روح المعاني - ج ١٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي. والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد إنا نجد الله يحمل السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع فيقول : أنا الملك فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله عليه الصلاة والسلام (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الآية ، والمتأولون يتأولون الأصابع على الاقتدار وعدم الكلفة كما في قول القائل : أقتل زيدا بأصبعي ، ويبعد ذلك ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن عباد قال : مر يهودي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس قال : كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه وأشار بالسبابة والأرضين على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه؟ كل ذلك يشير بأصابعه فأنزل الله تعالى (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وجعل بعض المتأولين الإشارة إعانة على التمثيل والتخييل. وزعم بعضهم أن الآية نزلت ردا لليهودي حيث شبه وذهب إلى التجسيم وإن ضحكه عليه الصلاة والسلام المحكي في الخبر السابق كان للرد أيضا وأن «تصديقا له» في الخبر من كلام الراوي على ما فهم ، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر جدا ، وجعلوا أيضا من باب الإعانة على التمثيل وتخييل العظمة فعله عليه الصلاة والسلام حين قرأ هذه الآية ، فقد أخرج الشيخان والنسائي وابن ماجة وجماعة عن ابن عمر «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول هكذا بيده ويحركها يقبل بها ويدبر يمجد الرب نفسه أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم فرجف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنبر حتى قلنا ليخرّن به» وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى ابن عمر كيف يحكي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يأخذ الله تعالى سماواته وأرضيه بيديه ويقول : أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك».

وفي شرح الصحيح للإمام النووي نقلا عن المازري أن قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصابعه وبسطها تمثيل لقبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها وحكاية للمبسوط المقبوض وهو السماوات والأرضون لا إشارة إلى القبض والبسط الذي هو صفة للقابض والباسط سبحانه وتعالى ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليست بجارحة انتهى ، ثم إنّ ظاهر بعض الأخبار يقتضي أن قبض الأرض بعد طي السماوات وأنه بيد أخرى. أخرج مسلم عن ابن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يطوي الله تعالى السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول : أين الجبارون أين المتكبرون؟» وفي الشرح نقلا عن المازري أيضا أن إطلاق اليدين لله تعالى متأول على القدرة ، وكني عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه ليكون أوضح وأؤكد في النفوس ، وذكر اليمين والشمال حتى يتم التأول لأنا نتناول باليمين ما نكرمه وبالشمال ما دونه ولأن اليمين في حقنا تقوى لما لا تقوى له الشمال ، ومعلوم أن السماوات أعظم من الأرض فأضافها إلى اليمين وأضاف الأرضين إلى الشمال ليظهر التقريب في الاستعارة وإن كان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بأن شيئا أخف عليه من شيء ولا أثقل من شيء انتهى. والصوفية يقولون بالتجلي الصوري مع بقاء الإطلاق والتنزيه المدلول عليه بليس كمثله شيء ، والأمر عليه سهل جدا. ثم إنّ التصرف في الأرض والسماوات يكون والناس على الصراط كما جاء في خبر رواه مسلم عن عائشة مرفوعا ، وروي أيضا عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة» والكلام في هذا الخبر كالكلام في نظائره ، وإياك من التشبيه والتجسيم ، وكذا من نسبة ذلك إلى السلف ولا تك كالمعتزلة في التحامل عليهم والوقيعة فيهم ، ويكفي دليلا على جهل المعتزلة بربهم زعمهم أنه عزوجل فوض العباد فهم يفعلون ما لا يشاء

٢٨١

ويشاء ما لا يفعلون (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي أبعد من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم أو عما يشركونه من الشركاء ـ فسبحان ـ للتعجب وتتعلق به (عن) بالتأويل بما ذكر و (ما) تحتمل المصدرية والموصولية (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) المشهور أن النافخ فيه ملك واحد وأنه إسرافيل عليه‌السلام بل حكى القرطبي الإجماع عليه. وفي حديث أخرجه ابن ماجة والبزار وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أن النافخ اثنان ، ويدل عليه أيضا أخبار أخر ، منها ما أخرجه أحمد. والحاكم عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «النافخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا» وفي بعض الآثار ما يدل على أنه واحد وأنه شاخص ببصره أي إسرافيل عليه‌السلام ما طرف منذ خلقه الله تعالى ينتظر حتى يشير إليه فينفخ في الصور. والصور قرن عظيم فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة. وأخرج أبو الشيخ عن وهب أنه من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة به ثقب دقيقة بعدد الأرواح وفي وسطه كوة كاستدارة السماء والأرض ونحن نؤمن به ونفوض كيفيته إلى علام الغيوب جل شأنه. وأنكر بعضهم ذلك وقال : هو جمع صورة كما في قراءة قتادة وزيد بن علي «في الصور» بفتح الواو وقد مر الكلام في ذلك ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع ، وبني الفعل للمفعول لعدم تعلق الغرض بالفاعل بل الغرض إفادة هذا الفعل من أي فاعل كان فكأنه قيل : ووقع النفخ في الصور (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي ماتوا بسبب ذلك ، ويحتمل أنهم يغشى عليهم أولا ثم يموتون ، ففي الأساس صعق الرجل إذا غشي عليه من هدة أو صوت شديد يسمعه وصعق إذا مات. وفي صحيح مسلم من حديث طويل فيه ذكر الدجال «ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس» وقرئ «فصعق» بضم الصاد (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) قال السدي : جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت عليهم‌السلام ، وقيل : هم وحملة العرش فإنهم يموتون بعد ، وفي ترتيب موتهم اضطراب مذكور في الدر المنثور ، وقيل : رضوان والحور ومالك والزبانية وروي ذلك عن الضحاك ، وقيل : من مات قبل ذلك أي يموت من في السماوات والأرض إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا ؛ قال في البحر : وهذا نظير (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦] ومن الغريب ما حكي فيه أن المستثنى هو الله عزوجل ، ولا يخفى عليك حاله متصلا كان الاستثناء أم منقطعا ، وقيل : هو موسى عليه‌السلام وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في تحقيق ذلك ، وقيل غير ذلك.

ويراد بالسماوات على أكثر الأقوال جهة العلو وإلا لم يتصل الاستثناء فإن حملة العرش مثلا ليسوا في السماوات بالمعنى المعروف ، وقيل : إنه لم يرد في التعيين خبر صحيح (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ) أي في الصور وهو ظاهر في أنه ليس بجمع وإلا لقيل فيها (أُخْرى) أي نفخة أخرى ، وهو يدل على أن المراد بالأول ونفخ في الصور نفخة واحدة كما صرح به في مواضع لأن العطف يقتضي المغايرة فلو أريد المطلق الشامل للأخرى لم يكن لذكرها هاهنا وجه ، و (أُخْرى) تحتمل النصب على أنها صفة مصدر مقدر أي نفخة أخرى ، والرفع على أنها صفة لنائب الفاعل ، وعلى الأول كان النائب عنه الظرف. وصح في صحيحي البخاري ومسلم أن الله تعالى ينزل بين النفختين ماء من السماء. جاء في بعض الروايات أنه كالطل بالمهملة وفي بعضها كمني الرجال فتلبث منه أجساد الناس وإن بين النفختين أربعين وهذا عن أبي هريرة مرفوعا ولم يبين فيه ما هذه الأربعون.

وفي حديث أخرجه أبو داود أنها أربعون عاما ، وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن العاص (١) قال : ينفخ في

__________________

(١) قوله عبد الله بن العاص هكذا في خط المؤلف وفي الدر المنثور «عبد الله بن العاصي» ولعله عبد الله بن عمرو بن العاص.

٢٨٢

الصور النفخة الأولى من باب إيلياء الشرقي أو قال الغربي والنفخة الثانية من باب آخر (فَإِذا هُمْ قِيامٌ) قائمون من قبورهم (يَنْظُرُونَ) أي ينتظرون ما يؤمرون أو ينتظرون ما ذا يفعل بهم ، وقيل : يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم. وتعقب بأن قولهم عند قيامهم (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) يأباه ظاهرا نوع إباء.

وجوز أن يكون قيام من القيام مقابل الحركة أي فإذا هم متوقفون جامدون في أمكنتهم لتحيرهم. واعترض بأن قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) [يس : ٥١] ظاهر في خلافه لأن النسل الإسراع في المشي ، وكذا قوله تعالى : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) [المعارج : ٤٣] وقرأ زيد بن علي «قياما» بالنصب على أن جملة (يَنْظُرُونَ) خبرهم «وقياما» حال من ضمير (يَنْظُرُونَ) قدم للفاصلة ، أو من المبتدأ عند من يجوز ذلك. وفي البحر النصب على الحال وخبر المبتدأ الظرف الذي هو (إذا) الفجائية وهي حال لا بد منها إذ هي محط الفائدة إلا أن يقدر الخبر محذوفا أي فإذا هم مبعوثون أو موجودون قياما ، وإذا نصب «قياما» على الحال فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف إن قلنا به وإلا فالعامل هو العامل في الظرف فإن كان (إذا) ظرف مكان على ما يقتضيه ظاهر كلام سيبويه فتقديره فبالحضرة هم قياما ، وإن كان ظرف زمان كما ذهب إليه الرياشي فتقديره ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه هم أي وجودهم ، واحتيج إلى تقديره هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة ، وإن كانت (إذا) حرفا كما زعم الكوفيون فلا بد من تقدير الخبر إلا أن اعتقدنا أن (يَنْظُرُونَ) هو الخبر ويكون عاملا في الحال انتهى. ولعمري إنّ مذهب الكوفيين أقل تكلفا ، هذا وهاهنا إشكال بناء على أنهم فسروا نفخة الصعق بالنفخة الأولى التي يموت بها من بقي على وجه الأرض. فانه قد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وغيرهم عن أبي هريرة قال : «قال رجل من اليهود بسوق المدينة : والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه قال : أتقول هذا وفينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام فقال : قال الله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) فأكون أول من يرفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله تعالى» وهو يأبى تفسير النفخة بذلك ضرورة أن موسى عليه‌السلام قد مات قبل تلك النفخة بألوف سنين ، واحتمال أنه عليه‌السلام لم يمت كما قيل في الخضر وإلياس مما لا ينبغي أن يتفوه به حي ، ويدل كما قال بعض الأجلة : على أنها نفخة البعث.

