على هدايتهم اتجه السؤال منه عليه الصلاة والسلام بعد ما قاساه منهم بأن يقول ما حالي وحالهم؟ فأجيب بأنك ميت وأنهم ميتون الآية.

وقرأ ابن الزبير وابن أبي إسحاق وابن محيصن وعيسى واليماني وابن أبي غوث وابن أبي عبلة «إنك مائت وإنهم مائتون» والفرق بين ميت ومائت أن الأول صفة مشبهة وهي تدل على الثبوت ففيها إشعار بأن حياتهم عين الموت وأن الموت طوق في العنق لازم والثاني اسم فاعل وهو يدل على الحدوث فلا يفيد هنا مع القرينة أكثر من أنهم سيحدث لهم الموت ، وضمير الخطاب على ما سمعت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبو حيان : ويدخل معه عليه الصلاة والسلام مؤمنو أمته ، وضمير الجمع الغائب للكفار وتأكيد الجملة في (إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) للإشعار بأنهم في غفلة عظيمة كأنهم ينكرون الموت وتأكيد الأولى دفعا لاستبعاد موته عليه الصلاة والسلام ، وقيل للمشاكلة ، وقيل إن الموت مما تكرهه النفوس وتكره سماع خبره طبعا فكان مظنة أن لا يلتفت إلى الإخبار به أو أن ينكر وقوعه ولو مكابرة فأكد الحكم بوقوعه لذلك ولا يضر في ذلك عدم الكراهة في بعض لخصوصية فيه كسيد العالمين صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ثُمَّ إِنَّكُمْ) على تغليب المخاطب على الغيب.

(يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي مالك أموركم (تَخْتَصِمُونَ) فتحتج أنت عليهم بأنك بلغتهم ما أرسلت به من الأحكام والمواعظ التي من جملتها ما في تضاعيف هذه الآيات واجتهدت في دعوتهم إلى الحق حق الاجتهاد وهم قد لجوا في المكابرة والعناد ويعتذرون بالأباطيل مثل (أَطَعْنا سادَتَنا) [الأحزاب : ٦٧] و (وَجَدْنا آباءَنا) [الأنبياء : ٥٣ ، الشعراء : ٧٤] و (غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) [المؤمنون : ١٠٦] والجمع بين (يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) لزيادة التهويل ببيان أن اختصامهم ذلك في يوم عظيم عند مالك لأمورهم نافذ حكمه فيهم ولو اكتفى بالأول لاحتمل وقوع الاختصام فيما بينهم بدون مرافعة وبمرافعة لكن ليست لدى مالك لأمورهم ، والاكتفاء بالثاني على تسليم فهم كون ذلك يوم القيامة معه بدون احتمال لا يقوم مقام ذكرهما لما في التصريح بما هو كالعلم من التهويل ما فيه ، وقال جمع : المراد بذلك الاختصام العام فيما جرى في الدنيا بين الأنام لا خصوص الاختصام بينه عليه الصلاة والسلام وبين الكفرة الطغام ، وفي الآثار ما يأبى الخصوص المذكور.

٢٥٢

أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن عساكر عن إبراهيم النخعي قال : نزلت هذه الآية (إِنَّكَ مَيِّتٌ) إلخ فقالوا : وما خصومتنا ونحن إخوان فلما قتل عثمان بن عفان قالوا هذه خصومة ما بيننا وأخرج سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) كنا نقول : ربنا واحد وديننا واحد فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا : نعم هو هذا.

وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : لقد لبثنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين من قبل (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قلنا : كيف نختصم ونبينا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت أنها نزلت فينا ، وفي رواية أخرى عنه بلفظ نزلت علينا الآية (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) وما ندري فيم نزلت قلنا : ليس بيننا خصومة فما التخاصم حتى وقعت الفتنة فقلت : هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه.

وأخرج أحمد وعبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وصححه. وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في البعث والنشور عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال : لما نزلت (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) قلت : يا رسول الله أينكر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب قال : نعم ينكر ذلك عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه قال الزبير : فو الله إن الأمر لشديد.

وزعم الزمخشري أن الوجه الذي يدل عليه كلام الله تعالى هو ما ذكر أولا واستشهد بقوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ) إلخ وبقوله سبحانه : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) إلخ لدلالتهما على أنهما اللذان تكون الخصومة بينهما ، وكذلك ما سبق من قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً) إلخ. وتعقب ذلك في الكشف فقال : أقول قد نقل عن جلة الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم ما يدل على أنهم فهموا الوجه الثاني أي العموم بل ظاهر قول النخعي قالت الصحابة : ما خصومتنا ونحن إخوان يدل على أنه قول الكل فالوجه إيثار ذلك.

