روح المعاني - ج ١٢

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٢

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

وقيل : الأقرب أن الفاء للتفصيل أو السببية ، وقيل هو إرسال ثان إليهم بعد أن أصابه ما أصابه فالعطف على ما عنده.

وأورد عليه أن المروي أنهم بعد مفارقته لهم رأوا العذاب أو خافوه فآمنوا فقوله تعالى (فَآمَنُوا) في النظم الجليل هنا يأبى عن حمله على إرسال ثان. وأجيب بأنه يجوز أن يكون الإيمان المقرون بحرف التعقيب إيمانا مخصوصا أو أن آمنوا بتأويل أخلصوا الإيمان وجددوه لأن الأول كان إيمان بأس ، وقيل هو إرسال إلى غيرهم ، وقيل : إن الأولين بعد أن آمنوا سألوه أن يرجع إليهم فأبى لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيما فيهم وقال لهم : إن الله تعالى باعث إليكم نبيا. وفي خبر طويل أخرجه أحمد في الزهد وجماعة عن ابن مسعود أنه عليه‌السلام بعد أن نبذ بالعراء وأنبت الله تعالى عليه الشجرة وحسن حاله خرج فإذا هو بغلام يرعى غنما فقال : ممن أنت يا غلام؟ قال : من قوم يونس قال : فإذا رجعت إليهم فأقرئهم السلام وأخبرهم أنك لقيت يونس فقال له الغلام : إن تكن يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم يكن له بينة قتل فمن يشهد لي؟ قال : تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة فقال الغلام ليونس : مرهما فقال لهما يونس : إذا جاء كما هذا الغلام فاشهدا له قالتا : نعم فرجع الغلام إلى قومه وكان له اخوة فكان في منعة فأتى الملك فقال : إني لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام فأمر به الملك أن يقتل فقال : إن لي بينة فأرسل معه فانتهوا إلى الشجرة والبقعة فقال لهما الغلام نشدتكما بالله هل أشهد كما يونس قالتا : نعم فرجع القوم مذعورين يقولون : تشهد لك الشجرة والأرض فأتوا الملك فحدثوه بما رأوا فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في مجلسه وقال : أنت أحق بهذا المكان مني وأقام لهم أمرهم ذلك الغلام أربعين سنة ، وهذا دال بظاهره أنه عليه‌السلام لم يرجع بعد أن أصابه ما أصابه إليهم فإن صح يراد بالإرسال هنا إما الإرسال الأول الذي تضمنه قوله تعالى (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وإما إرسال آخر إلى غير أولئك القوم ، والمعروف عند أهل الكتاب أنه عليه‌السلام لم يرسل إلا إلى أهل نينوى ، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تفصيل قصته عندهم ؛ و (أَوْ) على ما نقل عن ابن عباس بمعنى بل ، وقيل : بمعنى الواو وبها قرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : للإبهام على المخاطب ، وقال المبرد وكثير من البصريين : للشك نظرا إلى الناظر من البشر على معنى من رآهم شك في عددهم وقال مائة ألف أو يزيدون والمقصود بيان كثرتهم أو أن الزيادة ليست كثيرة كثرة مفرطة كما يقال هم ألف وزيادة ، وقال ابن كمال : المراد يزيدون باعتبار آخر وذلك أن المكلفين بالفعل منهم كانوا مائة ألف وإذا ضم إليهم المراهقون الذين بصدد التكليف كانوا أكثر ؛ ومن هاهنا ظهر وجه التعبير بصيغة التجدد دون الثبات. وتعقب بأنه مع أن المناسب له الواو تكلف ركيك ، وأقرب منه أن الزيادة بحسب الإرسال الثاني ويناسبه صيغة التجدد وإن كانت للفاصلة ، وهو معطوف على جملة (أَرْسَلْناهُ) بتقديرهم يزيدون لا على (مِائَةِ) بتقدير أشخاص يزيدون أو تجريده للمصدرية فإنه ضعيف ، والزيادة على ما روي عن ابن عباس ثلاثون ألفا ، وفي أخرى عنه بضعة وثلاثون ألفا ، وفي أخرى بضعة وأربعون ألفا ، وعن نوف وابن جبير سبعون ألفا ، وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي بن كعب قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله تعالى (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) قال : يزيدون عشرين ألفا ، وإذا صح هذا الخبر بطل ما سواه.

(فَمَتَّعْناهُمْ) بالحياة (إِلى حِينٍ) إلى آجالهم المسماة في الأزل قاله قتادة والسدي ، وزعم بعضهم أن تمتيعهم بالحياة إلى زمان المهدي وهم إذا ظهر من أنصاره فهم اليوم أحياء في الجبال والقفار لا يراهم كل أحد كالمهدي عند الإمامية والخضر عند بعض العلماء والصوفية ، وربما يكشف لبعض الناس فيرى أحدا منهم ، وهو كذب مفترى ، ولعل عدم ختم هذه القصة والقصة التي قبلها بنحو ما ختم به سائر القصص من قوله تعالى (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ) [الصافات : ١٣٠] إلخ تفرقة بين شأن لوط ويونس عليهما‌السلام وشأن أصحاب الشرائع الكبر

١٤١

وأولي العزم من المرسلين مع الاكتفاء فيهما بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكور في آخر السورة ولتأخرهما في الذكر قربا منه والله تعالى أعلم. والمذكور في شأن يونس عليه‌السلام في كتب أهل الكتاب أن الله عزوجل أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى وكانت إذ ذاك عظيمة جدا لا تقطع إلا في نحو ثلاثة أيام وكانوا قد عظم شرهم وكثر فسادهم فاستعظم الأمر وهرب إلى ترسيس فجاء يافا فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر وأعطى الأجرة وركب السفينة فهاجت ريح عظيمة وكثرت الأمواج وأشرفت السفينة على الغرق ففزع الملاحون ورموا في البحر بعض الأمتعة لتخف السفينة وعند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة ونام حتى علا نفسه فتقدم إليه الرئيس فقال له : ما بالك نائما؟ قم وادع إلهك لعله يخلصنا مما نحن فيه ولا يهلكنا ، وقال بعضهم لبعض : تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشر بسببه فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس فقالوا له : أخبرنا ما ذا عملت ومن أين أتيت وإلى أين تمضي ومن أي كورة أنت ومن أي شعب أنت؟ فقال لهم : أنا عبد الرب إله السماء خالق البر والبحر وأخبرهم خبره فخافوا خوفا عظيما. وقالوا له : لم صنعت ما صنعت يلومونه على ذلك ثم قالوا له : ما نصنع الآن بك ليسكن البحر عنا؟ فقال : ألقوني في البحر يسكن فإنه من أجلي صار هذا الموج العظيم فجهد الرجال أن يردوها إلى البر فلم يستطيعوا فأخذوا يونس وألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة فسكن البحر وأمر الله تعالى حوتا عظيما فابتلعه فبقي في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليال وصلى في بطنه إلى ربه واستغاث به ، فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس ثم قال عزوجل له : قم وامض إلى نينوى وناد في أهلها كما أمرتك من قبل فمضى عليه‌السلام ونادى وقال : تخسف نينوى بعد ثلاثة أيام فآمنت رجال نينوى بالله تعالى ونادوا بالصيام ولبسوا المسوح جميعا ووصل الخبر إلى الملك فقام عن كرسيه ونزع حلته ولبس مسحا وجلس على الرماد ونودي أن لا يذق أحد من الناس والبهائم طعاما ولا شرابا وجأروا إلى الله تعالى ورجعوا عن الشر والظلم فرحمهم‌الله تعالى فلم ينزل بهم العذاب فحزن يونس وقال : إلهي من هذا هربت فإني علمت أنك الرحيم الرءوف الصبور التواب يا رب خذ نفسي فالموت خير لي من الحياة فقال : يا يونس حزنت من هذا جدا؟ فقال : نعم يا رب وخرج يونس وجلس مقابل المدينة وصنع له هناك مظلة وجلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة فأمر الله تعالى يقطينا فصعد على رأسه ليكون ظلاله من كربه ففرح باليقطين فرحا عظيما وأمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجف ثم هبت ريح سموم وأشرقت الشمس على رأس يونس عليه‌السلام فعظم الأمر عليه واستطيب الموت فقال له الرب : يا يونس أحزنت جدا على اليقطين؟ فقال : نعم يا رب حزنت جدا فقال سبحانه : حزنت عليه وأنت لم تتعب فيه ولم تربه بل صار من ليلته وهلك من ليلته فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة التي فيها سكان أكثر من اثني عشر ربوة من الناس قوم لا يعلمون يمينهم ولا شمالهم وبهائمهم كثيرة انتهى ، وفيه من المخالفة للحق ما فيه ؛ ولتطلع على حاله نقلته لك وكم لأهل الكتاب من باطل :

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صدر السورة الكريمة بتبكيت قريش وإبطال مذهبهم في إنكار البعث بطريق الاستفتاء وساق البراهين الناطقة بتحققه لا محالة وبين وقوعه وما يلقونه عند ذلك من فنون العذاب واستثنى منهم عباده المخلصين وفصل سبحانه ما لهم من النعيم المقيم ، ثم ذكر سبحانه أنه قد ضل من قبلهم أكثر الأولين وأنه تعالى أرسل إليهم منذرين على وجه الإجمال ، ثم أورد قصص بعض الأنبياء عليهم‌السلام بنوع تفصيل متضمنا كل منها ما يدل على فضلهم وعبوديتهم له عزوجل ، ثم أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم هاهنا بتبكيتهم بطريق الاستفتاء عن وجه ما تنكره العقول بالكلية وهي القسمة الباطلة اللازمة لما كانوا عليه من الاعتقاد الزائغ حيث كانوا يقولون كبعض أجناس العرب جهينة وسليم وخزاعة وبني مليح : الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، ثم بتبكيتهم بما يتضمنه كفرهم المذكور من الاستهانة بالملائكة عليهم‌السلام بجعلهم إناثا ، ثم أبطل سبحانه

