روح المعاني - ج ١٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

أَنْتَ) [الدخان : ٤٩] إلخ أي قاسوا حرها في هذا اليوم الذي لم تستعدوا له ، وقال أبو مسلم : أي صيروا صلاها أو وقودها.

وقال الطبرسي : ألزموا العذاب بها وأصل الصلا اللزوم ومنه المصلى الذي يجيء في أثر السابق للزومه أثره.

(بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) كفركم المستمر في الدنيا فالباء للسببية وما مصدرية واحتمال كونها موصولة بعيد.

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) كناية عن منعهم من التكلم ، ولا مانع من أن يكون هناك ختم على أفواههم حقيقة.

وجوز أن يكون الختم مستعارا لمعنى المنع بأن يشبه أحداث حالة في أفواههم مانعة من التكلم بالختم الحقيقي ثم يستعار له الختم ويشتق منه نختم فالاستعارة تبعية أي اليوم نمنع أفواههم من الكلام منعا شبيها بالختم ، والأول أولى في نظري (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بالذي استمروا على كسبه في الدنيا وكأن الجار والمجرور قد تنازع فيه تكلم وتشهد ، ولعل المعنى والله تعالى أعلم تكلمنا أيديهم بالذي استمروا على عمله ولم يتوبوا عنه وتخبرنا به وتقول فعلوا بنا وبواسطتنا كذا وكذا وتشهد عليهم أرجلهم بذلك.

ونسبة التكليم إلى الأيدي دون الشهادة لمزيد اختصاصها بمباشرة الأعمال حتى أنها كثر نسبة العمل إليها بطريق الفاعلية كما في قوله تعالى : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) [النبأ : ٤٠] وقوله سبحانه (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) [يس : ٣٥] وقوله عزوجل (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [الروم : ٤١] وقوله جل وعلا (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] إلى غير ذلك ولا كذلك إلا رجل فكانت الشهادة أنسب بها لما أنها لم تضف إليها الأعمال فكانت كالأجنبية ، وكان التكليم أنسب بالأيدي لكثرة مباشرتها الأعمال وإضافتها إليها فكأنها هي العاملة ، هذا مع ما في جمع التكليم مع الختم على الأفواه المراد منه المنع من التكلم من الحسن.

وكأنه سبحانه لما صدر آية النور وهي قوله تعالى (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) [النور : ٢٤] بالشهادة وذكر جل وعلا الأعضاء من الأعالي إلى الأسافل أسندها إلى الجميع ولم يخص سبحانه الأيدي بالتكليم لوقوعها بين الشهود مع أن ما يصدر منها شهادة أيضا في الحقيقة فإن كونها عاملة ليس على الحقيقة بل هي آلة والعامل هو الإنسان حقيقة وكان اعتبار الشهادة من المصدر هناك أوفق بالمقام لسبق قصة الإفك وما يتعلق لها ولذا نص فيها على الألسنة ولم ينص هاهنا عليها بل الآية ساكتة عن الإفصاح بأمرها من الشهادة وعدمها ، والختم على الأفواه ليس بعدم شهادتها إذ المراد منه منع المحدث عنهم عن التكلم بألسنتهم وهو أمر وراء تكلم الألسنة أنفسها وشهادتها بأن يجعل فيها علم وإرادة وقدرة على التكلم فتتكلم هي وتشهد بما تشهد وأصحابها مختوم على أفواههم لا يتكلمون.

ومنه يعلم أن آية النور ليس فيها ما هو نص في عدم الختم على الأفواه ، نعم الظاهر هناك أن لا ختم وهنا أن لا شهادة من الألسنة ، وعلى هذا الظاهر يجوز أن يكون المحدث عنه في الآيتين واحدا بأن يختم على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم أولا ثم يرفع الختم وتشهد ألسنتهم أما مع تجدد ما يكون من الأيدي والأرجل أو مع عدمه والاكتفاء بما كان قبل منهما وذلك أما في مقام واحد من مقامات يوم القيامة أو في مقامين ، وليس في كل من الآيتين ما يدل على الحصر ونفي شهادة غير ما ذكر من الأعضاء فلا منافاة بينهما وبين قوله تعالى (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [فصلت : ٢٠] فيجوز أن يكون هناك شهادة السمع والأبصار والألسنة والأيدي والأرجل وسائر الأعضاء كما يشعر بهذا ظاهر قوله تعالى والجلود في آية السجدة لكن لم يذكر

٤١

بعض من ذلك في بعض من الآيات اكتفاء بذكره في البعض الآخر منها أو دلالته عليه بوجه ، ويجوز أن يكون المحدث عنه في كل طائفة من الناس ، وقد جعل بعضهم المحدث عنه في آية السجدة قوم ثمود ، وحمل أعداء الله عليهم بقوله تعالى بعد (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [فصلت ٢٥] ولا يبعد أن يكون المحدث عنه في آية النور أصحاب الإفك من المنافقين والذين يرمون المحصنات ثم إن آية السجدة ظاهرة في أن الشهادة عند المجيء إلى النار وآية النور ليس فيها ما يدل على ذلك ، وأما هذه الآية فيشعر كلام البعض بأن الختم والشهادة فيها بعد خطاب المحدث عنهم بقوله تعالى (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) فيكون ذلك عند المجيء إلى النار أيضا ، قال في إرشاد العقل السليم : إن قوله تعالى (الْيَوْمَ نَخْتِمُ) إلخ التفات إلى الغيبة للإيذان بأن ذكر أحوالهم القبيحة استدعى أن يعرض عنهم وتحكى أحوالهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماء إلى أن ذلك من مقتضيات الختم لأن الخطاب لتلقي الجواب وقد انقطع بالكلية ، لكن قال في موضع آخر : إن الشهادة تتحقق في موقف الحساب لا بعد تمام السؤال والجواب وسوقهم إلى النار ، والأخبار ظاهرة في ذلك.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري من حديث «يدعي الكافر والمنافق للحساب فيعرض ربه عليه عمله فيجحد ويقول أي رب وعزتك لقد كتب على هذا الملك ما لم أعمل فيقول له الملك أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا فيقول لا وعزتك أي رب ما عملته فإذا فعل ذلك ختم علي فيه فإني أحسب أول ما تنطق منه فخذه اليمنى ثم تلا اليوم تختم على أفواههم الآية» وفي حديث أخرجه مسلم والترمذي والبيهقي عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعا «إنه يلقى العبد ربه فيقول الله تعالى له أي قل ألم أكرمك إلى أن قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول : ألا نبعث شاهدنا عليك فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي فيختم علي فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله».

وفي بعض الأخبار ما يدل على أن العبد يطلب شاهدا منه فيختم على فيه ، أخرج أحمد ومسلم وابن أبي الدنيا واللفظ له عن أنس في قوله تعالى (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) قال كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضحك حتى بدت نواجذه قال : أتدرون مم ضحكت؟ قلنا : لا يا رسول الله قال : من مخاطبة العبد ربه يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول : بلى فيقول : إني لا أجيز علىّ إلّا شاهدا مني فيقول كفى بنفسك عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول : بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل» والجمع بالتزام القول بالتعدد فتارة يكون ذلك عند الحساب وأخرى عند النار والقول باختلاف أحوال الناس فيما ذكر.

وما تقدم في حديث أبي موسى من أن الفخذ اليمنى أول ما تنطق على ما يحسب جزم به الحسن ، وأخرج أحمد وجماعة عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال» ثم الظاهر أن التكلم والشهادة بنطق حقيقة وذلك بعد إعطاء الله تعالى الأعضاء حياة وعلما وقدرة فيرد بذلك على من زعم أن البينة المخصوصة شرط فيما ذكر وإسناد الختم إليه تعالى دون ما بعد قيل لئلا يحتمل الجبر على الشهادة والكلام فدل على ذلك باختيار الأعضاء المذكورة بعد أقدار الله تعالى فإنه أدل على تفضيح المحدث عنهم ، وهل يشهد كل عضو بما فعل به أو يشهد بذلك وبما فعل بغيره فيه خلاف والثاني أبلغ في التفظيع ، والعلم بالمشهود به يحتمل أن يكون حصوله بخلق الله تعالى إياه في ذلك الوقت ولا يكون حاصلا في الدنيا ويحتمل أن يكون حصوله في الدنيا بأن تكون الأعضاء قد خلق الله تعالى فيها الإدراك فهي تدرك الأفعال كما يدركها الفاعل فإذا كان يوم القيامة رد الله تعالى لها ما كان وجعلها مستحضرة لما عملته أولا وأنطقها نطقا يفقهه المشهود

٤٢

عليه ، وهذا نحو ما قالوا من تسبيح جميع الأشياء بلسان القال والله تعالى على كل شيء قدير والعقل لا يحيل ذلك وليس هو بأبعد من خلق الله تعالى فيها العلم والارادة والقدرة حتى تنطق يوم القيامة فمن يؤمن بهذا فليؤمن بذلك ، والتشبث بذيل الاستبعاد يجر إلى إنكار الحشر بالكلية والعياذ بالله تعالى أو تأويله بما أوله به الباطنية الذين قتل واحد منهم ـ قال حجة الإسلام الغزالي ـ أفضل من قتل مائة كافر ، وعلى هذا تكون الآية من مؤيدات القول بالتسبيح القالي للجمادات ونحوها ، وعلى الاحتمال الأول يؤيد القول بجواز شهادة الشاهد إذا حصل عنده العلم الذي يقطع به بأي وجه حصل وإن لم يشهد ذلك ولا حضره ، وقد أفاد الشيخ الأكبر قدس‌سره في تفسيره المسمى بإيجاز البيان في ترجمة القرآن إن قوله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] يفيد جواز ذلك ، وذكر فيه أن الشاهد يأثم إن لم يشهد بعلمه ، ولا يخفى عليك ما للفقهاء في المسألة من الكلام ، وكأن الشهادة على الاحتمال الثاني بعد الاستشهاد بأن يقال للأركان ألم يفعل كذا فتقول بلى فعل.

ويمكن أن تكون بعد أن تؤمر الأركان بالشهادة بأن يقال لها اشهدي بما فعلوا فتشهد معددة أفعالهم ، وهذا إما بأن تذكر جميع أفعالهم من المعاصي وغيرها غير مميزة المعصية عن غيرها ، وكون ذلك شهادة عليهم باعتبار الواقع لتضمنها ضررهم بذكر ما هو معصية في نفس الأمر ، وإما بأن تذكر المعاصي فقط ، وهذا يحتاج إلى التزام القول بأن الأركان تميز في الدنيا ما كان معصية من الأفعال ما لم يكن كذلك ولا أظنك تقول به ولم أسمع أن أحدا يدعيه. وذهب بعضهم إلى أن تكليم الأركان وشهادتها دلالتها على أفعالها وظهور آثار المعاصي عليها بأن يبدل الله تعالى هيئاتها بأخرى يفهم منها أهل الحشر ويستدلون بها على ما صدر منهم فجعلت الدلالة الخالية بمنزلة المقالية مجازا ، وفيه أنه لا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة لا سيما وما يأتي في سورة السجدة من قوله تعالى (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت : ٢١] ظاهر جدا في النطق القالي والأخبار أظهر وأظهر ، نعم يهون على هذا القول أمر الاستبعاد ولا يكاد يترك لأجله الظواهر العلماء الأمجاد ، وهذا والآية كالظاهرة في تكليف الكفار بالفروع إذ لو لم يكونوا مكلفين بها لا فائدة في شهادة الأعضاء بما كسبوا ، وإتمام الحجة عليهم بها وتخصيص ما كسبوا بالكفر مما لا يكاد يلتفت إليه ولا أظن أن أحدا يقول به بل ربما يدعي تخصيصه بما سوى الكفر بناء على أنه من أفعال القلب دون الأعضاء التي تشهد لكن الذي يترجح في نظري العموم.

