روح المعاني - ج ١١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

سورة يس

صح من حديث الإمام أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجة والطبراني وغيرهم عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (يس) قلب القرآن وعد ذلك أحد أسمائها ، وبين حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة وجه إطلاق ذلك عليها بأن المدار على الإيمان وصحته بالاعتراف بالحشر والنشر وهو مقرر فيها على أبلغ وجه وأحسنه ولذا شبهت بالقلب الذي به صحة البدن وقوامه واستحسنه الإمام الرازي ، وأورد على ظاهره أن كل ما يجب الإيمان به لا يصح الإيمان بدونه فلا وجه لاختصاص الحشر والنشر بذلك. وأجيب بأن المراد بالصحة في كلام الحجة ما يقابل السقم والمرض ولا شك أن من صح إيمانه بالحشر يخاف من النار ويغرب في الجنة دار الأبرار فيرتدع عن المعاصي التي هي كأسقام الإيمان إذ بها يختل ويضعف ويشتغل بالطاعات التي هي كحفظ الصحة ومن لم يقو إيمانه به كان حاله على العكس فشابه الاعتراف به بالقلب الذي بصلاحه يصلح البدن وبفساده يفسد ، وجوز أن يقال وجه الشبه بالقلب أن به صلاح البدن وفساده وهو غير مشاهد في الحس وهو محل لانكشاف الحقائق والأمور الخفية وكذا الحشر من المغيبات وفيه يكون انكشاف الأمور والوقوف على حقائق المقدور وبملاحظته وإصلاح أسبابه تكون السعادة الأبدية وبالإعراض عنه وإفساد أسبابه يبتلي بالشقاوة السرمدية. وفي الكشف لعل الإشارة النبوة في تسمية هذه السورة قلبا وقلب كل شيء لبه وأصله الذي ما سواه إما من مقدماته وإما من متمماته إلى ما أسفلناه في تسمية الفاتحة بأم القرآن من أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب إرشاد العباد إلى غايتهم الكمالية في المعاد وذلك بالتحقق والتخلق المذكورين هنالك وهو المعبر عنه بسلوك الصراط المستقيم ومدار هذه السورة الكريمة على بيان ذلك أتم بيان ا ه.

ويعلم منه وجه اختصاص الحشر بما ذكر في كلام الحجة فلا وجه لقول البعض في الاعتراض عليه فلا وجه إلخ ، وسيأتي إن شاء الله تعالى آخر الكلام في تفسير السورة الإشارة إلى ما اشتملت عليه من أمهات علم الأصول والمسائل المعتبرة بين الفحول وتقريرها إياها بأبلغ وجه وأتمه ، ولعل هذا هو السر في الأمر الوارد في صحيح الأخبار بقراءتها على الموتى أي المحتضرين ، وتسمى أيضا العظيمة عند الله تعالى.

أخرج أبو نصر السجزي في الإبانة وحسنه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن في القرآن لسورة تدعى العظيمة عند الله تعالى ويدعى صاحبها الشريف عند الله تعالى يشفع صاحبها يوم القيامة في أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة (يس) وذكر أنها تسمى أيضا المعمة والمدافعة القاضية».

أخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن حسان بن عطية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سورة يس تدعى في التوراة

٣٨١

المعمة تعم صاحبها بخير الدنيا والآخرة وتكابد عنه بلوى الدنيا والآخرة وتدفع عنه أهاويل الدنيا والآخرة ، وتدعى المدافعة القاضية تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة» الخبر (١) وتعقبه البيهقي فقال : تفرد به محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الجدعاني عن سليمان بن دفاع وهو منكر ، وهي على ما أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس مكية ، واستثنى منها بعضهم قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) الآية مدعيا أنها نزلت بالمدينة لما أراد بنو سلمة النقلة إلى قرب مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا في ناحية المدينة فقال عليه الصلاة والسلام : «إن آثاركم تكتب» فلم ينتقلوا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما قيل في ذلك وقوله سبحانه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) الآية لأنها نزلت في المنافقين فتكون مدنية.

وتعقب بأنه لا صحة له ، وآيها ثلاث وثمانون آية في الكوفي واثنتان وثمانون في غيره ، وجاء مما يشهد بفضلها وعلو شأنها عدة أخبار وآثار وقد مر آنفا بعض ذلك ، وصح من حديث معقل بن يسار لا يقرؤها عبد يريد الله تعالى والدار الآخرة إلا غفر له ما تقدم من ذنبه.

وأخرج الترمذي والدارمي من حديث أنس «من قرأ يس كتب الله تعالى له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات» ولا يلزم من هذا تفضيل الشيء على نفسه إذ المراد بقراءة القرآن قراءته دون يس ، وقال الخفاجي : لا يلزم ذلك إذ يكفي في صحة التفضيل المذكور التغاير الاعتباري فإن يس من حيث تلاوتها فردة غير كونها مقروءة في جملته كما إذا قلت : الحسناء في الحلة الحمراء أحسن منها في البيضاء وقد يكون للشيء مفردا ما ليس له مجموعا مع غيره كما يشاهد في بعض الأدوية ورجا أن يكون أقرب مما قدمنا وأنا لا أرجو ذلك ، والظاهر أنه يكتب له الثواب المذكور مضاعفا أي كل حرف بعشرة حسنات ولا بدع في تفضيل العمل القليل على الكثير فلله تعالى أن يمن بما شاء على من شاء ، ألا ترى ما صح أن هذه الأمة أقصر الأمم أعمارا وأكثرها ثوابا وأنكر الخصوصيات مكابرة ، ولله تعالى در من قال :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

وذكر بعضهم أن من قرأها أعطي من الأجر كمن قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي قلابة ـ وهو من كبار التابعين ـ أن من قرأها فكأنما قرأ القرآن إحدى عشرة مرة.

وعن أبي سعيد أنه قال من قرأ يس مرة فكأنما قرأ القرآن مرتين.

وحديث العشر مرفوع عن ابن عباس ومعقل بن يسار وعقبة بن عامر وأبي هريرة وأنس رضي الله تعالى عنهم فعليه المعول ، ووجهه اتصالها بما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي أنه لما ذكر في سورة [فاطر : ٣٧ ، ٤٢] قوله سبحانه : (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) وقوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) إلى قوله سبحانه : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) وأريد به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أعرضوا عنه وكذبوه افتتح هذه السورة بالإقسام على صحة رسالته عليه الصلاة والسلام وأنه على صراط مستقيم لينذر قوما ما أنذر آباؤهم وقال سبحانه في [فاطر : ١٣] (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ) وفي هذه السورة (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) ... (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) [يس : ٣٨] إلى غير ذلك ولا يخفى أن أمر المناسبة يتم على تفسير النذير بغيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا فتأمل.

__________________

(١) وأخرج الخطيب عن أنس مثله ا ه منه.

٣٨٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(٢٧)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس) الكلام فيه كالكلام في (الم) ونحوه من الحروف المقطعة في أوائل السور إعرابا ومعنى عند كثير. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس أنه قال : يس يا إنسان. وفي رواية أخرى عنه زيادة بالحبشية وفي أخرى عنه أيضا في لغة طيّ.

قال الزمخشري : إن صح هذا فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين فكثر النداء به على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره كما في القسم م الله في أيمن الله. وتعقبه أبو حيان بأن المنقول عن العرب في تصغير إنسان أنيسيان بياء قبل الألف وهو دليل على أن الإنسان من النسيان وأصله إنسيان فلما صغر رده التصغير إلى أصله ولا نعلمهم قالوا في تصغيره أنيسين ، وعلى تقدير أنه بقية أنيسين فلا يجوز ذلك إلا أن يبنى على الضم ولا يبقى موقوفا لأنه منادى مقبل عليه ومع ذلك لا يجوز التصغير في أسماء الأنبياء عليهم‌السلام كما لا يجوز في أسماء الله عزوجل ، وما ذكره في ـ م ـ من أنه شطر أيمن قول ، ومن النحويين من يقول ـ م ـ حرف قسم وليس شطر أيمن انتهى.

قال الخفاجي : لزوم البناء على الضم مما لا كلام فيه فلعل من فسره بذلك يقرؤه بالضم على الأوجه فيه ، وأما

٣٨٣

الاعتراضان الآخران فلا ورود لهما أصلا ، فأما الأول فلأن من يقول أنيسيان على خلاف القياس وهو الأصح لا يلزمه فيما غير منه أن يقدره كذلك وهو لم يلفظ به حتى يقال له : إنك نطقت بما لم تنطق به العرب بل هو أمر تقديري ، فإذا قال : المقدر مفروض عندي على القياس هل يتوجه عليه السؤال ، وأما الأخير فلأن التصغير في نحو ذلك إنما يمتنع منا وأما من الله تعالى فله سبحانه أن يطلق على نفسه عزوجل وعظماء خلقه ما أراد ويحمل حينئذ على ما يليق كالتعظيم والتحبيب ونحوه من معاني التصغير كما قال ابن الفارض :

ما قلت حبيبي من التحقير

بل يعذب اسم الشيء بالتصغير

والذي قاله أبو حيان في توجيه ذلك أنهم يقولون إيسان بمعنى إنسان ويجمعون على أياسين فهذا منه ولا يخفى أنه يحتاج إلى إثبات وبعده لا يخفى ما في التخريج عليه ، وقالت فرقة : يا حرف نداء والسين مقامة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه ، ونظيره ما جاء في الحديث «كفى بالسيف شا» أي شاهدا ، وأيد بما ذهب إليه ابن عباس في (حم عسق) ونحوه من أنها حروف من جملة أسماء له تعالى وهي رحيم وعليم وسميع وقدير ونحو ذلك. وظاهر كلام بعضهم كابن جبير أن يس بمجموعه اسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام وهو ظاهر قول السيد الحميري :

يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة

على المودة إلا آل ياسينا

ولتسميته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذين الحرفين الجليلين سر جليل عند الواقفين على أسرار الحروف ، وقد تكلمت ولله تعالى الحمد فيما تعلق بهذه الكلمة الشريفة ثلاثة أيام أشرع كل يوم منها بعد العصر وأختم قبيل المغرب وذلك في مجلس وعظي في المسجد الجامع الداودي واليوم لا أستطيع أن أذكر من ذاك بنت شفة بل لا أتذكر منه إلا رسما هب عليه عاصف الزمان الغشوم فنسفه فحسبي الله عمن سواه فلا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.

وقرئ بفتح الياء وإمالتها محضا وبين بين.