١٤٢

أصل كفرهم المنطوي على هذين الكفرين وهو نسبة الولد إليه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، ولم ينظمه سبحانه في سلك التبكيت لمشاركتهم اليهود القائلين عزير ابن الله والنصارى المعتقدين عيسى ابن الله تعالى الله عن ذلك ، والفاء قيل لترتيب الأمر على ما يعلم مما سبق من كون أولئك الرسل أعلام الخلق عليهم‌السلام عباده تعالى فإن ذلك مما يؤكد التبكيت ويظهر بطلان مذهبهم الفاسد فكأنه قيل : إذا كان رسل ربك من علمت حالهم فاستخبر هؤلاء الكفرة عن وجه كون البنات وهن أوضع الجنسين له تعالى بزعمهم والبنين الذين هم أرفعهما لهم فإنهم لا يستطيعون أن يثبتوا له وجها لأنه في غاية البطلان لا يقوله من له أدنى شيء من العقل ، وقال بعض الأجلة : الكلام متصل بقوله تعالى في أول السورة (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) [الصافات : ١١] على أن الفاء هنا للعطف على ذاك ، والتعقيب لأنه أمر بهما من غير تراخ ، وهي هناك جزائية في جواب شرط مقدر ، وبهذا القول أقول. وأورد عليه أبو حيان أن فيه الفصل الطويل وقد استقبح النحاة الفصل بجملة نحو أكلت لحما وأضرب زيدا وخبزا فما ظنك بالفصل بجمل بل بما يقرب من سورة. وأجيب بأن ما ذكر في عطف المفردات وأما الجمل فلاستقلالها يغتفر فيها ذلك ، والكلام هنا لما تعانقت معانيه وارتبطت مبانيه وأخذ بعضها بحجز بعض حتى كأن الجميع كلمة واحدة لم يعد البعد بعدا كما قيل :

وليس يضير البعد بين جسومنا

إذا كان ما بين القلوب قريبا

ووجه ترتب المعطوف على ما قبل كوجه ترتب المعطوف عليه فإن كونه تعالى رب السماوات والأرض وتلك الخلائق العظيمة كما دل على وحدته تعالى وقدرته عزوجل دال على تنزهه سبحانه عن الولد ، ألا ترى إلى قوله جل شأنه (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) [الأنعام : ١٠١] والمناسبة بين الرد على منكري البعث والرد على مثبتي الولد ظاهرة ، وقد اتحد في الجملتين السائل والمسئول والأمر ؛ وجوز بعضهم كون ضمير (استفتهم) للمذكورين من الرسل عليهم‌السلام والبواقي لقريش ، والمراد الاستفتاء ممن يعلم أخبارهم ممن يوثق بهم ومن كتبهم وصحفهم أي ما منهم أحد ألا وينزه الله تعالى عن أمثال ذلك حتى يونس عليه‌السلام في بطن الحوت ، ولعمري إن الرجل قد بلغ الغاية من التكلف من غير احتياج إليه ، ولعله لو استغنى عن ارتكاب التجوز بالتزام كون الاستفتاء من المرسلين المذكورين حيث يجتمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم اجتماعا روحانيا كما يدعيه لنفسه الشيخ محيي الدين قدس‌سره مع غير واحد من الأنبياء عليهم‌السلام ويدعي أن الأمر بالسؤال المستدعي للاجتماع أيضا في قوله تعالى (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥] على هذا النمط لكان الأمر أهون وإن كان ذلك منزعا صوفيا.

وأضيف الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام دون ضميرهم تشريفا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإشارة إلى أنهم في قولهم بالبنات له عزوجل كالنافين لربوبيته سبحانه لهم ، وقوله سبحانه : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً) إضراب وانتقال من التبكيت بالاستفتاء السابق إلى التبكيت بهذا أي بل أخلقنا الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق وأقواهم وأعظمهم تقدسا عن النقائص الطبيعية إناثا والأنوثة من أخس صفات الحيوان.

وقوله تعالى : (وَهُمْ شاهِدُونَ) استهزاء بهم وتجهيل لهم كقوله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) [الزخرف : ١٩] فإن أمثال هذه الأمور لا تعلم إلا بالمشاهدة إذ لا سبيل إلى معرفتها بطريق العقل وانتفاء النقل مما لا ريب فيه فلا بد أن يكون القائل بأنوثتهم شاهدا عند خلقهم ، والجملة أما حال من فاعل (خَلَقْنَا) أي بل أخلقناهم إناثا والحال أنهم حاضرون حينئذ أو عطف على (خَلَقْنَا) أي بل أهم شاهدون.

وقول تعالى (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ* وَلَدَ اللهُ) استئناف من جهته تعالى غير داخل تحت الاستفتاء

١٤٣

مسوق لإبطال أصل مذهبهم الفاسد ببيان أن مبناه ليس إلا الإفك الصريح والافتراء القبيح من غير أن يكون لهم دليل أو شبهة (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يتدينون به مطلقا أو في هذا القول ، وفيه تأكيد لقوله تعالى : (مِنْ إِفْكِهِمْ) وقرئ «ولد الله» بالإضافة ورفع ولد على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ليقولون الملائكة ولد الله والولد فعل بمعنى مفعول يقع على المذكر والمؤنث والواحد والجمع ولذا وقع هنا خبرا عن الملائكة المقدر (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) بهمزة مفتوحة هي حرف استفهام حذفت بعدها همزة الوصل والاستفهام للإنكار والمراد اثبات إفكهم وتقرير كذبهم ، والاصطفاء أخذ صفوة الشيء لنفسه.

وقرأ نافع في رواية إسماعيل وابن جماز وجماعة وإسماعيل عن أبي جعفر وشيبة «اصطفى» بكسر الهمزة وهي همزة الوصل وتكسر إذا ابتدئ بها وخرجت على حذف أداة الاستفهام لدلالة أم بعد وإن كانت منقطعة غير معادلة لها لكثرة استعمالها معها ، وجوز إبقاء الكلام على الأخبار إما على إضمار القول أي لكاذبون في قولهم اصطفى إلخ أو يقولون اصطفى إلخ على ما قيل : أو على الإبدال من قولهم ولد الله أو الملائكة ولد الله وليس دخيلا بين نسيبين ، والأولى التخريج على حذف الأداة وحسم البحث فتأمل.

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بهذا الحكم الذي نقضي ببطلانه بداهة العقول والالتفات لزيادة التوبيخ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) بحذف أحد التاءين من تتذكرون. وقرأ طلحة بن مصرف تذكرون بسكون الذال وضم الكاف من ذكر. والفاء للعطف على مقدر أي تلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه فإنه مركوز في عقل كل ذكي وغبي (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) إضراب وانتقال من توبيخهم وتبكيتهم بما ذكر بتكليفهم ما لا يدخل تحت الوجود أصلا أي بل ألكم حجة واضحة نزلت من السماء بأن الملائكة بناته تعالى ضرورة أن الحكم بذلك لا بد له من سند حسي أو عقلي وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلي (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) الناطق بصحة دعواكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيها ، والأمر للتعجيز ، وإضافة الكتاب إليهم للتهكم ، وفي الآيات من الأنباء عن السخط العظيم والإنكار الفظيع لأقاويلهم والاستبعاد الشديد لأباطيلهم وتسفيه أحلامهم وتركيك عقولهم وأفهامهم مع استهزاء بهم وتعجيب من جهلهم ما لا يخفى على من تأمل فيها ، وقوله تعالى (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) التفات إلى الغيبة للإيذان بانقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم وتحكى لآخرين جناياتهم ، واستظهر أن المراد بالجنة الشياطين وأريد بالنسب المجعول المصاهرة.

أخرج آدم بن أبي أياس وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عن مجاهد قال : قال كفار قريش الملائكة بنات الله تعالى فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي على سبيل التبكيت : فمن أمهاتهم؟ فقالوا : بنات سروات الجن وروي هذا ابن أبي حاتم عن عطية ، أو أريد جعلوا بينه سبحانه وبينهم مناسبة حيث أشركوهم به تعالى في استحقاق العبادة وروي هذا عن الحسن ، وقيل إن قوما من الزنادقة يقولون الله عزوجل وإبليس عليه اللعنة أخوان فالله تعالى هو الخير الكريم وإبليس هو الشرير اللئيم وهو المراد بقوله سبحانه : (وَجَعَلُوا) إلخ وحكى هذا الطبرسي عن الكلبي ، وقال الإمام الرازي : وهذا القول عندي أقرب الأقاويل وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن ويعبرون عنهما بالنور والظلمة ، ويبعد هذا القول عندي أن الظاهر أن ضمير (جَعَلُوا) كالضمائر السابقة لقريش ولم يشتهر ذلك عنهم بل ولا عن قبيلة من قبائل العرب وليس المقام للرد على الكفرة مطلقا.

وأخرج غير واحد عن مجاهد وعبد بن حميد عن عكرمة وابن أبي شيبة عن أبي صالح أن المراد بالجنة الملائكة ، وحكاه في مجمع البيان عن قتادة واختاره الجبائي ، والمراد بالجعل المذكور ما تضمنه قولهم : الملائكة

١٤٤

بنات الله ، وأعيد تمهيدا لما يعقبه ، وهو مبني على أن الجن والملك جنس واحد مخلوقون من عنصر واحد وهو النار لكن من كان من كثيفها الدخاني فهو شيطان وهو شرذ وتمرد ومن كان من صافي نورها فهو ملك وهو خير كله ، ووجه التسمية بالجن الاستتار عن عيوننا فالجن والجنة بمعنى مفعول من جنه إذا ستره ، ويكون على هذا تخصيص الجن بأحد نوعيه تخصيصا طارئا كتخصيص الدابة ، وعلى الأصل جاء ما هنا ، ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نوعا من الملائكة عليهم‌السلام يسمى الجن ومنهم إبليس ؛ وعبر عن الملائكة بالجنة حطا لهم مع عظم شأنهم في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم في قولهم ذلك ، وقد يقال : إن الاستتار كالداعي لهم إلى ذلك الزعم الباطل بناء على توهمهم بأنه إنما يليق بالإناث فقالوا : لو لم يكونوا بناته سبحانه وتعالى لما سترهم عن العيون فلذا عبر عنهم بالجنة (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي والله لقد علمت الشياطين أي جنسهم أن الله تعالى يحضرهم ولا بد النار ويعذبهم بها ولو كانوا مناسبين له تعالى أو شركاء في استحقاق العبادة أو التصرف لما عذبهم سبحانه فضمير (إِنَّهُمْ) للجنة على ما عدا الوجه الأخير من الأوجه السابقة وأما عليه فهو للكفرة أي والله لقد علمت الملائكة الذين جعلوا بينه تعالى وبينهم نسبا وقالوا هم بناته أن الكفرة لمحضرون النار معذبون بها لكذبهم وافترائهم في قولهم ذلك ، والمراد به المبالغة في التكذيب ببيان أن الذين يدعى لهم هؤلاء تلك النسبة ويعلمون أنهم علم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم في ذلك ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكما مؤكدا ، ويجوز على الأوجه الأول عود الضمير على الكفرة أيضا والمعنى على نحو ما ذكر ، وعلم الملائكة أن الكفرة معذبون ظاهر ، وعلم الشياطين بأنهم أنفسهم وكذا سائر الكفرة معذبون لما أن الله عزوجل توعد إبليس عليه اللعنة بما يدل على ذلك.