وشهادتها به إما بشهادتها بما يدل عليه من الأفعال البدنية والأقوال اللسانية أو بالعلم الضروري الذي يخلقه الله تعالى لها ذلك اليوم أو بالعلم الحاصل لها بخلق لله تعالى في الدنيا فتعلمه بواسطة الأفعال والأقوال الدالة عليه أو بطريق آخر يعلمه الله تعالى ، وهي ظاهرة في أن الحشر يكون بأجزاء البدن الأصلية لا ببدن آخر ليس فيه الأجزاء الأصلية للبدن الذي كان في الدنيا إذ أركان ذلك البدن لم تكن الأعمال السيئة معمولة بها فلا يحسن الشهادة بها منها فليحفظ. وقرئ «يختم» مبنيا للمفعول «وتتكلم أيديهم» بتاءين ، وقرئ «ولتكلمنا أيديهم ولتشهد أرجلهم» بلام الأمر على أن الله تعالى يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة. وروى عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده طلحة أنه قرأ «ولتكلمنا أيديهم ولتشهد» بلام كي والنصب على معنى لتكليم الأيدي إيانا ولشهادة الأرجل نختم على أفواههم (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) بيان أنهم اليوم في قبضة القدرة ومستحقون للعذاب إلا أن عزوجل لم يشأ ذلك لحكمته جل وعلا الباهرة ، والطمس إزالة الأثر بالمحو ، والمعنى لو نشاء الطمس على أعينهم وإزالة ضوئها وصورتها بالكلية بحيث تعود ممسوحة لطمسنا عليها وأذهبنا أثرها.

وجوز أن يراد بالطمس إذهاب الضوء من غير إذهاب العضو وأثره أي ولو نشاء لأعميناهم ، وإيثار صيغة

٤٣

الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن عدم الطمس على أعينهم لاستمرار عدم المشيئة فإن المضارع المنفي الواقع موقع المضي ليس بنص في إفادة انتفاء استمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه.

وقوله تعالى : (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) عطف على (لَطَمَسْنا) على الفرض والصراط منصوب بنزع الخافض أي فأرادوا الاستباق إلى الطريق الواضح المألوف لهم (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي فكيف يبصرون ذلك الطريق وجهة السلوك والمقصود إنكار أبصارهم ، وحاصله لو نشاء لأذهبنا أحداقهم وأبصارهم فلو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه لا يقدرون عليه ولا يبصرونه ، وتأويل استبقوا بأرادوا الاستباق مما ذهب إليه البعض ، وقيل لا حاجة لتأويله فإن الأعمى يجوز شروعه في السباق ، ونصب (الصِّراطَ) بنزع الخافض ولم ينصب على الظرفية لأنه كالطريق مكان مختص ومثله لا ينتصب على الظرفية ، وجوز كونه مفعولا به لتضمين استبقوا معنى ابتدروا ، ونقل عن الأساس في قسم الحقيقة (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) ابتدروه ، قال في الكشف : شبيه لا تضمين ، وادعى بعضهم توهم دعوى أن ذلك معنى حقيقي وصاحب الأساس إنما ذكره في آخر قسم المجاز والمعنى لو شئنا لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو أرادوا الاستباق مبتدرين الطريق لا يبصرون ، وقيل يجوز كونه مفعولا به على أن استبقوا بمعنى سبقوا ويجعل الطريق مسبوقا على التجوز في النسبة أو الاستعارة المكنية أو على أنه بمعنى جاوزوا ، قال في القاموس : استبق الصراط جاوزه وظاهره أنه حقيقة في ذلك ، وقال غير واحد : هو مجاز والعلاقة اللزوم ، والمعنى ولو نشاء لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو طالبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقا يعني أنهم لا يقدرون إلا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطرق والمسالك كما ترى العميان يهتدون فيما ألفوا وضربوا به من المقاصد دون غيرها. وذهب ابن الطراوة إلى أن الصراط والطريق وما أشبههما من الظروف المكانية ليست مختصة فيجوز انتصابها على الظرفية ، وهذا خلاف ما صرح به سيبويه وجعل انتصابها على الظرفية من الشذوذ وأنشد :

لدن بهز الكف يعسل متنه

فيه كما عسل الطريق الثعلب

والمعنى في الآية لو انتصب على الظرفية لو نشاء لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف كما كان ذلك هجيراهم لم يستطيعوا ، وحمل الأعين على ما هو الظاهر منها أعني الأعضاء المعروفة والصراط على الطريق المحسوس هو المروي عن الحسن وقتادة ، وعن ابن عباس حمل الأعين على البصائر والصراط على الطريق المعقول.

أخرج ابن جرير وجماعة عنه أنه قال : ولو نشاء لطمسنا على أعينهم أعميناهم وأضللناهم عن الهدى فأنّى يبصرون فكيف يهتدون وهو خلاف الظاهر. وقرأ عيسى «فاستبقوا» على الأمر وهو على إضمار القول أي فيقال لهم استبقوا وهو أمر تعجيز إذ لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) أي لحولنا صورهم إلى صور أخرى قبيحة. عن ابن عباس أي لمسخناهم قردة وخنازير ، وقيل : لمسخناهم حجارة وروي ذلك عن أبي صالح ، ويعلم من هذا الخلاف أن في مسخ الحيوان المخصوص لا يشترط بقاء الصورة الحيوانية ، وسمي بعضهم قلب الحيوان جمادا رسخا وقلبه نباتا فسخا وخص المسخ بقلبه حيوانا آخر ، ومفعول المشيئة على قياس السابق أي ولو نشاء مسخهم على مكانتهم لمسخناهم (عَلى مَكانَتِهِمْ) أي مكانهم كالمقامة والمقام.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في معنى الآية لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم.

وقال الحسن وقتادة وجماعة المعنى لو نشاء لأقعدناهم وأزمناهم وجعلناهم كسحا لا يقومون. وقرأ الحسن وأبو

٤٤

بكر «مكاناتهم» بالجمع لتعددهم (فَمَا اسْتَطاعُوا) لذلك (مُضِيًّا) أي ذهابا إلى مقاصدهم (وَلا يَرْجِعُونَ) قيل هو عطف على (مُضِيًّا) المفعول به لاستطاعوا وهو من باب ـ تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ـ فيكون التقدير فما استطاعوا مضيا ولا رجوعا وإلا فمفعول استطاعوا لا يكون جملة ، والتعبير بذلك دون الاسم الصريح قيل للفواصل مع الإيماء إلى مغايرة الرجوع للمضي بناء على ما قال الإمام من أنه أهون من المضي لأنه ينبئ عن سلوك الطريق من قبل والمضي لا ينبئ عنه ، وقيل لذلك مع الإيماء إلى استمرار النفي نظرا إلى ظاهر اللفظ ويكون هناك ترق من جهتين إذا لوحظ ما أومأ إليه الإمام ، وقيل له مع الإيماء إلى أن الرجوع المنفي ما كان عن إرادة واختيار فإن اعتبارهما في الفعل المسند إلى الفاعل أقرب إلى التبادر من اعتبارهما في المصدر.

واقتصر بعضهم في النكتة على رعاية الفواصل ، والإمام بعد الاقتصار على رعاية الفواصل في بيان نكتة العدول عن الظاهر تقصيرا ؛ وقيل هو عطف على جملة ما استطاعوا ، والمراد ولا يرجعون عن تكذيبهم لما أنه قد طبع على قلوبهم ، وقيل هو عطف على ما ذكر إلا أن المعنى ولا يرجعون إلى ما كانوا عليه قبل المسخ وليس بالبعيد.

وعلى القولين المراد بالمضي الذهاب عن المكان ونفي استطاعته مغن عن نفي استطاعة الرجوع ، وأيا ما كان فالظاهر أن هذا وكذا ما قبله لو كان لكان في الدنيا ، وقال ابن سلام : هذا التوعد كله يوم القيامة وهو خلاف الظاهر ولا يكاد يصح على بعض الأقوال.

وأصل (مُضِيًّا) مضوي اجتمعت الواو ساكنة مع الياء فقلبت ياء كما هو القاعدة وأدغمت الياء في الياء وقلبت ضمة الضاد كسرة لتخف وتناسب الياء. وقرأ أبو حيوة وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي «مضيا» بكسر الميم اتباعا لحركة الضاد كالعتى بضم العين والعتى بكسرها. وقرئ «مضيا» بفتح الميم فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل كالرسيم والوجيف والصئي بفتح الصاد المهملة بعدها همزة مكسورة ثم ياء مشددة مصدر صأى الديك أو الفرخ إذا صاح (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) أي نطل عمره.

(نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) نقلبه فيه فلا يزال يتزايد ضعفه وانتقاص بنيته وقواه عكس ما كان عليه بدء أمره ، وفيه تشبيه التنكيس المعنوي بالتنكيس الحسي واستعارة الحسي له ، وعن سفيان أن التنكيس في سن ثمانين سنة ، والحق أن زمان ابتداء الضعف وانتقاص البنية مختلف لاختلاف الأمزجة والعوارض كما لا يخفى.

والكلام عطف على قوله تعالى (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا) إلخ عطف العلة على المعلول لأنه كالشاهد لذلك.

وقرأ جمع من السبعة «ننكسه» مخففا من الانكاس (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أي أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على ذلك قدر على ما ذكر من الطمس والمسخ وأن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما.

وقرأ نافع وابن ذكوان وأبو عمرو في رواية عياش «تعقلون» بتاء الخطاب لجرى الخطاب قبله.

(وَما عَلَّمْناهُ) بتعليم الكتاب المشتمل على هذا البيان والتلخيص في أمر المبدأ والمعاد (الشِّعْرَ) إذ لا يخفى على من به أدنى مسكة أن هذا الكتاب الحكيم المتضمن لجميع المنافع الدينية والدنيوية على أسلوب أفحم كل منطيق ببيان الشعر ولا مثل الثريا للثرى ، أما لفظا فلعدم وزنه وتقفيته ، وأما معنى فلأن الشعر تخيلات مرغبة أو منفرة أو نحو ذلك وهو مقر الأكاذيب ، ولذا قيل أعذبه أكذبه ، والقرآن حكم وعقائد وشرائع.

والمراد من نفي تعليمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتعليم الكتاب الشعر نفي أن يكون القرآن شعرا على سبيل الكناية لأن ما علمه الله

٤٥

تعالى هو القرآن وإذا لم يكن المعلم شعرا لم يكن القرآن شعرا البتة ، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام ليس بشاعر إدماجا وليس هناك كناية تلويحية كما قيل ، وهذا رد لما كانوا يقولونه من أن القرآن شعر والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاعر وغرضهم من ذلك أن ما جاء به عليه الصلاة والسلام من القرآن افتراء وتخيل وحاشاه ثم حاشاه من ذلك (وَما يَنْبَغِي لَهُ) اعتراض لتقرير ما أدمج أي لا يليق ولا يصلح له صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشعر لأنه يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن ولأن أحسنه المبالغة والمجازفة والإغراق في الوصف وأكثره تحسين ما ليس بحسن وتقبيح ما ليس بقبيح وكل ذلك يستدعي الكذب أو يحاكيه الكذب وجل جناب الشارع عن ذلك كذا قيل.