وتحقيقه أن قوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ) كلام مع الأمة كلهم موحدهم ومشركهم وكذلك قوله تعالى ضرب الله مثلا رجلا ورجلا بل أكثرهم دون بل هم كالنص على ذلك فإذا قيل : إنك ميت وجب أن يكون على نحو (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ) [الطلاق : ١] أي إنكم أيها النبي والمؤمنون وأبهم ليعم القبيلين ولا يتنافر النظم فقد روعي من مفتتح السورة إلى هذا المقام التقابل بين الفريقين لا بينه عليه الصلاة والسلام وحده وبين الكفار ثم إذا قيل : (ثُمَّ إِنَّكُمْ) على التغليب يكون تغليبا للمخاطبين على جميع الناس فهذا من حيث اللفظ والمساق الظاهر ثم إذا كان الموت أمرا عمه والناس جميعا كان المعنى عليه أيضا ، وأما حديث الاختصام والطباق الذي ذكره فليس بشيء لأنه لعمومه يشمله شمولا أوليا كما حقق هذا المعنى مرارا. والتعقيب بقوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ) التنبيه على أنه مصب الغرض وأن المقصود التسلق إلى تلك الخصومة ، ولا أنكر أن قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّكُمْ) يدل على أن الاختصام يوم القيامة ولكن أنكر أن يختص باختصام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده والمشركين بل يتناوله أولا وكذلك اختصام المؤمنين والمشركين واختصام المؤمنين بعضهم مع بعض كاختصام عثمان رضي الله تعالى عنه يوم القيامة وقاتليه ، وهذا ما ذهب إليه هؤلاء وهم هم رضي الله تعالى عنهم انتهى ، وكأنه عنى بقوله ولا أنكر إلخ رد ما يقال إن (عِنْدَ رَبِّكُمْ) يدل على أن الاختصام يوم القيامة ، وقد صرح في النظم الجليل بذلك فيكون تأكيدا مشعرا بالاهتمام بأمر ذلك الاختصام فليس هو إلا اختصام حبيبهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أعدائه الطغام ، ووجه الرد أنه ان سلم أن فائدة

٢٥٣

الجمع ما ذكر فلا نسلم استدعاء ذلك لاعتبار الخصوص بل يكفي للاهتمام دخول اختصام الحبيب مع أعدائه عليه الصلاة والسلام فتأمله ، ثم أنت تعلم أنه لو لم يكن في هذا المقام سوى الحديث الصحيح المرفوع لكفى في كون المراد عموم الاختصام فالحق القول بعمومه وهو أنواع شتى ، فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية : يخاصم الصادق الكاذب والمظلوم الظالم والمهتدي الضال والضعيف المستكبر ، وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند لا بأس به عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول من يختصم يوم القيامة الرجل وامرأته والله ما يتكلم لسانها ولكن يداها ورجلاها يشهدان عليها بما كان لزوجها وتشهد يداه ورجلاه بما كان لها ثم يدعي الرجل وخادمه بمثل ذلك ثم يدعي أهل الأسواق وما يوجد ثم دانق ولا قراريط ولكن حسنات هذا تدفع إلى هذا الذي ظلمه وسيئات هذا الذي ظلمه توضع عليه ثم يؤتى بالجبارين في مقامع من حديد فيقال أوردوهم إلى النار فو الله ما أدري يدخلونها أو كما قال الله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) وأخرج البزار عن أنس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجاء بالأمير الجائر فتخاصمه الرعية» وأخرج أحمد والطبراني بسند حسن عن عقبة بن عامر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوّل خصمين يوم القيامة جاران» ولعل الأولية إضافية لحديث أبي أيوب السابق.

وجاء عن ابن عباس اختصام الروح مع الجسد أيضا بل أخرج أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليختصمن يوم القيامة كل شيء حتى الشاتان فيما انتطحا».

