روح المعاني - ج ١١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

يستعمل شيئا مما أبيح له ضبطا لنفسه وأخذا بالأفضل غير ما جرى لسودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب أنه قال لم يعلم أن رسول الله أرجأ منهن شيئا ولا عزله بعد ما خيرن فاخترنه.

وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) فقيل لها : ما كنت تقولين؟ قالت : كنت أقول له إن كان ذاك إلى فإني لا أريد أن أوثر عليك أحدا فتأمله مع حكاية الاتفاق السابق والله تعالى الموفق.

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ) بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي وقد وقع بفصل أيضا ، والمراد بالنساء الجنس الشامل للواحدة ولم يؤت بمفرد لأنه لا مفرد له من لفظه والمرأة شاملة للجارية وليست بمرادة ، واختصاص النساء بالحرائر بحكم العرف ، وقرأ البصريان بالتاء الفوقية ، وسهل وأبو حاتم يخير فيهما ، وأيا كان ما كان فالمراد يحرم عليك نكاح النساء (مِنْ بَعْدُ) قيل أي من بعد التسع اللاتي في عصمتك اليوم ، أخرج ابن سعد عن عكرمة قال : لما خير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزواجه اخترنه فأنزل الله تعالى لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي اخترنك أي لقد حرم عليك تزويج غيرهن ، وأخرج أبو داود في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال لما خيرهن فاخترن الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصره عليهن فقال سبحانه (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في الآية حبسه الله تعالى عليهن كما حبسهن عليه عليه الصلاة والسلام ، وقدر بعضهم المضاف إليه المحذوف اختيارا أي من بعد اختيارهن الله تعالى ورسوله.

وقال الإمام : هو أولى وكأن ذلك لكونه أدل على أن التحريم كان كرامة لهن وشكرا على حسن صنيعهن.

وجوز آخر أن يكون التقدير من بعد اليوم وماله تحريم من عدا اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام.

وحكي في البحر عن ابن عباس وقتادة قال : لما خيرن فاخترن الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جازاهن أن حظر عليه النساء غيرهن وتبديلهن ونسخ سبحانه بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء ، وحكي أيضا عن مجاهد وابن جبير أن المعنى من بعد إباحة النساء على العموم ، وقيل التقدير من بعد التسع على معنى أن هذا العدد مع قطع النظر عن خصوصية المعدود نصابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته منهن فالمعنى لا يحل لك الزيادة على التسع (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ) أصله تتبدل فخفف بحذف إحدى التاءين أي ولا يحل لك أن تستبدل (بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) بأن تطلق واحدة منهن وتنكح بدلها أخرى ، ففي الآية حكمان حرمة الزيادة وحرمة الاستبدال ، وظاهره أنه يحل له عليه الصلاة والسلام نكاح امرأة أخرى على تقدير أن تموت واحدة من التسع ، وإذا كان المراد من الآية تحريم من عدا اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام أفادت الآية أنه لو ماتت واحدة منهن لم يحل له نكاح أخرى ، وكلام ابن عباس السابق ظاهر في ذلك جدا ، وكأن قوله تعالى : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ) إلخ عليه لدفع توهم أن المحرم ليس إلا أن يرعهن صلى‌الله‌عليه‌وسلم بواحدة من الضرائر.

وفي رواية أخرى عن عكرمة أن المعنى لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء اللاتي سمي الله تعالى لك في قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) الآية فلا يحل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما وراء الأجناس الأربعة كالأعرابيات والغرائب ويحل له منها ما شاء ، وأخرج عبد بن حميد والترمذي وحسنه وغيرهما عن ابن عباس ما هو ظاهر في ذلك حيث قال في الخبر وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ) إلى قوله سبحانه : (خالِصَةً لَكَ) وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء ، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير وابن المنذر والضياء في المختارة

٢٤١

وغيرهم عن زياد قال : قلت لأبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أرأيت لو أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام متن أما يحل له أن يتزوج قال : وما يمنعه من ذلك قلت : قوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) فقال: إنما أحل له ضربا من النساء ووصف له صفة فقال سبحانه يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله تعالى : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً) إلخ ثم قال تبارك وتعالى لا يحل لك النساء من بعد هذه الصفة ، وعلى هذا القول قال الطيبي: يكون قوله سبحانه : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ) إلخ تأكيدا لما قبله من تحريم غير ما نص عليه من الأجناس الأربعة وكأن ضمير بهن للأجناس المذكورة في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) الآية والمعنى لا يحل لك أن تترك هذه الأجناس وتعدل عنها إلى أجناس غيرها ، وقال شيخ الإسلام أبو السعود عليه الرحمة بعد ما حكي القول المذكور يأباه قوله تعالى : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَ) إلخ فإن معنى إحلال الأجناس المذكورة إحلال نكاحهن فيكون التبدل بهن إحلال نكاح غيرهن بدل إحلال نكاحهن وذلك إنما يتصور بالنسخ الذي هو ليس من الوظائف البشرية انتهى فتأمل ولا تغفل ، وقيل (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ) من البدل الذي كان في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي فينزل كل واحد منهما عن امرأته لآخر ، وروي نحوه عن ابن زيد وأنكر هذا القول الطبري وغيره في معنى الآية وقالوا ما فعلت العرب ذاك قط ، وما روي من حديث عيينة بن حصن أنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دخل عليه بغير استئذان وعنده عائشة : من هذه الحميراء؟ فقال : عائشة فقال عيينة : يا رسول الله إن شئت نزلت لك عن سيدة نساء العرب جمالا ونسبا فليس بتبديل ولا أراد ذلك وإنما احتقر عائشة رضي الله تعالى عنها لأنها كانت إذ ذاك صبية ، ومن مزيد لتأكيد الاستغراق فيشمل النهي تبدل الكل والبعض : وقوله تعالى : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) في موضع الحال فاعل تبدل والتقدير مفروضا إعجابك بهن ، وحاصله ولا تبدل بهن من أزواج على كل حال ، وظاهر كلام بعضهم أنه لا يجوز أن يكون حالا من مفعوله أعني أزواجا وعلل ذلك بتوغله في التنكير وتعقب بأنه مخالف لكلام النحاة فإنهم جوزوا الحال من النكرة إذا وقعت منفية لأنها تستغرق حينئذ فيزول إبهامها كما صرح به الرضي.

وقيل إن التنكير مانع من الحالية هاهنا لأن الحال تقاس بالصفة والواو مانعة من الوصفية فتمنع من الحالية ومنع لزوم القياس مع أن الزمخشري وغيره جوزوا دخول الواو على الصفة لتأكيد لصوقها ، وقيل في عدم جواز ذلك إن ذا الحال إذا كان نكرة يجب تقديمها ولم تقدم هاهنا. وتعقب بأن ذلك غير مسلم في الجملة المقرونة بالواو لكونه بصورة العاطف. واستظهر صاحب الكشف الجواز وذكر أن المعنى في الحالين لا يتفاوت كثير تفاوت لأنه إذا تقيد الفعل لزم تقيد متعلقاته وإنما الاختلاف في الأصالة والتبعية ، وضمير حسنهن للأزواج والمراد بهن من يفرضن بدلا من أزواجه اللاتي في عصمته عليه الصلاة والسلام فتسميتهن أزواجا باعتبار ما يعرض مالا وهذا بناء على أن باء البدل في بهن داخلة على المتروك دون المأخوذ فلو اعتبرت داخلة على المأخوذ كان الضمير للنساء لا للأزواج ، وممن أعجبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسنهن على ما قيل أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب بعد وفاته رضي الله تعالى عنه ، وفي قوله سبحانه : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) على ما نقل عن ابن عطية دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها وفي الأخبار أدلة على ذلك وتفصيل الأقوال فيه في كتب الفروع. واختلف في أن الآية الدالة على عدم حل النساء له صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل هي محكمة أم لا. فعن أبي بن كعب وجماعة منهم الحسن وابن سيرين واختاره الطبري واستظهره أبو حيان أنها محكمة وعن علي كرّم الله تعالى وجهه وابن عباس وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما والضحاك عليه الرحمة أنها منسوخ وروي ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها.

أخرج أبو داود في ناسخه والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه أيضا وابن المنذر وغيرهم عنها

٢٤٢

قالت : لم يمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحل الله تعالى له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم لقوله سبحانه : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) وهذا ظاهر في أن الناسخ قوله تعالى : (تُرْجِي) إلخ وهو مبني على أن المعنى تطلق من تشاء وتمسك من تشاء ، ووجه النسخ به على هذا التفسير أنه يدل بعمومه على أنه أبيح له صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطلاق والإمساك لكل من يريد فيدل على أن له تطليق منكوحاته ونكاح من يريد من غيرهن إذ ليس المراد بالإمساك إمساك من سبق نكاحه فقد لعموم من تشاء وقوله سبحانه : (تُؤْوِي) ليس مقيدا بمنهن كذا قال الخفاجي : وفي القلب منه شيء ولا بدّ على القول بأن النسخ بذلك من القول بتأخر نزوله عن نزول الآية المنسوخة إذ لا يمكن النسخ مع التقدم وهو ظاهر ولا يعكر التقدم في المصحف لأن ترتيبه ليس على حسب النزول وقال بعضهم : إن الناسخ السنة ويغلب على الظن أنها كانت فعله عليه الصلاة والسلام.

أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن شداد أنه قال : في قوله تعالى : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ) إلخ ذلك لو طلقهن لم يحل له أن يستبدل وقد كان ينكح بعد ما نزلت هذه الآية ما شاء ونزلت وتحته تسع نسوة ثم تزوج بعد أم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث رضي الله تعالى عنهما ، والظاهر على القول بأن الآية نزلت كرامة للمختارات وتطييبا لخواطرهن وشكرا لحسن صنيعهن عدم النسخ والله تعالى أعلم ، وقوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) استثناء من النساء متصل بناء على أصل اللغة لتناوله عليه الحرائر والإماء ومنقطع بناء على العرف لاختصاصه فيه بالحرائر ولا أن تبدل بهن من أزواج كالصريح فيه.