وقرأ جمع بسكون النون مدغمة في الواو ، وآخرون بسكونها مظهرة والقراءتان سبعيتان ، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بفتح النون ، قال أبو حاتم قياس قول قتادة إنه قسم أن يكون على حد ـ الله لأفعان ـ بالنصب. ويجوز أن يكون مجرورا بإضمار باء القسم وهو ممنوع من الصرف. وقال الزجاج : النصب على تقدير اتل يس وهذا على قول سيبويه أنه اسم للسورة ، وقيل هو مبني والتحريك للجد في الهرب من التقاء الساكنين والفتح للخفة كما في أين ، وسبب البناء غير خفي عليك إذا أحطت خبرا بما قرروا في «الم» أول سورة البقرة. ولا تغفل عما قالوا في النصب بإضمار فعل القسم من أنه لا يسوغ لما فيه من جمع قسمين على مقسم عليه واحد وهو مستكره ، ولا سبيل إلى جعل الواو بعد للعطف لا للقسم لمكان الاختلاف إعرابا.

وقرأ الكلبي بضم النون وخرج على أنه منادى مقصود بناء على أنه بمعنى إنسان أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف ، ويقدر هذه إذا كان اسما للسورة وهذا إن كان اسما للقرآن وهو يطلق على البعض كما يطلق على الكل ، وجعله مبتدأ محذوف الخبر وهو قسم أي يس قسمي نحو أمانة الله لأفعلن بالرفع لا يخفى حاله ، وقيل الضمة فيه ضمة بناء كما في حيث.

وقرأ أبو السمال وابن أبي إسحاق أيضا بكسرها ، وخرج على أنه للجد في الهرب عن الساكنين بما هو الأصلي فتأمل وتذكر (وَالْقُرْآنِ) ابتداء قسم ، وجوز أن يكون عطفا على يس على تقدير كونه مجرورا بإضمار باء القسم لا أنه قسم بعد قسم لما سمعت من كلامهم (الْحَكِيمِ) أي ذي حكمة على أنه صيغة نسبة كلابن وتامر أي متضمن

٣٨٤

إياها أو لناطق بالحكمة كالحي على أن يكون من الاستعارة المكنية أو المتصف بالحكمة على أن الإسناد مجازي وحقيقته الإسناد إلى الله تعالى المتكلم به. وفي البحر هو إما فعيل بمعنى مفعل كأعقدت العسل فهو عقيد أي معقد وإما للمبالغة من حاكم (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) جواب للقسم ، والجملة لرد إنكار الكفرة رسالته عليه الصلاة والسلام فقد قالوا : (لَسْتَ مُرْسَلاً) [الرعد : ٤٣] وتقدم ما يشعر بأنهم على جانب عظيم من الإنكار أعني قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [فاطر : ٤٢] استكبارا في الأرض ومكر السيّئ ، وهذه الآية من جملة ما أشير إليه بقوله تعالى في جوابهم عن إنكارهم (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الرعد : ٤٣] وتخصيص القرآن بالإقسام به أولا وبوصفه بالحكيم ثانيا تنويه بشأنه على أكمل وجه.

وقوله تعالى : (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) خبر ثان لأن ، واختاره الزجاج قائلا : إنه الأحسن في العربية أو حل من ضميره عليه الصلاة والسلام المستكن في الجار والمجرور أو الواقع اسم إن بناء على رأي من يجوز الحال من المبتدأ ، وجوز أن يكون متعلقا بالمرسلين وليس المراد به الحال أو الاستقبال أي لمن الذين أرسلوا على صراط مستقيم ، وأن يكون حالا من عائد الموصول المستتر في اسم الفاعل ، أو حالا من نفس (الْمُرْسَلِينَ).

والزمخشري لم يذكر من هذه الأوجه سوى كونه خبرا وكونه صلة للمرسلين ، وأيا ما كان فالمراد بالصراط المستقيم ما يعم العقائد والشرائع الحقة وليس الغرض من الإخبار الإعلام بتمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره ممن ليس على صفته ليقال إن ذلك حاصل قبله لما أن كل أحد يعلم أن المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم بل الغرض الأعلام بأنه موصوف بكذا وأن ما جاء به الموصوف بكذا تفخيما لشأنهما فسلكا في مسلك سلوكا لطريق الاختصار ، وأيضا التنكير في (صِراطٍ) للتفخيم فهو دال على أنه أرسل من بين الصراط المستقيمة على صراط لا يكتنه وصفه وهذا شيء لم يعلم قبل ، ولا يرد أن الطريق المستقيم واحد ليس إلا ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) لأن لكل نبي شارع منهاجا هو مستقيم وباعتبار الرجوع إلى المرسل تعالى شأنه الكل متحد وباعتبار الاختصاص بالمرسل والشرائع مختلف فصح أنه أرسل من بين الصراط المستقيمة إلخ. وأيضا هو فرض والفرض تعظيم هذا الصراط بأنه لا صراط أقوم منه واقعا أو مفروضا ولا نظر إلى أن هنالك آخر أولا ، وهذا قريب من أسلوب مثلك لا يفعل كذا فافهم ولا تغفل.

وقوله تعالى : (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) نصب على المدح أو على المصدرية لفعل محذوف أي نزل تنزيل.

وقرأ جمع من السبعة وأبو بكر وأبو جعفر وشيبة والحسن والأعرج والأعمش بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والمصدر بمعنى المفعول أي هو تنزيل أي منزل العزيز الرحيم ، والضمير للقرآن ويجوز إبقاؤه على أصله يجعله عين التنزيل ، وجوز أن يكون خبر (يس) إن كان المراد بها السورة والجملة القسمية معترضة ، والقسم لتأكيد المقسم عليه والمقسم به اهتماما فلا يقال : إن الكفار ينكرون القرآن فكيف يقسم به لإلزامهم.

وقرأ أبو حيوة واليزيدي والقورصي عن أبي جعفر وشيبة بالخفض على البدلية من (الْقُرْآنِ) أو الصوفية له.

وأيا ما كان ففيه إظهار لفخامة القرآن الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية بوصفه بالحكمة ، وفي تخصيص الاسمين الكريمين المعربين عن الغلبة الكاملة والرحمة الفاضلة حث على الإيمان به ترهيبا وترغيبا وإشعارا بأن تنزيله ناشئ عن غاية الرحمة حسبما أشار إليه قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] (لِتُنْذِرَ) متعلق بتنزيل أو بفعله المضمر على الوجه الثاني في إعرابه أي نزل تنزيل العزيز الرحيم لتنذر به أو بما يدل عليه (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي أرسلت أو إنك مرسل لتنذر (قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) أي لم تنذر آباؤهم على ما روي عن قتادة فما

٣٨٥

نافية والجملة صفة (قَوْماً) مبينة لغاية احتياجهم إلى الإنذار ، والمراد بالإنذار الأعلام أو التخويف ومفعوله الثاني محذوف أي عذابا لقوله تعالى : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) [النبأ : ٤٠] والمراد بآبائهم آباؤهم الأدنون وإلا فالأبعدون قد أنذرهم إسماعيل عليه‌السلام وبلغهم شريعة إبراهيم عليه‌السلام.

وقد كان منهم من تمسك بشرعه على أتم وجه ثم تراخى الأمر وتطاول المدد ، فلم يبق من شريعته عليه‌السلام إلا الاسم. وفي البحر الدعاء إلى الله تعالى لم ينقطع عن كل أمة إما بمباشرة من أنبيائهم وإما بنقل إلى وقت بعثة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والآيات التي تدل على أن قريشا ما جاءهم نذير معناها لم يباشرهم ولا آباءهم القريبين. وأما أن النذارة انقطعت فلا ، ولما شرعت آثارها ندرس بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما ذكره المتكلمون من حال أهل الفترات فهو على حسب الفرض ا ه.

وعليه فالمعنى ما أنذر آباءهم رسول أي لم يباشرهم بالإنذار لا أنه لم ينذرهم منذر أصلا فيجوز أن يكون قد أنذرهم من ليس بنبي كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] وليس في ذلك إنكار الفترة المذكورة في قوله تعالى : (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) [المائدة : ١٩] لأنها فترة إرسال وانقطاعها زمانا لا فترة إنذار مطلقا ، وعن عكرمة (ما) بمعنى الذي ، وجوز أن تكون موصوفة وهي على الوجهين مفعول ثان لتنذر أي لتنذر قوما الذي أنذره أو شيئا أنذره الرسل آباءهم الأبعدين ، وقال ابن عطية : يحتمل أن تكون ما مصدرية فتكون نعتا لمصدر مؤكد أي لتنذر قوما إنذارا مثل إنذار الرسل آباءهم الأبعدين ، وقيل هي زائدة وليس بشيء (فَهُمْ غافِلُونَ) هو على الوجه الأول متفرع على نفي الإنذار ومتسبب عنه والضمير للفريقين أي لم ينذر آباؤهم فهم جميعا لأجل ذلك غافلون ، وعلى الأوجه الباقية متعلق بقوله تعالى : (لِتُنْذِرَ) أو بما يفيده (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وارد لتعليل إنذاره عليه الصلاة والسلام أو إرساله بغفلتهم المحوجة إليه نحو اسقه فإنه عطشان على أن الضمير للقوم خاصة فالمعنى فهم غافلون عنه أي عما أنذر آباؤهم.

وقال الخفاجي : يجوز تعلقه بهذا على الأول أيضا وتعلقه بقوله تعالى : (لِتُنْذِرَ) على الوجوه وجعل الفاء تعليلية والضمير لهم أو لآبائهم ا ه ، ولا يخفى عليك أن المنساق إلى الذهن ما قرر أولا (لَقَدْ حَقَ) جواب لقسم محذوف أي والله لقد ثبت ووجب (الْقَوْلُ) الذي قلته لإبليس يوم قال : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٣٩ ، ص : ٨٢] وهو (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١١٩ ، السجدة : ١٣] (عَلى أَكْثَرِهِمْ) متعلق بحق. والمراد سبق في علمي دخول أكثرهم فيمن أملأ منهم جهنم وهم تبعة إبليس كما يشير إليه تقديم الجنة على الناس وصرح به قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٥].

ولا مانع من أن يراد بالقول لكن المشهور ما تقدم ، وظاهر كلام الراغب أن المراد بالقول علم الله تعالى بهم ولا حاجة إلى التزام ذلك ، وقيل : الجار متعلق بالقول ويقال قال عليه إذا تكلم فيه بالشر ، والمراد لقد ثبت في الأزل عذابي لهم ، وفيه ما فيه ، ويؤيد تعلقه بحق قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ٩٦] ، ونقل أبو حيان أن المعنى حق القول الذي قاله الله تعالى على لسان الرسل عليهم‌السلام من التوحيد وغيره وبأن برهانه وهو كما ترى.