«تم الجزء الثالث والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع والعشرون وأوله (فَمَنْ أَظْلَمُ)

٢٥٤

الجزء الرابع والعشرون

٢٥٥
٢٥٦

بسم الله الرحمن الرحيم

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ(٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)(٤٥)

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) بأن أضاف إليه سبحانه وتعالى الشريك أو الولد (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) أي بالأمر الذي هو عين الحق ونفس الصدق وهو ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِذْ جاءَهُ) أي في أول مجيئه من غير تدبر فيه ولا تأمل ـ فإذا ـ فجائية كما صرح به الزمخشري لكن اشترط فيها في المغني أن تقع بعد بينا أو بينما ونقله عن

٢٥٧

سيبويه فلعله أغلبي ، وقد يقال : هذا المعنى يقتضيه السياق من غير توقف على كون إذ فجائية ، ثم المراد أن هذا الكاذب المكذب أظلم من كل ظالم (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أي لهؤلاء الذين افتروا على الله سبحانه وتعالى وسارعوا إلى التكذيب بالصدق ، ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر ، والجمع باعتبار معنى (من) كما أن الإفراد في الضمائر السابقة باعتبار لفظها أو لجنس الكفرة فيشمل أهل الكتاب ويدخل هؤلاء في الحكم دخولا أوليا ، وأيا ما كان فالمعنى على كفاية جهنم مجازاة لهم كأنه قيل : أليست جهنم كافية للكافرين مثوى كقوله تعالى : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها) [المجادلة : ٨] أي هي تكفي عقوبة لكفرهم وتكذيبهم ، والكفاية مفهومة من السياق كما تقول لمن سألك شيئا : ألم أنعم عليك تريد كفاك سابق إنعامي عليك ، واستدل بالآية على تكفير أهل البدع لأنهم مكذبون بما علم صدقه.

وتعقب بأن «من كذب» مخصوص بمن كذب الأنبياء شفاها في وقت تبليغهم لا مطلقا لقوله تعالى : (إِذْ جاءَهُ) ولو سلم إطلاقه فهم لكونهم يتأولون ليسوا مكذبين وما نفوه وكذبوه ليس معلوما صدقه بالضرورة إذ لو علم من الدين ضرورة كان جاحده كافرا كمنكر فرضية الصلاة ونحوها.

وقال الخفاجي : الأظهر أن المراد تكذيب الأنبياء عليهم‌السلام بعد ظهور المعجزات في أن ما جاءوا به من عند تعالى لا مطلق التكذيب ، وكأني بك تختار أن المتأول غير مكذب لكن لا عذر في تأويل ينفي ما علم من الدين ضرورة (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) الموصول عبارة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس ، وفسر الصدق بلا إله إلا الله ، والمؤمنون داخلون بدلالة السياق وحكم التبعية دخول الجند في قولك : نزل الأمير موضع كذا ، وليس هذا من الجمع بين الحقيقة والمجاز في شيء لأن الثاني لم يقصد من حاق اللفظ ، ولا يضر في ذلك أن المجيء بالصدق ليس وصفا للمؤمنين الأتباع كما لا يخفى ، والموصول على هذا مفرد لفظا ومعنى ، والجمع في قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) باعتبار دخول الأتباع تبعا ، ومراتب التقوى متفاوتة ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلاها ، وجوز أن يكون الموصول صفة لمحذوف أي الفوج الذي أو الفريق الذي إلخ فيكون مفرد اللفظ مجموع المعنى فقيل : الكلام حينئذ على التوزيع لأن المجيء بالصدق على الحقيقة له عليه الصلاة والسلام والتصديق بما جاء به وأن عمه وأتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكنه فيهم أظهر فليحمل عليه للتقابل ، وفي الكشف الأوجه أن لا يحمل على التوزيع غاية ما في الباب أن أحد الوصفين في أحد الموصوفين أظهر ، وعليه يحمل كلام الزمخشري الموهم للتوزيع ، وحمل بعضهم الموصول على الجنس فإن تعريفه كتعريف ذي اللام يكون للجنس والعهد ، والمراد حينئذ به الرسل والمؤمنون.

وأيد إرادة ما ذكر بقراءة ابن مسعود والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به وزعم بعضهم أنه أريد والذين فخذفت النون كما في قوله :

إن الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كل القوم يا أم مالك

وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بصحيح لوجوب جمع الضمير في الصلة حينئذ كما في البيت ألا ترى أنه إذا حذفت النون من اللذان كان الضمير مثنى كقوله :

ابني كليب إنّ عمي اللذا

قتلا الملوك وفككا الاغلالا

وقال علية وأبو العالية والكلبي. وجماعة (الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي صدق به هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه. وأخرج ذلك ابن جرير والباوردي في معرفة الصحابة وابن عساكر من طريق أسيد بن صفوان وله

٢٥٨

صحبة عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وقال أبو الأسود ومجاهد في رواية وجماعة من أهل البيت وغيرهم : الذي صدق به هو علي كرم الله تعالى وجهه وأخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : (الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) جبريل عليه‌السلام (وَصَدَّقَ بِهِ) هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قيل : وعلى الأقوال الثلاثة يقتضي إضمار الذي وهو غير جائز على الأصح عند النحاة من أنه لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته مطلقا أي سواء عطف على موصول آخر أم لا.