وقال القاضي عياض : يحتمل أن تكون هذه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السماوات فتتوافق الآيات والأحاديث وتكون النفخات ثلاثا وهو اختيار ابن العربي. ورده القرطبي بأن أخذ موسى عليه‌السلام بقائمة العرش إنما هو عند نفخة البعث وادعى أن الصحيح أن ليس إلا نفختان لا ثلاث ولا أربع كما قيل.

ثم قال : والذي يزيح الإشكال ما قال بعض مشايخنا : إن الموت ليس بعدم محض بالنسبة للأنبياء عليهم‌السلام والشهداء فإنهم موجودون أحياء وإن لم نرهم فإذا نفخت نفخة الصعق صعق كل من في السماء والأرض وصعقة غير الأنبياء موت وصعقتهم غشي فإذا كانت نفخة البعث عاش من مات وأفاق من غشى عليه ، ولذا وقع في الصحيحين فأكون أول من يفيق انتهى ، ولا يخفى أنه يحتاج إلى القول بجواز استعمال المشترك في معنييه معا أو إلى ارتكاب عموم المجاز أو التزام إرادة غشي عليهم وأن موت من يموت بعد الغشي مفاد من أمر آخر فتدبر.

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ

٢٨٣

زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٧٥)

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ) أي أرض المحشر وهي الأرض المبدلة من الأرض المعروفة. وفي الصحيح يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد وهي أوسع بكثير من الأرض المعروفة. وفي بعض الروايات أنها يومئذ من فضة ولا يصح ، أي أضاءت (بِنُورِ رَبِّها) هو على ما روي عن ابن عباس نور يخلقه الله تعالى بلا واسطة أجسام مضيئة كشمس وقمر ، واختاره الإمام وجعل الإضافة من باب (ناقَةُ اللهِ) [الأعراف : ٧٣ ، هود : ٦٤ ، الشمس : ١٣] وعن محيي السنة تفسيره بتجلي الرب لفصل القضاء ، وعن الحسن والسدي تفسيره بالعدل وهو من باب الاستعارة وقد استعير لذلك وللقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل أي وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ويبسطه سبحانه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات ، واختار هذا الزمخشري وصحح أولا تلك الاستعارة بتكررها في القرآن العظيم ، وحققها ثانيا بقوله : وينادي على ذلك إضافته إلى اسمه تعالى لأنه عزوجل هو الحق العدل إشارة إلى الصارف إلى التأويل ، وعينها ثالثها بإضافة اسمه تعالى الرب إلى الأرض لأن العدل هو الذي يتزين به الأرض لا البرهان مثلا ، ورابعا بما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق لأنه كله تفصيل العدل بالحقيقة ، وأيدها خامسا بالعرف العام فإن الناس يقولون للملك العادل : أشرقت الآفاق بعد لك وأضاءت الدنيا بقسطك ، وسادسا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الظلم ظلمات يوم القيامة» فإنه يقتضي أن يكون العدل نورا فيه ، وسابعا بأن فتح الآية وختمها بنفي الظلم يدل عليه ليكون من باب رد العجز على الصدر على طريقة الطرد والعكس. ورجح ما اختاره الإمام بأن الأصل الحقيقة ولا صارف لأن الإضافة تصح بأدنى ملابسة ، وأيد ما حكي عن محيي السنة ببعض الأحاديث.

وتعقب ذلك صاحب الكشف فقال : إن إضافة الملابسة مجاز (١) والترجيح لما اختاره جار الله لما ذكر من الفوائد ولأنه الشائع في استعمال القرآن ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] وأما تجلي الرب سبحانه فسواء حمل على تجلي الجلال أو تجلي الجمال لا يقتضي إشراق الأرض بنور إلا بأحد المعنيين أعني العدل أو عرضا يخلقه الله تعالى عند التجلي في الأرض فلو توهم من تجليه تعالى أنه ينعكس نور منه على الأرض لاستحال إلا بالتفسير المذكور فليس قولا ثالثا لينصر ويؤيد بالحديث الذي لا يدل على أنه تفسير الآية

__________________

(١) هو اختيار لأحد قولين في المسألة اه منه. «تم الجزء الرابع والعشرون ويليه الجزء الخامس والعشرون وأوله إليه يرد علم الساعة» إلخ.

٢٨٤

المشتمل على حديث الرؤية وإلقاء ستره تعالى على العبد يذكر ما فعل به وما جنى انتهى ، ولعل الأوفق بما يشعر به كثير من الأخبار أن قوله سبحانه : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) إشارة إلى تجليه عزوجل لفصل القضاء وقد يعبر عنه بالإتيان ، وقد صرح به في قوله تعالى : (يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) [البقرة : ٢١٠] ولم يتأول ذلك السلف بل أثبتوه له سبحانه كالنزول على الوجه الذي أثبته عزوجل لنفسه.

ولا يبعد أن يكون هذا النور هو النور الوارد في الحديث الصحيح «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور» ويقال فيه كالحجاب نحو ما قال السلف في سائر المتشابهات أو هو نور آخر يظهر عند ذلك التجلي ، ولا أقول : هو نور منعكس من الذات المقدس انعكاس نور الشمس مثلا من الشمس بل الأمر فوق ما تنتهي إليه العقول ، وأنى وهيهات وكيف ومتى يتصور إلى حقيقة ذلك الوصول ، ويومئ إلى أن ذلك التجلي مقرون بالعدل التعبير بعنوان الربوبية مضافا إلى ضمير الأرض والله تعالى أعلم بمراده. وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير وأبو الجوزاء (أَشْرَقَتِ) بالبناء للمفعول ؛ قال الزمخشري : من شرقت بالضوء تشرق إذا امتلأت به واغتصت وأشرقها الله تعالى كما تقول : ملأ الأرض عدلا وطبقها عدلا ، وقال ابن عطية : هذا إنما يترتب من فعل يتعدى فهذا على أن يقال : أشرق البيت وأشرقه السراج فيكون الفعل مجاوزا وغير مجاوز ، وقال صاحب اللوامح وجب أن يكون الإشراق على هذه القراءة منقولا من شرقت الشمس إذا طلعت فيصير متعديا والمعنى أذهبت ظلمة الأرض ، ولا يجوز أن يكون من أشرقت إذا أضاءت فإن ذلك لازم وهذا قد يتعدى إلى المفعول (وَوُضِعَ الْكِتابُ) قال السدي الحساب ، فالكتاب مجاز عن الحساب ووضعه ترشيح له ، والمراد به الشروع فيه ويجوز جعل الكلام تمثيلا.

وقال بعضهم : صحائف الأعمال وضعت بأيدي العمال فالتعريف للجنس أو الاستغراق ، وقيل : اللوح المحفوظ وضع ليقابل به الصحائف فالتعريف للعهد ، وروي هذا القول عن ابن عباس ، واستبعده أبو حيان وقال : لعله لا يصح عن ابن عباس (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) قيل ليسألوا هل بلغوا أممهم؟ وقيل : ليحضروا حسابهم (وَالشُّهَداءِ) قال عطاء ومقاتل وابن زيد : الحفظة ، وكأنهم أرادوا أنهم يشهدون على كل من الأمم أنهم بلغوا أو يشهدون على كل بعمله كما قال سبحانه : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق : ٢١] وفي بعض الآثار أنه يؤتى باللوح المحفوظ وهو يرتعد فيقال له : هل بلغت إسرافيل؟ فيقول : نعم يا رب بلغته فيؤتى بإسرافيل وهو يرتعد فيقال له : هل بلغك اللوح؟ فيقول : نعم يا رب فعند ذلك يسكن روع اللوح ثم يقال لإسرافيل فأنت هل بلغت جبرائيل؟ فيقول : نعم يا رب فيؤتى بجبرائيل وهو يرتعد فيقال له : هل بلغك إسرافيل؟ فيقول : نعم يا رب فعند ذلك يسكن روع إسرافيل ثم يقال لجبرائيل : فأنت هل بلغت؟ فيقول : نعم يا رب فيؤتى بالمرسلين وهم يرتعدون فيقال لهم : هل بلغكم جبرائيل؟ فيقولون : نعم فيسكن عند ذلك روع جبرائيل ثم يقال لهم : فأنتم هل بلغتم؟ فيقولون : نعم فيقال للأمم : هل بلغكم الرسل؟ فيقول كفرتهم : ما جاءنا من بشير ولا نذير فيعظم على الرسل الحال ويشتد البلبال فيقال لهم : من يشهد لكم؟ فيقولون : النبي الأمي وأمته فيؤتى بالأمة المحمدية فيشهدون لهم أنهم بلغوا فيقال لهم : من أين علمتم ذلك؟ فيقولون : من كتاب أنزله الله تعالى علينا ذكر سبحانه فيه أن الرسل بلغوا أممهم ويزكيهم النبي عليه الصلاة والسلام وذلك قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] ومن هنا قيل : المراد بالشهداء في الآية أمة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الجبائي وأبو مسلم هم عدول الآخرة يشهدون للأمم وعليهم ، وقيل : جميع الشهداء من الملائكة وأمة محمد عليه الصلاة والسلام والجوارح والمكان ، وأيا ما كان فالشهداء جمع

٢٨٥

شاهد ، وقال قتادة والسدي : المراد بهم المستشهدون في سبيل الله تعالى فهو جمع شهيد وليس بذاك (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي بين العباد المفهوم من السياق (بِالْحَقِ) بالعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد بناء على أن الظلم حقيقة لا يتصور في حقه تعالى فإن الأمر كله له عزوجل.