(فَهُمْ) أي الأكثر (لا يُؤْمِنُونَ) بإنذارك إياهم ، والفاء تفريعية داخلة على الحكم المسبب عما قبله فيفيد أن ثبوت القول عليهم علة لتكذيبهم وكفرهم وهو علة له باعتبار سبق العلم بسوء اختيارهم وما هم عليه في نفس الأمر فإن علمه تعالى لا يتعلق بالأشياء إلا على ما هي عليه في أنفسها ومآله إلى أن سوء اختيارهم وما هم عليه في نفس الأمر علة لتكذيبهم وعدم إيمانهم بعد الإنذار فليس هناك جبر محض ولا أن المعلوم تابع للعلم.

٣٨٦

وقال بعضهم : الفاء إما تفريعية وكون ثبوت القول علة لعدم إيمانهم مبني على أن المعلوم تابع للعلم وإما تعليلية مفيدة أن عدم الإيمان علة لثبوت القول بناء على أن العلم تابع للمعلوم ولا يلزم الجبر على الوجهين ، أما على الثاني فظاهر ، وأما على الأول فلأن العلم ليس علة مستقلة عند القائل بذلك بل لاختيارهم وكسبهم مدخل فيه فتأمل.

والتفريع هو الذي أميل إليه (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ) جمع عنق بالضم وبضمتين وهو الجيد ويقال عنيق كأمير وعنق كصرد (أَغْلالاً) جمع غل بالضم وهو على ما قيل ما يشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد ، وفي البحر الغل ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتضييق والتعذيب والأسر ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة.

وذكر الراغب أنه ما يقيد به فتجعل الأعضاء وسطه ، وأصله من الغلل تدرع الشيء وتوسطه ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر وقد يقال له الغيل ، وكأن في الكلام عليه قلبا أي جعلنا أعناقهم في إغلال كما تقول جعلت الخاتم في إصبعي أي جعلت إصبعي في الخاتم ، وجوز أن يكون على حد (لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] والتنوين للتعظيم والتهويل أي أغلالا عظيمة هائلة ، وإسناد الفعل إلى ضمير العظمة مما يؤيد ذلك (فَهِيَ) أي الأغلال كما هو الظاهر (إِلَى الْأَذْقانِ) جمع ذقن بالتحريك مجتمع اللحيين من أسفلهما ، وأل للعهد أو عوض عن المضاف إليه والظرف متعلق بكون خاص خبر هي أي فهي واصلة أو منتهية إلى أذقانهم ، والفاء للتفريع ، وقيل : لمجرد التعقيب بناء على عدم حمل التنوين على التعظيم والتهويل ، وقوله تعالى : (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) نتيجة (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) فالفاء تفريعية أيضا ، والمقمح على ما في النهاية الذي يرفع رأسه ويغض بصره وكأنه أراد المجهول بحيث يرفع إلخ.

وقال أبو عبيدة : يقال قمح البعير قموحا إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب والجمع قماح ، ومنه قول بشر يصف سفينة أخذهم الميد فيها :

ونحن على جوانبها قعود

نغض الطرف كالإبل القماح

وقال الليث : هو رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود ، ومنه قيل للكانونين شهرا قماح بضم القاف وكسرها لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رءوسها لشدة برده ، وقال الراغب القمح رفع الرأس لسف الشيء المتخذ من القمح أي البر إذا جرى في السنبل من لدن الإنضاج إلى حين الاكتناز ثم يقال لرفع الرأس كيفما كان قمح ، وقمح البعير رفع رأسه وأقمحت البعير شددت رأسه إلى خلف ، وقيل : المقمح الذي يجذب ذقنه حتى يصير في صدره ثم يرفع ، وقال مجاهد : القامح الرافع الرأس الواضع يده على فيه ، وقال الحسن : هو الطامح ببصره إلى موضع قدمه ، وظاهره يقتضي أن يكون هناك نكس للرأس والمعروف في القمح الرفع ، ووجه التفريع أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن فلا يخليه يطأطئ ويوطئ قذاله فلا يزال مقمحا لا سيما إذا كان الغل عظيما ، وقال ابن عطية : إن الإغلال عريضة تبلغ بحروفها الأذقان أي فيحصل القمح ، وكلام ابن الأثير يشعر أن القمح لضيق الغل ، وإن أريد جعلنا في كل من أعناقهم أغلالا كان أمر القمح أظهر وأظهر ، وقال البغوي والطبري والزجاج والطبرسي : ضمير هي للأيدي وإن لم يتقدم لها ذكر لوضوح مكانها من المعنى لأن الغل يتضمن العنق واليد ولذلك سمي جامعة وما يكون في العنق وحده أو في اليد وحدها لا يسمى غلا فمتى ذكر مع العنق فاليد مرادة أيضا ومتى ذكر مع اليد كما في قراءة ابن عباس «في أيديهم أغلالا» وفي قراءة ابن مسعود «في أيمانهم أغلالا» فالعنق مرادا أيضا ، وهذا ضرب من الإيجاز والاختصار ونظير ذلك قول الشاعر :

وما أدري إذا يممت أرضا

أريد الخير أيهما يليني

٣٨٧

أالخير الذي أنا أبتغيه

أم الشر الذي لا يأتليني

حيث ذكر الخير وحده وقال أيهما أي الخير والشر ، وقد علم أن الخير والشر يعرضان للإنسان ، واختار الزمخشري ما تقدم ثم قال : والدليل عليه قوله تعالى : (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) ألا ترى كيف جعل الأقماح نتيجة (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الأقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف ، وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج ا ه ، وصاحب الانتصاف أراد الانتصار للجماعة فقال : يحتمل أن يكون الفاء في (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) للتعقيب كسابقه أو للتسبب فإن ضغط اليد مع العنق يوجب الإقماح لأن اليد تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن رافعة لها ولأن اليد إذا كانت مطلقة كانت راحة للمغلول فربما يتحيل بها على فكاك الغل فيكون منبها على انسداد باب الحيلة ا ه.

قال صاحب الكشف : والجواب أنه لا فخامة للتعقيب المجرد ، ثم إن ما ذكره الزمخشري وقد أشرنا إليه نحن فيما سبق مستقل في حصول الأقماح فأين التعقيب ، وبه خرج الجواب عن التسبب ، وقوله ولأن اليد إلخ لا يستقل جوابا دون الأولين ا ه ، وعلى العلات رجوع الضمير إلى الأغلال هو الحري بالاعتبار وبلاغة الكتاب الكريم تقتضيه ولا تكاد تلتفت إلى غيره (وَجَعَلْنا) عطف على (جَعَلْنا) السابق (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من قدامهم (سَدًّا) عظيما وقيل نوعا من السد (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من ورائهم (سَدًّا) كذلك والقدام والوراء كناية عن جميع الجهات (فَأَغْشَيْناهُمْ) فغطينا بما جعلناه من السد أبصارهم ، وعن مجاهد (فَأَغْشَيْناهُمْ) فألبسنا أبصارهم غشاوة (فَهُمْ) بسبب ذلك (لا يُبْصِرُونَ) لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلا.

وقرأ جمع من السبعة وغيرهم «سدا» بضم السين وهي لغة فيه ، وقيل ما كان من عمل الناس فهو بالفتح وما كان من خلق الله تعالى فهو بالضم ، وقيل بالعكس. وقرأ ابن عباس وعمر بن عبد العزيز وابن يعمر وعكرمة والنخعي وابن سيرين والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي وأبو حنيفة ويزيد البربري ويزيد بن المهلب وابن مقسم «فأغشيناهم» بالعين من العشا وهو ضعف البصر ، ومجموع المتعاطفين من قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا) إلخ تأكيد وتقرير لما دل عليه قوله سبحانه : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) إلخ من سوء اختيارهم وقبح حالهم فإن جعل الله تعالى إياهم بما أظهر فيهم من الإعجاب العظيم بأنفسهم مستكبرين عن اتباع الرسل عليهم‌السلام شامخين برءوسهم غير خاضعين لما جاءوا به وسد أبواب النظر فيما ينفعهم عليهم بالكلية ليس إلا لأنهم سيئو الاختيار وقبيحو الأحوال قد عشقت ذواتهم ما هم عليه عشقا ذاتيا وطلبته طلبا استعداديا فلم تكن لها قابلية لغيره ولم تلتفت إلى ما سواه ، وإذا قايست بين ذواتهم ، وما هم عليه وبين الجسم والحيز أو الثلاثة والفردية مثلا لم تكد تجد فرقا (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [النحل : ٣٣] ففي الكلام تشبيهات متعددة كما لوحنا إليه ، وهذا الوجه هو الذي يقتضيه ما عليه كثير من الأجلة وإن لم يذكروه في الآية ، وفي الانتصاف إذا فرق التشبيه كان تصميمهم على الكفر مشبها بالأغلال وكان استكبارهم عن قبول الحق والتواضع لاستماعه مشبها بالإقماح لأن المقمح لا يطأطأ رأسه ، وقوله تعالى : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) تتمة للزوم الإقماح لهم وكان عدم النظر في أحوال الأمم الخالية مشبها بسد من خلفهم وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبها بسد من قدامهم وفي التيسير جمع الأيدي إلى الأذقان بالأغلال عبارة عن منع التوفيق حتى استكبروا عن الحق لأن المتكبر يوصف برفع العنق والمتواضع بضده كما في قوله تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] ولم يذكر المراد بجعل السد ، وذكر الإمام أن المانع عن النظر في الآيات قسمان قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحا لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه وقسم يمنع عن

٣٨٨

النظر في الآفاق فشبه ذلك بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات فمن ابتلي بهما حرم عن النظر بالكلية ، واختار بعضهم كون (إِنَّا جَعَلْنا) إلخ تمثيلا مسوقا لتقرير تصميمهم على الكفر وعدم ارعوائهم عنه فيكون قد مثل حالهم في ذلك بحال الذين غلت أعناقهم ، وجوز في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا) إلخ أن يكون تتمة لذلك وتكميلا له وأن يكون تمثيلا مستقلا فإن جعلهم محصورين بين سدين هائلين قد غطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون شيئا قطعا كاف في الكشف عن كمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغي والجهالات.