وقوله سبحانه (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) على جميع الأوجه السابقة تنزيه من جهته تعالى لنفسه عن الوصف الذي لا يليق به ، وقوله تعالى : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع من المحضرين وما بينهما اعتراض أي ولكن المخلصون ناجون ، وجوز كونه استثناء متصلا منه ويفسر ضمير (إِنَّهُمْ) بما يعم وهو خلاف الظاهر.

وجوز كونه استثناء منقطعا من ضمير (يَصِفُونَ) وكونه استثناء متصلا منه وهو خلاف الظاهر أيضا.

وجوز كونه استثناء من ضمير (جَعَلُوا) على الانقطاع لا غير وما في البين اعتراض ، واختار الواحدي الوجه الأول. قال الطيبي : ويحسن كل الحسن إذا فسر الجنة بالشياطين أي وضمير (إِنَّهُمْ) بالكفرة ليرجع معناه إلى قوله تعالى حكاية عن اللعين (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر : ٣٩ ، ٤٠ ، ص : ٨٢ ، ٨٣] أي إنهم لمحضرون النار ومعذبون حيث أطاعونا في اغوائنا إياهم لكن الذين أخلصوا الطاعة لله تعالى وطهروا قلوبهم من أرجاس الشرك وأنجاس الكفر والرذائل ما عمل فيهم كيدنا فلا يحضرون ويكون ذلك مدحا للمخلصين وتعريضا بالمشركين وإرغاما لأنوفهم ومزيدا لغيظهم أي إنهم بخلاف ما هم عليه من سفه الأحلام وجهل النفوس وركاكة العقول اه. وفي بيان المعنى نوع قصور ، وقوله تعالى :

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ* ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) عود إلى خطابهم ، والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم هذا أو إذا كان المخلصون ناجين (فَإِنَّكُمْ) إلخ ، والواو للعطف (وَما تَعْبُدُونَ) معطوف على الضمير في (فَإِنَّكُمْ) وضمير (عَلَيْهِ) لله عزوجل والجار متعلق بفاتنين وعدي بعلى لتضمنه معنى الاستيلاء وهو استعارة من قولهم فتن غلامه أو امرأته عليه إذا أفسده والباء زائدة وهو خبر ما ، والجملة خبر إن والاستثناء مفرغ من مفعول فاتنين المقدر و (أَنْتُمْ) خطاب للكفرة ومعبوديهم على سبيل التغليب نحو أنت وزيد تخرجان أي ما أنتم

١٤٥

ومعبود وكم مفسدين أحدا على الله عزوجل بإغوائكم إلا من سبق في علم الله تعالى أنه من أهل النار يصلاها ويدخلها لا محالة.

وجوز كون الواو هنا مثلها في قولهم كل رجل وضيعته فجملة (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) إلخ مستقلة ليست خبرا لأن وضمير (عَلَيْهِ) لما بتقدير مضاف وهو متعلق بفاتنين أيضا بتضمينه معنى البعث أو الحمل ولا تغليب في الخطاب كأنه قيل : إنك وآلهتكم قرناء لا تبرحون تعبدونها ثم قيل ما أنتم على عبادة ما تعبدون بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال أحدا إلا من سبق في علمه تعالى أنه من أهل النار ، وظاهر صنيع بعضهم أن أمر التغليب في (أَنْتُمْ) على هذا على حاله ، وأنت تعلم أن الظاهر الاتصال ، وجوز أن يراد معنى المعية وخبر إن جملة (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) إلخ ويكون الكلام على أسلوب قول الوليد بن عقبة بن أبي معيط عامله الله تعالى بما هو أهله يحض معاوية على حرب الأمير علي كرم الله تعالى وجهه :

فإنك والكتاب إلى على

كدابغة وقد حلم الأديم

قال في الكشف : ومعنى الآية أي عليه أنكم يا كفرة مع معبوديكم لا يتسهل لكم إلا أن تفتنوا من هو ضال مثلكم ، وهو بيان لخلاصة المعنى ، واستظهر أبو حيان العطف وكون الضمير للعبادة وتضمين فاتنين معنى الحمل وتغليب المخاطب على الغائب في (أَنْتُمْ) وكون الجملة المنفية خبر إن. وحكي عن بعضهم القول بأن على بمعنى الباء والضمير المجرور به لما تعبدون فتأمل. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة «صالوا الجحيم» بالواو على ما فيه كتاب الكامل للهذلي ، وفي كتاب ابن خالويه عنهما «صال» بالضم ولا واو. وفي اللوامح والكشاف عن الحسن «صالوا الجحيم» بضم اللام فعلى إثبات الواو هو جمع سلامة سقطت النون للإضافة. وفي الكلام مراعاة لفظ من أولا ومعناها ثانيا كما هو قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٨] وعلى عدم إثباتها فيه ثلاثة أوجه ، الأول أن يكون جمعا حذفت النون منه للإضافة ثم واو الجمع لالتقاء الساكنين وأتبع الخط اللفظ.

الثاني أن يكون مفردا حذفت لامه وهي الياء تخفيفا جعلت كالمنسى وجرى الإعراب على عينه كما جرى على عين يد ودم وعلى ذلك قوله تعالى : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) [الرحمن : ٥٤] وقوله سبحانه (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ) [الرحمن : ٢٤] بضم نون دان وراء الجوار وقولهم ما باليت به بالة فإن أصل بالة بالية بوزن عافية حذفت لامه فأجري الإعراب على عينه ولما لحقته الهاء انتقل إليها ، الثالث أن يكون مفردا أيضا ويكون أصله صائل على القلب المكاني بتقديم اللام على العين ثم حذفت اللام المقدمة وهي الياء فبقي صال بوزن فاع وصار معربا كباب ونظيره شاك الجاري إعرابه على الكاف في لغة ، وقوله تعالى (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) حكاية لاعتراف الملائكة بالعبودية للرد على من يزعم فيهم خلافها فهو من كلامه تعالى لكنه حكي بلفظهم وأصله وما منهم إلا إلخ أي وما منا إلا له مقام معلوم في العبادة والانتهاء إلى أمر الله تعالى في تدبير العالم مقصور عليه لا يتجاوزه ولا يستطيع أن يزل عنه خضوعا لعظمته تعالى وخشوعا لهيبته سبحانه وتواضعا لجلاله جل شأنه كما روي «فمنهم راكع لا يقيم صلبه وساجد لا يرفع رأسه» وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن ماجة وابن مردويه عن أبي ذر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون إن السماء أطت وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضعا جبهته ساجدا لله».

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم وذلك قول الملائكة وما منا إلا له مقام معلوم

١٤٦

وإنا لنحن الصافون» وعن السدي (إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) في القرب والمشاهدة ، وجعل بعضهم ذلك من كلام الجنة بمعنى الملائكة متصلا بما قبله من كلامهم وهو من قوله تعالى (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) إلى (الْمُسَبِّحُونَ) فقال بعد أن فسر الجنة بالملائكة : إن (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) حكاية لتنزيه الملائكة إياه تعالى عما وصفه المشركون به بعد تكذيبهم لهم في ذلك بتقدير قول معطوف على (عَلِمَتِ) و (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) شهادة منهم ببراءة المخلصين من أن يصفوه تعالى بذلك متضمنة لتبرئتهم منه بحكم اندراجهم في زمرة المخلصين على أبلغ وجه وأكده على أنه استثناء منقطع من واو (يَصِفُونَ) كأنه قيل : ولقد علمت الملائكة أن المشركين لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عما يصفون لكن عباد الله الذين نحن من جملتهم برآء من ذلك الوصف ، و (فَإِنَّكُمْ) إلخ تعليل وتحقيق لبراءة المخلصين عما ذكر ببيان عجزهم عن إغوائهم وإضلالهم ، والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمون الكلام وما تعبدون الشياطين الذين أغووهم وفيه إيذان بتبريهم عنهم وعن عبادتهم كقوله (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) [سبأ : ٤١] وقولهم (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ) إلخ تبين لجلية أمرهم وتعيين لحيزهم في موقف العبودية بعد ما ذكر من تكذيب الكفرة فيما قالوا وتنزيه الله تعالى عن ذلك وتبرئة المخلصين عنه وإظهار لقصور شأنهم وجعل تفسير الجنة بالملائكة هو الوجه لاقتضاء ربط الآيات وتوجيهها بما ذكر إياه وفي التعليل شيء ، نعم إن هذه الآية تقوي قول من يقول : المراد بالجنة فيما سبق الملائكة عليهم‌السلام تقوية ظاهرة جدا وإن الربط الذي ذكر في غاية الحسن ، وقيل : هو من قول الرسول عليه الصلاة والسلام أي وما من المسلمين إلا له مقام معلوم على قدر أعماله يوم القيامة وهو متصل بقوله (فَاسْتَفْتِهِمْ) كأنه قيل فاستفتهم وقل وما منا إلخ على معنى بكتهم بذلك وانع عليهم كفرانهم وعدد ما أنت وأصحابك متصف به من أضدادها ، وإن شئت لم تقدر قل بعد علمك بأن المعنى ينساق إليه وهو بعيد فافهم والله تعالى أعلم.

و (مِنَّا) خبر مقدم والمبتدأ محذوف للاكتفاء بصفته وهي جملة له مقام أي (ما مِنَّا) أحد إلا له مقام معلوم. وحذف الموصوف بجملة أو شبهها إذا كان بعض ما قبله من مجرور بمن أو في مطرد وهذا اختيار الزمخشري.