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي أعطيت جزاء ذلك كاملا (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) فلا يفوته سبحانه شيء من أعمالهم ، وقوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) إلخ تفصيل للتوفية وبيان لكيفيتها ، والفاء ليس بلازم ، والسوق يقتضي الحث على المسير بعنف وإزعاج وهو الغالب ويشعر بالإهانة وهو المراد هنا أي سيقوا إليها بالعنف والإهانة أفواجا متفرقة بعضها في أثر بعض مترتبة حسب ترتب طبقاتهم في الضلالة والشرارة ، والزمر جمع زمرة قال الراغب : هي الجماعة القليلة : ومنه قيل شاة زمرة قليلة الشعر ورجل زمر قليل المروءة ، ومنه اشتق الزمر ، والزمارة كناية عن الفاجرة ، وقال بعضهم : اشتقاق الزمرة من الزمر وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) ليدخلوها وكانت قبل مجيئهم غير مفتوحة فهي كسائر أبواب السجون لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين يسجنون فيها فتفتح ليدخلوها فإذا دخلوها أغلقت عليهم ، و (حَتَّى) هي التي تحكى بعدها الجملة ، والكلام على إذا الواقعة بعدها قد مر في الأنعام. وقرأ غير واحد «فتحت» بالتشديد (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) على سبيل التقريع والتوبيخ (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي من جنسكم تفهمون ما ينبئونكم به ويسهل عليكم مراجعتهم.

وقرأ ابن هرمز «تأتكم» بتاء التأنيث ، وقرئ «نذر منكم» (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) المنزلة لمصلحتكم (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي وقتكم هذا وهو وقت دخولكم النار لأن المنذر به في الحقيقة العذاب ووقته ، وجوز أن يراد به يوم القيامة والآخرة لاشتماله على هذا الوقت أو على ما يختص بهم من عذابه وأهواله ، ولا ينافيه كونه في ذاته غير مختص بهم ؛ والإضافة لامية تفيد الاختصاص لأنه يكفي للاختصاص ما ذكر ، نعم الأول أظهر فيه. واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل الشرع لأنهم وبخوهم بكفرهم بعد تبليغ الرسل للشرائع وإنذارهم ولو كان قبح الكفر معلوما بالعقل دون الشرع لقيل. ألم تعلموا بما أودع الله تعالى فيكم من العقل قبح كفركم ، ولا وجه لتفسير الرسل بالعقول لإباء الأفعال المستندة إليها عن ذلك ، نعم هو دليل إقناعي لأنه إنما يتم على اعتبار المفهوم وعموم الذين كفروا وكلاهما محل نزاع ، وقيل في وجه الاستدلال : إن الخطاب للداخلين عموما يقتضي أنهم جميعا أنذرهم الرسل ولو تحقق تكليف قبل الشرع لم يكن الأمر كذلك. وتعقب بأن للخصم أن لا يسلم العموم ، ولمن قال بوجوب الإيمان عقلا أن يقول : إنما وبخوهم بالكفر بعد التبليغ لأنه أبعد عن الاعتذار وأحق بالتوبيخ والإنكار (قالُوا بَلى) قد أتانا رسل منا تلوا علينا آيات ربنا وأنذرونا لقاء يومنا هذا (وَلكِنْ حَقَّتْ) أي وجبت (كَلِمَةُ الْعَذابِ) أي كلمة الله تعالى المقتضية له (عَلَى الْكافِرِينَ) والمراد بها الحكم عليهم بالشقاوة وأنهم من أهل النار لسوء اختيارهم أو قوله تعالى لإبليس : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٥] ووضعوا الكافرين موضع ضميرهم للإيماء إلى عليّة الكفر ، والكلام اعتراف لا اعتذار (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي مقدرا خلودكم فيها ، والقائل يحتمل أن يكون الخزنة وترك ذكرهم للعلم به مما قبل ، ويحتمل أن يكون غيرهم ولم يذكر لأن المقصود ذكر هذا المقول المهول من غير نظر إلى قائله ؛ وقال بعض الأجلة : أبهم القائم لتهويل المقول.

(فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أل فيه سواء كانت حرف تعريف أم اسم موصول للجنس وفاء بحق فاعل باب نعم وبئس والمخصوص بالذم محذوف ثقة بذكره آنفا أي فبئس مثواهم جهنم والتعبير بالمثوى لمكان (خالِدِينَ) وفي

٢٨٦

التعبير بالمتكبرين إيماء إلى أن دخولهم النار لتكبرهم عن قبول الحق والانقياد للرسل المنذرين عليهم الصلاة والسلام وهو في معنى التعليل بالكفر ، ولا ينافي تعليل ذلك بسبق كلمة العذاب عليهم لأن حكمه تعالى وقضاءه سبحانه عليهم بدخول النار ليس إلا بسبب تكبرهم وكفرهم لسوء اختيارهم المعلوم له سبحانه في الأزل ، وكذا قوله عزوجل لأملأن فهناك سببان قريب وبعيد والتعليل بأحدهما لا ينافي التعليل بآخر فتذكر وتدبر.

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) جماعات مرتبة حسب ترتب طبقاتهم في الفضل ، وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد ذلك منازل» والمراد بالسوق هنا الحث على المسير للإسراع إلى الإكرام بخلافه فيما تقدم فإنه لإهانة الكفرة وتعجيلهم إلى العقاب والآلام واختير للمشاكلة ، وقوله سبحانه : (إِلَى الْجَنَّةِ) يدفع إيهام الإهانة مع أنه قد يقال : إنهم لما أحبوا لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءهم فلذا حثوا على دخول دار كرامته جل شأنه قاله بعض الأجلة ، واختار الزمخشري أن المراد هنا بسوقهم سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين ، وهذا السوق والحث أيضا للإسراع بهم إلى دار الكرامة.

وتعقب بأنه لا قرينة على إرادة ذلك وكون جميع المتقين لا يذهب بهم إلا راكبين يحتاج إلى دليل ، والاستدلال بقوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) [مريم : ٨٥] لا يتم إلا على القول بأن الوفد لا يكونون إلا ركبانا وأن الركوب يستمر لهم إلى أن يدخلوا الجنة ، وفي الكشف أنه تفسير ظاهر يؤيده الأحاديث الكثيرة ويناسب المقام لأن السوقين بعد فصل القضاء واللطف الخالص في شأن البعض والقهر الخالص في شأن البعض ولا ينافي مقام عظمة مالك الملوك على ما توهم انتهى ، وأقول : إن حمل الذين اتقوا على المخلصين فالقول بركوبهم قول قوي وإن حمل على المحترز عن الشرك خاصة ليشمل المخلصين فالقول بذلك قول ضعيف إذ منهم من لا يدخل الجنة إلا بعد أن يدخل النار ويعذب فيها ، وظاهر كثير من الأخبار أن من هذا الصنف من يذهب إلى الجنة مشيا.

ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو أخرى وتسفعه النار مرة فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله تعالى شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول : أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها فأشرب من مائها فيقول الله تعالى : يا ابن آدم لعلي أن أعطيتكها سألتني غيرها فيقول : لا يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه» الحديث ، وقال بعض العارفين : إن المتقين يساقون إلى الجنة لأنهم قد رأوا الله تعالى في المحشر فلرغبتهم في رؤيته عزوجل ثانيا لا يحبون فراق ذلك الموطن الذي رأوه فيه ولشدة حبهم وشغفهم لا يكاد يخطر لهم أنهم سيرونه سبحانه إذا دخلوا الجنة ، والمحبة إذا عظمت فعلت بصاحبها أعظم من ذلك وأعظم فكأنها غلبتهم حتى خيلت إليهم أن ذلك الموطن هو الموطن الذي يرى فيه عزوجل وهو محل تجليه على محبيه جل جلاله وعظم نواله فأحجموا عن المسير ووقفوا منتظرين رؤية اللطيف الخبير وغدا لسان حال كل منهم يقول :

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي

متأخر عنه ولا متقدم

ويدل على رؤيتهم إياه عزوجل هناك ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : «إن أناسا قالوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا : لا قال : فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من يعبد الشمس الشمس ويتبع من يعبد القمر القمر ويتبع من يعبد الطواغيت

٢٨٧

الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم» الحديث، ومع هذا فسوقهم ليس كسوق الذين كفروا كما لا يخفى.

وقيل : السائق للكفرة ملائكة الغضب والسائق للمتقين شوقهم إلى مولاهم فهو سبحانه لهم غاية الإرب ، وليست الجنة عندهم هي المقصودة بالذات ولا مجرد الحلول بها أقصى اللذات وإنما هي وسيلة للقاء محبوبهم الذي هو نهاية مطلوبهم (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) وقرئ بالتشديد ، والواو وللحال والجملة حالية بتقدير قد على المشهور أي جاءوها وقد فتحت لهم أبوابها كقوله تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) [ص : ٥٠] ويشعر ذلك بتقدم الفتح كأن خزنة الجنات فتحوا أبوابها ووقفوا منتظرين لهم ، وهذا كما تفتح الخدم باب المنزل للمدعو للضيافة قبل قدومه وتقف منتظرة له ، وفي ذلك من الاحترام والإكرام ما فيه ، والظاهر أن قوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) إلخ عطف على (فُتِحَتْ أَبْوابُها) وجواب (إِذا) محذوف مقدر بعد (خالِدِينَ) للإيذان بأن لهم حينئذ من فنون الكرامات ما لا يحيط به نطاق العبارات كأنه قيل : إذا جاءوها مفتحة لهم أبوابها وقال لهم خزنتها (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي من جميع المكاره والآلام وهو يحتمل الإخبار والإنشاء.