وقال أبو حيان الظاهر أن قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا) الآية على حقيقتها لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون أخبر سبحانه عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع ، ولا يضعف هذا كما زعم ابن عطية قوله تعالى : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) لأن بصر الكافر يومئذ حديد يرى قبح حاله ، ألا ترى إلى قوله سبحانه : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً) [الإسراء : ٩٧] وقوله سبحانه : (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى) [طه : ١٢٥] فإما أن يكون ذلك حالين وإما أن يكون قوله تعالى : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق : ٢٢] كناية عن إدراكه ما يؤول إليه حتى كأنه يبصره ، واعترض بعضهم عليه بأنه يلزم أن يكون الكلام أجنبيا في البين وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله تعالى : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) قد دغدغ فيه ، والإنصاف أنه خلاف الظاهر ، وقال الضحاك : والفراء في قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله تعالى كما قال سبحانه : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) [الإسراء : ٢٩] ولعله جعل الجملة الثانية استعارة لمنعهم عن رؤية الخير والسعي فيه ، ولا يخفى أن كون الكلام على هذا أجنبيا في البين في غاية الظهور ، وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة فتأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه فإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم لا يبصرون فجاءوا إلى لنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ننشدك الله تعالى والرحم يا محمد قال ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم قرابة فدعا النبي عليه الصلاة والسلام حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) إلى قوله سبحانه (أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فلم يؤمن من ذلك النفر أحد ، وروي أن الآيتين نزلتا في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حمل حجرا لينال بها ما يريد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي فأثبتت يده إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر قد لزق بيده فما فكوه إلا بجهد فأخذه مخزومي آخر فلما دنا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم طمس الله تعالى بصره فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه فقام ثالث فقال : لأشدخن أنا رأسه ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه فقيل له : ما شأنك؟ قال : عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه فإذا فحل ما رأيت فحلا أعظم منه حال بيني وبينه فو اللات والعزى لو دنوت منه لأكلني فجعل الغل يكون استعارة عن منع من أراد أذاه عليه الصلاة والسلام وجعل السد استعارة عن سلب قوة الأبصار كما قيل ، وقال السدي : السد ظلمة حالت فمنعت الرؤية ، وجاء في الآثار غير ذلك مما يقرب منه والربط عليها غير ظاهر ، ولعله باعتبار إشارة الآيتين إلى ما هو عليه من التصميم على الكفر وشدة العناد ، ومع هذا الأرجح في نظر البليغ حمل الكلام على غير ما تقتضيه ظواهر الآثار مما سمعت وليس فيها ما ينافيه عند التحقيق فتأمل (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) أي مستو عندهم إنذارك إياهم وعدمه حسبما مر تحقيقه في أوائل سورة البقرة ، والظاهر أن العطف على (إِنَّا جَعَلْنا) وكأنه جيء به للتصريح بما هم عليه في أنفسهم بعد الإشارة إليه فيما تقدم بناء على أنه مما يستتبع الجعل المذكور.

٣٨٩

وقريب منه القول بأن ما تقدم لبيان حالهم المجعول وهذا لبيان حالهم من غير ملاحظة جعل وفيه تمهيد لقوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ) إلخ. وفي إرشاد العقل السليم هو بيان لشأنهم بطريق التصريح أثر بيانه بطريق التمثيل ، وفي الحواشي الخفاجية لم يورد بالفاء مع ترتبه على ما قبله إما تفويضا لذهن السامع أو لأنه غير مقصود هنا انتهى.

وانظر هل تجد مانعا من العطف على (لا يُبْصِرُونَ) ليكون خبرا لهم أيضا داخلا في حيز الفاء والتفريع على ما تقدم كأنه قيل : فهم سواء عليهم إلخ ، واختلاف الجملتين بالاسمية والفعلية لا أراك تعده مانعا ، وقوله تعالى : (لا يُؤْمِنُونَ) استئناف مؤكد لما قبله مبين لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء أو حال مؤكدة له أو بدل منه.

ولما بين كون الإنذار عندهم كعدمه عقب ببيان من يتأثر منه فقال سبحانه (إِنَّما تُنْذِرُ) أي إنذارا مستتبعا للأثر (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي القرآن ما روي عن قتادة بالتأمل فيه والعمل به ، وقيل : الوعظ ، واتبع بمعنى يتبع ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع أو المعنى إنما ينفع إنذارك المؤمنين الذين اتبعوا ، ويكون المراد بمن اتبع المؤمنين وبالإنذار الإنذار عما يفرط منهم بعد الاتباع فلا يلزم تحصيل الحاصل ، وقيل : المراد من اتبع في علم الله تعالى وهم الأقلون الذين لم يحق القول عليهم (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ) أي عقابه ولم يغتر برحمته عزوجل فإنه سبحانه مع عظم رحمته أليم العذاب كما نطق به قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الحجر : ٤٩] وأن عذابي هو العذاب الأليم.

ومما قرر يعلم سر ذكر الرحمن مع الخشية دون القهار ونحوه (بِالْغَيْبِ) حال من المضاف المقدر في نظم الكلام كما أشرنا إليه أي خشي عقاب الرحمن حال كون العقاب ملتبسا بالغيب أي غائبا عنه ، وحاصله خشي العقاب قبل حلوله ومعاينة أهواله. ويجوز أن يكون حالا من فاعل (خَشِيَ) أي خشي عقاب الرحمن غائبا عن العقاب غير مشاهد له أو خشي غائبا عن أعين الناس غير مظهر الخشية لهم لأنها علانية قلما تسلم عن الرياء ، وبعضهم فسر الغيب بالقلب وجعل الجار متعلقا بخشي أي خشي في قلبه ولم يكن مظهرا للخشية وليس بخاش ، قيل : ويجوز جعله حالا من (الرَّحْمنَ) ولا يخفى حاله ، والكلام في خشي على طرز الكلام في (اتَّبَعَ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) عظيمة لما سلف ، وقيل : لما يفرط منه (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) حسن لا يقادر قدره لما أسلف ، والفاء لترتيب البشارة أو الأمر بها على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية. وفي البحر لما أجدت فيه النذارة فبشره إلخ فلا تغفل ، وعن قتادة تفسير الأجر الكريم بالجنة والمراد نعيمها الشامل لما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وأجل جميع ذلك رؤية الله عزوجل.

وقوله سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) إلخ تذييل عام للفريقين المصممين على الكفر والمشفعين بالإنذار ترهيبا وترغيبا ووعيدا ووعدا ، وتكرير الضمير لإفادة الحصر أو للتقوية ، وما ألطف هذا الضمير الذي عكسه كطرده هاهنا ، وضمير العظمة للإشارة إلى جلالة الفعل ، والتأكيد للاعتناء بأمر الخبر أو لرد الإنكار فإن الكفرة كانوا يقولون : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [المؤمنون : ٣٧] أي إنا نحن نحيي الأموات جميعا ببعثهم يوم القيامة (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) ما أسلفوه من الأعمال الصالحة والطالحة (وَآثارَهُمْ) التي أبقوها بعدهم من الحسنات كعلم علموه أو كتاب ألفوه أو حبيس وقفوه أو بناء في سبيل الله تعالى بنوه وغير ذلك من وجوه البر ومن السيئات كتأسيس قوانين الظلم والعدوان وترتيب مبادئ الشر والفساد فيما بين العباد وغير ذلك من فنون الشرور التي أحدثوها وسنوها بعدهم للمفسدين.

أخرج ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سن سنّة حسنة فله أجرها وأجر

٣٩٠

من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن سن سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شيئا ثم تلا (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ)» وعن أنس أنه قال في الآية : هذا في الخطو يوم الجمعة ، وفسر بعضهم الآثار بالخطإ إلى المساجد مطلقا لما أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر والترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري قال كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنه يكتب آثاركم ثم تلا عليهم الآية فتركوا.

وأخرج الإمام أحمد في الزهد وابن ماجة وغيرهما عن ابن عباس قال كانت الأنصار منازلهم بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا قريبا من المسجد فنزلت (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فقالوا بل : نمكث مكاننا.

وأنت تعلم أنه لا دلالة فيما ذكر على أن الآثار هي الخطا لا غير وقصاري ما يدل عليه أنها من الآثار فلتحمل الآثار على ما يعمها وغيرها. واستدل بهذين الخبرين ونحوهما على أن الآية مدنية.

وقال أبو حيان : ليس ذلك زعما صحيحا وشنع عليه بما ورد مما يدل على ذلك ، وانتصر له الخفاجي بأن الحديث الدال معارض بما في الصحيحين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ لهم هذه الآية ولم يذكر أنها نزلت فيهم وقراءته عليه الصلاة والسلام لا تنافي تقدم النزول ومراد أبي حيان هذا لا أنه أنكر أصل الحديث ، ولا يخفى أن الحديثين السابقين ظاهران في أن الآية : نزلت يومئذ وليس في حديث الصحيحين ما يعارض ذلك ، والعجب من الخفاجي كيف خفي عليه هذا ، وقيل ما قدموا من النيات وآثارهم من الأعمال ، والظاهر أن المراد بالكتابة الكتابة في صحف الملائكة الكرام الكاتبين ولكونها بأمره عزوجل أسندت إليه سبحانه ، وأخرت في الذكر عن الأحياء مع أنها مقدمة عليه لأن أثرها إنما يظهر بعده وعلى هذا يضعف تفسير ما قدموا بالنيات بناء على ما يدل عليه بعض الأخبار من أن النيات لا تطلع عليها الملائكة عليهم‌السلام ولا يؤمرون بكتابتها.

وفسر بعضهم الكتابة بالحفظ أي نحفظ ذلك ونثبته في علمنا لا ننساه ولا نهمله كما يثبت المكتوب ، ولعلك تختار أن كتابة ما قدموا وآثارهم كناية عن مجازاتهم عليها أن خيرا فخير وإن شرا فشر وحينئذ فوجه ذكرها بعد الأحياء ظاهر.

وعن الحسن والضحاك أن إحياء الله تعالى الموتى أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان وجعلا الموت مجازا عن الجهل ، وتعريف «الموتى» للعهد والكلام عليه توكيد الموعد المبشر به كأنه قيل : إنما ينفع إنذارك في هؤلاء لأنا نحييهم ونكتب صالح أعمالهم وآثارهم ولا يخفى ما في ذلك من البعد. وقرأ زر ومسروق «ويكتب» بالياء مبنيا للمفعول «وآثارهم» بالرفع (وَكُلَّ شَيْءٍ) من الأشياء كائنا ما كان ، والنصب على الاشتغال أي وأحصينا كل شيء (أَحْصَيْناهُ) أي بيناه وحفظناه ، وأصل الإحصاء العد ثم تجوز به عما ذكر لأن العد لأجله.

(فِي إِمامٍ) أي أصل عظيم الشأن يؤتم ويقتدى به ويتبع ولا يخالف (مُبِينٍ) مظهر لما كان وسيكون ، وهو على ما في البحر حكاية عن مجاهد وقتادة وابن زيد اللوح المحفوظ ، وبيان كل شيء فيه إذا حمل العموم على حقيقته بحيث يشمل حوادث الجنة وما يتجدد لأهلها من دون انقطاع على ما نحو ما يحكى من بيان الحوادث الكونية في الجفر الجامع لكنه على طرز أعلى وأشرف ، ونحو هذا ما قال غير واحد من اشتمال القرآن الكريم على كل شيء حتى أسماء الملوك ومدد ملكهم أو يقال إن بيان ذلك فيه ليس دفعة واحدة بل دفعات بأن يبين فيه جملة من الأشياء كحوادث ألف سنة مثلا ثم تمحى عند تمام الألف ويبين فيه جملة أخرى كحوادث ألف أخرى وهكذا ، والداعي

٣٩١

لما ذكر أن اللوح عند المسلمين جسم وكل جسم متناهي الأبعاد كما تشهد به الأدلة وبيان كل شيء فيه على الوجه المعروف لنا دفعة مقتض لكون المتناهي ظرفا لغير المتناهي وهو محال بالبديهة. وإذا أريد بكل شيء الأشياء التي في هذه النشأة وأفعال العباد وأحوالهم فيها فلا إشكال في البيان على الوجه المعروف دفعة.