وقال أبو حيان (مِنَّا) صفة لمبتدإ محذوف والجملة المذكورة هي الخبر أي وما أحد كائن منا إلا له مقام معلوم.

وتعقب ما مر بأنه لا ينعقد كلام من ما منا أحد ، وقوله سبحانه (إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) هو محط الفائدة فيكون هو الخبر وإن تخيل أن إلا بمعنى غير وهي صفة لا يصح لأنه لا يجوز حذف موصوفها وفارقت غير إذا كانت صفة في ذلك لتمكن غير في الوصف وقلة تمكن إلا فيه ، وقال غيره : إن فيه أيضا التفريغ في الصفات وهم منعوا ذلك ، ودفع بأنه ينعقد منه كلام مفيد مناسب للمقام إذ معناه ما منا أحد متصف بشيء من الصفات إلا بصفة أن يكون له مقام معلوم لا يتجاوزه والمقصود بالحصر المبالغة أو يقال إنه صفة بدل محذوف أي ما منا أحد إلا أحد له مقام معلوم كما قاله ابن مالك في نظيره ، وفيه أن فيه اعترافا بأن المقصود بالإفادة تلك الجملة وهو يستلزم أولوية كونها خبرا وما ذكر من احتمال كونه صفة لبدل محذوف فليس بشيء لأن فيه حذف المبدل والمبدل منه ولا نظير له ، وبالجملة ما ذكره أبو حيان أسلم من القيل والقال ، نعم قيل يجوز أن يقال : القصد هنا ليس إفادة مضمون الخبر بل الرد على الكفرة ولذا جعل الظرف خبرا وقدم فالمعنى ليس منا أحد يتجاوز مقام العبودية لغيرها بخلافكم أنتم فقد صدر منكم ما أخرجكم عن رتبة الطاعة ، وفيه نظر.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أنفسنا أو أقدامنا في الصلاة ، وقال ناصر الدين : أي في أداء الطاعة ومنازل الخدمة ، وقيل :

١٤٧

الصافون حول العرش ننتظر الأمر الإلهي ، وفي البحر داعين للمؤمنين ، وقيل : صافون أجنحتنا في الهواء منتظرين ما يؤمر.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن الوليد بن عبد الله بن مغيث قال : كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) وأخرج مسلم عن حذيفة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت لنا تربتها طهورا إذا لم نجد الماء» وأخرج هو أيضا وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم» وهذه الأخبار ونحوها ترجح التفسير الأول. (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي المنزهون الله تعالى عما لا يليق به سبحانه ويدخل فيه ما نسبه إليه تعالى الكفرة ، وقيل : أي القائلون سبحان الله.

وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة أنه قال : المسبحون أي المصلون ويقتضيه ما روي عن ابن عباس أن كل تسبيح في القرآن بمعنى الصلاة ، والظاهر ما تقدم ، ولعل الأول إشارة إلى مزيد أدبهم الظاهر مع ربهم عزوجل والثاني إشارة إلى كمال عرفانهم به سبحانه ، وقال ناصر الدين : لعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة وهذا في المعارف ، وما في أن واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والاختصاص لأنهم المواظبون على ذلك دائما من غير فترة وخواص البشر لا تخلو من الاشتغال بالمعاش ، ولعل الكلام لا يخلو عن تعريض بالكفرة ، والظاهر أن الآيات الثلاث أعني قوله تعالى (وَما مِنَّا) إلى هنا نزلت كما نزلت أخواتها.

وعن هبة الله المفسر أنها نزلت لا في الأرض ولا في السماء وعد معها آيتين من آخر سورة البقرة وآية من الزخرف (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) [الزخرف : ٤٥] الآية قال ابن العربي : ولعله أراد في الفضاء بين السماء والأرض.

وقال الجلال السيوطي : لم أقف على مستند لما ذكره إلا آخر البقرة فيمكن أن يستدل له بما أخرجه مسلم عن ابن مسعود لما أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى الحديث وفيه فأعطى الصلوات الخمس وأعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك من أمته بالله شيئا المقحمات انتهى فلا تغفل (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) إن هي المخففة واللام هي الفارقة والضمير لكفار قريش كانوا يقولون قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي كتابا من جنس الكتب التي نزلت عليهم ومثلها في كونه من عند الله تعالى : (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) لأخلصنا العبادة له تعالى ولكنا أهدى منهم ، والفاء في قوله تعالى : (فَكَفَرُوا بِهِ) فصيحة مثلها في قوله تعالى : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] أي فجاءهم ذكر وأي ذكر سيد الأذكار وكتاب مهيمن على سائر الكتب والأخبار فكفروا به (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي عاقبة كفرهم وما يحل بهم من الانتقام ، وقيل أريد بالذكر العلم أي لو أن عندنا علما من الذين تقدمونا وما فعل الله تعالى بهم بعد أن ماتوا هل أثابهم أم عذبهم لأخلصنا العبادة له تعالى فجاءهم ذلك في القرآن العظيم فكفروا به ، ولا يخفى بعده. (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) استئناف مقرر للوعيد وتصديره بالقسم لغاية الاعتناء بتحقيق مضمونه أي وبالله لقد سبق وعدنا لهم بالنصرة والغلبة وهو قوله تعالى :

(إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) فيكون تفسيرا أو بدلا من (كَلِمَتُنا) وجوز أن يكون مستأنفا والوعد ما في محل آخر من قوله تعالى (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] والأول أظهر ، والمراد بالجند اتباع المرسلين وأضافهم إليه تعالى تشريفا لهم وتنويها بهم ، وقال بعض الأجلة : هو تعميم بعد تخصيص وفيه من التأكيد ما فيه ، والمراد عند السدي بالنصرة والغلبة ما كان بالحجة ، وقال الحسن : المراد النصرة والغلبة في الحرب فإنه لم يقتل نبي من الأنبياء في الحرب وإنما قتل من قتل منهم غيلة أو على وجه آخر في غير الحرب وإن مات نبي قبل

١٤٨

النصرة أو قتل فقد أجرى الله تعالى أن ينصر قومه من بعده فيكون في نصرة قومه نصرة له ، وقريب منه ما قيل إن القصرين باعتبار عاقبة الحال وملاحظة المآل ، وقال ناصر الدين : هما باعتبار الغالب والمقضي بالذات لأن الخير هو مراده تعالى بالذات وغيره مقضي بالتبع لحكمة وغرض آخر أو للاستحقاق بما صدر من العباد ، ولذا قيل بيده الخير ولم يذكر الشر مع أن الكل من عنده عزوجل ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة ، وظاهر السياق يقتضي أن ذلك في الدنيا وأنه بطريق القهر والاستيلاء والنيل من الأعداء إما بقتلهم أو تشريدهم أو إجلائهم عن أوطانهم أو استئسارهم أو نحو ذلك ، والجملتان دالتان على الثبات والاستمرار فلا بد من أن يقال : إن استمرار ذلك عرفي ، وقيل : هو على ظاهره واستمرار الغلبة للجند مشروط بما تشعر به الإضافة فلا يغلب اتباع المرسلين في حرب إلا لإخلالهم بما تشعر به بميل ما إلى الدنيا أو ضعف التوكل عليه تعالى أو نحو ذلك ، ويكفي في نصرة المرسلين إعلاء كلمتهم وتعجيز الخلق عن معارضتهم وحفظهم من القتل في الحروب ومن الفرار فيها ولو عظمت هنالك الكروب فافهم ، ولا يخفى وجه التعبير بمنصورون مع المرسلين وبالغالبون مع الجند فلا تغفل ، وسمى الله عزوجل وعده بذلك كلمة وهي كلمات لأنها لما اجتمعت وتضامت وارتبطت غاية الارتباط صارت في حكم شيء واحد فيكون ذلك من باب الاستعارة ، والمشهور أن إطلاق الكلمة على الكلام مجاز مرسل من اطلاق الجزء على الكل ، وقال بعض العلماء : إنه حقيقة لغوية واختصاص الكلمة بالمفرد اصطلاح لأهل العربية فعليه لا يحتاج إلى التأويل ، وقرأ الضحاك «كلماتنا» بالجمع ، ويجوز أن يراد عليها وعودنا فتفطن ، وفي قراءة ابن مسعود «على عبادنا» على تضمين «سبقت» معنى حقت (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فأعرض عنهم واصبر (حَتَّى حِينٍ) إلى وقت انتهاء مدة الكف عن القتال ، وعن السدي إلى يوم بدر ورجحه الطبري وقيل : إلى يوم الفتح وكان قبله مهادنة الحديبية ، وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال : إلى يوم موتهم وحكاه الطبرسي عن ابن عباس أيضا ، وقال ابن زيد : إلى يوم القيامة ، وهو والذي قبله ظاهر أن في عدم اختصاص النصرة بما كان في الدنيا (وَأَبْصِرْهُمْ) وهم حينئذ على أسوأ حال وأفظع نكال قد حل بهم ما حل من الأسر والقتل أو أبصر بلاءهم على أن الكلام على حذف مضاف ، والأمر بمشاهدة ذلك وهو غير واقع للدلالة على أنه لشدة قربه كأنه حاضر قدامه وبين يديه مشاهد خصوصا إذا قيل إن الأمر للحال أو الفور.

(فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) ما يكون لك من التأييد والنصر ، وقيل : المعنى أبصر ما يكون عليهم يوم القيامة من العذاب فسوف يبصرون ما يكون لك من مزيد الثواب ، وسوف للوعيد لا للتسويف والتبعيد الذي هو حقيقتها وقرب ما حل بهم مستلزم لقرب ما يكون له عليه الصلاة والسلام فهو قرينة على عدم ارادة التبعيد منه.

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) استفهام توبيخ أخرج جويبر عن ابن عباس قال قالوا يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به وعجله لنا فنزلت ، وروي أنه لما نزل (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) قالوا متى هذا؟ فنزلت (فَإِذا نَزَلَ) أي العذاب الموعود (بِساحَتِهِمْ)(١) وهي العرصة الواسعة عند الدور والمكان الواسع مطلقا وتجمع على سوح قال الشاعر :

فكان سيان أن لا يسرحوا نعما

أو يسرحوه بها واغبرت السوح

وفي الضمير استعارة مكنية شبه العذاب بجيش يهجم على قوم وهم في ديارهم بغتة فيحل بها والنزول تخييل.

