روح المعاني - ج ١١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

الجزء الثاني العاشر

١٨١
١٨٢

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)(٣٩)

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَ) أي ومن تخشع وتخضع (لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ) عملا (صالِحاً) كصلاة وصوم وحج وإيتاء زكاة وهذا العمل غير القنوت لله تعالى على ما سمعت من تفسيره فلا تكرار ، وفسره بعضهم بالطاعة ودفع التكرار بأن المراد (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَ) لرسول الله (وَتَعْمَلْ صالِحاً) لله تعالى ، وذكر الله إنما هو لتعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجعل طاعته غير منفكة عن طاعة الله عزوجل ، وبعضهم بما ذكر أيضا إلا أنه دفع التكرار بأن المراد بالعمل الصالح

١٨٣

الخدمة الحسنة والقيام بمصالح البيت لا نحو الصلاة والصيام وبالطاعة المفسر بها القنوت امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، وفسره بعضهم بدوام الطاعة فقيل في دفع التكرار نحو ما مر ، وقيل : المراد به الدوام على الطاعة السابقة وبالعمل الصالح : العبادات التي يكلفن بها بعد.

وقيل : القنوت السكوت كما قيل ذلك في قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [البقرة : ٢٣٨] والمراد به هاهنا السكوت عن طلب ما لم يأذن الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهن به من زيادة النفقة وثياب الزينة ، وقيل غير ذلك. (نُؤْتِها أَجْرَها) الذي تستحقه على ذلك فضلا وكرما (مَرَّتَيْنِ) فيكون أجرها مضاعفا وهذا في مقابلة يضاعف لها العذاب ضعفين.

أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أنه قال في حاصل معنى الآيتين : أنه من عصى منكن فإنه يكون للعذاب عليها الضعف منه على سائر نساء المؤمنين ومن عمل صالحا فإن الأجر لها الضعف على سائر نساء المسلمين ، ويستدعي هذا أنه إذا أثيب نساء المسلمين على الحسنة بعشر أمثالها أثبن هن على الحسنة بعشرين مثلا لها وإن زيد للنساء على العشر شيء زيد لهن ضعفه ، وكأنه والله تعالى أعلم إنما قيل (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) دون يضاعف لها الأجر كما قيل في المقابل (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) لأن أصل تضعيف الأجر ليس من خواصهن بل كل من عمل صالحا من النساء والرجال من هذه الأمة يضاعف أجره فأخرج الكلام مغايرا لما تقتضيه المقابلة رمزا إلى أن تضعيف الأجر على طرز مغاير لطرز تضعيف العذاب مع تضمن الكلام المذكور الإشارة إلى مزيد تكريمهن ووفور الاعتناء بهن فإن الإحسان المكرر أحلى ، ومن تأمل في الجملتين ظهر له تغليب جانب الرحمة على جانب الغضب وكفى بالتصريح بفاعل إيتاء الأجر وجعله ضمير العظمة والتعبير عما يؤتون من النعيم بالأجر مع إضافته إلى ضميرهن مع خلو جملة تضعيف العذاب عن مثل ذلك شهداء على ما ذكر ، ثم إن تضعيف أجرهن لمزيد كرامتهن رضي الله تعالى عنهن على الله عزوجل مما منّ به عليهن من النسبة إلى خير البرية عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التحية ، والظاهر أن ذلك ليس بالنسبة إلى أعمالهن الصالحة التي عملنها في حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط بل يضاعف أجرهن عليها وعلى الأعمال الصالحة التي يعملنها بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.

وقال بعض الأجلة : إن هاتين المرتين إحداهما على الطاعة والأخرى على طلبهن رضاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة ، وجعل في البحر وغيره سبب التضعيف هذا الطلب وتلك لطاعة ، ولا يخفى أن ما ذكروه موهم لعدم التضعيف بالنسبة لما فعلوه من العمل الصالح بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال بعض المدققين : أراد من جعل سبب مضاعفة أجورهن ما ذكر التطبيق على لفظ الآية حيث جعل القنوت لله ولرسوله مع ما تلاه سببا ويدمج فيه أن مضاعفة العذاب إنما نشأت من أن النشوز مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلب ما يشق عليه ليس كالنشوز مع سائر الأزواج ولذلك اقتضى مضاعفة العذاب وكذلك طاعته وحسن التخلق معه والمعاشرة على عكس ذلك فهذا يؤكد ما قالوا من أن سبب تضعيف العذاب زيادة قبح الذنب منهن وفيه أن العكس يوجب العكس فتأمل.

وقال بعض المفسرين : العذاب الذي توعد به ضعفين هو عذاب الدنيا ثم عذاب الآخرة وكذلك الأجر فالمرتان إحداهما في الدنيا وثانيتهما في الأخرى ، ولا يخفى ضعفه وقرأ الجحدري والأسواري ويعقوب في رواية وكذا ابن عامر «ومن تقنت» بتاء التأنيث حملا على المعنى وقرأ السلمي وابن وثاب وحمزة والكسائي بياء من تحت في الأفعال الثلاثة على أن في «يؤتها» ضمير اسم الله تعالى ، وذكر أبو البقاء أن بعضهم قرأ «ومن تقنت» بالتاء من فوق حملا على المعنى «ويعمل» بالياء من تحت حملا على اللفظ فقال بعض النحويين : هذا ضعيف لأن التذكير أصل فلا يجعل تبعا

١٨٤

للتأنيث وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن وهو قوله تعالى : (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) [الأنعام : ١٣٩] انتهى فتذكر (وَأَعْتَدْنا لَها) في الجنة زيادة على أجرها المضاعف (رِزْقاً كَرِيماً) عظيم القدر رفيع الخطر مرضيا لصاحبه ، وقيل الرزق الكريم ما يسلم من كل آفة.

وجوز ابن عطية أن يكون في ذلك وعد دنياوي أي إن رزقها في الدنيا على الله تعالى وهو كريم من حيث هو حلال وقصد برضا من الله تعالى في نيله ، وهو كما ترى (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) ذهب جمع من الرجال إلى أن المعنى ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء أي من نساء عصركن أي إن كل واحدة منكن أفضل من كل واحدة منهن لما امتازت بشرف الزوجية لرسول الله وأمومة المؤمنين ـ فأحد ـ باق على كونه وصف مذكر إلا أن موصوفه محذوف ولا بدّ من اعتبار الحذف في جانب المشبه كما أشير إليه ، وقال الزمخشري : أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه ، والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة ، وقد استعمل بمعنى المتعدد أيضا في قوله تعالى : (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) [النساء : ١٥٢] لمكان (بَيْنَ) المقتضية للدخول على متعدد وحمل أحد على الجماعة على ما في الكشف ليطابق المشبه ، والمعنى على تفضيل نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نساء غيره لا النظر إلى تفضيل واحدة على واحدة من آحاد النساء فإن ذلك ليس مقصودا من هذا السياق ولا يعطيه ظاهر اللفظ.

وكون ذلك أبلغ لما يلزم عليه تفضيل جماعتهن على كل جماعة ولا يلزم ذلك تفضيل كل واحدة على كل واحدة من آحاد النساء لو سلم لكان إذا ساعده اللفظ والمقام ، واعترضه أيضا بعضهم بأنه يلزم عليه أن يكون كل واحدة من نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من فاطمة رضي الله تعالى عنها مع أنه ليس كذلك.

وأجيب عن هذا بأنه لا مانع من التزامه إلا أنه يلتزم كون الأفضلية من حيث أمومة المؤمنين والزوجية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا من سائر الحيثيات فلا يضر فيه كون فاطمة رضي الله تعالى عنها أفضل من كل واحدة منهن لبعض الحيثيات الأخر بل هي من بعض الحيثيات كحيثية البضعية أفضل من كل من الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، نعم أورد على ما في الكشاف أن أحد الموضوع في النفي العام همزته أصلية غير منقلبة عن الواحد وقد نص على ذلك أبو علي ، وخالف فيه الرضي فنقل عنه أن همزة أحد في كل مكان بدل من الواو ، والمشهور التفرقة بين الواقع في النفي العام والواقع في الإثبات بأن همزة الأول أصلية وهمزة الثاني منقلبة عن الواو. وفي العقد المنظوم في ألفاظ العموم للفاضل القرافي قد أشكل هذا على كثير من الفضلاء لأن اللفظين صورتهما واحدة ومعنى الوحدة يتناولهما والواو فيها أصلية فيلزم قطعا انقلاب ألف أحد مطلقا عنها وجعل ألف أحدهما منقلبا دون ألف الآخر تحكم ، وقد أطلعني الله تعالى على جوابه وهو أن أحد الذي لا يستعمل إلا في النفي معناه إنسان بإجماع أهل اللغة وأحد الذي يستعمل في الإثبات معناه الفرد من العدد فإذا تغاير مسماهما تغاير اشتقاقهما لأنه لا بدّ فيه من المناسبة بين اللفظ والمعنى ولا يكفي فيه أحدهما ، فإذا كان المقصود به الإنسان فهو الذي لا يستعمل إلا في النفي وهمزته أصلية ، وإن قصد به العدد ونصف الاثنين فهو الصالح للإثبات والنفي وألفه منقلبة عن واو ا ه ، ولا يخفى أنه إذا سلم الفرق المذكور ينبغي أن تكون الهمزة هنا أصلية ، وإلى أن همزة الواقع في النفي أصلية ذهب أبو حيان فقال : إن ما ذكره الزمخشري من قوله : ثم وضع في النفي العام إلخ غير صحيح لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن واحدا ينطلق على كل شيء اتصف بالوحدة وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل وذكر

١٨٥

النحويون أن مادته همزة وحاء ودال ومادة أحد بمعنى واحد أصله واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولا.

