روح المعاني - ج ١٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها) أي يتسخر ويتسهل كما في قولك النار ينبغي أن تحرق الثوب أو يحسن ويليق أي حكمة كما في قولك الملك ينبغي أن يكرم العالم ، واختار غير واحد المعنى الأول ، وأصل (يَنْبَغِي) مطاوع بغى بمعنى طلب وما طاوع وقبل الفعل فقد تسخر وتسهل ، والنفي راجع في الحقيقة إلى (يَنْبَغِي) فكأنه قيل : لا يتسهل للشمس ولا يتسخر (أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أي في سلطانه بأن تجتمع معه في الوقت الذي حده الله تعالى له وجعله مظهرا لسلطانه فإنه عزوجل جعل لتدبير هذا العالم بمقتضى الحكمة لكل من النيرين الشمس والقمر حدا محدودا ووقتا معينا يظهر فيه سلطانه فلا يدخل أحدهما في سلطان الآخر بل يتعاقبان إلى أن يأتي أمر الله عزوجل ، وهذه الجملة لنفي أن تدرك الشمس القمر فيما جعل له وقوله تعالى (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) لنفي أن يدرك القمر الشمس فيما جعل لها أي ولا آية الليل سابقة أية النهار وظاهر سلطانها في وقت ظهور سلطانها وإلى هذا المعنى يشير كلام قتادة والضحاك وعكرمة وأبي صالح واختاره الزمخشري ليناسب قوله تعالى (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها) ولأن الكلام في الآيتين دل عليه قوله تعالى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي) الآيتان وآخرا (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وعبر بالإدراك أولا وبالسبق ثانيا على ما في الكشاف لمناسبة حال الشمس من بطء السير وحال القمر من سرعته ، ولم يقل ولا القمر سابق الشمس ليؤذن على ما قال الطيبي بالتعاقب بين الليل والنهار وبنصوصية التدبير على المعاقبة فإنه مستفاد من الحركة اليومية التي مدار تصرف كل منهما عليها. وفي الكشف التحقيق أن المقصود بيان معاقبة كل من الشمس والقمر في ترتب الإضاءة وسلطانه على الاستقلال وكذلك اختلاف الليل والنهار فقيل : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) كناية عن سبق آيته آيته فحصل الدلالة على الاختلاف أيضا إدماجا لأنها لا تنافي إرادة الحقيقة ، وجاء من ضرورة التقابل هذا المعنى في النهار أيضا من قوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) ولما ذكر مع الشمس الإدراك المؤذن بأنها طالبة للحاق قيل «لا ينبغي» رعاية للمناسبة وجيء بالفعل المؤذن بالتجدد ولما نفي السبق في المقابل أكد ذلك بأن جيء بالجملة الاسمية المحضة من دون الابتغاء لأنه مطلوب اللحوق اه.

ولم يذكر السر في إدخال حرف النفي على الشمس دون الفعل المؤذن بصفتها ويوشك أن يكون أخفى من السها وكان ذلك ليستشعر منه في المقام الخطابي أن الشمس إذا خليت وذاتها تكون معدومة كما هو شأن سائر الممكنات وإنما يحصل لها ما يحصل من علته التي هي عبارة عن تعلق قدرته تعالى به على وفق إرادته سبحانه الكاملة التي لا يأبى عنها شيء من أشياء عالم الإمكان ويفيد ذلك في غاية كونها مسخرة في قبضة تصرفه عزوجل لا شيء فوق تلك المسخرية وفيه تأكيد لما يفيده قوله تعالى (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ورد بليغ لمن إليها يسند التأثير.

وجوز أن يكون ذلك لإفادة كونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها من حيث تقديم المسند إليه على الفعل وجعله بعد حرف النفي نحو ما أنا قلت هذا وما زيد سعى في حاجتك يفيد التخصيص أي ما أنا قلت هذا بل غيري وما زيد سعي في حاجتك بل غيره على ما حققه علماء البلاغة والمقصود من نفي تسهل إدراك القمر في سلطانه عن الشمس نفى أن يتسهل لها أن تطمس نوره وتذهب سلطانه ويرجع ذلك إلى نفي قدرتها على الطمس وإذهاب السلطان فيكون المعنى بناء على قاعدة التقديم أن الشمس لا تقدر على ذلك بل غيرها يقدر عليه وهو الله عزوجل وهذا بعد إثبات الجريان لها بتقدير العزيز العليم مشعر بكونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها.

٢١

وقال بعض الفضلاء فيما كتبه على هامش تفسير البيضاوي عند قوله : وإيلاء حرف النفي الشمس للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها وجه الدلالة أن الإيلاء المذكور يفيد التخصيص والابتغاء بمعنى الصحة والتسهيل المساوقين للاقتدار فيفيد الكلام أن الشمس ليس لها قدرة على إدراك القمر وسرعة المسير التي هي ضد لحركتها الخاصة بل القدرة عليهما لله سبحانه فهو فاعل لحركتها حقيقة ولها مجرد المحلية للحركة فصحت الدلالة المذكورة ثم قال : وتفصيل الكلام أن الله سبحانه ذكر أولا أن الشمس تجري لمستقر لها إشارة إلى حركتها الخاصة ثم ذكر سبحانه أنه قدر القمر أيضا في منازل الشمس حتى عاد كالعرجون القديم أي رجع إلى الشكل الهلالي وذلك إنما يكون عند قربه إلى الشمس ورجوعه إليها ولما كان للوهم سبيل إلى أن يتوهم أن جري الشمس وسيرها وتقدير أنوار القمر وجرمه المرئي مما يستند إلى إرادتهما على سبيل إرادتنا التي تتعلق تارة بالشيء وأخرى بضده فيصح ويتيسر للنيرين الأمران كما يصحان لنا وأن يتوهم أن إسناد أمر الشمس والقمر إلى التقدير الإلهي من قبيل إسناد أفعالنا إليه من حيث إن الأقدار والتمكين منه تعالى وأنه سبحانه المبدأ والمنتهى إلى غير ذلك من الاعتبارات.

نبه جل شأنه بالتخصيص المذكور على دفع على هذا التوهم على سبيل التنبيه على كون الشيء مسخرا مضطرا في أمره بسلب اقتداره على ضده وإن لم يذكر جميع أضداده فأشار سبحانه إلى أن الحركة السريعة المفضية إلى إدراك القمر التي هي ضد الحركة الخاصة للشمس لا يصح استنادها إليها والقدرة عليها مختصة بغيرها وهو (الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) حتى يظهر أن وجود الحركة الخاصة لها مستند إلى تقديره تعالى وتدبيره جل شأنه من غير مشاركة للشمس معه سبحانه ثم أردف ذلك بحكم القمر حيث قال تعالى (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) فإن الأقرب كون المعنى فيه ليس لآية الليل القدرة على أن تسبق آية النهار بحيث تفوتها ولا تكون لها مراجعة إليها ولحوق بها تنبيها على أن تقدير القمر في المنازل على الوجه المرصود الذي يعود به إلى الشكل الهلال الشبيه بالعرجون ويفضي إلى مقاربة الشمس مستند أيضا إلى تقديره تعالى وتدبيره سبحانه من غير مشاركة للقمر فيه فالجملتان في قوة التأكيد للآيتين السابقتين ولهذا فصلتا اه ، وفيه دغدغة لا تخفى على ذكي فتأمل.

وما أشار إليه من أن معنى (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أن الشمس لا قدرة لها على أن تدرك القمر في سيره لبطء حركتها الخاصة وسرعة حركته كذلك قاله غير واحد. وادعى النحاس أنه أظهر ما قيل في معناه وبينه وبين ما تقدم من المعنى قرب ما بل قال بعضهم : الفرق بين الوجهين بالاعتبار ، وقال بعض من ذهب إليه في (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) إن المراد أن القمر لا يسبق الشمس بالحركة اليومية وهي ما تكون له وكذا لسائر الكواكب بواسطة فلك الأفلاك فإن هذه الحركة لا يقع بسببها تقدم ولا تأخر وقيل المراد بقوله تعالى (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) إنه لا ينبغي لها أن تدركه في آثاره ومنافعه فإنه سبحانه خص كلا منهما بآثار ومنافع كالتلوين بالنسبة للقمر والنضج بالنسبة للشمس ، وعن الحسن أن المراد أنهما لا يجتمعان فيما يشاهد من السماء ليلة الهلال خاصة أي لا تبقى الشمس طالعة إلى أن يطلع القمر ولكن إذا غربت طلع ، وقال يحيى بن سلام : المراد لا تدركه ليلة البدر خاصة لأنه يبادر المغيب قبل طلوعها وكلا القولين لا يعول عليهما ولا ينبغي أن يلتفت إليهما ، وقيل في معنى الجملة الثانية إن الليل لا يسبق النهار ويتقدم على وقته فيدخل قبل مضيه.

وفي الدر المنثور عن بعض الأجلة أي لا ينبغي إذا كان ليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار ، وعليك بما تقدم فهو لعمري أقوم ، واستدل بالآية أن النهار سابق على الليل في الخلق روى العياشي في تفسير بالإسناد عن الأشعث بن حاتم قال كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا رضي الله تعالى عنه والمأمون والفضل بن سهل في الإيوان

٢٢

بمرو فوضعت المائدة فقال الرضا : إن رجلا من بني إسرائيل سألني بالمدينة فقال : النهار خلق قبل أم الليل فما عندكم؟ فأرادوا الكلام فلم يكن عندهم شيء فقال الفضل للرضا : أخبرنا بها أصلحك الله تعالى قال نعم من القرآن أم من الحساب؟ قال له الفضل : من جهة الحساب فقال رضي الله تعالى عنه : قد علمت يا فضل أن طالع الدنيا السرطان والكواكب في مواضع شرفها فزحل في الميزان والمشتري في السرطان والمريخ في الجدي والشمس في الحمل والزهرة في الحوت وعطارد في السنبلة والقمر في الثور فتكون الشمس في العاشر وسط السماء فالنهار قبل الليل ، ومن القرآن قوله تعالى : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أي الليل قد سبقه النهار اه.

وفي الاستدلال بالآية بحث ظاهر وأما بالحساب فله وجه في الجملة. ورأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار وله موافقة لما ذكر ، والذي يغلب على الظن عدم صحة الخبر من مبتدئه فالرضى أجل من أن يستدل بالآية على ما سمعت من دعواه وفهم الإمام من قوله تعالى (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أن الليل مسبوق لا سابق ومن قوله سبحانه (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) [الأعراف : ٥٤ ، الرعد : ٣] يطلبه حثيثا أن الليل سابق لأن النهار يطلبه ، وأجاب عما يلزم عليه من كون الليل سابقا مسبوقا بأن المراد من الليل هنا آيته وهو القمر وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه وتعقبه أبو حيان بأن فيه جعل الضمير الفاعل في (يَطْلُبُهُ) عائدا على النهار وضمير المفعول عائدا على (اللَّيْلَ) والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل لأنه كان قبل دخول همزة النقل (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) وضمير المفعول عائد على (النَّهارَ) لأنه المفعول قبل النقل وبعده وحينئذ كلتا الآيتين تفيد أن النهار سابق فلا سؤال انتهى. فتأمل ولا تغفل.