وقرأ ابن مسعود «نزل» بالتخفيف والبناء للمجهول وهو لازم فالجار والمجرور نائب الفاعل ، وقرئ نزل بالتشديد والبناء للمجهول أيضا وهو متعد فنائب الفاعل ضمير العذاب (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي فبئس صباح

__________________

(١) قال الفراء : العرب تقول نزل بساحتهم ، ويريدون نزل بهم ، فلا تغفل اه منه.

١٤٩

المنذرين صباحهم على أن ساء بمعنى بئس وبها قرأ عبد الله والمخصوص بالذم محذوف واللام في المنذرين للجنس لا للعهد لاشتراطهم الشيوع فيما بعد فعلى الذم والمدح ليكون التفسير بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال ولو كان ساء بمعنى قبح على أصله جاز اعتبار العهد من غير تقدير ، والصباح مستعار لوقت نزول العذاب أي وقت كان من صباح الجيش المبيت للعدو وهو السائر إليه ليلا ليهجم عليه وهو في غفلته صباحا ، وكثيرا ما يسمون الغارة صباحا لما أنها في الأعم الأغلب تقع فيه ، وهو مجاز مرسل أطلق فيه الزمان وأريد ما وقع فيه كما يقال أيام العرب لوقائعهم.

وجوز حمل الصباح هنا على ذلك ، وفي الكشاف مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قوما بعض نصّاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة وقطع دابرهم ، وكانت عادة مغاويرهم إصباحا فسميت الغارة صباحا وإن وقعت في وقت آخر ؛ وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي يحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل انتهى ، وظاهره أن الكلام على الاستعارة التمثيلية وفضلها على غيرها أشهر من أن يذكر وأجل من أن ينكر ، وقيل : ضمير نزل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويراد حينئذ نزوله يوم الفتح لا يوم بدر لأنه ليس بساحتهم الأعلى تأويل ولا بخيبر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين صبحها الله أكبر خربت خيبر أنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين لأن تلاوته عليه الصلاة والسلام تمت لاستشهاده بها والكلام هنا مع المشركين ، ولا يخفى بعد رجوع الضمير إليه عليه الصلاة والسلام.

(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ* وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إثر تسلية وتأكيد لوقوع الميعاد غب تأكيد مع ما في اطلاق الفعلين عن المفعول من الإيذان ظاهرا بأن ما يبصره عليه الصلاة والسلام حينئذ من فنون المسار وما يبصرونه من فنون المضار لا يحيط به الوصف والبيان ، وجوز أن يراد بما تقدم عذاب الدنيا وبهذا عذاب الآخرة (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) تنزيه لله تعالى شأنه عن كل ما يصفه المشركون به مما لا يليق بجناب كبريائه وجبروته مما حكي عنهم في السورة الكريمة وما لم يحك من الأمور التي من جملتها ترك إنجاز الموعود على موجب كلمته تعالى السابقة لا سيما في حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية المعربة عن التربية والتكميل والمالكية الكلية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام أولا وإلى العزة ثانيا كأنه قيل : سبحان من هو مربيك ومكملك ومالك العزة والغلبة على الإطلاق عما يصفه المشركون به من الأشياء التي منها ترك نصرتك عليهم كما يدل عليه استعجالهم بالعذاب ، ومعنى ملكه تعالى العزة على الإطلاق أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو عزوجل مالكها ، وقال الزمخشري : أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه تعالى بها كأنه قيل ذو العزة كما تقول صاحب صدق لاختصاصه بالصدق ، ثم ذكر جواز إرادة المعنى الذي ذكرناه ، والفرق أن الإضافة على ما ذكرنا على أنه سبحانه المعز وعلى الآخر على أنه عزوجل العزيز بنفسه. ولكل وجه من المبالغة خلا عنه الآخر ، وقوله تعالى : (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) تشريف للرسل كلهم بعد تنزيهه تعالى عما ذكر وتنويه بشأنهم وإيذان بأنهم سالمون عن كل المكاره فائزون بكل المآرب ، وقوله سبحانه : (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إشارة إلى وصفه تعالى بصفاته الكريمة الثبوتية بعد التنبيه على اتصافه عزوجل بجميع صفاته السلبية وإيذان باستتباعها للأفعال الحميدة التي من جملتها إفاضته تعالى على المرسلين من فنون الكرامات السنية والكمالات الدينية والدنيوية وإسباغه جل وعلا عليهم وعلى من تبعهم من صنوف النعماء الظاهرة والباطنة الموجبة لحمده تعالى وإشعار بأن ما وعده عليه‌السلام من النصرة والغلبة قد تحقق ، والمراد تنبيه المؤمنين على كيفية تسبيحه سبحانه وتحميده والتسليم على رسله عليهم‌السلام الذين هم وسائط بينه تعالى وبينهم في فيضان الكمالات مطلقا عليهم.

١٥٠

وهو ظاهر في عدم كراهة إفراد السلام عليهم ، ولعل توسيط التسليم على المرسلين بين تسبيحه تعالى وتحميده لختم السورة الكريمة بحمده تعالى مع ما فيه من الاشعار بأن توفيقه تعالى للتسليم من جملة نعمه تعالى الموجبة للحمد كذا في إرشاد العقل السليم. وقد يقال : تقديم التنزيه لأهميته ذاتا ومقاما ، ولما كان التنزيه عما يصف المشركون وقد ذكر عزوجل إرشاد الرسل إياهم وتحذيرهم لهم من أن يصفوه سبحانه بما لا يليق به تعالى وضمن ذلك الإشارة إلى سوء حالهم وفظاعة منقلبهم أردف جلّ وعلا ذلك بالإشارة إلى حسن حال المرسلين الداعين إلى تنزيهه تعالى عما يصفه به المشركون ، وفيه من الاهتمام بأمر التنزيه ما فيه ، وأتى عزوجل بالحمد للإشارة إلى أنه سبحانه متصف بالصفات الثبوتية كما أنه سبحانه متصف بالصفات السلبية وهذا وإن استدعى إيقاع الحمد بعد التسبيح بلا فصل كما في قولهم سبحان الله والحمد لله وهو المذكور في الأخبار والمشهور في الأذكار إلا أن الفصل بينهما هنا بالسلام على المرسلين مما اقتضاه مقام ذكرهم فيما مر وجدد الالتفات إليهم تقديم التنزيه عما يصفه به من يرسلون إليه ، ولعل من يدقق النظر يرى أن السلام هنا أهم من الحمد نظرا للمقام وإن كان هو أهم منه ذاتا والأهمية بالنظر للمقام أولى بالاعتبار عندهم ولذا تراهم يقدمون المفضول على الفاضل إذا اقتضى المقام الاعتناء به ، ولعله من تتمة جملة التسبيح وبهذا ينحل ما يقال من أن حمده تعالى أجل من السلام على الرسل عليهم‌السلام فكان ينبغي تقديمه عليه على ما هو المنهج المعروف في الكتب والخطب ، ولا يحتاج إلى ما قيل : إن المراد بالحمد هنا الشكر على النعم وهي الباعثة عليه ومن أجلها إرسال الرسل الذي هو وسيلة لخيري الدارين فقدم عليه لأن الباعث على الشيء يتقدم عليه في الوجود وإن كان هو متقدما على الباعث في الرتبة فتدبر.

وهذه الآية من الجوامع والكوامل ووقوعها في موقعها هذا ينادي بلسان ذلق أنه كلام من له الكبرياء ومنه العزة جل جلاله وعم نواله. وقد أخرج الخطيب عن أبي سعيد قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول بعد أن يسلم : سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من قال دبر كل صلاة «سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ثلاث مرات فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر ، وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم سبحان ربك رب العزة» إلى آخر السورة ، وأخرجه البغوي من وجه آخر متصل عن علي كرم الله تعالى وجهه موقوفا ، وجاء في ختم المجلس بالتسبيح غير هذا ولعله أصح منه ، فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفّر بهن عنه ولا يقولهن في مجلس خير وذكر إلا ختم له بهن عليه كما يختم بخاتم على الصحيفة سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» لكن المشهور اليوم بين الناس أنهم يقرءون عند ختم مجلس القراءة أو الذكر أو نحوهما الآية المذكورة (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

ومن باب الاشارة في الآيات ما قالوا (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) هي الأرواح الكاملة المكملة من الصف الأول وهو صف الأنبياء عليهم‌السلام والصف الثاني وهو صف الأصفياء (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح والهمم القدسية (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) آيات الله تعالى وشرائعه عزوجل ، وقيل الصافات جماعة الملائكة

١٥١

المهيمين والزاجرات جماعة الملائكة الزاجرين للأجرام العلوية والأجسام السفلية بالتدبير والتاليات جماعة الملائكة التالية آيات الله تعالى وجلايا قدسه على أنبيائه وأوليائه ، وتنزل الملائكة على الأولياء مما قال به الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وقد نطق بأصل التنزل عليهم قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) وقد يطلقون على بعض الأولياء أنبياء الأولياء.