وذكر أن ما في قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] يحتمل أن يكون الذي للنفي العام ويحتمل أن يكون بمعنى واحد ، ويكون قد حذف معطوف أي بين واحد وواحد من رسله كما قال الشاعر :

فما كان بين الخير لو جاء سالما

أبو حجر إلا ليال قلائل

وقال الراغب : أحد يستعمل على ضربين في النفي لاستغراق جنس الناطقين ، ويتناول القليل والكثير على الاجتماع والانفراد نحو ما في الدار أحد أي لا واحد ولا اثنان فصاعدا لا مجتمعين ولا متفرقين ، وهذا المعنى لا يمكن في الإثبات لأن نفي المتضادين يصح ، ولا يصح إثباتهما ، فلو قيل في الدار أحد لكان إثبات أحد منفرد مع إثبات ما فوق الواحد مجتمعين ومتفرقين وهو بين الإحالة ولتناوله ما فوق الواحد صح نحو (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧] وفي الإثبات على ثلاثة أوجه ، استعماله في الواحد المضموم إلى العشرات كأحد عشر وأحد وعشرين ، واستعماله مضافا أو مضافا إليه بمعنى الأول نحو (أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي) [يوسف : ٤١] وقولهم يوم الأحد ، واستعماله وصفا وهذا لا يصح إلا في وصفه تعالى شأنه ، أما أصله ـ أعني وحد ـ فقد يستعمل في غيره سبحانه كقول النابغة :

كأن رحلي وقد زال النهار بنا

بذي الجليل على مستأنس وحد

انتهى.

وهو محتمل لدعوى انقلاب همزته عن واو مطلقا ولدعوى انقلابها عنها في الاستعمال الأخير.

ولا يخفى على المنصف أن كون المعنى في الآية ما ذكره الزمخشري أظهر ، وتفضيل كل واحدة من نسائهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على كل واحدة واحدة من سائر النساء لا يلزم أن يكون لهذه الآية بل هو لدليل آخر إما عقلي أو نص مثل قوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦] وقيل يجوز أن يكون ذلك لها فإنها تفيد بحسب عرف الاستعمال تفضيل كل منهن على سائر النساء لأن فضل الجماعة على الجماعة يكون غالبا لفضل كل منها.

(إِنِ اتَّقَيْتُنَ) شرط لنفي المثلية وفضلهن على النساء وجوابه محذوف دل عليه المذكور والاتقاء بمعناه المعروف في لسان الشرع ، والمفعول محذوف أي إن اتقيتن مخالفة حكم الله تعالى ورضا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد إن دمتن على اتقاء ذلك ومثله شائع أو هو على ظاهره والمراد به التهييج بجعل طلب الدنيا والميل إلى ما تميل إليه النساء لبعده من مقامهن بمنزلة الخروج من التقوى أو شرط جوابه قوله تعالى :

(فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) والاتقاء بمعناه الشرعي أيضا ، وفي البحر أنه بمعنى الاستقبال أي إن استقبلتن أحدا فلا تخضعن ، وهو بهذا المعنى معروف في اللغة قال النابغة :

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه

فتناولته واتقتنا باليد

أي استقبلتنا باليد ، ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن إذ لم يعلق فضلهن على التقوى ولا علق نهيهن عن الخضوع بها إذ هن متقيات لله تعالى في أنفسهن ، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى ، وفيه أن اتقى بمعنى استقبل وإن كان صحيحا لغة ، وقد ورد في القرآن كثيرا كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) [الزمر : ٢٤] إلا أنه لا يتأتى هاهنا لأنه لا يستعمل في ذلك المعنى إلا مع المتعلق الذي تحصل به الوقاية ، كقوله سبحانه : (بِوَجْهِهِ) وقول النابغة باليد وما استدل به أمره سهل ، وظاهر عبارة الكشاف اختيار كون (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) شرطا جوابه فلا تخضعن ، وفسر (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) بإن أردتن التقوى وإن كنتن متقيات مشيرا بذلك إلى أنه لا بدّ من

١٨٦

تجوز في الكلام لأن الواقع أن المخاطبات متقيات فإما أن يكون المقصود الأولى المبالغة في النهي فيفسر بأن أردتن التقوى ، وإما أن يكون المقصود التهييج والإلهاب ، فيفسر بأن كنتن متقيات فليس في ذلك جمع بين الحقيقة والمجاز كما توهم ، وقد قرر ذلك في الكشف ، ومعنى لا تخضعن بالقول لا تجبن بقولكن خاضعا أي لينا خنثا على سنن كلام المريبات والمومسات ، وحاصله لا تلنّ الكلام ولا ترققنه ، وهذا على ما قيل في غير مخاطبة الزوج ونحوه كخاطبة الأجانب وإن كن محرمات عليهم على التأبيد.

روي عن بعض أمهات المؤمنين أنها كانت تضع يدها على فمها إذا كلمت أجنبيا تغير صوتها بذلك خوفا من أن يسمع رخيما لينا ، وعد إغلاظ القول لغير الزوج من جملة محاسن خصال النساء جاهلية وإسلاما ، كما عد منها بخلهن بالمال وجبنهن ، وما وقع في الشعر من مدح العشيقة برخامة الصوت وحسن الحديث ولين الكلام فمن باب السفه كما لا يخفى. وعن الحسن أن المعنى لا تكلمن بالرفث ، وهو كما ترى (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي فجور وزنا ، وبذلك فسره ابن عباس وأنشد قول الأعشى :

حافظ للفرج راض بالتقى

ليس ممن قلبه فيه مرض

والمراد نية أو شهوة فجور وزنا ، وعن قتادة تفسيره بالنفاق ، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ، أنه قال : المرض مرضان فمرض زنا ومرض نفاق ، ونصب (يطمع) في جواب النهي وقرأ أبان ابن عثمان وابن هرمز «فيطمع» بالجزم وكسر العين لالتقاء الساكنين وهو عطف على محل فعل النهي على أنه نهي لمريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول كأنه قيل : فلا تخضعن بالقول فلا يطمع الذي في قلبه مرض ، وقال أبو عمرو الداني : قرأ الأعرج وعيسى «فيطمع» بفتح الياء وكسر الميم ، ونقلها ابن خالويه عن أبي السمال قال : وقد روي ذلك عن ابن محيصن ، وذكر أن الأعرج وهو ابن هرمز قرأ «فيطمع» بضم الياء وفتح العين وكسر الميم أي فيطمع هو أي الخضوع بالقول. و (الَّذِي) مفعول أو الذي فاعل والمفعول محذوف أي فيطمع الذي في قلبه مرض نفسه (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) حسنا بعيدا عن الريبة غير مطمع لأحد ، وقال الكلبي : أي صحيحا بلا هجر ولا تمريض ، وقال الضحّاك : عنيفا ، وقيل أي قولا أذن لكم فيه ، وقيل : ذكر الله تعالى وما يحتاج إليه من الكلام (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) من قر يقر من باب علم أصله اقررن فحذفت الراء الأولى وألقيت فتحتها على ما قبلها وحذفت الهمزة للاستغناء عنها بتحرك القاف. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان وجها آخر قال : قار يقار إذا اجتمع ومنه القارة لاجتماعها ، ألا ترى إلى قول عضل والديش : اجتمعوا فكونوا قارة فالمعنى واجمعن أنفسكن في البيوت.

وقرأ الأكثر (وَقَرْنَ) بكسر القاف من وقر يقر وقارا إذا سكن وثبت ، وأصله أو قرن ففعل به ما فعل بعدن من وعد أو من قر يقر المضاعف من باب ضرب وأصله اقررن حذفت الراء الأولى وألقيت كسرتها إلى القاف وحذفت الهمزة للاستغناء عنها. وقال مكي وأبو علي : أبدلت الراء التي هي عين الفعل ياء كراهة التضعيف ثم نقلت حركتها إلى القاف ثم حذفت لسكونها وسكون الراء بعدها وسقطت الهمزة لتحرك القاف وهذا غاية في التمحل ، وفي البحر ان قررت وقررت بالفتح والكسر كلاهما من القرار في المكان بمعنى الثبوت فيه وقد حكى ذلك أبو عبيدة والزجاج وغيرهما ، وأنكر قوم منهم المازني مجيء قررت في المكان بالكسر أقر بالفتح وإنما جاء قرت عينه تقر بالكسر في الماضي والفتح في المضارع والمثبت مقدم على النافي.