(طِبْتُمْ) أي من دنس المعاصي ، وقيل : طبتم نفسا بما أتيح لكم من النعيم المقيم ، والأول مروي عن مجاهد وهو الأظهر ، والجملة في موضع التعليل (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) أي مقدرين الخلود كان ما كان مما يقصر عنه البيان أو فازوا بما لا يعد ولا يحصى من التكريم والتعظيم ، وقدره المبرد سعدوا بعد (خالِدِينَ) أيضا ، ومنهم من قدره قبل (وَفُتِحَتْ) أي حتى إذا جاءوها جاءوها وقد فتحت وليس بشيء ، ومنهم من قدره نحو ما قلنا قبل (وَقالَ) وجعل جملة «قال» إلخ معطوفة عليه ، وما تقدم أقوى معنى وأظهر.

وقال الكوفيون : واو (وَفُتِحَتْ) زائدة والجواب جملة (فُتِحَتْ) وقيل : الجواب (قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) والواو زائدة ، والمعول عليه ما ذكرنا أولا وبه يعلم وجه اختلاف الجملتين أعني قوله تعالى في أهل النار : (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) وقوله جل شأنه في أهل الجنة : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) حيث جيء بواو في الجملة الثانية وحذف الجواب ولم يفعل كذلك في الجملة الأولى ، فما قيل : إن الواو في الثانية واو الثمانية لأن المفتح ثمانية أبواب ولما كانت أبواب النار سبعة لا ثمانية لم يؤت بها وجه ضعيف لا يعول عليه.

واستدل المعتزلة بقوله : (طِبْتُمْ فَادْخُلُوها) حيث رتب فيه الأمر بالدخول على الطيب والطهارة من دنس المعاصي على أن أحدا لا يدخل الجنة إلا وهو طيب طاهر من المعاصي إما لأنه لم يفعل شيئا منها أو لأنه تاب عما فعل توبة مقبولة في الدنيا. ورد بأنه وإن دل على أن أحدا لا يدخلها إلا وهو طيب لكن قد يحصل ذلك بالتوبة المقبولة وقد يكون بالعفو عنه أو الشفاعة له أو بعد تمحيصه بالعذاب فلا متمسك فيها للمعتزلة.

وقيل : المراد بالذين اتقوا المحترزون عن الشرك خاصة فطبتم على معنى طبتم عن دنس الشرك ولا خلاف في أن دخول الجنة مسبب عن الطيب والطهارة عنه. وتعقب بأن ذاك خلاف الظاهر لأن التقوى في العرف الغالب تقع على أخص من ذلك لا سيما في معرض الإطلاق والمدح بما عقبه من قوله تعالى : (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) فتدبر (وَقالُوا) عطف على (قالَ) أو على الجواب المقدر بعد (خالِدِينَ) أو على مقدر غيره أي فدخلوها وقالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) بالبعث والثواب (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) يريدون المكان الذي استقروا فيه فإن كانت

٢٨٨

أرض الآخرة التي يمشي عليها تسمى أرضا حقيقة فذاك وإلا فإطلاقهم الأرض على ذلك من باب الاستعارة تشبيها له بأرض الدنيا ، والظاهر الأول ، وحكي عن قتادة وابن زيد والسدي أن المراد أرض الدنيا وليس بشيء ، وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه بناء على أنه لا ملك في الآخرة لغيره عزوجل وإنما هو إباحة التصرف والتمكين مما هو ملكه جل شأنه ، وقيل : ورثوها من أهل النار فإن لكل منهم مكانا في الجنة كتب له بشرط الإيمان.

(نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي يتبوأ كل منا في أي مكان أراده من جنته الواسعة لا أن كلا منهم يتبوأ في أي مكان من مطلق الجنة أو من جنات غيره المعينة لذلك الغير ، فلا يقال : إنه يلزم جواز تبوء الجميع في مكان واحد وحدة حقيقة وهو محال أو أن يأخذ أحدهم جنة غيره وهو غير مراد ، وقيل : الكلام على ظاهره ولكل منهم أن يتبوأ في أي مكان شاء من مطلق الجنة ومن جنات غيره إلا أنه لا يشاء غير مكانه لسلامة نفسه وعصمة الله تعالى له عن تلك المشيئة ، وقال الإمام : قالت حكماء الإسلام : إن لكلّ جنتين جسمانية وروحانية ومقامات الثانية لا تمانع فيها فيجوز أن يكون في مقام واحد منها ما لا يتناهى من أربابها ، وهذه الجملة حالية فالمعنى أورثنا مقامات الجنة حالة كوننا نسرح في منازل الأرواح كما نشاء.

وقد قال بعض متألهي الحكماء : الدار الضيقة تسع ألف ألف من الأرواح والصور المثالية التي هي أبدان المتجردين عن الأبدان العنصرية لعدم تمانعها كما قيل :

سم الخياط مع الأحباب ميدان

وفسر المقام الروحاني بما تدركه الروح من المعارف الإلهية وتشاهده من رضوان الله تعالى وعنايته القدسية مما لا عين رأت ولا أذن سمعت.

وتعقب بأن هذا إن عد من بطون القرآن العظيم فلا كلام وإلا فحمل الجنة على مثل ذلك مما لا تعرفه العرب ولا ينبغي أن يفسر به ، على أنه ربما يقال : يرد عليه أنه يقتضي أن لكل أحد أن يصل إلى مقام روحاني من مقاماتها مع أن منها ما يخص الأنبياء المكرمين والملائكة المقربين ، والظاهر أنه لا يصل إلى مقاماتهم كل أحد من العارفين فافهم ولا تغفل (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) من كلام الداخلين عند الأكثر والمخصوص بالمدح محذوف أي هذا الأجر أو الجنة ، ولعل التعبير ـ بأجر العاملين ـ دون أجرنا للتعريض بأهل النار أنهم غير عاملين ، وقال مقاتل : هو من كلام الله تعالى (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ) أي محدقين من الحفاف بمعنى الجانب جمع حاف كما قال الأخفش ، وقال الفراء : لا يفرد فقيل : أراد أن المفرد لا يكون حافا إذ الإحداق والإحاطة لا يتصور بفرد وإنما يتحقق بالجمع ، وقيل : أراد أنه لم يرد استعمال مفرده. وأورد على الأول أن الإحاطة بالشيء بمعنى محاذاة جميع جوانبه فتصور في الواحد بدورانه حول الشيء فإنه حينئذ يحاذي جميع جوانبه تدريجا فيكون الحفوف بمعنى الدوران حوله أو يراد بكونه حافا أنه جزء من الحاف وله مدخل في الحفوف ، ولو صح ما ذكر لم يصح أن يقال : طائف أو محدق أو محيط أو نحوه مما يدل على الإحاطة. وأورد على الثاني أنا لم نجد ورود جمع سالم لم يرد استعمال مفرده فبعد ورود حافين الظاهر ورود حاف كما لا يخفى ، والخطاب لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجوز أن يكون لكل من تصح منه الرؤية كأنه قيل : وترى أيها الرائي الملائكة حافين (مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) أي حول العرش على أن (مِنَ) مزيدة على رأي الأخفش وهو الأظهر ، وقيل : هي للابتداء ـ فحول العرش ـ مبتدأ الحفوف وكأن الحفوف حينئذ للخلق ، وفي بعض الآثار ما هو ناطق بذلك ، وفيها ما يدل على أن العرش يوم فصل القضاء يكون في الأرض حيث يشاء الله تعالى والأرض يومئذ غير هذه الأرض ،

٢٨٩

على أن أحوال يوم القيامة وشئون الله تعالى وراء عقولنا وسبحان من لا يعجزه شيء ، والظاهر أن الرؤية بصرية ـ فحافين ـ حال أولى وقوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) حال ثانية ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير (حَافِّينَ) المستتر ، وجوز كون الرؤية علمية ـ فحافين ـ مفعول ثاني وجملة (يُسَبِّحُونَ) حال من (الْمَلائِكَةَ) أو من ضميرهم في (حَافِّينَ) والباء في (بِحَمْدِ) للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ينزهونه تعالى عما لا يليق به ملتبسين بحمده ، وحاصله يذكرون الله تعالى بوصفي جلاله وإكرامه تبارك وتعالى ، وهذا الذكر إما من باب التلذذ فإن ذكر المحبوب من أعظم لذائذ المحب كما قيل :

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبا لذكرك فليلمني اللوّم

أو من باب الامتثال ويدعي أنهم مكلفون ، ولا يسلم أنهم خارجون عن خطة التكليف أو يخرجون عنها يوم القيامة ، نعم لا يرون ذلك كلفة وإن أمروا به. وفي حديث طويل جدا أخرجه عبد بن حميد وعلي بن سعيد في كتاب الطاعة والعصيان. وأبو يعلى وأبو الحسن القطان في المطولات. وأبو الشيخ في العظمة. والبيهقي في البعث والنشور عن أبي هريرة «فبينما نحن وقوف ـ أي في المحشر ـ إذ سمعنا حسا من السماء شديدا فينزل أهل سماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم ثم تنزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نزل من الملائكة ومثلي من فيها من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف إلى السماوات السبع ثم ينزل الجبار في ظلل من الغمام والملائكة تحمل عرشه يومئذ ثمانية وهم اليوم أربعة أقدامهم على تخوم الأرض السفلى والأرضون والسماوات إلى حجزهم والعرش على مناكبهم لهم زجل بالتسبيح فيقولون : سبحان ذي العزة والجبروت سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبحان ربنا الأعلى الذي يميت الخلائق ولا يموت فيضع عرشه حيث يشاء من الأرض ثم يهتف سبحانه بصوته فيقول عزوجل : «يا معشر الجن والإنس إني قد أنصتّ لكم منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع قولكم وأبصر أعمالكم فانصتوا إلي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» الحديث.

