روح المعاني - ج ١١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

(يَرْزُقُكُمْ) لم يساعد عليه المعنى لأن قولك هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلا ذلك الخالق غير مستقيم لأن قولك هل من خالق سوى الله إثبات لله تعالى فلو ذهبت تقول ذلك كنت مناقضا بالنفي بعد الإثبات ا ه ، وبين صاحب الكشف وجه المناقضة على تقدير أن يكون غير الله صفة بأن الكلام مسوق لنفي المشاركة في الصفة المحققة أعني الخلق فقولك هل من خالق آخر سوى الله إثبات لله تعالى ونفي المشارك له فيها ثم وصف الآخر بانحصار الإلهية فيه يكون لنفي خالقيته دون تفرد بالإلهية والتفرد بالإلهية مع مغايرته لله تعالى متناقضان لأن الأول ينفيه تعالى عن ذلك علوا كبيرا والثاني يثبته مع الغير جل عن كل شريك ونقص ، ثم قال : والتحقيق في هذا أن هل لإنكار ما يليها وما تلاه إن كان من تتمته ينسحب عليه حكم الإنكار بالبقية وإلا كان مبقى على حاله نفيا وإثباتا ، ولما كان الكلام في الخالقية على ما مر لم يكن الوصفان أعني تفرد الآخر بالإلهية ومغايرته للقيوم الحق مصبا له وهما متناقضان في أنفسهما على ما بين فيلزم ما ذكره جار الله لزوما بينا ا ه ، وقد دفع بتقريره ذلك كثيرا من القال والقيل بيد أنه لا يخلو عن بحث ، ويمكن تقرير المناقضة على تقدير الوصفية بوجه أظهر لعله لا يخفى على المتأمل ، ويجوز أن يكون المانع من الوصفية النظم المعجز وحاكمه الذوق السليم والكلام في ذلك طويل فتأمل ، والفاء في قوله تعالى : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) لترتيب إنكار عدولهم عن التوحيد إلى الإشراك على ما قبلها كأنه قيل : وإذا تبين تفرده تعالى بالألوهية والخالقية والرازقية فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك ، وقوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) إلخ تسلية له عليه الصلاة والسّلام بعموم البلية والوعد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوعيد لأعدائه ، والمعنى وإن استمروا على أن يكذبوك فيما بلغت إليهم من الحق المبين بعد ما أقمت عليهم الحجة وألقمتهم الحجر فتأس بأولئك الرسل في الصبر فقد كذبهم قومهم وصبروا فجملة قد (كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) قائمة مقام جواب الشرط والجواب في الحقيقة تأس ، وأقيمت تلك الجملة مقامه اكتفاء بذكر السبب عن ذكر المسبب ، وجوز أن تجعل هي الجواب من غير تقدير ويكون المترتب على الشرط الإعلام والإخبار كما في قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] وتنكير رسل للتعظيم والتكثير الموجبين لمزيد التسلية والحث على التأسي والصبر على ما أصابه عليه الصلاة والسّلام من قومه أي رسل أولو شأن خطير وعدد كثير (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) لا إلى غيره عزوجل فيجازي سبحانه كلا منك ومنهم بما يليق به ، وفي الاقتصار على ذكر اختصاص المرجع به تعالى مع إبهام الجزاء ثوابا وعقابا من المبالغة في الوعد والوعيد ما لا يخفى. وقرئ «ترجع» بفتح التاء من الرجوع والأول أدخل في التهويل.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) المشار إليه بقوله سبحانه : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) من البعث والجزاء (حَقٌ) ثابت لا محالة من غير خلف (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بأن يذهلكم التمتع بمتاعها ويلهيكم التلهي بزخارفها عن تدارك ما ينفعكم يوم حلول الميعاد ، والمراد نهيهم عن الاغترار بها وإن توجه النهي صورة إليها نظير قوله تعالى : (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) [هود : ٨٩] وقولك لا أرينك هنا (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) حيث إنه جل شأنه عفو كريم رءوف رحيم (الْغَرُورُ) أي المبالغ في الغرور ، وهو على ما روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد الشيطان فالتعريف للعهد ، ويجوز التعميم أي لا يغرنكم كل من شأنه المبالغة في الغرور بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية قائلا إن الله يغفر الذنوب جميعا فإن ذلك وإن أمكن لكن تعاطي الذنوب بهذا التوقع من قبيل تناول السم تعويلا على دفع الطبيعة ، وتكرير فعل النهي للمبالغة فيه ولاختلاف الغرورين في الكيفية.

