روح المعاني - ج ١١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

يطلب من محله ، ولا دلالة في الآية على انحصار حكمة إلقاء الرواسي فيها بسلامتها عن الميد فإن لذلك حكما لا تحصى.

وكذا لا دلالة فيها على عدم حركتها على الاستدارة دائما كما ذهب إليه أصحاب فيثاغورس ، ووراءه مذاهب أظهر بطلانا منه. نعم الأدلة النقلية والعقلية على ذلك كثيرة (وَبَثَّ فِيها) أي أوجد وأظهر ، وأصل البث الإثارة والتفريق ومنه (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة : ٦] و (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة : ٤] وفي تأخيره إشارة إلى توقفه على إزالة الميد (مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) من كل نوع من أنواعها (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) هو المطر والمراد بالسماء جهة العلو ، وجوز تفسيرها بالمظلة وكون الإنزال منها بضرب من التأويل ، وترك التأويل لا ينبغي أن يعول عليه إلا إذا وجد من الأدلة ما يضطرنا إليه لأن ذلك خلاف المشاهد (فَأَنْبَتْنا فِيها) أي بسبب ذلك الماء (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي صنف (كَرِيمٍ) أي شريف كثير المنفعة ، والالتفات إلى ضمير العظمة في الفعلين لإبراز مزيد الاعتناء بهما لتكررهما مع ما فيهما من استقامة حال الحيوان وعمارة الأرض ما لا يخفى.

(هذا) أي ما ذكر من السماوات والأرض وسائر الأمور المعدودة (خَلْقُ اللهِ) أي مخلوقه (فَأَرُونِي) أي أعلموني وأخبروني ، والفاء واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم ذلك فأروني (ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة حتى استحقوا به العبودية ، و (ما ذا) يجوز أن يكون اسما واحدا استفهاميا ويكون مفعولا لخلق مقدما لصدارته وأن يكون (ما) وحدها اسم استفهام مبتدأ و (ذا) اسم موصول خبرها وتكون الجملة معلقا عنها سادة مسد المفعول الثاني لأروني ، وأن يكون (ما ذا) كله اسما موصولا فقد استعمل كذلك على قلة على ما قال أبو حيان ويكون مفعولا ثانيا له والعائد محذوف في الوجهين وقوله تعالى :

(بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إضراب عن تبكيتهم بما ذكر إلى التسجيل عليهم بالضلال البين المستدعي للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة الحقة لاستحالة أن يفهموا منها شيئا فيهتدوا به إلى العلم ببطلان ما هم عليه أو يتأثروا من الإلزام والتبكيت فينزجروا عنه ، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للدلالة على أنهم بإشراكهم واضعون للشيء في غير موضعه ومتعدون عن الحد وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ

٨١

وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٢٥)

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشرك بالنقل بعد الإشارة إلى بطلانه بالعقل ..

ولقمان اسم اعجمي لا عربي مشتق من اللقم وهو على ما قيل : ابن باعوراء قال وهب : وكان ابن أخت أيوب عليه الصلاة والسلام ، وقال مقاتل : كان ابن خالته ، وقال عبد الرحمن السهيلي : هو ابن عنقا بن سرون ، وقيل : كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داود عليه‌السلام وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعثه فلما بعث قطع الفتوى فقيل له فقال : ألا أكتفي إذا كفيت ، وقيل : كان قاضيا في بني إسرائيل ، ونقل ذلك عن الواقدي إلا أنه قال : وكان زمانه بين محمد ، وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، وقال عكرمة ، والشعبي كان نبيا ، والأكثرون على أنه كان في زمن داود عليه‌السلام ولم يكن نبيا. واختلف فيه أكان حرا أو عبدا والأكثرون على أنه كان عبدا. واختلفوا فقيل : كان حبشيا ، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.

وأخرج ذلك ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا ، وذكر مجاهد في وصفه أنه كان غليظ الشفتين مصفح القدمين ، وقيل : كان نوبيا مشقق الرجلين ذا مشافر ، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس وابن المسيب ، ومجاهد.

وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير قال : قلت لجابر بن عبد الله ما انتهى إليكم من شأن لقمان؟ قال : كان قصيرا أفطس من النوبة ، وأخرج هو ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن المسيب أنه قال : إن لقمان كان أسود من سودان مصر ذا مشافر أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة. واختلف فيما كان يعانيه من الأشغال فقال خالد بن الربيع : كان نجارا بالراء ؛ وفي معاني الزجاج كان نجادا بالدال وهو على وزن كتان من يعالج الفرش والوسائد ويخيطهما.

وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وابن المنذر عن ابن المسيب أنه كان خياطا وهو أعم من النجاد ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان راعيا وقيل : كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة ولا وثوق لي بشيء من هذه الأخبار وإنما نقلتها تأسيا بمن نقلها من المفسرين الأخيار عن أني أختار أنه كان رجلا صالحا حكيما ولم يكن نبيا. و (الْحِكْمَةَ) على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس العقل والفهم والفطنة. وأخرج الفريابي ، وأحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد أنها العقل والفقه والإصابة في القول ، وقال الراغب : هي معرفة الموجودات وفعل الخيرات وقال الإمام : هي عبارة عن توفيق العمل بالعلم ثم قال : وإن أردنا تحديدا بما يدخل فيه حكمة الله تعالى فنقول : حصول العمل على وفق المعلوم وقال أبو حيان : هي المنطق الذي يتعظ به ويتنبه ويتناقله الناس لذلك ، وقيل :

٨٢

إتقان الشيء علما وعملا وقيل : كمال حاصل باستكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها وفسرها كثير من الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية. ولهم تفسيرات أخر وما لها وما عليها من الجرح والتعديل مذكوران في كتبهم ومن حكمته قوله لابنه : أي بني إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيها ناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى وحشوها الإيمان وشراعها التوكل على الله تعالى لعلك أن تنجو ولا أراك ناجيا ، وقوله : من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عزوجل حافظ ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله تعالى بذلك عزا والذل في طاعة الله تعالى أقرب من التعزز بالمعصية وقوله : ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع وقوله : يا بني إياك والدّين فإنه ذلّ النهار وهم الليل وقوله يا بني ارج الله عزوجل رجاء لا يجزيك على معصيته تعالى وخف الله سبحانه خوفا لا يؤيسك من رحمته تعالى شأنه ، وقوله : من كذب ذهب ماء وجهه ومن ساء خلقه كثر غمه ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم ، وقوله : يا بني حملت الجندل والحديد وكل شيء ثقيل فلم أحمل شيئا هو أثقل من جار السوء ، وذقت المرار فلم أذق شيئا هو أمر من الفقر ، يا بني لا ترسل رسولك جاهلا فإن لم تجد حكيما فكن رسول نفسك ، يا بني إياك والكذب فإنه شهي كلحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه ، يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا ، يا بني لا تأكل شبعا على شبع فإن القاءك إياه للكلب خير من أن تأكله ، يا بني لا تكن حلوا فتبلع ولا مرا فتلفظ ، وقوله لابنه : لا يأكل طعامك إلا الأتقياء وشاور في أمرك العلماء ، وقوله : لا خير في أن تتعلم ما لم تعلم ولما تعمل بما قد علمت فإن مثل ذلك رجل احتطب حطبا فحمل حزمة وذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى ، وقوله : يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره ، وقوله : لتكن كلمتك طيبة وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء ، وقوله : يا بني أنزل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك ولا بد لك منه ، يا بني كن كمن لا يبتغي محمدة الناس ولا يكسب ذمهم فنفسه منه في عناء ، والناس منه في راحة ، وقوله : يا بني امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكت سالم وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك إلى غير ذلك مما لا يحصى (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أي أي أشكر على أن (أَنِ) تفسيرية وما بعدها تفسير لإيتاء الحكمة وفيه معنى القول دون حروفه سواء كان بإلهام أو وحي أو تعليم.

وجوز أن يكون تفسيرا للحكمة باعتبار ما تضمنه الأمر ، وجعل الزجاج (أَنِ) مصدرية بتقدير اللام التعليلية ولا يفوت معنى الأمر كما مرّ تحقيقه.

وحكى سيبويه كتبت إليه بأن قم ، والجار متعلق بآياتنا ، وجوز كونها مصدرية بلا تقدير على أن المصدر بدل اشتمال من الحكمة ، وهو بعيد (وَمَنْ يَشْكُرْ) إلخ استئناف مقرر لمضمون ما قبله موجب للامتثال بالأمر أي ومن يشكر له تعالى (فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن نفعه من ارتباط القيد واستجلاب المزيد والفوز بجنة الخلود مقصورة عليها (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) عن كل شيء فلا يحتاج إلى الشكر ليتضرر بكفر من كفر (حَمِيدٌ) حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد أو محمود بالفعل ينطق بحمده تعالى جميع المخلوقات بلسان الحال ، فحميد فعيل بمعنى محمود على الوجهين ، وعدم التعرض لكونه سبحانه وتعالى مشكورا لما أن الحمد متضمن للشكر بل هو رأسه كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم : «الحمد رأس الشكر لم يشكر الله تعالى بعد لم يحمده» فإثباته له تعالى إثبات للشكر له قطعا ، وفي اختيار صيغة المضي في هذا الشق قيل : إشارة إلى قبح الكفران وأنه لا ينبغي إلا أن يعد في خبر كان ، وقيل : إشارة إلى أنه كثير متحقق بخلاف الشكر (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] وجواب الشرط محذوف قام مقامه قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ) إلخ ، وكان الأصل ومن كفر فإنما يكفر على نفسه لأن الله غني حميد ، وحاصله ومن

٨٣

كفر فضرر كفره عائد عليه لأنه تعالى غني لا يحتاج إلى الشكر ليتضرر سبحانه بالكفر محمود بحسب الاستحقاق أو بنطق ألسنة الحال فكلا الوصفين متعلقات بالشق الثاني ، وجوز أن يكون (غَنِيٌ) تعليلا لقوله سبحانه : (فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) وقوله عزوجل : (حَمِيدٌ) تعليلا للجواب المقدر للشرط بقرينة مقابله وهو فإنما يكفر على نفسه ، وأن يكون كل منهما متعلقا بكل منهما ، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف الذي لم يدع إليه ولم تقم عليه قرينة فتدبر.