وقال ابن عطية : إن ما إن كانت موصولة واقعة على الجنس فهو استثناء من الجنس مختار فيه الرفع على البدل من النساء ويجوز النصب على الاستثناء وإن كانت مصدرية فهي في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول انتهى ، وليس بجيد لأنه قال والتقدير إلا ملك اليمين وملك بمعنى مملوك فإذا كان بمعنى مملوك لم يصح الجزم بأنه ليس من الجنس وأيضا لا يتحتم النصب وإن فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة بل أهل الحجاز ينصبون وبنو تميم يبدلون وأيا ما كان فالظاهر حل المملوكة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم سواء كانت مما أفاء الله تعالى عليه أم لا (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) أي راقبا أو مراقبا والمراد كان حافظا ومطلعا على كل شيء فاحذروا تجاوز حدوده سبحانه وتخطي حلاله إلى حرامه عزوجل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) شروع في بيان بعض الحقوق على الناس المتعلقة به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عند نسائه ، والحقوق المتعلقة بهن رضي الله تعالى عنهن ومناسبة ذلك لما تقدم ظاهرة ، والآية عند الأكثرين نزلت يوم تزوج عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش.

أخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أنس قال : لما تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت أخبرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) الآية والنهي للتحريم ، وقوله سبحانه : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ) بتقدير باء المصاحبة استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا حال كونكم مصحوبين بالإذن.

وجوز أبو حيان كونه بتقدير باء السببية فيكون الاستثناء من أعم الأسباب أي لا تدخلوها بسبب من الأسباب إلا

٢٤٣

بسبب الإذن ، وذهب الزمخشري إلى أنه استثناء من أعم الأوقات أي لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت أن يؤذن لكم. وأورد عليه أبو حيان أن الوقوع موقع الظرف مختص بالمصدر الصريح دون المؤول فلا يقال أتيتك أن يصيح الديك وإنما يقال أتيتك صياح الديك ، ولا يخفى أن القول بالاختصاص أحد قولين للنحاة في المسألة نعم إنه الأشهر والزمخشري إمام في العربية لا يعترض عليه بمثل هذه المخالفة.

وزعم بعضهم أن الوقت مقدر في نظم الكلام فيكون محذوفا حذف حرف الجر وأن هذا ليس من باب وقوع المصدر موقع الظرف.

وأجاز بعض الأجلة كون ذلك استثناء من أعم الأحوال بلا تقدير الباء بل باعتبار أن المصدر مؤول باسم المفعول أي لا تدخلوها إلا مأذونا لكم والمصدر المسبوك قد يؤول بمعنى المفعول كما قيل في قوله تعالى : (ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) [يونس : ٣٧] إن المعنى ما كان هذا القرآن مفتري فمن قال كون المصدر بمعنى المفعول غير معروف في المؤول لم يصب ، وقيل فيما ذكر مخالفة لقول النحاة المصدر المسبوك معرفة دائما كما صرح به في المغني.

وتعقبه الخفاجي بأن الحق أنه سطحي وأنه قد يكون نكرة وذكر قوله تعالى : (ما كانَ) إلخ ، وقوله سبحانه : (إِلى طَعامٍ) متعلق بيؤذن وعدي بإلى مع أنه يتعدى بفي فيقال أذن له في كذا لتضمينه معنى الدعاء للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على طعام بغير دعوة وإن تحقق الإذن الصريح في دخول البيت فإن كل إذن ليس بدعوة ، وقيل يجوز أن يكون قد تنازع فيه الفعلان (تَدْخُلُوا) و (يُؤْذَنَ) وهو مما لا بأس به ، وقوله تعالى :

(غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) أي غير منتظرين نضجه وبلوغه تقول أنى الطعام يأني أنى كقلى يقلي قلى إذا نضج وبلغ قاله الزجاج ، وقال مكي : إناه ظرف زمان مقلوب آن التي بمعنى الحين فقلبت النون قبل الألف وغيرت الهمزة إلى الكسرة أي غير ناظرين آنه أي حينه والمراد حين إدراكه ونضجه أو حين أكله حال من فاعل تدخلوا وهو حال مفرغ من أعم الأحوال كما سمعت في (أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) وإذا جعل ذلك حالا فهي حال مترادفة فكأنه قيل : لا تدخلوا في حال من الأحوال إلا مصحوبين بالإذن غير ناظرين ، والظاهر أنها حال مقدرة ويحتمل أن تكون مقارنة ، والزمخشري بعد أن جعل ما تقدم نصبا على الظرفية جعل هذا حالا أيضا لكنه قال بعد وقع الاستثناء على الوقت والحال معا كأنه قيل لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين.

وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز على مذهب الجمهور من أنه لا يقع بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى أو المستثنى منه أو صفة المستثنى منه ثم قال وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال أجاز ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا فيجوز ما قاله الزمخشري عليه ولا يخفى على المتأمل في كلام الزمخشري أنه بعيد بمراحل عن جعل الآية الكريمة كالمثال المذكور لأنه على التأخير والتقديم وكلامه آب عن اعتبار ذلك في الآية نعم لو اقتصر على جعل (غَيْرَ ناظِرِينَ) حالا من ضمير (تَدْخُلُوا) لأمكن أن يقال : إن مراده لا تدخلوا غير ناظرين إلا أن يؤذن لكم ويكون المعنى أن دخولهم غير ناظرين إناه مشروط بالإذن وأما دخولهم ناظرين فممنوع مطلقا بطريق الأولى ثم قدم المستثنى وأخر الحال. وتعقبه بعضهم بأن فيه استثناء شيئين وهما الظرف والحال بأداة واحدة وقد قال ابن مالك في التسهيل : لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان وظاهره عدم جواز ذلك سواء كان الاستثناء مفرغا أم لا وسواء كان الشيئان مما يعمل فيهما العامل المتقدم أم لا فلا يجوز قام القوم إلا زيدا عمرا ولا ما قام القوم إلا زيدا عمرا أو إلا زيد عمرو ولا ما قام إلا خالد بكر ولا ما أعطيت أحدا شيئا إلا عمرا دانقا ولا ما أعطيت إلا عمرا دانقا ولا ما أخذ أحد شيئا إلا زيد

٢٤٤

درهما ولا ما أخذ أحد إلا زيد درهما ، والكلام في هذه المسألة وما يصح من هذه التراكيب وما لا يصح وإذا صح فعلى أي وجه يصح طويل عريض والذي أميل إليه تقييد إطلاقهم لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان بما إذا كان الشيئان لا يعمل فيهما العامل السابق قبل الاستثناء فلا يجوز ما قام إلا زيد إلا بكر مثلا إذ لا يكون للفعل فاعلان دون عطف ولا ما ضربت إلا زيدا عمرا مثلا إذ لا يكون لضرب مفعولان دون عطف أيضا ، وأرى جواز نحو ما أعطيت أحدا شيئا إلا عمرا دانقا ونحو ما ضرب إلا زيد عمرا من غير حاجة إلى التزام إبدال اسمين من اسمين نظير قوله :

ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه

ببعض أبت عيدانه أن تكسرا

في الأول وإضمار فعل ناصب لعمرو دل عليه المذكور في الثاني ، وما ذكره ابن مالك في الاحتجاج على الشبه بالعطف حيث قال : كما لا يقدر بعد حرف العطف معطوفان كذلك لا يقدر بعد حرف الاستثناء مستثنيان لا يتم علينا فإنا نقول في العطف بالجواز في مثل ما ضرب زيد عمرا وبكر خالدا قطعا فنحو ما أعطيت أحدا شيئا إلا زيدا دانقا كذلك ، وقوله : إن الاستثناء في حكم جملة مستأنفة لأن معنى جاء القوم إلا زيدا جاء القوم ما منهم زيد وهو على ما قيل يقتضي أن لا يعمل ما قبل إلا فيما بعدها في مثل ما ذكر لأنها بمثابة ما وليس ذلك من الصور المستثناة ليس بشيء كما لا يخفى ، وما في أمالي الكافية من أنه لا بدّ في المستثنى المفرغ من تقدير عام فلو استعمل بعد إلا شيئان فأما أن لا يقدر عام أصلا وهو يخالف حكم الباب أو يقدر عامان وهو يؤدي إلى أمر خارج عن القياس من غير ثبت ولو جاز في الاثنين جاز فيما فوقهما وهو ظاهر البطلان أو يقدر لأحدهما دون الآخر وهو يؤدي إلى اللبس فيما قصد. تعقبه الحديثي بأن لقائل أن يختار الثالث ويقول : العام لا يقدر إلا للذي يلي إلا منهما لأنه المستثنى المفرغ ظاهرا فلا يحصل اللبس أصلا ، وأبو حيان قدر في الآية محذوفا وجعل (غَيْرَ ناظِرِينَ) حالا من الضمير فيه والتقدير ادخلوا غير ناظرين وهو الذي يقتضيه كلام ابن مالك حيث أوجب في نحو ما ضرب إلا زيد عمرا جعل عمرا مفعولا لمحذوف دل عليه المذكور ، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا وقعت جوابا لسؤال نشأ من الجملة الأولى كأنه لما قيل ما ضرب إلا زيد سأل سائل من ضرب؟ فقيل : ضرب عمرا ، وذكر العلامة تقي الدين السبكي عليه الرحمة في رسالته المسماة بالحلم والأناة في إعراب (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) وفيها يقول الصلاح الصفدي :

يا طالب النحو في زمان

أطول ظلا من القناة

وما تحلى منه بعقد

عليك بالحلم والأناة

إن الظاهر أن الزمخشري ما قال ذلك إلا تفسير معنى والمستثنى في الحقيقة هو المصدر المتعلق به الظرف والحال فكأنه قيل : لا تدخلوا إلا دخولا مصحوبا بكذا ثم قال : ولست أقول بتقدير مصدر هو عامل فيهما فإن العمل للفعل المفرغ وإنما أردت شرح المعنى ، ومثل هذا الإعراب هو الذي نختاره في قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) [آل عمران : ١٩] أي إلا اختلافا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فمن بعد ما جاءهم وبغيا ليسا مستثنيين بل وقع عليهما المستثنى وهو الاختلاف كما تقول ما قمت إلا يوم الجمعة ضاحكا أمام الأمير في دارة فكلها يعلم فيها الفعل المفرغ من جهة الصناعة وهي من جهة المعنى كالشيء الواحد لأنها بمجموعها بعض من المصدر الذي تضمنه الفعل المنفي وهذا أحسن من أن يقدر اختلفوا بغيا بينهم لأنه حينئذ لا يفيد الحصر وعلى ما قلناه يفيد الحصر فيه كما أفاده في قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) فهو حصر في شيئين لكن بالطريق الذي قلناه لا أنه استثناء شيئين بل استثناء شيء صادق على شيئين ، ويمكن حمل كلام الزمخشري على ذلك فقوله : وقع الاستثناء على الوقت والحال معا صحيح ، إن المستثنى أعم لأن الأعم يقع على الأخص والواقع على

٢٤٥

الواقع واقع فتخلص عما ورد عليه من قول النحاة لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان انتهى فتدبره ، وجوز أن يكون (غَيْرَ ناظِرِينَ) حالا من المجرور في (لَكُمْ) ولم يذكره الزمخشري ، وفي الكشف لو جعل حالا من ذلك لأفاد ما ذكره من حيث إنه نهى عن الدخول في جميع الأوقات إلا وقت وجود الإذن المقيد ، وقال العلامة تقي الدين لم يجعل حالا من ذلك وإن كان جائزا من جهة الصناعة لأنه يصير حالا مقدرة ولأنهم لا يصيرون منهيين عن الانتظار بل يكون ذلك قيدا في الإذن وليس المعنى على ذلك بل على أنهم نهوا أن يدخلوا إلا بإذن ونهوا إذا دخلوا أن يكونوا غير ناظرين إناه فلذلك امتنع من جهة المعنى أن يكون العامل فيه (يُؤْذَنَ) وأن يكون حالا من مفعوله ا ه.