والذي يترجح عندي أن ما كتب في اللوح ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وهو متناه وبعض الآثار تشهد بذلك والمطلق منها محمول على المقيد ، وحقيقة اللوح لم يرد فيها ما يفيد القطع ولذا نمسك عن تعيينها ، وكون أحد وجهيه ياقوتة حمراء والثاني زمردة خضراء جاء في بعض الآثار ولا جزم لنا بصحته ، وكونه أحد المجردات وما من شيء إلا وهو يعلمه بالفعل مما لم يذهب إليه أحد من المسلمين وإنما هو من تخيلات الفلاسفة ومن حذا حذوهم فلا ينبغي أن يعول عليه ، وفسر بعضهم الإمام المبين بعلمه تعالى الأزلي كما فسر أم الكتاب في قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرعد : ٣٩] به وهو أصل لا يكون في صفوف صنوف الممكنات ما يخالفه كما يلوح به قول الشافعي :

خلقت العباد على ما علمت

ففي العلم يجري الفتى والمسن

ووصفه بمبين لأنه مظهر فقد قالوا : العلم صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت به أو لأن إظهار الأشياء من خزائن العدم يكون بعد تعلقه فإن القدرة إنما تتعلق بالشيء بعد العلم فالشيء يعلم أولا ثم يراد ثم تتعلق القدرة بإيجاده فيوجد ، ولا يخفى ما في هذا التفسير من ارتكاب خلاف الظاهر وعليه فلا كلام في العموم ، نعم في كيفية وجود الأشياء في علمه تعالى كلام طويل محله كتب الكلام. وعن الحسن أنه أريد به صحف الأعمال وليس بذاك. وحكي لي عن بعض غلاة الشيعة أن المراد بالإمام المبين علي كرّم الله تعالى وجهه وإحصاء كل شيء فيه من باب :

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

ومنهم من يزعم أن ذلك على معنى جعله كرّم الله تعالى وجهه خزانة للمعلومات على نحو اللوح المحفوظ ، ولا يخفى ما في ذلك من عظيم الجهل بالكتاب الجليل نسأل الله تعالى العفو والعافية ، ويمكن أن يقال : إنهم أرادوا بذلك نحو ما أراده المتصوفة في إطلاقهم الكتاب المبين على الإنسان الكامل اصطلاحا منهم على ذلك فيهون أمر الجهل ، وكمال علي كرّم الله تعالى وجهه لا ينكره إلا ناقص العقل عديم الدين.

وقرأ أبو السمال «وكلّ» بالرفع على الابتداء (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) إما عطف على ما قبله عطف القصة على القصة وإما عطف على مقدر أي فأنذرهم واضرب لهم إلخ ، وضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بأخرى مثلها كما في قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ) [التحريم: ١٠] الآية. وأخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيرة لها كما في قوله تعالى : (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) [إبراهيم : ٤٥] في وجه أي بينا لكم أحوالا بديعة هي في الغرابة كالأمثال. فالمعنى على الأول اجعل أصحاب القرية مثلا لهؤلاء في الغلو في الكفر والإصرار على التكذيب أي طبق حالهم بحالهم على أن (مَثَلاً) مفعول ثان لا ضرب و (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) مفعوله الأول أخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه ، وعلى الثاني اذكر وبين لهم قصة هي في الغرابة كالمثل ، وقوله سبحانه (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) بتقدير مضاف أي مثل أصحاب القرية وهذا المضاف بدل من (مَثَلاً) بدل كل من كل أو عطف بيان له على القول بجواز اختلافهما تعريفا وتنكيرا ، وجوز أن يكون المقدر مفعولا وهذا حالا.

والقرية كما روي عن ابن عباس وبريدة وعكرمة أنطاكية ، وفي البحر أنها هي بلا خلاف.

٣٩٢

(إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) بدل اشتمال من (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) أو ظرف للمقدر ، وجوز أن يكون بدل كل من (أَصْحابَ) مرادا بهم قصتهم وبالظرف ما فيه وهو تكلف لا داعي إليه ، وقيل ، إذ جاءها دون إذ جاءهم إشارة إلى أن المرسلين أتوهم في مقرهم ، والمرسلون عند قتادة وغيره من أجلة المفسرين رسل عيسى عليه‌السلام من الحواريين بعثهم حين رفع إلى السماء ، ونسبة إرسالهم إليه تعالى في قوله سبحانه :

(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) بناء على أنه كان بأمره تعالى لتكميل التمثيل وتتميم التسلية ، وقال ابن عباس وكعب هم رسل الله تعالى : واختاره بعض الأجلة وادعى أن الله تعالى أرسلهم ردءا لعيسى عليه‌السلام مقررين لشريعته كهارون لموسى عليهما‌السلام ، وأيد بظاهر (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) وقول المرسل إليهم (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) إذ البشرية تنافي على زعمهم الرسالة من الله تعالى لا من غيره سبحانه ، واستدل البعض على ذلك بظهور المعجزة كإبراء الأكمه وإحياء الميت على أيديهم كما جاء في بعض الآثار والمعجزة مختصة بالنبي على ما قرر في الكلام ، ومن ذهب إلى الأول أجاب عن الأول بما سمعت وعن الثاني بأنهم إما أن يكونوا دعوهم على وجه فهموا منه أنهم مبلغون عن الله تعالى دون واسطة أو أنهم جعلوا الرسل بمنزلة مرسلهم فخاطبوهم بما يبطل رسالته ونزلوه منزلة الحاضر تغليبا فقالوا ما قالوه ، وعن الثالث بأن ما ظهر على أيديهم إن صح الأثر كان كرامة لهم في معنى المعجزة لعيسى عليه‌السلام ولا يتعين كونه معجزة لهم إلا إذا كانوا قد ادعوا الرسالة من الله تعالى بدون واسطة وهو أول المسألة ، و«إذ» بدل من إذ الأولى ، والاثنان قيل يوحنا وبولس ، وقال مقاتل تومان وبولس ، وقال شعيب الجبائي شمعون ويوحنا ، وقال وهب وكعب : صادق وصدوق ، وقيل نازوص وماروص.

وقيل (أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ) دون أرسلنا إليها ليطابق إذ جاءها لأن الإرسال حقيقة إنما يكون إليهم لا إليها بخلاف المجيء وأيضا التعقيب بقوله تعالى : (فَكَذَّبُوهُما) عليه أظهر وهو هنا نظير التعقيب في قوله تعالى : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [الأعراف : ١٦٠] وسميت الفاء الفصيحة لأنها تفصح عن فعل محذوف وكان أصحاب القرية إذ ذاك عباد أصنام (فَعَزَّزْنا) أي قويناهما وشددنا قاله مجاهد وابن قتيبة ، وقال يقال تعزز لحم الناقة إذا صلب ، وقال غيره : يقال عزز المطر الأرض إذا لبدها وشدها ويقال للأرض الصلبة العزاز ومنه العز بمعناه المعروف ، ومفعول الفعل محذوف أي فعززناهما (بِثالِثٍ) لدلالة ما قبله عليه ولأن المقصود ذكر المعزز به.

وهو على ما روي عن ابن عباس شمعون الصفا ويقال سمعان أيضا ، وقال وهب وكعب : شلوم. وعند شعيب الجبائي بولص بالصاد وبعضهم يحكيه بالسين. وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو بكر والمفضل وأبان «فعززنا» بالتخفيف وهو التشديد لغتان كشدة وشدده فالمعنى واحد ، وقال أبو علي المخفف من عزه إذا غلبه ومنه قولهم من عزيز أي من غلب سلب ، والمعنى عليه فغلبناهم بحجة ثالث. وقرأ عبد الله «بالثالث» (فَقالُوا) عطف على «فكذبوهما» فعززنا والفاء للتعقيب أي فقال الثلاثة بعد تكذيب الاثنين والتعزيز بثالث (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) ولا يضر في نسبة القول إلى الثلاثة سكوت البعض إذ يكفي الاتفاق بل قالوا طريقة التكلم مع الغير كون المتكلم واحدا والغير متفقا معه (قالُوا) أي أصحاب القرية مخاطبين للثلاثة (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) من غير مزية لكم علينا موجبة لاختصاصكم بما تدعونه ، ورفع (بَشَرٌ) لانتقاض النفي بإلا فإن ـ ما ـ عملت حملا على ليس فإذا انتقض نفيها بدخول إلا على الخبر ضعف الشبه فيها فبطل عملها خلافا ليونس ، ومثل صفة (بَشَرٌ) ولم يكتسب تعريفا بالإضافة كما عرف في النحو (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) مما تدعون من الوحي على أحد وظاهر هذا القول يقتضي إقرارهم بالألوهية لكنهم ينكرون الرسالة ويتوسلون بالأصنام وكان تخصيص هذا الاسم الجليل من بين أسمائه عزوجل لزعمهم أن الرحمة تأبى إنزال

٣٩٣

الوحي لاستدعائه تكليفا لا يعود منه نفع له سبحانه ولا يتوقف إيصاله تعالى الثواب إلى العبد عليه ، وقيل ذكر الرحمن في الحكاية لا في المحكي وهم قالوا لا إله ولا رسالة لما في بعض الآثار أنهم قالوا ألنا إله سوى آلهتنا ، والتعبير به لحلمه تعالى عليهم ورحمته سبحانه إياهم بعدم تعجيل العذاب آن إنكارهم ولعل ما تقدم أولى وأظهر ولا جزم بصحة ما ينافيه من الأثر.

(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) فيما تدعون وهذا تصريح بما قصدوه من الجملتين السابقتين واختيار تكذبون على كاذبون للدلالة على التجدد.

(قالُوا) أي المرسلون (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) استشهدوا بعلم الله تعالى وهو جار مجرى القسم في التأكيد والجواب بما يجاب به ، وذكر أن من استشهد به كاذبا يكفر ولا كذلك القسم على كذب ، وفيه تحذيرهم معارضة علم الله تعالى ، وفي اختيار عنوان الربوبية رمز إلى حكمة الإرسال كما رمز الكفرة إلى ما ينافيه بزعمهم.