وقرأ عمار بن عقيل «سابق» بغير تنوين «النهار» بالنصب قال المبرد : سمعته يقرأ فقلت ما هذا؟ قال : أردت سابق النهار بالتنوين فحذفت لأنه أخف. وفي البحر حذف التنوين لالتقاء الساكنين «وكل» أي كل واحد من الشمس والقمر إذ هما المذكوران صريحا والتنوين عوض عن المضاف إليه وقدره بعضهم ضمير جمع العقلاء ليوافق ما بعد أي كلهم وقدره آخر اسم إشارة أي كل ذلك أي المذكور الشمس والقمر (فِي فَلَكٍ) هو كما قال الراغب مجرى الكوكب سمي به لاستدارته كفلكة المغزل وهي الخشبة المستديرة في وسطه وفلكة الخيمة وهي الخشبة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا تتمزق الخيمة.

(يَسْبَحُونَ) أي يسيرون فيه بانبساط وكل من بسط في شيء فهو يسبح فيه ، ومنه السباحة في الماء ، وهذا المجرى في السماء ولا مانع عندنا أن يجري الكوكب بنفسه في جوف السماء وهي ساكنة لا تدور أصلا وذلك بأن يكون فيها تجويف مملوء هواء أو جسما آخر لطيفا مثله يجري الكوكب فيه جريان السمكة في الماء أو البندقة في الأنبوب مثلا أو تجويف خال من سائر ما يشغله من الأجسام يجري الكوكب فيه أو بأن تكون السماء بأسرها لطيفة أو ما هو مجرى الكوكب منها لطيفا فيشق الكوكب ما يحاذيه وتجري كما تجري السمكة في البحر أو في ساقية منه وقد انجمد سائره وانقطاع كرة الهواء عند كرة النار المماسة لمقعر فلك القمر عند الفلاسفة وانحصار الأجسام اللطيفة بالعناصر الثلاثة وصلابة جرم السماء وتساوي أجزائها واستحالة الخرق والالتئام عليها واستحالة وجود الخلاء لم يتم دليل على شيء منه ، وأقوى ما يذكر في ذلك شبهات أوهن من بيت العنكبوت وإنه ورب السماء لأوهن البيوت.

ويجوز أن يكون الفلك عبارة عن جسم مستدير ويكون الكوكب فيه يجري بجريانه في ثخن السماء من غير دوران للسماء ، ولا مانع من أن يعتبر هذا الفلك لبعض الكواكب الفلك الكلي ويكون فيه نحو ما يثبته أهل الهيئة لضبط الحركات المختلفة من الأفلاك الجزئية لكن لا يضطر إلى ذلك بناء على القواعد الإسلامية كما لا يخفى إلا أن في

٢٣

نسبة السبح إلى الكوكب نوع إباء بظاهره عن هذا الاحتمال ، وفي كلام الأئمة من الصحابة وغيرهم إيماء إلى بعض ما ذكرنا.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس أنه قال في الآية : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) فلكة كفلكة المغزل يسبحون يدورون في أبواب السماء كما تدور الفلكة في المغزل. وأخرج الأخيران عن مجاهد أنه قال : لا يدور المغزل إلا بالفلكة ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل والنجوم في فلكة كفلكة المغزل فلا يدرن إلا بها ولا تدور إلا بهن. وفي الفتوحات المكية للشيخ الأكبر قدس‌سره جعل الله تعالى السماوات ساكنة وخلق فيها سبحانه نجوما وجعل لها في عالم سيرها وسباحتها في هذه السماوات حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص وجعلها عاقلة سامعة مطيعة وأوحى في كل سماء أمرها ثم إنه عزوجل لما جعل السباحة للنجوم في هذه السماوات حدثت لسيرها طرق لكل كوكب طريق وهو قوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) [الذاريات : ٧] فسميت تلك الطرق أفلاكا فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب وهي سريعة السير في جرم السماء الذي هو مساحتها فتخرق الهواء المماس لها فيحدث لسيرها أصوات ونغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات السماوية فهي تجري في هذه الطرق بعادة مستمرة قد علم بالرصد مقادير ودخول بعضها على بعض في السير وجعل سيرها للناظرين بين بطء وسرعة وجعل سبحانه لها تقدما وتأخرا في أماكن معلومة من السماء تعينها أجرام الكواكب لإضاءتها دونها إلى آخر ما قال. وقال الإمام : إن الله تعالى قادر على أن يجعل الكوكب بحيث يشق السماء فيجعل دائرة متوهمة كما لو جرت سمكة في الماء على الاستدارة وهذا هو المفهوم من قوله تعالى (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) والظاهر أن حركة الكوكب على هذا الوجه.

وأرباب الهيئة أنكروا ذلك للزوم الخرق والالتئام إن انشق موضع الجري والتأم أو الخلاء إن انشق ولم يلتئم والكل محال عندهم وعندنا لا محالية في ذلك وما يلزم هنا الخرق والالتئام لأنه المفهوم من يسبحون ولا دليل لهم على الاستحالة فيما عدا المحدد وهو هناك شبهة ضعيفة لا دليل ، وظاهر الآية أن كل واحد من من النيرين في فلك أي في مجرى خاص به وهذا مما يشهد به الحس وذهب إلى نحوه فلاسفة الإسلام كغيرهم من الفلاسفة بيد أنهم يقولون باتحاد الفلك والسماء ولما سمعوا عمن قبلهم أن كلا من السبع السيارة في فلك وكل الكواكب الثوابت في فلك وفوق كل ذلك فلك يحرك الجميع من المشرق إلى المغرب ويسمى فلك الأفلاك لتحريكه إياها والفلك الأعظم لإحاطته بها والفلك الأطلس لأنه كاسمه غير مكوكب وسمعوا عن الشارع ذكر السماوات السبع والكرسي والعرش أرادوا أن يطبقوا بين الأمرين فقالوا : السماوات السبع في كلام الشارع هي الأفلاك السبعة في كلام الفلاسفة فلكل من السيارات سماء من السماوات والكرسي هو فلك الثوابت والعرش هو الفلك المحرك للجميع المسمى بفلك الأفلاك وقد أخطئوا في ذلك وخالفوا سلف الأمة فيه فالفلك غير السماء ، وقوله تعالى مع ما هنا (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [نوح : ١٥ ، ١٦] لا يدل على الاتحاد لما قلنا من أن الكوكب في الفلك والفلك في السماء فيكون الكوكب فيها بلا شبهة فلا يحوج الجمع إلى القول بالعينية ولم يقم دليل على كرية العرش بل ظاهر ما ورد في الأخبار من أن له قوائم يدل على عدم الكرية ، نعم ورد ما يدل بظاهره أنه مقبب وهذا شيء غير ما يزعمونه فيه وكذا الكرسي لم يدل دليل على كريته كما يزعمون ومع هذا ليس عندهم دليل تام على كون الثوابت كلها في فلك فيجوز أن تكون في أفلاك كممثلات كلها فوق زحل أو بعضها فوقه وبعضها بين أفلاك العلوية وهي لا تكسف الثوابت التي عروضها أكثر من عروضها ولا لها اختلاف منظر ليعرف بأحد الوجهين كون

٢٤

الجميع فوق العلوية أو كتداوير ولا يلزم اختلاف إبعاد بعضها من بعض لجواز تساوي أجرام التداوير وحركاتها ولا اختلاف حركاتها بالسرعة والبطء للبعد والقرب وموافقة الممثل ومخالفته لأنا لا نسلم أن حركاتها لا تختلف بذلك المقدار ولا اختلاف أبعادها من الأرض لأنها غير محققة ، ويجوز أيضا أن تكون كلها مركوزة في محدب بمثل زحل على أنه يتحرك الحركة البطيئة والمعدل الحركة السريعة ، وأيضا يجوز أن يكون فيما سموه الفلك الأطلس كواكب لا ترى لصغرها جدا أو ترى وهي سريعة الحركة ولم يرصد كل كوكب ليتحقق بطء حركة الجميع ، وأيضا يجوز أن تكون السيارات أكثر من سبع فيحتاج إلى أزيد من سبع سماوات ، ويقرب هذا ظفر أهل الأرصاد الجديدة بكوكب سيار غير السبع سموه باسم من ظفر به وأدركه وهو هرشل ، وبالجملة لا قاطع فيما قالوه ، وللشيخ الأكبر قدس‌سره في هذا الباب كلام آخر مبناه الكشف وهو أن العرش الذي استوى الرحمن سبحانه عليه سرير ذو أركان أربعة ووجوه أربعة هي قوائمه الأصلية وهي على الماء الجامد وفي جوفه الكرسي وهو على شكله في التربيع لا في القوائم ومقره على الماء الجامد أيضا وبين مقعر العرش وبينه فضاء واسع وهواء مخترق وفي جوف الكرسي خلق الله تعالى الفلك الأطلس جسما شفافا مستديرا مقسما إلى اثني عشر قسما هي البروج المعروفة وفي جوفه الفلك المكوكب وما بينهما الجنات وبعد أن خلق الله تعالى الأرضين واكتسى الهواء صورة الدخان خلق الله سبحانه السماوات السبع وجعل في كل منها كوكبا وهي الجواري ، وزعم الخفاجي أن المراد بالفلك في الآية الفلك الأعظم لأن الشمس والقمر وكذا سائر الكواكب تتحرك بحركته فالسباحة عنده عبارة عن الحركة القسرية ، وفي القلب من ذلك شيء ، ثم على ما هو الظاهر من أن لكل واحد فلكا يخصه ذهبوا إلى أن فلك الشمس فوق فلك القمر لما أنه يكسفها والمكسوف فوق الكاسف ضرورة ، وذكر معظم أهل الهيئة أن الفلك الأدنى فلك القمر وفوقه فلك عطارد وفوقه فلك الزهرة وفوقه فلك الشمس وفوقه فلك المريخ وفوقه فلك المشتري وفوقه فلك زحل واستدلوا على بعض ذلك بالكسف وعلى بعضه الآخر بأن فيه حسن الترتيب وجودة النظام ، ولا مانع فيما أرى من القول بذلك لكن لا على الوجه الذي قال به أهل الهيئة من كون السماوات هي الأفلاك الدائرة بل على وجه يتأتى معه القول بسكون السماوات ودوران الكواكب في أفلاكها ومجاريها بعضها فوق بعض ، وقد مر لك ما ينفعك في هذا المقام فراجعه ، وجوز كون ضمير (يَسْبَحُونَ) عائدا على الكواكب ويشعر بها ذكر الشمس والقمر والليل والنهار ، ورجح على الأول بأن الإتيان بضمير الجمع عليه ظاهر لا يحتاج إلى تكلف بخلافه على الأول فإنه محوج إلى أن يقال اختلاف أحوال الشمس والقمر في المطالع وغيرها نزل منزلة تعدد أفرادهما فكان المرجع شموسا وأقمارا ، وظني أنه لا يحتاج إلى ذلك بناء على أنه قد يعتبر الاثنان جمعا أو بناء على ما قال الإمام من أن لفظ كل يجوز أن يوحد نظرا إلى لفظه وأن يجمع نظرا إلى كونه بمعنى الجميع وأما التثنية فلا يدل عليها اللفظ ولا المعنى قال : فعلى هذا يحسن أن يقال زيد وعمرو كل جاءوا وكل جاءا ولا يحسن كل جاءوا بالتثنية ، واستدل بالإتيان بضمير جمع العقلاء على أن الشمس والقمر من ذوي العقول. وأجيب بأن ذاك لما أن المسند إليهما فعل ذوي العقول كما في قوله تعالى في حق الأصنام (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) [الصافات : ٩٢] وقوله سبحانه (أَلا تَأْكُلُونَ) [الذاريات : ٢٧] والظواهر غير ما ذكر مع المستدلين. واستدل بالآية بعض فلاسفة الإسلام القائلين باتحاد السماء والفلك على استدارة السماء وجعلوا من اللطائف فيها أن (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) لا يستحيل بالانعكاس نحو كلامك كمالك وسر فلا كبابك الفرس وقالوا : لا يعكر على ذلك أنه سبحانه سماها سقفا في قوله عزّ قائلا (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) [الطور : ٥] لأن السقف المقبب لا يخرج عن كونه سقفا بالتقبيب ، وأنت تعلم أن السماوات غير الأفلاك ومع هذا أقول باستدارة السماوات كما ذهب إليه بعض السلف ، وبعض ظواهر الأخبار يقتضي أنها أنصاف كرات كل سماء نصف كرة كالقبة على أرض من الأرضين السبع وإليه ذهب الشيخ الأكبر