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي بين العباد كلهم بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار فإن القضاء المعروف يكون بينهم ، ولوضوح ذلك لا يضر كون الضمير لغير الملائكة مع أن ضمير (يُسَبِّحُونَ) لهم إذ التفكيك لا يمتنع مطلقا كما توهم ، وقيل : ضمير (بَيْنَهُمْ) للملائكة واستظهره أبو حيان ، وثوابهم وإن كانوا كلهم معصومين يكون على حسب تفاضل أعمالهم فيختلف تفاضل مراتبهم فإقامة كل في منزلته حسب عمله هو القضاء بينهم بالحق.

(وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي على ما قضى بيننا بالحق ، والقائل قيل : هم المؤمنون المقضي لهم لا ما يعمهم والمقضي عليهم ، وحمدهم الأول على إنجاز وعده سبحانه وإيراثهم الأرض يتبوءون من الجنة ما شاءوا ، وحمدهم هذا على القضاء بالحق بينهم فلا تكرار.

وقال الطيبي : إن الأول للتفصلة بين الفريقين بحسب الوعد والوعيد والسخط والرضوان ، والثاني للتفرقة بينهما بحسب الأبدان ففريق في الجنة وفريق في السعير والأول أحسن ، وقيل : هم الملائكة يحمدونه تعالى على قضائه سبحانه بينهم بالحق وإنزال كل منهم منزلته ، وعليه ليس في الحمدين شائبة تكرار لتغاير الحامدين.

وقيل : (قِيلَ) دون قالوا لتعينهم وتعظيمهم ، وجوز كون القائل جميع العباد منعمهم ومعذبهم ؛ وكأنه أريد أن

٢٩٠

الحمد من عموم الخلق المقضي بينهم هنا إشارة إلى التمام وفصل الخصام كما يقوله المنصرفون من مجلس حكومة ونحوها ، فيحمده المؤمنون لظهور حقهم وغيرهم لعدله واستراحتهم من انتظار الفصل ، ففي بعض الآثار أنه يطول الوقوف في المحشر على العباد حتى إن أحدهم ليقول : رب أرحني ولو إلى النار ، وقيل : إنهم يحمدونه إظهارا للرضا والتسليم.

وقال ابن عطية : هذا الحمد ختم للأمر يقال عند انتهاء فصل القضاء أي إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه ، ومن هذه الآية جعلت (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) خاتمة المجالس في العلم ، هذا والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على رسوله محمد خاتم النبيين وعلى آل وصحبه أجمعين.

«ومن باب الإشارة في بعض الآيات» (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي اعبده تعالى بنفسك وقلبك وروحك مخلصا ، وإخلاص العبادة بالنفس التباعد عن الانتقاص ، وإخلاص العبادة بالقلب العمى عن رؤية الأشخاص ، وإخلاص العبادة بالروح نفي طلب الاختصاص. وذكر أن المخلص من خلص بالجود عن حبس الوجود (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) فيه إشارة إلى تهديد من يدعي رتبة من الولاية ليس بصادق فيها وعقوبته حرمان تلك الرتبة (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) فيه إشارة إلى أحوال السائرين إلى الله سبحانه من القبض والبسط والصحو والسكر والجمع والفرق والستر والتجلي وغير ذلك (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) قيل : يشير إلى ظلمة الإمكان وظلمة الهيولى وظلمة الصورة (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) يشير إلى القيام بآداب العبودية ظاهرا وباطنا من غير فتور ولا تقصير (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) ونعيمها كما يحذر الدنيا وزينتها (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) رضاه سبحانه عنه وقربه عزوجل (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) قدر معبودهم جل شأنه فيطلبونه (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فيطلبون ما سواه (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) حقيقة الأمر (أُولُوا الْأَلْبابِ) وهم الذين انسلخوا من جلد وجودهم وصفوا عن شوائب أنانيتهم (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا) بي شوقا إلى (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) فلا تطلبوا غيره سبحانه (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) في طلب في هذه الدنيا بأن لم يطلبوا مني غيري (حَسَنَةٌ) عظيمة وهي حسنة وجداني (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) وهي حضرة جلاله وجماله فإنها لا نهاية لها فليسر فيها ليرى ما يرى ولا يظن بما فتح عليه انتهاء السير وانقطاع الفيض (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) على صدق الطلب (أَجْرَهُمْ) من التجليات بغير حساب إذ لا نهاية لتجلياته تعالى و (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن : ٢٩] (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بطلب ما سواه (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وهو عذاب القطيعة والحرمان (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) فلا أطلب دنيا ولا أخرى كما قيل :

وكل له سؤل ودين ومذهب

ولي أنتم سؤل وديني هواكم

(قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي الذين تبين خسران أنفسهم بإفساد استعدادها للوصول والوصال (وَأَهْلِيهِمْ) من القلوب والأسرار والأرواح بالإعراض عن طلب المولى (يَوْمَ الْقِيامَةِ) الذي تتبين فيه الحقائق (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) الذي لا خفاء فيه لفوات رأس المال وعدم إمكان التلافي ، وقال بعض الأجلة : إن للإنسان قوتين يستكمل بإحداهما علما وبالأخرى عملا ، والآلة الواسطة في القسم الأول هي العلوم المسماة بالمقدمات وترتيبها على الوجه المؤدي إلى النتائج التي هي بمنزلة الربح يشبه تصرف التاجر في رأس المال بالبيع والشراء ، والآلة في القسم العملي هو القوى البدنية وغيرها من الأسباب الخارجية المعينة عليها ، واستعمال تلك القوى في وجوه أعمال البر التي هي بمنزلة الربح يشبه التجارة ، فكل من أعطاه الله تعالى العقل والصحة والتمكين ثم إنه

٢٩١

لم يستفد منها معرفة الحق ولا عمل الخير فإذا مات ربحه وضاع رأس ماله ووقع في عذاب الجهل وألم البعد عن عالمه والقرب مما يضاده أبد الآباد ، فلا خسران فوق هذا ولا حرمان أبين منه ، وقد أشار سبحانه إلى هذا بقوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) وهذا على الأول إشارة إلى إحاطة نار الحسرة بهم (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قيل الغرف المبنية بعضها فوق بعض إشارة إلى العلوم المكتسبة المبنية على النظريات وأنها تكون في المتانة واليقين كالعلوم الغريزية البديهية (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) من سماء حضرته سبحانه أو من سماء القلب (ماءً) ماء المعارف والعلوم (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ) مدارك وقوى (فِي الْأَرْضِ) أرض البشرية (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) من الأعمال البدنية والأقوال اللسانية (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) إشارة إلى أفعال المرائين وأقوالهم ترى مخضرة وفق الشرع ثم تصفر من آفة الرياء ثم تكون حطاما لا حاصل لها إلا الحسرة (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) للانقياد إليه سبحانه (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) يستضيء به في طلبه سبحانه ، ومن علامات هذا النور محو ظلمات الصفات الذميمة النفسانية والتحلية بالأخلاق الكريمة القدسية.

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) إذا قرعت صفات الجلال أبواب قلوبهم (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) بالشوق والطلب (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) يتجاذبونه وهم شغل الدنيا وشغل العيال وغير ذلك من الأشغال (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) إشارة إلى المؤمن الخالص الذي لم يشغله شيء عن مولاه عزّ شأنه (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) يشير إلى حال الكاذبين في دعوى الولاية (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) يشير إلى حال أقوام نبذوا الشريعة وراء ظهورهم وقالوا : هي قشر والعياذ بالله تعالى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) قيل : هو سواد قلوبهم ينعكس على وجوههم (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) قيل المتقون قد عبدوا الله تعالى لله جل شأنه لا للجنة فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مطالع الجمال والجلال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة فلا جرم يفتقرون إلى السوق ، وقيل : كل خصلة ذميمة أو شريفة في الإنسان فإنها تجره من غير اختيار شاء أم أبى إلى ما يضاهي حاله فذاك معنى السوق في الفريقين ، وقيل : القوم أهل وفاء فهم يقولون : لا ندخل الجنة حتى يدخلها أحبابنا فلذا يساقون إليها ولكن لا كسوق الكفرة (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) إشارة إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مقعد صدق عند مليك مقتدر بناء على أن العرش لا يتحول (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) إشارة إلى نعيمهم (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أعطى كل ما يستحقه (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على انقضاء الأمر وفصل القضاء بالعدل الذي لا شبهة فيه ولا امتراء ، هذا والحمد لله تعالى على أفضاله والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله.

٢٩٢

سورة غافر

وتسمى سورة غافر وسورة الطول ، وهي كما روي عن ابن عباس وابن الزبير ومسروق وسمرة بن جندب مكية ، وحكى أبو حيان الإجماع على ذلك ، وعن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [غافر : ٥٥] لأن الصلوات نزلت بالمدينة وكانت الصلاة بمكة ركعتين من غير توقيت. وأنت تعلم أن الحق قول الأكثرين : إن الخمس نزلت بمكة على أنه لا يتعين إرادة الصلاة بالتسبيح في الآية ، وقيل : هي مكية إلا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ) [غافر : ٣٥] الآية فإنها مدنية ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية وغيره أنها نزلت في اليهود لما ذكروا الدجال ، وهذا ليس بنص على أنها نزلت بالمدينة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قولهم نزلت الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول : عني بهذه الآية كذا ، وقال الزركشي في البرهان : قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : نزلت الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية لا من جنس النقل لما وقع. نعم سيأتي إن شاء الله تعالى عن أبي العالية ما هو كالنص على ذلك.