وقرأ أبو حيوة وأبو السمال «الغرور» بالضم على أنه مصدر غره يغره وإن قل في المتعدي أو جمع غار كقعود وسجود مصدرين وجمعين ، وعلى المصدرية الإسناد مجازي (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) عداوة عامة قديمة لا تكاد

٣٤١

تزول ، ويشعر بذلك الجملة الاسمية و«لكم» وتقديمه للاهتمام (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) بمخالفتكم إياه في عقائدكم وأفعالكم وكونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) تقرير لعداوته وتحذير من طاعته بالتنبيه على أن غرضه في دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى ملاذ الدنيا ليس إلا توريطهم وإلقاءهم في العذاب المخلد من حيث لا يشعرون فاللام ليست للعاقبة. وزعم ابن عطية أنها لها.

(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بسبب كفرهم وإجابتهم لدعوة الشيطان واتباعهم لخطواته ، ولعل تنكير «عذاب» لتعظيمه بحسب المدة فكأنه قيل : لهم عذاب دائم شديد (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) عظيمة (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) لا غاية لهما بسبب ما ذكر من الإيمان والعمل الصالح ، و (الَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ خبره (لَهُمْ عَذابٌ) وكذا (الَّذِينَ آمَنُوا) و (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) إلخ ، وجوز بعضهم كون (الَّذِينَ كَفَرُوا) في موضع خفض بدلا من (أَصْحابِ السَّعِيرِ) أو صفة له أو في موضع نصب بدلا من (حِزْبَهُ) أو صفة له أو في موضع رفع بدلا من ضمير (لِيَكُونُوا) والكل مفوت لجزالة التركيب كما لا يخفى على الأريب (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) أي حسن له عمله السيّئ (فَرَآهُ) فاعتقده بسبب التزيين (حَسَناً) فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، و (مَنْ) موصولة في موضع رفع على الابتداء والجملة بعدها صلتها والخبر محذوف والفاء للتفريع والهمزة للإنكار فإن كانت مقدمة من تأخير كما هو رأي سيبويه والجمهور في نظير ذلك فالمراد تفريع إنكار ما بعدها على ما قبلها من الحكمين السابقين أي إذا كانت عاقبة كل من الفريقين ما ذكر فليس الذي زين له الكفر من جهة عدوه الشيطان فاعتقده حسنا وانهمك فيه كمن استقبحه واجتنبه واختار الإيمان والعمل الصالح وإن كانت في محلها الأصلي وكان العطف على مقدر تكون هي داخلة إليه كما ذهب إليه جمع فالمراد ما في حيزها ويكون التقدير أهما أي الذين كفروا والذين آمنوا وعملوا الصالحات متساويان فالذي زين له الكفر من جهة عدوه الشيطان فاعتقده حسنا وانهمك فيه كمن استقبحه واجتنبه واختار الإيمان والعمل الصالح أي ما هما متساويان ليكون الذي زين له الكفر كمن استقبحه ، وحذف هذا الخبر لدلالة الكلام عليه واقتضاء النظم الجليل إياه ، وقد صرح بالجزءين في نظير الآية الكريمة من قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) [محمد : ١٤] وقوله سبحانه : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) [الرعد : ١٩] وقوله عزوجل : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) [الأنعام : ١٢٢] وفي التعبير عن الكافر بمن زين له سوء عمله فرآه حسنا إشارة إلى غاية ضلاله حتى كأنه غلب على عقله وسلب تمييزه فشأن المغلوب على عقله ذلك كما يشير إليه قول أبي نواس :

اسقني حتى تراني

حسنا عندي القبيح

وظاهر كلام الزجاج أن من شرطية حيث قال : الجواب على ضربين ، أحدهما ما يدل عليه قوله تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) إلخ ويكون المعنى أفمن زين له سوء عمله فأضله الله ذهبت نفسك عليهم حسرة ، وثانيهما ما يدل عليه قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ) إلخ ويكون المعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله تعالى ، وإلى ذلك ذهب ابن مالك أيضا ، واعترض ابن هشام على التقدير الثاني بأن الظرف لا يكون جوابا وإن قلنا إنه جملة ، ووجهه أن الرضي صرح بأنه لا يكون مستقرا في غير الخبر والصفة والصلة والحال ولم يذكر الجواب لا أن ذلك لعدم الفاء ، وتقديرها داخلة على مبتدأ يكون الظرف خبره والجملة بتمامها جزاء غير جائز لما فيه من التكلف كما قيل.

وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون الزجاج قد ذهب إلى أن من موصولة وأطلق على خبرها الجواب لشبهه به في المعنى ألا تراهم يدخلون الفاء في خبر الموصول الذي صلته جملة فعلية كما يدخلونها في جواب الشرط فيقولون

٣٤٢

الذي يأتيني فله درهم ، وفيه أنه خلاف الظاهر ولا قرينة على إرادته سوى عدم صحة الجزائية ، وضعف التقدير الأول بالفصل بين ما فيه الحذف ودليل المحذوف مع خفاء ربط الجملة بما قبلها عليه ، ولا ينبغي أن تكون من شرطية جوابها فرآه لما في ذلك من الركاكة الصناعية فإن الماضي في الجواب لا يقترن بالفاء بدون قد مع خفاء أمر إنكار رؤية سوء العمل حسنا بعد التزيين وتفريعه على ما قبله من الحكمين ، وكون الإنكار لما أن المزين هو الشيطان العدو والتفريع على قوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) لا يخفى حاله فالوجه المعول عليه ما تقدم جعل عليه ، وقوله تعالى :

(فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) تعليلا لسببية التزيين لرؤية القبيح حسنا ، وفيه دفع استبعاد أن يرى الشخص القبيح حسنا بتزيين العدو إياه ببيان أن ذلك بمشيئة الله عزوجل التابعة للعلم المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر وإيذان بأن أولئك الكفرة الذين زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا ممن شاء الله تعالى ضلالهم ، وقوله تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) تفريع عليه أي إذا كان الأمر كذلك فلا تذهب نفسك إلخ ، وذكر المولى سعدي جلبي أن الهمزة في (أَفَمَنْ) على التقدير الأول من التقديرين اللذين نقلا عن الزجاج لإنكار ذهاب نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه عليهم حسرة والفاء في قوله سبحانه (فَإِنَّ اللهَ) إلخ تعليل لما يفهمه النظم الجليل من أنه لا جدوى للتحسر ، وفي الكشف أنه تعالى لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا قال سبحانه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) يعني أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له فكأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا فقال تعالى (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) ويفهم من كلام الطيبي أن فاء (فَلا تَذْهَبْ) جزائية وفاء (فَإِنَّ اللهَ) للتعليل وأن الجملة مقدمة من تأخير فقد قال : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان حريصا على إيمان القوم وأن يسلك الضالين في زمرة المهتدي فقيل له عليه الصلاة والسّلام على سبيل الإنكار لذلك : أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له فلا بدّ أن يقر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنفي ويقول لا فحينئذ يقال له فإذا كان كذلك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فقدم وأخر انتهى وفيه نظر ، وفي الآيات على ما يقتضيه ظاهر كلام الزمخشري لفّ ونشر وبذلك صرح الطيبي ثم قال : الأحسن أن تجعل الآيات من الجمع والتقسيم والتفريق فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) جمع الفريقين معا في حكم نداء الناس وجمع ما لهما من الثواب والعقاب في حكم الوعد وحذرهما معا عن الغرور بالدنيا والشيطان ، وأما التقسيم فهو قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وأما التفريق فقوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) لأنه فرق فيه وبين التفاوت بين الفريقين كما قال الزمخشري أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له ، وفرع على ذلك ظهور أن الفاء في (أَفَمَنْ) للتعقيب والهمزة الداخلة بين المعطوف والمعطوف عليه لإنكار المساواة وتقرير البون العظيم بين الفريقين وأن المختار من أوجه ذكرها السكاكي في المفتاح تقدير كمن هداه الله تعالى فحذف لدلالة (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ولهم في نظم الآيات الكريمة كلام طويل غير ما ذكرناه من أراده فليتبع كتب التفاسير والعربية ، ولعل فيما ذكرناه مقنعا لمن أوتي ذهنا سليما وفهما مستقيما.