٢٥

وقال بالاستدارة لفلك المنازل دون السماوات السبع وادعى أن تحت الأرضين السبع التي على كل منها سماء ماء ، وتحته هواء ، وتحته ظلمة وعليه فليتأمل في كيفية سير الكوكب بعد غروبه حتى يطلع.

ثم إن الفلاسفة الذاهبين إلى استدارة السماء تمسكوا في ذلك بأدلة أقربها على ما قيل دليلان ، الأول أنا متى قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت رأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا أبعاد ممرات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجدناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن ، وكذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلا بمثل تلك النسب فتحدب السماء في العرض مشابه لتحدب الأرض فيه لكن هذا التشابه موجود في كل خط من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حسا فكذا سطح السماء الموازي له ، والثاني أن أصحاب الأرصاد دونوا في كتبهم مقادير أجرام الكواكب وأبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة في وقت واحد ما في أنصاف نهار تلك الأماكن مثلا متساوية وهذا يدل على تساوي أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لاستدارة الأرض المستلزم لكون جرم السماء كريا ونوقش في هذا بأنه إنما يصح أن لو كان الفلك ساكنا والكواكب متحركا إذ لو كان الفلك متحركا جاز أن يكون مربعا وتكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الأجرام للكواكب حاصلة ، وفي الأول بأنه إنما يصح لو كان الاعتبار المذكور موجودا في كل خط من خطوط الطول والعرض ولا يخفى جريان كل من المناقشتين في كل من الدليلين ، ولهم غير ذلك من الأدلة مذكورة بما لها وعليها في مطولات كتبهم (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) أي أولادهم ، قال الراغب : الذرية أصلها الصغار من الأولاد ويقع في التعارف على الصغار والكبار معا ويستعمل للواحد والجمع وأصله للجمع ، وفيه ثلاثة أقوال فقيل هو من ذرأ الله الخلق فترك همزته نحو برية وروية ، وقيل : أصله ذروية ، وقيل : هو فعلية من الذر نحو قمرية واستظهر حمله على الأولاد مطلقا أبو حيان ، وجوز غير واحد أن يحمل على الكبار لأنهم المبعوثون للتجارة أي حملناهم حين يبعثوهم للتجارة (فِي الْفُلْكِ) أي السفينة سميت بذلك على ما في مجمع البيان لأنها تدور في الماء (الْمَشْحُونِ) أي المملوء ، وقيل : هو مستعمل على أصله وهم الأولاد الصغار الذين يستصحبونهم ، وقيل : المراد به النساء فإنه يطلق عليهن ، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل الذراري وفسر بالنساء.

وفي الفائق قال حنظلة الكاتب : كنا في غزاة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأى امرأة مقتولة فقال : هاه ما كانت هذه تقاتل الحق خالدا وقل لا تقتلن ذرية ولا عسيفا ، وهي نسل الرجل وأوقعت على النساء كقولهم للمطر سماء ويراد بالنساء اللاتي يستصحبونهن وتخصيص الذرية على هذين القولين بالذكر لأن استقرارهم وتماسكهم في الفلك أعجب ، وقيل : تطلق الذرية على الآباء وعلى الأبناء قاله أبو عثمان وتعقبه ابن عطية بأنه تخليط لا يعرف في اللغة ، وقيل : الذرية النطف والفلك المشحون بطون النساء ذكره الماوردي ونسب إلى علي كرم الله تعالى وجهه ، والظاهر أنه لم يصح ذلك عنه رضي الله تعالى عنه وفي الآية ما يبعده وهو أشبه شيء بتأويلات الباطنية والمراد بالفلك جنسه والوصف بالمشحون أقوى في الامتنان بسلامتهم فيه ، وقيل : لأنه أبعد من الخطر ، وإرادة الجنس مروية عن ابن عباس ومجاهد والسدي ، وفسر ما في قوله تعالى :

(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) عليه بالإبل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل وقلة كلالها في المسير ، وإطلاق السفائن عليها شائع كما قيل :

٢٦

سفائن برّ والسراب بحارها

وروي ذلك عن الحسن وعبد الله بن شداد ، وفسره مجاهد بالأنعام الإبل وغيرها ، وعن أبي مالك وأبي صالح وغيرهما وهي رواية عن ابن عباس أيضا أن المراد بالفلك سفينة نوح عليه‌السلام على أن التعريف للعهد فما عبارة عما سمعت أيضا عند بعض وعند آخرين هي السفن والزوارق التي كانت بعد تلك السفينة. واستشكل حمل ذريتهم في سفينة نوح عليه‌السلام. وأجيب بأن ذلك بحمل آبائهم الأقدمين وفي أصلابهم هؤلاء وذريتهم ، وتخصيص الذرية مع أنهم محمولون بالتبع لأنه أبلغ في الامتنان حيث تضمن بقاء عقبهم وأدخل في التعجب ظاهرا حيث تضمن حمل ما لا يكاد يحصى كثرة في سفينة واحدة مع الإيجاز لأنه كان الظاهر أن يقال حملناهم ومن معهم ليبقى نسلهم فذكر الذرية يدل على بقاء النسل وهو يستلزم سلامة أصولهم فدل بلفظ قليل على معنى كثير ، وقال الإمام : يحتمل عندي أن التخصيص لأن الموجودين كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم أي لم يكن الحمل حملا لهم وإنما كان حملا لما في أصلابهم من المؤمنين ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي حملنا ذريات جنسهم وهو كما ترى ، وقيل : ضمير (لَهُمْ) لأهل مكة وضمير (ذُرِّيَّتَهُمْ) للقرون الماضية الذين هم منهم وحكي ذلك عن علي بن سليمان وليس بشيء ، وجوز الإمام كون الضميرين للعباد في قوله تعالى (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) [يس : ٣٠] ولا يكون المراد في كل أشخاصا معينين بل ذلك على نحو هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم على معنى قتل بعضهم بعضا فالمعنى آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية كل بعض منهم أو ذرية بعض منهم وفيه من البعد ما فيه ، ورجح تفسير (ما) بالإبل ونحوها من الأنعام دون السفن بأن المتبادر من الخلق الإنشاء والاختراع فيبعد أن يتعلق بما هو مصنوع العباد. وتعقب بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى عند أهل الحق وتبادر الإنشاء ممنوع وعليه يكن في الآية رد على المعتزلة كما قيل في قوله تعالى (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٦] على تقدير كون ما موصولة ، و (مِنْ) تحتمل أن تكون للبيان وأن تكون للتبعيض ؛ وجوز زيادتها على نظر الأخفش ورأيه ، والظاهر أن ضمير (لَهُمْ) الثاني عائد على ما عاد عليه ضمير الأول ، وجوز عوده على الذرية ، وجوز أيضا عود ضمير (مِثْلِهِ) على معلوم غير مذكور تقديره من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله سبحانه (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) [يس : ٣٦] وهو أبعد من العيوق ، وأيا ما كان فلا يخفى مناسبة هذه الآية لقوله تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وإنما لم يؤت بها على أسلوب أخواتها بأن يقال وآية لهم الفلك حملنا ذريتهم فيه كما قال سبحانه (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) [يس : ٣٣] (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) لأنه ليس الفلك نفسه عجبا وإنما حملهم فيه هو العجب ، وقرأ نافع وابن عامر والأعمش وزيد بن علي وأبان بن عثمان «ذرياتهم» بالجمع ، وكسر زيد وأبان الذال (وَإِنْ نَشَأْ) إغراقهم (نُغْرِقْهُمْ) في الماء مع ما حملناهم فيه من الفلك وما يركبون من السفن والزوارق فالكلام من تمام ما تقدم فإن كان المراد بما هناك السفن والزوارق فالأمر ظاهر وإن كان المراد بها الإبل ونحوها كان الكلام من تمام صدر الآية أي نغرقهم مع ما حملنا هم فيه من الفلك وكان حديث خلق الإبل ونحوها في البين استطرادا للتماثل ، ولما في ذلك من نوع بعد قيل إن قوله سبحانه و (إِنْ نَشَأْ) إلخ يرجح حمل (الْفُلْكِ) على الجنس و (ما) على السفن والزوارق الموجودة بين بني آدم إلى يوم القيامة ، وفي تعليق الإغراق بمحض المشيئة إشعار بأنه قد تكامل ما يستدعي إهلاكهم من معاصيهم ولم يبق إلا تعلق مشيئته تعالى به ، وقيل إن في ذلك إشارة إلى الرد على من يتوهم إن حمل الفلك الذرية من غير أن يغرق أمر تقتضيه الطبيعة ويستدعيه امتناع الخلاء ، وقرأ الحسن «نغرقهم» بالتشديد (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) أي فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق ، وتفسير الصريخ بالمغيث مروي عن مجاهد وقتادة ، ويكون بمعنى

٢٧

الصارخ وهو المستغيث ولا يراد هنا ، ويكون مصدرا كالصراخ ويتجوز به عن الإغاثة لأن المستغيث ينادي من يستغيث به فيصرخ له ويقول جاءك العون والنصر قال المبرد في أول الكامل : قال سلامة بن جندل :

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع

كان الصراخ له فزع المطانيب (١)

يقول إذا أتانا مستغيث كانت اغاثته الجد في نصرته ، وجوز إرادته هنا أي فلا إغاثة لهم (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) أي ينجون من الموت به بعد وقوعه (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً) استثناء مفرغ من أعم العلل الشاملة للباعث المتقدم والغاية المتأخرة أي لا يغاثون ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة عظيمة من قبلنا داعية إلى الإغاثة والإنقاذ وتمتيع بالحياة مترتب عليهما ، ويجوز أن يراد بالرحمة ما يقارن التمتيع بالحياة الدنيوية فيكون كلاهما غاية للإغاثة والانقاذ أي لنوع من الرحمة وتمتيع ، وإلى كونه استثناء مفرغا مما يكون مفعولا لأجله ذهب الزجاج والكسائي ، والاستثناء على ما يقتضيه الظاهر متصل ، وقيل : الاستثناء منقطع على معنى ولكن رحمة منا ومتاع يكونان سببا لنجاتهم وليس بذاك ، وجوز أن يكون النصب بتقدير الباء أي إلا برحمة ومتاع ، والجار متعلق بينقذون ولما حذف انتصب مجروره بنزع الخافض. وقيل هو على المصدرية لفعل محذوف أي إلا أن نرحمهم رحمة ونمتعهم تمتيعا ، ولا يخفى حاله وكذا حال ما قبله (إِلى حِينٍ) أي إلى زمان قدر فيه حسبما تقتضيه الحكمة آجالهم ، ومن هنا أخذ أبو الطيب قوله :

ولم أسلم لكي أبقى ولكن

سلمت من الحمام إلى الحمام

والظاهر أن المحدث عنه من يشاء الله تعالى إغراقهم ، وقال ابن عطية : إن (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) إلخ استئناف أخبار عن المسافرين في البحر ناجين كانوا أو مغرقين أي لا نجاة لهم إلا برحمة الله تعالى ، وليس مربوطا بالمغرقين وقد يصح ربطه به والأول أحسن فتأمله اه ، وقد تأملناه فوجدناه لا حسن فيه فضلا عن أن يكون أحسن.