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) تاران على ما قال الطبري ، والقتيبي ، وقيل : ما ثان بالمثلثة ، وقيل : أنعم ، وقيل : أشكم وهما بوزن أفعل ، وقيل : مشكم بالميم بدل الهمزة ، (وَإِذْ) معمول لا ذكر محذوفا ، وقيل : يحتمل أن يكون ظرفا لآتينا والتقدير وآتيناه الحكمة إذا قال واختصر لدلالة المقدم عليه ، وقوله تعالى : (وَهُوَ يَعِظُهُ) جملة حالية ، والوعظ ـ كما قال الراغب ـ زجر مقترن بتخويف ، وقال الخليل ، هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب (يا بُنَيَ) تصغير اشفاق ومحبة لا تصغير تحقير :

ولكن إذا ما حب شيء تولعت

به أحرف التصغير من شدة الوجد

وقال آخر :

ما قلت حبيبي من التحقير

بل يعذب اسم الشيء بالتصغير

وقرأ البزي هنا «يا بنيّ» بالسكون وفيما بعد «يا بني إنها» بكسر الياء و (يا بُنَيَّ أَقِمِ) [لقمان : ١٧] بفتحها ، وقنبل بالسكون في الأولى والثالثة والكسر في الوسطى ، وحفص ، والمفضل عن عاصم بالفتح في الثلاثة على تقدير يا بنيا والاجتزاء بالفتحة عن الألف ، وقرأ باقي السبعة بالكسر فيها (لا تُشْرِكْ بِاللهِ) قيل : كان ابنه كافرا ولذا نهاه عن الشرك فلم يزل يعظه حتى أسلم ، وكذا قيل في امرأته.

وأخرج ابن أبي الدنيا في نعت الخائفين عن الفضل الرقاشي قال : ما زال لقمان يعظ ابنه حتى مات.

وأخرج عن حفص بن عمر الكندي قال : وضع لقمان جرابا من خردل وجعل يعظ ابنه موعظة ويخرج خردلة فنفذ الخردل فقال : يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظتها جبلا لتفطر فتفطر ابنه ، وقيل : كان مسلما والنهي عن الشرك تحذير له عن صدوره منه في المستقبل ، والظاهر أن الباء متعلق بما عنده ، ومن وقف على (لا تُشْرِكْ) جعل الباء للقسم أي أقسم بالله تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) والظاهر أن هذا من كلام لقمان ويقتضيه كلام مسلم في صحيحه ، والكلام تعليل للنهي أو الانتهاء عن الشرك ، وقيل : هو خير من الله تعالى شأنه منقطع عن كلام لقمان متصل به في تأكيد المعنى ، وكون الشرك ظلما لما فيه من وضع الشيء في غير موضعه وكونه عظيما لما فيه من التسوية بين من لا نعمة إلا منه سبحانه ومن لا نعمة له.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) إلخ كلام مستأنف اعترض به على نهج الاستطراد في أثناء وصية لقمان تأكيدا لما فيه من النهي عن الإشراك فهو من كلام الله عزوجل لم يقله سبحانه للقمان ، وقيل : هو من كلامه تعالى قاله جلّ وعلا له وكأنه قيل : قلنا له أشكر وقلنا له وصينا الإنسان إلخ ، وفي البحر لما بين لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه كان ذلك حثا على طاعة الله تعالى ثم بين أن الطاعة أيضا تكون للأبوين وبين السبب في ذلك فهو من كلام لقمان مما وصى به ابنه أخبر الله تعالى عنه بذلك ، وكلا القولين كما ترى ، والمعنى وأمرنا الإنسان برعاية والديه (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً) أي ضعفا (عَلى وَهْنٍ) أي ضعف ، والمصدر حال من (أُمُّهُ) بتقدير مضاف أي ذات وهن ؛ وجوز جعله نفسه حالا مبالغة لكنه مخالف للقياس إذ القياس في الحال كونه مشتقا ، ويجوز أن يكون مفعولا لا مطلقا لفعل مقدر أي تهن وهنا ، والجملة حال من (أُمُّهُ) أيضا.

٨٤

وأيا ما كان فالمراد تضعف ضعفا متزايدا بازدياد ثقل الحمل إلى مدة الطلق ، وقيل : ضعفا متتابعا وهو ضعف الحمل وضعف الطلق وضعف النفاس ، وجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب في (حَمَلَتْهُ) العائد على (الْإِنْسانَ) وهو الذي يقتضيه ما أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال : (وَهْناً) الولد (عَلى وَهْنٍ) الوالدة وضعفها ، والمراد أنها حملته حال كونه ضعيفا على ضعيف مثله ، وليس المراد أنها حملته حال كونه متزايد الضعف ليقال أن ضعفه لا يتزايد بل ينقص. وقرأ عيسى الثقفي ، وأبو عمرو في رواية (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) بفتح الهاء فيهما فاحتمل أن يكون من باب تحريك العين إذا كانت حرف حلق كالشعر والشعر على القياس المطرد عند الكوفي كما ذهب إليه ابن جني ، وأن يكون مصدر وهن بكسر الهاء يوهن بفتحها فإن مصدره جاء كذلك وهذا كما يقال تعب يتعب تعبا كما قيل ، وكلام صاحب القاموس ظاهر في عدم اختصاص أحد المصدرين بأحد الفعلين قال : الوهن الضعف في العمل ويحرك والفعل كوعد وورث وكرم.

(وَفِصالُهُ) أي فطامه وترك إرضاعه. وقرأ الحسن ، وأبو رجاء وقتادة ، والجحدري ، ويعقوب «وفصله» وهو أعم من الفصال ، والفصال هاهنا أوقع من الفصل لأنه موقع يختص بالرضاع وإن رجعنا إلى أصل واحد على ما قاله الطيبي (فِي عامَيْنِ) أي في انقضاء عامين أي في أول زمان انقضائهما ، وظاهر الآية أن مدة الرضاع عامان وإلى ذلك ذهب الإمام الشافعي ، والإمام أحمد ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وهو مختار الطحاوي. وروي عن مالك ، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم ثلاثون شهرا لقوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] ، ووجه الاستدلال به أنه سبحانه وتعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدة فكانت لكل واحد منهما بكمالها كالأجل المضروب للدينين على شخصين بأن قال : أجلت الدين الذي لي على فلان والدين الذي لي على فلان سنة فإنه يفهم أن السنة بكمالها لكل ، أو على شخص بأن قال لفلان على ألف درهم وعشرة أقفزة إلى سنة فصدقه المقر له في الأجل فإذا مضت السنة يتم أجلهما جميعا إلا أنه قام النقص في أحدهما أعني مدة الحمل لقول عائشة الذي لا يقال مثله إلّا سماعا : الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين ولو بقدر فلكة مغزل فتبقى مدة الفصال على ظاهرها ، وما ذكر هنا أقل مدته وفيه بحث (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) تفسير لوصينا كما اختاره النحاس فإن تفسيرية ، وجوز أن تكون مصدرية بتقدير لام التعليل قبلها وهو متعلق بوصينا وبلا تقدير على أن يكون المصدر بدلا من ـ والديه ـ بدل الاشتمال ، وعليه كأنه قيل : وصينا الإنسان بوالديه بشكرهما وذكر شكر الله تعالى لأن صحة شكرهما تتوقف على شكره عزوجل كما قيل في عكسه لا يشكر الله تعالى من لا يشكر الناس ولذا قرن بينهما في الوصية ، وفي هذا من البعد ما فيه ، وأما القول بأن الأمر يأبى التفسير والتعليل والبدلية فليس بشيء كما أشرنا إليه قريبا ، وعلى الأوجه الثلاثة يكون قوله تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ) ـ إلى ـ (عامَيْنِ) اعتراضا مؤكدا للتوصية في حق الأم خصوصا لذكر ما قاسته في تربيته وحمله ، ولذا قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في حديث صحيح رواه الترمذي ، وأبو داود عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده لمن سأله عمن يبره : أمك وأجابه عن سؤاله به ثلاث مرات ، وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه :

أحمل أمي وهي الحمالة.

ترضعني الدرة والعلالة

ولا يجازي والد فعاله ولله تعالى در من قال :

لأمك حق لو علمت كبير

كثيرك يا هذا لديه يسير

٨٥

فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي

لها من جراها أنة و

زفير وفي الوضع لو تدري عليها مشقة

فمن غصص لها الفؤاد

يطير وكم غسلت عنك الأذى بيمينها

وما حجرها إلا لديك

سرير وتفديك مما تشتكيه بنفسها

ومن ثديها شرب لديك

نمير وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها

حنوا وإشفاقا وأنت

صغير فآها لذي عقل ويتبع الهوى

وآها لأعمى القلب وهو

بصير فدونك فارغب في عميم دعائها

فأنت لما تدعو به لفقير

واختلف في المراد بالشكر المأمور به فقيل هو الطاعة وفعل ما يرضي كالصلاة والصيام بالنسبة إليه تعالى وكالصلة والبر بالنسبة إلى الوالدين ، وعن سفيان بن عيينة من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى ومن دعا لوالديه في أدبارها فقد شكرهما ولعل هذا بيان لبعض أفراد الشكر (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) تعليل لوجوب الامتثال بالأمر أي إلى الرجوع لا إلى غيري فأجازيك على ما صدر عنك مما يخالف أمري.