وقرأ ابن أبي عبلة «واقررن» بألف الوصل وكسر الراء الأولى والمراد على جميع القراءات أمرهن رضي الله تعالى عنهن بملازمة البيوت وهو أمر مطلوب من سائر النساء. أخرج الترمذي والبزار عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن

١٨٧

المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها»

وأخرج البزار عن أنس قال جئن النساء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلن : يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى فهل لنا عمل ندرك به فضل المجاهدين في سبيل الله تعالى فقال عليه الصلاة والسلام : «من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى» وقد يحرم عليهن الخروج بل قد يكون كبيرة كخروجهن لزيارة القبور إذا عظمت مفسدته وخروجهن ولو إلى المسجد وقد استعطرن وتزين إذا تحققت الفتنة أما إذا ظنت فهو حرام غير كبيرة ، وما يجوز من الخروج كالخروج للحج وزيارة الوالدين وعيادة المرضى ، وتعزية الأموات من الأقارب ونحو ذلك ، فإنما يجوز بشروط مذكورة في محلها. وظاهر إضافة البيوت إلى ضمير النساء المطهرات إنها كانت ملكهن وقد صرح بذلك الحافظ غلام محمد الأسلمي نور الله تعالى ضريحه في التحفة الاثني عشرية ، وذكر فيها أنه عليه الصلاة والسلام بنى كل حجرة لمن سكن فيها من الأزواج وكانت كل واحدة منهن تتصرف بالحجرة الساكنة هي فيها تصرف المالك في ملكه بحضوره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ذكر الفقهاء أن من بنى بيتا لزوجته وأقبضه إياها كان كمن وهب زوجته بيتا وسلمه إليها ، فيكون البيت ملكا لها ويشهد لدعوى أن الحجرة التي كانت تسكنها عائشة رضي الله تعالى عنها كانت ملكا لها غير الإضافة في (بُيُوتِكُنَ) الداخل فيه حجرتها استئذان عمر رضي الله تعالى عنه لدفنه فيها منها بمحضر من الصحابة ، وعدم إنكار أحد منهم حتى علي كرّم الله تعالى وجهه ، واستئذان الحسن رضي الله تعالى عنه منها لذلك أيضا الثابت عند أهل السنّة والشيعة ، كما ذكر في الفصول المهمة في معرفة الأئمة وغيره من كتبهم فإن تلك الحجرة لو كانت لبيت المال لحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» لاستأذن رضي الله تعالى عنه من الوزغ مروان فإنه إذ ذاك كان حاكم المدينة المنوّرة والمتصرف في بيت المال ، ولو كانت للورثة بناء على زعم الشيعة من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يورث كغيره لزم الاستئذان من سائر الأزواج أيضا لتعلق حقهن فيها على زعمهم بل يلزم الاستئذان أيضا من عصبته عليه الصلاة والسلام المستحقين لما يبقى بعد النصف والثمن إذا قلنا بتوريثهم فحيث لم يستأذن رضي الله تعالى عنه إلا منها علم أنها ملكها وحدها.

والقول بأنه علم رضا الجميع سواها رضي الله تعالى عنها فاستأذنها لذلك لا يقوم لهم حجة ، ولهم في هذا الباب أكاذيب لا يعول عليها ولا يلتفت أريب إليها ، منها أن عائشة رضي الله تعالى عنها أذنت للحسن رضي الله تعالى عنه حين استأذنها في الدفن في الحجرة المباركة ، ثم ندمت بعد وفاته رضي الله تعالى عنه وركبت على بغلة لها وأتت المسجد ومنعت الدفن ورمت السهام على جنازته الشريفة الطاهرة وادعت الميراث.

وأنشأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول :

تجملت تبلغت وإن عشت تفيلت

لك التسع من الثمن فكيف الكل ملكت

وركاكة هذا الشعر تنادي بكذب نسبته إلى ذلك الحبر رضي الله تعالى عنه ، وليت شعري أي حاجة لها إلى الركوب ومسكنها كان تلك الحجرة المباركة فلو كانت بصدد المنع لأغلقت بابها ثم إنها رضي الله تعالى عنها كيف يظن بها ولها من العقل الحظ الأوفر بالنسبة إلى سائر أخواتها أمهات المؤمنين تدعي الميراث وهي وأبوها رضي الله تعالى عنهما رويا بمحضر الصحابة الذين لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» هذا ، ويجوز أن تكون إضافة البيوت إلى ضمير النساء المطهرات باعتبار أنهن ساكنات فيها قائمات بمصالحها قيمات عليها ، واستعمال الخاصة والعامة شائع بإضافة البيوت إلى الأزواج بهذا الاعتبار. والاستئذان يجوز أن يكون لانتقال كل بيت إلى ملك الساكنة فيه بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة الخليفة ولي بيت المال لما رأى من المصلحة في تخصيص كل منهن

١٨٨

بمسكنه وتركه لها على نحو الإقطاع من بيت المال ، ومما يستأنس به لكون الإضافة إلى ضميرهن بهذا الاعتبار لا لكون البيوت ملكهن إضافة البيت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غير ما أثر ، بل سيأتي إن شاء الله تعالى إضافة البيوت إليه عليه الصلاة والسلام وذلك في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) [الأحزاب : ٥٣] الآية وهي أحق بأن تكون للملك فليراجع هذا المطلب وليتأمل (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) التبرج على ما روي عن مجاهد وقتادة وابن أبي نجيح المشي بتبختر وتكسر وتغنج ، وعن مقاتل أن تلقي المرأة خمارها على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها ، وقال المبرد : أن تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره ، قال الليث : ويقال تبرجت المرأة إذا أبدت محاسنها من وجهها وجسدها ويرى مع ذلك من عينها حسن نظر ، وقال أبو عبيدة : أن تخرج من محاسنها ما تستدعي به شهوة للرجال ، وأصله على ما في البحر من البرج وهو سعة العين وحسنها ، ويقال طعنة برجاء أي واسعة وفي أسنانه برج إذا تفرق ما بينها وقيل : هو البرج بمعنى القصر ، ومعنى تبرجت المرأة ظهرت من برجها أي قصرها ، وجعل الراغب إطلاق البرج على سعة العين وحسنها للتشبيه بالبرج في الأمرين ، ولا يخفى أنه لو فسر التبرج هنا بالظهور من البرج تكون هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها فالأولى أن لا يفسر به ، وتبرج مصدر تشبيهي مثل له صوت صوت حمار أي لا تبرجن مثل تبرج الجاهلية الأولى ، وقيل في الكلام إضمار مضافين أي تبرج نساء أيام الجاهلية ، وإضافة نساء على معنى في والمراد بالجاهلية الأولى على ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس الجاهلية ما بين نوح وإدريس عليهما‌السلام وكانت ألف سنة ، قال : وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبال ، وكان رجال الجبال صباحا وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل ورجاله على العكس فاتخذ أهل السهل عيدا يجتمعون إليه في السنة ، فتبرج النساء للرجال والرجال لهن ، وأن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهن فنزلوا معهن فظهرت الفاحشة فيهن ، وفي رواية أن المرأة إذ ذاك تجتمع بين زوج وعشيق.

وأخرج ابن جرير عن الحكم بن عيينة قال : كان بين آدم ونوح عليهما‌السلام ثمانمائة سنة فكان نساؤهم من أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان وكانت المرأة تراود الرجل عن نفسه وهي الجاهلية الأولى. وروي مثله عن عكرمة ، وقال الكلبي هي ما بين نوح وإبراهيم عليهما‌السلام ، وقال مقاتل : كانت زمن نمروذ وكان فيه بغايا يلبسن أرق الدروع ويمشين في الطرق ، وروي عنه أيضا أن الجاهلية الأولى زمن إبراهيم عليه‌السلام والثانية زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث ، وقال أبو العالية : كانت الأولى زمن داود وسليمان عليهما‌السلام وكان للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين يظهر منه الأعكان والسوأتان.

وقال المبرد : كانت المرأة تجمع بين زوجها وخدنها للزوج نصفها الأسفل وللخدن نصفها الأعلى يتمتع به في التقبيل والترشف ، وقيل : ما بين موسى وعيسى عليهما‌السلام ، وقال الشعبي : ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام قال الزجاج : وهو الأشبه لأنهم هم الجاهلية المعروفة كانوا يتخذون البغايا ، وإنما قيل (الْأُولى) لأنه يقال لكل متقدم ومتقدمة أول وأولى ، وتأويله أنهم تقدموا على أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروي عن ابن عباس ما هو نص في أن الأولى هنا مقابل الأخرى ، وقال الزمخشري : يجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام فكأن المعنى ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر.