وقال ابن الحاجب : أي لا يستقيم عقلا أن يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشعر لأنه لو كان ممن يقوله لتطرقت التهمة عند كثير من الناس في أن ما جاء به من قبل نفسه وأنه من تلك القوة الشعرية ولذا عقب هذا بقوله تعالى (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) لأنه إذا انتفت الريبة لم يبق إلا المعاندة فيحق القول عليهم ، وتعقب بأن الإيجاز يرفع التهمة وإلا فكونه عليه الصلاة والسلام في المرتبة العليا من الفصاحة والبلاغة في النثر ليس بأضعف من قول الشعر في كونه مظنة تطرق التهمة بل ربما يتخيل أنه أعظم من قول الشعر في ذلك فلو كانت علة منعه عليه الصلاة والسلام من الشعر ما ذكر لزم أن يمنع من الكلام الفصيح البليغ سدا لباب الريبة ودحضا للشبهة وإعظاما للحجة فحيث لم يكن ذلك اكتفاء بالإعجاز وأن التهمة والريب معه مما لا ينبغي أن يصدر من عاقل ولذا نفي الريب مع أنه وقع علم أن العلة في أنه عليه الصلاة والسلام لا ينبغي له الشعر شيء آخر ، واختار هذا ابن عطية وجعل العلة ما في قول الشعر من التخييل والتزويق للقول وهو قريب مما سمعت أولا ، وهو الذي ينبغي أن يعول عليه ، وفي الآية عليه دلالة على غضاضة الشعر وهي ظاهرة في أنه عليه الصلاة والسلام لم يعط طبيعة شعرية اعتناء بشأنه ورفعا لقدره وتبعيدا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن يكون فيه مبدأ لما يخل بمنصبه في الجملة.

وإنما لم يعط صلى‌الله‌عليه‌وسلم القدرة على الشعر مع حفظه عن إنشائه لأن ذلك سلب القدرة عليه في الإبعاد عما يخل بمنصبه الجليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونظير ما ذكرنا العصمة والحفظ ، ويفهم من كلام المواهب اللدنية أن من الناس من ذهب إلى أنه عليه الصلاة والسلام كان له قدرة على الشعر إلا أنه يحرم عليه أن يشعر وليس بذاك ، نعم القول بحرمة إنشاء الشعر مقبول ومعناه على القول السابق على ما قيل حرمة التوصل إليه ، وقد يقال : لا حاجة إلى التأويل وحرمة الشيء تجامع عدم القدرة عليه ، وهل عدم الشعر خاص به عليه الصلاة والسلام أو عام لنوع الأنبياء قال بعضهم هو عام لهذه الآية إذ لا يظهر للخصوص نكتة ، وقيل يجوز أن يكون خاصا والنكتة زيادة التكريم لما أن مقامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوق مقام الأنبياء عليهم‌السلام ويكون الثابت لهم الحفظ عن الإنشاء مع ثبوت القدرة عليه وإن صح خبر إنشاء آدم عليه‌السلام يوم قتل ولده :

تغيرت البلاد ومن عليها

ووجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي طعم ولون

وقل بشاشة الوجه الصبيح

اتضح أمر الخصوص وعلم أن لا حفظ من الإنشاء أيضا ، ولعل الحفظ حينئذ مما فيه ما يشين ويخل بمنصب النبوة مطلقا ، والنكتة في الخصوص ظاهرة على ما نقل عن ابن الحاجب لأن أعظم معجزاته عليه الصلاة والسلام القرآن فربما تحصل التهمة فيه لو قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشعر وكذلك معجزات الأنبياء عليهم‌السلام فتأمل.

وأيّا ما كان لا يرد أنه عليه الصلاة والسلام قال يوم حنين وهو على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث آخذ بزمامها ولم يبق معه عليه الصلاة والسلام من الناس إلا قليل (١).

__________________

(١) نحو مائة او اثني عشر او عشرة اه منه.

٤٦

ـ أنا النبي لا كذب (١) أنا ابن عبد المطلب –

لأنا لا نسلم أنه شعر فقد عرفوه بأنه الكلام المقفى الموزون على سبيل القصد وهذا مما اتفق له عليه الصلاة والسلام من غير قصد لوزنه ومثله يقع كثيرا في الكلام المنثور ولا يسمى شعرا ولا قائله شاعرا ، ولا يتوهم من انتسابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه إلى جده دون أبيه دليل القصد لأن النسبة إلى الجد شائعة ولأنه هو الذي قام بتربيته حيث توفي أبوه عليه الصلاة والسلام وهو حمل فحين ولد قام بأمره فوق ما يقوم الوالد بأمر الولد ولأنه كان مشهورا بينهم بالصدق والشرف والعزة فلذا خصه بالذكر ليكون كالدليل على ما قبل أو كمانع آخر من الانهزام ولأن كثيرا من الناس كانوا يدعونه عليه الصلاة والسلام بابن عبد المطلب. ومنه حديث ضمام بن ثعلبة أيكم ابن عبد المطلب على أن منهم من لم يعد الرجز مطلقا وأصله ما كان على مستفعلن ست مرات شعرا ولذا يسمى قائله راجزا لا شاعرا ، وعن الخليل أن المشطور منه وهو ما حذف نصفه فبقي وزنه مستفعلن ثلاث مرات ؛ والمنهوك وهو ما حذف ثلثاه فبقي وزنه مستفعلن مرتين ليسا بشعر ، وفي رواية أخرى عنه أن المجزوء وهو ما حذف من كل مصراع منه جزء فبقي وزنه مستفعلن أربع مرات كذلك فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا النبي لا كذب إن كان نصف بيت فهو مجزوء فليس بشعر على هذه الرواية وأن فرض أن هناك قصدا وإن كان بيتا تاما فهو فليس منهوك بشعر أيضا على الرواية الأولى وكونه ليس بشعر على قول من لا يرى الرجز مطلقا شعرا ظاهر.

وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام حرك الباء من كذب والمطلب فلا يكون ذلك موزونا فكونه ليس بشعر أظهر وأظهر ، والقول بأن ضمير (لَهُ) للقرآن المعلوم من السياق أي وما يصح للقرآن أن يكون شعرا فيجوز صدور الشعر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يحتاج إلى توجيه ليس بشيء فإنه يكفي في نفي الشعر عنه عليه الصلاة والسلام قوله سبحانه (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) مع أن الظاهر عود الضمير عليه عليه الصلاة والسلام ، وأولى التوجيهات إخراج ذلك من الشعر بانتفاء القصد وبذلك يخرج ما وقع في القرآن من نظائره منه ، وقد ذكرنا لك فيما مر كثيرا منها ، وليس في الآية ما يدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينبغي له التكلم بشعر قاله بعض الشعراء والمتمثل به ، وفي الأخبار ما يدل على وقوع التكلم بالبيت متزنا نادرا كما روي أنه عليه الصلاة والسلام أنشد بيت ابن رواحة :

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

وإنشاده إياه كذلك مذكور في البحر ، وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصاب إصبعه الشريفة حجر في بعض غزواته فدميت فتمثل بقول الوليد بن المغيرة : على ما قاله ابن هشام في السيرة أو ابن رواحة على ما صححه ابن الجوزي: ما أنت إلا إصبع دميت* وفي سبيل الله ما لقيت قيل : هو له عليه الصلاة والسلام والكلام فيه كالكلام في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا النبي إلخ إلا أن هذا يحتمل أن يكون مشطورا إذا كان كل من شطريه بيتا وعلى وقوع التكلم بالبيت غير متزن مع إحراز المعنى كثيرا كما روي أنه عليه الصلاة والسلام أنشد :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك من لم تزود بالأخبار

__________________

(١) فيه اشارة الى استحالة الكذب على النبي فكانه قال أنا النبي والنبي لا يكذب فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم وانا متيقن ان الذي وعدني الله تعالى من النصر حق فلا يجوز عليّ الفرار. ثم أشار عليه الصلاة والسلام الى انه لا يليق به من حيث نسبه الجليل الفرار ايضا تدبر اه منه.

٤٧

فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه ليس هكذا يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام «إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي» وفي خبر أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا استراث الخبر تمثل ببيت طرفة ويأتيك من لم تزود بالأخبار.

وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم عن الحسن أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتمثل بهذا البيت :

كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا

فقال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله ما علمك الشعر وما ينبغي لك ، وأخرج ابن سعيد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للعباس بن مرداس : أرأيت قولك :

أتجعل نهبي ونهب العبي

د بين الأقرع وعيينة

فقال له أبو بكر : رضي الله تعالى عنه بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما أنت بشاعر ولا راوية ولا ينبغي لك إنما قال بين عيينة والأقرع ، وروي أنه قيل له عليه الصلاة والسلام : من أشعر الناس؟ فقال : الذي يقول :

ألم ترياني كلما جئت طارقا* وجدت بها وإن لم تطيب طيبا وأخرج البيهقي في سننه بسند فيه مجهول عن عائشة قالت ما جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت شعر قط إلا بيتا واحدا :

تفاءل بما تهوى يكن فلقلما

يقال لشيء كان إلا تحقق

قالت عائشة ولم يقل تحققا لئلا يعربه فيصير شعرا ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع هذا لم يكن يحب الشعر ففي مسند أحمد بن حنبل عن عائشة قالت : كان أبغض الحديث إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشعر ، وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» وهذا ظاهر في ذم الإكثار منه ، وما روي عن الخليل أنه قال كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كثير من الكلام مناف لما سمعت عن المسند ، ولعل الجمع بالتفصيل بين شعر وشعر ، وقد تقدم الكلام في الشعر مفصلا في سورة الشعراء فتذكر.

(إِنْ هُوَ) أي ما القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) أي عظة من الله عزوجل وإرشاد للثقلين كما قال سبحانه : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) [يوسف : ١٠٤ ، ص : ٨٧ ، التكوير : ٢٧] (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) أي كتاب سماوي ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز الذي ألقم من تصدي للمعارضة الحجر (لِيُنْذِرَ) أي القرآن أو الرسول عليه الصلاة والسلام ، ويؤيده قراءة نافع وابن عامر «لتنذر» بتاء الخطاب. وقرأ اليماني «لينذر» مبنيا للمفعول ونقلها ابن خالويه عن الجحدري وقال : عن أبي السمال واليماني أنهما قرءا «لينذر» بفتح الياء والذال مضارع نذر بالشيء بكسر الذال إذا علم به.