ويضعفه أيضا الإخبار عنه بالجمع. وأجيب بأنه لا ضرورة إلى الإضمار ويراد بالذي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصديق أو علي كرم الله تعالى وجههما معا على أن الصلة للتوزيع ، أو يراد بالذي جبريل عليه‌السلام والرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم معا كذلك ، وضمير الجمع قد يرجع إلى الاثنين وقد أريدا بالذي ، ولا يخفى ما ذلك من التكلف والله تعالى أعلم بحال الإخبار ، ولعل ذكر أبي بكر مثلا على تقدير الصحة من باب الاقتصار على بعض أفراد العام لنكتة وهي في أبي بكر رضي الله تعالى عنه كونه أول من آمن وصدق من الرجال ، وفي علي كرم الله تعالى وجهه كونه أول من آمن وصدق من الصبيان ، ويقال نحو ذلك على تقدير صحة خبر السدي ولا يكاد يصح لقوله تعالى : فيما بعد (لِيُكَفِّرَ) إلخ ، وبما ذكر يجمع بين الأخبار إن صحت ولا يعتبر في شيء منها الحصر فتدبر. وقرأ أبو صالح وعكرمة بن سليمان «وصدق به» مخففا أي وصدق به الناس ولم يكذبهم به يعني. أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف فالمفعول محذوف لأن الكلام في القائم به الصادق وفي الحديث الصدق ، والكلام على العموم دون خصوصه عليه الصلاة والسلام فإن جملة القرآن حفظه الصحابة عنه عليه الصلاة والسلام وأدوه كما أنزل ، وقيل : المعنى وصار صادقا به أي بسببه لأن القرآن معجز والمعجز يدل على صدق النبي عليه الصلاة والسلام ، وعلى هذا فالوصف خاص ، وقد تجوز في ذلك باستعمال (صدق) بمعنى صار صادقا به ولا كناية فيه كما قيل ، وقال أو صالح : أي وعمل به وهو كما ترى. وقرئ «وصدّق به» مبنيا للمفعول مشددا (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بيان لما لأولئك الموصوفين بالمجيء بالصدق. والتصديق به في الآخرة من حسن المآب بعد بيان ما لهم في الدنيا من حسن الأعمال أي لهم كل ما يشاءونه من جلب المنافع ودفع المضار في الآخرة لا في الجنة فقط لما أن بعض ما يشاءونه من تكفير السيئات والأمن من الفزع الأكبر وسائر أهوال القيامة إنما يقع قبل دخول الجنة (ذلِكَ) الذي ذكر من حصول كل ما يشاءونه (جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي الذين أحسنوا أعمالهم ، والمراد بهم أولئك المحدث عنهم لكن أقيم الظاهر مقام الضمير تنبيها على العلة لحصول الجزاء ، وقيل : المراد ما يعمهم وغيرهم ويدخلون دخولا أوليا ، وقوله تعالى : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) إلخ متعلق بمحذوف أي ليكفر الله عنهم ويجزيهم خصهم سبحانه بما خص أو بما قبله باعتبار فحواه على ما قيل أي وعدهم الله جميع ما يشاءونه من زوال المضار وحصول المسار ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا إلخ ، وليس ببعيد معنى عن الأول ، وجوز أن يكون متعلقا بقوله سبحانه : (وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي بما يدل عليه من الثبوت أو بالمحسنين كما قال أبو حيان فكأنه قيل : وذلك جزاء الذين أحسنوا أعمالهم ليكفر الله تعالى عنهم أسوأ الذي عملوه (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ) ويعطيهم ثوابهم (بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) وتقديم التكفير على إعطاء الثواب لأن درء المضار أهم من جلب المسار.

وأقيم الاسم الجليل مقام الضمير الراجع إلى (رَبِّهِمْ) لإبراز كمال الاعتناء بمضمون الكلام ، وإضافة (أَسْوَأَ) و (أحسن) إلى ما بعدهما من إضافة افعل التفضيل إلى غير المفضل عليه للبيان والتوضيح كما في الأشج أعدل بني مروان ويوسف أحسن أخوته ، والتفضيل على ما قال الزمخشري للدلالة على أن الزلة المكفرة عندهم هي الأسوأ

٢٥٩

لاستعظامهم المعصية مطلقا لشدة خوفهم ، والحسن الذي يعملونه عند الله تعالى هو الأحسن لحسن إخلاصهم فيه.