١٨٩

وقال ابن عطية : الذي يظهر عندي أن الجاهلية الأولى إشارة إلى الجاهلية التي تخصهن فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر وقلة الغيرة ونحو ذلك. وفي حديث أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي ذر وكان قد عير رجلا أمه أعجمية فشكاه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية ، وفسرها ابن الأثير بالحالة التي عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر وغير ذلك والله تعالى أعلم ، وتمسك الرافضة في طعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وحاشاها من كل طعن بخروجها من المدينة إلى مكة ومنها إلى البصرة وهناك وقعت وقعة الجمل بهذه الآية قالوا : إن الله تعالى أمر نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي منهن بالسكون في البيوت ونهاهن عن الخروج وهي بذلك قد خالفت أمر الله تعالى ونهيه عزوجل. وأجيب بأن الأمر بالاستقرار في البيوت والنهي عن الخروج ليس مطلقا وإلا لما أخرجهن صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول الآية للحج والعمرة ولما ذهب بهن في الغزوات ولما رخص لهن لزيارة الوالدين وعيادة المرضى وتعزية الأقارب وقد وقع كل ذلك كما تشهد به الأخبار ، وقد صح أنهن كلهن كن يحججن بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا سودة بنت زمعة ، وفي رواية عن أحمد عن أبي هريرة إلا زينب بنت جحش. وسودة ولم ينكر عليهن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم الأمير كرّم الله تعالى وجهه وغيره ، وقد جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال لهن بعد نزول الآية : «أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن» فعلم أن المراد الأمر بالاستقرار الذي يحصل به وقارهن وامتيازهن على سائر النساء بأن يلازمن البيوت في أغلب أوقاتهن ولا يكن خراجات ولاجات طوافات في الطرق والأسواق وبيوت الناس ، وهذا لا ينافي خروجهن للحج أو لما فيه مصلحة دينية مع التستر وعدم الابتذال ، وعائشة رضي الله تعالى عنها ، إنما خرجت من بيتها إلى مكة للحج وخرجت معها لذلك أيضا أم سلمة رضي الله تعالى عنها وهي وكذا صفية مقبولة عند الشيعة لكنها لما سمعت بقتل عثمان رضي الله تعالى عنه وانحياز قتلته إلى علي كرّم الله تعالى وجهه حزنت حزنا شديدا واستشعرت اختلال أمر المسلمين وحصول الفساد والفتنة فيما بينهم ، وبينما هي كذلك جاءها طلحة والزبير ونعمان بن بشير وكعب بن عجرة في آخرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم هاربين من المدينة خائفين من قتلة عثمان رضي الله تعالى عنهم لما أنهم أظهروا المباهاة بفعلهم القبيح ، وأعلنوا بسب عثمان فضاقت قلوب أولئك الكرام وجعلوا يستقبحون ما وقع ويشنعون على أولئك السفلة ويلومونهم على ذلك الفعل الأشنع فصح عندهم عزمهم على إلحاقهم بعثمان رضي الله تعالى عنه وعلموا أن لا قدرة لهم على منعهم إذا هموا بذلك فخرجوا إلى مكة ولاذوا بأم المؤمنين وأخبروها الخبر فقالت لهم : أرى الصلاح أن لا ترجعوا إلى المدينة ما دام أولئك السفلة فيها محيطين بمجلس الأمير علي كرّم الله تعالى وجهه غير قادر على القصاص منهم أو طردهم فأقيموا ببلد تأمنون فيه وانتظروا انتظام أمور أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه وقوة شوكته واسعوا في تفرقهم عنه وإعانته على الانتقام منهم ليكونوا عبرة لمن بعدهم فارتضوا ذلك واستحسنوه فاختاروا البصرة لما أنها كانت إذ ذاك مجمعا لجنود المسلمين ورجحوها على غيرها وألحوا على أمهم رضي الله تعالى عنها أن تكون معهم إلى أن ترتفع الفتنة ويحصل الأمن وتنتظم أمور الخلافة وأرادوا بذلك زيادة احترامهم وقوة أمنيتهم لما أنها أم المؤمنين والزوج المحترمة غاية الاحترام لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنها كانت أحب أزواجه إليه وأكثرهن قبولا عنده وبنت خليفته الأول رضي الله تعالى عنه فسارت معهم بقصد الإصلاح وانتظام الأمور وحفظ عدة نفوس من كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم وكان معها ابن أختها عبد الله بن الزبير وغيره من أبناء أخواتها أم كلثوم زوج طلحة وأسماء زوج الزبير بل كل من معها بمنزلة الأبناء في المحرمية وكانت في هودج من حديد.

١٩٠

فبلغ الأمير كرّم الله تعالى وجهه خبر التوجه إلى البصرة أولئك القتلة السفلة على غير وجهه وحملوه على أن يخرج إليهم ويعاقبهم ، وأشار عليه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم بعدم الخروج واللبث إلى أن يتضح الحال فأبى رضي الله تعالى عنه ليقضي الله أمرا كان مفعولا فخرج كرّم الله تعالى وجهه ومعه أولئك الأشرار أهل الفتنة فلما وصلوا قريبا من البصرة أرسلوا القعقاع إلى أم المؤمنين ، وطلحة والزبير ليتعرف مقاصدهم ويعرضها على الأمير رضي الله تعالى عنه وكرّم الله وجهه فجاء القعقاع إلى أم المؤمنين فقال : يا أماه ما أشخصك وأقدمك هذه البلدة؟ فقالت : أي بني الإصلاح بين الناس ثم بعثت إلى طلحة والزبير فقال القعقاع : أخبراني بوجه الصلاح قالا : إقامة الحد على قتلة عثمان وتطييب قلوب أوليائه فيكون ذلك سببا لأمننا وعبرة لمن بعدهم فقال القعقاع : هذا لا يكون إلا بعد اتفاق كلمة المسلمين وسكون الفتنة فعليكما بالمسالمة في هذه الساعة فقالا : أصبت وأحسنت فرجع إلى الأمير كرّم الله تعالى وجهه فأخبره بذلك فسر به واستبشر وأشرف القوم على الرجوع ولبثوا ثلاثة أيام لا يشكون في الصلح فلما غشيتهم ليلة اليوم الرابع وقررت الرسل والوسائط في البين أن يظهروا المصالحة صبيحة هذه الليلة ويلاقي الأمير كرّم الله تعالى وجهه طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما وأولئك القتلة ليسوا حاضرين معه وتحققوا ذلك ثقل عليهم واضطربوا وضاقت عليهم الأرض بما رحبت فتشاوروا فيما بينهم أن يغيروا على من كان مع عائشة من المسلمين ليظنوا الغدر من الأمير كرّم الله تعالى وجهه فيهجموا على عسكره فيظنوا بهم أنهم هم الذين غدروا فينشب القتال ففعلوا ذلك فهجم من كان مع عائشة على عسكر الأمير وصرخ أولئك القتلة بالغدر فالتحم القتال وركب الأمير متعجبا فرأى الوطيس قد حمي والرجال قد سبحت بالدماء فلم يسعه رضي لله تعالى عنه إلا الاشتغال بالحرب والطعن والضرب ، وقد نقل الواقعة كما سمعت الطبري وجماهير ثقات المؤرخين ورووها كذلك من طرق متعددة عن الحسن وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس ، وما وراء ذلك مما رواه الشيعة عن أسلافهم قتلة عثمان مما لا يلتفت له ، ويدل على تغلب القتلة وقوة شوكتهم ما في نهج البلاغة المقبول عند الشيعة من أنه قال للأمير كرّم الله تعالى وجهه بعض أصحابه : لو عاقبت قوما أجلبوا على عثمان فقال : يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف لي بهم والمجلبون على شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم وها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم والتفت إليهم أعرابكم وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا.

فحيث كان الخروج أولا للحج ومعها من محارمها من معها ولم يكن الأمر بالاستقرار في البيوت يتضمن النهي عن مثله لم يتوجه الطعن به أصلا ، وكذا المسير إلى البصرة لذلك القصد فإنه ليس أدون من سفر حج النفل ؛ وما ترتب عليه لم يكن في حسابها ولم يمر ببالها ترتبه عليه ، ولهذا لما وقع ما وقع وترتب ما ترتب ندمت غاية الندم ، فقد روي أنها كلما كانت تذكر يوم الجمل تبكي حتى يبتل معجرها ، بل أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي شيبة وابن سعد عن مسروق قال : كانت عائشة رضي الله تعالى عنها إذا قرأت (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) بكت حتى تبل خمارها وما ذاك إلا لأن قراءتها تذكرها الواقعة التي قتل فيها كثير من المسلمين ، وهذا كما أن الأمير كرّم الله تعالى وجهه أحزنه ذلك ، فقد صح أنه رضي الله تعالى عنه لما وقع الانهزام على من مع أم المؤمنين وقتل من قتل من الجمعين طاف في مقتل القتلى فكان يضرب على فخذيه ويقول : يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، وليس بكاؤها عند قراءة الآية لعلمها بأنها أخطأت في فهم معناها أو أنها نسيتها يوم خرجت كما توهم ، وقال في ذلك مستهزئا كاظم الأزدي البغدادي من متأخري شعراء الرافضة من قصيدة طويلة كفر بعدة مواضع فيها :

حفظت أربعين ألف حديث

ومن الذكر آية تنساها

١٩١

نعم قد ينضم لما ذكرناه في سبب البكاء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما لأزواجه المطهرات وفيهن عائشة «كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب» وفي بعض الروايات الغير المعتبرة عند أهل السنّة بزيادة «فإياك أن تكوني يا حميراء» ولم تكن سألت قبل المسير عن الحوأب هل هو واقع في طريقها أم لا حتى نبحتها في أثناء المسير كلاب عند ماء فقالت لمحمد بن طلحة : ما اسم هذا الماء؟ فقال : يقولون له حوأب فقالت ارجعوني وذكرت الحديث وامتنعت عن المسير وقصدت الرجوع فلم يوافقها أكثر من معها ووقع التشاجر حتى شهد مروان بن الحكم مع نحو من ثمانين رجلا من دهاقين تلك الناحية بأن هذا الماء ماء آخر وليس هو حوأبا فمضت لشأنها بسبب ذلك وتعذر الرجوع ووقوع الأمر ، فكأنها رضي الله تعالى عنها رأت سكوتها عن السؤال وتحقيق الحال قبل المسير تقصيرا منها وذنبا بالنسبة إلى مقامها فبكت له. ولما تقدم وما زعمته الشيعة من أنها رضي الله تعالى عنها كانت هي التي تحرض الناس على قتل عثمان وتقول : اقتلوا نعثلا فقد فجره تشبهه بيهودي يدعى نعثلا حتى إذا قتل وبايع الناس عليا قالت : ما أبالي أن تقع السماء على الأرض قتل والله مظلوما وأنا طالبة بدمه فذكرها عبيد بما كانت تقول فقالت : قد والله قلت وقال الناس فأنشد :

فمنك البداء ومنك الغير

ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام

وقلت لنا إنه قد فجر

كذب لا أصل له وهو من مفتريات ابن قتيبة وابن أعثم الكوفي والسمساطي وكانوا مشهورين بالكذب والافتراء ، ومثل ذلك في الكذب زعمهم أنها رضي الله تعالى عنها ما خرجت وسارت إلى البصرة إلا لبغض علي كرّم الله تعالى وجهه فإنها لم تزل تروي مناقبه وفضائله ، ومن ذلك ما رواه الديلمي أنها قالت : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبّ عليّ عبادة» وقالت بعد وقوع ما وقع : والله لم يكن بيني وبين علي إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها.