(مَنْ كانَ حَيًّا) أي عاقلا كما أخرج ذلك ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن الضحاك ، وفيه استعارة مصرحة بتشبيه العقل بالحياة أو مؤمنا بقرينة مقابلته بالكافرين ، وفيه أيضا استعارة مصرحة لتشبيه الإيمان بالحياة ، ويجوز كونه مجازا مرسلا لأنه سبب للحياة الحقيقية الأبدية ، والمضي في (كانَ) باعتبار ما في علمه عزوجل لتحققه ، وقيل كان بمعنى يكون ، وقيل في الكلام مجاز المشارفة ونزلت منزلة المضي وهو كما ترى ، وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع بذلك (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) أي تجب كلمة العذاب (عَلَى الْكافِرِينَ) الموسومين بهذا الوسم المصرين على الكفر ، وفي إيرادهم بمقابلة من كان حيا إشعار بأنهم لخلوهم عن آثار الحياة وأحكامها كالمعرفة أموات في الحقيقة ، وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية قرينتها استعارة أخرى. وكأنه جيء بقوله سبحانه (لِيُنْذِرَ) إلخ رجوعا إلى

٤٨

ما بدئ به السورة من قوله عزوجل : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) [يس : ٦] ولو نظرت إلى هذا التخلص من حديث المعاد إلى حديث القرآن والإنذار لقضيت العجب من حسن موقعه (أَوَلَمْ يَرَوْا) الهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على جملة منفية مقدرة مستتبعة للمعطوف أي ألم يتفكروا أو ألم يلاحظوا أو ألم يعلموا علما يقينيا مشابها للمعاينة زعم بعضهم أن هذا عطف على قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا) [يس : ٣١] إلخ والأول للحث على التوحيد بالتحذير من النقم وهذا بالتذكير بالنعم المشار إليها بقوله تعالى : (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) أي لأجلهم وانتفاعهم (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) أي مما تولينا إحداثه بالذات من غير مدخل لغيرنا فيه لا خلقا ولا كسبا.

والكلام استعارة تمثيلية فيما ذكر ، وجوز أن يكون قد كني عن الإيجاد بعمل الأيدي فيمن له ذلك ثم بعد الشيوع أريد به ما أريد مجازا متفرعا على الكناية ، وقال بعضهم : المراد بالعمل الأحداث وبالأيدي القدرة مجازا ، وأوثرت صيغة التعظيم والأيدي مجموعة تعظيما لشأن الأثر وإنه أمر عجيب وصنع غريب وليس بذاك ، وقيل الأيدي مجاز عن الملائكة المأمورين بمباشرة الأعمال حسبما يريده عزوجل في عالم الكون والفساد كملائكة التصوير وملائكة نفخ الأرواح في الأبدان بعد إكمال تصويرها ونحوهم ، ولا يخفى ما فيه.

ونحوه ما قيل الأيدي مجاز عن الأسماء فإن كل أثر في العالم بواسطة اسم خاص من أسمائه عزوجل.

وأنت تعلم أن الآية من المتشابه عند السلف وهم لا يجعلون اليد مضافة إليه تعالى بمعنى القدرة أفردت ـ كيد الله فوق أيديهم ـ أو ثنيت كخلقت بيدي أو جمعت كما هنا بل يثبتون اليد له عزوجل كما أثبتها لنفسه مع التنزيه الناطق به قوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وارتضاه كثير ممن وفقه الله تعالى من الخلق ، ولا أرى الطاعنين عليهم إلا جهلة (أَنْعاماً) مفعول (خَلَقْنا) وأخر عن الجارين المتعلقين به اعتناء بالمقدم وتشويقا إلى المؤخر وجمعا بينه وبين ما يتعلق به من أحكامه المتفرعة عليه والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية وخصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع ، وهذا كقوله تعالى : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) أي متملكون لها بتمليكنا إياها لهم ، والفاء قيل للتفريع على مقدر أي خلقنا لهم أنعاما وملكناها لهم فهم بسبب ذلك مالكون لها ، وقيل للتفريع على خلقها لهم وفيه خفاء. وجوز أن يكون الملك بمعنى القدرة والقهر من ملكت العجين إذا أجدت عجنه ، ومنه قول الربيع بن منيع الفزاري وقد سئل عن حاله بعد إذ كبر :

أصبحت لا أحمل السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

والأول أظهر ليكون ما بعد تأسيسا لا تأكيدا ، وأيا ما كان فلها متعلق بمالكون واللام مقوية للعمل وقدم لرعاية الفواصل مع الاهتمام ، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرار مالكيتهم لها واستمرارها.

(وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ

٤٩

(٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨٣)

(وَذَلَّلْناها لَهُمْ) أي وصيرناها سهلة غير مستعصية عليهم في شيء مما يريدون بها حتى الذبح حسبما ينطق به قوله تعالى (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) فإن الفاء فيه لتفريع أحكام التذليل عليه وتفصيلها أي فبعض منها مركوبهم فركوب فعول بمعنى مفعول كحصور وحلوب وقزوع وهو مما لا ينقاس. وقرأ أبي وعائشة «ركوبتهم» بالتاء وهي فعولة بمعنى مفعولة كحلوبة ، وقيل جمع ركوب ، وتعقب بأنه لم يسمع فعولة بفتح الفاء في الجموع ولا في أسمائها. وقرأ الحسن والأعمش وأبو البرهسم «ركوبهم» بضم الراء وبغير تاء وهو مصدر كالقعود والدخول فأما أن يؤول بالمفعول أو يقدر مضاف في الكلام إما في جانب المسند إليه أي ذو ركوبهم أو في جانب المسند أي فمن منافعها ركوبهم (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) أي وبعض منها يأكلون لحمه ، والتبعيض هنا باعتبار الأجزاء وفيما قيل باعتبار الجزئيات والجملة معطوفة على ما قبلها ، وغير الأسلوب لأن الأكل عام في الأنعام جميعها وكثير مستمر بخلاف الركوب كذا قيل ، وقيل الفعل موضوع موضع المصدر وهو بمعنى المفعول للفاصلة.

(وَلَهُمْ فِيها) أي في الأنعام بكلا قسميها (مَنافِعُ) غير الركوب والأكل كالجلود والأصواف والأوبار وغيرها وكالحراثة بالثيران (وَمَشارِبُ) جمع مشرب مصدر بمعنى المفعول والمراد به اللبن ، وخص مع دخوله في المنافع لشرفه واعتناء العرب به ، وجمع باعتبار أصنافه ولا ريب في تعددها ، وتعميم المشارب للزبد والسمن والجبن والأقط لا يصح إلا بالتغليب أو التجوز لأنها غير مشروبة ولا حاجة إليه مع دخولها في المنافع ، وجوز أن تكون المشارب جمع مشرب موضع الشرب.

قال الإمام : وهو الآنية فإن من الجلود يتخذ أواني الشرب من القرب ونحوها ، وقال الخفاجي : إذا كان موضعا فالمشارب هي نفسها لقوله سبحانه : (فِيها) فإنها مقرة ، ولعله أظهر من قول الإمام (أَفَلا يَشْكُرُونَ) أي يشاهدون هذه النعم فلا يشكرون المنعم بها ويخصونه سبحانه بالعبادة (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي متجاوزين الله تعالى الذي رأوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم الظاهرة وعلموا أنه سبحانه المتفرد بها (آلِهَةً) من الأصنام وأشركوها به عزوجل في العبادة (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) رجاء أن ينصروا أو لأجل أن ينصروا من جهتهم فيما نزل بهم وأصابهم من الشدائد أو يشفعوا لهم في الآخرة ، وقوله تعالى :

(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) إلخ استئناف سيق لبيان بطلان رأيهم وخيبة رجائهم وانعكاس تدبيرهم أي لا تقدر آلهتهم على نصرهم ، وقول ابن عطية ، يحتمل أن يكون ضمير (يَسْتَطِيعُونَ) للمشركين وضمير (نَصْرَهُمْ) للأصنام ليس بشيء أصلا (وَهُمْ) أي أولئك المتخذون المشركون (لَهُمْ) أي لآلهتهم (جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي معدون لحفظهم والذب عنهم في الدنيا.

أخرجه ابن أبي حاتم وابن المنذر عن الحسن وقتادة ، وقيل : المعنى أن المشركين جند لآلهتهم في الدنيا محضرون للنار في الآخرة ، وجاء بذلك في رواية أخرجها ابن أبي حاتم عن الحسن ، واختار بعض الأجلة أن معنى والمشركون لآلهتهم جند محضرون يوم القيامة أثرهم في النار وجعلهم جندا من باب التهكم والاستهزاء. وكذلك لام لهم الدالة على النفع ، وقيل (هُمْ) للآلهة وضمير (لَهُمْ) للمشركين أي وإن الآلهة معدون محضرون لعذاب أولئك المشركين يوم القيامة لأنهم يجعلون وقود النار أو محضرون عند حساب الكفرة إظهارا لعجزهم وإقناطا للمشركين عن

٥٠

شفاعتهم وجعلهم جندا ، والتعبير باللام في الوجهين على ما مر آنفا ، واختلاف مراجع الضمائر في الآية ليس من التفكيك المحظور ، والواو في قوله سبحانه (وَهُمْ) إلخ على جميع ما مر إما عاطفة أو حالية إلا أن الحال مقدرة في بعض الأوجه كما لا يخفى. والفاء في قوله تعالى (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) فصيحة أي إذا كان هذا حالهم مع ربهم عزوجل فلا تحزن بسبب قولهم عليك هو شاعر أو إذا كان حالهم يوم القيامة ما سمعت فلا تحزن بسبب قولهم على الله سبحانه إن له شركاء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا أو عليك هو شاعر أو على الله تعالى وعليك ما لا يليق بشأنه عزوجل وشأنك ، والاقتصار في بيان قولهم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه وحاشاه شاعر لأنه الأوفق بما تقدم من قوله تعالى (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) وقد يعمم فيشمل جميع ما لا يليق بشأنه عليه الصلاة والسلام من الأقوال ، وتفسير الشرط الذي أفصحت عنه الفاء بما ذكرنا أولا هو المناسب لما روي عن الحسن وقتادة في معنى قوله تعالى (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) وبما ذكرنا ثانيا هو المناسب لما ذكر بعد في معنى ذلك ، وقيل التقدير على الأول إذا كانوا في هذه المرتبة من سخافة العقول حيث اتخذوا رجاء النصر آلهة من دون الله عزوجل لا يقدرون على نصرهم والذب عنهم بل هم يذبون عن تلك الآلهة فلا تحزن بسبب قولهم عليك ما قالوا ولعل الأول أولى ، وأيا ما كان فالنهي وإن كان بحسب الظاهر متوجها إلى قولهم لكنه في الحقيقة كما أشرنا إليه متوجه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد نهيه عليه الصلاة والسلام عن التأثر من الحزن بطريق الكناية على أبلغ وجه وأكده كما لا يخفى.

وقرأ نافع «فلا يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي من أحزن المنقول من حزن اللازم وجاء حزنه وأحزنه. (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) تعليل صريح للنهي بطريق الاستئناف بعد تعليلة بطريق الإشعار بناء على التقدير الثاني في الشرط فإن العلم بما ذكر مجاز عن مجازاتهم عليه أو كناية عنها للزومها إياه إذ علم الملك القادر الحكيم بما جرى من عدوه الذي تقتضي الحكمة الانتقام منه مقتض لمجازاته والانتقام منه ، وهو على التقدير الأول قيل استئناف بياني وقع جواب سؤال مقدر كأنه قيل : يا رب فإذا كان حالهم معك ومع نبيك ذلك فما ذا تصنع بهم؟ فقيل : (إِنَّا نَعْلَمُ) إلخ أي نجازيهم بجميع جناياتهم ، وقيل هو تعليل لترتيب النهي على الشرط فتأمل ، وما موصولة والعائد محذوف أي نعلم الذي يسرونه من العقائد الزائغة والعداوة لك ونحو ذلك والذي يعلنونه من كلمات الإشراك والتكذيب ونحوها ، وجوز أن تكون مصدرية أي نعلم أسرارهم وإعلانهم والمفعول محذوف أو الفعلان منزلان منزلة اللازم والمتبادر الأول وهو الأولى.