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ) أي باستحقاقه الإشراك أو بشركته له تعالى في استحقاق العبادة ، والجار متعلق بقوله تعالى : (عِلْمٌ) وما مفعول (تُشْرِكَ) كما اختاره ابن الحاجب ثم قال : ولو جعل (تُشْرِكَ) بمعنى الذي تكفر وجعلت (ما) نكرة أو بمعنى كفرا أو الكفر وتكون نصبا على المصدرية لكان وجها حسنا ، والكلام عليه أيضا بتقدير مضاف أي وأن جاهدك الوالدان على أن تكفر بي كفرا ليس لك أو الكفر الذي ليس لك بصحته أو بحقيته علم (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك والمراد استمرار نفي العلم لا نفي استمراره فلا يكون الإشراك إلا تقليدا. وفي الكشاف أراد سبحانه بنفي العلم نفي ما يشرك أي لا تشرك بي ما ليس بشيء يريد عزوجل الأصنام كقوله سبحانه (ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [العنكبوت : ٤٢] وجعله الطيبي على ذلك من باب نفي الشيء بنفي لازمه وذلك ان العلم تابع للمعلوم فإذا كان الشيء معدوما لم يتعلق به موجودا ، ونقل عن ابن المنير أنه عليه من باب :

على لاحب لا يهتدى بمناره

أي ما ليس باله فيكون لك علم بإلهيته وفي الكشف أن الزمخشري أراد أنه بولغ في نفي الشريك حتى جعل كلا شيء ثم بولغ حتى ما لا يصح أن يتعلق به علم والمعدوم يصح أن يعلم ويصح أن يقال إنه شيء فادخل في سلك المجهول مطلقا وليس من قبيل نفي العلم لنفي وجوده وهذا تقرير حسن وفيه مبالغة عظيمة منه يظهر ترجيح هذا المسلك في هذا المقام على أسلوب :

ولا ترى الضب بها ينجحر

ا ه فافهم ولا تغفل (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أي صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم والمروءة كإطعامهما واكسائهما وعدم جفائهما وانتهارهما وعيادتهما إذا مرضا ومواراتهما إذا ماتا ، وذكر (فِي الدُّنْيا) لتهوين أمر الصحبة والإشارة إلى أنها في أيام قلائل وشيكة الانقضاء فلا يضر تحمل مشقتها لقلة أيامها وسرعة انصرامها ؛ وقيل للإشارة إلى أن الرفق بهما في الأمور الدنيوية دون الدينية.

وقيل : ذكره لمقابلته بقوله تعالى : «ثم إليّ مرجعكم» (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ) أي رجع (إِلَيَ) بالتوحيد والإخلاص بالطاعة ، وحاصله اتبع سبيل المخلصين لا سبيلهما (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي رجوعك ورجوعهما وزاد

٨٦

بعضهما من أناب وهو خلاف الظاهر ، وأيا ما كان ففيه تغليب للخطاب على الغيبة (فَأُنَبِّئُكُمْ) عند رجوعكم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأن أجازي كلّا منكم بما صدر عنه من الخير والشر ، والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص* أخرج أبو يعلى ، والطبراني ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي أن سعد بن أبي وقاص قال : أنزلت في هذه الآية (وَإِنْ جاهَداكَ) الآية كنت رجلا برا بأمي فلما أسلمت قالت : يا سعد وما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي فيقال يا قاتل أمه قلت : لا تفعلي يا أمه فإني لا أدع ديني هذا لشيء فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد جهدت فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها فلما رأيت ذلك قلت : يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا الشيء فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت فنزلت هذه الآية ، وذكر بعضهم أن هذه وما قبلها أعني قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) الآية نزلتا فيه قيل ولكون النزول فيه قيل : من أناب بتوحيد الضمير حيث أريد بذلك أبو بكر رضي الله تعالى عنه فإن إسلام سعد كان بسب إسلامه.

وأخرج الواحدي عن عطاء عن ابن عباس قال إنه يريد بمن أناب أبو بكر وذلك أنه حين أسلم رآه عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وعثمان وطلحة والزبير فقالوا لأبي بكر آمنت وصدقت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم فقال أبو بكر : نعم فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فآمنوا وصدقوا فأنزل الله تعالى يقول لسعد : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه ، وابن جريج يقول كما أخرج عنه ابن المنذر من أناب محمد عليه الصلاة والسلام ، وغير واحد يقول هو صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون ، والظاهر هو العموم.

(يا بُنَيَ) إلخ رجوع إلى القصة بذكر بقية ما أريد حكايته من وصايا لقمان أثر تقرير ما في مطلعه من النهي عن الشرك وتأكيده بالاعتراض (إِنَّها) أي الخصلة من الإساءة والإحسان لفهمها من السياق. وقيل : وهو كما ترى إنها أي التي سألت عنها ، فقد روي أن لقمان سأله ابنه أرأيت الحبة تقع في مغاص البحر أيعلمها الله تعالى فقال يا بني إنها أي التي سألت عنها (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي إن تكن مثلا في الصغر كحبة الخردل والمثقال ما يقدر به غيره لتساوي ثقلهما وهو في العرف معلوم.

وقرأ نافع ، والأعرج ، وأبو جعفر «مثقال» بالرفع على أن الضمير للقصة و (تَكُ) مضارع كان التامة والتأنيث لإضافة الفاعل إلى المؤنث كما في قول الأعشى :

وتشرق بالقول الذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدم

أو لتأويله بالزنة أو الحسنة والسيئة (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) أي فتكن مع كونها في أقصى غايات الصغر والقماءة في أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي ، وقيل : في أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو أعلاه كمحدب السماوات أو أسفله كمقعر الأرض ، ولا يخفى أنه لا دلالة في النظم على تخصيص المحدب والمقعر ولعل المقام يقتضيه إذ المقصود المبالغة.

وفي قوله تعالى : (فِي السَّماواتِ) لا يأبى ذلك لأنها ذكرت بحسب المكانية أو للمشاكلة أو هي بمعنى على ، وعبر بها للدلالة على التمكن ومع هذا الظاهر ما تقدم ، وفي البحر أنه بدأ بما يتعقله السامع أولا وهو كينونة الشيء في صخرة وهو ما صلب من الحجر وعسر الإخراج منه ثم أتبعه بالعالم العلوي وهو أغرب للسامع ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد وهو الأرض ، وقيل : إن خفاء الشيء وصعوبة نيله بطرق بغاية صغره ويبعده عن الرائي وبكونه في ظلمة وباحتجاجه فمثقال حبة من خردل إشارة إلى غاية الصغر ، و (فِي صَخْرَةٍ) إشارة إلى الحجاب و (فِي السَّماواتِ)

٨٧

إشارة إلى البعد و (فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى الظلمة فإن جوف الأرض أشد الأماكن ظلمة أو يقال فليس المراد بصخرة صخرة معينة ، وعن ابن عباس ، والسدي أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض ، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن الأرض على نون والنون على البحر بحر على صخرة خضراء خضرة الماء منها والصخرة على قرن ثور وذلك الثور على الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلّا الله تعالى.

وفسر بعضهم الصخرة بهذه الصخرة ، وقيل : هي صخرة في الريح ، قال ابن عطية : وكل ذلك ضعيف لا يثبت سنده وإنما معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم أي إن قدرته عزوجل تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء وما يكون في الأرض ا ه ، والأقوى عندي وضع هذه الأخبار ونحوها فليست الأرض إلّا في حجر الماء وليس الماء إلّا في جوف الهواء وينتهي الأمر إلى عرش الرحمن جلّ وعلا والكل في كف قدرة الله عزوجل.

وقرأ عبد الرحيم الجزري (فَتَكُنْ) بكسر الكاف وشد النون وفتحها ، وقرأ محمد بن أبي فجة البعلبكي «فتكن» بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة ، وقرأ قتادة «فتكن» بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون ورويت هذه القراءة عن الجزري أيضا ، والفعل في جميع ما ذكر من وكن الطائر إذا استقر في وكنته أي عشه ففي الكلام استعارة أو مجاز مرسل كما في المشفر ، والضمير للمحدث عنه فيما يسبق ، وجوز أن يكون للابن والمعنى أن تختف أو تخف وقت الحساب يحضرك الله تعالى ، ولا يخفى أنه غير ملائم للجواب أعني قوله تعالى : (يَأْتِ بِهَا اللهُ) أي يحضرها فيحاسب عليها ، وهذا إما على ظاهره أو المراد يجعلها كالحاضر المشاهدة لذكرها والاعتراف بها (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) يصل علمه تعالى إلى كل خفي (خَبِيرٌ) عالم بكنهه.

وعن قتادة لطيف باستخراجها خبير بمستقرها ، وقيل : ذو لطف بعباده فيلطف بالإتيان بها بأحد الخصمين خبير عالم بخفايا الأشياء وهو كما ترى ، والجملة علة مصححة للإتيان بها ، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن رباح اللخمي إنه لما وعظ لقمان ابنه وقال : (إِنَّها إِنْ تَكُ) الآية أخذ حبة من خردل فأتى بها إلى اليرموك وهو واد في الشام فألقاها في عرضه ثم مكث ما شاء الله تعالى ثم ذكرها وبسط يده فأقبل بها ذباب حتى وضعها في راحته والله تعالى أعلم ، وبعد ما أمره بالتوحيد الذي هو أول ما يجب على المكلف في ضمن النهي عن الشرك ونبهه على كمال علمه تعالى وقدرته عزوجل أمره بالصلاة التي هي أكمل العبادات تكميلا من حيث العمل بعد تكميله من حيث الاعتقاد فقال مستميلا له : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) تكميلا لنفسك ، ويروى أنه قال له : يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء صلها واسترح منها فإنها دين ، وصل في جماعة ولو على رأس زج (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) تكميلا لغيرك والظاهر أنه ليس المراد معروفا ومنكرا معينين.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال : وأمر بالمعروف يعني التوحيد وانه عن المنكر يعني الشرك (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من الشدائد والمحن لا سيما فيما أمرت به من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واحتياج الآخرين للصبر على ما ذكر ظاهر ، والأول لأن إتمام الصلاة والمحافظة عليها قد يشق ولذا قال تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥] وقال ابن جبير : واصبر على ما أصابك في أمر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول : إذا أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر وأصابك في ذلك أذى وشدة فاصبر عليه (إِنَّ ذلِكَ) أي الصبر على ما أصابك عند ابن جبير ، وهو يناسب إفراد اسم الإشارة وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلته في الفضل ، أو الإشارة إلى الصبر وإلى سائر ما أمر به والأفراد للتأويل بما ذكر وأمر البعد على ما سمعت (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي مما عزمه الله تعالى وقطعه قطع إيجاب وروي ذلك عن ابن جريج ، والعزم بهذا المعنى مما ينسب إلى الله تعالى ومنه ما

٨٨

ورد من عزمات الله عزوجل ، والمراد به هنا المعزوم إطلاقا للمصدر على المفعول ، والإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور المعزومة.