والفاء ظاهرة في تعلق ما بعدها بما قبلها (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) إلخ بيان لإعراضهم عن الآيات التنزيلية بعد بيان إعراضهم عن الآيات الآفاقية التي كانوا يشاهدونها وعدم تأملهم فيها أي إذا قيل لأهل مكة بطريق الإنذار بما نزل من الآيات أو بغيره (اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) قال قتادة ومقاتل : أي عذاب الأمم التي قبلكم ، والمراد اتقوا مثل عذابهم (وَما خَلْفَكُمْ) أي عذاب الآخرة ، وقال مجاهد في رواية عكس ذلك ، وجاء عنه في رواية أخرى ما بين أيديهم ، ما تقدم من ذنوبهم وما خلفهم ما يأتي منها ، وعن الحسن مثله ، وقيل ما بين أيديهم نوازل السماء وما خلفهم نوائب الأرض ، وقيل ما بين أيديهم المكاره من حيث يحتسبون وما خلفهم المكاره من حيث لا يحتسبون ، وحاصل الأمر على ما قيل اتقوا العذاب أو اتقوا ما يترتب العذاب عليه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) حال من واو اتقوا أو غاية له راجين أن ترحموا أو كي ترحموا ، وفسرت الرحمة بالإنجاء من العذاب ، وجواب إذا محذوف ثقة بانفهامه من قوله تعالى (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) انفهاما بينا ، أما إذا كان الإنذار بالآية الكريمة فبعبارة النص ، وأما إذا كان بغيرها فبدلالته لأنهم حين أعرضوا عن آيات ربهم فلأن يعرضوا عن غيرها بطريق الأولى كأنه قيل : وإذا قيل لهم اتقوا العذاب أو اتقوا ما يوجبه أعرضوا لأنهم اعتادوه وتمرنوا عليه ، وما نافية وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار التجددي ، ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم والثانية تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لآية ، وإضافة الآيات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها ، والمراد بها إما هذه الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله تعالى وسوابغ آلائه تعالى الموجبة للإقبال عليها والايمان وإيتاؤها نزول

__________________

(١) لعله جمع مطناب الجيش العظيم اه منه.

٢٨

الوحي بها أي ما نزل الوحي بآية من الآيات الناطقة بذلك إلا كانوا عنها معرضين على وجه التكذيب والاستهزاء ، وإما ما يعمها والآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وتعاجيب المصنوعات التي من جملتها الآيات الثلاث المعدودة آنفا وإيتاؤها ظهورها لهم أي ما ظهرت لهم آية من الآيات التي من جملتها ما ذكر من شئونه تعالى الشاهدة بوحدانيته سبحانه وتفرده تعالى بالألوهية إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيح فيها المؤدي إلى الإيمان به عزوجل.

وفي الكلام إشارة إلى استمرارهم على الاعراض حسب استمرار إتيان الآيات ، و (عن) متعلقة بمعرضين قدمت عليه للحصر الادعائي مبالغة في تقبيح حالهم ، وقيل للحصر الإضافي أي معرضين عنها لا عما هم عليه من الكفر وقيل لرعاية الفواصل والجملة في حيز النصب على أنها حال من مفعول تأتي أو من فاعله المتخصص بالوصف لاشتمالها على ضمير كل منهما والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما تأتيهم آية من آيات ربهم في حال من أحوالهم إلا حال إعراضهم عنها أو ما تأتيهم آية منها في حال من أحوالها إلا حال اعراضهم عنها.

وجملة (وَما تَأْتِيهِمْ) إلخ ـ على ما يشعر به كلام الكشاف ـ تذييل يؤكد ما سبق من حديث الإعراض ، وإلى كونه تذييلا ذهب الخفاجي ثم قال : فتكون معترضة أو حالا مسوقة لتأكيد ما قبلها لشمولها لما تضمنه مع زيادة إفادة التعليل الدال على الجواب المقدر المعلل به فليس من حقها الفصل لأنها مستأنفة كما توهم فتأمل (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي أعطاكم سبحانه بطريق التفضل والإنعام من أنواع الأموال ، وعبر بذلك تحقيقا للحق وترغيبا في الإنفاق على منهاج قوله تعالى (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) [القصص : ٧٧] وتنبيها على عظم جنايتهم في ترك الامتثال بالأمر ، وكذلك الإتيان بمن التبعيضية ، والكلام على ما قيل لذمهم على ترك الشفقة على خلق الله تعالى أثر ذمهم على ترك تعظيمه عزوجل بترك التقوى ، وفي ذلك إشارة إلى أنهم أخلوا بجميع التكاليف لأنها كلها ترجع إلى أمرين التعظيم لله تعالى والشفقة على خلقه سبحانه ، وقيل هو للإشارة إلى عدم مبالاتهم بنصح الناصح وإرشاده إياهم إلى ما يدفع البلاء عنهم نظير قوله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا) إلخ والمعنى عليه. إذا قيل لهم بطريق النصيحة والإرشاد إلى ما فيه نفعهم أنفقوا بعض ما آتاكم الله من فضله على المحتاجين فإن ذلك مما يرد البلاء ويدفع المكاره (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) والأول أظهر ، والظاهر أن الذين كفروا هم الذين قيل لهم أنفقوا وعدل عن ضميرهم إلى الظاهر إيماء إلى علة القول المذكور ، وفي كون القول للذين آمنوا إيماء إلى أنهم القائلون ، قيل : لما أسلم حواشي الكفار من أقربائهم ومواليهم من المستضعفين قطعوا عنهم ما كانوا يواسونهم به وكان ذلك بمكة قبل نزول آيات القتال فندبهم المؤمنون إلى صلة حواشيهم فقالوا : (أَنُطْعِمُ) إلخ ، وقيل : شحت قريش بسبب أزمة على المساكين من مؤمن وغيره فندبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النفقة عليهم فقالوا هذا القول ، وقيل : قال فقراء المؤمنين أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله تعالى فحرموا وقالوا ذلك ، وروي هذا عن مقاتل ، وقال ابن عباس : كان بمكة زنادقة إذا أمروا بالصدقة قالوا لا والله أيفقره الله تعالى ونطعمه نحن وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون الأفعال بمشيئة الله تعالى يقولون لو شاء الله تعالى لأغنى فلانا ولو شاء لأعزه ولو شاء سبحانه لكان كذا فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولون.

وقال القشيري أيضا : إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة لا يؤمنون بالصانع وأنكروا وجوده فقولهم لو يشاء الله من باب الاستهزاء بالمسلمين. وجوز أن يكون مبنيا على اعتقاد المخاطبين ويفهم من هذا أن الزنديق من ينكر الصانع ، وقد حقق الأمر فيه على الوجه الأكمل ابن الكمال في رسالة مستقلة فارجع إليها إن أردت ذلك وعن الحسن. وأبي خالد أن الآية نزلت في اليهود أمروا بالإنفاق على الفقراء فقالوا ذلك.

٢٩

وظاهر ما تقدم يقتضي أنها في كفار مكة أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله تعالى وهو عام في الإطعام وغيره فأجابوا بنفي الإطعام الذي لم يزالوا يفتخرون به دلالة على نفي غيره بالطريق الأولى ولذا لم يقل أننفق.

وقيل لم يقل ذلك لأن الإطعام هو المراد من الإنفاق أو لأن (نُطْعِمُ) بمعنى نعطي وليس بذاك ، و (أَطْعَمَهُ) جواب (لَوْ) وورود الموجب جوابا بغير لام فصيح ومنه (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ) [الأعراف : ١٠٠] (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) [الواقعة : ٧٠] نعم الأكثر مجيئه باللام.

والظاهر أن قوله تعالى (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) من تتمة قول الذين كفروا للذين آمنوا أي ما أنتم إلا في ضلال ظاهر حيث طلبتم منا ما يخالف مشيئة الله عزوجل ، ولعمري إن الإناء ينضح بما فيه فإن جوابهم يدل على غاية ضلالهم وفرط جهلهم حيث لم يعلموا أنه تعالى يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم سبحانه له ، ويجوز أن يكون جوابا من جهته تعالى زجر به الكفرة وجهلهم به أو حكاية لجواب المؤمنين لهم فيكون على الوجهين استئنافا بيانيا جوابا لما عسى أن يقال ما قال الله تعالى أو ما قال المؤمنون في جوابهم؟.

وقوله تعالى (وَيَقُولُونَ) عطف على الشرطية السابقة مفيد لإنكارهم البعث الذي هو مبدأ كل قبيح والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزل يعدهم بذلك ، ومما يستحضر في أذهانهم ما تقدم من الأوامر فلذا أتوا بالإشارة إلى القريب في قولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) يعنون وعد البعث ، وجوز أن يكون ذلك من باب الاستهزاء وأرادوا متى يكون ذلك ويتحقق في الخارج (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما تقولون وتعدون فأخبرونا بذلك ، والخطاب لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين لما أنهم أيضا كانوا يتلون عليهم الآيات الدالة عليه والآمرة بالإيمان به وكأنه لم يعتبر كونه شرا لهم ولذا عبروا بالوعد دون الوعيد ، وقيل : إن ذاك لأنهم زعموا إن لهم الحسنى عند الله تعالى إن تحقق البعث بناء على أن الآية في غير المعطلة (ما يَنْظُرُونَ) جواب من جهته تعالى أي ما ينتظرون (إِلَّا صَيْحَةً) عظيمة (واحِدَةً) وهي النفخة الأولى في الصور التي يموت بها أهل الأرض. وعبر بالإنظار نظرا إلى ظاهر قولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أو لأن الصيحة لما كانت لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها (تَأْخُذُهُمْ) تقهرهم وتستولي عليهم فيهلكون (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي يتخاصمون ويتنازعون في معاملاتهم ومتاجرهم لا يخطر ببالهم شيء من مخايلها كقوله تعالى (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [يوسف : ١٠٧] فلا يغتروا بعدم ظهور علائمها حسبما يريدون ولا يزعمون أنها لا تأتي ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال : «لينفخن في الصور والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم حتى أن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور فيصعق به» وهي التي قال الله تعالى (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) إلخ ، وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة والرجل يليط حوضه فلا يسقى منه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نعجته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها» وأصل يخصمون يختصمون وبه قرأ أبي فسكنت التاء وأدغمت في الصاد بعد قلبها صادا ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين ، وجوز أن يكون الكسر لاتباع حركة الصاد الثانية والساكن لا يضر حاجزا.