وإضافة رب إلى ضمير الرسل لا يأبى ذلك ، ويجوز أن يكون اختياره لأنه أوفق بالحال التي هم فيها من إظهار المعجز على أيديهم فكأنهم قالوا ناصرنا بالمعجزات يعلم إنا إليك لمرسلون ، وتقديم المسند إليه لتقوية الحكم أو للحصر أي ربنا يعلم لا أنتم لانتفاء النظر في الآيات عنكم (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) إلا بتبليغ رسالته تعالى تبليغا ظاهرا بينا بحيث لا يخفى على سامعه ولا يقبل التأويل والحمل على خلاف المراد أصلا وقد خرجنا من عهدته فلا مؤاخذة علينا من جهة ربنا كذا قيل ، والأولى أن يفسر التبليغ المبين بما قرن بالآيات الشاهدة على الصحة وهم قد بلغوا كذلك بناء على ما روي من أنهم أبرءوا الأكمه وأحيوا الميت أو أنهم فعلوا خارقا غير ما ذكر ولم ينقل لنا ولم يلتزم في الكتاب الجليل ولا في الآثار ذكر خارق كل رسول كما لا يخفى ، ثم إن ذلك أما معجزة لهم على القول بأنهم رسل الله تعالى بدون واسطة أو كرامة لهم معجزة لمرسلهم عيسى عليه‌السلام على القول بأنهم رسله عليه‌السلام ، والمعنى ما علينا من جهة ربنا إلا التبليغ البين بالآيات وقد فعلنا فلا مؤاخذة علينا أو ما علينا شيء نطالب به من جهتكم إلا تبليغ الرسالة على الوجه المذكور وقد بلغنا كذلك فأي شيء تطلبون منا حتى تصدقونا بدعوانا ولكون تبليغهم كان بينا بهذا المعنى حسن منهم الاستشهاد بالعلم فلا تغفل ، وجاء كلام الرسل ثانيا في غاية التأكيد لمبالغة الكفرة في الإنكار جدا حيث أتوا بثلاث جمل وكل منها دال على شدة الإنكار كما لا يخفى على من له أدنى تأمل قال السكاكي : أكدوا في المرة الأولى لأن تكذيب الاثنين تكذيب للثالث لاتحاد المقالة فلما بالغوا في تكذيبهم زادوا في التأكيد ، وقال الزمخشري : إن الكلام الأول ابتداء أخبار والثاني جواب عن إنكار ، ووجه ذلك السيد السند بأن الأول ابتداء أخبار بالنظر إلى أن مجموع الثلاثة لم يسق منهم أخبار فلا تكذيب لهم في المرة الأولى فيحمل التأكيد فيها على الاعتناء والاهتمام منهم بشأن الخبر انتهى ، وفيه أن الثلاثة كانوا عالمين بإنكارهم والكلام المخرج مع المنكر لا يقال له ابتداء أخبار ، وقال صاحب الكشف : أراد أنه غير مسبوق بأخبار سابق ولم يرد أنه كلام مع خالي الذهن أو جعل الابتداء باعتبار قول الثالث أو المجموع ، وقال الجلبي : لعل مراده أنه بمنزلة ابتداء أخبار بالنسبة إلى إنكارهم الثاني في عدم احتياجه إلى مثل تلك المؤكدات فكان إنكارهم الأول لا يعد إنكارا بالنسبة إلى إنكارهم الثاني لا أنه ابتداء أخبار حقيقة ، ولا يخفى ضعف ذلك ، وقال الفاضل اليمني : إنما أكد القول الأول لتنزيلهم منزلة من أنكر إرسال الثلاثة لأنه قد لاح ذلك من إنكار الاثنين فعلى هذا يكون ابتداء أخبار بالنظر إلى إخراج الكلام على مقتضى الظاهر وإنكاريا بالنظر إلى إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر فنظر الزمخشري أدق من نظر السكاكي وإن قال السيد السند بالعكس ، ويعلم ما فيه مما تقدم بأدنى نظر ، وقال أجل المتأخرين الفاضل عبد الحكيم السالكوتي : عندي أن ما ذكره السكاكي

٣٩٤

مبني على عطف (فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) على (فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا) والفاء للتعقيب فيكون الكلام صادرا عن الثلاثة بعد تكذيب الاثنين والتعزيز بثالث فكان كلاما مع المنكرين فجاء مؤكدا ، وقول الزمخشري مبني على أنه عطف على (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) وأنه تفصيل للقصة المذكورة إجمالا بقوله سبحانه : (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) إلى قوله تعالى : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) فالفاء للتفصيل فقوله تعالى : (فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) بيان لقوله عزوجل : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) فيكون ابتداء إخبار صدر من الاثنين قالوا بصيغة الجمع تقريرا لشأن الخبر وقوله تعالى : (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) إلخ بيان لقوله تعالى : (فَكَذَّبُوهُما) وقوله سبحانه : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) بيان لقوله عزّ شأنه : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) فإن البلاغ المبين هو إثباتهم الرسالة بالمعجزات وهو التعزيز والغلبة ثم قال : ولا يخفى حسن هذا التفسير لموافقته للقصة المذكورة في التفاسير وملاءمته لسوق الآية فإنها ذكرت أولا إجمالا بقوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) ثم فصلت بعض التفصيل بقوله تعالى : (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) إلى قوله سبحانه : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) ثم فصلت تفصيلا تاما بقوله تعالى : (فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) إلى قوله تعالى : (خامِدُونَ) وعدم احتياجه إلى جعل الفاء في (فَكَذَّبُوهُما) فصيحة بخلاف تفسير السكاكي فإنه يحتاج إلى تقدير فدعوا إلى التوحيد ا ه.

ولا يخفى على المنصف أنه تفسير في غاية البعد والكلام عليه واصل إلى رتبة الألغاز ، ومع هذا فيه ما فيه ، وأنا أقول : لا يبعد أن يكون الزمخشري أراد بكلامه أحد الاحتمالات التي ذكرت في توجيهه إلا أن ما ذهب إليه السكاكي أبعد عن التكلف وأسلم عن القيل والقال (قالُوا) لما ضاقت عليهم الحيل وعييت بهم العلل (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي تشاءمنا بكم جريا على ديدن الجهلة حيث يتيمنون بكل ما يوافق شهواتهم وإن كان مستجلبا لكل شر ويتشاءمون بما لا يوافقها وإن كان مستتبعا لكل خير أو بناء على أن الدعوة لا تخلو عن الوعيد بما يكرهونه من إصابة ضر إن لم يؤمنوا فكانوا ينفرون عنه ، وقد قال مقاتل : إنه حبس عنهم المطر وقال آخر : أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل عليهم‌السلام ، وقال ابن عطيّة : أن تطير هؤلاء كان بسبب ما دخل فيهم من اختلاف الكلمة وافتتان الناس ، وأصل التطير التفاؤل بالطير البارح والسانح ثم عم ، وكان مناط التطير بهم مقالتهم كما يشعر به قوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) أي عن مقالتكم هذه.

(لَنَرْجُمَنَّكُمْ) بالحجارة قاله قتادة وذكر فيه احتمالان احتمال أن يكون الرجم للقتل أي لنقتلنكم بالرجم بالحجارة واحتمال أن يكون للأذى أي لنؤذينكم بذلك ، وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قال : أي لنشتمنكم ثم قال : والرجم في القرآن كله الشتم.

(وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) قال في البحر : وهو الحريق ، وقيل عذاب غيره تبقى معه الحياة ، والمراد لنقتلنكم بالحجارة أو لنعذبنكم إذا لم نقتلكم عذابا أليما لا يقادر قدره تتمنون معه القتل ، وقيل أريد بالعذاب الأليم العذاب الروحاني وأريد بالرجم بالحجارة النوع المخصوص من الأذى الجسماني فكأنهم قد رددوا الأمر بين إيذاء جسماني وإيذاء روحاني ، وقيل أريد بالعذاب الأليم الجسماني وبالرجم العذاب والأذى الروحاني بناء على أن المراد به الشتم ، وقيل غير ذلك (قالُوا) أي الرسل ردا عليهم (طائِرُكُمْ) أي سبب شؤمكم (مَعَكُمْ) لا من قبلنا كما تزعمون وهو سوء عقيدتكم وقبح أعمالكم.

وأخرج ابن المنذر وعن ابن عباس أنه فسر الطائر بنفس الشؤم أي شؤمكم معكم وهو الإقامة على الكفر وأما نحن فلا شؤم معنا لأنا ندعو إلى التوحيد وعبادة الله تعالى وفيه غاية الدين والخير والبركة ، وعن أبي عبيدة والمبرد

٣٩٥

(طائِرُكُمْ) أي حظكم ونصيبكم من الخير والشر معكم من أفعالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

وقرأ الحسن وابن هرمز وعمرو بن عبيد وزر بن حبيش «طيركم» بياء ساكنة بعد الطاء ، قال الزجاج : الطائر والطير بمعنى ، وفي القاموس الطير جمع طائر وقد يقع على الواحد وذكر أن الطير لم يقع في القرآن الكريم إلا جمعا كقوله تعالى : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) [النور : ٤١] فإذا كان في هذه القراءة كذلك فطائر وإن كان مفردا لكنه بالإضافة شامل لكل ما يتطير به فهو في معنى الجمع فالقراءتان متوافقتان ، وعن الحسن أنه قرأ «أطيركم» مصدر أطير الذي أصله تطير فأدغمت التاء في الطاء فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) بهمزتين الأولى همزة الاستفهام والثانية همزة إن الشرطية حققها الكوفيون وابن عامر وسهلها باقي السبعة.

واختلف سيبويه ويونس فيما إذا اجتمع استفهام وشرط أيهما يجاب فذهب سيبويه إلى إجابة الاستفهام أي تقدير المستفهم عنه وكأنه يستغني به عن تقدير جواب الشرط فالمعنى عليه أإن ذكرتم ووعظتم بما فيه سعادتكم تتطيرون أو تتوعدون أو نحو ذلك ويقدر مضارع مرفوع وإن شئت قدرت ماضيا كتطيرتم.