والحسرات جمع حسرة وهي الغم على ما فاته والندم عليه كأنه انحسر عنه ما حمله على ما ارتكبه أو انحسر قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه ، وانتصبت على أنها مفعول من أجله أي فلا تهلك نفسك للحسرات ، والجمع مع أن الحسرة في الأصل مصدر صادق على القليل والكثير للدلالة على تضاعف اغتمامه عليه الصلاة والسّلام على أحوالهم أو على كثرة قبائح أعمالهم الموجبة للتأسف والتحسر ، و (عَلَيْهِمْ) صلة (تَذْهَبْ)

٣٤٣

كما يقال هلك عليه حبا ومات عليه حزنا أو هو بيان للمتحسر عليه فيكون ظرفا مستقرا ومتعلقه مقدر كأنه قيل : على من تذهب؟ فقيل : عليهم ، وجوز أن يتعلق بحسرات بناء على أنه يغتفر تقديم معمول المصدر عليه إذا كان ظرفا وهو الذي أختاره والزمخشري لا يجوز ذلك ، وجوز أن يكون حسرات حالا من (نَفْسُكَ) كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر كما قال جرير :

مشق الهواجر لحمهن مع السرى

حتى ذهبن كلا كلا وصدورا

يريد رجعن كلاكلا وصدورا أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها ، وهو الذي ذهب إليه سيبويه في البيت ، وقال المبرد : كلاكلا وصدورا تمييز محول عن الفاعل أي حتى ذهب كلاكلها وصدورها ، ومن هذا قوله :

فعلى أثرهم تساقط نفسي

حسرات وذكرهم لي سقام

وفيه مبالغات ثلاث ، وقرأ عبيد بن عمير «زيّن» مبنيا للفاعل ، ونصب «سوءا» وعنه أيضا «أسوأ» على وزن أفعل وأريد بأسوإ عمله الشرك ، وقرأ طلحة «أمن» بغير فاء قال صاحب اللوامح : فالهمزة للاستخبار والتقرير ويجوز أن تكون للنداء وحذف ما نودي لأجله أي تفكر وارجع إلى الله فإن الله إلخ ، والظاهر أنها للإنكار كما في قراءة الجمهور ، وقرأ أبو جعفر ، وقتادة وعيسى والأشهب وشيبة وأبو حيوة وحميد والأعمش وابن محيصن «تذهب» من أذهب مسندا إلى ضمير المخاطب «نفسك» بالنصب على المفعولية ورويت عن نافع.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) في موضع التعليل لما قبله وفيه وعيد للكفرة أي إنه تعالى عليم بما يصنعونه من القبائح فيجازيهم عليه ، والآيات من قوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) إلى هنا نزلت على ما روي عن ابن عباس في أبي جهل ومشركي مكة ، وأخرج جويبر عن الضحاك أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل حيث هدى الله تعالى عمر وأضل أبا جهل (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) مبتدأ وخبر ، وقرأ حمزة ، والكسائي وابن كثير «الريح» وصيغة المضارع في قوله تعالى : (فَتُثِيرُ سَحاباً) لحكاية الحال الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة وكثيرا ما يفعلون ذلك بفعل فيه نوع تميز وخصوصية بحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك ، ومنه قول تأبط شرا :

ألا من مبلغ فتيان فهم

بما لاقيت عند رحى بطان

بأني قد رأيت الغول تهوي

بسهب كالصحيفة صحصحان

فقلت لها كلانا نضو أرض

أخو سفر فخلي لي مكاني

فشدت شدة نحوي فأهوت

لها كفي بمصقول يماني

فأضربها بلا دهش فخرت

صريعا لليدين وللجران

ولأن الإثارة خاصية للرياح وأثر لا ينفك في الغالب عنها فلا يوجد إلا بعد إيجادها فيكون مستقبلا بالنسبة إلى الإرسال ، وعلى هذا يكون استعمال المضارع على ظاهره وحقيقته من غير تأويل لأن المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم ، والفاء دالة على عدم تراخي ذلك وهو شيء آخر وجوز أن يكون الإتيان بما يدل على الماضي ثم بما يدل على المستقبل إشارة إلى استمرار الأمر وأنه لا يختص بزمان دون زمان إذ لا يصح المضي والاستقبال في شيء واحد إلا إذا قصد ذلك ، وقال الإمام : اختلاف الفعلين لأنه لما أسند فعل الإرسال إلى الله تعالى وما يفعل سبحانه يكون بقوله عزوجل : (كُنْ) [البقرة : ١١٧ وغيرها] فلا يبقى في العدم زمانا ولا جزء زمان جيء بلفظ الماضي دون المستقبل