وقرأ الحرميان وأبو عمرو والأعرج وشبل وابن قسطنطين بإدغام التاء في الصاد ونقل حركتها وهي الفتحة إلى الخاء ، وأبو عمرو أيضا وقالون بخلف باختلاس حركة الخاء وتشديد الصاد ، وعنهما اسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصمه إذا جادله ، والمفعول عليها محذوف أي يخصم بعضهم بعضا ، وقيل يخصمون مجادلتهم عن أنفسهم ، وبعضهم يكسر ياء المضارعة اتباعا لكسرة الخاء وشد الصاد ، وكسر ياء المضارعة لغة حكاها سيبويه عن الخليل في

٣٠

مواضع ، وعن نافع أنه قرأ بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الصاد المكسورة ، وفيها الجمع بين الساكنين على حده المعروف ، وكأنه يجوز الجمع بينهما إذا كان الثاني مدغما كان الأول حرف مد أيضا أم لا ، وهذا ما اخترناه في نقل القراءات تبعا لبعض الأجلة والرواة في ذلك مختلفون.

(فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) في شيء من أمورهم إذا كانوا فيما بين أهليهم ، ونصب (تَوْصِيَةً) على أنه مفعول به ليستطيعون ، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا لمقدر (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) إذا كانوا في خارج أبوابهم بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا ويرجعون إلى الله عزوجل لا إلى غيره سبحانه. وقرأ ابن محيصن «يرجعون» بالبناء للمفعول والضمائر للقائلين (مَتى هذَا الْوَعْدُ) لا من حيث أعيانهم أعني أهل مكة الذين كانوا وقت النزول بل لمنكري البعث مطلقا (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) هي النفخة الثانية بينها وبين الأولى أربعون أي النفخ فيه ، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع.

وقرأ الأعرج «الصور» بفتح الواو وقد مر الكلام في ذلك (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ) أي القبور جمع جدث بفتحتين ، وقرئ بالفاء بدل الثاء والمعنى واحد (إِلى رَبِّهِمْ) مالك أمرهم (يَنْسِلُونَ) يسرعون بطريق الإجبار لقوله تعالى (لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) قيل : وذكر الرب للإشارة إلى إسراعهم بعد الإساءة إلى من أحسن إليهم حين اضطروا إليه ، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨] لجواز اجتماع القيام والنظر والمشي أو لتقارب زمان القيام ناظرين وزمان الإسراع في المشي. وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو عمرو بخلاف عنه بضم السين (قالُوا) أي في ابتداء بعثهم من القبور (يا وَيْلَنا) أي هلاكنا أحضر فهذا أوانك وقيل أي يا قومنا انظروا ويلنا وتعجبوا منه ، وعلى حذف المنادي قيل وي كلمة تعجب ولنا بيان ونسب للكوفيين وليس بشيء.

وقرأ ابن أبي ليلى «يا ويلتنا» بتاء التأنيث ، وعنه أيضا «يا ويلتي» بتاء بعدها ألف بدل من ياء الإضافة ، والمراد أن كل واحد منهم يقول يا ويلتي (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) أي رقادنا على أنه مصدر ميمي أو محل رقادنا على أنه اسم مكان ويراد بالمفرد الجمع أي مراقدنا ، وفيه تشبيه الموت بالرقاد من حيث عدم ظهور الفعل والاستراحة من الأفعال الاختيارية ، ويجوز أن يكون المرقد على حقيقته والقوم لاختلاط عقولهم ظنوا كانوا نياما ولم يكن لهم إدراك لعذاب القبر لذلك فاستفهموا عن موقظهم ، وقيل سموا ذلك مرقدا مع علمهم بما كانوا يقاسون فيه من العذاب لعظم ما شاهدوه فكأن ذلك مرقد بالنسبة إليه ، فقد روي أنهم إذا عاينوا جهنم وما فيها من ألوان العذاب يرون ما كانوا فيه مثل النوم في جنبها فيقولون ذلك.

وأخرج القرباني وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال : ينامون قبل البعث نومة ، وأخرج هؤلاء ما عدا ابن جرير عن مجاهد قال : للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم قبل يوم القيامة فإذا صيح بأهل القبور يقولون (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) وروي عن ابن عباس أن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بالنفخة الثانية وشاهدوا الأهوال قالوا : ذلك.

وفي البحر أن هذا غير صحيح الإسناد واختار أن المرقد استعارة عن مضجع الموت.

وقرأ أمير المؤمنين عليّ وابن عباس والضحاك وأبو نهيك «من بعثنا» بمن الجارة والمصدر المجرور وهو متعلق بويل أو بمحذوف وقع حالا منه : ونحوه في الخبر :

ويلي عليك وويلي منك يا رجل

٣١

ومن الثانية متعلقة ببعث.

وعن ابن مسعود أنه قرأ «من أهبنا» بمن الاستفهامية وأهب بالهمز من هب من نومه إذا انتبه وأهببته أنا أي أنبهته.

وعن أبي أنه قرأ «هبنا» بلا همز قال ابن جني : وقراءة ابن مسعود أقيس فهبني بمعنى أيقظني لم أر لها أصلا ولا مر بنا في اللغة مهبوب بمعنى موقظ اللهم إلا أن يكون حرف الجر محذوفا أي هب بنا أي أيقظنا ثم حذف وأوصل الفعل ، وليس المعنى على من هب فهببنا معه وإنما معناه من أيقظنا. وقال البيضاوي : هبنا بدون الهمز بمعنى أهبنا بالهمز ، وقرئ «من هبنا» بمن الجارة والمصدر من هب يهب (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) جملة من مبتدأ وخبر (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) عطف على ما في حيز ما ، وعطفه على الجملة الاسمية أو جعله حالا بتقدير قد بدونه خلاف الظاهر ، وما موصولة محذوفة العائد أي هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون أي صدق فيه من قولهم صدقت زيدا الحديث أي صدقته فيه ومنه قولهم صدقني سن بكره أو مصدرية أي هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق ، وهو على ما قيل جواب من جهته عزوجل وعلى ما قال الفراء من قبل الملائكة وعلى ما قال قتادة ومجاهد من قبل المؤمنين ؛ وكان الظاهر أن يجابوا بالفاعل لأنه الذي سألوا عنه بأن يقال الرحمن أو الله بعثكم لكن عدل عنه إلى ما ذكر تذكيرا لكفرهم وتقريعا لهم عليه مع تضمنه الاشارة إلى الفاعل ، وذكر غير واحد أنه من الأسلوب الحكيم على أن المعنى لا تسألوا عن الباعث فإن هذا البعث ليس كبعث النائم وإن ذلك ليس مما يهمكم الآن وإنما الذي يهمكم أن تسألوا ما هذا البعث ذو الأهوال والافزاع ، وفيه من تقريعهم ما فيه.

وزعم الطيبي أن ذكر الفاعل ليس بكاف في الجواب لأن قولهم (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) حكاية عن قولهم ذلك عند البعث بعد ما سبق من قولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فلا بد في الجواب من قول مضمن معنيين فكان مقتضى الظاهر أن يقال بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل لكن عدل إلى ما يشعر بتكذيبهم ليكون أهول وفي التقريع أدخل ، وهو وارد على الأسلوب الحكيم وفي دعوى عدم كفاية ذكر الفاعل في الجواب نظر ، وفي إيثارهم اسم الرحمن قيل اشارة إلى زيادة التقريع من حيث إن الوعد بالبعث من آثار الرحمة وهم لم يلقوا له بالا ولم يلتفتوا إليه وكذبوا به ولم يستعدوا لما يقتضيه ، وقيل آثره المجيبون من المؤمنين لما أن الرحمة قد غمرتهم فهي نصب أعينهم ، واختصاص رحمة الرحمن بما يكون في الدنيا ورحمة الرحيم بما يكون في الأخرى ممنوع فقد ورد بالرحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.

وقال ابن زيد : هذا الجواب من قبل الكفار على أنهم أجابوا أنفسهم حيث تذكروا ما سمعوه من المرسلين عليهم‌السلام أو أجاب بعضهم بعضا ، وآثروا اسم الرحمن طمعا في أن يرحمهم وهيهات ليس لكافر نصيب يومئذ من رحمته عزوجل ، وجوز الزجاج كون (هذا) صفة لمرقدنا لتأويله بمشتق فيصح الوقف عليه ، وقد روي عن حفص أنه وقف عليه وسكت سكتة خفيفة فحكاية إجماع القراء على الوقف على (مَرْقَدِنا) غير تامة ، وما مبتدأ محذوف الخبر أي حق أو مبتدأ خبره محذوف أي هو أو هذا ما وعد ، وفيه من البديع صنعة التجاذب وهو أن تكون كلمة محتملة أن تكون من الساق وأن تكون من اللاحق ، ومثله كما قال الشيخ الأكبر قدس‌سره في تفسيره (١) المسمى بإيجاز البيان في الترجمة عن القرآن ومن خطه الشريف نقلت (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) [البقرة : ١٤٦ ، الأنعام : ٢٠] الآية بعد قوله تعالى (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٤٥]

__________________

(١) وهو على اسلوب تفاسير المفسرين دون أهل التأويل اه منه.

٣٢

وقوله تعالى (فِيهِ هُدىً) ـ بعد ـ (لا رَيْبَ) [البقرة : ٢] فليحفظ (إِنْ كانَتْ) أي ما كانت الفعلة أو النفخة التي حكيت آنفا (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) حصلت من نفخ إسرافيل عليه‌السلام في الصور ، وقيل : هي قول إسرافيل عليه‌السلام أيتها العظام النخرة والأوصال المتقطعة والشعور المتمزقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وقرئ برفع «صيحة» ومر توجيهها (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ) مجموع (لَدَيْنا) عندنا وفي محل حكمنا وانقطاع التصرف الظاهري من غيرنا (مُحْضَرُونَ) لفصل الحساب من غير لبث ما طرفة عين ، وفيه من تهوين أمر البعث والحشر والإيذان باستغنائهما عن الأسباب ما لا يخفى.