وذهب يونس إلى إجابة الشرط وكأنه يستغني به عن إجابة الاستفهام وتقدير مصب له فالتقدير أإن ذكرتم تتطيروا أو نحوه مما يدل عليه ما قبل ويقدر مضارع مجزوم وإن شئت قدرت ماضيا مجزوم المحل. وقرأ زر بهمزتين مفتوحتين وهي قراءة أبي جعفر. وطلحة إلا أنهما لينا الثانية بين بين ، وعلى تحقيقهما جاء قول الشاعر :

إن كنت داود بن أحوى مرجلا

فلست براع لابن عمك محرما

فالهمزة الأولى للاستفهام والثانية همزة إن المصدرية والكلام على تقدير حرف لام الجر أي ألأن ذكرتم تطيرتم. وقرأ الماجشون يوسف بني عقوب المدني بهمزة واحدة مفتوحة فيحتمل تقدير همزة الاستفهام فتتحد هذه القراءة والتي قبلها معنى ، ويحتمل عدم تقديرها فيكون الكلام على صورة الخبر ، وهو على ما قيل مسوق للتعجب والتوبيخ ، وتقدير حرف الجر على حاله ، والجر متعلق بمحذوف على ما يشعر به كلام الكشاف أي تطيرتم لأن ذكرتم ، وقال ابن جني (إِنْ ذُكِّرْتُمْ) على هذه القراءة معمول (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) فإنهم لما قالوا (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أجيبوا بل طائركم معكم إن ذكرتم أي هو معكم لأن ذكرتم فلم تذكروا ولم تنتهوا فاكتفي بالسبب الذي هو التذكير عن المسبب الذي هو الانتهاء كما وصفوا الطائر موضع مسببه وهو التشاؤم لما كانوا يألفونه من تكارههم نعيب الغراب أو بروحه. وقرأ الحسن بهمزة واحدة مكسورة وفي ذلك احتمالان تقدير الهمزة فتتحد هذه القراءة وقراءة الجمهور وعدم تقديرها فيكون الكلام على صورة الخبر والجواب محذوف لدلالة ما قبل عليه وتقديره كما تقدم ، وقرأ أبو عمرو في رواية وزر أيضا بهمزتين مفتوحتين بينهما مدة كأنه استثقل اجتماعهما ففصل بينهما بألف. وقرأ أيضا أبو جعفر والحسن وكذا قرأ قتادة والأعمش وغيرهما «أين» بهمزة مفتوحة وياء ساكنة وفتح النون «ذكرتم» بتخفيف الكاف على أن أين ظرف أداة شرط وجوابها محذوف لدلالة طائركم عليه على ما قيل أي أين ذكرتم صحبكم طائركم والمراد شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم وفيه من المبالغة بشؤمهم ما لا يخفى.

وفي البحر من جوز تقديم الجزاء على الشرط وهم الكوفيون وأبو زيد والمبرد يجوز أن يكون الجواب طائركم معكم وكان أصله أين ذكرتم فطائركم معكم فلما قدم حذفت الفاء (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي عادتكم الإسراف ومجاوزة الحد في العصيان مستمرون عليه فمن ثم أتاكم الشؤم لا من قبل رسل الله تعالى وتذكيرهم فهو إضراب عما يقتضيه قوله تعالى : (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) من إنكار أن يكون ما هو سبب السعادات أجمع سبب الشؤم لأنه تنبيه وتعريك إلى البت عليهم بلزام الشؤم وإثبات الإسراف الذي هو أبلغ وهو جالب الشؤم كله أو بل (أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) في

٣٩٦

ضلالكم متمادون في غيكم حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من الهداة لدين الله تعالى فهو إضراب عن مجموع الكلام أجابوهم بأنهم جعلوا أسبابا للسعادة مدمجين فيه التنبيه على سوء صنيعهم في الحرمان عنها ثم أضربوا عنه إلى ما فعل القوم من التعكيس لما يقتضيه النظر الصحيح فتأمل.

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ) أي من أبعد مواضعها (رَجُلٌ) أي رجل عند الله تعالى فتنوينه للتعظيم ، وجوز أن يكون التنكير لإفادة أن المرسلين لا يعرفونه ليتواطئوا معه واسمه ـ على ما روي عن ابن عباس وأبي مجلز وكعب الأحبار ومجاهد ومقاتل ـ حبيب وهو ابن إسرائيل على ما قيل ، وقيل : ابن مري وكان على المشهور نجارا ، وقيل : كان حراثا ، وقيل : قصارا ، وقيل : إسكافا ، وقيل : نحاتا للأصنام ويمكن أن يكون جامعا لهذه الصفات ، وذكر بعضهم أنه كان في غار مؤمنا يعبد ربه عزوجل فلما سمع أن قومه كذبوا الرسل جاء (يَسْعى) أي يعدو ويسرع في مشيه حرصا على نصح قومه ، وقيل : إنه يسمع أن قومه عزموا على قتل الرسل فقصدي وجه الله تعالى بالذب عنهم فسعى هنا مثلها في قوله تعالى : (وَسَعى لَها سَعْيَها) [الإسراء : ١٩] وهو مجاز مشهور وكونه في غار لا ينافي مجيئه من أقصى المدينة لجواز أن يكون في أقصاها غار ، نعم هذا القول ظاهر في أنه كان مؤمنا وهو ينافي أنه كان نحاتا للأصنام. وأجيب بأن المراد ينحت التماثيل لا للعبادة وكان في تلك الشريعة مباحا ، وحكي القول بإيمانه عن ابن أبي ليلى ، ونقل في البحر عنه أنه قال : سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا قط طرفة عين علي بن أبي طالب وصاحب يس ومؤمن آل فرعون.

وذكر الزمخشري وجماعة هذا حديثا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذا ذكروا أنه ممن آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما ، ولم يؤمن أحد بنبي غيره عليه الصلاة والسلام قبل ظهوره.

وقيل كان مجذوما وكان منزله أقصى باب من أبواب المدينة عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضره فلم يكشف فلما دعاه الرسل إلى عبادة الله تعالى قال : هل من آية؟ قالوا : نعم ندعو ربنا القادر يفرج عنك ما بك فقال : إن هذا لعجب لي سبعون سن أدعو هذه الآلهة فلم تستطع تفريجه فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا : إن هذا لعجب لي سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع تفريجه فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا : ربنا على ما يشاء قدير وهذه لا تنفع شيئا ولا تضر فآمن ودعوا ربهم سبحانه فكشف عزوجل ما به كأن لم يكن به بأس فأقبل على التكسب فإذا أمسى تصدق بنصف كسبه وأنفق النصف الآخر على نفسه وعياله فلما هم قومه بقتل الرسل جاء من أقصى المدينة يسعى ، وعلى هذا نحته للأصنام غير مشكل ولا يحتاج إلى ذلك الجواب البعيد ، نعم بين هذا وبين خبر سباق الأمم ثلاثة وأنه ممن آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما آمن تبع منافاة ، وكون إيمانه به عليه الصلاة والسلام إنما كان على يد الرسل وإن كان خلاف الظاهر دافع للمنافاة بينه وبين الأخير فتبقى المنافاة بينه وبين الخبر الأول إلا أن يقال : المراد سباق الأمم إلى الإيمان بعد الدعوة ثلاثة لم يكفروا بعدها قط طرفة عين ، ومما يدل بظاهره أن الرجل لم يكن قبل مؤمنا ما حكي أن المرسلين اللذين أرسلا أولا لما قربا إلى المدينة رأياه يرعى غنما فسألهما فأخبراه فقال : أمعكما آية؟ فقالا : نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص وكان له ولد مريض فمسحاه فبرأ فآمن ، وحمل آمن على أظهر الإيمان خلاف الظاهر ، والذي يترجح في نظري أنه كان مؤمنا بالمرسلين قبل مجيئه ونصحه لقومه ولا جزم لي بإيمانه ولا عدمه قبل إرسال الرسل ، وظواهر الأخبار في ذلك متعارضة ومع هذا لم يتحقق عندي صحة شيء منها والله أعلم تعالى أعلم بحقيقة الحال.

وجاء (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) هنا مقدما على (رَجُلٌ) عكس ما جاء في القصص وجعله أبو حيان من التفنن في البلاغة.

٣٩٧

وقال الخفاجي : قدم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقديم بيانا لفضله إذ هداه الله تعالى مع بعده عنهم وإن بعده لم يمنعه عن ذلك ولذا عبر بالمدينة هنا بعد التعبير بالقرية إشارة إلى السعة وإن الله تعالى يهدي من يشاء سواء قرب أو بعد ، وقيل قدم للاهتمام حيث تضمن الإشارة إلى أن إنذارهم قد بلغ أقصى المدينة فيشعر بأنهم أتوا بالبلاغ المبين ، وقيل إنه لو أخر توهم تعلقه بيسعى فلم يفد أنه من أهل المدينة مسكنه في طرفها وهو المقصود ، وجملة (يَسْعى) صفة (رَجُلٌ) وجوز كونها حالا منه من جوز مجيء الحال من النكرة ، وقوله تعالى : (قالَ) استئناف بياني كأنه قيل : فما ذا قال عند مجيئه؟ فقيل : قال (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) وجوز كونه بيانا للسعي بمعنى قصد وجه الله عزوجل ولا يخفى ما فيه ، والتعرض لعنوان رسالتهم لحثهم على اتباعهم كما أن خطابهم بيا قوم لتأليف قلوبهم واستمالتها نحو قبول نصيحته ، وقوله تعالى : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يتضمن نفي المانع عن اتباعهم بعد الإشارة إلى تحقق المقتضى ، وقوله سبحانه : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي ثابتون على الاهتداء بما هم عليه إلى خير الدنيا والآخرة جملة حالية فيها ما يؤكد كونهم لا يسألون الأجر ولا ما يتبعه من طلب جاه وعلو ولذا جعلت إيغالا حسنا نحو قول الخنساء :

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

والظاهر أن الرجل لم يقل ذلك إلا بعد سبق إيمانه ، وروي أنه لما بلغته الدعوة جاء يسعى فسمع كلامهم وفهمه ثم قال لهم : أتطلبون أجرا على دعوتكم هذه؟ قالوا : لا فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم قائلا : (يا قَوْمِ) إلخ ، وللنحويين في مثل هذا التركيب وجهان ، أحدهما أن تكون (مَنْ) بدلا من (الْمُرْسَلِينَ) بإعادة العامل كما أعيد إذا كان حرف جر نحو قوله تعالى : (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ) وإليه ذهب بعضهم وثانيهما وإليه ذهب الجمهور أنه ليس ببدل فإنه مخصوص بما إذا كان العامل المعاد حرف جر أما إذا كان رافعا أو ناصبا فيسمون ذلك بالتتبيع لا بالبدل ، واستدل بالآية على نقص من يأخذ أجرة على شيء من أفعال الشرع والبحث مستوفى في الفروع (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) تلطف في إرشاد قومه بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره كم ينبئ عنه قوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) مبالغة في تهديدهم بتخويفهم بالرجوع إلى شديد العقاب مواجهة وصريحا ولو قال : وإليه أرجع كان فيه تهديد بطريق التعريض ، وعد التعبير بإليه ترجعون بعد التعبير بما لي لا أعبد من باب الالتفات لمكان التعريض بالمخاطبين في (ما لِيَ لا أَعْبُدُ) إلخ فيكون المغبر عنه في الأسلوبين واحدا بناء على ما ذهب إليه الخطيب والسعد التفتازاني من أن التعريض إما مجاز أو كناية وهو هاهنا مجاز لامتناع إرادة الموضوع له فيكون اللفظ مستعملا في غير ما وضع له فيتحد المعبر عنه ، وحقق السيد السند أن المعنى التعريضي من مستتبعات الترتيب واللفظ ليس بمستعمل فيه بل هو بالنسبة إلى المستعمل فيه إما حقيقة أو مجاز أو كناية وعليه فضمير المتكلم في (ما لِيَ) إلخ ليس مستعملا في المخاطبين فلا يكون المعبر عنه في الأسلوبين واحدا فلا التفات ، وجوز بعضهم كون الآية من الاحتباك والأصل (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) وإليه أرجع ومالكم لا تعبدون الذي فطركم وإليه ترجعون فحذف من الأول نظير ما ذكر في الثاني وبالعكس وهو مفوت لما سمعت ، وظاهر كلام الواحدي أنه لا تعريض في الآية حيث قال : لما قال الرجل : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) إلخ رفعوه إلى الملك فقال له الملك : أفأنت تتبعهم؟ فقال : (ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي أي شيء لي إذا لم أعبد خالقي (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تردون عند البعث فيجيزكم بكفركم ، ورد عليه بأنه إذا رجع الإنكار إليه دون القوم لم يكن لخطابهم بترجعون معنى وكان الظاهر أرجع.