قال الشعراوي في رسالة الفتح في تأويل ما صدر عن الكمل من الشطح : أنبياء الأولياء هم كل ولي أقامه الحق تعالى في تجل من مظهر تجلياته وأقام له محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومظهر جبريل عليه‌السلام فأسمعه ذلك المظهر الروحاني خطاب الأحكام المشروعة لمظهر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا فرغ من خطابه وفزع عن قلب هذا الولي عقل صاحب هذا المشهد جميع ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام المشروعة الظاهرة في هذه الأمة المحمدية فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي فيرد إلى حسه وقد وعى ما خاطب الروح به مظهر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلم صحته علم يقين بل عين يقين فمثل هذا يعمل بما شاء من الأحاديث لا التفات له إلى تصحيح غيره أو تضعيفه فقد يكون ما قال بعض المحدثين بأنه صحيح لم يقله النبي عليه الصلاة والسلام وقد يكون ما قالوا فيه إنه ضعيف سمعه هذا الولي من الروح الأمين يلقيه على حقيقة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سمع بعض الصحابة حديث جبريل في بيان الإسلام والإيمان والإحسان فهؤلاء هم أنبياء الأولياء ولا ينفردون قط بشريعة ولا يكون لهم خطاب بها إلا بتعريف أن هذا هو شرع محمد عليه الصلاة والسلام أو يشاهدن المنزل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حضرة التمثل الخارج عن ذاتهم والداخل المعبر عنه بالمبشرات في حق النائم غير أن الولي يشترك مع النبي في إدراك ما تدركه العامة في النوم في حال اليقظة فهؤلاء في هذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل على مرتبة تعبد هارون بشريعة موسى مع كونه نبيا وهم الذين يحفظون الشريعة الصحيحة التي لا شك فيها على أنفسهم وعلى هذه الأمة فهم أعلم الناس بالشرع غير أن غالب علماء الشريعة لا يسلمون لهم ذلك وهم لا يلزمهم إقامة الدليل على صدقهم لأنهم ليسوا مشرعين فهم حفاظ الحال النبوي والعلم اللدني والسر الإلهي وغيرهم حفاظ الأحكام الظاهرة ، وقد بسطنا الكلام على ذلك في الميزان اه. وقال بعيد هذا في رسالته المذكورة : اعلم أن بعض العلماء أنكروا نزول الملك على قلب غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدم ذوقه له ، والحق أنه ينزل ولكن بشريعة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالخلاف إنما ينبغي أن يكون فيما ينزل به الملك لا في نزول الملك وإذا نزل على غير نبي لا يظهر له حال الكلام أبدا إنما يسمع كلامه ولا يرى شخصه أن يرى شخصه من غير كلام فلا يجمع بين الكلام والرؤية إلا نبي والسلام اه. وقد تقدم لك طرف من الكلام في رؤية الملك فتذكر. (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) أخبار بذلك ليعلموه ولا يتخذوا من دونه تعالى آلهة من الدنيا والهوى والشيطان ، ومعنى كونه عزوجل واحدا تفرده في الذات والصفات والأفعال وعدم شركة أحد معه سبحانه في شيء من الأشياء ، وطبقوا أكثر الآيات بعد على ما في الأنفس ، وقيل في قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) فيه إشارة إلى أن للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام وهو مسئول عن أداء حقوق ذلك المقام فإن خرج عن عهدة جوابه أذن له بالعبور وإلا بقي موقوفا رهينا بأحواله إلى أن يؤدي حقوقه ، وكذا طبقوا ما جاء من قصص المرسلين بعد على ما في الأنفس ، وقيل في قوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) يشير إلى أن الملك لا يتعدى مقامه إلى ما فوقه ولا يهبط عنه إلى ما دونه وهذا بخلاف نوع الإنسان فإن من أفراده من سار إلى مقام قاب قوسين بل طار إلى منزل أو أدنى وجر هناك مطارف (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ومنها من هوى إلى أسفل سافلين وانحط إلى قعر سجين (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) وقد ذكروا أن الإنسان قد يترقى حتى يصل إلى مقام الملك فيعبره إلى مقام قرب النوافل ومقام قرب

١٥٢

الفرائض وقد يهبط إلى درك البهيمية فما دونها (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) نسأل الله تعالى أن يرقينا إلى مقام يرضاه ويرزقنا رضاه يوم لقاه وأن يجعلنا من جنده الغالبين وعباده المخلصين بحرمة سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

١٥٣

سورة ص

مكية كما روي عن ابن عباس وغيره ، وقيل مدنية وليس بصحيح كما قال الداني ؛ وهي ثمان وثمانون آية في الكوفي وست وثمانون في الحجازي والبصري والشامي وخمس وثمانون في عد أيوب بن المتوكل وحده ، قيل ولم يقل أحد إن (ص) وحدها آية كما قيل في غيرها من الحروف في أوائل السور ، وفيه بحث ؛ وهي كالمتممة لما قبلها من حيث إنه ذكر فيها ما لم يذكر في تلك من الأنبياء عليهم‌السلام كداود وسليمان ، ولما ذكر سبحانه فيما قبل عن الكفار أنهم قالوا (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) [الصافات : ١٦٩] وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم بدأ عزوجل في هذه السورة بالقرآن ذي الذكر وفصل ما أجمل هناك من كفرهم وفي ذلك من المناسبة ما فيه ، ومن دقق النظر لاح له مناسبات أخر والله تعالى الموفق.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (١٧)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص) بالسكون على الوقف عند الجمهور ، وقرأ أبي والحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن أبي عبلة ونصر بن عاصم «صاد» بكسر الدال ؛ والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين وهو حرف من حروف المعجم نحو (ق) و (ن).

١٥٤

وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه أمر من صادى أي عارض ، ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت الأول ويقابله بمثله في الأماكن الخالية والأجسام الصلبة العالية ، والمعنى عارض القرآن بعملك أي اعمل بأوامره ونواهيه ، وقال عبد الوهاب : أي اعرضه على عملك فانظر أين عملك من القرآن ، وقيل هو أمر من صادى أي حادث ، والمعنى حادث القرآن ، وهو رواية عن الحسن أيضا وله قرب من الأول. وقرأ عيسى ومحبوب عن أبي عمرو وفرقة «صاد» بفتح الدال ، وكذا قرءوا قاف ونون بالفتح فيهما فقيل هو لالتقاء الساكنين أيضا طلبا للخفة ، وقيل هو حركة إعراب على أن «صاد» منصوب بفعل مضمر أي اذكر أو اقرأ صاد أو بفعل القسم بعد نزع الخافض لما فيه من معنى التعظيم المتعدي بنفسه نحو الله لأفعلن أو مجرور بإضمار حرف القسم ، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث بناء على أنه علم السورة ، وقد ذكر الشريف أنه إذا اشتهر مسمى بإطلاق لفظ عليه يلاحظ المسمى في ضمن ذلك اللفظ وأنه بهذا الاعتبار يصح اعتبار التأنيث في الاسم. وقرأ ابن أبي إسحاق في رواية «صاد» بالجر والتنوين ، وذلك إما لأن الثلاثي الساكن الوسط يجوز صرفه بل قيل إنه الأرجح ، وإما لاعتبار ذلك اسما للقرآن كما هو أحد الاحتمالات فيه فلم يتحقق فيه العلتان فوجب صرفه ، والقول بأن ذاك لكونه علما لمعنى السورة لا للفظها فلا تأنيث فيه مع العلمية ليكون هناك علتان لا يخلو عن دغدغة. وقرأ ابن السميفع وهارون الأعور والحسن في رواية «صاد» بضم الدال ، وكأنه اعتبر اسما للسورة وجعل خبر مبتدأ محذوف أي هذه صاد ، ولهم في معناه غير متقيدين بقراءة الجمهور اختلاف كاضرابه من أوائل السور ، فأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال : سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن «ص» فقالا : ما ندري ما هو ، وهو مذهب كثير في نظائره ، وقال عكرمة : سئل نافع بن الأزرق عبد الله بن عباس عن «ص» فقال : ص كان بحرا بمكة وكان عليه عرش الرحمن إذ لا ليل ولا نهار.

وقال ابن جبير : هو بحر يحيي الله تعالى به الموتى بين النفختين ، والله تعالى أعلم بصحة هذين الخبرين.

وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال (ص) صدق الله ، وأخرج ابن مردويه عنه أنه قال (ص) يقول إني أنا الله الصادق ، وقال محمد بن كعب القرظي : هو مفتاح أسماء الله تعالى صمد وصانع المصنوعات وصادق الوعد.

وقيل هو إشارة إلى صدود الكفار عن القرآن. وقيل حرف مسرود على منهاج التحدي ، وجنح إليه غير واحد من أرباب التحقيق ، وقيل اسم للسورة وإليه ذهب الخليل وسيبويه والأكثرون ، وقيل اسم للقرآن وقيل غير ذلك باعتبار بعض القراءات كما سمعت عن قريب ، ومن الغريب أن المعنى صاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به ، ولعل القائل به اعتبره فعلا ماضيا مفتوح الآخر أو ساكنه للموقف ، وأنا لا أقول به ولا أرتضيه وجها ، وهو على بعض هذه الأوجه لا حظّ له من الإعراب ، وعلى بعضها يجوز أن يكون مقسما به ومفعولا لمضمر وخبر مبتدأ محذوف ، وعلى بعضها يتعين كونه مقسما به ، وعلى بعض ما تقدم في القراءات يتأتى ما يتأتى مما لا يخفى عليك ، وبالجملة إن لم يعتبر مقسما به فالواو في قوله سبحانه (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) للقسم وإن اعتبر مقسما به فهي للعطف عليه لكن إذا كان قسما منصوبا على الحذف والإيصال يكون العطف عليه باعتبار المعنى والأصل ، ثم المغايرة بينهما قد تكون حقيقية كما إذا أريد بالقرآن كله وب (ص) السورة أو بالعكس أو أريد ب (ص) البحر الذي قيل به فيما مر وبالقرآن كله أو بالسورة ، وقد تكون اعتبارية كما إذا أريد بكل السورة أو القرآن على ما قيل ، ولا يخفى ما تقتضيه الجزالة الخالية عن التكلف.

وضعف جعل الواو للقسم أيضا بناء على قول جمع أن توارد قسمين على مقسم عليه واحد ضعيف ، والذكر كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس الشرف ومنه قوله تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] أو الذكرى

١٥٥

والموعظة للناس على ما روي عن قتادة والضحاك ، أو ذكر ما يحتاج إليه في أمر الدين من الشرائع والأحكام وغيرها من أقاصيص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخبار الأمم الدارجة والوعد والوعيد على ما قيل ، وجواب القسم قيل مذكور فقال الكوفيون والزجاج هو قوله تعالى (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤] وتعقبه الفراء بقوله : لا نجده مستقيما لتأخر ذلك جدا عن القسم ، وقال الأخفش : هو (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) [ص : ١٤] وقال قوم : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) [الأنعام : ٦ ، ص : ٣] وحذفت اللام أي لكم لما طال الكلام كما حذفت من (قَدْ أَفْلَحَ) [الشمس : ٩] بعد قوله تعالى : (وَالشَّمْسِ) [الشمس : ١٠] حكاه الفراء وثعلب ، وتعقبه الطبرسي بأنه غلط لأن اللام لا تدخل على المفعول و (كَمْ) مفعول.

وقال أبو حيان : إن هذه الأقوال يجب اطراحها ، ونقل السمرقندي عن بعضهم أنه (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلخ فإن (بَلِ) لنفي ما قبله وإثبات ما بعده فمعناه ليس الذين كفروا إلا في عزة وشقاق.