(فَالْيَوْمَ) الحاضر أو المعهود وهو يوم القيامة الدال نفخ الصور عليه ؛ وانتصب على الظرف والعامل فيه قوله تعالى (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ) من النفوس برة كانت أو فاجرة (شَيْئاً) من الظلم فهو نصب على المصدرية أو شيئا من الأشياء على أنه مفعول به على الحذف والإيصال (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي الإجزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من الكفر والمعاصي فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للتنبيه على قوة التلازم والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد أو إلا بما كنتم تعملونه أي بمقابلته أو بسببه ، وقيل : لا تجزون إلا نفس ما كنتم تعملونه بأن يظهر بصورة العذاب ، وهذا حكاية عما يقال للكافرين حين يرون العذاب المعد لهم تحقيقا للحق وتقريعا لهم ، واستظهر أبو حيان أن الخطاب يعم المؤمنين بأن يكون الكلام اخبارا من الله تعالى عما لأهل المحشر على العموم كما يشير إليه تنكير (نَفْسٌ) واختاره السكاكي ، وقيل : عليه يأباه الحصر لأنه تعالى يوفي المؤمنين أجورهم ويزيدهم من فضله أضعافا مضاعفة. ورد بأن المعنى أن الصالح لا ينقص ثوابه والطالح لا يزاد عقابه لأن الحكمة تأبى ما هو على صورة الظلم أما زيادة الثواب ونقص العقاب فليس كذلك أو المراد بقوله تعالى (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إنكم لا تجزون إلا من جنس عملكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

وقوله تعالى (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) على تقدير كون الخطاب السابق خاصا بالكفرة من جملة ما سيقال لهم يومئذ زيادة لحسرتهم وندامتهم فإن الأخبار يحسن حال أعدائهم أثر بيان سوء حالهم مما يزيدهم مساءة على مساءة وفي حكاية ذلك مزجرة لهؤلاء الكفرة عما هم عليه ومدعاة إلى الاقتداء بسيرة المؤمنين ، وعلى تقدير كونه عاما ابتداء كلام وأخبار لنا بما يكون في يوم القيامة إذا صار كل إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب ، والشغل هو الشأن الذي يصد المرء ويشغله عما سواه من شئونه لكونه أهم عنده من الكل إما لا يجابه كمال المسرة أو كمال المساءة والمراد هاهنا هو الأول ، وتنكيره للتعظيم كأنه شغل لا يدرك كنهه ، والمراد به ما هم فيه من النعيم الذي شغلهم عن كل ما يخطر بالبال ، وعن ابن عباس وابن مسعود ، وقتادة هو افتضاض الأبكار وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس ضرب الأوتار.

وقيل السماع وروي عن وكيع وعن ابن كيسان التزاور ، وقيل ضيافة الله تعالى وهي يوم الجمعة في الفردوس الأعلى عند كثيب المسك وهناك يتجلى سبحانه لهم فيرونه جل شأنه جميعا ، وعن الحسن نعيم شغلهم عما فيه أهل النار من العذاب ، وعن الكلبي شغلهم عن أهاليهم من أهل النار لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا ، ولعل التعميم أولى.

وليس مراد أهل هذه الأقوال بذلك حصر شغلهم فيما ذكروه فقط بل بيان أنه من جملة أشغالهم ، وتخصيص كل منهم كلا من تلك الأمور بالذكر محمول على اقتضاء مقام البيان إياه ، وأفرد الشغل باعتبار أنه نعيم وهو واحد بهذا الاعتبار ، والجار مع مجروره متعلق بمحذوف وقع خبرا لأن و (فاكِهُونَ) خبر ثان لها وجوز أن يكون هو الخبر و (فِي شُغُلٍ) متعلق به أو حال من ضميره ؛ والمراد بفاكهون على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن

٣٣

ابن عباس فرحون ، وأخرجوا عن مجاهد أن المعنى يتعجبون بما هم فيه.

وقال أبو زيد : الفاكه الطيب النفس الضحوك ولم يسمع له فعل من الثلاثي ، وقال أبو مسلم : إنه مأخوذ من الفكاهة بالضم وهي التحدث بما يسر ، وقيل التمتع والتلذذ قيل (فاكِهُونَ) ذوو فاكهة نحو لابن وتامر.

وظاهر صنيع أبي حيان اختياره ، والتعبير عن حالهم هذه بالجملة الاسمية قبل تحققها لتنزيل المترقب المترفع منزلة الواقع للإيذان بغاية سرعة تحققها ووقوعها ، وفيه على تقدير خصوص الخطاب زيادة لمساءة المخاطبين.

وقرأ الحرميان وأبو عمرو «شغل» بضم الشين وسكون الغين وهي لغة في شغل بضمتين للحجازيين ما قال الفراء.

وقرأ مجاهد وأبو السمال وابن هبيرة فيما نقل عنه ابن خالويه بفتحتين ، ويزيد النحوي وابن هبيرة أيضا فيما نقل عنه أبو الفضل الرازي بفتح الشين وإسكان الغين وهما لغتان أيضا فيه.

وقرأ الحسن وأبو جعفر وقتادة وأبو حيوة ومجاهد وشيبة وأبو رجاء ويحيى بن صبيح ونافع في رواية «فاكهون» جمع فكه كحذر وحذرون وهو صفة مشبهة تدل على المبالغة والثبوت ، وقرأ طلحة والأعمش «فاكهين» بالألف وبالياء نصبا على الحال (١) و (فِي شُغُلٍ) هو الخبر ، وقرئ «فكهين» بغير ألف وبالياء كذلك ، وقرئ «فكهون» بفتح الفاء وضم الكاف وفعل بضم العين من أوزان الصفة المشبهة كنطس وهو الحاذق الدقيق النظر الصادق الفراسة ، وقوله تعالى : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) استئناف مسوق لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلها بما يزيدهم بهجة وسرورا من شركة أزواجهم ، فهم مبتدأ و (أَزْواجُهُمْ) عطف عليه و (مُتَّكِؤُنَ) خبر والجار أن صلة له قيل قدما عليه لمراعاة الفواصل أو هو والجاران بما تعلقا به من الاستقرار أخبار مترتبة ، وجوز أن يكون الخبر هو الظرف الأول والظرف الثاني متعلق بمتكئون وهو خبر مبتدأ محذوف أي هم متكئون على الأرائك أو الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم و (مُتَّكِؤُنَ) مبتدأ مؤخر والجملة على الوجهين استئناف بياني ، وقيل (هُمْ) تأكيد للمستكن في خبر إن أعني فاكهون أو في شغل.

ومنعه بعضهم زعما منه أن فيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بأجنبي و (مُتَّكِؤُنَ) خبر آخر لها و (عَلَى الْأَرائِكِ) متعلق به وكذا (فِي ظِلالٍ) أو هو متعلق بمحذوف هو حال من المعطوف والمعطوف عليه ، ومن جوز مجيء الحال من المبتدأ جوز هذا الاحتمال على تقدير أن يكون (هُمْ) مبتدأ أيضا ، والظلال جمع ظل وجمع فعل على فعال كثير كشعب وشعاب وذئب وذئاب ، ويحتمل أن يكون جمع ظلة بالضم كقبة وقباب وبرمة وبرام ، وأيد بقراءة عبد الله والسلمي وطلحة وحمزة والكسائي «في ظلل» بضم ففتح فإنه جمع ظلة لا ظل والأصل توافق القراءات ، ومنذر بن سعيد يقول : مع ظلة بالكسر وهي لغة في ظلة بالضم فيكون كلقحة ولقاح وهو قليل.

وفسر الإمام الظل بالوقاية عن مظان الألم ؛ ولأهل الجنة من ظل الله تعالى ما يقيهم الأسواء والجمع باعتبار ما لكل واحد منهم من ذلك أو هو متعدد للشخص الواحد باعتبار تعدد ما منه الوقاية. ويحتمل أنه جمع باعتبار كونه عظيم الشأن جليل القدر كجمع اليد بمعنى القدرة على قول في قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [الذاريات : ٤٧].

وفسر أبو حيان الظلال جمع ظلة بالملابس ونحوها من الأشياء التي تظل كالستور ، وأقول قال ابن الأثير : الظل الفيء الحاصل من الحاجز بينك وبين الشمس أي شيء كان ، وقيل هو مخصوص بما كان منه إلى زوال الشمس وما

__________________

(١) في الظرف أي من المستكن اه.

٣٤

كان بعد فهو الفيء ، وأنت تعلم أن الظل بالمعنى الذي تعتبر فيه الشمس لا يتصور في الجنة إذ لا شمس فيها ، ومن هنا قال الراغب : الظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة ، وجاء في ظلها ما يدل على أنه كالظل الذي يكون في الدنيا قبل طلوع الشمس ، فقد روى ابن القيم في حادي الأرواح عن ابن عباس أنه سئل ما أرض الجنة؟ قال : مرمرة بيضاء من فضة كأنها مرآة قيل : ما نورها؟ قال : ما رأيت الساعة التي قبل طلوع الشمس فذلك نورها إلا أنها ليس فيها شمس ولا زمهرير ، وذكر ابن عطية نحو هذا لكن لم يعزه. وتعقبه أبو حيان بأنه يحتاج إلى نقل صحيح وكيف يكون ذلك وفي الحديث ما يدل على أن حوراء من حور الجنة لو ظهرت لأضاءت منها الدنيا أو نحو من هذا ، ويمكن الجواب بأن المراد تقريب الأمر لفهم السائل وإيضاح الحال بما يفهمه أو بيان نورها في نفسها لا الأعم منه ومما يحصل فيها من أنوار سكانها الحور العين وغيرهم.

نعم نورها في نفسها أتم من نور الدنيا قبل طلوع الشمس كما يومئ إليه ما أخرجه ابن ماجة عن أسامة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها أي لا عدل ولا مثل وهي ورب الكعبة نور يتلألأ» الحديث ، ويجوز حمل الظلال جمع ظل هنا على هذا المعنى وجمعه للتعدد الاعتباري ، ويجوز حمل الظل على العزة والمناعة فإنه قد يعبر به عن ذلك وبهذا فسر الراغب قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) [المرسلات : ٤١] وهو غير معنى الوقاية عن مظان الألم الذي ذكره الإمام ، ويجوز حمله على أنه جمع ظلة على الستور التي تكون فوق الرأس من سقف وشجر ونحوهما ووجود ذلك في الجنة مما لا شبهة فيه فقد جاء في الكتاب وصح في السنة أن فيها غرفا وهي ظاهرة فيما كان ذا سقف بل صرح في بعض الأخبار بالسقف وجاء فيها أيضا ما هو ظاهر في أن فيها شجرا مرتفعا يظل من تحته ، وقد صح من رواية الشيخين أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها فاقرءوا إن شئتم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [الواقعة : ٣٠]» وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه قال الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق قدر ما يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام في كل نواحيها يخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها الخبر ، وابن الأثير يقول : معنى في ظلها في ذراها وناحيتها ، وكان هذا لدفع أنها تظل من الشمس أو نحوها ، و (الْأَرائِكِ) جمع أريكة وهو السرير في قول ، وقيل : الوسادة حكاه الطبرسي وقال الزهري : كل ما اتكئ عليه فهو أريكة ، وقال ابن عباس : لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة فإن كان سرير بغير حجلة لا تكون أريكة وإن كانت حجلة بغير سرير لم تكن أريكة فالسرير والحجلة أريكة وفي حادي الأرواح لا تكون أريكة إلا أن يكون السرير في الحجلة وأن يكون على السرير فراش ، وفي الصحاح الأريكة سرير منجد مزين في قبة أو بيت ، وقال الراغب : الأريكة حجلة على سرير والجمع آرائك ، وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك هو شجر معروف أو لكونها مكانا للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا ، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الاقامات.