وآيها خمس وثمانون في الكوفي والشامي ، وأربع في الحجازي ، واثنتان في البصري ، وقيل : ست وثمانون ، وقيل : ثمان وثمانون ، ووجه مناسبة أولها لآخر الزمر أنه تعالى لما ذكر سبحانه هناك ما يؤول إليه حال الكافر وحال المؤمن ذكر جل وعلا هنا أنه تعالى غافر الذنب وقابل التوب ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان والإقلاع عما هو فيه ، وبين السورتين أنفسهما أوجه من المناسبة ، ويكفي فيها أنه ذكر في كل من أحوال يوم القيامة وأحوال الكفرة فيه وهم في المحشر وفي النار ما ذكر ، وقد فصل في هذه من ذلك ما لم يفصل منه في تلك.

وفي تناسق الدرر وجه إيلاء الحواميم السبع لسورة الزمر تواخي المطالع في الافتتاح بتنزيل الكتاب. وفي مصحف ابن مسعود أول الزمر حم وتلك مناسبة جليلة ، ثم إن الحواميم ترتبت لاشتراكها في الافتتاح ـ بحم ـ وبذكر الكتاب وأنها مكية بل ورد عن ابن عباس وجابر بن زيد أنها نزلت عقب الزمر متتاليات كترتيبها في المصحف ، وورد في فضلها أخبار كثيرة ، أخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن عباس قال : إن لكل شيء لبابا وإن لباب القرآن الحواميم. وأخرج هو وابن الضريس وابن المنذر والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال : الحواميم ديباج القرآن. وأخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا ، وأخرج الديلمي وابن مردويه عن سمرة بن جندب مرفوعا «الحواميم روضة من رياض الجنة».

وأخرج محمد بن نصر والدارمي عن سعد بن إبراهيم قال : كن الحواميم يسمين العرائس. وأخرج ابن نصر وابن

٢٩٣

مردويه عن أنس بن مالك قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الله تعالى أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي».

وأخرج البيهقي في الشعب عن الخليل بن مرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الحواميم سبع وأبواب جهنم سبع تجيء كل (حم) منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول : اللهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرئني» وجاء في خصوص بعض آيات هذه السورة ما يدل على فضله. أخرج الترمذي والبزار ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله من قرأ (حم) إلى (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ)(١٦)

٢٩٤

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم) بتفخيم الألف وتسكين الميم ، وقرأ ابن عامر برواية ذكوان ، وحمزة والكسائي وأبو بكر بالإمالة الصريحة ، ونافع برواية ورش. وأبو عمرو بالإمالة بين بين ، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بفتح الميم على التحريم لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة كما في أين وكيف ، وجوز أن يكون ذلك نصبا بإضمار اقرأ ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه بمعنى السورة أو للعلمية وشبه العجمة لأن فاعيل ليس من أوزان أبنية العرب وإنما وجد ذلك في لغة العجم كقابيل وهابيل ، ونقل هذا عن سيبويه. وفي الكشف أن الأولى أن يعلل بالتعريف والتركيب.

وقرأ أبو السمال بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين كما في جير : والزهري برفعها والظاهر أنه إعراب فهو إما مبتدأ أو خبر مبتدأ محذوف ، والكلام في المراد به كالكلام في نظائره ، ويجمع على حواميم وحاميمات أما الثاني فقد أنشد فيه ابن عساكر في تاريخه :

هذا رسول الله في الخيرات

جاء بياسين وحاميمات

وأما الأول فقد تقدم عدة أخبار فيه ولا أظن أن أحدا ينكر صحة جميعها أو يزعم أن لفظ حواميم فيها من تحريف الرواة الأعاجم ؛ وأيضا أنشد أبو عبيدة :

حلفت بالسبع الألى تطولت

وبمئين بعدها قد أمئيت

وبثمان ثنيت وكررت

وبالطواسين اللواتي تليت

وبالحواميم اللواتي سبعت

وبالمفصل التي قد فصلت

وذهب الجواليقي والحريري وابن الجوزي إلى أنه لا يقال حواميم ، وفي الصحاح عن الفراء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب ، وحكى صاحب زاد المسير عن شيخه أبي منصور اللغوي أن من الخطأ أن تقول :

قرأت الحواميم والصواب أن تقول قرأت آل حم ، وفي حديث ابن مسعود إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن ، وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات :

وجدنا لكم في آل حم آية

تأولها منا تقي ومعرب

والطواسين والطواسيم بالميم بدل النون كذلك عندهم ، وما سمعت يكفي في ردهم. نعم ما قالوه مسموع مقبول كالذي قلناه لكن ينبغي أن يعلم أن آل في قولهم آل حم كما قال الخفاجي ليس بمعنى الآل المشهور وهو الأهل بل هو لفظ يذكر قبل ما لا يصح تثنيته وجمعه من الأسماء المركبة ونحوها كتأبط شرا فإذا أرادوا تثنيته أو جمعه وهو جملة لا يتأتى فيها ذلك إذ لم يعهد مثله في كلام العرب زادوا قبله لفظة آل أو ذوا فيقال : جاءني آل تأبط شرا أو ذوا تأبط شراف أي الرجلان أو الرجال المسمون بهذا الاسم ، فآل حم بمعنى الحواميم وآل بمعنى ذو ، والمراد به ما يطلق عليه ويستعمل فيه هذا اللفظ وهو مجاز عن الصحبة المعنوية ، وفي كلام الرضي وغيره إشارة إلى هذا إلا أنهم لم يصرحوا بتفسيره فعليك بحفظه ، وحكي في الكشف أن الأولى أن يجمع بذوات حم أي دون حواميم أو حاميمات ومعناه السور المصحوبات بهذا اللفظ أعني حم.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) الكلام فيه أعرابا كالكلام في مطلع سورة الزمر بيد أنه يجوز هنا أن يكون (تَنْزِيلُ) خبرا عن (حم) ولعل تخصيص الوصفين لما في القرآن الجليل من الإعجاز وأنواع العلوم التي يضيق عن الإحاطة بها نطاق الإفهام أو هو على نحو تخصيص الوصفين فيما سبق فإن شاء البليغ علمه بالأشياء أن يكون حكيما إلا أنه قيل (الْعَلِيمِ) دون الحكيم تفننا ، وقوله تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي

٢٩٥

الطَّوْلِ) صفات للاسم الجليل كالعزيز العليم ، وذكر (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) و (ذِي الطَّوْلِ) للترغيب وذكر (شَدِيدِ الْعِقابِ) للترهيب والمجموع للحث على المقصود من (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) وهو المذكور بعد من التوحيد والإيمان بالبعث المستلزم للإيمان بما سواهما والإقبال على الله تعالى ، والأولان منها وإن كانا اسمي فاعل إلا أنهما لم يرد بهما التجدد ولا التقييد بزمان بل أريد بهما الثبوت والاستمرار فإضافتهما للمعرفة بعدهما محضة اكسبتهما تعريفا فصح أن يوصف بهما أعرف المعارف ، والأمر في (ذِي الطَّوْلِ) ظاهر جدا. نعم الأمر في (شَدِيدِ الْعِقابِ) مشكل فإن شديدا صفة مشبهة وقد نص سيبويه على أن كل ما أضافته غير محضة إذا أضيف إلى معرفة جاز أن ينوي بإضافته التمحض فيتعرف وينعت به المعرفة إلا ما كان من باب الصفة المشبهة فإنه لا يتعرف ومن هنا ذهب الزجاج إلى أن (شَدِيدِ الْعِقابِ) بدل ، ويرد عليه أن في توسيط البدل بين الصفات تنافرا بينا لأن الوصف يؤذن بأن الموصوف مقصود والبدل بخلافه فيكون بمنزلة استئناف القصد بعد ما جعل غير مقصود ، والجواب أنه إنما يشكل ظاهرا على مذهب سيبويه وسائر البصريين القائلين بأن الصفة المشبهة لا تتعرف أصلا بالإضافة إلى المعرفة ، وأما على مذهب الكوفيين القائلين بأنها كغيرها من الصفات قد تتعرف بالإضافة ويجوز وصف المعرفة بها نحو مررت بزيد حسن الوجه فلا ، ويقال فيما ذكر على المذهب الأول : إن «شديدا» مؤول بمشدد اسم فاعل من أشده جعله شديدا كأذين بمعنى مؤذن فيعطي حكمه ، أو يقال : إنه معرف بال والأصل الشديد عقابه لكن حذفت لأمن اللبس بغير الصفة لوقوعه بين الصفات واحتمال كونه بدلا وحده لا يلتفت على ما سمعت إليه ورعاية لمشاكلة ما معه من الأوصاف المجردة منها والمقدر في حكم الموجود ، وقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل المشاكلة حتى قالوا : ما يعرف سحادليه من عنادليه أرادوا ما يعرف ذكره من أنثييه فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع ، وجوز كون جميع التوابع المذكورات أبدالا وتعمد تنكير (شَدِيدِ الْعِقابِ) وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار. وفي الكشف جعل كلها إبدالا فيه تنافر عظيم لا سيما في إبدال (الْعَزِيزِ) من (اللهِ) الاسم الجامع لسائر الصفات العلم النص وأين هذا من براعة الاستهلال؟ وذهب مكي إلى جواز كون (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) دون ما قبلهما بدلين وأنهما حينئذ نكرتان ، وقد علمت ما فيه مما تقدم ، وقال أبو حيان : إن بدل البداء عند من أثبته قد يتكرر وأما بدل كل من كل وبدل بعض من كل وبدل اشتمال فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها أو منعه إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل من البدل جائز دون تعدد البدل واتحاد المبدل منه ، وظاهر كلام الخفاجي أن النحاة صرحوا بجواز تعدده حيث قال : لا يرد على القول بالإبدال قلة البدل في المشتقات ، ولا أن النكرة لا تبدل من المعرفة ما لم توصف ، ولا أن تعدد البدل لم يذكره النحاة كما قيل لأن النحاة صرحوا بخلافه في الجميع ، وللدماميني فيه كلام طويل الذيل في أول شرح الخزرجية لا يسعه هذا المقام فإن أردته فانظر فيه انتهى.