ولعله أبعد نظرا مما في الكشف ، وقرأ ابن أبي عبلة «غير» بالكسر على أنه صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هو له ، ومذهب البصريين في ذلك وجوب إبراز الضمير بأن يقال هنا غير ناظر أنتم أو غير ناظرين أنتم ولا بأس بحذفه عند الكوفيين إذا لم يقع لبس كما هنا والتخريج المذكور عليه ، وقد أمال حمزة والكسائي «إناه» بناء على أنه مصدر أني الطعام إذا أدرك ، وقرأ الأعمش «إناءة» بمدة بعد النون (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) استدراك من النهي عن الدخول بغير إذن فيه دلالة على أن المراد بالإذن إلى الطعام الدعوة إليه (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) أي فإذا أكلتم الطعام فتفرقوا ولا تلبثوا ، والفاء للتعقيب بلا مهلة للدلالة على أنه ينبغي أن يكون دخولهم بعد الإذن والدعوة على وجه يعقبه الشروع في الأكل بلا فصل ، والآية على ما ذهب إليه الجل من المفسرين خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم وبأمثالهم ممن يفعل مثل فعلهم في المستقبل فالنهي مخصوص بمن دخل بغير دعوة وجلس منتظرا للطعام من غير حاجة فلا تفيد النهي عن الدخول بأذن لغير طعام ولا عن الجلوس واللبث بعد الطعام لمهم آخر ، ولو اعتبر الخطاب عاما لكان الدخول واللبث المذكوران منهيا عنهما ولا قائل به ، ويؤيد ما ذكر ما أخرجه عبد بن حميد عن الربيع عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كانوا يتحينون فيدخلون بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيجلسون فيتحدثون ليدرك الطعام فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية وكذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سليمان بن أرقم قال نزلت في الثقلاء ومن هنا قيل إنها آية الثقلاء ، وتقدم لك القول بجواز كون (إِلى طَعامٍ) قد تنازع فيه الفعلان (تَدْخُلُوا) و (يُؤْذَنَ) والأمر عليه ظاهر.

وقال العلامة ابن كمال : الظاهر أن الخطاب عام لغير المحارم وخصوص السبب لا يصلح مخصصا على ما تقرر في الأصول ، نعم يكون وجها لتقييد الإذن بقوله تعالى (إِلى طَعامٍ) فيندفع وهم اعتبار مفهومه انتهى وفيه بحث فتأمل والمشهور في سبب النزول ما ذكرناه أول الكلام في الآية عن الإمام أحمد والشيخين وغيرهم فلا تغفل.

(وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي لحديث بعضكم بعضا أو لحديث أهل البيت بالتسمع له فاللام تعليلية أو اللام المقوية و (مُسْتَأْنِسِينَ) مجرور معطوف على (ناظِرِينَ) و (لا) زائدة ، يجوز أن يكون منصوبا معطوفا على (غَيْرَ) كقوله تعالى : (وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٧] وجوز أن يكون حالا مقدرة أو مقارنة من فاعل فعل حذف مع فاعله وذلك معطوف على المذكور والتقدير ولا تدخلوها أو لا تمكثوا مستأنسين لحديث (إِنَّ ذلِكُمْ) أي اللبث الدال عليه الكلام أو الاستئناس أو المذكور من الاستئناس والنظر أو الدخول على غير الوجه المذكور ، والأول أقوى ملاءمة للسياق والسباق (كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) لأنه يكون مانعا له عليه الصلاة والسلام عن قضاء بعض أوطاره مع ما فيه من تضييق المنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أهله (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) أي من إخراجكم بأن يقول لكم اخرجوا أو من منعكم عما يؤذيه على ما قيل فالكلام على تقدير المضاف لقوله تعالى :

(وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) فإنه يدل على أن المستحيا منه معنى من المعاني لا ذواتهم ليتوارد النفي

٢٤٦

والإثبات على شيء واحد كما يقتضيه نظام الكلام فلو كان المراد الاستحياء من ذواتهم لقال سبحانه والله لا يستحيي منكم فالمراد بالحق إخراجهم أو المنع عن ذلك ، ووضع الحق موضعه لتعظيم جانبه وحاصل الكلام أنه تعالى لم يترك الحق وأمركم بالخروج ، والتعبير بعدم الاستحياء للمشاكلة ، وجوز أن يكون الكلام على الاستعارة أو المجاز المرسل ، واعتبار تقدير المضاف مما ذهب إليه الزمخشري وكثير وهو الذي ينبغي أن يعول عليه ، وفي الكشف فإن قلت : الاستحياء من زيد للإخراج مثلا هو الحقيقة والاستحياء من استخراجه توسع بجعل ما نشأ منه الفعل كالصلة وكلتا العبارتين صحيحة يصح إيقاع إحداهما موقع الأخرى ، قلت : أريد أنه لا بدّ من ملاحظة معنى الإخراج فإما أن يقدر الإخراج ويوقع عليه فيكثر الإضمار ولا يطابق اللفظ نفيا وإثباتا ، وإما أن يقدر المضاف فيقل ويطابق ، ومع وجود المرجح وفقد المانع لا وجه للعدول فلا بدّ مما ذكر.

وقال العلامة ابن كمال : إن قوله تعالى : (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) تعليل المحذوف دل عليه السياق أي ولا يخرجكم فيستحيي منكم ولذلك صدر بأداة التعليل ولو كان المعنى يستحيي من إخراجكم لكان حقه أن يصدر بالواو ، وفيه أن الكلام بعد تسليم ما ذكر على تقدير المضاف. وزعم بعضهم أن الأصل فيستحيي منكم من الحق والله لا يستحيي منكم من الحق والمراد بالحق إخراجهم على أن ذلك من الاحتباك وكلا حرفي الجر ليس بمعنى واحد بل الأول للابتداء والثاني للتعليل ، وقال : إن الحمل على ذلك هو الأنسب للإعجاز التنزيلي والاختصار القرآني ولا يخفى ما فيه.

وقرأت فرقة كما في البحر «فيستحي» بكسر الحاء مضارع استحى وهي لغة بني تميم والمحذوف إما عين الكلمة فوزنه يستفل أو لامها فوزنه يستفع ، وفي الكشاف قرئ «لا يستحي» بياء واحدة وأظن أن القراءة بياء واحدة في الفعل في الموضعين ، هذا والظاهر حرمة اللبث على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم إذا كان في ذلك أذى لرب البيت وليس ما ذكر مختصا بما إذا كان اللبث في بيت النبي عليه الصلاة والسلام ، ومن هنا كان الثقيل مذموما عند الناس قبيح الفعل عند الأكياس.

وعن ابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهما حسبك في الثقلاء أن الله عزوجل لم يحتملهم وعندي كالثقيل المذكور من يدعى في وقت معين مع جماعة فيتأخر عن ذلك الوقت من غير عذر كثير شرعي بل لمحض أن ينتظر ويظهر بين الحاضرين مزيد جلالته وأن صاحب البيت لا يسعه تقديم الطعام للحاضرين قبل حضوره مخافة منه أو احتراما له أو لنحو ذلك فيتأذى لذلك الحاضرون أو صاحب البيت ، وقد رأينا من هذا الصنف كثيرا نسأل الله تعالى العافية إن فضله سبحانه كان كبيرا (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَ) الضمير لنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدلول عليهن بذكر بيوته عليه الصلاة والسلام أي وإذا طلبتم منهن (مَتاعاً) أي شيئا يتمتع به من الماعون وغيره (فَسْئَلُوهُنَ) فاطلبوا منهن ذلك (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي ستر.

أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله تعالى آية الحجاب وكان رضي الله تعالى عنه حريصا على حجابهن وما ذاك إلا حبا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام كن يخرجن بالليل إذ برزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل فخرجت سودة بنت زمعة رضي الله تعالى عنها ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر رضي الله

٢٤٧

تعالى عنه بصوته الأعلى قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل الله تعالى الحجاب وذلك أحد موافقات عمر رضي الله تعالى عنه وهي مشهورة ، وعد الشيعة ما وقع منه رضي الله تعالى عنه في خبر ابن جرير من المثالب قالوا : لما فيه من سوء الأدب وتخجيل سودة حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيذائها بذلك.

وأجاب أهل السنّة بعد تسليم صحة الخبر أنه رضي الله تعالى عنه رأى أن لا بأس بذلك لما غلب على ظنه من ترتب الخير العظيم عليه ، ورسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان أعلم منه وأغير لم يفعل ذلك انتظارا للوحي وهو اللائق بكمال شأنه مع ربه عزوجل.

وأخرج البخاري في الأدب والنسائي من حديث عائشة أنها كانت تأكل معه عليه الصلاة والسلام (١) وكان يأكل معهما بعض أصحابه فأصابت يد رجل يدها فكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك فنزلت ، ولا يبعد أن يكون مجموع ما ذكر سببا للنزول ، ونزل الحجاب على ما أخرج ابن سعد عن أنس سنة خمس من الهجرة.