وجوز أن يكون العزم بمعنى الفاعل أي عازم الأمور من عزم الأمر أي جد فعزم الأمور من باب الإسناد المجازي كمكر الليل لا من باب الإضافة على معنى في وإن صح ، وقيل : يريد من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة ، واستظهر أبو حيان إنه أراد من لازمات الأمور الواجبة ، ونقل عن بعضهم أن العزم هو الحزم بلغة هذيل ، والحزم والعزم أصلان ، وما قاله المبرد من أن العين قلبت حاء ليس بشيء لاطراد تصاريف كل من اللفظين فليس أحدهما أصلا للآخر ، والجملة تعليل لوجوب الامتثال بما سبق وفيه اعتناء بشأنه (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) أي لا تمله عنهم ولا تولهم صفحة وجهك كما يفعله المتكبرون قاله ابن عباس ، وجماعة وأنشدوا :

وكنا إذا الجبار صعر خده

أقمنا له من ميله فتقوما

فهو من الصعر بمعنى الصيد وهو داء يعتري البعير فيلوي منه عنقه ويستعار للتكبر كالصعر ، وقال ابن خويزمنداد : نهى أن يذل نفسه من غير حاجة فيلوى عنقه ، ورجح الأول بأنه أوفق بما بعد ، ولام (لِلنَّاسِ) تعليلية والمراد ولا تصعر خدك لأجل الإعراض عن الناس أو صلة. وقرأ نافع وأبو عمرو. وحمزة ، والكسائي «تصاعر» بألف بعد الصاد. وقرأ الجحدري تصعر مضارع أصعر والكل واحد مثل علاه وعالاه وأعلاه.

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ) التي هي أحط الأماكن منزلة (مَرَحاً) أي فرحا وبطرا ، مصدر وقع موقع الحال للمبالغة أو لتأويله بالوصف أو تمرح مرحا على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة في موضع الحال أو لأجل المرح على أنه مفعول له ، وقرئ مرحا بكسر الراء على أنه وصف في موضع الحال (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) تعليل للنهي أو موجبه والمختال من الخيلاء وهو التبختر في المشي كبرا ، وقال الراغب : التكبر عن تخيل فضيلة تراءت للإنسان من نفسه ، ومنه تؤول لفظ الخيل لما قيل إنه لا يركب أحد فرسا إلا وجد في نفسه نخوة ، والفخور من الفخر وهو المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه ويدخل في ذلك تعداد الشخص ما أعطاه لظهور أنه مباهاة بالمال ، وعن مجاهد تفسير الفخور بمن يعدد ما أعطى ولا يشكر الله عزوجل ، وفي الآية عند الزمخشري لفّ ونشر معكوس حيث قال : المختال مقابل للماشي مرحا وكذلك الفخور للمصعر خده كبرا وذلك لرعاية الفواصل على ما قيل ، ولا يأبى ذلك كون الوصية لم تكن باللسان العربي كما لا يخفى.

وجوز أن يكون هناك لفّ ونشر مرتب فإن الاختيال يناسب الكبر والعجب وكذا الفخر يناسب المشي مرحا. والكلام على رفع الإيجاب الكلي والمراد السلب الكلي ، وجوز أن يبقى على ظاهره ، وصيغة (فَخُورٍ) للفاصلة ولأن ما يكره من الفخر كثرته فإن القليل منه يكثر وقوعه فلطف الله تعالى بالعفو عنه وهذا كما لطف بإباحة اختيال المجاهد بين الصفين وإباحة الفخر بنحو المال لمقصد حسن (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) بعد الاجتناب عن المرح فيه أي توسط فيه بين الدبيب والإسراع من القصد وهو الاعتدال ، وجاء في عدة روايات إلّا أن في أكثرها مقالا يخرجها عن صلاحية الاحتجاج بها كما لا يخفى على من راجع شرح الجامع الصغير للمناوي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» أي هيبته وجماله أي تورثه حقارة في أعين الناس ، وكأن ذلك لأنها تدل على الخفة وهذا أقرب من قول المناوي لأنها تتعب فتغير البدن والهيئة.

وقال ابن مسعود : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ولكن مشيا بين ذلك ، وما في النهاية من أن عائشة نظرت إلى رجل كاد يموت تخافتا فقالت : ما لهذا؟ فقيل : إنه من القراء فقالت : كان عمر رضي الله تعالى عنه

٨٩

سيد القراء وكان إذا مشى أسرع وإذا قال أسمع وإذا ضرب أوجع. فالمراد بالإسراع فيه ما فوق دبيب المتماوت (١) وهو الذي يخفي صوته ويقل حركاته مما يتزيا بزي العباد كأنه يتكلف في اتصافه بما يقربه من صفات الأموات ليوهم أنه ضعف من كثرة العبادة فلا ينافي الآية ، وكذا ما ورد في صفته صلى الله تعالى عليه وسلم إذا يمشي كأنما ينحط من صبب وكذا لا ينافيها قوله تعالى (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان : ٦٣] إذ ليس الهون فيه المشي كدبيب النمل ، وذكر بعض الأفاضل أن المذموم اعتياد الإسراع بالإفراط فيه ، وقال السخاوي : محل ذم الإسراع ما لم يخش من بطء السير تفويت أمر ديني ، لكن أنت تعلم أن الإسراع المذهب للخشوع لإدراك الركعة مع الإمام مثلا مما قالوا أنه مما لا ينبغي فلا تغفل ، وعن مجاهد أن القصد في المشي التواضع فيه ، وقيل : جعل البصر موضع القدم ، والمعول عليه ما تقدم : وقرئ. «وأقصد» بقطع الهمزة ونسبها ابن خالويه للحجازي من أقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ووجهه إليها ليصيبها أي سدد في مشيك والمراد امش مشيا حسنا ، وكأنه أريد التوسط به بين المشيين السريع والبطيء فتتوافق القراءتان (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي انقص منه واقصر من قولك فلان يغض من فلان إذا قصر به وضع منه وحط من درجته. وفي البحر الغض رد طموح الشيء كالصوت والنظر ويستعمل متعديا بنفسه كما في قوله : * فغض الطرف إنك من نمير* ومتعديا بمن كما هو ظاهر قول الجوهري غض من صوته. والظاهر إن ما في الآية من الثاني ، وتكلف بعضهم جعل من فيها للتبعيض ، وادعى آخر كونها زائدة في الإثبات ، وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت وتمدح به في الجاهلية ومنه ، قول الشاعر :

جهير الكلام جهير العطاس

جهير الرواء جهير النعم

ويخطو على العم خطو الظليم

ويعلو الرجال بخلق عمم

والحكمة في غض الصوت المأمور به أنه أوفر للمتكلم وأبسط لنفس السامع وفهمه (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) أي أقبحها يقال وجه منكر أي قبيح قال في البحر : وهو أفعل بني من فعل المفعول كقولهم : أشغل من ذات النحيين وبناؤه من ذلك شاذ ، وقال بعض : أي أصعبها على السمع وأوحشها من نكر بالضم نكارة ومنه (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) [القمر : ٦] أي أمر صعب لا يعرف ، والمراد بالأصوات أصوات الحيوانات أي إن أنكر أصوات الحيوانات (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) جمع حمار كما صرح به أهل اللغة ولم يخالف فيه عير السهيلي قال : إنه فعيل اسم جمع كالعبيد وقد يطلق على اسم الجمع الجمع عند اللغويين ، والجملة تعليل للأمر بالغض على أبلغ وجه وآكده حيث شبه الرافعون أصواتهم بالحمير وهم مثل في الذم البليغ والشتيمة ومثلت أصواتهم بالنهاق الذي أوله زفير وآخره شهيق ثم أخلى الكلام من لفظ التشبيه وأخرج مخرج الاستعارة ، وفي ذلك من المبالغة في الذم والتهجين والإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه ما فيه ، وإفراد الصوت مع جمع ما أضيف هو إليه للإشارة إلى قوة تشابه أصوات الحمير حتى كأنها صوت واحد هو أنكر الأصوات ، وقال الزمخشري أن ذلك لما أن المراد ليس بيان حال صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع بل بيان صوت هذا الجنس من بين أصوات سائر الأجناس. قيل : فعلى هذا كان المناسب لصوت الحمار بتوحيد المضاف إليه وأجيب بأن المقصود من الجمع التتميم والمبالغة في التنفير فإن الصوت إذا توافقت عليه الحمير كان أنكر. وأورد عليه أنه يوهم أن الأنكرية في التوافق دون الانفراد وهو لا يناسب

__________________

(١) ورأى عمر رضي الله تعالى عنه رجلا متماوتا فقال : لا تمت علينا ديننا أماتك الله تعالى ، ورأى رجلا مطأطئا رأسه فقال : ارفع رأسك فإن الإسلام ليس بمريض ا ه منه.

٩٠

المقام وأجيب بأنه لا يلتفت إلى مثل هذا التوهم وقيل : لم يجمع الصوت المضاف لأنه مصدر وهو لا يثنى ولا يجمع ما لم تقصد الأنواع كما في (أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) فتأمل ، والظاهر أن قوله تعالى : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) من كلام لقمان لابنه تنفيرا له عن رفع الصوت ، وقيل : هو من كلام الله تعالى وانتهت وصية لقمان بقوله : (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) رد سبحانه به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت ورفعه مع أن ذلك يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة وربما يخرق الغشاء الذي هو داخل الأذن وبين عزوجل أن مثلهم في رفع أصواتهم مثل الحمير وأن مثل أصواتهم التي يرفعونها مثل نهاقها في الشدة مع القبح الموحش وهذا الذي يليق أن يجعل وجه شبه لا الخلو عن ذكر الله تعالى كما يتوهم بناء على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري قال : صياح كل شيء تسبيحه إلّا الحمار لما أن وجه الشبه ينبغي أن يكون صفة ظاهرة وخلو صوت الحمار عن الذكر ليس كذلك ، على أنا لا نسلم صحة هذا الخبر فإن فيه ما فيه. ومثله ما شاع بين الجهلة من أن نهيق الحمار لعن للشيعة الذين لا يزالون ينهقون بسبب الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومثل هذا من الخرافات التي يمجها السمع ما عدا سمع طويل الأذنين ، والظاهر أن المراد بالغض من الصوت الغض منه عند التكلم والمحاورة ، وقيل : الغض من الصوت مطلقا فيشمل الغض منه عند العطاس فلا ينبغي أن يرفع صوته عنده أن أمكنه عدم الرفع ، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما يقتضيه ثم إن الغض ممدوح إن لم يدع داع شرعي إلى خلافه ، وأردف الأمر بالقصد في المشي بالأمر بالغض من الصوت لما أنه كثيرا ما يتوصل إلى المطلوب بالصوت بعد العجز عن التوصل إليه بالمشي كذا قيل ، هذا وأبعد بعضهم في الكلام على هذين الأمرين فقال : إن الأول إشارة إلى التوسط في الأفعال والثاني إشارة إلى الاحتراز من فضول الكلام والتوسط في الأقوال ، وجعل قوله تعالى : (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) إلخ إشارة إلى إصلاح الضمير وهو كما ترى.