وقد أكرمها علي كرّم الله تعالى وجهه وأحسن مثواها وبالغ في احترامها وردها إلى المدينة ومعها جماعة من نساء أعيان البصرة عزيزة كريمة ، وهذا مما يرد به على الرافضة الزاعمين كفرها وحاشاها بما فعلت ، وما روي عن الأحنف بن قيس من أن عليّا كرّم الله تعالى وجهه لما ظهر على أهل الجمل أرسل إلى عائشة أن ارجعي إلى المدينة فأبت فأعاد إليها الرسول وأمره أن يقول لها : والله لترجعن أو لأبعثن إليك نسوة من بكر بن وائل معهن شفار حداد يأخذنك بها فلما رأت ذلك خرجت لا يعول عليه وإن قيل : إنه رواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف لمخالفته لما رواه الأوثق حتى كاد يبلغ مبلغ التواتر ، هذا ولا يعكر على القول بجواز الخروج للحج ونحوه ما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن سيرين قال : ثبت أنه قيل لسودة رضي الله تعالى عنها زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لك لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت : قد حججت واعتمرت وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي فو الله لا أخرج من بيتي حتى أموت قال : فو الله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها لأن ذلك مبني على اجتهادها كما أن خروج الأخوات مبني على اجتهادهن ، نعم أخرج أحمد عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لنسائه عام حجة الوداع : «هذه ثم لزوم الحصر» قال : فكان كلهن يحججن إلا زينب بنت جحش وسودة بنت زمعة وكانتا تقولان : والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام : هذه إلخ أنكن لا تعدن تخرجن بعد هذه الحجة من بيوتكن وتلزمن الحصر وهو جمع حصير الذي يبسط في البيوت من القصب وتضم الصاد وتسكن تخفيفا وهو في معنى النهي عن الخروج للحج فلا يتم ما ذكر أولا ويشكل خروج سائر الأزواج لذلك. وأجيب بأن الخبر ليس نصا في النهي عن الخروج للحج بعد تلك الحجة وإلا لما خرج له سائر الأزواج الطاهرات من غير نكير

١٩٢

أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم عليهن بل جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه أرسلهن للحج في عهده وجعل معهن عثمان وعبد الرحمن بن عوف وقال لهما : إنكما ولدان باران لهن فليكن أحدكما قدام مراكبهن والآخر خلفها ولم ينكر أحد فكان إجماعا سكوتيا على الجواز فكأن زينب وسودة فهما من الخبر قضيت هذه الحجة أو أبيحت لكن هذه الحجة بخصوصهما ثم الواجب بعدها عليكن لزوم البيوت فلم يحجا بعد لذلك ، وغيرهما فهم منه المناسب لكن أو اللائق بكن هذه الحجة أي جنسها أو هذه الحالة من السفر للحج أو لأمر ديني مهم ثم بعد الفراغ المناسب أو اللائق لزوم البيوت فيكون مفاده إباحة الخروج لذلك ، ومن أنصف لا يكاد يقول بإفادة الخبر الأمر بلزوم البيوت والنهي عن الخروج منها مطلقا بعد تلك الحجة بخصوصها فإن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مرض في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها وبقي مريضا فيه حتى توفي عليه الصلاة والسلام ولا يكاد يشك أحد في خروج سائرهن لعيادته أو يتصور استقرارهن في بيوتهن غير بالين شوقهن برؤية طلعته الشريفة حتى توفيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن مثل ذلك لا يفعله أقل النساء حبا لأزواجهن الذين لا قدر لهم فكيف يفعله الأزواج الطاهرات مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو هو وحبهن له حبهن. ثم إن الجواب المذكور إنما يحتاج إليه بعد تسليم صحة الخبر ويحتاج الجزم بصحته إلى تنقير ومراجعة فلينقر وليراجع والله تعالى أعلم.

(وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ) أمرن بهما لإنافتهما على غيرهما وكونهما أساس العبادات البدنية والمالية.

(وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي في كل ما تأتين وتذرن لا سيما فيما أمرتن به ونهيتن عنه.

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) استئناف بياني مفيد تعليل أمرهن ونهيهن ، والرجس في الأصل الشيء القذر وأريد به هنا عند كثير الذنب مجازا ، وقال السدي : الإثم وقال الزجاج : الفسق وقال ابن زيد : الشيطان ، وقال الحسن : الشرك ، وقيل : الشك ، وقيل : البخل والطمع ، وقيل : الأهواء والبدع ، وقيل : إن الرجس يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص ، والمراد به هنا ما يعم كل ذلك ، ولا يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال من الضعف ، وأل فيه للجنس أو للاستغراق ، والمراد بالتطهير قيل التحلية بالتقوى ، والمعنى على ما قيل إنما يريد الله ليذهب عنكم الذنوب والمعاصي فيما نهاكم ويحليكم بالتقوى تحلية بليغة فيما أمركم ، وجوز أن يراد به الصون ، والمعنى إنما يريد سبحانه ليذهب عنكم الرجس ويصونكم من المعاصي صونا بليغا فيما أمر ونهى جل شأنه. واختلف في لام (لِيُذْهِبَ) فقيل زائدة وما بعدها في موضع المفعول به ليريد فكأنه قيل : يريد الله إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم ، وقيل : للتعليل ثم اختلف هؤلاء فقيل المفعول محذوف أي إنما يريد الله أمركم ونهيكم ليذهب أو إنما يريد منكم ما يريد ليذهب أو نحو ذلك ، وقال الخليل وسيبويه ومن تابعهما : الفعل في ذلك مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء واللام وما بعدها خبر أي إنما إرادة الله تعالى للإذهاب على حد ما قيل في ـ تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ـ فلا مفعول للفعل ، وقال الطبرسي : اللام متعلق بمحذوف تقديره وإرادته ليذهب وهو كما ترى ، وهذا الذي ذكروه جار في قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء : ٢٦] (أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام : ٧١] وقول الشاعر :

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

تمثل لي ليلى بكل مكان

ونصب (أَهْلَ) على النداء ، وجوز أن يكون على المدح فيقدر أمدح أو أعني ، وأن يكون على الاختصاص وهو قليل في المخاطب ومنه بك الله نرجو الفضل ، وأكثر ما يكون في المتكلم كقوله : نحن بنات طارق نمشي على النمارق.

وأل في البيت للعهد ، وقيل : عوض عن المضاف إليه أي بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والظاهر أن المراد به بيت الطين

١٩٣

والخشب لا بيت القرابة والنسب وهو بيت السكنى لا المسجد النبوي كما قيل ، وحينئذ فالمراد بأهله نساؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم المطهرات للقرائن الدالة على ذلك من الآيات السابقة واللاحقة مع أنه عليه الصلاة والسلام ليس له بيت يسكنه سوى سكناهن ، وروى ذلك غير واحد ، أخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) إلخ في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، وأخرج ابن مردويه من طريق ابن جبير عنه ذلك بدون لفظ خاصة ، وقال عكرمة من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عكرمة أنه قال في الآية : ليس بالذي تذهبون إليه إنما هو نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروى ابن جرير أيضا أن عكرمة كان ينادي في السوق أن قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) نزل في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرج ابن سعد عن عروة (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) قال : يعني أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوحيد البيت لأن بيوت الأزواج المطهرات باعتبار الإضافة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت واحد وجمعه فيما سبق ولحق باعتبار الإضافة إلى الأزواج المطهرات اللاتي كن متعددات وجمعه في قوله سبحانه الآتي إن شاء الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) [الأحزاب : ٥٣] دفعا لتوهم إرادة بيت زينب لو أفرد من حيث أن سبب النزول أمر وقع فيه كما ستطلع عليه إن شاء الله تعالى ، وأورد ضمير جمع المذكر في (عَنْكُمُ) و (يُطَهِّرَكُمْ) رعاية للفظ الأهل والعرب كثيرا ما يستعملون صيغ المذكر في مثل ذلك رعاية للفظ وهذا كقوله تعالى خطابا لسارة : امرأة الخليل عليهما‌السلام (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود : ٧٣] ومنه على ما قيل قوله سبحانه : (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) خطابا من موسى عليه‌السلام لامرأته ولعل اعتبار التذكير هنا أدخل في التعظيم ، وقيل : المراد هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونساؤه المطهرات رضي الله تعالى عنهن وضمير جمع المذكر لتغليبه عليه الصلاة والسلام عليهن. وقيل : المراد بالبيت بيت النسب ولذا أفرد ولم يجمع كما في السابق واللاحق.