٣٤٤

لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان ولأنه تعالى فرغ من كل شيء فهو سبحانه قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة والتقدير كالإرسال ولما أسند فعل الإثارة إلى الرياح وهي تؤلف في زمان قال سبحانه : (تثير) بلفظ المستقبل ا ه.

وأورد عليه قوله تعالى : في سورة الروم (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) وفي سورة الأعراف : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [الأعراف : ٥٧] حيث جيء في الإرسال فيها بالمضارع فتأمل.

(فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) قطعة من الأرض لا نبات فيها. وقرئ «ميت» بالتخفيف وهما بمعنى واحد في المشهور وفي كليات أبي البقاء الكفوي الميت بالتخفيف هو الذي مات والميت بالتشديد والمائت هو الذي لم يمت بعد ، وأنشد :

ومن يك ذا روح فذلك ميت

وما الميت إلا من إلى القبر يحمل

والمعول عليه هو المشهور (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ) أي بالمطر النزل منه المدلول عليه بالسحاب فإن بينهما تلازما في الذهن كما في الخارج أو بالسحاب فإنه سبب السبب وإحياء الأرض إنبات الشجر والكلأ فيها (بَعْدَ مَوْتِها) يبسها وخلوها عن ذلك ، وإيراد الفعلين بصيغة الماضي للدلالة على التحقيق ، وإسنادهما إلى نون العظمة المنبئ عن الاختصاص به تعالى لما فيهما من مزيد الصنع ولتكميل المماثلة بين إحياء الأرض وبين البعث الذي شبه به بقوله تعالى : (كَذلِكَ النُّشُورُ) في كمال الاختصاص بالقدرة الربانية ، وقال الإمام عليه الرحمة : أسند (أَرْسَلَ) إلى الغائب وساق «وأحيي» إلى المتكلم لأنه في الأول عرف سبحانه نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ثم لما عرف قال تعالى : أنا الذي عرفتني سقت السحاب وأحييت الأرض ففي الأول كان تعريفا بالفعل العجيب وفي الثاني كان تذكيرا بالنعمة فإن كمال نعمتي الرياح والسحب بالسوق والإحياء ، وهو كما ترى.

وقال سبحانه : فأحيينا به الأرض دون فأحييناه أي البلد الميت به تعليقا للإحياء بالجنس المعلوم عند كل أحد وهو الأرض ولأن ذلك أوفق بأمر البعث ، وقال تعالى : (بَعْدَ مَوْتِها) مع أن الإحياء مؤذن بذلك لما فيه من الإشارة إلى أن الموت للأرض الذي تعلق بها الإحياء معلوم لهم وبذلك يقوي أمر التشبيه فليتأمل.

والنشور على ما في البحر مصدر نشر الميت إذا حيى قال الأعشى :

حتى يقول الناس مما رأوا

يا عجبا للميت الناشر

وفي نهاية ابن الأثير يقال نشر لميت ينشر نشورا إذا عاش بعد الموت وانشره الله تعالى أحياه ، وقال الراغب : قيل نشر الله تعالى الميت وأنشره بمعنى والحقيقة أن نشر الله تعالى الميت مستعار من نشر الثوب أي بسطه كما قال الشاعر :

طوتك خطوب دهرك بعد نشر

كذاك خطوبه طيا ونشرا

والمراد بالنشور هنا إحياء الأموات في يوم الحساب وهو مبتدأ والجار والمجرور قبله في موضع الخبر وقيل الكاف في حيز الرفع على الخبرية أي مثل ذلك الأحياء الذي تشاهدونه إحياء الأموات يوم القيامة في صحة المقدورية وسهولة التأتي من غير تفاوت بينهما أصلا سوى الألف في الأول دون الثاني ، وقال أبو حيان : وقع التشبيه بجهات لما قبلت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة أو كما أن الريح تجمع قطع السحاب كذلك يجمع الله تعالى أجزاء الأعضاء وأبعاض الموتى أو كما يسوق سبحانه الحساب إلى البلد الميت يسوق عزوجل الروح والحياة إلى البدن ، وقال بعضهم : التشبيه باعتبار الكيفية.