وعندي أن الإبدال هنا ليس بشيء كلا أو بعضا ، و (التَّوْبِ) يحتمل أن يكون مصدرا كالأوب بمعنى الرجوع ويحتمل أن يكون اسم جمع لتوبة كتمر وتمرة ، و (الطَّوْلِ) الفضل بالثواب والإنعام أو بذلك وبترك العقاب المستحق كما قيل وهو أولى من تخصيصه بترك العقاب وإن وقع بعد (شَدِيدِ الْعِقابِ) وكون الثواب موعودا فصار كالواجب فلا يكون فضلا ليس بشيء فإن الوعد به ليس بواجب ، وفسره ابن عباس بالسعة والغنى ، وقتادة بالنعم ، وابن زيد بالقدرة ، وتوسيط الواو بين (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) لإفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل سبحانه توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات وأن يجعلها محاءة للذنب كأنه لم يذنب كأنه قيل : جامع المغفرة والقبول

٢٩٦

قاله الزمخشري ، ووجهه كما في الكشف أنها صفات متعاقبة بدون الواو دالة على معنى الجمع المطلق من مجرد الإجراء فإذا خصت بالواو إحدى القرائن دل على أن المراد المعتبر فيها وفيما تقدمها خاصة صونا لكلام البليغ عن الإلغاء ، ففي الواو هنا الدلالة على أنه سبحانه جامع بين الغفران وقبول التوب للتائب خاصة ، ولا ينافي ذلك أنه عزوجل قد يغفر لمن لم يتب ، وما قيل : إن التوسيط يدل على أن المعنى كما أخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن غافر الذنب لمن لم يتب وقابل التوب لمن تاب فغير مسلم ، والتغاير الذي يذكرونه بين موقع الفعلين وهما غفران الذنب وقبول التوبة عنه المقتضي لكون الغفران بالنسبة إلى قوم والقبول بالنسبة إلى آخرين إذ جعلوا موقع الأول الذنب الباقي في الصحائف من غير مؤاخذة وموقع الثاني الذنب الزائل الممحو عنها حاصل مع الإجراء فلا مدخل للواو ، ثم ما ذكر من الوجه السابق حار على أصلي أهل السنة والمعتزلة فلا وجه لرده بما ليس بقادح وإيثار ما هو مرجوح ، وتقديم الغافر على القابل من باب تقديم التخلية على التحلية فافهم. وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة. وفي البحر الظاهر من الآية أن توبة العاصي بغير الكفر كتوبة العاصي به مقطوع بقبولها ، وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفاته تعالى الدالة على الرحمة دليل على زيادة الرحمة وسبقها فسبحانه من إله ما أرحمه وأكرمه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فحسب لا إلى غيره تعالى لا استقلالا ولا اشتراكا فيجازي كلا من المطيع والعاصي ، وجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مستأنفة أو حالية ، وقيل : صفة لله تعالى أو لشديد العقاب ، وفي الآيات مما يقتضي الاتعاظ ما فيها. أخرج عبد بن حميد عن يزيد بن الأصم أن رجلا كان ذا بأس وكان من أهل الشام وأن عمر رضي الله تعالى عنه فقده فسأل عنه فقيل له : تتابع في الشراب فدعا عمر كاتبه فقال له : اكتب من عمر ابن الخطاب إلى فلان بن فلان سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم) ـ إلى قوله تعالى ـ (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وختم الكتاب ، وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول : قد وعدني ربي أن يغفر لي وحذرني عقابه فلم يبرح يرددها على نفسه حتى بكى ثم نزع فأحسن النزوع فلما بلغ عمر توبته قال : هكذا فافعلوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه ووقفوه وادعوا الله تعالى أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه.

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) نزلت على ما قال أبو العالية في الحارث بن قيس السلمي أحد المستهزئين ، والمراد بالجدال الجدال بالباطل من الطعن في الآيات والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله عزوجل لقوله تعالى بعد ، (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) فإنه مذكور تشبيها لحال كفار مكة بكفار الأحزاب من قبل وإلا فالجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ورد أهل الزيغ عنها أعظم جهاد في سبيل الله تعالى ؛ وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أخرجه عبد بن حميد عن أبي هريرة مرفوعا : «إن جدالا في القرآن كفر» إيماء إلى ذلك حيث ذكر فيه جدالا منكرا للتنويع فأشعر أن نوعا منه كفر وضلال ونوعا آخر ليس كذلك.

والتحقيق كما في الكشف أن المجادلة في الشيء تقتضي أن يكون ذلك الشيء إما مشكوكا عند المجادلين أو أحدهما أو منكرا كذلك ، وأيا ما كان فهو مذموم اللهم إلا إذا كان من موحد لخارج عن الملة أو من محقق لزائغ إلى البدعة فهو محمود بالنسبة إلى أحد الطرفين ، وأما ما قيل : إن البحث فيها لإيضاح الملتبس ونحوه جدال عنها لا فيها فإن الجدال يتعدى بعن إذا كان للمنع والذب عن الشيء وبفي لخلافه كما ذكره الإمام وبالباء أيضا كما في قوله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ففيه بحث ، وفي قوله تعالى : (فِي آياتِ اللهِ) دون ـ فيه ـ بالضمير العائد إلى الكتاب دلالة على أن كل آية منه يكفي كفر المجادلة فكيف بمن ينكره كله ويقول فيه ما يقول ،

٢٩٧

وفيه أن كل آية منه آية أنه من الله تعالى الموصوف بتلك الصفات فيدل على شدة شكيمة المجادل في الكفر وأنه جادل في الواضح الذي لا خفاء به ، ومما ذكر يظهر اتصال هذه الآية بما قبلها وارتباط قوله تعالى : (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) بها أي إذا علمت أن هؤلاء شديد والشكائم في الكفر قد خسروا الدنيا والآخرة حيث جادلوا في آيات الله العزيز العليم وأصروا على ذلك فلا تلتفت لاستدراجهم بتوسعة الرزق عليهم وإمهالهم فإن عاقبتهم الهلاك كما فعل بمن قبلهم من أمثالهم مما أشير إليه بقوله سبحانه : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) إلخ ، والتقلب الخروج من أرض إلى أخرى. والمراد بالبلاد بلاد الشام واليمن فإن الآية في كفار قريش وهم كانوا يتقلبون بالتجارة في هاتيك البلاد ولهم رحلة الشتاء لليمن ورحلة الصيف للشام ، ولا بأس في إرادة ما يعم ذلك وغيره. وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير «فلا يغرك» بالإدغام مفتوح الراء وهي لغة تميم والفلك لغة الحجازيين ، وبدأ بقوم نوح لأنه عليه الصلاة والسلام على ما في البحر أول رسول في الأرض أو لأنهم أول قوم كذبوا رسولهم وعتوا عتوا شديدا (وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي والذين تحزبوا واجتمعوا على معاداة الرسل عليهم‌السلام من قوم نوح كعاد وثمود وقوم فرعون (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ) من تلك الأمم (بِرَسُولِهِمْ) وقرأ عبد الله «برسولها» رعاية اللفظ الأمة (لِيَأْخُذُوهُ) ليتمكنوا من إيقاع ما يريدون به من حبس وتعذيب وقتل وغيره ، فالأخذ كناية عن التمكن المذكور ، وبعضهم فسره بالأسر وهو قريب مما ذكر ، وقال قتادة : أي ليقتلوه (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) بما لا حقيقة له قيل هو قولهم : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [إبراهيم : ١٠] والأولى أن يقال هو كل ما يذكرونه لنفي الرسالة وتحسين ما هم عليه ، وتفسيره بالشيطان ليس بشيء (لِيُدْحِضُوا) ليزيلوا (بِهِ) أي بالباطل ، وقيل : أي بجدالهم بالباطل (الْحَقَ) الأمر الثابت الذي لا محيد عنه (فَأَخَذْتُهُمْ) بالإهلاك المستأصل لهم (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) فإنكم تمرون على ديارهم وترون أثره ، وهذا تقرير فيه تعجيب للسامعين مما وقع بهم ، وجوز أن يكون من عدم اعتبار هؤلاء ، واكتفى بالكسرة عن ياء الإضافة في عقاب لأنه فاصلة ، واختلف في المسبب عنه الأخذ المذكور فقيل : مجموع التكذيب والهم بالأخذ والجدال بالباطل ، واختار الزمخشري كونه الهم بالأخذ ، قال في الكشف : وذلك لأن قوله تعالى : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا) هو التكذيب بعينه والأخذ يشاكل الأخذ وإنما التكذيب موجب استحقاق العذاب الأخروي المشار إليه بعد ، ولا ينكر أن كليهما يقتضي كليهما لكن لما كان ملاءمة الأخذ للأخذ أتم والتكذيب للعذاب الأخروي أظهر أنه متعلق بالأخذ تنبيها على كمال الملاءمة ، ثم المجادلة العنادية ليس الغرض منها إلا الإيذاء فهي تؤكد الهم من هذا الوجه بل التكذيب أيضا يؤكده ، والغرض من تمهيد قوله تعالى : (ما يُجادِلُ) وذكر الأحزاب الإلمام بهذا المعنى ، ثم التصريح بقوله سبحانه ـ : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ) يدل على ما اختاره دلالة بينة فلا حاجة إلى أن يعتذر بأنه إنما اعتبر هذا لا ما سيق له الكلام من المجادلة الباطلة للتسلي انتهى ، والإنصاف إن فيما صنعه جار الله رعاية جانب المعنى ومناسبة لفظية إلا أن الظاهر هو التفريع على المجموع كما لا يخفى (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي كما وجب حكمه تعالى بالإهلاك على هؤلاء المتحزبين على الأنبياء وجب حكمه سبحانه بالإهلاك على هؤلاء المتحزبين عليك أيضا وهم كفار قريش (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي لأنهم أصحاب النار أي لأن العلة متحدة وهي أنهم كفار معاندون مهتمون بقتل النبي مثلهم ، فوضع (أَصْحابُ النَّارِ) موضع ما ذكر لأنه آخر أوصافهم وشرها والدال على الباقي ، و (أَنَّهُمْ) إلخ في حيز النصب بحذف لام التعليل كما أشرنا إليه ، وجوز أن يكون في محل رفع على أنه بدل من (كَلِمَةُ رَبِّكَ) بدل كل من كل أن أريد بالكلمة قوله تعالى أو حكمه سبحانه بأنهم من أصحاب النار ، وبدل اشتمال أن أريد بها الأعم ، ويراد بالذين كفروا أولئك المتحزبون ، والمعنى كما وجب إهلاكهم بالعذاب المستأصل في الدنيا وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة أيضا لكفرهم ، والوجه الأول أظهر بالمساق.