٣٩٨

وأجيب بأنه يمكن أن يقال : إن الرجل كان في غيظ شديد من تكذيبهم الرسل وتوعدهم إياهم فانتهز الفرصة للانتقام فلما تمكن من تهديدهم أوقع قوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في البين أي ما لي لا أعبد الذي من عليّ بنعمة الإيجاد ونعمة الانتقام منكم والتشفي من غيظكم إذ ترجعون إليه فيجزيكم بكفركم وتكذيبكم الرسل وعنادكم ، وأنت تعلم أن النظم الجليل لا يساعد على هذا وهو ظاهر فيما تقدم ، وقد عاد إلى المساق الأول من التلطف بالإرشاد فقال : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) إنكار ونفي لاتخاذ جنس الآلهة على الإطلاق وفيه من تحميق من يعبد الأصنام ما فيه.

وقوله تعالى : (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) استئناف سيق لتعليل النفي المذكور ، وجعله صفة لآلهة كما ذهب إليه البعض ربما يوهم أن هناك آلهة ليست كذلك ، ومعنى (لا تُغْنِي) إلخ لا تنفعني شيئا من النفع ، وهو إما على حد. لا ترى الضب بها ينجحر. أي لا شفاعة لهم حتى تنفعني ، وإما على فرض وقوع الشفاعة أي لا تغني عني شفاعتهم لو وقعت شيئا (وَلا يُنْقِذُونِ) يخلصون من ذلك الضر بالنصر والمظاهرة ، وهو ترق من الأدنى إلى الأعلى بدأ أولا بنفي الجاه وذكر ثانيا انتفاء القدرة وعبر عنه بانتفاء الإنقاذ لأنه نتيجته ، وفتح ياء المتكلم في يردني طلحة السمان على ما قال ابن عطية ، وقال ابن خالويه : طلحة بن مصرف وعيسى الهمذاني وأبو جعفر ، ورويت عن نافع وعاصم وأبي عمرو ، وقال الزمخشري : وقرئ إن يردني الرحمن بضر بمعنى إن يوردني ضرا أي يجعلني موردا للضر ا ه ، قال أبو حيان : كأنه والله تعالى أعلم رأى في كتب القراءات «يردني» بفتح الياء فتوهم أنها ياء المضارعة فجعل الفعل متعديا بالياء المعدية كالهمزة فلذلك أدخل عليه همزة التعدية ونصب به اثنين ، والذي في كتب الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطأ ونطقا لالتقاء الساكنين ، قال في كتاب ابن خالويه : بفتح الياء ياء الإضافة ، وقال في اللوامح : «أن يردني الرحمن» بالفتح وهو أصل الياء البصرية أي المثبتة بالخط الذي يرى بالبصر لكن هذه محذوفة ا ه كلامه ، وحسن الظن بالزمخشري يقتضي خلاف ما ذكره (إِنِّي إِذاً) أي إذا اتخذت من دونه آلهة (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فإن إشراك ما يصنع وليس من شأنه النفع ولا دفع الضر بالخالق المقتدر الذي لا قادر غيره ولا خير إلا خيره ضلال وخطأ بين لا يخفى على من له أدنى تمييز (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) الظاهر أن الخطاب لقومه شافههم بذلك وصدع بالحق إظهارا للتصلب في الدين وعدم المبالاة بما يصدر منهم ، والجملة خبرية لفظا ومعنى ، والتأكيد قيل إنهم لم يعلموا من كلامه أنه آمن بل ترددوا في ذلك لما سمعوا منه ما سمعوا.

وإضافة الرب إلى ضميرهم لتحقيق الحق والتنبيه على بطلان ما هم عليه من اتخاذ الأصنام أربابا أي إني آمنت بربكم الذي خلقكم (فَاسْمَعُونِ) أي فاسمعوا قولي فإني لا أبالي بما يكون منكم على ذلك ، وقيل : مراده دعوتهم إلى الخير الذي اختاره لنفسه ، وقيل لم يرد بهذا الكلام إلا أن يغضبهم ويشغلهم عن الرسل بنفسه لما رآهم لا ينجع فيهم الوعظ وقد عزموا على الإيقاع بهم وليس بشيء وقدر بعضهم المضاف المحذوف عاما وفسر السماع بالقبول كما في سمع الله تعالى لمن حمده أي فاسمعوا جميع ما قلته واقبلوه وهو مما يسمع.

وجعل الخطاب للقوم في الجملتين هو المروي عن ابن عباس وكعب ووهب وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه قال : لما قال صاحب يس (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) خنقوه ليموت فالتفت إلى الأنبياء فقال : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) أي فاشهدوا فالخطاب فيهما للرسل بطريق التلوين ، وأكد الخبر إظهارا لصدوره عنه بكمال الرغبة والنشاط ، وأضاف الرب إلى ضميرهم روما لزيادة التقرير وإظهارا للاختصاص والاقتداء بهم كأنه قال : بربكم الذي أرسلكم أو الذي تدعوننا إلى الإيمان به ، وطلب السماع منهم ليشهدوا له بالإيمان عند الله عزوجل كما يشير إليه كلام ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، وقيل الخطاب الأول لقومه والثاني للرسل خاطبهم على جهة الاستشهاد بهم

٣٩٩

والاستحفاظ للأمر عندهم ، وقيل الخطابان للناس جميعا ، وروي عن عاصم أنه قرأ «فاسمعون» بفتح النون ، قال أبو حاتم : هذا خطأ لا يجوز لأنه أمر فإما أن تحذف كما حذفت نون الإعراب ويقال فاسمعوا وإما أن تبقى وتكسر ، ومن الناس من وجهه بأن الأصل فاسمعونا أي فاسمعوا كلامنا أي كلامي وكلامهم لتشهدوا بما كان مني ومنهم.

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) استئناف لبيان ما وقع له بعد قوله ذلك ، والظاهر أن الأمر إذن له بدخول الجنة حقيقة وفي ذلك إشارة إلى أن الرجل قد فارق الدنيا فعن ابن مسعود أنه بعد أن قال ما قال قتلوه بوطء الأرجل حتى خرج قصبه من دبره وألقى في بئر وهي الرس ، وقال السدي : رموه بالحجارة وهو يقول : اللهم اهد قومي حتى مات ، وقال الكلبي : رموه في حفرة وردوا التراب عليه فمات ، وعن الحسن حرقوه حتى مات وعلقوه في بر المدينة وقبره في سور أنطاكية ، وقيل : نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه.

ودخوله الجنة بعد الموت دخول روحه وطوافها فيها كدخول سائر الشهداء ، وقيل الأمر للتبشير لا للإذن بالدخول حقيقة قالت له ملائكة الموت ذلك بشارة له بأنه من أهل الجنة يدخلها إذا دخلها المؤمنون بعد البعث ، وحكي نحو ذلك عن مجاهد.

أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال في قوله تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) وجبت له الجنة ، وجاء في رواية عن الحسن أنه قال : لما أراد قومه قتله رفعه الله تعالى إلى السماء حيا كما رفع عيسى عليه‌السلام إلى السماء فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السماء وهلاك الجنة فإذا أعاد الله تعالى الجنة أعيد له دخولها فالأمر كما في الأول ، والجمهور على أنه قتل ، وادعى ابن عطية أنه تواتر الأخبار والروايات بذلك ، وقول قتادة أدخله الله تعالى الجنة وهو فيها حي يرزق ليس نصا في نفي القتل. وفي البحر أنه أراد بقوله وهو فيها حي يرزق قوله تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩] وقال بعضهم : الجملة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ما حاله عند لقاء ربه عزوجل بعد ذلك التصلب في دينه. فقيل : قيل أدخل الجنة ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع ، ولعل الأولى ما أشرنا إليه أولا ، وإنما لم يقل قيل له لأن الغرض المهم بيان المقول لا القائل والمقول له ، وقوله تعالى :

(قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) استئناف بياني أيضا كأنه قيل بعد أن أخبر عنه بما أخبر : فما ذا قال عند نيله تلك الكرامة السنيّة؟ قال إلخ ، وإنما تمني علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب مثله بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والطاعة جريا على سنن الأولياء في كظم الغيظ والترحم على الأعداء ، وفي الحديث نصح قومه حيا وميتا.

وقيل : يجوز أن يكون تمنيه ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره وأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة وأن عداوتهم لم تكسبه إلا فوزا ولم تعقبه إلا سعادة لأن في ذلك زيادة غبطة له وتضاعف لذة وسرور ، والوجه الأول أولى ، والظاهر أن ما مصدرية ، ويجوز أن تكون موصولة والعائد مقدر أي يا ليت قومي يعلمون بالذي غفر لي به أي بسببه ربي أو بالذي غفره أي بالغفران الذي غفره لي ربي ، والمراد تعظيم مغفرته تعالى له فتؤول إلى المصدرية ، وقال الزمخشري : أي بالذي غفره لي ربي من الذنوب. وتعقب بأنه ليس بجيد إذ يؤول إلى تمني علمهم بذنوبه المغفورة ولا يحسن ذلك ، وكذا عطف (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) عليه لا ينتظم ، وما قيل من أن الغرض منه الأعلام بعظم مغفرة الله تعالى ووفور كرمه وسعة رحمته فلا يبعد حينئذ إرادة معنى الاطلاع عليها لذلك بل هو أوقع في النفس من ذكر المغفرة مجردة عن ذكر المغفور لاحتمال حقارته تكلف. وأجاز الفراء أن تكون استفهامية والجار صلة

٤٠٠