وأخرج عن صالح بن كيسان أن ذلك في ذي القعدة منها (ذلِكُمْ) الظاهر أنه إشارة إلى السؤال من وراء حجاب ، وقيل : هو إشارة إلى ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع من وراء حجاب (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) أي أكثر تطهيرا من الخواطر الشيطانية التي تخطر للرجال في أمر النساء وللنساء في أمر الرجال فإن الرؤية سبب التعلق والفتنة ، وفي بعض الآثار النظر سهم مسموم من سهام إبليس ، وقال الشاعر :

والمرء ما دام ذا عين يقلبها

في أعين العين موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ساء مهجته

لا مرحبا بانتفاع جاء بالضرر

(وَما كانَ لَكُمْ) أي وما صح وما استقام لكم (أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) أي تفعلوا في حياته فعلا يكرهه ويتأذى به كاللبث والاستئناس بالحديث الذي كنتم تفعلونه وغير ذلك ، والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتقبيح ذلك الفعل والإشارة إلى أنه بمراحل عما يقتضيه شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ في الرسالة من نفعهم المقتضي للمقابلة بالمثل دون الإيذاء ما فيها (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) من بعد وفاته أو فراقه وهو كالتخصيص بعد التعميم فإن نكاح زوجة الرجل بعد فراقه إياها من أعظم الأذى. ومن الناس من تفرط غيرته على زوجته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده وخصوصا العرب فإنهم أشد الناس غيرة.

وحكى الزمخشري أن بعض الفتيان قتل جارية له يحبها مخافة أن تقع في يد غيره بعد موته. وظاهر النهي أن العقد غير صحيح ، وعموم الأزواج ظاهر في أنه لا فرق في ذلك بين المدخول بها وغيرها كالمستعيذة والتي رأى بكشحها بياضا فقال لها عليه الصلاة والسلام قبل الدخول «الحقي بأهلك» وهو الذي نص عليه الإمام الشافعي وصححه في الروضة. وصحح إمام الحرمين والرافعي في الصغير أن التحريم للمدخول بها فقط لما روي أن الأشعث بن قيس الكندي نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فهم عمر برجمه فأخبر أنها لم يكن مدخولا بها فكف من غير نكير. وروي أيضا أن قتيلة بنت قيس أخت الأشعث المذكور تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت وكانت قد زوجها أخوها قبل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقبل أن يدخل بها حملها معه إلى حضرموت وتوفي عنها عليه الصلاة

__________________

(١) وفي مجمع البيان للطبرسي أن مجاهدا روى عن عائشة أنها كانت تأكل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسيا في قعب فمر عمر فدعاه عليه الصلاة والسلام فأكل فأصابت إصبعه إصبع عائشة فقال : لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزلت آية الحجاب ا ه منه.

٢٤٨

والسلام فبلغ ذلك أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال : هممت أن أحرق عليها بيتها فقال له عمر : ما هي من أمهات المؤمنين ما دخل بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا ضرب عليها الحجاب.

وقيل : لم يحتج عليه بذلك بل احتج بأنها ارتدت حين ارتد أخوها فلم تكن من أمهات المؤمنين بارتدادها وكذا هو ظاهر في أنه لا فرق في ذلك بين المختارة منهن الدنيا كفاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي في رواية ابن إسحاق والمختارة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنسائه عليه الصلاة والسلام التسع اللاتي توفي عنهن.

وللعلماء في حل مختارة الدنيا للأزواج طريقان ، أحدهما طرد الخلاف ، والثاني القطع بالحل واختاره الإمام والغزالي عليهما الرحمة ، وكأن من قال بحل غير المدخول بها وبحل المختارة المذكورة حمل الأزواج على من كن في عصمته يوم نزول الآية وعلى من يشبههن ولسن إلا المدخولات بهن اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام ، وإذا حمل ذلك وأريد بقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد فراقه يلزم حرمة نكاح من طلقها صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تلك الأزواج على المؤمنين وهو كذلك ، ومن هنا اختلف القائلون بانحصار طلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالثلاث فقال بعضهم : تحل له عليه الصلاة والسلام من طلقها ثلاثا من غير محلل ، وقال آخرون ، لا تحل له أبدا ، وظاهر التعبير بالأزواج عدم شمول الحكم لأمة فارقها صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وطئها.

وفي المسألة أوجه ثالثها أنها تحرم إن فارقها بالموت كمارية رضي الله تعالى عنها ولا تحرم إن باعها أو وهبا في الحياة.

وحرمة نكاح أزواجه عليه الصلاة والسلام من بعده من خصوصياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسمعت عن بعض جهلة المتصوفة أنهم يحرمون نكاح زوجة الشيخ من بعده على المريد وهو جهل ما عليه مزيد (إِنَّ ذلِكُمْ) إشارة إلى ما ذكر من إيذائه عليه الصلاة والسلام ونكاح أزواجه من بعده ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر والفساد (كانَ عِنْدَ اللهِ) في حكمه عزوجل (عَظِيماً) أي أمرا عظيما وخطبا هائلا لا يقادر قدره ، وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيجاب حرمته حيا وميتا ما لا يخفى.

ولذلك بالغ عزوجل في الوعيد حيث قال سبحانه : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) مما لا خير فيه على ألسنتكم كأن تتحدثوا بنكاحهن (أَوْ تُخْفُوهُ) في صدوركم (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) كامل العلم فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة ، وهذا دليل الجواب والأصل إن تبدوا شيئا أو تخفوه يجازكم به فإن الله إلخ.

وقيل هو الجواب على معنى فأخبركم أن الله إلخ ، وفي تعميم (شَيْءٍ) في الموضعين مع البرهان على المقصود من ثبوت علمه تعالى بما يتعلق بزوجاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم مزيد تهويل وتشديد ومبالغة الوعيد ، وسبب نزول الآية على ما قيل : إنه لما نزلت آية الحجاب قال رجل : أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنتزوجن نساءه ، وفي بعض الروايات تزوجت عائشة أو أم سلمة.

وأخرج جويبر عن ابن عباس أن رجلا أتى بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلمها وهو ابن عمها فقال النبي عليه الصلاة والسلام : لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا فقال : يا رسول الله إنها ابنة عمي والله ما قلت لها منكرا ولا قالت لي قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد عرفت ذلك أنه ليس أحد أغير من الله تعالى وأنه ليس أحد أغير مني فمضى ثم قال عنفني من كلام ابنة

٢٤٩

عمي لأتزوجنها من بعده فأنزل الله تعالى هذه الآية فأعتق ذلك الرجل رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله تعالى وحج ماشيا من كلمته.

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة أن طلحة بن عبيد الله قال : لو قبض النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوجت عائشة فنزلت (وَما كانَ لَكُمْ) الآية.

قال ابن عطية : كون القائل طلحة رضي الله تعالى عنه لا يصح وهو الذي يغلب على ظني ولا أكاد أسلم الصحة إلا إذا سلم ما تضمنه خبر ابن عباس مما يدل على الندم العظيم ، وفي بعض الروايات أن بعض المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة ما بال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتزوج نساءنا والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت ، ولعمري إن ذلك غير بعيد عن المنافقين وهو أبعد من العيوق عن المؤمنين المخلصين لا سيما من كان من المبشرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، ورأيت لبعض الأجلة أن طلحة الذي قال ما قال ليس هو طلحة أحد العشرة وإنما هو طلحة آخر لا يبعد منه القول المحكي وهذا من باب اشتباه الاسم فلا إشكال.

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥) إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ

٢٥٠

يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٧٣)

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ) استئناف لبيان من لا يجب عليهن الاحتجاب عنه ، روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب أو نحن يا رسول الله نكلمهن أيضا من وراء حجاب فنزلت ، والظاهر أن المعنى لا إثم عليهن في ترك الحجاب من آبائهن إلخ ، وروي ذلك عن قتادة ، وعن مجاهد أن المراد لا جناح عليهن في وضع الجلباب وإبداء الزينة للمذكورين ، وفي حكمهم كل ذي رحم محرم من نسب أو رضاع على ما روى ابن سعد عن الزهري ، وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود في ناسخه عن عكرمة قال : بلغ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عائشة رضي الله تعالى عنها احتجبت من الحسن رضي الله تعالى عنه فقال : إن رؤيته لها لحل ، ولم يذكر العم والخال لأنهما بمنزلة الوالدين أو لأنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أبناء الأخوة وأبناء الأخوات فإن مناط عدم لزوم الحجاب بينهن وبين الفريقين عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخئولة لما أنهن عمات لأبناء الاخوة وخالات لأبناء الأخوات ، وقال الشعبي لم يذكرا وإن كانا من المحارم لئلا يصفاها لأبنائهما وليسوا من المحارم ، وقد أخرج نحو ذلك ابن جرير وابن المنذر عن علي كرّم الله تعالى وجهه ، وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها مخافة وصفه إياها لابنه ، وهذا القول عندي ضعيف لجريان ذلك في النساء كلهن ممن لم يكن أمهات محارم ، ولا أرى صحة الرواية عن علي كرّم الله تعالى وجهه (وَلا نِسائِهِنَ) أي النساء المؤمنات على ما روي عن ابن عباس وابن زيد ومجاهد ، والإضافة إليهن باعتبار أنهن على دينهن فيحتجبن على الكافرات ولو كتابيات ، وفي البحر دخل في نسائهن الأمهات والأخوات وسائر القرابات ومن يتصل بهن من المتصرفات لهن والقائمات بخدمتهن.

(وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) ظاهره من العبيد والإماء ، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وإليه ذهب الإمام الشافعي ، وقال الخفاجي : مذهب أبي حنيفة أنه مخصوص بالإماء وعلى الظاهر استثنى المكاتب قال أبو حيان : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بضرب الحجاب دونه وفعلته أم سلمة مع مكاتبها نبهان (وَاتَّقِينَ اللهَ) في كل ما تأتين وتذرن لا سيما فيما أمرتن به وما نهيتن عنه ، وفي البحر في الكلام حذف والتقدير اقتصرن على هذا واتقين الله تعالى فيه أن تتعدينه إلى غيره ، وفي نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب فضل تشديد في طلب التقوى منهن (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) لا تخفى عليه خافية ولا تتفاوت في علمه الأحوال فيجازي سبحانه على الأعمال بحسبها ، هذا واختلف في حرمة رؤية أشخاصهن مستترات فقال بعضهم بها ونسب ذلك إلى القاضي عياض ، وعبارته فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز.