وذلك على ما قرر في الكشف لأن التفضيل هنا من باب الزيادة المطلقة من غير نظر إلى مفضل عليه نظرا إلى وصوله إلى أقصى الغاية الكمالية ، ثم لما كانوا متقين كاملي التقى لم يكن في عملهم أسوأ إلا فرضا وتقديرا.

وقوله سبحانه : (بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) دون أحسن الذي كانوا يعملون يدل على أن حسنهم عند الله تعالى من الأحسن لدلالته على أن جميع أجرهم يجري على ذلك الوجه فلو لم يعملوا إلا الأحسن كان التفضيل بحسب الأمر نفسه ولو كان في العمل الأحسن والحسن وكان الجزاء بالأحسن بأن ينظر إلى أحسن الأعمال فيجري الباقي في الجزاء على قياسه دل أن الحسن عند المجازي كالأحسن ، فصح على التقديرين أن حسنهم عند الله تعالى هو الأحسن ، ويعلم من هذا أن لا اعتزال فيما ذكره الزمخشري كما توهمه أبو حيان ، وأما قوله في الاعتراض عليه : إنه قد استعمل (أَسْوَأَ) في التفضيل على معتقدهم و (أحسن) في التفضيل على ما هو عند الله عزوجل وذلك توزيع في أفعل التفضيل وهو خلاف الظاهر. فقد يسلم إذا لم يكن في الكلام ما يؤذن بالمغايرة فحيث كان فيه هاهنا ذلك على ما قرر لا يسلم أن التوزيع خلاف الظاهر ، وقيل : إن (أَسْوَأَ) على ما هو الشائع في أفعل التفضيل ، وليس المراد أن لهم عملا سيئا وعملا أسوأ والمكفر هو الأسوأ فإنهم المتقون الذين وإن كانت لهم سيئات لا تكون سيئاتهم من الكبائر العظيمة ، ولا يناسب التعرض لها في مقام مدحهم بل الكلام كناية عن تكفير جميع سيئاتهم بطريق برهاني ، فإن الأسوأ إذا كفر كان غيره أولى بالتكفير لا أن ذلك صدر منهم ، ولا نسلم وجوب تحقق المعنى الحقيقي في الكناية وهو كما ترى ، وقال غير واحد : أفعل على ما هو الشائع والأسوأ الكفر السابق على التقوى والإحسان ، والمراد تكفير جميع ما سلف منهم قبل الإيمان من المعاصي بطريق برهاني.

وعلى هذا لا يتسنى تفسير (وَصَدَّقَ بِهِ) بعلي كرم الله تعالى وجهه إذ لم يسبق له كفر أصلي ولا يكاد يعبر عن الكفر التبعي بأسوإ العمل ، وقيل : افعل ليس للتفضيل أصلا فأسوأ بمعنى السيّئ صغيرا كان أو كبيرا كما هو وجه أيضا في الأشج أعدل بني مروان ، وأيد بقراءة ابن مقسم وحامد بن يحيى عن ابن كثير رواية عن البزي عنه «أسواء» بوزن أفعال جمع سوء ؛ وأحسن عند أكثر أهل هذه الأقوال على بابه على معنى أنه تعالى ينظر إلى أحسن طاعاتهم فيجزي سبحانه الباقي في الجزاء على قياسه لطفا وكرما ، وزعم الطبرسي أن الأحسن الواجب والمندوب والحسن المباح والجزاء إنما هو على الأولين دون المباح ، وقيل : المراد يجزيهم بأحسن من عملهم وهو الجنة ، وفيه ما فيه ، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني دون الأول للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة بخلاف السيئة.

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) إنكار ونفي لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه كأن الكفاية من التحقق والظهور بحيث لا يقدر أحد على أن يتفوه بعدمها أو يتلعثم في الجواب بوجودها ، والمراد ـ بعبده ـ إما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما روي عن السدي وأيد بقوله تعالى : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي الأوثان التي اتخذوها آلهة ؛ فإن الخطاب سواء كانت الجملة استئنافا أو حالا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وقد روي أن قريشا قالت له عليه الصلاة والسلام : إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا وتصيبك معرتها لعيبك إياها فنزلت ، وفي رواية قالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منها خبل فنزلت ، أو الجنس المنتظم له عليه الصلاة والسلام انتظاما أوليا ، وأيد بقراءة أبي جعفر ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي «عباده» بالجمع وفسر بالأنبياء عليهم‌السلام والمؤمنين ، وعلى الأول يراد أيضا الاتباع كما سمعت في قوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) ، (وَيُخَوِّفُونَكَ) شامل لهم أيضا على ما سلف والتئام الكلام بقوله

٢٦٠