وقرأ ابن أبي عبلة «أصوات الحمير» بالجمع بغير لام التأكيد (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) رجوع إلى سنن ما سلف قبل قصة لقمان من خطاب المشركين وتوبيخ لهم على إصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد ، والتسخير على ما قال الراغب سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهرا ، وفي إرشاد العقل السليم المراد به أما جعل المسخر بحيث ينفع المسخر له أعم من أن يكون منقادا له يتصرف فيه كيف يشاء ويستعمله كيف يريد كعامة ما في الأرض من الأشياء المسخرة للإنسان المستعملة له من الجماد والحيوان أو لا يكون كذلك بل يكون سببا لحصول مراده من غير أن يكون له دخل في استعماله كجميع ما في السماوات من الأشياء التي نيطت بها مصالح العباد معاشا أو معادا ، وأما جعله منقادا للأمر مذللا على أن معنى (لَكُمْ) لأجلكم فإن جميع ما في السماوات والأرض من الكائنات مسخرة لله تعالى مستتبعة لمنافع الخلق وما يستعمله الإنسان حسبما يشاء وإن كان مسخرا له بحسب الظاهر فهو في الحقيقة مسخر لله عزوجل (وَأَسْبَغَ) أي أتم وأوسع (عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ) جمع نعمة وهي في الأصل الحالة المستلذة فإن بناء الفعلة كالجلسة والركبة للهيئة ثم استعملت فيما يلائم من الأمور الموجبة لتلك الحالة إطلاقا للمسبب على السبب ، وفي معنى ذلك قولهم : هي ما ينتفع به ويستلذ ومنهم من زاد ويحمد عاقبته ، وقال بعضهم : لا حاجة إلى هذه الزيادة لأن اللذة عند المحققين أمر تحمد عاقبته وعليه لا يكون لله عزوجل على كافر نعمة ، ونقل الطيبي عن الإمام أنه قال : النعمة عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، ومنهم من يقول : المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير قالوا : وإنما زدنا قيد الحسنة لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر ، والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا لأن جهة الشكر كونه إحسانا وجهة استحقاق الذم والعقاب الحظر فأي امتناع في

٩١

اجتماعهما ، ألا ترى أن الفاسق يستحق الشكر لإنعامه والذم لمعصية الله تعالى فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك ، أما قولنا : المنفعة فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة ، وقولنا : المفعولة على جهة الإحسان لأنه لو كان نفعا وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمه وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها ا ه ، ويعمل منه حكم زيادة ويحمد عاقبته (ظاهِرَةً وَباطِنَةً) أي محسوسة ومعقولة معروفة لكم وغير معروفة ، وعن مجاهد النعمة الظاهرة وظهور الإسلام والنصرة على الأعداء والباطنة الإمداد من الملائكة عليهم‌السلام ، وعن الضحاك الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة ، وقيل : الظاهرة البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح والباطنة القلب والعقل والفهم ، وقيل : الظاهرة نعم الدنيا والباطنة نعم الآخرة ، وقيل : الظاهرة نحو إرسال الرسل وإنزال الكتب والتوفيق لقبول الإسلام والإتيان به والثبات على قدم الصدق ولزوم العبودية والباطنة ما أصاب الأرواح في عالم الذر من رشاش نور النور وأول الغيث قطر ثم ينسكب.

ونقل بعض الإمامية عن الباقر رضي الله تعالى عنه أنه قال : الظاهرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما جاء به من معرفة الله تعالى وتوحيده والباطنة ولا يتنا أهل البيت وعقد مودتنا ، والتعميم الذي أشرنا إليه أولا أولى ، لكن أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عطاء قال : سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) قال : هذه من كنوز علمي سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال أما الظاهرة فما سوي من خلقك وأما الباطن فما ستر من عورتك ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم.

وفي رواية أخرى رواها ابن مردويه ، والديلمي ، والبيهقي ، وابن النجار عن ابن عباس أنه قال : سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى (وَأَسْبَغَ) إلخ قال : أما الظاهرة فالإسلام وما سوي من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه وأما الباطنة فما ستر من مساوئ عملك فإن صح ما ذكر فلا يعدل عنه إلى التعميم إلا أن يقال : الغرض من تفسير الظاهرة والباطنة بما فسرنا به التمثيل وهو الظاهر لا التخصيص وإلا لتعارض الخبران.

ثم إن ظاهر هذين الخبرين يقتضي كون الذنب وهو المعبر عنه في الأول بما ستر من العورة وفي الثاني بما ستر من مساوئ العمل نعمة ولم نر في كلامهم التصريح بإطلاقها عليه ويلزمه أن من كثرت ذنوبه كثرت نعم الله تعالى عليه فكان المراد أن النعمة الباطنة هي ستر ما ستر من العورة ومساوئ العمل ولم يقل كذلك اعتمادا على وضوح الأمر ، وجاء في بعض الآثار ما يقتضي ذلك ، أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن مقاتل أنه قال في الآية : (ظاهِرَةً) الإسلام (وَباطِنَةً) ستره تعالى عليكم المعاصي ، بل جاء في بعض روايات الخبر الثاني وأما ما بطن فستر مساوئ عملك.

وجوز أن يكون (ما) في ما ستر في الخبرين مصدرية ومن صلة ستر لا بيان لما وقرأ يحيى بن عمارة وأصبغ بالصاد وهي لغة بني كلب يبدلون من السين إذا اجتمعت مع أحد الحروف المستعلية الغين والخاء والقاف صادا فيقولون في سلخ صلخ وفي سقر صقر وفي سائغ صائغ ولا فرق في ذلك بين أن يفصل بينهما فاصل وأن لا يفصل ، وظاهر كلام بعضهم أنه لا فرق أيضا بين أن تتقدم السين على أحد تلك الأحرف وأن تتأخر ، واشترط آخر تقدم السين ، وذكر الخفاجي أنه ابدال مطرد.

وقرأ بعض السبعة وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «نعمة» بالإفراد وقرئ «نعمته» بالإفراد والإضافة ، ووجه الافراد بإرادة الجنس كما قيل ذلك في قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) وقال الزجاج : من قرأ «نعمة» فعلى معنى ما أعطاهم من التوحيد ومن قرأ نعمه بالجمع فعلى جميع ما أنعم به عليهم والأول أولى ، ونصب (ظاهِرَةً

٩٢

وَباطِنَةً) في قراءة التعريف على الحالية وفي قراءة التنكير على الوصفية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ) من الجدال وهو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة ، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله كان المتجادلين يفتل كل منهما صاحبه عن رأيه وقيل : الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة وكأن الجملة في موضع الحال من ضميره تعالى فيما قيل أي ألم تروا إن الله سبحانه فعل ما فعل من الأمور الدالة على وحدته سبحانه وقدرته عزوجل والحال من الناس من ينازع ويخاصم كالنضر بن الحارث وأبي ابن خلف كانا يجادلان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فِي اللهِ) أي في توحيده عزوجل وصفاته جلّ شأنه كالمشركين المنكرين وحدته سبحانه وعموم قدرته جلت قدرته وشمولها للبعث ولم يقل فيه بدل في الله بإرجاع الضمير للاسم الجليل في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ) تهويلا لأمر الجدال (بِغَيْرِ عِلْمٍ) مستفاد من دليل عقلي (وَلا هُدىً) راجع إلى رسول مأخوذ منه ، وجوز جعل الهدى نفس الرسول مبالغة وفيه بعد (وَلا كِتابٍ) أنزله الله تعالى (مُنِيرٍ) أي ذي نور والمراد به واضح الدلالة على المقصود ، وقيل : منقذ من ظلمة الجهل والضلال بل يجادلون بمجرد التقليد كما قال سبحانه (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي لمن يجادل والجمع باعتبار المعنى (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) يريدون عبادة ما عبدوه من دون الله عزوجل ، وهذا ظاهر في منع التقليد في أصول الدين والمسألة خلافية فالذي ذهب إليه الأكثرون ورجحه الإمام الرازي والآمدي أنه لا يجوز التقليد في الأصول بل يجب النظر والذي ذهب إليه عبيد الله بن الحسن العنبري وجماعة الجواز وربما قال بعضهم أنه الواجب على المكلف وإن النظر في ذلك والاجتهاد فيه حرام ، وعلى كل يصح عقائد المقلد المحق وإن كان آثما بترك النظر على الأول ، وعن الأشعري أنه لا يصح إيمانه ، وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري : هذا مكذوب عليه لما يلزمه تكفير العوام وهم غالب المؤمنين ، والتحقيق أنه إن كان التقليد أخذا لقول الغير بغير حجة مع احتمال شك ووهم بأن لا يجزم المقلد فلا يكفي إيمانه قطعا لأنه لا إيمان مع أدنى تردد فيه وإن كان لكن جزما فيكفي عند الأشعري وغيره خلافا لأبي هاشم في قوله لا يكفي بل لا بد لصحة الإيمان من النظر ، وذكر الخفاجي أنه لا خلاف في امتناع تقليد من لم يعلم أنه مستند الى دليل حق ، وظاهر ذم المجادلين بغير علم ولا هدى ولا كتاب أنه يكفي في النظر الدليل النقلي الحق كما يكفي فيه الدليل العقلي.

(أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) أي يدعو آباءهم لا أنفسهم كما قيل : فإن مدار إنكار الاستتباع كون المتبوعين تابعين للشياطين وينادي عليه قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [البقرة : ١٧٠] بعد قوله سبحانه : (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) [البقرة : ١٧٠] ويعلم منه حال رجوع الضمير الى المجموع أي أولئك المجادلين وآباؤهم (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي إلى ما يؤول إليه أو يتسبب منه من الإشراك وإنكار شمول قدرته عزوجل للبعث ونحو ذلك من الضلالات ، وجوز بقاء (عَذابِ السَّعِيرِ) على حقيقته والاستفهام للإنكار ويفهم التعجيب من السياق أو للتعجيب ويفهم الإنكار من السياق والواو حالية والمعنى أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب ، وجوز كون الواو عاطفة على مقدر أي أيتبعونهم لو لم يكن الشيطان يدعوهم الى العذاب ولو كان يدعوهم إليه ، وهما قولان مشهوران في الواو الداخلة على (لَوْ) الوصلية ونحوها ، وكذا في احتياجها إلى الجواب قولان قول بالاحتياج وقول بعدمه لانسلاخها عن معنى الشرط ، ومن ذهب إلى الأول قدره هنا لا يتبعوهم وهم مما لا غبار عليه على تقدير كون الواو عاطفة ، وأما على تقدير كونها حالية فزعم بعضهم أنه لا يتسنى وفيه نظر ، وقد مرّ الكلام على نحو هذه الآية الكريمة فتذكر.

٩٣

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) بأن فوض إليه تعالى جميع أموره وأقبل عليه سبحانه بقلبه وقالبه ، فالإسلام كالتسليم التفويض ، والوجه الذات ، والكلام كناية عما أشرنا إليه من تسلم الأمور جميعها إليه تعالى والإقبال التام عليه عزوجل وقد يعدى الإسلام باللام قصدا لمعنى الإخلاص.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ، والسلمي ، وعبد الله بن مسلم بن يسار «يسلّم» بتشديد اللام من التسليم وهو أشهر في معنى التفويض من الإسلام (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي في أعماله والجملة في موضع الحال.

(فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) تعلق أتم تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب وهذا تشبيه تمثيلي مركب حيث شبه حال المتوكل على الله عزوجل المفوض إليه أموره كلها المحسن في أعماله بمن ترقى في جبل شاهق أو تدلى منه فتمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه ، وجوز أن يكون هناك استعارة في المفرد وهو العروة الوثقى بأن يشبه التوكل النافع المحمود عاقبته بها فتستعار له (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي هي صائرة إليه عزوجل لا إلى غيره جلّ جلاله فلا يكون لأحد سواه جلّ وعلا تصرف فيها بأمر ونهي وثواب وعقاب فيجازي سبحانه هذا المتوكل أحسن الجزاء ، وقيل : فيجازي كلا من هذا المتوكل وذاك المجادل بما يليق به بمقتضى الحكمة ، وأل في الأمور للاستغراق ، وقيل : تحتمل العهد على أن المراد الأمور المذكورة من المجادلة وما بعدها ، وتقديم (إِلَى اللهِ) للحصر ردا على الكفرة في زعمهم مرجعية آلهتهم لبعض الأمور.

واختار بعضهم كونه إجلالا للجلالة ورعاية للفاصلة ظنا منه أن الاستغراق مغن عن الحصر وهو ليس كذلك.

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) أي فلا يهمنك ذلك (إِلَيْنا) لا إلى غيرنا (مَرْجِعُهُمْ) رجوعهم بالبعث يوم القيامة (فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي بعملهم أو بالذي عملوه في الدنيا من الكفر والمعاصي بالعذاب والعقاب ، وقيل : إلينا مرجعهم في الدارين فنجازيهم بالإهلاك والتعذيب والأول أظهر وأيا ما كان فالجملة في موضع التعليل كأنه قيل : لا يهمنك كفر من كفر لأنا ننتقم منه ونعاقبه على عمله أو الذي عمله والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى من كما أن الافراد في الأول باعتبار لفظها ، وقرئ في السبع «ولا يحزنك» مضارع أحزن مزيد حزن اللام ؛ وقدر اللزوم ليكون للنقل فائدة وحزن وأحزن لغتان ، قال اليزيدي : حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما ، وذكر الزمخشري أن المستفيض في الاستعمال ماضي الأفعال ومضارع الثلاثي والعهدة في ذلك عليه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل للتنبئة المعبر بها عن المجازاة أي يجازيهم سبحانه لأنه عزوجل عليم بالضمائر فما ظنك بغيرها.

(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) ثقيل عليهم ثقل الإجرام الغلاظ ، والمراد بالاضطرار أي الإلجاء إلزامهم ذلك العذاب الشديد إلزام المضطر الذي لا يقدر على الانفكاك مما ألجئ إليه ، وفي الانتصاف تفسير هذا الاضطرار ما في الحديث من أنهم لشدة ما يكابدون من النار يطلبون البرد فيرسل عليهم الزمهرير فيكون أشد عليهم من اللهب فيتمنون عود اللهب اضطرارا فهو اختيار عن اضطرار وبأذيال هذه البلاغة تعلق الكندي حيث قال :

يرون الموت قداما وخلفا

فيختارون والموت اضطرار

وقيل : المعنى نضم إلى الإحراق الضغط والتضييق فلا تغفل (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي خلقهن الله تعالى ، وجوز أن يكون التقدير الله خلقهن والأول أولى كما فصل في محله وقولهم ذلك لغاية وضوح الأمر بحيث اضطروا إلى الاعتراف به (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به جلّ شأنه في العبادة التي لا يستحقها غير الخالق والمنعم الحقيقي.

٩٤

وجوز جعل المحمود عليه جعل دلائل التوحيد بحيث لا ينكرها المكابر أيضا (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن ذلك يلزمهم قيل : وفيه إيغال حسن كأنه قال سبحانه : وإن جهلهم انتهى إلى أن لا يعلموا أن الحمد لله ما موقعه في هذا المقام ، وقد مر تمام الكلام في نظير الآية في العنكبوت فتذكر.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(٣٤)

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وملكا وتصرفا ليس لأحد سواه عزوجل استقلالا ولا شركة فلا يستحق العبادة فيهما غيره سبحانه وتعالى بوجه من الوجوه ، وهذا إبطال لمعتقدهم من وجه آخر لأن المملوك لا يكون شريكا لمالكه فكيف يستحق ما هو حقه من العبادة وغيرها (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن كل شيء (الْحَمِيدُ) المستحق للحمد وإن لم يحمده جلّ وعلا أحد أو المحمود بالفعل يحمده كل مخلوق بلسان الحال ، وكأنه الجملة جواب عما يوشك أن يخطر ببعض الأذهان السقيمة من أنه هل اختصاص ما في السموات والأرض به عزوجل لحاجته سبحانه إليه ، وهو جواب بنفي الحاجة على أبلغ وجه فقد كان يكفي في الجواب إن الله غني الا أنه جيء بالجملة متضمنة للحصر للمبالغة وجيء بالحميد أيضا تأكيدا لما تفيده من نفي الحاجة بالإشارة إلى أنه تعالى منعم على من سواه سبحانه أو متصف بسائر صفات الكمال فتأمل جدا ، وقال الطيبي : إن قوله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تهاون بهم وإبداء أنه تعالى مستغن عنهم وعن حمدهم وعبادتهم ولذلك علل بقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) أي عن حمد الحامدين (الْحَمِيدُ) أي المستحق للحمد وإن لم يحمدوهعزوجل.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) أي لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلاما ـ فإن ـ وما بعدها فاعل ثبت مقدر بقرينة كون (أَنَ) دالة على الثبوت والتحقق وإلى هذا ذهب المبرد ، وقال سيبويه : إن ذلك مبتدأ مستغن عن الخبر لذكر المسند والمسند إليه بعده ، وقيل : مبتدأ خبره ، مقدر قبله ، وقال ابن عصفور : بعده و (ما فِي الْأَرْضِ) اسم أن و (مِنْ شَجَرَةٍ) بيان ـ لما ـ أو للضمير العائد إليها في الظرف فهو في موضع الحال منها أو منه

٩٥

أي ولو ثبت أن الذي استقر في الأرض كائنا من شجرة ، و (أَقْلامٌ) خبر أن قال أبو حيان : وفيه دليل دعوى الزمخشري وبعض العجم ممن ينصر قوله : إن خبر أن الجائية بعد ـ لو ـ لا يكون اسما جامدا ولا اسما مشتقا بل يجب أن يكون فعلا وهو باطل ولسان العرب طافح بخلافه ، قال الشاعر :

ولو أنها عصفورة لحسبتها

مسومة تدعو عبيدا وأزنما

وقال آخر :

ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر

تنبو الحوادث عنه وهو ملموم

إلى غير ذلك ، وتعقب بأن اشتراط كون خبرها فعلا إنما هو إذا كان مشتقا فلا يرد (أَقْلامٌ) هنا ولا ما ذكر في البيتين ، وأما قوله تعالى : (لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ) [الأحزاب : ٢٠] فلو فيه للتمني والكلام في خبر أن الواقعة بعد لو الشرطية. والمراد بشجرة كل شجرة والنكرة قد تعم في الإثبات إذا اقتضى المقام ذلك كما في قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) [التكوير : ١٤] وقول ابن عباس رضي الله عنهما لبعض أهل الشام وقد سأله عن المحرم إذا قتل جرادة أيتصدق بتمرة فدية لها؟ تمرة خير من جرادة على ما اختاره جمع ولا نسلم المنافاة بين هذا العموم وهذه التاء فكأنه قيل : ولو أن كل شجرة في الأرض أقلام إلخ ، وكون كل شجرة أقلاما باعتبار الأجزاء أو الأغصان فيؤول المعنى إلى لو أن أجزاء أو أغصان كل شجرة في الأرض أقلاما إلخ ، ويحسن إرادة العموم في نحو ما نحن فيه كون الكلام الذي وقعت فيه النكرة شرطا بلو وللشرط مطلقا قرب ما من النفي فما ظنك به إذا كان شرطا بها وإن كانت هنا ليست بمعناها المشهور من انتفاء الجواب لانتفاء الشرط أو العكس بل هي دالة على ثبوت الجواب أو حرف شرط في المستقبل على ما فصل في المغني ، واختيار (شَجَرَةٍ) على أشجار أو شجر لأن الكلام عليه أبعد عن اعتبار التوزيع بأن تكون كل شجرة من الأشجار أو الشجر قلما المخل بمقتضى المقام من المبالغة بكثرة كلماته تعالى شأنه. وفي البحر أن هذا مما وقع فيه المفرد موقع الجمع والنكرة موقع المعرفة ، ونظيره (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦] (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) [فاطر : ٢] (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) [النحل : ٤٩] وقول العرب : هذا أول فارس وهذا أفضل عالم يراد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب وأول الفرسان وأفضل العلماء ذكر المفرد النكرة وأريد به معنى الجمع المعرف باللام وهو مهيع في كلام العرب معروف وكذلك يقدر هنا من الشجرات أو من الأشجار ا ه فلا تغفل.