ثم استدل بما في الموطأ أن حفصة لما توفي عمر رضي الله تعالى عنه سترتها النساء عن أن يرى شخصها وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها لتستر شخصها انتهى ، وتعقب ذلك الحافظ ابن حجر فقال : ليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن فقد كن بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحججن ويطفن وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص ا ه ، وأنا أرى أفضلية ستر الأشخاص فلا يبعد القول بندبه لهن وطلبه منهن أزيد من غيرهن ، وفي البحر ذهب عمر رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا يشهد جنازة زينب إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش بقبة تضرب عليه وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد

٢٥١

الحبشة فصنعه عمر رضي الله تعالى عنه ، وروي أنه صنع ذلك في جنازة فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) كالتعليل لما أفاده الكلام السابق من التشريف العظيم الذي لم يعهد له نظير ، والتعبير بالجملة الاسمية للدلالة على الدوام والاستمرار ، وذكر أن الجملة تفيد الدوام نظرا إلى صدرها من حيث إنها جملة اسمية وتفيد التجدد نظرا إلى عجزها من حيث إنها جملة فعلية فيكون مفادها استمرار الصلاة وتجددها وقتا فوقتا ، وتأكيدها بأن للاعتناء بشأن الخبر ، وقيل لوقوعها في جواب سؤال مقدر هو ما سبب هذا التشريف العظيم؟ وعبر بالنبي دون اسمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خلاف الغالب في حكايته تعالى عن أنبيائه عليهم‌السلام إشعارا بما اختص به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مزيد الفخامة والكرامة وعلو القدر ، وأكد ذلك الإشعار بال التي للغلبة إشارة إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعروف الحقيق بهذا الوصف ، وقال بعض الأجلة : إن ذاك للإشعار بعلة الحكم ، ولم يعبر بالرسول بدله ليوافق ما قبله من قوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) لأن الرسالة أفضل من النبوة على الصحيح الذي عليه الجمهور خلافا للعز بن عبد السلام فتعليق الحكم بها لا يفيد قوة استحقاقه عليه الصلاة والسلام للصلاة بخلاف تعليقه بما هو دونها مع وجودها فيه وهو معنى دقيق لا يتسارع إلى الاعتراض عليه ، وإضافة الملائكة للاستغراق.

وقيل : (مَلائِكَتَهُ) ولم يقل الملائكة إشارة إلى عظيم قدرهم ومزيد شرفهم بإضافتهم إلى الله تعالى وذلك مستلزم لتعظيمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يصل إليه منهم من حيث إن العظيم لا يصدر منه إلا عظيم ، ثم فيه التنبيه على كثرتهم وأن الصلاة من هذا الجمع الكثير الذي لا يحيط بمنتهاه غير خالقه واصلة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ممر الأيام والدهور مع تجددها كل وقت وحين ، وهذا أبلغ تعظيم وأنهاه وأشمله وأكمله وأزكاه.

واختلفوا في معنى الصلاة من الله تعالى وملائكته عليهم‌السلام على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أقوال فقيل : هي منه عزوجل ثناؤه عليه عند ملائكته وتعظيمه ، ورواه البخاري عن أبي العالية وغيره عن الربيع بن أنس وجرى عليه الحليمي في شعب الإيمان ، وتعظيمه تعالى إياه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء العمل بشريعته ، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وإجزال أجره ومثوبته وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود وتقديمه على كافة المقربين الشهود ، وتفسيرها بذلك لا ينافي عطف غيره كالآل والأصحاب عليه لأن تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به ، وهي من الملائكة الدعاء له عليه الصلاة والسلام على ما رواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي العالية ، وقيل : هي منه تعالى رحمته عزوجل ، ونقله الترمذي عن الثوري وغير واحد من أهل العلم ونقل عن أبي العالية أيضا ، وعن الضحّاك وجرى عليه المبرد وابن الأعرابي والإمام الماوردي وقال : إن ذلك أظهر الوجوه.

واعترض بما مر عند الكلام في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) [الأحزاب : ٤٣] والجواب هو الجواب ، وبأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم سألوا كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى لما نزلت عن كيفية الصلاة فلو لم يكونوا فهموا المغايرة بينها وبين الرحمة ما سألوا عن كيفيتها مع كونهم علموا الدعاء بالرحمة في التشهد. وأجيب بأنها رحمة خاصة فسألوا عن الكيفية ليحيطوا علما بذلك الخصوص ، وهي من الملائكة كما سمعت أولا ، ويلزم على هذا وذلك استعمال اللفظ في معنيين ولا يجوزه كثير كالحنفية ، والقائلون بأحد القولين الذين لا يجوزون الاستعمال المذكور اختلفوا في التقصي عن ذلك في الآية فقال بعضهم : في الآية حذف والأصل إن الله يصلي وملائكته يصلون فيكون قد أدى كل معنى بلفظ ، وقال آخر : تعدد الفاعل صير الفعل كالمتعدد ، وقال صدر الشريعة ويجوز أن يكون المعنى واحدا حقيقيا وهو الدعاء والمعنى والله تعالى أعلم أنه تعالى يدعو ذاته والملائكة بإيصال الخير وذلك في حقه تعالى بالرحمة وفي حق الملائكة بالاستغفار ، وفيه دغدغة لا تخفى ، وقال جمع من المحققين : يتقصى عن ذلك بعموم المجاز فيراد معنى مجازي عام يكون كل من المعاني فردا حقيقيا له وهو الاعتناء بما فيه خيره

٢٥٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلاح أمره وإظهار شرفه وتعظيم شأنه أو الترحم والانعطاف المعنوي.

وقال بعض الأجلة : إن معنى الصلاة يختلف باعتبار حال المصلي والمصلّى له والمصلّى عليه ، والأولى أنها موضوعة هنا للقدر المشترك وهو الاعتناء بالمصلّى عليه أو إرادة وصول الخير ، وقال آخر : الصواب أن الصلاة لغة بمعنى واحد وهو العطف ثم هو بالنسبة إليه تعالى الرحمة وإلى الملائكة عليهم‌السلام الاستغفار وإلى الآدميين الدعاء. وتعقب بأن العطف بمعناه الحقيقي مستحيل عليه تعالى فيلزم من اعتباره مسندا إليه تعالى وإلى الملائكة عليهم‌السلام ما يلزم. وأجيب بأنا لا نسلم الاستحالة إلا إذا كان العطف في الغائب كالعطف في الشاهد لا يتحقق إلا بقلب ونحوه من صفات الأجسام المستحيلة عليه سبحانه ، ونحن من وراء المنع فكثير مما في الشاهد شيء وهو في الله تعالى وراء ذلك ويسند إليه سبحانه على الحقيقة كالسمع والبصر وكذا الإرادة.

وقد ذهب السلف إلى عدم تأويل الرحمة فيه تعالى بأحد التأويلين المشهورين مع أنها في الشاهد لا تتحقق إلا بما يستحيل عليه تعالى ولو أوجب ذلك التأويل لم يبق بأيدينا غير محتاج إليه إلا قليل ، وقد تقدم ما يتعلق بهذا المطلب في غير موضع من هذا الكتاب ، وقد يختار أن الصلاة هنا تعظيم لشأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقارنه عطف لائق به تعالى وبملائكته ، وإذا انسحبت عليه عليه الصلاة والسّلام وعلى أحد من المؤمنين تعلقت بكل حسبما يليق به ، وجمع الله سبحانه والملائكة في ضمير واحد لا ينافي قوله عليه الصلاة والسّلام لمن قال : من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى «بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص الله ورسوله» لأن ذلك منه تعالى محض تشريف للملائكة عليهم‌السلام لا يتوهم منه نقص ولذا قيل إذا صدر مثله عن معصوم قيل كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» وقال بعضهم : لا بأس بذلك مطلقا ، وذم الخطيب لأنه وقف على يعصهما وسكت سكتة واستدل بخبر لأبي داود ، وقيل يقبح إذا كان في جملتين كما في كلام الخطيب ولا يقبح إذا كان في واحدة كما في الآية وكلام الحبيب عليه الصلاة والسّلام وفيه بحث. وقرأ ابن عباس وعبد الوارث عن أبي عمرو «وملائكته» بالرفع فعند الكوفيين غير الفراء هو عطف على محل إن واسمها ، والفراء يشترط في العطف على ذلك خفاء إعراب اسم إن كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) [المائدة : ٦٩] وكما في قول الشاعر :

ومن يك أمسى في المدينة رحله

فإني وقيار بها لغريب

وهل خفاء الإعراب شامل للاسم المقصور والمضاف للياء أو خاص بالمبني فيه خلاف ، وعند البصريين والفراء هو مبتدأ وجملة (يُصَلُّونَ) خبره وخبر إن محذوف ثقة بدلالة ما بعد عليه أي إن الله يصلي وملائكته يصلون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) أي عظموا شأنه عاطفين عليه فإنكم أولى بذلك. وظاهر سوق الآية أنه لإيجاب اقتدائنا به تعالى فيناسب اتحاد المعنى مع اتحاد اللفظ ، وقراءة ابن مسعود صلوا عليه كما صلّى عليه وكذا قراءة الحسن فصلوا عليه أظهر فيما ذكر فيبعد تفسير صلوا عليه بقولوا : اللهم صلّ على النبي أو نحوه.

ومن فسره بذلك أراد أن المراد بالتعظيم المأمور به ما يكون بهذا اللفظ ونحوه مما يدل على طلب التعظيم لشأنه عليه الصلاة والسّلام من الله عزوجل لقصور وسع المؤمنين عن أداء حقه عليه الصلاة والسّلام.

وما جاء في الأخبار إرشاد إلى كيفية ذلك وصفته لا أنه تفسير للفظ صلوا ، وجاء ذلك على عدة أوجه والجمع ظاهر.

أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي

٢٥٣

وابن ماجه وابن مردويه عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رجل : يا رسول الله أما السّلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك قال : «قل اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

وأخرج الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا : يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا اللهم صلي على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» وأخرج الإمام أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قلنا : يا رسول الله هذا السّلام عليك قد علمنا فكيف الصلاة عليك؟ قال : «قولوا اللهم صلّ على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم».