وجوز أن يريد هذا القائل أن (بَلِ) زائدة في الجواب أو ربط بها الجواب لتجريدها لمعنى الإثبات ، وقيل هو صاد إذ معناه صدق الله تعالى أو صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونسب ذلك إلى الفراء وثعلب ، وهو مبني على جواز تقدم جواب القسم واعتقاد أن (ص) تدل على ما ذكر ، ومع هذا في كون ص نفسه هو الجواب خفاء ، وقيل هو جملة هذه صاد على معنى السورة التي أعجزت العرب فكأنه : قيل هذه السورة التي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر وهذا كما تقول : هذا حاتم والله تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله ، وهو مبني على جواز التقدم أيضا ، وقيل هو محذوف فقدره الحوفي لقد جاءكم الحق ونحوه ، وابن عطية ما الأمر كما تزعمون ونحوه ، وقدره بعض المحققين ما كفر من كفر لخلل وجده ودل عليه بقوله تعالى (بَلِ الَّذِينَ) إلخ ، وآخر إنه لمعجز ودل عليه ما في (ص) من الدلالة على التحدي بناء على أنه اسم حرف من حروف المعجم ذكر على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز أو ما في أقسم بص أو هذه ص من الدلالة على ذلك بناء على أنه اسم للسورة أو أنه لواجب العمل به دل عليه (ص) بناء على كونه أمرا من المصاداة ، وقدره بعضهم غير ذلك ، وفي البحر ينبغي أن يقدر هنا ما أثبت جوابا للقسم بالقرآن في قوله تعالى : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس : ١ ، ٣].

ويقوي هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله تعالى (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) وهناك في قوله سبحانه : (لِتُنْذِرَ قَوْماً) [يس : ٦] فالرسالة تتضمن النذارة والبشارة ، وجعل بل في قوله تعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى ذكر حال تعزز الكفار ومشاقتهم في قبولهم رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وامتثال ما جاء به وهي كذلك على كثير من الوجوه السابقة ، وقد تجعل على بعضها للإضراب عن الجواب بأن يقال مثلا : إنه لمعجز بل الذين كفروا في استكبار من الإذعان لإعجازه أو هذه السورة التي أعجزت العرب بل الذين كفروا لا يذعنون ، وجعلها بعضهم للإضراب عما يفهم مما ذكر ونحوه من أن من كفر لم يكفر لخلل فيه فكأنه قيل : من كفر لم يكفر لخلل فيه بل كفر تكبرا عن اتباع الحق وعنادا ، وهو أظهر من جعل ذلك إضرابا عن صريحه ، وإن قدر نحو هذا المفهوم جوابا فالإضراب عنه قطعا ، وفي الكشف عد هذا الإضراب من قبيل الإضراب المعنوي على نحو زيد عفيف عالم بل قومه استخفوا به على الإضراب عما يلزم الأوصاف من التعظيم كما نقل عن بعضهم عدول عن الظاهر ، ويمكن أن يكون الجواب الذي عنه الإضراب ما أنت بمقصر في تذكير الذين كفروا وإظهار الحق لهم ، ويشعر به الآيات بعد وسبب النزول الآتي ذكره إن شاء الله تعالى فكأنه قيل ص والقرآن ذي الذكر ما أنت بمقصر في تذكير الذين كفروا وإظهار الحق لهم بل الذين كفروا مقصرون في اتباعك والاعتراف بالحق ، ووجه دلالة ما في النظم

١٥٦

الجليل على قولنا بل الذين كفروا مقصرون إلخ ظاهر ، وهذه عدة احتمالات بين يديك وإليك أمر الاختيار والسلام عليك.

والمراد بالعزة ما يظهرونه من الاستكبار عن الحق لا العزة الحقيقية فإنها لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، وأصل الشقاق المخالفة وكونك في شق غير شق صاحبك أو من شق العصا بينك وبينه ، والمراد مخالفة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتنكير للدلالة على شدتهما ، والتعبير بفي على استغراقهم فيهما.

وقرأ حماد بن الزبرقان وسورة عن الكسائي وميمونة عن أبي جعفر والجحدري من طريق العقيلي في «غرة» بالغين المعجمة المكسورة والراء المهملة أي في غفلة عظيمة عما يجب عليهم من النظر فيه ، ونقل عن ابن الأنباري أنه قال في كتاب الرد على من خالف الإمام : إنه قرأ بها رجل وقال : إنها أنسب بالشقاق وهو القتال بجد واجتهاد وهذه القراءة افتراء على الله تعالى اه وفيه ما فيه.

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) وعيد لهم على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أصاب أضرابهم ، و (كَمْ) مفعول (أَهْلَكْنا) و (مِنْ قَرْنٍ) تمييز ، والمعنى قرنا كثيرا أهلكنا من القرون الخالية (فَنادَوْا) عند نزول بأسنا وحلول نقمتنا استغاثة لينجوا من ذلك ، وقال الحسن وقتادة : رفعوا أصواتهم بالتوبة حين عاينوا العذاب لينجوا منه (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) حال من ضمير (نادوا) والعائد مقدر وإن لم يلزم أي مناصهم ولات هي لا المشبهة بليس عند سيبويه زيدت عليها تاء التأنيث لتأكيد معناها وهو النفي لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى أو لأن التاء تكون للمبالغة كما في علامة أو لتأكيد شبهها بليس بجعلها على ثلاثة أحرف ساكنة الوسط ، وقال الرضي : إنها لتأنيث الكلمة فتكون لتأكيد التأنيث واختصت بلزوم الأحيان ولا يتعين لفظ الحين إلا عند بعض وهو محجوج بسماع دخولها على مرادفه ، وقول المتنبي :

لقد تصبرت حتى لات مصطبر

والآن أقحم حتى لات مقتحم

وإن لم يهمنا أمره مخرج على ذلك بجعل المصطبر والمقتحم اسمي زمان أو القول بأنها داخلة فيه على لفظ حين مقدر بعدها ؛ والتزموا حذف أحد الجزأين والغالب حذف المرفوع كما هنا على قراءة الجمهور أي ليس الحين حين مناص ، ومذهب الأخفش أنها لا النافية للجنس العاملة عمل إن زيدت عليها التاء فحين مناص اسمها والخبر محذوف أي لهم ، وقيل إنها لا النافية للفعل زيدت عليها التاء ولا عمل لها أصلا فإن وليها مرفوع فمبتدأ حذف خبره أو منصوب كما هنا فبعدها فعل مقدر عامل فيه أي ولا ترى حين مناص ، وقرأ أبو السمال «ولات حين» بضم التاء ورفع النون فعلى ذهب سيبويه (حِينَ) اسم (لاتَ) والخبر محذوف أي ليس حين مناص حاصلا لهم ، وعلى القول الأخير مبتدأ خبره محذوف وكذا على مذهب الأخفش فإن من مذهبه كما في البحر أنه إذا ارتفع ما بعدها فعلى الابتداء أي فلا حين مناص كائن لهم. وقرأ عيسى بن عمر «ولات حين» بكسر التاء مع النون كما في قول المنذر بن حرملة الطائي النصراني :

طلبوا صلحنا ولات أوان

فأجبنا أن لات حين بقاء

وخرج ذلك إما على أن لات تجر الأحيان كما أن لو لا تجر الضمائر كلولاك ولولاه عند سيبويه ، وإما على إضمار من كأنه قيل : لات من حين مناص ولات من أوان صلح كما جروا بها مضمرة في قولهم على كم جدع بيتك أي من جذع في أصح القولين ، وقولهم : ألا رجل جزاه الله خيرا. يريدون ألا من رجل ، ويكون موضع من حين مناص رفعا على أنه اسم لات بمعنى ليس كما تقول ليس من رجل قائما ، والخبر محذوف على قول سيبويه وعلى أنه مبتدأ

١٥٧

والخبر محذوف على قول غيره ، وخرج الأخفش ولات أو أن على إضمار حين أي ولات حين أوان صلح فحذفت حين وأبقى أوان على جره ، وقيل : إن أوان في البيت مبني على الكسر وهو مشبه بإذ في قول أبي ذؤيب :

نهيتك عن طلابك أم عمرو

بعاقبة وأنت إذ صحيح

ووجه التشبيه أنه زمان قطع عنه المضاف إليه لأن الوصل أوان صلح وعوض التنوين فكسر لالتقاء الساكنين لكونه مبنيا مثله فهما شبهان في أنهما مبنيان مع وجود تنوين في آخرهما للعوض يوجب تحريك الآخر بالكسر وإن كان سبب البناء في أوان دون إذ شبه الغايات حيث جعل زمانا قطع عنه المضاف إليه وهو مراد وليس تنوين العوض مانعا عن الإلحاق بها فإنها تبنى إذا لم يكن تنوين لأن علته الاحتياج إلى المحذوف كاحتياج الحرف إلى ما يتم به ، وهذا المعنى قائم نوّن أو لم ينون فإن التنوين عوض لفظي لا معنوي فلا تنافي بين التعويض والبناء لكن اتفق أنهم لم يعوضوا التنوين إلا في حال إعرابها وكأن ذلك لئلا يتمحض للتعويض بل يكون فيها معنى التمكن أيضا فلا منافاة ، وثبت البناء فيما نحن فيه بدليل الكسر وكانت العلة التي في الغايات قائمة فأحيل البناء عليها ، واتفق أنهم عوضوا التنوين هاهنا تشبيها بإذ في أنها لما قطعت عن الاضافة نونت أو توفية لحق اللفظ لما فات حق المعنى ، وخرجت القراءة على حمل (مَناصٍ) على أوان في البيت تنزيلا لما أضيف إليه الظرف وهو (حِينَ) منزلة الظرف لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد فقدرت ظرفيته وهو قد كان مضافا إذا أصله مناصهم فقطع وصار كأنه ظرف مبني مقطوع عن الإضافة منون لقطعه ثم بني ما أضيف إليه وهو (حِينَ) على الكسر لإضافته إلى ما هو مبني فرضا وتقديرا وهو (مَناصٍ) المشابه لأوان. وأورد عليه أن ما ذكر من الحمل لم يؤثر في المحمول نفسه فكيف يؤثر فيما يضاف إليه على أن في تخريج الجر في البيت على ذلك ما فيه ، والعجب كل العجب ممن يرتضيه ، وضم التاء على قراءة أبي السمال وكسرها على قراءة عيسى للبناء ، وروي عن عيسى «ولات حين» بالضم «مناص» بالفتح ، قال صاحب اللوامح : فإن صح ذلك فلعله بنى «حين» على الضم تشبيها بالغايات وبني (مَناصٍ) على الفتح مع (لاتَ) وفي الكلام تقديم وتأخير أي ولات مناص حين لكن لا إنما تعمل في النكرات المتصلة بها دون المنفصلة عنها ولو بظرف ، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه انتهى ، وأهون من هذا فيما أرى كون (حِينَ) معربا مضافا إلى (مَناصٍ) والفتح لمجاورة واو العطف في قوله تعالى (وَعَجِبُوا) نظير فتح الراء من غير في قوله :