وقال الزمخشري : إنه قال سبحانه (شَجَرَةٍ) على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر لأنه أريد تفصيل الشجر شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاما وتعقب بأن إفادة المفرد التفصيل بدون تكرار غير معهود والمعهود إفادته ذلك بالتكرير نحو جاءوني رجلا رجلا فتأمل ، واختيار جمع القلة في (أَقْلامٌ) مع أن الأنسب للمقام جمع الكثرة لأنه لم يعهد للقلم جمع سواه وقلام غير متداول فلا يحسن استعماله (وَالْبَحْرُ) أي المحيط فأل للعهد لأنه المتبادر ولأنه الفرد للكامل إذ قد يطلق على شعبه وعلى الأنهار العظام كدجلة والفرات ، وجوز إرادة الجنس ولعل الأول أبلغ (يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد نفاده وقيل من ورائه (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) مفروضة كل منها مثله في السعة والإحاطة وكثرة الماء ، والمراد بالسبعة الكثرة بحيث تشمل المائة والألف مثلا لا خصوص العدد المعروف كما في قوله عليه الصلاة والسلام : «المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» واختيرت لها لأنها عدد تام كما عرفت عند الكلام في قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) وكثير من المعدودات التي لها شأن كالسماوات والكواكب السيارة والأقاليم الحقيقية وأيام الأسبوع إلى غير ذلك منحصر في سبع فلعل في ذكرها هنا

٩٦

دون سبعين المتجوز به عن الكثرة أيضا رمزا إلى شأن كون تلك الأبحر عظيمة ذات شأن ولما لم تكن موضوعة في الأصل لذلك بل للعدد المعروف القليل جاء تمييزها أبحر بلفظ القلة دون بحور وإن كان لا يراد به إلا الكثرة ليناسب بين اللفظين فكما تجوز في السبعة واستعملت للتكثير تجوز في أبحر واستعمل فيه أيضا ، وكان الظاهر بعد جعل ما في الأرض من شجر أقلاما أن يقال : والبحر مداد لكن جيء بما في النظم الجليل لأن يمده يغني عن ذكر المداد لأنه من قولك : مد الدواة وأمدها أي جعلها ذات مداد وزاد في مدادها ففيه دلالة على المداد مع ما يزيد في المبالغة وهو تصوير الامداد المستمر حالا بعد حال كما تؤذن به صيغة المضارع فأفاد النظم الجليل جعل البحر المحيط بمنزلة الدواة وجعل أبحر سبعة مثله مملوءة مدادا فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع ، ورفع (الْبَحْرُ) على ما استظهره أبو حيان فيه على الابتداء وجملة يمده خبره والواو للحال والجملة حال من الموصول أو الضمير الذي في صلته أي لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلاما في حال كون البحر ممدودا بسبعة أبحر ، ولا يضر خلو الجملة عن ضمير ذي الحال فإن الواو يحصل بها من الربط ما لا يتقاعد عن الضمير لدلالتها على المقارنة ، وأشار الزمخشري إلى أن هذه الجملة وما أشبهها كقوله :

وقد اغتدي والطير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

وجئت والجيش مصطف من الأحوال التي حكمها حكم الظروف لأنها في معناها إذ معنى جئت والجيش مصطف مثلا ومعنى جئت وقت اصطفاف الجيش واحد وحيث إن الظرف يربطه بما قبله تعلقه به وإن لم يكن فيه ضمير وهو إذا وقع حالا استقر فيه الضمير فما يشبهه كأنه فيه ضمير مستقر ، ولا يرد عليه اعتراض أبي حيان بأن الظرف إذا وقع حالا ففي العامل فيه الضمير ينتقل إلى الظرف ، والجملة الاسمية إذا كانت حالا بالواو فليس فيها ضمير منتقل فكيف يقال انها في حكم الظرف. نعم الحق أن الربط بالواو كاف عن الضمير ولا يحتاج معه إلى تكلف هذه المئونة ، وجوز أن تكون الجملة حالا من الأرض والعامل فيه معنى الاستقرار والرابط ما سمعت أو أل التي في (الْبَحْرُ) بناء على رأي الكوفيين من جواز كون أل عوضا عن الضمير كما في قوله تعالى (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) [ص : ٥٠] أي ولو ثبت كون الذي استقر في الأرض من شجرة أقلاما حال كون بحرها ممدودا بسبعة أبحر قال في الكشف : ولا بد أن يجعل (مِنْ شَجَرَةٍ) بيانا للضمير العائد إلى (ما) لئلا يلزم الفضل بين أجزاء الصلة بالأجنبي.

و (الْبَحْرُ) على تقدير جعل آل فيه عوضا عن المضاف إليه العائد إلى الأرض يحتمل أن يراد به المعهود وأن يراد به غيره ، وقال الطيبي : إن البحر على ذلك يعم جميع الأبحر لقرينة الإضافة ويفيد أن السبعة خارجة عن بحر الأرض وعلى ما سواه يحتمل الحصة المعهودة المعلومة عند المخاطب. ورد بأنه لا فرق بينهما بل كون بحرها للعهد أظهر لأن العهد أصل الإضافة ولا ينافيه كون الأرض شاملة لجميع الأقطار لأن المعهود البحر المحيط وهو محيط بها كلها ، وجوز الزمخشري كون رفعه بالعطف على محل أن ومعمولها ، وجملة (يَمُدُّهُ) حال على تقدير لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلاما وثبت أقلاما وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر ، وتعقب بأن الدال على الفعل المحذوف هو أن وخبره على ما قرر في بابه فإذن لا يمكن إفضاء إلى المعطوف دون ملاحظة دال وفي هذا العطف إخراج عن الملاحظة ، وأجيب بأنه يحتمل في التابع ما لا يحتمل في المتبوع ، ثم لا يخفى أن العطف على هذا من عطف المفرد لا المفرد على الجملة كما قيل إذ الظاهر أن المعطوف عليه إنما هو المصدر الواقع فاعلا لثبت وهو مفرد لا جملة ، وجوز أن يكون العطف على ذلك بناء على رأي من يجعله مبتدأ ، وتعقب بأنه يلزم أن يلي لو الاسم الصريح الواقع مبتدأ إذ يصير

٩٧

التقدير ولو البحر على ما قال أبو حيان لا يجوز إلّا في ضرورة شعر نحو قوله :

لو بغير الماء حلقي شرق

كنت كالغصان بالماء اعتصاري (١)

وأجيب بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع كما في نحو رب رجل وأخيه يقولان ذلك ، وقال بعضهم : إنه يلزم على العطف السابق أن يلي لو الاسم الصريح وهو أيضا مخصوص بالضرورة وأجاب بما أجيب وفيه عندي تأمل ، وجوز كون الرفع على الابتداء وجملة (يَمُدُّهُ) خبر المبتدأ والواو واو المعية وجملة المبتدأ وخبره في موضع المفعول معه بناء على أنه يكون جملة كما نقل عن ابن هشام ولا يخفى بعده ، وجوز كون الواو على ذلك للاستئناف وهو استئناف بياني كأنه؟ قيل : ما المداد حينئذ فقيل : والبحر إلخ ، وتعقب بأن اقتران الجواب بالواو وإن كانت استئنافية غير معهود ، وما قيل إنه يقترن بها إذا كان جوابا للسؤال على وجه المناقشة لا للاستعلام مما لا يعتمد عليه ، ومن هنا قيل : الظاهر على إرادة الاستئناف أن يكون نحويا ، وجوز في هذا التركيب غير ما ذكر من أوجه الإعراب أيضا.

وقرأ البصريان «والبحر» بالنصب على أنه معطوف على اسم أن و (يَمُدُّهُ) خبر له أي ولو أن البحر ممدود بسبعة أبحر.

قال ابن الحاجب في أماليه : ولا يستقيم أن يكون (يَمُدُّهُ) حالا لأنه يؤدي أيضا إلى تقييد المبتدأ الجامد بالحال ولا يجوز لأنها بيان الفاعل أو المفعول والمبتدأ ليس كذلك ويؤدي إلى كون المبتدأ لا خبر له ولا يستقيم أن يكون (أَقْلامٌ) خبرا له لأنه خبر الأول ا ه ، ولم يذكر احتمال تقدير الخبر لظهور أنه خلاف الظاهر.

وجوز أن يكون منصوبا على شريطة التفسير عطفا على الفعل المحذوف أعني ثبت ودخول لو على المضارع جائزة ، وجملة (يَمُدُّهُ) إلخ حينئذ لا محل لها من الإعراب.