وبالجملة إن كلام الأكثرين يدل على أن السرير وحده لا يسمى أريكة نعم يقال للمتكئ على أريكة متكئ على سرير فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) [الطور : ٢٠] لجواز أن تكون السرر في الحجال فتكون أرائك ، ويجوز أن يقال : إن أهل الجنة تارة يتكئون على الأرائك وأخرى يتكئون على السرر التي ليست بآرائك ، وسيأتي إن شاء تعالى ما ورد في وصف سررهم رزقنا الله تعالى وإياكم الجلوس على هاتيك السرر والاتكاء مع الأزواج على الأرائك ، والظاهر أن المراد بالأزواج أزواجهم المؤمنات اللاتي كن لهم في الدنيا ، وقيل أزواجهم اللاتي زوجهم الله تعالى إياهن من الحور العين ، ويجوز فيما يظهر أن يراد الأعم من الصنفين ومن المؤمنات اللاتي متن

٣٥

ولم يتزوجن في الدنيا فزوجهن الله تعالى في الجنة من شاء من عباده بل الأعم من ذلك كله ومن المؤمنات اللاتي تزوجن في الدنيا بأزواج ماتوا كفارا فأدخلوا النار مخلدين فيها وأدخلن الجنة كامرأة فرعون فقد جاء في الأخبار أنها تكون زوجة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوز أن يكون المراد بأزواجهم أشكالهم في الإحسان وأمثالهم في الإيمان كما قال سبحانه : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [ص : ٥٨] وقريب منه ما قيل المراد به أخلاؤهم كما في قوله تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات : ٢٢] وقيل يجوز أن يراد به ما يعم الأشكال والأخلاء ومن سمعت أولا ، وأنت تعلم بعد إرادة ذلك وكذا إرادة الأشكال أو الإخلاء بالخصوص (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ) بيان لما يتمتعون به في الجنة من المآكل والمشارب وما يتلذذون به من الملاذ الجسمانية والروحانية بعد بيان ما لهم فيها من مجالس الأنس ومحافل القدس تكميلا لبيان كيفية ما هم فيه من الشغل والبهجة كذا قيل ، ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا وقع جواب سؤال نشأ مما يدل عليه اللام السابق من اشتغالهم بالأنس واتكائهم على الأرائك عدم تعاطيهم أسباب المأكل والمشرب فكأنه قيل : إذا كان حالهم ما ذكر فكيف يصنعون في أمر مأكلهم؟ فأجيب بقوله سبحانه : (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ) وهو مشير إلى أن لهم من المأكل ما لهم على أتم وجه ، وأفيد أن فيه إشارة إلى أنه لا جوع هناك وليس الأكل لدفع ألم الجوع ، وإنما مأكولهم فاكهة ولو كان لحما ، والتنوين للتفخيم أي فاكهة جليلة الشأن ، وفي قوله سبحانه : (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ) دون يأكلون فيها فاكهة إشارة إلى كون زمام الاختيار بأيديهم وكونهم مالكين قادرين فإن شاءوا أكلوا وإن شاءوا أمسكوا.

(وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أي ما يدعون به لأنفسهم أي لهم كل ما يطلبه أحد لنفسه لا إنهم يطلبون فإنه حاصل كما إذا سألك أحد فقلت : لك ذلك تعني فلم تطلب أو لهم ما يطلبون بالفعل على أن هناك طلبا وإجابة لأن الغبطة بالإجابة توجب اللذة بالطلب فإنه مرتبة سنية لا سيما والمطلوب منه والمجيب هو الله تعالى الملك الجليل جل جلاله وعم نواله ، فيدعون من الدعاء بمعنى الطلب ، وأصله يدتعيون على وزن يفتعلون سكنت الياء بعد أن ألقيت حركتها على ما قبلها وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها ، وقيل بل ضمت العين لأجل واو الجمع ولم يلق حركة الياء عليها وإنما حذفت استثقالا ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين فصار يدتعون فقلبت التاء دالا وأدغمت ، وافتعل بمعنى فعل الثلاثي كثير ومنه اشتوى بمعنى شوي واجتمل بمعنى جمل أي أذاب الشحم.

قال لبيد : فاشتوى (١) ليلة ريح واجتمل. و (لَهُمْ) خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وهي موصولة والجملة بعدها صلة والعائد محذوف وهو إما ضمير مجرور أو ضمير منصوب على الحذف والإيصال ، وجوز أن تكون ما نكرة موصوفة وأن تكون مصدرية فالمصدر (٢) حينئذ مبتدأ وهو خلاف الظاهر ، والجملة عطف على الجملة قبلها ، وعدم الاكتفاء بعطف (ما) على (فاكِهَةٌ) لئلا يتوهم كونها عبارة عن توابع الفاكهة ومتمماتها.

وجوز أن يكون (يَدَّعُونَ) من الافتعال بمعنى التفاعل كارتموه بمعنى تراموه أي لهم ما يتداعون ، والمعنى كل ما يصح أن يطلبه أحد من صاحبه فهو حاصل لهم أو ما يطلبه بعضهم من بعض بالفعل لما في ذلك من التحاب ، وأن يكون من الافتعال على ما سمعت أولا إلا إن الدعاء بمعنى التمني.

قال أبو عبيدة : العرب تقول ادع علي ما شئت بمعنى تمن علي ، وتقول فلان في خير ما ادعى أي تمنى أي لهم ما

__________________

(١) وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل. أرسلته فأتاه رزقه فاشترى إلخ اه منه.

(٢) قيل إذا جعلت مصدرية فالمصدر بمعنى المفعول اه منه.

٣٦

يتمنون ، قال الزجاج : وهو مأخوذ من الدعاء أي كل ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم ، قيل افتعل بمعنى فعل فيدعون بمعنى يدعون من الدعاء بمعناه المشهور أي لهم ما كان يدعون به الله عزوجل في الدنيا من الجنة ودرجاتها.

وقوله تعالى : (سَلامٌ) جوز أن يكون بدلا من ما يدل بعض من كل ولزوم الضمير غير مسلم ، وقوله تعالى : (قَوْلاً) مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة صفة سلاما ، وقوله تعالى (مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) صفة (قَوْلاً) أي سلام يقال لهم قولا من جهة رب رحيم أي يسلم عليهم من جهته تعالى بلا واسطة تعظيما لهم ، فقد أخرج ابن ماجة وجماعة عن جابر قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة وذلك قول الله تعالى (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) قال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» وقيل بواسطة الملائكة عليهم‌السلام لقوله تعالى (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤] وروي ذلك عن ابن عباس وعلى الأول الأكثرون ، وأما ما قيل إن ذلك سلام الملائكة على المؤمنين عند الموت فليس بشيء ، والبدلية المذكورة مبنية على أن ما عامة.

وجوز أن يكون بدل كل من كل على تقدير أن يراد بها خاص أو على ادعاء الاتحاد تعظيما ، ولا بأس في إبدال هذه النكرة منها على تقدير موصوليتها لأنها نكرة موصوفة بالجملة بعدها ، على أنه يجوز أن يلتزم جواز إبدال النكرة من المعرفة مطلقا من غير قبح ، ويجوز أن يكون (سَلامٌ) خبر مبتدأ محذوف والجملة بعده صفته أي هو أو ذلك سلام يقال قولا من رب رحيم ، والضمير لما وكذا الاشارة ، وجوز أن يكون صفة لما أي لهم ما يدعون سالم أو ذو سلامة مما يكره ، و (قَوْلاً) مصدر مؤكد لقوله تعالى (لَهُمْ ما يَدَّعُونَ) سلام أي عدة من رب رحيم ، وهذه الوصفية على تقدير كون ما نكرة موصوفة ولا يصح على تقدير كونها موصولة للتخالف تعريفا وتنكيرا وأن يكون خبرا لما ، و (لَهُمْ) متعلق به لبيان الجهة كما يقال لزيد الشرف متوفر أي ما يدعون سالم لهم خالص لا شوب فيه ، ونصب (قَوْلاً) على ما سمعت آنفا.

وفي الكشاف الأوجه أن ينتصب على الاختصاص وهو من مجازه فيكون الكلام جملة مفصولة عما سبق ولا ضير في نصب النكرة على ذلك ، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي ولهم سلام يقال قولا من رب رحيم ، وقدر الخبر مقدما لتكون الجملة على أسلوب أخواتها لا ليسوغ الابتداء بالنكرة فإن النكرة موصوفة بالجملة بعدها ، وظاهر كلامهم تقدير العاطف أيضا ويمكن أن لا يقدر ، وفصل الجملة على ما قيل لأنها كالتعليل لما تضمنته لآي قبلها فإن سلام الرب الرحيم منشأ كل تعظيم وتكريم ، وجوز على تقدير كونه مبتدأ تقدير الخبر المحذوف عليهم ؛ قال الإمام : فيكون ذلك اخبارا من الله تعالى في الدنيا كأنه سبحانه حكى لنا وقال جل شأنه (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) ثم لما كمل بيان حالهم قال (سَلامٌ) عليهم وهذا كما قال سبحانه (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) [الصافات : ٧٩] (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ١٨١] فيكون جل وعلا قد أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين ثم قال : وهذا وجه مبتكر يد ما يدل عليه فنقول : أو نقول تقديره سلام عليكم ويكون هذا نوعا من الالتفات حيث قال تعالى لهم كذا وكذا ثم قال سبحانه (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ٥٤ ، الأعراف : ٤٦ ، الرعد : ٢٤ ، القصص : ٥٥ ، الزمر : ٧٣] اه. ووجه الابتداء بسلام في مثل هذا التركيب موصوفا كان أم لا معروف عند أصاغر الطلبة. وقرأ محمد بن كعب القرظي «سلم» بكسر السين وسكون اللام ومعناه سلام. وقال أبو الفضل الرازي : مسالم لهم أي ذلك مسالم وليس بذاك.

وقرأ أبي وعبد الله وعيسى والغنوي «سلاما» بالنصب على المصدر أي يسلم عليهم سلاما أو على الحال من

٣٧

ضمير ما في الخبر أو منها على القول بجواز مجيء الحال من المبتدأ أي ولهم مرادهم خالصا.