٢٩٨

والتعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفسرت (كَلِمَةُ رَبِّكَ) عليه بقوله سبحانه : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم : ٤٧] ونحوه. وفي مصحف عبد الله «وكذلك سبقت» وهو على ما قيل تفسير معنى لا قراءة. وقرأ ابن هرمز وشيبة وابن القعقاع ونافع وابن عامر «كلمات» على الجمع.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) وهو جسم عظيم له قوائم الكرسي وما تحته بالنسبة إليه كحلقة في فلاة.

وفي بعض الآثار خلق الله تعالى العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وذكر بعضهم في سعته أنه لو مسح مقعره بجميع مياه الدنيا مسحا خفيفا لقصرت عن استيعابه ويزعم أهل الهيئة ومن وافقهم أنه كري وأنه المحدد وفلك الأفلاك وأنه كسائر الأفلاك لا يوصف بثقل ولا خفة وليس لهم في ذلك خبر يعول عليه بل الأخبار ظاهرة في خلافه.

والظاهر أن الحمل على حقيقته وحملته ملائكة عظام. أخرج أبو يعلى وابن مردويه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أذن لي أن أحدث عن ملك قد مرقت رجلاه الأرض السابعة السفلى والعرش على منكبيه وهو يقول : سبحانك أين كنت وأين تكون. وأخرج أبو داود وجماعة بسند صحيح عن جابر بلفظ «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ما بين شحمة إذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» وهم على ما في بعض الآثار ثمانية. أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان عن هارون بن رباب قال : حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت رخيم يقول أربعة منهم سبحانك وبحمدك على حلمك بعد عفوك وأربعة منهم سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك. وأخرج أبو الشيخ وابن أبي حاتم من طريق أبي قبيل أنه سمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول : حملة العرش ثمانية ما بين موق أحدهم إلى مؤخر عينيه مسيرة خمسمائة عام ، وفي بعض الآثار أنهم اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية.

أخرج أبو الشيخ عن وهب قال : حملة العرش أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدوا بأربعة آخرين ، ملك منهم في صورة إنسان يشفع لبني آدم في أرزاقهم ، وملك منهم في صورة نسر يشفع للطير في أرزاقهم ، وملك منهم في صورة ثور يشفع للبهائم في أرزاقهم ، وملك منهم في صورة أسد يشفع للسباع في أرزاقهم فلما حملوا العرش وقعوا على ركبهم من عظمة الله تعالى فلقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستووا قياما على أرجلهم.

وجاء رواية عن وهب أيضا أنهم يحملون العرش على أكتافهم وهو الذي يشعر به ظاهر خبر أبي هريرة السابق.

وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن حبان بن عطية قال : حملة العرش ثمانية أقدامهم مثبتة في الأرض السابعة ورءوسهم قد جاوزت السماء السابعة وقرونهم مثل طولهم عليها العرش.

وفي بعض الآثار أنهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وفي بعضها لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور ، وهم على ما أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أمامة يتكلمون بالفارسية أي إذا تكلموا بغير التسبيح وإلا فالظاهر أنهم يسبحون بالعربية ، على أن الخبر الله تعالى أعلم بصحته. وفي بعض الآثار عن وهب أنهم ليس لهم كلام إلا أن يقولوا قدوس الله القوي ملأت عظمته السماوات والأرض ، وما سيأتي إن شاء الله تعالى بعيد هذا في الآية يأبى ظاهره الحصر (وَمَنْ حَوْلَهُ) أي والذين من حول العرش وهم ملائكة في غاية الكثرة لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى.

وقيل : حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان

٢٩٩

على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وذكر في كثرتهم أن مخلوقات البر عشر مخلوقات البحر والمجموع عشر مخلوقات الجو والمجموع عشر ملائكة السماء الدنيا والمجموع عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة والمجموع عشر ملائكة الكرسي والمجموع عشر الملائكة الحافين بالعرش ، ولا نسبة بين مجموع المذكور وما يعلمه الله تعالى من جنوده سبحانه (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١] ويقال لحملة العرش والحافين به الكروبيون جمع كروبي بفتح الكاف وضم الراء المهملة المخففة وتشديدها خطأ ثم واو بعدها ياء موحدة ثم ياء مشددة من كرب بمعنى قرب ، وقد توقف بعضهم في سماعه من العرب وأثبته أبو علي الفارسي واستشهد له بقوله :

كروبية منهم ركوع وسجد

وفيه دلالة على المبالغة في القرب لصيغة فعول والياء التي تزاد للمبالغة ، وقيل : من الكرب بمعنى الشدة والحزن وكأن وصفهم بذلك لأنهم أشد الملائكة خوفا.

وزعم بعضهم أن الكروبيين حملة العرش وأنهم أول الملائكة وجودا ومثله لا يعرف إلا بسماع. وعن البيهقي أنهم ملائكة العذاب وكأن ذلك إطلاق آخر من الكرب بمعنى الشدة والحزن ، وقال ابن سينا في رسالة الملائكة : الكروبيون هم العامرون لعرصات التيه الأعلى الواقفون في الموقف الأكرم زمرا الناظرون إلى المنظر الأبهى نظرا وهم الملائكة المقربون والأرواح المبرءون ، وأما الملائكة العاملون فهم حملة العرش والكرسي وعمار السماوات انتهى.

وذهب بعضهم إلى أن حمل العرش مجاز عن تدبيره وحفظه من أن يعرض له ما يخل به أو بشيء من أحواله التي لا يعلمها إلا الله عزوجل ، وجعلوا القرينة عقلية لأن العرش كريّ في حيزه الطبيعي فلا يحتاج إلى حمل ونسب ذلك إلى الحكماء وأكثر المتكلمين ، وكذا ذهبوا إلى أن الخفيف والطواف بالعرش كناية أو مجاز عن القرب من ذي العرش سبحانه ومكانتهم عنده تعالى وتوسطهم في نفاذ أمره عزوجل ، والحق الحقيقة في الموضعين ؛ وما ذكر من القرينة العقلية في حيز المنع.

وقرأ ابن عباس وفرقة «العرش» بضم العين فقيل : هو جمع عرش كسقف وسقف أو لغة في العرش ، والموصول الأول مبتدأ والثاني عطف عليه والخبر قوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) والجملة استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان أن الملائكة الذين هم في المحل الأعلى مثابرون على ولاية من معه من المؤمنين ونصرتهم واستدعاء ما يسعدهم في الدارين أي ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل كالجسمية وكون العرش حاملا له عزوجل ملتبسين بحمده جل شأنه على نعمائه التي لا تتناهى.

(وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) إيمانا حقيقيا كاملا ، والتصريح بذلك مع الغنى عن ذكره رأسا لإظهار فضيلة الإيمان وإبراز شرف أهله والإشعار بعلة دعائهم للمؤمنين حسبما ينطق به قوله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) فإن المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمها وادعى الدواعي إلى النصح والشفقة وإن تخالفت الأجناس وتباعدت الأماكن ، وفيه على ما قيل : إشعار بأن حملة العرش وسكان الفرش سواء في الإيمان بالغيب إذ لو كان هناك مشاهدة للزومها من الحمل بناء على العادة الغالبة أو على أن العرش جسم شفاف لا يمنع الأبصار البتة لم يقل يؤمنون لأن الإيمان هو التصديق القلبي أعني العلم أو ما يقوم مقامه مع اعتراف وإنما يكون يكون في الخبر ومضمونه من معتقد علمي أو ظني ناشئ من البرهان أو قول الصادق كأنه اعترف بصدق المخبر أو البرهان وأما العيان فيغني عن البيان ، ففي ذلك رمز إلى الرد على المجسمة ، ونظيره في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : «لا تفضلوني على ابن متى» كذا قيل ، وينبغي أن يعلم أن كون

٣٠٠