٣٤٥

فقد أخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه فلا يبقى خلق لله في السماوات والأرض إلا من شاء الله تعالى إلا مات ثم يرسل الله تعالى من تحت العرش ماء كمني الرجال فتنبت أجسامهم من ذلك الماء وقرأ الآية ثم يقوم ملك فينفخ فيه فتنطلق كل نفس إلى جسدها ، وفي حديث مسلم مرفوعا ينزل الله تعالى مطرا كأنه الطل فينبت أجساد الناس.

ونبات الأجساد من عجب الذنب على ما ورد في الآثار وقد جاء أنه لا يبلى وهو العظم الذي في أسفل الصلب عند العجز ، وقال أبو زيد الوقواقي : هو جوهر فرد يبقى من هذه النشأة لا يتغير ، ولا حاجة إلى التزام أنه جوهر فرد ، ووراء ذلك أقوال عجيبة في هذا العجب فقيل هو العقل الهيولاني ، وقيل بل الهيولى ، وعن الغزالي إنما هو النفس وعليها تنشأ النشأة الآخرة ، وعن الشيخ الأكبر أنه العين الثابت من الإنسان ، وعن بعض المتكلمين أنه الأجزاء الأصلية ، وقال الملا صدرا الشيرازي في أسفاره : هو عندنا القوة الخيالية لأنها آخر الأكوان الحاصلة في الإنسان من القوى الطبيعية والحيوانية والنباتية المتعاقبة في الحدوث للمادة الإنسانية في هذا العالم وهي أول الأكوان الحاصلة في النشأة الآخرة ثم بين ذلك بما بين وإنه لأضعف من بيت العنكبوت وأوهن. والمعول عليه ما يوافق فهم أهل اللسان ، وأي حاجة إلى التأويل بعد التصديق بقدرة الملك الديان جل شأنه وعظم سلطانه.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) الشرف والمنعة من قولهم أرض عزاز أي صلبة وتعريفها للجنس ، والآية في الكافرين كانوا يتعززون بالأصنام كما قال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) [مريم : ٨١] والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين كما قال سبحانه : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) [النساء : ١٣٩] ومن اسم شرط وما بعده فعل الشرط ، والجمع بين كان ويريد للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها ، وقوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) دليل الجواب ولا يصح جعله جوابا من حيث الصناعة لخلوه عن ضمير يعود على من ، وقد قالوا : لا بدّ أن يكون في جملة الجواب ضمير يعود على اسم الشرط إذا لم يكن ظرفا ، والتقدير من كان يريد العزة فليطلبها من الله تعالى فلله وحده لا لغيره العزة فهو سبحانه يتصرف فيها كما يريد فوضع السبب موضع المسبب لأن الطلب ممن هي له وفي ملكه جميعها مسبب عنه ، وتعريف العزة للاستغراق بقرينة (جَمِيعاً) وانتصابه على الحال ، والمراد عزة الدنيا والآخرة ، وتقديم الخبر على المبتدأ للاختصاص كما أشرنا إليه.

ولا ينافي ذلك قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] لأن ما لله تعالى وحده العزة بالذات وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم العزة بواسطة قربه من الله تعالى وما للمؤمنين العزة بواسطة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكأنه للإشارة إلى ذلك أعيد الجار ، وقدر بعضهم الجواب فليطع الله تعالى ، وأيد بما رواه أنس كما في مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز»ومن قدر فليطلبها من الله تعالى قال : إن الطلب منه تعالى إنما يكون بالطاعة والانقياد ، وعن الفراء المعنى من كان يريد علم العزة أي القدرة على القهر لمن هي فلينسبها إلى الله تعالى فهي له تعالى وحده ، وقيل : المعنى من كان يريد العزة أي الغلبة فهو مغلوب لأن الغلبة لله تعالى وحده ولا تتم إلا به عزوجل ونسب هذا إلى مجاهد ، وقيل : تعريف العزة الأولى للاستغراق أيضا أو للعهد والمراد الفرد الكامل ، والمعنى من كان يريد العزة جميعها أو الفرد الكامل منها وهي العزة التي لا يشوبها ذلة من وجه فهو لا ينالها فإنها لله تعالى وحده ، وهذا القول أحسن من القولين قبله ، وأظهر الأقوال عندي الأول وهو منسوب إلى قتادة ، وقوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) إلى آخره كالبيان لطريق تحصيل العزة وسلوك السبيل إلى نيلها