وأخرج النسائي وغيره عن أبي هريرة ، أنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف نصلي عليك. قال : «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسّلام كما قد علمتم» وأخرج الإمام أحمد. وعبد بن حميد وابن مردويه عن ابن بريدة رضي الله تعالى عنه قال : قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال : «قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم إنك حميد مجيد» إلى غير ذلك مما ملئت منه كتب الحديث إلا أن في بعض الروايات المذكورة فيها مقالا ، والظاهر من السؤال أنه سؤال عن الصفة كما أشرنا إليه قبل وهو الذي رجحه الباجي وغيره وجزم به القرطبي وقيل : إنه سؤال عن معنى الصلاة وبأي لفظ تؤدى والحامل لهم على السؤال على هذا أن السّلام لما ورد في التشهد بلفظ مخصوص فهموا أن الصلاة أيضا تقع بلفظ مخصوص ولم يفروا إلى القياس لتيسر الوقوف على النص سيما والأذكار يراعى فيها اللفظ ما أمكن فوقع الأمر كما فهموه فإنه لم يقل عليه الصلاة والسّلام كالسلام بل علمهم صفة أخرى كذا قيل ويقال على الأول : إنهم لما سمعوا الأمر بالصلاة بعد سماع أن الله عزوجل وملائكته عليهم‌السلام يصلون عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفهموا أن الصلاة منه عزوجل ومن ملائكته عليه عليه الصلاة والسّلام نوع من تعظيم لائق بشأن ذلك النبي الكريم عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم لم يدروا ما اللائق منهم من كيفيات تعظيم ذلك الجناب وسيد ذوي الألباب صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة وسلاما يستغرقان الحساب فسألوا عن كيفية ذلك التعظيم فأرشدهم عليه الصلاة والسّلام إلى ما علم أنه أولى أنواعه وهو بهم رءوف رحيم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا اللهم صلّ محمد» إلى آخر ما في بعض الروايات الصحيحة ، وفيه إيماء إلى أنكم عاجزون عن التعظيم اللائق بي فاطلبوه من الله عزوجل لي.

ومن هنا يعلم أن الآتي بما أمر به من طلب الصلاة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عزوجل آت بأعظم أنواع التعظيم لتضمنه الإقرار بالعجز عن التعظيم اللائق ، وقد قيل ونسب إلى الصديق رضي الله تعالى عنه العجز عن درك الإدراك إدراك. ويقرب في الجملة مما ذكرنا قول بعض الأجلة ونقله أبو اليمن بن عساكر وحسنه لما أمرنا الله تعالى بالصلاة على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم نبلغ معرفة فضلها ولم ندرك حقيقة مراد الله تعالى فيه فأحلنا ذلك إلى الله عزوجل فقلنا اللهم صل أنت على رسولك لأنك أعلم بما يليق به وبما أردته له صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى ، ولعل ما ذكرناه ألطف منه ، ومقتضى ظاهر إرشاده صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم إلى طلب الصلاة عليه من الله تعالى شأنه أنه لا يحصل امتثال الأمر إلا بما فيه طلب ذلك منه عزوجل ويكفي اللهم صل على محمد لأنه الذي اتفقت عليه الروايات في بيان الكيفية ، وكأن خصوصية الإنشاء لفظا ومعنى غير لازمة ، ولذا قال بعض من أوجبها في الصلاة وستعلمه إن شاء الله تعالى : إنه كما يكفي اللهم صلّ على محمد ، ولا يتعين اللفظ الوارد

٢٥٤

خلافا لبعضهم يكفي صلّى الله على محمد على الأصح بخلاف الصلاة على رسول الله فإنه لا يجزي اتفاقا لأنه ليس فيه إسناد الصلاة إلى الله تعالى فليس في معنى الوارد. وفي تحفة ابن حجر يكفي الصلاة على محمد إن نوى بها الدعاء فيما يظهر ، وقال النيسابوري : لا يكفي صليت على محمد لأن مرتبة العبد تقصر عن ذلك بل يسأل ربه سبحانه أن يصلي عليه عليه الصلاة والسّلام وحينئذ فالمصلي عليه حقيقة هو الله تعالى ، وتسمية العبد مصليا عليه مجاز عن سؤاله الصلاة من الله تعالى عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتأمله.

وذكروا أن الإتيان بصيغة الطلب أفضل من الإتيان بصيغة الخبر. وأجيب عن إطباق المحدثين على الإتيان بها بأنه مما أمرنا به من تحديث الناس بما يعرفون إذ كتب الحديث يجتمع عند قراءتها أكثر العوام فخيف أن يفهموا من صيغة الطلب أن الصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم توجد من الله عزوجل بعد وإلا لما طلبنا حصولها له عليه صلاة الله تعالى وسلامه فأتى بصيغة يتبادر إلى أفهامهم منها الحصول وهي مع إبعادها إياهم من هذه الورطة متضمنة للطلب الذي أمرنا به انتهى ، ولا يخفى ضعفه فالأولى أن يقال : إن ذلك لأن تصليتهم في الأغلب في أثناء الكلام الخبري نحو قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا وفعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا فأحبوا أن لا يكثر الفصل وأن لا يكون الكلام على أسلوبين لما في ذلك من الخروج عن الجادة المعروفة إذ قلما تجد في الفصيح توسط جملة دعائية إلا وهي خبرية لفظا مع احتمال تشوش ذهن السامع وبطء فهمه وحسن الإفهام مما تحصل مراعاته فتدبر.

والظاهر أنه لا يحصل الامتثال باللهم عظم محمدا التعظيم اللائق ونحوه مما ليس فيه مشتق من الصلاة كصلّ وصلّى فإنا لم نسمع أحدا عد قائل ذلك مصليا عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك في غاية الظهور إذا كان قولوا اللهم صل على محمد تفسيرا لقوله تعالى : (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي وقولوا والسّلام عليك أيها النبي ونحوه وهذا ما عليه أكثر العلماء الأجلة ، وفي معنى السّلام عليك ثلاثة أوجه ، أحدها السلامة من النقائص والآفات لك ومعك أي مصاحبة وملازمة فيكون السّلام مصدرا بمعنى السلامة كاللذاذ واللذاذة والملام والملامة ولما في السّلام من الثناء عدي بعلى لا لاعتبار معنى القضاء أي قضى الله تعالى عليك السّلام كما قيل لأن القضاء كالدعاء لا يتعدى بعلى للنفع ولا لتضمنه معنى الولاية والاستيلاء لبعده في هذا الوجه ، ثانيها السّلام مداوم على حفظك ورعايتك ومتولّ له وكفيل به ويكون السّلام هنا اسم الله تعالى ، ومعناه على ما اختاره ابن فورك وغيره من عدة أقوال ذو السلامة من كل آفة ونقيصة ذاتا وصفة وفعلا ، وقيل : إذا أريد بالسلام ما هو من أسمائه تعالى فالمراد لا خلوت من الخير والبركة وسلمت من كل مكروه لأن اسم الله تعالى إذا ذكر على شيء أفاده ذلك.

وقيل : الكلام على هذا التقدير على حذف المضاف أي حفظ الله تعالى عليك والمراد الدعاء بالحفظ ، وثالثها الانقياد عليك على أن السّلام من المسالمة وعدم المخالفة ، والمراد الدعاء بأن يصير الله تعالى العباد منقادين مذعنين له عليه الصلاة والسّلام ولشريعته وتعديته بعلى قيل : لما فيه من الإقبال فإن من انقاد لشخص وأذعن له فقد أقبل عليه ، والأرجح عندي هو الوجه الأول ، وقيل : معنى (سَلِّمُوا تَسْلِيماً) انقادوا لأوامره صلى‌الله‌عليه‌وسلم انقيادا وهو غير بعيد إلا أن ظواهر الأخبار والآثار تقتضي المعنى السابق وكأنه لذلك ذهب إليه الأكثرون ، والجملة صيغة خبر معناها الدعاء بالسلامة وطلبها منه تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستشكل ذلك فيما إذا قال الله تعالى السّلام عليك أيها النبي أو نحوه بأن الدعاء لا يتصور منه عزوجل لأنه طلب وهو يتضمن طالبا ومطلوبا ومطلوبا منه وهي أمور متغايرة فإن كان طلبه سبحانه السلامة لنبيه عليه الصلاة والسّلام من غيره تعالى فمحاليته من أجلى البديهيات ، وإن كان من ذاته عزوجل لزم أن يغاير ذاته والشيء لا يغاير ذاته ضرورة ، وهذا منشأ قول بعضهم : إن في السّلام منه تعالى إشكالا له شأن فينبغي الاعتناء به وعدم إهمال أمره فقل من يدرك سره.

٢٥٥

وأجيب بأن الطلب من باب الإرادات والمريد كما يريد من غيره أن يفعل شيئا فكذلك يريد من نفسه أن يفعله هو والطلب النفسي وإن لم يكن الإرادة فهو أخص منها وهي كالجنس له فكما يعقل أن المريد يريد من نفسه فكذلك يطلب منها إذ لا فرق بين الطلب والإرادة ، والحاصل أن طلب الحق جل وعلا من ذاته أمر معقول يعلمه كل واحد من نفسه بدليل أنه يأمرها وينهاها قال سبحانه : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف : ٥٣] (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) [النازعات : ٤٠] والأمر والنهي قسمان من الطلب وقد تصورا من الإنسان لنفسه بالنص فكذا بقية أقسام الطلب وأنواعه ، وأوضح من هذا أن الطلب منه تعالى بمعنى الإرادة وتعقل إرادة الشخص من ذاته شيئا بناء على التغاير الاعتباري ومثله يكفي في هذا المقام ، ومعنى اللهم سلم على النبي اللهم قل السلام على النبي على ما قيل ، وقيل : معناه اللهم أوجد أو حقق السلامة له ، وقيل : اللهم سلمه من النقائص والآفات.

وقال بعض المعاصرين : إن السلام عليك ونحوه من الله عزوجل لإنشاء السلامة وإيجادها بهذا اللفظ نظير ما قالوه في صيغ العقود واختار أن معنى اللهم سلم على النبي اللهم أوجد السلامة أو حققها له دون قل السلام على النبي تقليلا للمسافة فتدبر ، وقد يكون السلام منه عزوجل على أنبيائه عليهم‌السلام نحو قوله سبحانه : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) [الصافات : ٧٩]. (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) [الصافات : ١٠٩] (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) [الصافات : ١٢٠] تنبيها على أنه جل شأنه جعلهم بحيث يدعى لهم ويثنى عليهم ، ونصب (تَسْلِيماً) على أنه مصدر مؤكد ، وأكد سبحانه التسليم ولم يؤكد الصلاة قيل لأنها مؤكدة بإعلامه تعالى أنه يصلي عليه وملائكته ولا كذلك التسليم فحسن تأكيده بالمصدر إذ ليس ثم ما يقوم مقامه.