وتقديم السر على العلن لبيان احاطة علمه سبحانه بحيث إن علم السر عنده تعالى كأنه أقدم من علم العلن ، وقيل : لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب قبل ذلك فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية حقيقة ، وقيل : للإشارة إلى الاهتمام بإصلاح الباطن فإنه ملاك الأمر ولأنه محل الاشتباه المحتاج للبيان ، وشاع أن الوقف على (قَوْلُهُمْ) متعين ، وقيل : ليس به لأنه جوز في (إِنَّا نَعْلَمُ) إلخ كونه مقول القول على أن ذلك من باب الإلهاب والتعريض كقوله تعالى (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤ ، يونس : ١٠٥ ، القصص : ٨٧] أو على أن المراد فلا يحزنك قولم على سبيل السخرية والاستهزاء إنا نعلم إلخ ، ومنه يعلم أنه لو قرأ قارئ أنا نعلم بالفتح وجعل ذلك بدلا من (قَوْلُهُمْ) لا تنتقض صلاته ولا يكفر لو اعتقد ما يعطيه من المعنى كما لو جعله تعليلا على حذف حرف التعليل ، والحق أن مثل هذا التوجيه لا بأس بقبوله في درء الكفر ، وأما أمر الوقف فالذي ينبغي أن يقال فيه إنه على قولهم كالمتعين (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث بعد ما شاهدوا في أنفسهم ما يوجب التصديق به كما أن ما سبق

٥١

مسوق لبيان بطلان إشراكهم بالله عزوجل وبعد ما عاينوا فيما بأيديهم ما يوجب التوحيد والإسلام ، وقيل : إنه تسلية له عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) وذلك بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر وليس بشيء.

والهمزة للإنكار والتعجب والواو للعطف على جملة مقدرة هي مستتبعة للمعطوف كما مر في قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا) إلخ أي ألم يتفكر الإنسان ولم يعلم أنا خلقناه من نطفة أو هي عين تلك الجملة أعيدت تأكيدا للنكير السابق وتمهيدا لإنكار ما هو أحق منه بالإنكار لما أن المنكر عين علمهم بما يتعلق بخلق أنفسهم ، ولا ريب في أن علم الإنسان بأحوال نفسه أهم وإحاطته بها أسهل وأتم فالإنكار والتعجيب من الإخلال بذلك كأنه قيل ألم يعلموا خلقه تعالى لأسباب معايشهم ولم يعلموا خلقه تعالى لأنفسهم أيضا مع كون العلم بذلك في غاية الظهور ونهاية الأهمية ، ويشير كلام بعض الأجلة إلى أن العطف على (أَوَلَمْ يَرَوْا) السابق والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس فإنه تعالى خلق للإنسان ما خلق ليشكر فكفر وجحد المنعم والنعم وخلقه سبحانه من نطفة قذرة ليكون منقادا متذللا فطغى وتكبر وخاصم ، وإيراد الإنسان مورد الضمير لأن مدار الإنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان.

وقوله تعالى (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ) أي مبالغ في الخصومة والجدال الباطل (مُبِينٌ) ظاهر متجاهر في ذلك عطف على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار والتعجيب كأنه قيل : أو لم يرانا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر يشهد بصحته مبدأ فطرته شهادة بينة ، وإيراد الجمل اسمية للدلالة على استقراره في الخصومة واستمراره عليها. وفي الحواشي الخفاجية أن تعقيب الإنكار بالفاء وإذا الفجائية على ما يقتضي خلافه مقو للتعجيب ، والمراد بالإنسان الجنس ، والخصيم إنما هو الكافر المنكر للبعث مطلقا ، نعم نزلت الآية في كافر مخصوص ، أخرج جماعة منهم الضياء في المختارة عن ابن عباس قال : جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم حائل ففته بيده فقال : يا محمد أيحيي الله تعالى هذا بعد ما أرم؟ قال : نعم يبعث الله تعالى هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم فنزلت الآيات (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) إلى آخر السورة ، وفي رواية ابن مردويه عنه أن الجائي ذلك القائل أبي بن خلف وهو الذي قتله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد بالحربة ، وروي ذلك عن أبي مالك ومجاهد وقتادة والسدي وعكرمة وغيرهم كما في الدر المنثور. وفي رواية أخرى عن الحبر أنه أبو جهل بن هشام ، وفي أخرى عنه أيضا أنه عبد الله بن أبي ، وتعقب ذلك أبو حيان بأن نسبة ذلك إلى أن عباس رضي الله تعالى عنهما وهم لأن السورة والآية مكية بإجماع ولأن عبد الله بن أبي لم يجاهر قط هذه المجاهرة ، وحكي عن مجاهد وقتادة أنه أمية بن خلف ، والذي اختاره وأدعى أنه أصح الأقوال أنه أبي بن خلف ثم قال : ويحتمل أن كلا من هؤلاء الكفرة وقع منه ذلك ، وقيل معنى قوله تعالى (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في ضميره فصيح فهو حينئذ معطوف على «خلقناه» والتعقيب والمفاجأة ناظران إلى خلقه ، و (مُبِينٌ) متعد والكلام من متممات شواهد صحة البعث فقوله تعالى (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) معطوف حينئذ على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار ، وأما على الأول فهو عطف على الجملة الفجائية ، والمعنى ففاجأ خصومتنا وضرب لنا مثلا أي أورد في شأننا قصة عجيبة في نفس الأمر هي في الغرابة كالمثل وهي إنكار احيائنا العظام أو قصة عجيبة في زعمه واستبعدها وعدها من قبيل المثل وأنكرها أشد الإنكار وهي أحياؤنا إياها أو جعل لنا مثلا ونظيرا من الخلق وقاس قدرتنا على قدرتهم ونفي الكل على العموم ، وقوله تعالى (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي خلقنا إياه على الوجه المذكور الدال على بطلان ما ضربه أما عطف على «ضرب» داخل في حيز الإنكار والتعجيب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه ، ونسيان خلقه بأن لم

٥٢

يتذكره على ما قيل وفيه دغدغة أو ترك تذكره لكفره وعناده أو هو كالناسي لعدم جريه على مقتضى التذكر وقوله سبحانه (قالَ) استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية ضربه المثل كأنه قيل : أي مثل ضرب أو ما ذا قال؟ فقيل : قال (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) منكرا ذلك ناكرا من أحوال العظام ما تبعد معه من الحياة غاية البعد وهو كونها رميما أي بالية أشد البلى ، والظاهر أن «رميم» صفة لا اسم جامد فإن كان من رم اللام بمعنى بلى فهو فعيل بمعنى فاعل ، وإنما لم يؤنث لأنه غلب استعماله غير جار على موصوف فالحق بالأسماء الجامدة أو حمل على فعيل بمعنى مفعول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وقال محيي السنة : لم يقل رميمة لأنه معدول من فاعلة فكل ما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفا عن أخواته ، ومثله «بغيا» في قوله تعالى «ما كانت أمك بغيا» أسقط الهاء منها لأنها كانت مصروفة عن باغية ، وقال الأزهري : إن عظاما لكونه بوزن المفرد ككتاب وقراب عومل معاملته فقيل رميم دون رميمة وذكر له شواهد وهو غريب ، وإن كان من رم المتعدي بمعنى ابلى يقال رمه أي أبلاه ؛ وأصل معناه الأكل كما ذكره الأزهري من رمث الإبل الحشيش فكان ما بلى أكلته الأرض فهو فعيل بمعنى مفعول ، وتذكيره على هذا ظاهر للإجماع على أن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث. وفي المطلع الرميم اسم غير صفة كالرمة والرفات لا فعيل بمعنى فاعل أو مفعول ولأجل أنه اسم لا صفة لا يقال لم لم يؤنث وقد وقع خبرا لمؤنث؟ ولا يخفى أن له فعلا وهو رم كما ذكره أهل اللغة وهو وزن من أوزان الصفة فكونه جامدا غير ظاهر (قُلْ) تبكيتا له بتذكير ما نسيه من فطرته الدالة على حقيقة الحال وإرشاده إلى طريقة الاستشهاد بها (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها) أي أوجدها ورباها (أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي في أول مرة إذ لم يسبق لها إيجاد ولا شك أن الإحياء بعد أهون من الإنشاء قبل فمن قدر على الإنشاء كان على الأحياء أقدر وأقدر ، ولا احتمال لعروض العجز فإن قدرته عزوجل ذاتية أزلية لا تقبل الزوال ولا التغير بوجه من الوجوه. وفي الحواشي الخفاجية كان الفارابي يقول وددت لو أن أرسطو وقف على القياس الجلي في قوله تعالى «قل يحييها» إلخ وهو الله تعالى أنشأ العظام وأحياها أول مرة وكل من انشأ شيئا أولا قادر على إنشائه وإحيائه ثانيا فيلزم أن الله عزوجل قادر على انشائها وإحيائها بقواها ثانيا ، والآية ظاهرة فيما ذهب إليه الإمام الشافعي قيل ومالك وأحمد من أن العظم تحله الحياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء وبنوا على ذلك الحكم بنجاسة عظم الميتة ومسألة حلول الحياة في العظم وعدمه مما اختلف فيه الفقهاء والحكماء ، واستدل من قال منهما بعدم حلولها فيه بأن الحياة تستلزم الحس والعظم لا إحساس له فإنه لا يتألم بقطعة كما يشاهد في القرن ، وما قد يحصل في قطع العظم من التألم إنما هو لما يجاوره ، وقال ابن زهر في كتاب التيسير : اضطرب كلام جالينوس في العظام هل لها احساس أم لا والذي ظهر لي أن لها حسا بطيئا وليت شعري ما يمنعها من التعفن والتفتت في الحياة غير حلول الروح الحيواني فيها انتهى.

وبعض من ذهب من الفقهاء إلى أن العظام لا حياة فيها بنى عليه الحكم بطهارتها من الميتة إذ الموت زوال الحياة فحيث لم تحلها الحياة لم يحلها الموت فلم تكن نجسة. وأورد عليهم هذه الآية فقيل المراد بالعظام فيها صاحبها بتقدير أو تجوز أو المراد بإحيائها ردها لما كانت عليه غضة رطبة في بدن حي حساس ، ورجح هذا على إرادة صاحبها بأن سبب النزول لا بد من دخوله وعلى تلك الإرادة لا يدخل ، ويدخل على تأويل إحيائها بإعادتها لما كانت عليه. ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك خلاف الظاهر ، والظاهر مع الشافعية ومن الفقهاء القائلين بعدم نجاسة عظام الميتة من رأى قوة الاستدلال بالآية على أن العظام تحلها الحياة فعلل الطهارة بغير ما سمعت فقال : إن نجاسة الميتة ليست لعينها بل لما فيها من الرطوبة والدم السائل والعظم ليس فيه ذلك فلذا لم يكن نجسا ، ومنع الشافعية كون النجاسة للرطوبة وتمام الكلام في الفروع (وَهُوَ) عزوجل (بِكُلِّ خَلْقٍ) أي مخلوق (عَلِيمٌ) مبالغ في العلم

٥٣

فيعلم جل وعلا بجميع الأجزاء المتفتتة المتبددة لكل شخص من الأشخاص أصولها وفروعها وأوضاع بعضها من بعض من الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق فيعيد كلا من ذلك على النمط السابق مع القوى التي كانت قبل ، والجملة إما اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما تقدم أو معطوفة على الصلة ، والعدول إلى الاسمية للتنبيه على أن علمه تعالى بما ذكر أمر مستمر ليس كإنشائه للمنشآت.

وقوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) بدل من الموصول الأول وعدم الاكتفاء بعطف صلته على صلته للتأكيد ولتفاوتهما في كيفية الدلالة ، والظرفان متعلقان بجعل قدما على (ناراً) مفعوله الصريح للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، و (الْأَخْضَرِ) صفة الشجر وقرئ الخضراء ، وأهل الحجاز يؤنثون الجنس المميز واحدة بالتاء مثل الشجر إذ يقال في واحده شجرة ، وأهل نجد يذكرونه إلا ألفاظا استثنيت في كتب النحو ، وذكر بعضهم أن التذكير لرعاية اللفظ والتأنيث لرعاية المعنى لأنه في معنى الأشجار والجمع تؤنث صفة ، وقيل لأنه في معنى الشجرة وكما يؤنث صفته يؤنث ضميره كما في قوله تعالى (مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) [الواقعة : ٥٢ ، ٥٣] والمشهور أن المراد بهذا الشجر المرخ والعفار يتخذ من المرخ وهو ذكر الزند الأعلى ومن العفار بفتح العين وهو أنثى الزندة السفلى ويسحق الأول على الثاني وهما خضراوان يقطر منهما الماء فتنقدح النار بإذن الله تعالى ، وكون المرخ بمنزلة الذكر والعفار بمنزلة الأنثى هو ما ذكره الزمخشري وغيره واللفظ كالشاهد له ، وعكس الجوهري وعن ابن عباس والكلبي في كل شجر نار إلا العناب قيل ولذا يتخذ منه مدق القصارين ، وأنشد الخفاجي لنفسه :

أيا شجر العناب نارك أوقدت

بقلبي وما العناب من شجر النار

واشتهر العموم وعدم الاستثناء ففي المثل في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي استكثرا من النار من مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى واسع كثير ، ومنه رجل ماجد أي مفضال ، واختار بعضهم حمل الشجر الأخضر على الجنس وما يذكر من المرخ والعفار من باب التمثيل ، وخصا لكونهما أسرع وريا وأكثر نارا كما يرشد إليه المثل ، ومن إرسال المثل المرخ والعفار لا يلدان غير النار.

(فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) كالتأكيد لما قبله والتحقيق له أي فإذا أنتم من ذلك الشجر الأخضر توقدون النار لا تشكون في أنها نار حقيقة تخرج منه وليست كنار الحباحب ، وأشار سبحانه بقوله تعالى (الَّذِي) إلخ إلى أن من قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيته فإن الماء بارد رطب والنار حارة يابسة كان جل وعلا أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضا فيبس وبلي ، ثم إن هذه النار يخلقها الله تعالى عند سحق إحدى الشجرتين على الأخرى لا أن هناك نارا كامنة تخرج بالسحق و (مِنَ الشَّجَرِ) لا يصلح دليلا لذلك ، وفي كل شجر نار من مسامحات العرب فلا تغفل ، وإياك واعتقاد الكمون.

وقوله تعالى (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلخ استئناف مسوق من جهته تعالى لتحقيق مضمون الجواب الذي أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخاطبهم به ويلزمهم الحجة ، والهمزة للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أليس الذي أنشاها أول مرة وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا وليس الذي خلق السماوات والأرض مع كبر جرمهما وعظم شأنهما (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) في الصغر والحقارة بالنسبة إليهما على أن المراد بمثلهم هم وأمثالهم أو على أن المراد به هم أنفسهم بطريق الكناية كما في مثلك يفعل كذا ، وقال بعضهم : مثلهم في أصول الذات وصفاتها وهو المعاد ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في هذا المقام ، وزعم جماعة

٥٤

من المفسرين عود ضمير (مِثْلَهُمْ) للسماوات والأرض لشمولهما لمن فيهما من العقلاء فلذا كان ضمير العقلاء تغليبا والمقصود بالكلام دفع توهم قدم العالم المقتضي لعدم إمكان إعادته وهو تكلف ومخالف للظاهر والمشركون لا يقولون بقدم العالم فيما يظهر. وتعقب أيضا بأن قدم العالم لو فرض مع قدم النوع الإنساني وعدم تناهي أفراده في جانب المبدأ لا يأبى الحشر الجسماني إذ هو بالنسبة إلى المكلفين وهم متناهون. وزعم أن ما ثبت قدمه استحال عدمه غير تام كما قرر في محله فلا تغفل ، وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق والأعرج وسلام ويعقوب في رواية «يقدر» بفتح الياء وسكون القاف فعلا مضارعا.

(بَلى) جواب من جهته تعالى وتصريح بما أفاده الاستفهام الإنكاري من تقرير ما بعد النفي من القدرة على الخلق وإيذان بتعيينه للجواب نطقوا به أو تلعثموا فيه مخافة الالتزام ، وقوله تعالى (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) عطف على ما يفيده الإيجاب أي بلى هو سبحانه قادر على ذلك وهو جل وعلا المبالغ في الخلق والعلم كيفا وكما.

وقرأ الحسن والجحدري وزيد بن علي ومالك بن دينار «الخالق» بزنة الفاعل (إِنَّما أَمْرُهُ) أي شأنه تعالى شأنه في الإيجاد ، وجوز فيه أن يراد الأمر القولي فيوافق قوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ) [النحل : ٤٠] ويراد به القول النافذ.

(إِذا أَرادَ شَيْئاً) أي إيجاد شيء من الأشياء (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ) أي أوجد (فَيَكُونُ) أي فهو يكون ويوجد ، والظاهر أن هناك قولا لفظيا هو لفظ كن وإليه ذهب معظم السلف وشئون الله تعالى وراء ما تصل إليه الأفهام فدع عنك الكلام والخصام ، وقيل ليس هناك قول لفظي لئلا يلزم التسلسل ، ويجوز أن يكون هناك قول نفسي وقوله للشيء تعلقه به ، وفيه ما يأباه السلف غاية الإباء ، وذهب غير واحد إلى أنه لا قول أصلا وإنما المراد تمثيل لتأثير قدرته تعالى في مراده بأمر الآمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة حصول المأمور به من غير امتناع وتوقف على شيء.

وقرأ ابن عامر والكسائي «فيكون» بالنصب عطفا على (يَقُولَ) وجوز كونه منصوبا في جواب الأمر ، وأباه بعضهم لعدم كونه أمرا حقيقة ، وفيه بحث (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) تنزيه له عزوجل مما وصفوه به تعالى وتعجيب عما قالوا في شأنه عز شأنه ، والفاء جزائية أي إذا علم ذلك فسبحان أو سببية لأن ما قبل سبب لتنزيهه سبحانه ، والملكوت مبالغة في الملك كالرحموت والرهبوت فهو الملك التام ، وفي تعليق سبحان بما في حيزه إيماء إلى أن كونه تعالى مالكا للملك كله قادرا على كل شيء مقتض للتسبيح ، وفسر الملكوت أيضا بعالم الأمر والغيب فتخصيصه بالذكر قيل لاختصاص التصرف فيه به تعالى من غير واسطة بخلاف عالم الشهادة.

وقرأ طلحة والأعمش «ملكة» على وزن شجرة أي بيده ضبط كل شيء ، وقرئ «مملكة» على وزن مفعلة وقرئ «ملك» (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لا إلى غيره تعالى وهذا وعد للمقرين ووعيد للمنكرين فالخطاب عام للمؤمنين والمشركين ، وقيل هو وعيد فقط على أن الخطاب للمشركين لا غير توبيخا لهم ولذا عدل عن مقتضى الظاهر وهو وإليه يرجع الأمر كله ففيه دلالة على أنهم استحقوا غضبا عظيما. وقرأ زيد بن علي «ترجعون» مبنيا للفاعل.

هذا ما لخص من كلامهم في هذه الآيات الكريمة وفيها دلالة واضحة على المعاد الجسماني وإيماء إلى دفع بعض الشبه عنه ، وهذه المسألة من مهمات مسائل الدين وحيث إن هذه السورة الكريمة قد تضمنت من أمره ماله كانت عند أجلة العلماء الصدور قلب القرآن لا بأس بأن يذكر في إتمام الكلام فيها ما للعلماء في تحقيق أمر ذلك فأقول طالبا من الله عزوجل التوفيق إلى القول المقبول : اعلم أولا أن المسلمين اختلفوا في أن الإنسان ما هو فقيل هو هذا الهيكل المحسوس مع أجزاء سارية فيه سريان ماء الورد والنار في الفحم وهي جسم لطيف نوراني مخالف بالحقيقة والماهية

٥٥

للأجسام التي منها ائتلف هذا الهيكل وإن كان لسريانه فبه بشبهه صورة ولا نعلم حقيقة هذا الجسم وهو الروح المشار إليها بقوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] عند معظم السلف الصالح وبينه وبين البدن علاقة يعبر عنها بالروح الحيواني وهو بخار لطيف إذا فسد وخرج عن الصلاحية لأن يكون علاقة تخرج الروح عن البدن خروجا اضطراريا وتزول الحياة ، وما دام باقيا على الوجه الذي يصلح به لأن يكون علاقة تبقي الروح والحياة ، وهذا الجسم المعبر عنه بالروح على ما قال الإمام القرطبي في التذكرة مما له أول وليس له آخر بمعنى أنه لا يفنى وإن فارق البدن المحسوس ، وذكر فيها أن من قال إنه يفنى فهو ملحد ، وقيل هو هذا الهيكل المحسوس مع النفس الناطقة التي هي جوهر مجرد بل هو الإنسان حقيقة على ما صرح به بعضهم ، وإلى إثبات هذا الجوهر ذهب الحليمي والغزالي والراغب وأبو زيد الدبوسي ومعمر من قدماء المعتزلة وجمهور متأخري الإمامية وكثير من الصوفية وهو الروح الأمرية وليست داخلة البدن ولا خارجة عنه فنسبتها إليه نسبة الله سبحانه وتعالى إلى العالم وهي بعد حدوثها الزماني عندهم لا تفنى أيضا.