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات إرقال

على قول والأغلب على الظن عدم صحة هذه القراءة. وقرأ عيسى أيضا كقراءة الجمهور إلا أنه كسر تاء (لاتَ) وعلم من هذه القراءات أن في تائها ثلاث لغات ، واختلفوا في أمر الوقف عليها فقال سيبويه ، والفراء وابن كيسان والزجاج : يوقف عليها بالتاء ، وقال الكسائي والمبرد بالهاء ، وقال أبو علي : ينبغي أن لا يكون خلاف في أن الوقف بالتاء لأن قلب التاء هاء مخصوص بالأسماء ؛ وزعم قوم أن التاء ليست ملحقة بلا وإنما هي مزيدة في أول ما بعدها واختاره أبو عبيدة ، وذكر أنه رأى في الإمام «ولا تحين مناص» برسم التاء مخلوطا بأول حين ، ولا يرد عليه أن خط المصحف خارج عن القياس الخطي إذ لم يقع في الإمام في محل آخر مرسوما على خلاف ذلك حتى يقال ما هنا مخالف للقياس والأصل اعتباره إلا فيما خصه الدليل ، ومن هنا قال السخاوي في شرح الرائية أنا أستحب الوقف على لا بعد ما شاهدته في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه ، وقد سمعناهم يقولون : اذهب تلان وتحين بدون لا وهو كثير في النثر والنظم انتهى ، ومنه قوله :

١٥٨

العاطفون تحين لا من عاطف

والمطعمون زمان ما من مطعم

وكون أصله العاطفونه بها السكت فلما أثبتت في الدرج قلبت تاء مما لا يصغى إليه ، نعم الأولى اعتبار التاء مع لا لشهرة حين دون تحين ، وقال بعضهم : إن لات هي ليس بعينها وأصل ليس ليس بكسر الياء فابدلت ألفا لتحركها بعد فتحة وأبدلت السين تاء كما في ست فإن أصله سدس ، وقيل : إنها فعل ماض ولات بمعنى نقص وقل فاستعملت في النفي كقل وليس بالمعول عليه ، والمناص المنجأ والفوت يقال : ناصه ينوصه إذا فاته ، وقال الفراء : النوص التأخر ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا أي فر وزاغ ، ويقال استناص طلب المناص قال حارثة بن بدر يصف فرسا له :

غمر الجراء إذا قصرت عنانه

بيدي استناص ورام جري المسحل

وعلى المعنى الأول حمله بعضهم هنا وقال : المعنى نادوا واستغاثوا طلبا للنجاة والحال أن ليس الحين حين فوات ونجاة ؛ وعن مجاهد تفسيره بالفرار ، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله تعالى (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) فقال : ليس بحين فرار وأنشد له قول الأعشى :

تذكرت ليلى لات حين تذكر

وقد بنت عنها والمناص بعيد

وعن الكلبي أنه قال : كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض : مناص أي عليكم بالفرار فلما أتاهم العذاب قالوا : مناص فقال الله تعالى (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) قال القشيري : فعلى هذا يكون التقدير فنادوا مناص فحذف لدلالة ما بعده عليه أي ليس الوقت وقت ندائكم به ، والظاهر أن الجملة على هذا التفسير حالية أي نادوا بالفرار وليس الوقت وقت فرار ، وقال أبو حيان : في تقرير الحالية وهم لات حين مناص أي لهم ، وقال الجرجاني : أي فنادوا حين لا مناص أي ساعة لا منجى ولا فوت فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو كما يقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبرا مثل جاء زيد راكبا ثم تقول جاء زيد وهو راكب فحين ظرف لقوله تعالى (فَنادَوْا) انتهى.

وكون الأصل ما ذكر أن (حِينَ) ظرف لنادوا دعوى أعجمية مخالفة لذوق الكلام العربي لا سيما ما هو أفصح الكلام ولا أدري ما الذي دعاه لذلك (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) حكاية لأباطيلهم المتفرعة على ما كان من استكبارهم وشقاقهم أي عجبوا من أن جاءهم رسول من جنسهم أي بشر أو من نوعهم وهم معروفون بالأمية فيكون المعنى رسول أمي ، والمراد أنهم عدوا ذلك أمرا عجيبا خارجا عن احتمال الوقوع وأنكروه أشد الإنكار لا أنهم اعتقدوا وقوعه وتعجبوا منه (وَقالَ الْكافِرُونَ) وضع فيه الظاهر موضع الضمير غضبا عليهم وذما لهم وإيذانا بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولون إلا المتوغلون في الكفر والفسوق (هذا ساحِرٌ) فيما يظهره مما لا نستطيع له مثلا (كَذَّابٌ) فيما يسنده إلى الله عزوجل من الإرسال والإنزال.

(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) بأن نفي الألوهية عنها وقصرها على واحد فالجعل بمعنى التصيير وليس تصييرا في الخارج بل في القول والتسمية كما في قوله تعالى (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] وليس ذلك من باب إنكار وحدة الوجود في شيء ليقال إن الله سبحانه نعى على الكفرة ذلك الإنكار فتثبت الوحدة فإنه عليه الصلاة والسلام ما قال باتحاد آلهتهم معه عزوجل في الوجود (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) أي بليغ في العجب فإن فعالا بناء مبالغة كرجل طوال وسراع ، ووجه تعجبهم أنه خلاف ما ألفوا عليه آباءهم الذين أجمعوا على تعدد الآلهة وواظبوا على عبادتها وقد كان مدارهم في كل ما يأتون ويذرون التقليد فيعدون خلاف ما اعتادوه عجيبا بل محالا ، وقيل مدار تعجبهم زعمهم عدم وفاء علم الواحد وقدره بالأشياء الكثيرة وهو لا يتم إلا إن ادعوا لآلهتهم علما

١٥٩

وقدرة ، والظاهر أنهم لم يدعوهما لها (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥ ، الزمر : ٣٨].

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وعيسى وابن مقسم «عجّاب» بشد الجيم وهو أبلغ من المخفف ، وقال مقاتل (عُجابٌ) لغة أزد شنوءة ، أخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال : لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويقول ويقول فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس فخشي أبو جهل إن جلس إلى أبي طالب أن يكون أرق عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس فلم يجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب : أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول قال وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها يدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية ففرحوا لكلمته ولقوله فقال القوم : ما هي؟ وأبيك لنعطينكها وعشرا قال : لا إله إلا الله فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب. وفي رواية أنهم قالوا : سلنا غير هذا فقال عليه الصلاة والسلام «لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها» فغضبوا وقاموا غضابا وقالوا والله لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا.

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) أي وانطلق الأشراف من قريش من مجلس أبي طالب بعد ما بكّتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشاهدوا تصلبه في الدين ويئسوا مما كانوا يرجونه منه عليه الصلاة والسلام بواسطة عمه وكان منهم أبو جهل والعاص ابن وائل والأسود بن المطلب بن عبد يغوث وعقبة بن أبي معيط.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مجلز قال : قال رجل يوم بدر ما هم إلا النساء فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل هم الملأ وتلا (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) (أَنِ امْشُوا) الظاهر أنه أمر بالمشي بمعنى نقل الأقدام عن ذلك المجلس ، و (أَنِ) مفسرة فقيل في الكلام محذوف وقع حالا من الملأ أي انطلق الملأ يتحاورون والتفسير لذلك المحذوف وهو متضمن معنى القول دون لفظه ، وقيل لا حاجة إلى اعتبار الحذف فإن الانطلاق عن مجلس التقاول يستلزم عادة تفاوض المنطلقين وتحاورهم بما جرى فيه وتضمن المفسر لمعنى القول أعم من كونه بطريق الدلالة وغيرها كالمقارنة ومثل ذلك كاف فيه ، وقيل الانطلاق هنا الاندفاع في القول فهو متضمن لمعنى القول بطريق الدلالة ، وإطلاق الانطلاق على ذلك الظاهر أنه مجاز مشهور نزل منزلة الحقيقة ، وجوز أن يكون التجوز في الإسناد وأصله انطلقت ألسنتهم والمعنى شرعوا في التكلم بهذا القول ، وقال بعضهم : المراد بامشوا سيروا على طريقتكم وداوموا على سيرتكم ، وقيل هو من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ومنه الماشية وسميت بذلك لأنها من شأنها كثرة الولادة أو تفاؤلا بذلك والمراد لازم معناه أي أكثروا واجتمعوا ، وقيل هو دعاء بكثرة الماشية افتتحوا به كلامهم للتعظيم كما يقال اسلم أيها الأمير واختاروه من بين الأدعية لعظم شأن الماشية عندهم. وتعقب بأنه خطأ لأن فعله مزيد يقال أمشى إذا كثرت ماشيته فكان يلزم قطع همزته والقراءة بخلافه مع أن إرادة هذا المعنى هنا في غاية البعد ، وأيا ما كان فالبعض قال للبعض ذلك ، وقيل قال الأشراف لأتباعهم وعوامهم ، وقرئ «امشوا» بغير أن على إضمار القول دون إضمارها أي قائلين امشوا (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي اثبتوا على عبادتها متحملين لما تسمعونه في حقها من القدح.

وقرأ ابن مسعود «وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا» فجملة «يمشون» حالية أو مستأنفة والكلام في «أن صبروا» كما في «أن امشوا» سواء تعلق بانطلق أو بما يليه (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) تعليل للأمر بالصبر أو لوجوب

١٦٠