وإلى هذا يؤول قول ابن القيم التأكيد فيهما (١) وإن اختلف جهته فإنه تعالى أخبر في الأول بصلاته وصلاة ملائكته عليه مؤكدا له بأن وبالجمع المفيد للعموم في الملائكة وفي هذا من تعظيمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يوجب المبادرة إلى الصلاة عليه من غير توقف على الأمر موافقة لله تعالى وملائكته في ذلك ، وبهذا استغنى عن تأكيد «يصلي» بمصدر ولما خلا السلام عن هذا المعنى وجاء في حيز الأمر المجرد حسن تأكيده بالمصدر تحقيقا للمعنى وإقامة لتأكيد الفعل مقام تقريره وحينئذ حصل لك التكرير في الصلاة خبرا وطلبا كذلك حصل لك التكرير في السلام فعلا ومصدرا ، وأيضا هي مقدمة عليه لفظا والتقديم يفيد الاهتمام فحسن تأكيد السلام لئلا يتوهم قلة الاهتمام به لتأخره ، وقيل : إن في الكلام الاحتباك والأصل صلوا عليه تصلية وسلموا عليه تسليما فحذف عليه من إحدى الجملتين والمصدر من الأخرى وأضيفت الصلاة إلى الله تعالى وملائكته دون السلام وأمر المؤمنون بهما قيل لأن للسلام معنيين التحية والانقياد فأمرنا بهما لصحتهما هنا ، ولم يضف لله سبحانه والملائكة لئلا يتوهم إنه في الله تعالى والملائكة بمعنى الانقياد المستحيل في حقه تعالى وكذا في حق الملائكة ، وقيل الصلاة من الله سبحانه والملائكة متضمنة للسلام بمعنى التحية الذي لا يتصور غيره فكان في إضافة الصلاة إليه تعالى وإلى الملائكة استلزام لوجود السلام بهذا المعنى ، وأما الصلاة منا فهي وأن استلزمت التحية أيضا إلا أنا مخاطبون بالانقياد وهي لا تستلزمه فاحتيج إلى التصريح به فينا لأن الصلاة لا تغني عن معنييه المتصورين في حقنا المطلوبين منا ، ثم قيل : وهذا أولى مما قبله لأن ذلك يرد عليه قوله تعالى : (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤] ولا يرد هذان على هذا ا ه ، وفيه بحث.

__________________

(١) مبتدأ وخبر ا ه منه.

٢٥٦

وقال الشهاب الخفاجي عليه الرحمة : قد لاح لي في ترك تأكيد السلام وتخصيصه بالمؤمنين نكتة سرية وهي أن السلام عليه عليه الصلاة والسلام تسليمه عما يؤذيه فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والأذية إنما هي من البشر وقد صدرت منهم فناسب التخصيص بهم والتأكيد ، وربما يقال على بعد في ذلك : إنه يمكن أن يكون سلام الله تعالى وملائكته عليه عليه الصلاة والسلام معلوما للمؤمنين قبل نزول الآية فلم يذكر ويسلمون فيها لذلك وأن كونهم مأمورين بأن يسلموا عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أيضا معلوما لهم ككيفية السلام ويؤذن بهذه المعلومية ما ورد في عدة أخبار أنهم قالوا عند نزول الآية : يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك وعنوا بذلك على ما قيل ما في التشهد من السلام فلما أخبروا بصلاة الله تعالى وملائكته عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية مجردة عن ذكر السلام وأردف ذلك بالأمر بالصلاة كان مظنة عدم الاعتناء بأمر السلام أو أنه نسخ طلبه منهم فأمروا به مؤكدا دفعا لتوهم ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحال ، والأمر في الآية عند الأكثرين للوجوب بل ذكر بعضهم إجماع الأئمة والعلماء عليه ، ودعوى محمد بن جرير الطبري أنه للندب بالإجماع مردودة أو مؤولة بالحمل على ما زاد على مرة واحدة في العمر فقد قال القرطبي المفسر : لا خلاف في وجوب الصلاة في العمر مرة ، وتفصيل الكلام في أمرها بعد إلغاء القول بندبها أن العلماء اختلفوا فيها فقيل : واجبة مرة في العمر ككلمة التوحيد لأن الأمر مطلق لا يقتضي تكرارا والماهية تحصل بمرة وعليه جمهور الأمة منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهما ، وقيل : واجبة في التشهد مطلقا ، وقيل : واجبة في مطلق الصلاة ، وتفرد بعض الحنابلة بتعين دعاء الافتتاح بها.

وقيل : يجب الإكثار منها من غير تعيين بعدد وحكي ذلك عن القاضي أبي بكر بن بكير ، وقيل : تجب في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرارا ، وقيل : تجب في كل دعاء ، وقيل : تجب كلما ذكر عليه الصلاة والسلام وبه قال جمع من الحنفية منهم الطحاوي ، وعبارته تجب كلما سمع ذكره من غيره أو ذكره بنفسه وجمع من الشافعية منهم الإمام الحليمي والأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني والشيخ أبو حامد الأسفرايني. وجمع من المالكية منهم الطرطوشي وابن العربي والفاكهاني وبعض الحنابلة قيل وهو مبني على القول الضعيف في الأصول أن الأمر المطلق يفيد التكرار وليس كذلك بل له أدلة أخرى كالأحاديث التي فيها الدعاء بالرغم والأبعاد والشقاء والوصف بالبخل والجفاء وغير ذلك مما يقتضي الوعيد وهو عند الأكثر من علامات الوجوب. واعترض هذا القول كثيرون بأنه مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله إذ لم يعرف عن صحابي ولا تابعي وبأنه يلزم على عمومه أن لا يتفرغ السامع لعبادة أخرى وأنها تجب على المؤذن وسامعه والقارئ المار بذكره والمتلفظ بكلمتي الشهادة وفيه من الحرج ما جاءت الشريعة السمحة بخلافه ، وبأن الثناء على الله تعالى كلما ذكر أحق بالوجوب ولم يقولوا به ، وبأنه لا يحفظ عن صحابي أنه قال : يا رسول الله صلى الله عليك ، وبأن تلك الأحاديث المحتج بها للوجوب خرجت مخرج المبالغة في تأكد ذلك وطلبه وفي حق من اعتاد ترك الصلاة ديدنا.

ويمكن التقصي عن جميع ذلك ، أما الأول فلأن القائلين بالوجوب من أئمة النقل فكيف يسعهم خرق الإجماع على أنه لا يكفي في الرد عليهم كونه لم يحفظ عن صحابي أو تابعي وإنما يتم الرد إن حفظ إجماع مصرح بعدم الوجوب كذلك وأني به ، وأما الثاني فممنوع بل يمكن التفرغ لعبادات أخر ، وأما الثالث فللقائلين بالوجوب التزامه وليس فيه حرج ، وأما الرابع فلأن جمعا صرحوا بالوجوب في حقه تعالى أيضا ، وأما الخامس فلأنه ورد في عدة طرق عن عدة من الصحابة أنهم لما قالوا : يا رسول الله قالوا : صلى الله عليك ، وأما السادس فلأن حمل الأحاديث على ما ذكر لا يكفي إلا مع بيان سنده ولم يبينوه ، ثم القائلون بالوجوب كما ذكر أكثرهم على أن ذلك فرض عين على كل

٢٥٧

فرد فرد وبعضهم على أنه فرض كفاية ، واختلفوا أيضا هل يتكرر الوجوب بتكرر ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المجلس الواحد ، وفي بعض شروح الهداية يكفي مرة على الصحيح وقال صاحب المجتبى : يتكرر وفي تكرر ذكر الله تعالى لا يتكرر ، وفرق هو وغيره بينهما بما فيه نظر ويمكن الفرق بأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والتوسعة وحقوق العباد مبنية على المشاحة والتضييق ما أمكن. والقول بأنها أيضا حق الله تعالى لأمره بها سبحانه ناشئ من عدم فهم المراد بحقه تعالى ، وقيل : إنها تجب في القعود آخر الصلاة بين التشهد وسلام التحلل وهذا هو مذهب الشافعي الذي صح عنه ، ونقل الأسنوي أن له قولا آخر إنها سنة في الصلاة لم يعتبره أجلة أصحابه ووافقه على ذلك جماعة من الصحابة والتابعين من بعدهم وفقهاء الأمصار ، فمن الصحابة ابن مسعود فقد صح عنه أنه قال : يتشهد الرجل في الصلاة ثم يصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يدعو لنفسه ، وأبو مسعود البدري وابن عمر فقد صح عنهما أنه لا تكون صلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن نسيت من ذلك شيئا فاسجد سجدتين بعد السلام ، ومن التابعين الشعبي فقد صح عنه كنا نعلم التشهد فإذا قال : وأن محمدا عبده ورسوله يحمد ربه ويثني عليه ثم يصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يسأل حاجته.

وأخرج البيهقي عنه من لم يصل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التشهد فليعد صلاته أو قال : لا تجزئ صلاته ، والإمام أبو جعفر محمد الباقر فقد روى البيهقي عنه نحو ما ذكر عن الشعبي ، وصوبه الدارقطني ومحمد بن كعب القرظي ومقاتل بل قال الحافظ ابن حجر : لم أر عن أحد من الصحابة والتابعين التصريح بعدم الوجوب إلا ما نقل عن إبراهيم النخعي وهذا يشعر بأن غيره كان قائلا بالوجوب ، ومن فقهاء الأمصار أحمد فإنه جاء عنه روايتان والظاهر أن رواية الوجوب هي الأخيرة فإنه قال : كنت أتهيب ذلك ثم تبينت فإذا الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجبة وإسحاق بن راهويه فقد قال في آخر الروايتين عنه : إذا تركها عمدا بطلت صلاته أو سهوا رجوت أن تجزئه وهو قول عند المالكية اختاره ابن العربي منهم ولعله لازم للقائلين بوجوبها كلما ذكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتقدم ذكره في التشهد إلا أن وجوبها بعد التشهد لذلك لا يستلزم كونها شرطا لصحة الصلاة إلا أنه يرد على القائلين بأن الشافعي رضي الله تعالى عنه شذ في قوله بالوجوب ، وأما دليله رضي الله تعالى عنه على ذلك فمذكور في الأم. وقد استدل له أصحابه بعدة أحاديث منها الصحيح ومنها الضعيف وألفوا الرسائل في الانتصار له والرد على من شنع عليه كابن جرير وابن المنذر والخطابي والطحاوي وغيرهم ، وأنا أرى التشنيع على مثل هذا الإمام شنيعا والتعصب مع قلة التتبع أمرا فظيعا ، والكلام في السلام كالكلام في الصلاة.