ورد هذا المذهب ابن القيم في كتاب الروح بما لا مزيد عليه ، وكما اختلفوا في ذلك اختلفوا في أن البدن هل يتفرق بعد الموت فقط أم يتفرق وتعدم ذاته بكل قال بعض ، ولعل من قال بالثاني استثنى عجب الذنب لصحة خبر استثنائه من البلى ، وكل هؤلاء المختلفين اتفقوا على القول بالحشر الجسماني إلا أن منهم من قال بالحشر الجسماني فقط بمعنى أنه لا يحشر إلا جسم إذ ليس وراء الجسم عندهم جوهر مجرد يسمى بالنفس الناطقة ، ومنهم من قال بالحشر الجسماني والحشر الروحاني معا بمعنى أنه يحشر الجسم متعلقا به أمر ليس بجسم هو النفس الناطقة وكل من أصحاب هذين القولين منهم من يقول بأن البدن إذا تفرق تجمع أجزاؤه يوم القيامة للحشر وتقوم فيها الروح أو تتعلق كما في الدنيا بل القيام أو التعلق هناك أتم إذ لا انقطاع له أصلا بعد تحققه فالحشر عند هؤلاء بجمع الأجزاء المتفرقة وعود قيام الروح أو تعلقها إليها ، والمراد بالأجزاء الأجزاء الأصلية وهي أجزاء البدن حال نفخ الروح فيه في الدنيا لا الذرة التي أخذ عليها العهد يوم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] كما قيل : والله تعالى قادر على حفظها من التحلل والتبدل وكذا على حفظها من ان تكون أجزاء بدن آخر وإن تفرقت في أقطار الأرض واختلطت بالعناصر ، وقيل : يجوز أن تكون الأجزاء الأصلية يقبضها الملك بإذن الله تعالى عند حضور الموت فلا يتعلق بها الأكل ولا تختلط بالتراب ولا يحصل منها نماء نبات أو حيوان ؛ وهو مجرد احتمال لا دليل عليه بل مخالف لقوله سبحانه : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) فإنه ظاهر في أن المحشور أجزاء رميمة مخلوطة بالتراب ، ويجوز أن تكون الأجزاء الأصلية هي الأجزاء الترابية التي ينثرها الملك في الرحم على المني كما ورد في الحديث الصحيح وهو لا ينثر ترابا واحدا مرتين ويحشر البدن بعد الجمع على أكمل حالاته كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام «يحشر الناس حفاة عراة غرلا» ثم يزاد في أجساد أهل الجنة فيكون أحدهم كآدم عليه‌السلام طولا وعرضا ، وكذا يزاد في أجساد أهل النار خلافا للمعتزلة حتى أن سن أحدهم لتكون كجبل أحد ، وجاء كل من الزيادتين في الحديث فالمقطوع أو المجذوع مثلا لا يحشر إلا كاملا كما كان قبل القطع أو الجذع ومن خلق في الدنيا بأربع أيد مثلا يحشر على ما هو المعتاد المعروف في بني نوعه وكذا من خلق بلا يد أو رجل مثلا ، والقول بأنه يلزم تعذيب جسد لم يعص وترك تعذيب جسد عصى ناشئ عن غفلة عظيمة إذ المعذب إنما هو الروح وهو الذي عصى ولا يعقل العصيان والتعذيب لنفس الجسد وحرقه بالنار ليس تعذيبا له نفسه وإلا لكان حرق الخشب تعذيبا له بل هو وسيلة إلى تعذيب الروح وهذا كما لو جعل شخص في صندوق حديد مثلا ووضع في النار أو لف في ثوب وضرب بالسياط حتى

٥٦

تخرق الثوب فالروح بمنزلة هذا الشخص والجسد بمنزلة الصندوق أو الثوب ، وعلى القول بأن لكل شيء حياة لائقة به لا يلزم التعذيب أيضا إذ ليس كل حي تؤلمه النار ، واعتبر ذلك بالسمند وبالنعامة وكذا بخزنة جهنم وحياتها وعقاربها والعياذ بالله عزوجل. ومنهم من يقول : إن البدن يعدم لا أنه تتفرق أجزاؤه فقط ثم يعاد للحشر بعينه ، ومنهم من يقول يعدم ثم يخلق يوم القيامة مثله فتقوم فيه الروح أو تتعلق به. واستدل للقول الأول بقوله تعالى : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) فإنه ظاهر في أن العظام لا تعدم ذواتها في الخارج ولا يكاد يفهم من الرميم أكثر من تفرق الأجزاء وكأن المنكرين استبعدوا جمعها فأشير إلى دفع استبعادهم بأن الإنشاء أبعد وقد وقع ثم دفع ما عسى يتوهم من أن اختلاط الأجزاء بعد تفرقها وعودها إلى عناصرها يوجب عدم تميزها فلا يتيسر جمعها بقوله سبحانه : (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) ثم أشير إلى دفع ما يتوهم من أن الإنشاء كان تدريجيا نقلت فيه الأجزاء من حالة إلى حالة حتى حصل استعدادها للحياة ومناسبتها للروح ولا كذلك ما يكون يوم القيامة فلا مناسبة بين الأجزاء التي تجمع وبين الروح والحياة فلا يلزم من صحة الإنشاء صحة الحشر بقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) وحيث كان هذا معروفا بينهم يشاهده الكبير والصغير منهم أشار سبحانه إلى الدفع به وإلا فإنشاؤه تعالى لما يكون بالتولد من الحيوان كالفأر والذباب دافع لذلك.

ومن الناس من زعم أن ما يكون قبيل الساعة من الزلازل وإنزال مطر كمني الرجال ونحو ذلك لتحصيل استعداد للروح في تلك الأجزاء ، وهو مما لا يحتاج إلى التزامه ، وكذا استدل لذلك القول بما أرشد إليه إبراهيم عليه‌السلام حين قال (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠] وبقوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) [القيامة : ٣ ، ٤] إلى غير ذلك من الآيات وفي الأخبار ما يقتضيه أيضا ، واستدل لدعوى أن البدن يعدم ذاتا في القول الثاني بقوله سبحانه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] وقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦] ورد بأنه يجوز أن يكون التفرق هلاكا بل قال بعض المحققين : إن معنى الآية كل شيء ليس بموجود في الحال في حد نفسه إلا ذات الواجب تعالى بناء على أن وجود الممكن مستفاد من الغير فلا وجود فيه مع قطع النظر عن الغير بخلاف وجود الواجب تعالى فإنه من ذاته سبحانه بل عين ذاته ، ويقال نظير ذلك في الآية الثانية لو سلم دخول البدن في عموم من ، واستدل لدعوى أنه يخلق يوم القيامة مثله في القول الثالث بقوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى) وأجيب بأن المراد مثلهم في الصغر والقماة على ما سمعت فيما تقدم ، ولا يراد أنه تعالى قادر على أن يخلق يوم القيامة مثل أبدانهم التي كانت في الدنيا ويعيد أرواحهم إليها إذ لا يكاد يفهم هذا من الآية ولا داعي لالتزام القول بأن الحشر بخلق مثل البدن السابق وإن قيل بأن ذلك البدن تعدم ذاته في الخارج. ومن الناس من توهم وجوب التزامه إن قيل بذلك لاستحالة إعادة المعدوم.

واستدل على الاستحالة بأنه لو أعيد لزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه وهو محال.

ورد بناء على أن الوقت ليس من المشخصات المعتبرة في الوجود بأنا لا نسلم أن التخلل هاهنا محال لأن معناه أنه كان موجودا زمانا ثم زال عنه الوجود في زمان آخر ثم اتصف بالوجود في الزمان الثالث وهو في الحقيقة تخلل العدم وقطع الاتصال بين زماني الوجود ولا استحالة فيه لوجود الطرفين المتغايرين بالذات إنما المحال تخلل العدم بين ذات الشيء ونفسه بمعنى قطع الاتصال بين الشيء ونفسه بأن يكون الشيء موجودا ولم يكن نفسه موجودا ثم يجد نفسه وهاهنا ليس كذلك فإن الشيء وجد مع نفسه في الزمان الأول ثم اتصف مع نفسه بالعدم في الزمان الآخر

٥٧

ثم اتصف بالوجود مع نفسه في الزمان الثالث فلم يتحقق قطع الاتصال بين الشيء ونفسه في زمان من الأزمنة وهل هذا إلا كلبس شخص ثوبا معينا ثم خلعه ثم لبسه. واستدل أيضا بأنه لو جاز إعادة المعدوم بعينه لجاز إعادته مع مثله من كل وجه واللازم باطل لأن المتماثلين إما أن يكون أحدهما معادا دون الآخر وذلك باطل مستلزم للتحكم والترجيح بلا مرجح. وإما أن يكونا معادين وهو أيضا باطل مستلزم لاتحاد الاثنين ، وإما أن لا يكون شيء منهما معادا وهو أيضا باطل مستلزم خلاف المفروض إذ قد فرض كون أحدهما معادا ، وفيه أنه لا يتم إلا بإثبات فقدان الذات وبطلان الهوية فيما بين الوجودين السابق واللاحق فإنه مدار لزوم التحكم ، ويجوز أن يقال : الشيء إذا عدم في الخارج بقي في نفس الأمر بحسب وجوده الذهني فيحفظ وحدته الشخصية بحسب ذلك الوجود كما لو كان متميزا ثابتا في العدم ثبوتا منفكا عن الوجود الخارجي كما ذهب إليه المعتزلة وموافقوهم ، وزعم أن وحدته الشخصية غير محفوظة في الذهن إذ لا وحدة بدون الوجود ولا وجود بدون التشخص سواء كان وجودا خارجيا أو ذهنيا ، والهوية الذهنية إنما تكون موجودة في الذهن بمشخصاتها الذهنية وهي بتلك المشخصات ليست هوية خارجية وإلا لزم اتصاف الهوية الخارجية بالعوارض المختصة بالوجود الذهني وهو ضروري البطلان بل بشرط تجريدها عنها ، وقولهم باتحادها معها بمعنى أنها بعد التجريد عينها فليست إياها مطلقا بالفعل يتجه عليه أنه ليس معنى تجريد الهوية عن مشخصاتها جعلها خالية عنها في الواقع بل معناه قطع النظر عنها وعدم اعتبارها ولا يلزم من عدم اعتبارها اعتبار عدمها فضلا عن عدمها في الواقع وقطع النظر لا يمنع من الاتحاد في الواقع ، والقول بأن قولنا : هذا معاد وهذا مبدأ قضية شخصية خارجية يتوقف صدقها على وجود الموضوع في الخارج لا ذهنية يكفي في صدقها وجود الموضوع في الذهن فقط فلا بد من انحفاظ الوحدة في الخارج ولا يكفي انحفاظها في الذهن يتجه عليه أن صدق الحكم الذهني كاف في اندفاع التحكم فتدبر ، وقيل : كما أن المعدوم موجود في الذهن كذلك المبتدأ المفروض موجود فيه أيضا فليست نسبة الموجود الثاني إلى المعدوم السابق أولى من نسبته إلى المبتدأ المفروض. وتعقب بأن فيه بحثا ، أما على مذهب الفلاسفة فلأن صورة المعدوم السابق مرتسمة في القوى المنطبعة للأفلاك عندهم بناء على أن صور جميع الحوادث الجسمانية منطبعة فيها بزعمهم فله صورة خيالية جزئية محفوظة الوحدة الشخصية بعد عدمه بخلاف المستأنف فإنه ليس له تلك الصورة قبل وجوده بصورته الجزئية فإذا وجد بتلك الصورة الجزئية كان معادا وإذا وجد بالصورة الكلية فإن مستأنفا ، وأما على مذهب الأشاعرة من المتكلمين فلأن للمعدوم أيضا صورة جزئية حاصلة بتعلق صفة البصر من الموجد تعالى شأنه وليس تلك الصورة للمستأنف وجوده فإنها وإن كانت جزئية حقيقية أيضا إلا أنها لم تترتب على تعلق صفة البصر ، ولا شك أن المترتب على تعلق صفة البصر أكمل من غير المترتب عليه فبين الصورتين تمايز واضح ، وإذا انحفظ وحدة الموجود الخارجي بالصورة الجزئية الخيالية لنا فانحفاظها بالصورة الجزئية الحاصلة له سبحانه بواسطة تعلق البصر بالطريق الأولى ، والقول بأن نسبة الصورة الخيالية وما هو بمنزلتها إلى كل من المعاد والمستأنف سواء أيضا فتكون الوحدة المحفوظة نوعية لا شخصية يلزم عليه أن لا تكون الصورة الخيالية جزئية بل كلية وهو خلاف ما صرحوا.