وقرأ عبد الله «وبحر» بالتنكير والرفع وخرج ذلك ابن جني على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي هناك بحر يمده إلخ ، والواو واو الحال لا محالة ، ولا يجوز أن يعطف على (أَقْلامٌ) لأن البحر وما فيه ليس من حديث الشجر والأقلام وإنما هو من حديث المداد. وفي البحر أن الواو على هذه القراءة للحال أو للعطف على ما تقدم ، وإذا كانت للحال كان (الْبَحْرُ) مبتدأ وسوغ الابتداء به مع كونه نكرة تقدم تلك الواو فقد عد من مسوغات ابتداء بالنكرة كما في قوله :

سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا

محياك أخفى ضوؤه كل شارق

ا ه ولا يخفى أنه إذا عطف على فاعل ثبت فجملة (يَمُدُّهُ) في موضع الصفة له لا حال منه ؛ وجوز ذلك من جوز مجيء الحال من النكرة ، والظاهر على تقدير كونه مبتدأ جعل الجملة خبره ولا حاجة إلى جعل خبره محذوفا كما فعل ابن جني.

وقرأ ابن مسعود ، وأبي «تمده» بتاء التأنيث من مد كالذي في قراءة الجمهور ، وقرأ ابن مسعود أيضا ، والحسن ، وابن مصرف ، وابن هرمز «يمده» بضم الياء التحتية من الأمداد ، وقال ابن الشيخ : يمد بفتح فضم ويمد بضم فكسر لغتان بمعنى ، وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما «والبحر مداده» أي ما يكتب به من الحبر ، وقال ابن عطية : هو

__________________

(١) الاعتصار بالماء أن يشربه قليلا ليسيغ ما غص به من الطعام ا ه منه.

٩٨

مصدر (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) جواب (لَوْ) وفي الكلام اختصار يسمى حذف إيجاز ويدل على المحذوف السياق والتقدير ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله تعالى ما نفدت لعدم تناهيها ونفد تلك الأقلام والمداد لتناهيها ، ونظير ذلك في الاشتمال على إيجاز الحذف قوله تعالى : (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) [البقرة : ١٩٦] أي فحلق رأسه لدفع ما به من الأذى ففدية ، والمراد بكلماته تعالى كلمات علمه سبحانه وحكمته جلّ شأنه وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما أخرج ابن جرير عن عكرمة قال : سأل أهل الكتاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن الروح فأنزل سبحانه (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] فقالوا : تزعم (١) أنا لم نؤت من العلم إلّا قليلا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فنزلت (وَلَوْ أَنَ) إلخ. وظاهر هذا أن اليهود قالوا ذلك له عليه الصلاة والسلام مشافهة وهو ظاهر في أن الآية مدنية ، وقيل : إنهم أمروا وفد قريش أن يقولوا له صلّى الله تعالى عليه وسلم ذلك وهذا القائل يقول : إنها مكية ، وحاصل الجواب أنه وإن كان ما أوتيتموه خيرا كثيرا لكونه حكمة إلّا أنه قليل بالنسبة إلى حكمته عزوجل. وفي رواية أنه أنزل بمكة قوله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ) إلخ فلما هاجر عليه الصلاة والسلام أتاه أحبار اليهود فقالوا بلغنا أنك تقول : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) أفعنيتنا أم قومك فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم : «كلا عنيت» فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك إنا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فقال عليه الصلاة والتحية : «وهي في علم الله تعالى قليل وقد أتاكم ما إن علمتم به نجوتم» «قالوا : يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩] فكيف يجتمع؟ فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم : «هذا علم قليل وخير كثير» فأنزل الله تعالى هذه الآية. وهذا نص في أن الآية مدنية ، وقيل: المراد بها مقدوراته جلّ وعلا وعجائبه عزوجل التي إذا أراد سبحانه شيئا منها قال تبارك وتعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة : ١١٧ وغيرها] ومن ذلك قوله تعالى في عيسى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) [النساء : ١٧١] وإطلاق الكلمات على ما ذكر من إطلاق السبب على المسبب ، وعلى هذا وجه ربط الآية بما قبلها أظهر على ما قيل وهو أنه سبحانه لما قال : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وكان موهما لتناهي ملكه جلّ جلاله أردف سبحانه ذلك بما هو ظاهر بعدم التناهي وهذا ما اختاره الإمام المراد بكلماته تعالى إلّا أن في انطباقه على سبب النزول خفاء ، وعن أبي مسلم المراد بها ما وعد سبحانه به أهل طاعته من الثواب وما أوعد جلّ شأنه به أهل معصيته من العقاب ، وكأن الآية عليه بيان لأكثرية ما لم يظهر بعد من ملكه تعالى بعد بيان كثرة ما ظهر ، وقيل : المراد بها ما هو المتبادر منها بناء على ما أخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وغيرهم عن قتادة قال : قال المشركون إنما هذا كلام يوشك أن ينفذ فنزلت (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآية ، وفي وجه ربط الآية عليه بما قبلها وكذا بما بعدها خفاء جدا إلّا أنه لا يقتضي كونها مدنية ، وإيثار الجمع المؤنث سالم بناء على أنه كجمع المذكر جمع قلة لأشعاره وإن اقترن بما قد يفيد معه الاستغراق والعموم من أل أو الإضافة نظرا لأصل وضعه وهو القلة بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير. وقرأ الحسن «ما نفد» بغير تاء «كلام الله» بدل كلمات الله (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه جلّ شأنه شيء (حَكِيمٌ) لا يخرج عن علمه تعالى وحكمته سبحانه شيء ، والجملة تعليل لعدم نفاد كلماته تبارك وتعالى.

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أي إلّا كخلقها وبعثها في سهولة التأتي بالنسبة إليه عزوجل إذ لا

__________________

(١) قوله فقالوا تزعم عن ابن جريج أن القائل حيي بن أخطب ا ه منه.

٩٩

يشغله تعالى شأن عن شأن لأن مناط وجود الكل تعلق إرادته تعالى الواجبة أو قوله جلّ وعلا : كن مع قدرته سبحانه الذاتية وإمكان المتعلق ولا توقف لذلك على آلة ومباشرة تقتضي التعاقب ليختلف عنده تعالى الواحد والكثير كما يختلف ذلك عند العباد (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع كل مسموع (بَصِيرٌ) يبصر كل مبصر في حالة واحدة لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض فكذا الخلق والبعث وحاصله كما أنه تعالى شأنه ببصر واحد يدرك سبحانه المبصرات وبسمع واحد يسمع جلّ وعلا المسموعات ولا يشغله بعض ذلك عن بعض كذلك فيما يرجع إلى القدرة والفعل فهو استشهاد بما سلموه فشبه المقدورات فيما يراد منها بالمدركات فيما يدرك منها كذا في الكشف. واستشكل كون ذلك مسلما بأنه قد كان بعضهم إذا طعنوا في الدين يقول : أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم فنزل (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [الملك : ١٣].

وأجيب بأنه لا اعتداد بمثله من الحماقة بعد ما رد عليهم ما زعموا وأعلموا بما أسروا ، وقيل : إن الجملة تعليل لإثبات القدرة الكاملة بالعلم الواسع وأن شيئا من المقدورات لا يشغله سبحانه عن غيره لعلمه تعالى بتفاصيلها وجزئياتها فيتصرف فيها كما يشاء كما يقال : فلان يجيد عمل كذا لمعرفته بدقائقه ومتمماته ، والمقصود من إيراد الوصفين إثبات الحشر والبشر لأنهما عمدتان فيه ألّا ترى كيف عقب ذلك بما يدل على عظيم القدرة وشمول العلم.

وأيّا ما كان يندفع توهم أن المناسب لما قبل أن يقال : إن الله قوي قدير أو نحو ذلك دون ما ذكر لأن الخلق والبعث ليسا من المسموعات والمبصرات ، وعن مقاتل أن كفار قريش قالوا : إن الله تعالى خلقنا أطوارا نطفة علقة مضغة لحما فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة فنزلت وذكر النقاش أنها نزلت في أبي بن خلف ، وأبي الأسود ، ونبيه ، ومنبه ابني الحجاج ، وذكر في سبب نزولها فيهم نحو ما ذكر ، وعلى كون سبب النزول ذلك قيل : المعنى أنه تعالى سميع بقولهم ذلك بصير بما يضمرونه وهو كما ترى (أَلَمْ تَرَ) قيل : خطاب لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : عام لكل من يصلح للخطاب وهو الأوفق لما سبق وما لحق أي ألم تعلم.

(أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل كل واحد منها في الآخر ويضيفه سبحانه إليه فيتفاوت بذلك حاله زيادة ونقصانا ، وعدل عن يولج أحد الملوين في الآخر مع أنه أخصر للدلالة على استقلال كل منهما في الدلالة على كمال القدرة ، وقدم الليل على النهار لمناسبته لعالم الإمكان المظلم من حيث إمكانه الذاتي ، وفي بعض الآثار كان العالم في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره ، وهذا الإيلاج إنما هو في هذا العالم ليس عند ربك صباح ولا مساء ، وقدم الشمس على القمر في قوله تعالى : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) مع تقديم الليل الذي فيه سلطان القمر على النهار الذي فيه سلطان الشمس لأنها كالمبدإ للقمر ولأن تسخيرها لغاية عظمها أعظم من تسخير القمر وأيضا آثار ذلك التسخير أعظم من آثار تسخيره وقال الإمام في تعليل تقديم كل على ما قدم وعليه : لأن الأنفس تطلب سبب المقدم أكثر مما تطلب سبب المؤخر وبين ذلك بما بين ، ولعل ما ذكرناه أولى لا سيما إذا صح أن نور القمر مستفاد من ضياء الشمس وعطف قوله سبحانه (سَخَّرَ) على قوله تعالى (يُولِجُ) والاختلاف بينهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد في كل حين وأما التسخير فأمر لا تعدد فيه ولا تجدد وإنما التعدد والتجدد في آثاره كما يشير ذلك إلى قوله تعالى : (كُلٌ) أي كل واحد من الشمس والقمر (يَجْرِي) يسير سيرا سريعا مستمرا (إِلى أَجَلٍ) أي منتهى للجري (مُسَمًّى) سماه الله تعالى وقدره لذلك ، وهو كما قال الحسن يوم القيامة فإنه لا ينقطع جرى النيرين وتبطل حركتهما إلّا في ذلك اليوم ، والظاهر أن هذا الجري هو هذه الحركة التي يشاهدها كل ذي بصر من أهل المعمورة ، وهي عند الفلاسفة بواسطة الفلك الأعظم فإن حركته كذلك وبها حركة

١٠٠