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ)(٧١)

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي انفردوا عن المؤمنين إلى مصيركم من النار. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة أي اعتزلوا عن كل خير ، وعن الضحاك لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى أي على خلاف ما للمؤمنين من الاجتماع مع من يحبون ، ولعل هذا بعد زمان من أول دخولهم فلا ينافي عتاب بعضهم بعضا الوارد في آيات أخر كقوله تعالى (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) [غافر : ٤٧] ويحتمل أنه أراد لكل صنف كافر كاليهود والنصارى ، وجوز الإمام كون الأمر أمر تكوين كما في (كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة : ١١٧ ، وغيرها] على معنى أن الله تعالى يقول لهم ذلك فتظهر عليهم سيماء يعرفون بها كما قال سبحانه (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) [الرحمن : ٤١] ولا يخفى بعده ، والجملة عطفا ما على الجملة السابقة المسوقة لبيان أحوال أصحاب الجنة من عطف القصة على القصة فلا يضر التخالف إنشائية وخبرية ، وكأن تغيير السبك لتخييل كمال التباين بين الفريقين وحاليهما ، وإما على مضمر ينساق إليه حكاية حال أصحاب الجنة كأنه قيل إثر بيان كونهم في شغل عظيم الشأن وفوزهم بنعيم مقيم يقصر عنه البيان فليقروا بذلك عينا وامتازوا عنهم أيها المجرمون.

قال أبو السعود ، وقال الخفاجي : يجوز أن يكون بتقدير ويقال امتازوا على أنه معطوف على يقال المقدر العامل في قولا وهو أقرب وأقل تكلفا لأن حذف القول وقيام معموله مقامه كثير حتى قيل فيه هو البحر حدث عنه ولا حرج ، وفيه بحث يظهر بأدنى تأمل ، وقيل : إن المذكور من قوله تعالى (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) إلى هنا تفصيل للمجمل السابق أعني قوله تعالى : (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وبني عليه أن المعطوف عليه متضمن لمعنى الطلب على معنى فليمتز المؤمنون عنكم يا أهل المحشر إلى الجنة وامتازوا عنهم إلى النار ، وتعقبه في الكشف بأنه ليس بظاهر إذ بأحد الأمرين غنية عن الآخر ثم قال : والوجه أن المقصود عطف جملة قصة أصحاب النار على جملة قصة أصحاب الجنة وأوثرها هنا الطلب زيادة للتهويل والتعنيف ألا ترى إلى قوله تعالى (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) وإن كان لا بد من التضمين فالمعطوف أولى بأن يجعل في معنى الخبر على معنى وأن المجرمون ممتازون منفردون.

وفائدة العدول ما في الخطاب والطلب من النكتة اه ، وما ذكره من حديث أغناه أحد الأمرين عن الآخر سهل لكون الأمر تقديريا مع أن الامتياز الأول على وجه الإكرام وتحقيق الوعد والآخر على وجه الإهانة وتعجيل الوعيد

٣٨

فيفيد كل منهما ما لا يفيده الآخر ، نعم قال العلامة أبو السعود في ذلك : إن اعتبار فليمتز المؤمنون وإضماره بمعزل عن السداد لما أن المحكي عنهم ليس مصيرهم إلى ما ذكر من الحال المرضية حتى يتسنى ترتيب الأمر المذكور عليه بل إنما هو استقرارهم عليها بالفعل ، وكون ذلك تنزيل المترقب منزلة الواقع لا يجدي نفعا لأن مناط الاعتبار والإضمار انسياق الأفهام إليه وانصباب نظم الكلام عليه فبعد التنزيل المذكور وإسقاط الترقب عن درجة الاعتبار يكون التصدي لإضمار شيء يتعلق به إخراجا للنظم الكريم عن الجزالة بالمرة ، والظاهر أنه لا فرق في هذا بين التضمين والإضمار ، والذي يغلب على الظن أن ما ذكر لا يفيد أثر من أولوية تقدير فليقروا عينا على تقدير فليمتازوا فليفهم ، وقال بعض الأذكياء : يجوز أن يكون (امْتازُوا) فعلا ماضيا والضمير للمؤمنين أي انفرد المؤمنون عنكم بالفوز بالجنة ونعيمها أيها المجرمون ففيه تحسير لهم والعطف حينئذ من عطف الفعلية الخبرية على الاسمية الخبرية ولا منع منه ، وتعقب بأنه مع ما فيه من المخالفة للأسلوب المعروف من وقوع النداء مع الأمر نحو (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) [يوسف : ٢٩] قليل الجدوى وما ذكره من التحسير يكفي فيه ما قبل من ذكر ما هم عليه من التنعم وأيضا المأثور يأبى عنه غاية الإباء وهو كالنص في أن (امْتازُوا) فعل أمر ولا يكاد يخطر لقارئ ذلك.

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) من جملة ما يقال لهم بطريق التقريع والإلزام والتبكيت بين الأمر بالامتياز والأمر بمقاساة حر جهنم ، والعهد الوصية والتقدم بأمر فيه خير ومنفعة ، والمراد به هاهنا ما كان منه تعالى على ألسنة الرسل عليهم‌السلام من الأوامر والنواهي التي من جملتها قوله تعالى (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧] الآية ، وقوله تعالى (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة : ١٦٨] وغيرهما من الآيات الواردة في هذا المعنى ، وقيل : هو الميثاق المأخوذ عليهم في عالم الذر إذ قال سبحانه لهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] وقيل : هو ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادة الله تعالى الزاجرة عن عبادة غيره. عزوجل فكأنه استعارة لإقامة البراهين والمراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها ولوقوعها في مقابلة عبادته عزوجل ، وجوز أن يراد بها عبادة غير الله تعالى من الآلهة الباطل وإضافتها إلى الشيطان لأنه الآمر بها والمزين لها فالتجوز في النسبة ، وقرأ طلحة والهذيل بن شرحبيل الكوفي «اعهد» بكسر الهمزة قاله صاحب اللوامح وقال هي لغة تميم ، وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين أحرف المضارعة ؛ وقال ابن عطية قرأ الهذيل وابن وثاب «ألم اعهد» بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي من كسر حرف المضارعة سوى الياء ، وروي عن ابن وثاب «ألم أعهد» بكسر الهاء ويقال عهد وعهد اه.

ولعله أراد أن كسر الميم يدل على كسر الهمزة لأن حركة الميم هي الحركة التي نقلت إليها من الهمزة وحذفت الهمزة بعد نقل حركتها لا أن الميم مكسورة والهمزة بعدها مكسورة أيضا فتلفظ بها ، وقال الزمخشري : قرئ «اعهد» بكسر الهمزة وباب فعل كله يجوز في حروف مضارعته الكسر إلا في الياء و «أعهد» بكسر الهاء وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم وضرب يضرب و «احهد» بإبدال العين وحدها حاء مهملة و «أحد» بإبدالها مع إبدال الهاء وادغامها وهي لغة تميم ومنه قولهم دحا محا أي دعها معها وما ذكره من قوله : إلا في الياء مبني على بعض اللغات وعن بعض كلب أنهم يكسرون الياء أيضا فيقولون يعلم مثلا وقوله في أحهد وأحد لغة بني تميم هو المشهور ، وقيل : أحهد لغة هذيل وأحد لغة بني تميم وقولهم دحا محا إما يريدوا به دع هذه القربة مع هذه المرأة أودع هذه المرأة مع هذه القربة (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة وهو تعليل لوجوب الانتهاء ، وقيل : تعليل للنهي وعداوة اللعين جاءت من قبل عداوته لآدم عليه‌السلام والنداء بوصف النبوة لآدم كالتمهيد لهذا التعليل والتأكيد لعدم جريهم على

٣٩

مقتضى العلم فهم والمنكرون سواء (وَأَنِ اعْبُدُونِي) عطف على (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) على أن (أَنِ) فيها مفسرة للعهد الذي فيه معنى القول دون حروفه أو مصدرية حذف عنها الجار أي ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان وفي عبادتي وتقديم النهي على الأمر لما أن حق التخلية التقدم على التحلية قيل : وليتصل به قوله تعالى : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) بناء على أن الإشارة إلى عبادته تعالى لأنه المعروف في الصراط المستقيم. وجعل بعضهم الاشارة إلى ما عهد إليهم من ترك عبادة الشيطان وفعل عبادة الله عزوجل.

ورجح بأن عبادته تعالى إذا لم تنفرد عن عبادة غيره سبحانه لا تسمى صراطا مستقيما فتأمل والجملة استئنافية جيء بها لبيان المقتضى للعهد بعبادته تعالى أو للعهد بشقيه والتنكير للمبالغة والتعظيم أي هذا صراط بليغ في استقامته جامع لكل ما يجب أن يكون عليه واصل لمرتبة يقصر عنها التوصيف والتعريف ولذا لم يقل هذا الصراط المستقيم أو هذا هو الصراط المستقيم وإن كان مفيدا للحصر ، وجوز أن يكون التنكير للتبعيض على معنى هذا بعض الصراط المستقيمة وهو للهضم من حقه على الكلام المنصف ، وفيه ادماج التوبيخ على معنى أنه لو كان بعض الصراط الموصوفة بالاستقامة لكفى ذلك في انتهاجه كيف وهو الأصل والعدة كما قيل :

وأقول بعض الناس عنك كناية

خوف الوشاة وأنت كل الناس

وفيه أن المطلوب الاستقامة والأمر دائر معها وقليلها كثير (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) استئناف مسوق لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع ببيان عدم اتعاظهم بغيرهم أثر بيان نقضهم العهد فالخطاب لمتأخريهم الذين من جملتهم كفار خصوا بزيادة التوبيخ والتقريع لتضاعف جناياتهم ، وإسناد الإضلال إلى ضمير الشيطان لأنه المباشر للإغواء.

والجبل ـ قال الراغب ـ الجماعة العظيمة أطلق عليهم تشبيها بالجبل في العظم ، وعن الضحاك أقل الجبل وهي الأمة العظيمة عشرة آلاف ، وفسره بعضهم بالجماعة وبعض بالأمة بدون الوصف وقيل هو الطبع المخلوق عليه الذي لا ينتقل كأنه جبل وهو هنا خلاف الظاهر.

وقرأ العربيان ، والهذيل «جبلا» بضم اليم وإسكان الباء. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بضمتين مع تخفيف اللام والحسن وابن أبي إسحاق والزهري وابن هرمز وعبد الله بن عبيد بن عمير وحفص بن حميد بضمتين وتشديد اللام ، والأشهب العقيلي واليماني وحماد بن سلمة عن عاصم بكسر الجيم وسكون الباء ، والأعمش بكسرتين وتخفيف اللام جمع جبلة نحر فطرة وفطر ، وقرأ أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وبعض الخراسانيين «جيلا» بكسر الجيم بعدها ياء آخر الحروف واحد الأجيال وهو الصنف من الناس كالعرب والروم.

(أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) عطف على مقدر يقتضيه المقام أي أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون أنها لضلالهم أو فلم تكونوا تعقلون شيئا أصلا حتى ترتدعوا عما كانوا عليه كيلا يحيق بكم العذاب الأليم.

وقرأ طلحة وعيسى وعاصم في رواية عبد بن حميد عنه بياء الغيبة فالضمير للجبل.

وقوله تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) استئناف يخاطبون به بعد تمام التوبيخ والتقريع والإلزام والتبكيت عند إشرافهم على شفير جهنم أي هذه التي ترونها جهنم التي لم تزالوا توعدون بدخولها على ألسنة الرسل عليهم‌السلام والمبلغين عنهم بمقابلة عبادة الشيطان (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) أمر تحقير وإهانة كقوله تعالى (ذُقْ إِنَّكَ

٤٠