فقد أخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما فذلك قوله تعالى : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٢٧]. (وَأَصْحابُ الشِّمالِ) [الواقعة : ٤١] فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا فذلك قوله تعالى (١) : (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) [الواقعة : ٩ ، ١٠] فأنا من السابقين وأنا خير السابقين ثم جعل إلا ثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة وذلك قوله تعالى : (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله تعالى ولا فخر ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) أنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب» فإن المتبادر من البيت الذي هو قسم من القبيلة البيت النسبي ، واختلف في المراد بأهله فذهب الثعلبي إلى أن المراد بهم جميع بني هاشم ذكورهم وإناثهم ، والظاهر أنه أراد مؤمني بني هاشم وهذا هو المراد بالآل عند الحنفية ، وقال بعض الشافعية : المراد بهم آله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين هم مؤمنو بني هاشم والمطلب ، وذكر الراغب أن أهل البيت تعورف في أسرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطلقا وأسرة الرجل على ما في القاموس رهطه أي قومه وقبيلته الأدنون ، وقال في موضع آخر : صار أهل البيت

__________________

(١) قوله : وأصحاب المشأمة إلخ كذا بخطه وفيه حذف صدر الآية وهو الثلث الأول ا ه.

١٩٤

متعارفا في إله عليه الصلاة والسلام ، وصح عز زيد بن أرقم في حديث أخرجه مسلم أنه قيل له : من أهل بيته نساؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : لا ايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي آخر أخرجه هو أيضا مبين هؤلاء الذين حرموا الصدقة أنه قال : هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس ، وقال بعض الشيعة : أهل البيت سواء أريد به البيت المدر والخشب أم بيت القرابة والنسب عام ، أما عمومه على الثاني فظاهر ، وأما على الأول فلأنه يشمل الإماء والخدم فإن البيت المدري يسكنه هؤلاء أيضا وقد صح ما يدل على أن العموم غير مراد.

أخرج الترمذي والحاكم وصححاه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت في بيتي نزلت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين فجللهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكساء كان عليه ثم قال : هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ثلاث مرات.

وفي بعض آخر أنه عليه الصلاة والسلام ألقى عليهم كساء فدكيا ثم وضع يده عليهم ثم قال : اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وفي لفظ آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

وجاء في رواية أخرجها الطبراني عن أم سلمة أنها قالت : فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يدي وقال : إنك على خير ، وفي أخرى رواها ابن مردويه عنها أنها قالت ألست من أهل البيت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنك إلى خير إنك من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي آخرها رواها الترمذي وجماعة عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي عليه الصلاة والسلام قال : قالت أم سلمة وأنا معهم : يا نبي الله قال : أنت على مكانك وإنك على خير وأخبار إدخاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا وفاطمة وابنيهما رضي الله تعالى عنهم تحت الكساء ، وقوله عليه الصلاة والسلام اللهم هؤلاء أهل بيتي ودعائه لهم وعدم إدخال أم سلمة أكثر من أن تحصى ، وهي مخصصة لعموم أهل البيت بأي معنى كان البيت فالمراد بهم من شملهم الكساء ولا يدخل فيهم أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد صرح بعدم دخولهن من الشيعة عبد الله المشهدي وقال المراد من البيت بيت النبوة ولا شك أن أهل البيت لغة شامل للأزواج بل للخدام من الإماء اللائي يسكن في البيت أيضا : وليس المراد هذا المعنى اللغوي بهذه السعة بالاتفاق فالمراد به آل العباء الذين خصصهم حديث السكاء وقال أيضا : إن كون البيوت جمعا في (بُيُوتِكُنَ) وإفراد البيت في (أَهْلَ الْبَيْتِ) يدل على أن بيوتهن غير بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ا ه ، وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى وقيل المراد بالبيت بيت السكنى وبيت النسب وأهل ذلك أهل كل من البيتين وقد سمعت ما قيل فيه وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز.

وقال بعض المحققين : المراد بالبيت بيت السكنى وأهله على ما يقتضيه سياق الآية وسباقها والأخبار التي لا تحصى كثرة ويشهد له العرف من له مزيد اختصاص به إما بالسكنى فيه مع القيام بمصالحه وتدبير شأنه والاهتمام بأمره وعدم كون الساكن في معرض التبدل والتحول بحكم العادة الجارية من بيع وهبة كالأزواج أو بالسكنى فيه كذلك بدون ملاحظة القيام بالمصالح كالأولاد أو بقربة من صاحبه تقضي بحسب العادة بالتردد إليه والجلوس فيه من غير طلب من صاحبه لذلك أو بعدم المنع من ذلك فالأولاد الذين لا يسكنونه وكأولادهم وإن نزلوا وكالأعمام وأولاد

١٩٥

الأعمام على هذا يحصل الجمع بين الأخبار وقد سمعت بعضها كحديث الكساء ولا دلالة فيه على الحصر ، وكالحديث الحسن أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتمل على العباس وبنيه بملاءة ثم قال : يا رب هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقالت آمين ثلاثا.

وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام ضم إلى أهل الكساء علي وفاطمة والحسنين رضي الله تعالى عنهم بقية بناته وأقاربه وأزواجه وصح عن أم سلمة في بعض آخر أنها قالت ، فقلت يا رسول الله أما أنا من أهل البيت؟ فقال : بلى إن شاء الله تعالى ، وفي بعض آخر أيضا أنها قالت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ ألست من أهلك قال : بلى وأنه عليه الصلاة والسلام أدخلها الكساء بعد ما قضى دعاءه لهم ، وقد تكرر كما أشار إليه المحب الطبري منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجمع وقول هؤلاء أهل بيتي والدعاء في بيت أم سلمة وبيت فاطمة رضي الله تعالى عنهما وغيرهما وبه جمع بين اختلاف الروايات في هيئة الاجتماع وما جلل صلى‌الله‌عليه‌وسلم به المجتمعين وما دعا به لهم ، وما أجاب به أم سلمة وعدم إدخالها في بعض المرات تحت الكساء ليس لأنها ليست من أهل البيت أصلا بل لظهور أنها منهم حيث كانت من الأزواج اللاتي يقتضي سياق الآية وسباقها دخولهن فيهم بخلاف من أدخلوا تحته رضي الله تعالى عنهم فإنه عليه الصلاة والسلام لو لم يدخلهم ويقل ما قال لتوهم عدم دخولهم في الآية لعدم اقتضاء سياقها وسباقها ذلك ، وذكر ابن حجر على تقدير صحة بعض الروايات المختلفة الحمل على أن النزول كان مرتين ، وقد أدخل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض من لم يكن بينه وبينه قرابة شبيبة ولا نسبية في أهل البيت توسعا وتشبيها كسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه حيث قال عليه الصلاة والسلام «سلمان منا أهل البيت» وجاء في رواية صحيحة أن واثلة قال : وأنا من أهلك يا رسول الله؟ فقال : عليه الصلاة والسلام وأنت من أهلي فكان واثلة يقول : إنها لمن أرجى ما أرجو ، والخبر الدال بظاهره على أن المراد بالبيت البيت النسبي أعني خبر الحكيم الترمذي ومن معه عن ابن عباس يجوز حمل البيت فيه على بيت المدر والحيوان ينقسم إلى رومي وزنجي مثلا كما ينقسم الإنسان إليهما على أن في رواته من وثقه ابن معين وضعفه غيره والجرح مقدم على التعديل وما روي عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه من نفي كون أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل بيته وكون أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده عليه الصلاة والسلام فالمراد بأهل البيت فيه أهل البيت الذين جعلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثاني الثقلين لا أهل البيت بالمعنى الأعم المراد في الآية ، ويشهد لهذا ما في صحيح مسلم عن يزيد بن حبان قال : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا حدثنا يا زيد بما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا ابن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما حدثتكم فاقبلوا وما لا لا تكلفونيه ثم قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال : «أما بعد ألا يا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب لله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثا ـ فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال : نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده ـ قال : ومن هم قال هم آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس» الحديث فإن الاستدراك بعد جعله النساء من أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظاهر في أن الغرض بيان المراد بأهل البيت في الحديث الذي حدث به عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم فيه ثاني الثقلين فلأهل البيت إطلاقان يدخل في أحدهما النساء ولا يدخلن في الآخر وبهذا يحصل الجمع بين هذا الخبر والخبر السابق المتضمن نفيه رضي الله تعالى عنه كون النساء من أهل البيت.