وقد صرح ابن فارس اللغوي بأنهما سيان في الفرضية لأن كلا منهما مأمور به في الآية والأمر للوجوب حقيقة إلا إذا ورد ما يصرفه عنه. وأفضل الكيفيات في الصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما علمه رسول الله عليه الصلاة والسلام لأصحابه بعد سؤالهم إياه لأنه لا يختار صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفسه إلا الأشرف والأفضل ، ومن هنا قال النووي في الروضة : لو حلف ليصلين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الصلاة لم يبر إلا بتلك الكيفية ، ووجهه السبكي بأن من أتى بها فقد صلى الصلاة المطلوبة بيقين وكان له الخير الوارد في أحاديث الصلاة كذلك ، ونقل الرافعي عن المروزي أنه يبر باللهم صل على محمد وآل محمد كلما ذكرك الذاكرون وكلما سها عنه الغافلون ، وقال القاضي حسين : طريق البر اللهم صلّ على محمد كما هو أهله ومستحقه ، واختار البارزي أن الأفضل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد أفضل صلواتك وعدد معلوماتك ، وقال الكمال بن الهمام : كلما ذكر من الكيفيات موجود في اللهم صل أبدا أفضل صلواتك على سيدنا عبدك ونبيك ورسولك محمد وآله وسلم عليه تسليما وزده شرفا وتكريما وأنزله المنزل المقرب عندك يوم القيامة ، واختار ابن حجر الهيثمي غير ذلك ، ونقل ابن عرفة عن ابن عبد السلام أنه لا بدّ في السلام عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يزيد تسليما كأن يقول : اللهم

٢٥٨

صل على محمد وسلم تسليما أو صلى الله تعالى عليه وسلم تسليما ، وكأنه أخذ بظاهر ما في الآية وليس أخذا صحيحا كما يظهر بأدنى تأمل ، ونقل عن جمع من الصحابة ومن بعدهم أن كيفية الصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يوقف فيها مع المنصوص وأن من رزقه الله تعالى بيانا فأبان عن المعاني بالألفاظ الفصيحة المباني الصريحة المعاني مما يعرب عن كمال شرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعظيم حرمته فله ذلك ، واحتج له بما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن ماجة وابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : إذا صليتم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأحسنوا الصلاة عليه فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه قالوا : فعلمنا؟ قال : قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وفي قوله سبحانه : (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) رمز خفي فيما أرى إلى مطلوبية تحسين الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام حيث أتى به كلاما يصلح أن يكون شطرا من البحر الكامل فتدبره فإني أظن أنه نفيس ، واستدل النووي رحمة الله تعالى بالآية على كراهة أفراد الصلاة عن السلام وعكسه لورود الأمر بهما معا فيها ووافقه على ذلك بعضهم ، واعترض بأن أحاديث التعليم تؤذن بتقدم تعليم التسليم على تعليم الصلاة فيكون قد أفرد التسليم مرة قبل الصلاة في التشهد. ورد بأن الإفراد في ذلك الزمن لا حجة فيه لأنه لم يقع منه عليه الصلاة والسلام قصدا كيف والآية ناصة عليهما وإنما يحتمل أنه علمهم السلام وظن أنهم يعلمون الصلاة فسكت عن تعليمهم إياها فلما سألوه أجابهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك وهو كما ترى ، وذكر العلامة ابن حجر الهيتمي أن الحق أن المراد بالكراهة خلاف الأولى إذ لم يوجد مقتضيها من النهي المخصوص.

ونقل الحموي من أصحابنا عن منية المفتي أنه لا يكره عندنا أفراد أحدهما عن الآخر ثم قال نقلا عن العلامة ميرك وهذا الخلاف في حق نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما غيره من الأنبياء عليهم‌السلام فلا خلاف في عدم كراهة الافراد لأحد من العلماء ومن ادعى ذلك فعليه أن يورد نقلا صريحا ولا يجد إليه سبيلا انتهى.

وصرح بعضهم أن الكراهة عند من يقول بها إنما هي في الافراد لفظا وأما الافراد خطا كما وقع في الأم فلا كراهة فيه ، وعندي أن الاستدلال بالآية على كراهة الأفراد حسبما سمعت في غاية الضعف إذ قصارى ما تدل عليه أن كلا من الصلاة والتسليم مأمور به مطلقا ولا تدل على الأمر بالإتيان بهما في زمان واحد كأن يؤتى بهما مجموعين معطوفا أحدهما على الآخر فمن صلى بكرة وسلم عشيا مثلا فقد امتثل الأمر فإنها نظير قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) و (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ) [الأحزاب : ٤٢] إلى غير ذلك من الأوامر المتعاطفة ، نعم درج أكثر السلف على الجمع بينهما فلا أستحسن العدول عنه ما ما في ذكر السلام بعد الصلاة من السلامة من توهم لا يكاد يعرض إلا للأذهان السقيمة كما لا يخفى ، وفي دخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخطاب بيا أيها الذين آمنوا هنا خلاف فقال بعضهم بالدخول ، وقد صرح بعض أجلة الشافعية بوجوب الصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلاته وذكر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي على نفسه خارجها كما هو ظاهر أحاديث كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ضلت ناقته وتكلم منافق فيها «إن رجلا من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وقوله حين عرض على المسلمين رد ما أخذه من أبي العاص زوج ابنته زينب قبل إسلامه «وإن زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألتني» الحديث فذكر التصلية والتسليم على نفسه بعد ذكره واحتمال أن ذلك في الحديثين من الراوي بعيد جدا ا ه.

وتوقف بعضهم في دخوله من حيث أن قرينة سياق (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) إلى هنا

٢٥٩

ظاهرة في اختصاص هذا الحكم بالمؤمنين دونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونظر فيه بأن ما قبل هذه الآية صريح في اختصاصه بالمؤمنين وأما هي فلا قرينة فيها على الاختصاص ، وأنت تعلم أن للأصوليين في دخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نحو هذه الصيغة أقوالا ، عدمه مطلقا وهو شاذ ، ودخوله مطلقا وهو الأصح على ما قال جمع ، والدخول إلا فيما صدر بأمره بالتبليغ نحو قل يا أيها الذين آمنوا ، وأنا أعول على الدخول إلا إذا أوجدت قرينة على عدم الدخول سواء كانت الأمر بالتبليغ أو لا ، وهاهنا السباق والسياق قرينتان على عدم الدخول فيما يظهر ، وعبر بالذين آمنوا دون الناس الشامل للكفار قيل : إشارة إلى أن الصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أجلّ الوسائل وأنفعها والكافر لا وسيلة له فلم يؤت بلفظ يشمله ، ومخاطبة الكفار بالفروع على القول بها بالنسبة لعقابهم عليها في الآخرة فحسب على أن محل تكليفهم بها حيث أجمع عليها ، ومن ثم استثنى من مخاطبتهم بها معاملتهم الفاسدة ونحوها.

ولعل الأولى أن التعبير بذلك لما ذكر مع اقتضاء السياق له ، وفي نداء المؤمنين بهذا الأسلوب من حثهم على امتثال الأمر ما لا يخفى ، والأمر بالصلاة والتسليم من خواص هذه الأمة فلم تؤمر أمة غيرها بالصلاة والتسليم على نبيها.

وكان ذلك على ما نقل عن أبي ذر الهروي في السنة الثانية من الهجرة ، وقيل : كان في ليلة الإسراء ، وأنت تعلم أن الآية مدنية ، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنها لما نزلت قال أبو بكر : ما أنزل الله عليك خيرا إلا أشركنا فيه فنزلت (هُوَ الَّذِي (١) يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) وحكمة تغاير أسلوبي الآيتين ظاهرة على المتأمل ، والصلاة منا على الأنبياء ما عدا نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام جائزة بلا كراهة ، فقد جاء بسند صحيح على ما قاله المجد اللغوي «إذا صليتم علي المرسلين فصلوا علي معهم فإني رسول من المرسلين» وفي لفظ «إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين» وللأول طريق أخرى إسنادها حسن جيد لكنه مرسل.

وأخرج عبد الرزاق والقاضي إسماعيل وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلوا على أنبياء الله ورسله فإن الله تعالى بعثهم كما بعثني» وهو وإن جاء من طرق ضعيفة يعمل به في مثل هذا المطلب كما لا يخفى. وأما ما حكي عن مالك من أنه لا يصلي على غير نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأنبياء فأوله أصحابه بأن معناه إنا لم نتعبد بالصلاة عليهم كما تعبدنا بالصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والصلاة على الملائكة قيل لا يعرف فيها نص وإنما تؤخذ من حديث أبي هريرة المذكور آنفا إذا ثبت أن الله تعالى سماهم رسلا. وأما الصلاة على غير الأنبياء والملائكة عليهم‌السلام فقد اضطربت فيها أقوال العلماء فقيل تجوز مطلقا قال القاضي عياض وعليه عامة أهل العلم واستدل له بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) وبما صح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم صلّ على آل أبي أوفى» وقوله عليه الصلاة والسلام وقد رفع يديه : «اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة» وصحح ابن حبان خبر «إن امرأة قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صلّ عليّ وعلى زوجي ففعل» وفي خبر مسلم «أن الملائكة تقول لروح المؤمن : صلى الله عليك وعلى جسدك» وبه يرد على الخفاجي قوله في شرح الشفاء صلاة الملائكة على الأمة لا تكون إلا بتبعيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل لا تجوز مطلقا. وقيل لا تجوز استقلالا وتجوز تبعا فيما ورد فيه النص كالآل أو ألحق به كالأصحاب. واختاره القرطبي وغيره وقيل تجوز تبعا مطلقا ولا تجوز استقلالا ونسب إلى أبي حنيفة وجمع. وفي تنوير الأبصار ولا يصلي على غير الأنبياء والملائكة إلا بطريق التبع وهو محتمل لكراهة الصلاة بدون تبع تحريما ولكراهتها تنزيها ولكونها خلاف الأولى لكن ذكر البيري من الحنفية من صلى على غيرهم إثم وكره وهو الصحيح. وفي رواية عن أحمد كراهة ذلك استقلالا. ومذهب الشافعية أنه خلاف الأولى وقال اللقاني : قال القاضي عياض الذي

٢٦٠