واستدل أيضا بأنه لو جاز إعادة المعدوم بعينه لما حصل القطع بحدوث شيء إذ يجوز أن يكون لكل ما نعتقده حادثا وجود سابق يعدم تارة ويعاد أخرى واللازم باطل باتفاق العقلاء. وتعقب بأن التجويز العقلي لا ينكر إلا أن الأصل عدم الوجود السابق وبه يحصل نوع من العلم ، ولعل ذلك من قبيل علمنا بأن جبل أحد لا ينقلب ذهبا مع تجويز العقل انقلابه وبالجملة أدلة استحالة إعادة المعدوم غير سليمة من القوادح كما لا يخفى على من راجع المطولات من كتب

٥٨

الكلام ، وقد أشير فيما تقدم من الآيات إلى دفع شبهة عدم انحفاظ الوحدة الشخصية بقوله تعالى (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) والذي يترجح من هذه المذاهب أن الحشر يجمع الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره وهي إما أجزاء عنصرية أكثرها ترجع إلى التراب وتختلط به كما تختلط سائر الأجزاء بعناصره أو أجزاء ترابية فقط على ما سمعت فيما تقدم غير بعيد ، وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه إذ حديث العناصر الأربعة وتركب البدن منها لا سيما حديث عنصر النار لم يصح فيه شيء من الشارع صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يذكر في كتب السلف بل هو شيء ولع فيه الفلاسفة ، على أن أصحاب الفلسفة الجديدة نسمعهم ينكرون كرة النار التي قال بها المتقدمون فالأجزاء الأصلية بعد أن تتفرق وتصير ترابا يجمعها الله تعالى حيث كانت وهو سبحانه بها عليم (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤] وهذا إن ضم إليه القول بإعادة الصورة التي هي جزء جوهري من الجسم عند القائلين بتركبه منها ومن الهيولى أو العوارض المختصة بالأنواع التي هي جزء من أفراد النوع كالصورة النوعية الجوهرية كما هو مذهب النافين لتركب الجسم من الهيولى والصورة من المتكلمين يتوقف القول به على جواز إعادة المعدوم وإذا لم يضم إليه ذلك بل اكتفى بالقول يجمع الأجزاء الأصلية العنصرية وتشكيلها بشكل مثل الشكل الأول وتحليتها بعوارض مشابهة للعوارض السابقة لم يتوقف القول به على ذلك أصلا والمغايرة في الشكل وعدم اتحاد العوارض بالذات مما لا يضر في كون المحشور هو المبدأ شرعا وعرفا ، ولا يلزم على ذلك التناسخ المصطلح كما لا يخفى. وفي أبكار الأفكار للآمدي بعد التفصيل المشبع بذكر الآيات والأحاديث الدالة على وقوع المعاد الجسماني والأدلة السمعية في ذلك لا يحويها كتاب ولا يحصرها خطاب وكلها ظاهرة في الدلالة على حشر الأجساد ونشرها مع إمكان ذلك في نفسه فلا يجوز تركها من غير دليل لكن هل الإعادة للأجسام بإيجادها بعد عدمها أو بتأليف أجزائها بعد تفرقها فقد اختلف فيه ، والحق إمكان كل واحد من الأمرين والسمع موجب لأحدهما من غير تعيين. وبتقدير أن تكون الإعادة للأجسام بتأليف أجزائها بعد تفرقها فهل تجب إعادة عين ما تقضى ومضى من التأليفات في الدنيا أو أن الله تعالى يجوز أن يؤلفها بتأليف آخر فذهب أبو هاشم إلى المنع من إعادتها بتأليف آخر مصيرا منه إلى أن جواهر الأشخاص متماثلة وإنما يتميز كل واحد من الأجزاء بتعيينه وتأليفه الخاص فإذا لم يعد ذلك التأليف الخاص به فذلك الشخص لا يكون هو العائد بل غيره وهو مخالف حينئذ لما ورد به السمع من حشر أجساد الناس على صورهم ، ومذهب من عداه من أهل الحق أن كل واحد من الأمرين جائز عقلا ولا دليل على التعيين من سمع وغيره ، وما قيل من أن تعين كل شخص إنما هو بخصوص تأليفه غير مسلم بل جاز أن يكون بلونه أو بعض آخر مع التأليف. ومذهب أبي هاشم أنه لا تجب إعادة غير التأليف من الأعراض فما هو جوابه عن غير التأليف فهو جواب لنا في التأليف وما ورد من حشر الناس على صورهم ليس فيه ما يدل على إعادة عين ما تقضى من التأليف ولا مانع أن يكون الإعادة بمثل ذلك التأليف لا عينه اه.

وزعم الإمام إجماع المسلمين على المعاد بجمع الأجزائية بعد افتراقها وليس بذاك لما سمعت من الخلاف في كيفيته وهو مذكور في المواقف وغيره. ومسألة إعادة الأعراض أكثر خلافا من مسألة إعادة الجواهر فذهب معظم أهل الحق إلى جواز إعادتها مطلقا حتى أن منهم من جوز إعادتها في غير محالها. والمعتزلة اتفقوا على جواز إعادة ما كان منها على أصولهم باقيا غير متولد واختلفوا في جواز إعادة ما لا بقاء له كالحرارة والأصوات والإرادات فذهب الأكثرون منهم إلى المنع من إعادتها وجوزها الأقلون كالبلخي وغيره. وذهب إلى عدم جواز إعادة المعدوم مطلقا من المسلمين أبو الحسن البصري وبعض الكرامية. ومن الناس من خص المنع فيما عدم ذاتا ووجودا وجوز فيما عدم وجودا. وإلى القول بالمعاد الجسماني ذهب اليهود والنصارى على ما نص عليه الدواني لكن ذكر الإمام في

٥٩

المحصل أن سائر الأنبياء سوى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقولوا إلا بالمعاد الروحاني.

وقال المحقق الطوسي في تلخيصه : أما الأنبياء المتقدمون على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالظاهر من كلام أممهم أن موسى عليه‌السلام لم يذكر المعاد البدني ولا أنزل عليه في التوراة لكن جاء ذلك في كتب الأنبياء الذين جاءوا بعده كحزقيل وشعيا عليهما‌السلام ولذا أقر اليهود به ، وأما الإنجيل فالأظهر أن المذكور فيه المعاد الروحاني وهو مخالف لما سمعت عن الإمام ، ويخالفهما ما قاله حجة الإسلام الغزالي في كتابه الموسوم بالمضنون به على غير أهله من أن في التوراة أن أهل الجنة يمكثون في النعيم خمسة عشر ألف سنة ثم يصيرون ملائكة وأن أهل النار يمكثون بها كذا وأزيد ثم يصيرون شياطين فإنه ظاهر في أن موسى عليه‌السلام ذكر المعاد الجسماني ونزل عليه في التوراة ، والحق أن الأناجيل مملوءة مما يدل ظاهرا على أن الإنسان يحشر نفسا وجسما وأما التوراة فليس ما ذكر فيها على سبيل التصريح على ما نقل لي بعض المطلعين من مسلمي أهل الكتاب على ذلك وأنكره الفلاسفة الإلهيون وقالوا بالمعاد الروحاني فقط ، وهذا الإنكار مبني إما على زعم استحالة إعادة المعدوم فيه ما فيه أو على استحالة عدم تناهي الأبعاد فإن منهم من قال : الإنسان قديم بالنوع والنفوس الناطقة غير متناهية كالأبدان فلو قيل بالحشر الجسماني يلزم اجتماع الأبدان الغير المتناهية في الوجود إذ لا بد لكل نفس من بدن مستقل فيلزم بعد غير متناه لتجتمع فيه تلك الأبدان الغير المتناهية. وقال بعضهم : إن الإنسان افراده غير متناهية والعناصر متناهية فأجزاؤها لا تفي بتلك الأبدان فكيف تحشر. وتعقب بأن القدم النوعي للإنسان وعدم التناهي لأفراده مما لا يتم لهم عليه برهان.

وقال ابن الكمال : بناء استحالة الحشر الجسماني على استحالة عدم تناهي الأبعاد وهم سبق إليه وهم بعض أجلة الناظرين وليس الأمر كما توهم فإن حشر الأجساد اللازم على تقدير وقوع المعاد الجسماني هو حشر المكلفين من المطيع المستحق للثواب والعاصي المستحق للعقاب لا حشر جميع أفراد البشر مكلفا كان أو غيره فإنه ليس من ضروريات الدين لأن الأخبار فيه لم تصل إلى حد التواتر ولم ينعقد عليه الإجماع وقد نبه عليه المحقق الطوسي في التجريد حيث قال : والسمع دل عليه ويتأول في المكلف بالتفريق ، وقال الشارح : يعني لا إشكال في غير المكلفين فإنه يجوز أن ينعدم بالكلية ولا يعاد وأما بالنسبة إلى المكلفين فإنه يتأول العدم بتفريق الأجزاء.

وفي تلخيص المحصل أيضا حيث قال : وقال القائلون بإمكان إعادة المعدوم أن الله تعالى يعدم المكلفين ثم يعيدهم ونبه على ذلك أيضا الآمدي في أبكار الأفكار حيث قرر الخلاف في إعادة المكلف ولا خفاء في أن عدم تناهي جميع أفراد البشر لا يستلزم عدم تناهي المكلفين منهم ليحتاج أمر حشرهم إلى الأبعاد الغير المتناهية اه.

والحق الطعن في قولهم بالقدم النوعي وعدم تناهي أفراد الإنسان وبرهان التطبيق متكفل عندنا بإبطال الغير المتناهي اجتمعت أجزاؤه في الوجود أم لم تجتمع ترتبت أم لم تترتب ، وأما قصر الحشر على المكلفين دون غيرهم من المجانين والصغار والذين لم تبلغهم الدعوة ونحوهم فليس بشيء ، والأخبار في ذلك كثيرة ولعلها من قبيل المتواتر المعنوي على أنها لو لم تكن كذلك لا داعي إلى عدم اعتبارها والقول بخلاف ما تدل عليه كما لا يخفى ، وذهب القدماء من الفلاسفة الطبيعيين إلى عدم ثبوت شيء من الحشر الجسماني والحشر الروحاني ، ويحكى ذلك عن التناسخية ما عدا اليهود والتناسخ عندهم غير مستمر بل يقع للنفس الواحدة ثلاث مرات على ما قيل.

وحكي عن جالينوس التوقف في أمر الحشر فإنه قال : لم يتبين لي أن النفس هل هي المزاج الذي ينعدم عند الموت فيستحيل إعادتها أو هي جوهر باق بعد فساد البنية فيمكن المعاد ، والمشركون في شك منه مريب لذا ترى

٦٠