١٩٦

وقال بعضهم : إن ظاهر تعليله نفي كون النساء أهل البيت بقوله : ايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها يقتضي أن لا يكن من أهل البيت مطلقا فلعله أراد بقوله في الخبر السابق نساؤه من أهل بيته نساؤه إلخ بهمزة الاستفهام الإنكاري فيكون بمعنى ليس نساؤه من أهل بيته كما في معظم الروايات في غير صحيح مسلم ويكون رضي الله تعالى عنه ممن يرى أن نساءه عليه الصلاة والسلام لسن من أهل البيت أصلا ولا يلزمنا أن ندين الله تعالى برأيه لا سيما وظاهر الآية معنا وكذا العرف وحينئذ يجوز أن يكون أهل البيت الذين هم أحد الثقلين بالمعنى الشامل للأزواج وغيرهن من أصله وعصبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين حرموا الصدقة بعده ولا يضر في ذلك عدم استمرار بقاء الأزواج كما استمر بقاء الآخرين مع الكتاب كما لا يخفى ا ه ، وأنت تعلم أن ظاهر ما صح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني تارك فيكم خليفتين ـ وفي رواية ـ ثقلين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض» يقتضي أن النساء المطهرات غير داخلات في أهل البيت الذين هم أحد الثقلين لأن عترة الرجل كما في الصحاح نسله ورهطه الأدنون ، وأهل بيتي في الحديث الظاهر أنه بيان له أو بدل منه بدل كل من كل وعلى التقديرين يكون متحدا معه فحيث لم تدخل النساء في الأول لم تدخل في الثاني. وفي النهاية أن عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنو عبد المطلب وقيل أهل بيته الأقربون وهم أولاده وعلي وأولاده رضي الله تعالى عنهم ، وقيل : عترته الأقربون والأبعدون منهم ا ه. والذي رجحه القرطبي أنهم من حرمت عليهم الزكاة ، وفي كون الأزواج المطهرات كذلك خلاف قال ابن حجر : والقول بتحريم الزكاة عليهن ضعيف وإن حكي ابن عبد البرّ الإجماع عليه فتأمل ، ولا يرد على حمل أهل البيت في الآية على المعنى الأعم ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نزلت هذه الآية في خمسة في وفي علي وفاطمة وحسن وحسين إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» إذ لا دليل فيه على الحصر والعدد لا مفهوم له ، ولعل الاقتصار على من ذكر صلوات الله تعالى وسلامه عليهم لأنهم أفضل من دخل في العموم وهذا على تقدير صحة الحديث والذي يغلب على ظني أنه غير صحيح إذ لم أعهد نحو هذا في الآيات منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شيء من الأحاديث الصحيحة التي وقفت عليها في أسباب النزول ، وبتفسير أهل البيت بمن له مزيد اختصاص به على الوجه الذي سمعت يندفع ما ذكره المشهدي من شموله للخدام والإماء والعبيد الذين يسكنون البيت فإنهم في معرض التبدل والتحول بانتقالهم من ملك إلى ملك بنحو الهبة والبيع وليس لهم قيام بمصالحه واهتمام بأمره وتدبير لشأنه إلا حيث يؤمرون بذلك ، ونظمهم في سلك الأزواج ودعوى أن نسبة الجميع إلى البيت على حد واحد مما لا يرتضيه منصف ولا يقول به إلا متعسف.

وقال بعض المتأخرين : إن دخولهم في العموم مما لا بأس به عند أهل السنّة لأن الآية عندهم لا تدل على العصمة ولا حجر على رحمة الله عزوجل ولأجل عين ألف عين تكرم ، وأما أمر الجمع والأفراد فقد سمعت ما يتعلق به ، والظاهر على هذا القول أن التعبير بضمير جمع المذكر في (عَنْكُمُ) للتغليب ، وذكر أن في (عَنْكُمُ) عليه تغليبين أحدهما تغليب المذكر على المؤنث ، وثانيهما تغليب المخاطب على الغائب إذ غير الأزواج المطهرات من أهل البيت لم يجر لهم ذكر فيما قبل ولم يخاطبوا بأمر أو نهي أو غيرهما فيه ، وأمر التعليل عليه ظاهر وإن لم يكن كظهوره على القول بأن المراد بأهل البيت الأزواج المطهرات فقط.

واعتذر المشهدي عن وقوع جملة (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) إلخ في البين بأن مثله واقع في القرآن الكريم فقد قال تعالى شأنه : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) [النور : ٥٤] ثم قال سبحانه بعد تمام الآية : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [النور : ٥٦] فعطف أقيموا على أطيعوا مع وقوع الفصل الكثير بينهما ، وفيه أنه وقع

١٩٧

بعد (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) إلخ (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فلو كان العطف على ما ذكر لزم عطف أطيعوا على أطيعوا وهو كما ترى.

سلمنا أن لا فساد في ذلك إلا أن مثل هذا الفصل ليس في محل النزاع فإنه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي من حيث الإعراب وهو لا ينافي البلاغة وما نحن فيه على ما ذهبوا إليه فصل بأجنبي باعتبار موارد الآيات اللاحقة والسابقة ، وإنكار منافاته للبلاغة القرآنية مكابرة لا تخفى. ومما يضحك منه الصبيان أنه قال بعد : إن بين الآيات مغايرة إنشائية وخبرية لأن آية التطهير جملة ندائية وخبرية وما قبلها وما بعدها من الأمر والنهي جمل إنشائية وعطف الإنشائية على الخبرية لا يجوز ، ولعمري أنه أشبه كلام من حيث الغلط بقول بعض عوام الأعجام : خسن وخسين دختران مغاوية (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠] ثم إن الشيعة استدلوا بالآية بعد قولهم : بتخصيص أهل البيت فيها بمن سمعت وجعل (لِيُذْهِبَ) مفعولا به ل (يُرِيدُ) وتفسير الرجس بالذنوب على العصمة فذهبوا إلى أن عليا وفاطمة والحسنين رضي الله تعالى عنهم معصومون من الذنوب عصمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها ، وتعقبه بعض أجلة المتأخرين بأنه لو فرض تعين كل ما ذهبوا إليه لا تسلم دلالتها على العصمة بل لها دلالة على عدمها إذ لا يقال في حق من هو طاهر : إني أريد أن أطهره ضرورة امتناع تحصيل الحاصل ، وغاية ما في الباب أن كون أولئك الأشخاص رضي الله تعالى عنهم محفوظين من الرجس والذنوب بعد تعلق الإرادة بإذهاب رجسهم يثبت بالآية ولكن هذا أيضا على أصول أهل السنّة لا على أصول الشيعة لأن وقوع مراده تعالى غير لازم عندهم لإرادته عزوجل مطلقا وبالجملة لو كانت إفادة معنى العصمة مقصودة لقيل هكذا إن الله أذهب عنكم الرجس أهل البيت وطهركم تطهيرا وأيضا لو كانت مفيدة للعصمة ينبغي أن يكون الصحابة لا سيما الحاضرين في غزوة بدر قاطبة معصومين لقوله تعالى فيهم : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة : ٦] بل لعل هذا أفيد لما فيه من قوله سبحانه : (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) فإن وقوع هذا الإتمام لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان ا ه. وقرر الطبرسي وجه الاستدلال بها على العصمة بأن (إِنَّما) لفظة محققة لما أثبت بعدها نافية لما لم يثبت فإذا قيل : إنما لك عندي درهم أفاد أنه ليس للمخاطب عنده سوى درهم فتفيد الآية تحقق الإرادة ونفي غيرها ، والإرادة لا تخلو من أن تكون هي الإرادة المحضة أو الإرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس لا يجوز أن تكون الإرادة المحضة لأنه سبحانه وتعالى قد أراد من كل مكلف ذلك بالإرادة المحضة فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر المكلفين ولأن هذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بلا ريب ولا مدح في الإرادة المجردة فتعين إرادة الإرادة بالمعنى الثاني ، وقد علم أن من عدا أهل الكساء غير مراد فتختص العصمة بهم ا ه. وهو كما ترى ، على أنه قد ورد في كتب الشيعة ما يدل على عدم عصمة الأمير كرّم الله تعالى وجهه وهو أفضل من ضمه الكساء بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ففي نهج البلاغة أنه كرّم الله تعالى وجهه قال لأصحابه : لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست بفوق أن أخطئ ولا آمن من ذلك في فعلي إلا أن يلقي الله تعالى في نفسي ما هو أملك به مني.

وفيه أيضا كان كرّم الله تعالى وجهه يقول في دعائه : اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك وخالفه قلبي ، وقصد التعليم كما في بعض الأدعية النبوية بعيد كذا قيل فتدبر ولا تغفل ، وفسر بعض أهل السنّة الإرادة هاهنا بالمحبة قالوا : لأنه لو أريد بها الإرادة التي يتحقق عندها الفعل لكان كل من أهل البيت إلى يوم القيامة محفوظا من كل ذنب والمشاهد خلافه ، والتخصيص بأهل الكساء وسائر الأئمة الاثني عشر كما ذهب إليه الإمامية المدعون عصمتهم مما لا يقوم عليه دليل عندنا ، والمدح جاء من جهة الاعتناء بشأنهم وإفادتهم محبة الله تعالى لهم هذا الأمر الجليل الشأن ومخاطبته سبحانه إياهم بذلك وجعله قرآنا يتلى إلى يوم القيامة.

١٩٨

وقد يستدل على كون الإرادة هاهنا بالمعنى المذكور دون المعنى المشهور الذي يتحقق عنده الفعل بأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين أدخل عليا وفاطمة والحسنين رضي الله تعالى عنهم تحت الكساء «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» فإنه أي حاجة للدعاء لو كان ذلك مرادا بالإرادة بالمعنى المشهور وهل هو الادعاء بحصول واجب الحصول.

واستدل بهذا بعضهم على عدم نزول الآية في حقهم وإنما أدخلهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أهل البيت المذكور في الآية بدعائه الشريف عليه الصلاة والسلام ولا يخلو جميع ما ذكر عن بحث ، والذي يظهر لي أن المراد بأهل البيت من لهم مزيد علاقة به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونسبة قوية قريبة إليه عليه الصلاة والسلام بحيث لا يقبح عرفا اجتماعهم وسكناهم معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت واحد ويدخل في ذلك أزواجه والأربعة أهل الكساء وعلي كرّم الله تعالى وجهه مع ما له من القرابة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نشأ في بيته وحجره عليه الصلاة والسلام فلم يفارقه وعامله كولده صغيرا أو صاهره وآخاه كبيرا ، والإرادة على معناها الحقيقي المستتبع للفعل ، والآية لا تقوم دليلا على عصمة أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليهم وسلم الموجودين حين نزولها وغيرهم ولا على حفظهم من الذنوب على ما يقوله أهل السنّة لا لاحتمال أن يكون المراد توجيه الأمر والنهي أو نحوه لإذهاب الرجس والتطهير بأن يجعل المفعول به «ليريد» محذوفا ويجعل (لِيُذْهِبَ) و«يطهر» في موضع المفعول له وإن لم يكن فيه بأس وذهب إليه من ذهب بل لأن المعنى حسبما ينساق إليه الذهن ويقتضيه وقوع الجملة موقع التعليل للنهي والأمر نهاكم الله تعالى وأمركم لأنه عزوجل يريد بنهيكم وأمركم إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم وفي ذلك غاية المصلحة لكم ولا يريد بذلك امتحانكم وتكليفكم بلا منفعة تعود إليكم وهو على معنى الشرط أي يريد بنهيكم وأمركم ليذهب عنكم الرجس ويطهركم إن انتهيتم وائتمرتم ضرورة أن أسلوب الآية نحو أسلوب قول القائل لجماعة علم أنهم إذا شربوا الماء أذهب عنهم عطشهم لا محالة يريد الله سبحانه بالماء ليذهب عنكم العطش فإنه على معنى يريد سبحانه بالماء إذهاب العطش عنكم إن شربتموه فيكون المراد إذهاب العطش بشرط شرب المخاطبين الماء لا الإذهاب مطلقا. فمفاد التركيب في المثال تحقق إذهاب العطش بعد الشرب وفيما نحن فيه إذهاب الرجس والتطهير بعد الانتهاء والائتمار لأن المراد الإذهاب المذكور بشرطهما فهو متحقق الوقوع بعد تحقق الشرط وتحققه غير معلوم إذ هو أمر اختياري وليس متعلق الإرادة ، والمراد بالرجس الذنب وبإذهابه إزالة مبادئه بتهذيب النفس وجعل قواها كالقوة الشهوانية والقوة الغضبية بحيث لا ينشأ عنهما ما ينشأ من الذنوب كالزنا وقتل النفس التي حرم الله تعالى وغيرهما لا إزالة نفس الذنب بعد تحققه في الخارج وصدوره من الشخص إذ هو غير معقول إلا على معنى محوه من صحائف الأعمال وعدم المؤاخذة عليه وإرادة ذلك كما ترى.

وكأن مآل الإذهاب التخلية ومآل التطهير التحلية بالحاء المهملة ، والآية متضمنة الوعد منه عزوجل لأهل بيت نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم أن ينتهوا عما ينهي عنه ويأتمروا بما يأمرهم به يذهب عنهم لا محالة مبادئ ما يستهجن ويحليهم أجلّ تحلية بما يستحسن ، وفيه إيماء إلى قبول أعمالهم وترتب الآثار الجميلة عليها قطعا ويكون هذا خصوصية لهم ومزية على من عداهم من حيث إن أولئك الأغيار إذا انتهوا وائتمروا لا يقطع لهم بحصول ذلك.

ولذا نجد عباد أهل البيت أتم حالا من سائر العباد المشاركين لهم في العبادة الظاهرة وأحسن أخلاقا وأزكى نفسا وإليهم تنتهي سلاسل الطرائق التي مبناها كما لا يخفى على سالكيها التخلية والتحلية اللتان هما جناحان للطيران إلى حظائر القدس والوقوف على أوكار الأنس حتى ذهب قوم إلى أن القطب في كل عصر لا يكون إلا منهم خلافا للأستاذ أبي العباس المرسي حيث ذهب كما نقل عنه تلميذه التاج بن عطاء الله إلى أنه قد يكون من غيرهم ، ورأيت

١٩٩

في مكتوبات الإمام الفاروقي الرباني مجدد الألف الثاني قدس‌سره ما حاصله أن القطبية لم تكن على سبيل الأصالة إلا الأئمة أهل البيت المشهورين ثم إنها صارت بعدهم لغيرهم على سبيل النيابة عنهم حتى انتهت النوبة إلى السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس‌سره النوراني فنال مرتبة القطبية على سبيل الأصالة فلما عرج بروحه القدسية إلى أعلى عليين نال من نال بعده تلك الرتبة على سبيل النيابة عنه فإذا جاء المهدي ينالها أصالة كما نالها غيره من الأئمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ا ه ، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته والوقوف على حقيته إلا بالكشف وأنى لي به.

والذي يغلب على ظني أن القطب قد يكون من غيرهم لكن قطب الأقطاب لا يكون إلا منهم لأنهم أزكى الناس أصلا وأوفرهم فضلا وأن من ينال هذه الرتبة منهم لا ينالها إلا على سبيل الأصالة دون النيابة والوكالة وأنا لا أعقل النيابة في ذلك المقام وإن عقلت قلت : كل قطب في كل عصر نائب عن نبينا عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام ولا بدع في نيابة الأقطاب بعده عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما نابت عنه الأنبياء قبله فهو عليه الصلاة والسلام الكامل المكمل للخليقة والواسطة في الإفاضة عليهم على الحقيقة وكل من تقدمه عصرا من الأنبياء وتأخر عنه من الأقطاب والأولياء نواب عنه ومستمدون منه ، وأقول إن السيد الشيخ عبد القادر قدس‌سره وغمرنا بره قد نال ما نال من القطبية بواسطة جده عليه الصلاة والسلام على أتم وجه وأكمل حال فقد كان رضي الله تعالى عنه من أجلة أهل البيت حسنيا من جهة الأب حسينيا من جهة الأم لم يصبه نقص لو أن وعسى وليت ولا ينكر ذلك إلا زنديق أو رافضي ينكر صحبة الصديق وأرى أن قوله رضي الله تعالى عنه :

أفلت شموس الأولين وشمسنا

أبدا على فلك العلى لا تغرب

لا يدل على أن من ينال القطبية بعده من أهل البيت الذين عنصرهم وعنصره واحد نائب عنه ليس له فيض إلا منه بل غاية ما يدل عليه ويومئ إليه استمرار ظهور أمره وانتشار صيته وشهرة طريقته وعموم فيضه لمن استفاض على الوجه المعروف عند أهله منه وذلك مما لا يكاد ينكر وأظهر من الشمس والقمر ، هذا ما عندي في الكلام على الآية الكريمة المتضمنة لفضيلة لأهل البيت عظيمة ، ويعلم منه وجه التعبير بيريد على صيغة المضارع ووجه تقديم إذهاب الرجس على التطهير ووجه دعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل الكساء بإذهاب الرجس من غير حاجة إلى القول بأن ذلك طلب للدوام كما قيل في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) ونحوه ولا يورد عليه كثير مما يورد على غيره ومع هذا لمسلك الذهن اتساع ولا حجر على فضل الله عزوجل فلا مانع من أن يوفق أحدا لما هو أحسن من هذا وأجل فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك.

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ) أي اذكرن للناس بطريق العظة والتذكير ، وقيل : أي تذكرن ولا تنسين ما يتلى في بيوتكن (مِنْ آياتِ اللهِ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةِ) هي السنّة على ما أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة وفسرت بنصائحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن عطاء عن ابن عباس أنه كان في المصحف بدل (الْحِكْمَةِ) السنّة حكاه محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أوائل تفسيره مفاتيح الأسرار ، وقال جمع : المراد بالآيات والحكمة القرآن وهو أوفق بقوله سبحانه : (يُتْلى) أي اذكرن ما يتلى من الكتاب الجامع بين كونه آيات الله تعالى البينة الدالة على صدق النبوة بأوجه شتى وكونه حكمة منطوية على فنون العلوم والشرائع ، وهذا تذكير بما أنعم عليهن حيث جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي وما شاهدن من برحاء الوحي مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة وفيه حث على الانتهاء والائتمار فيما كلفنه ، وقيل : هذا هذا أمر بتكميل الغير بعد الأمر بما فيه كما لهن ويعلم منه وجه توسيط (إِنَّما يُرِيدُ) إلخ في البين والتعرض للتلاوة في البيوت دون النزول فيها مع أنها الأنسب لكونها مهبط الوحي لعمومها لجميع الآيات ووقوعها في

٢٠٠