٣٤٦

وهو الطاعة القولية والفعلية ، وقيل : بيان لكون العزة كلها لله تعالى وبيده سبحانه لأنها بالطاعة وهي لا يعتد بها ما لم تقبل ، وقيل : استئناف كلام ، وعلى الأول المعول. و (الْكَلِمُ) اسم جنس جمعي عند جمع واحده كلمة ، والمراد بالكلم الطيب على ما في الكشاف والبحر عن ابن عباس لا إله إلا الله ، ومعنى كونه طيبا على ما قيل إن العقل السليم يستطيبه ويستلذه لما فيه من الدلالة على التوحيد الذي هو مدار النجاة والوسيلة إلى النعيم المقيم أو يستلذه الشرع أو الملائكة عليهم‌السلام ، وقيل : إنه حسن يقبله العقل ولا يرده ، وإطلاق الكلم على ذلك إن كان واحده الكلمة بالمعنى الحقيقي ظاهر لتضمنه عدة كلمات لكن في وصفه بالطيب بالنظر إلى غير الاسم الجليل خفاء ، ولعل ذلك باعتبار خصوصية التركيب ، وإن كان واحده هنا الكلمة بالمعنى المجازي كما في قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) [الأنعام : ١١٥ ، الأعراف : ١٣٧] و (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠] وقوله عليه الصلاة والسلام : «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد» وقولهم لا إله إلا الله كلمة التوحيد إلى ما لا يحصى كثرة فإطلاق الكلم على ذلك لتعدده بتعدد القائل : وكأن القرينة على إرادة المعنى المجازي للكلمة الصادق على الكلام الوصف بالطيب بناء على أن ما يستطيب ويستلذ هو الكلام دون الكلمة العرية عن إفادة حكم تنبسط منه النفس أو تنقبض أو يقال : إن كثرة إطلاق الكلمة على الكلام وشيوعه فيما بينهم حتى قال بعضهم كم نقل الحمصي في حواشي التصريح عن بعض شراح الأجرومية أنه حقيقة لغوية تغني عن القرينة ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن الحبر أنه فسر الكلم الطيب بذكر الله تعالى ، وقيل : هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، وهو ظاهر أثر أخرجه ابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة.

وقيل : هو سبحان الله وبحمده والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله ، وهو ظاهر أثر أخرجه جماعة عن ابن مسعود ، وأخرجه ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب أنه القرآن ، وقيل : هو الثناء بالخير على صالحي المؤمنين ، وقيل : هو الدعاء الذي لا ظلم فيه ، وقال الإمام وبه أقتدي : المختار أنه كل كلام هو ذكر الله تعالى أو هو لله سبحانه كالنصيحة والعلم ، وأما ما أفاده كلام الملا صدرا في أسفاره من أنه النفوس الطاهرة الزكية فإنه تطلق الكلمة على النفس إذا كانت كذلك كما قال تعالى في عيسى عليه‌السلام : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) [النساء : ١٧١] فلا ينبغي أن يعد في عداد أقوال المفسرين كما لا يخفى ، وصعود الكلم إليه تعالى مجاز مرسل عن قبوله بعلاقة اللزوم واستعارة بتشبيه القبول بالصعود ، وجوز أن يجعل الكلم مجازا عما كتب فيه بعلاقة الحلول أو يقدر مضاف أي إليه يصعد صحيفة الكلم الطيب أو يشبه وجوده الخارجي هنا ثم الكتابي في السماء بالصعود ثم يطلق المشبه به على المشبه ويشتق منه الفعل على ما هو المعروف في الاستعارة التبعية ، وقيل : لا مانع من اعتبار حقيقة الصعود للكلم فلله تعالى تجسيد المعاني ، وكون الصعود إليه عزوجل من المتشابه والكلام فيه شهير ، والكلام بعد ذلك كناية عن قبوله والاعتناء بشأن صاحبه ، وتقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر ، وقرأ علي كرّم الله تعالى وجهه وابن مسعود رضي الله تعالى عنه والسلمي وإبراهيم «يصعد» من أصعد للكلام الطيب بالنصب ، وقال ابن عطية : وقرأ الضحاك «يصعد» بضم الياء ولم يذكر مبنيا للفاعل ولا مبنيا للمفعول ولا إعراب ما بعده ، وفي الكشاف وقرئ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) على البناء للمفعول و (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) من أصعد والمصعد هو الرجل أي يصعد إلى الله عزوجل الكلم الطيب ، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما (إِلَيْهِ يَصْعَدُ) من صعد الكلام بالرفع.

(وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) مبتدأ وخبر على المشهور ، واختلف في فاعل (يرفع) فقيل ضمير يعود على العمل الصالح وضمير النصب يعود على (الْكَلِمُ) أي والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب وروي ذلك عن ابن عباس

٣٤٧

والحسن وابن جبير ومجاهد والضحاك وشهر بن حوشب على ما أخرجه عنه سعيد بن منصور وغيره.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه فسر العمل الصالح بأداء الفرائض ثم قال : فمن ذكر الله تعالى وأدى فرائضه حمل عمله ذكر الله تعالى فصعد به إلى الله تعالى ومن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله وكان عمله أولى به ، وتعقب ذلك ابن عطية فقال : هذا قول يرد معتقد أهل السنّة ولا يصح عن ابن عباس ، والحق أن العاصي بترك فرائضه إذا ذكر الله تعالى وقال كلاما طيبا كتب له ذلك وتقبل منه وعليه وزر ترك الفرائض ، والله تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك انتهى.

ولعل المراد برفع العمل الصالح الكلم الطيب رفع قدره وجعله بحيث يترتب عليه من الثواب ما لم يترتب عليه إذا كان بلا عمل ، وحديث لا يقبل الله قولا إلا بعمل ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة المذكور في الكشاف لا أظن صحته ، وقيل : إنه لو سلم صحته فالمراد نفي القبول التام ، ويجوز أن يكون المراد برفعه إياه تحقيقه وتقويته وذلك باعتبار أن الكلام الطيب هو الإيمان فإنه لا شك أن العمل الصالح يثبت الإيمان ويحققه بإظهار آثاره إذ به يعلم التصديق القلبي ، وقيل : الفاعل ضمير يعود على الكلم الطيب وضمير النصب يعود على العمل الصالح أي يرفع الكلم الطيب العمل الصالح.

ونسب أبو حيان هذا القول إلى أبي صالح وشهر بن حوشب ، وأيد بقراءة عيسى وابن أبي عبلة «والعمل الصالح» بالنصب على الاشتغال ، وفيه بحث لعدم تعين ضمير (الْكَلِمُ) للفاعلية عليها ، ومعنى رفع الكلم الطيب العمل الصالح قيل إن يزيده بهجة وحسنا. ومن فسر الكلم الطيب بالتوحيد قال : معنى ذلك جعله مقبولا فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد ، وقيل : الفاعل ضميره تعالى وضمير النصب يعود على العمل ، وأخرج ذلك ابن المبارك عن قتادة أي والعمل الصالح يرفعه الله تعالى ويقبله. قال ابن عطية : هذا أرجح الأقوال عندي ، وقيل : ضمير الفاعل يعود على العمل وكذا الضمير المنصوب والكلام على حذف مضاف أي والعمل الصالح يرفع عامله ويشرفه ، ونسب ذلك أبو حيان إلى ابن عباس ثم قال : ويجوز عندي أن يكون (الْعَمَلُ) معطوفا على (الْكَلِمُ) و (يَرْفَعُهُ) استئناف أخبار أي يرفعهما الله تعالى ، ووحد الضمير لاشتراكهما في الصعود والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة فيكون لفظه مفردا والمراد به التثنية فكأنه قيل : ليس صعودهما من ذاتهما بل ذلك برفع الله تعالى إياهما ا ه ، وهو خلاف الظاهر جدا ، ومثله ما نسبه ابن عباس وأنا لا أظن صحة نسبته إليه ، وعلى التسليم يحتمل أنه رضي الله تعالى عنه أراد بقوله العمل الصالح يرفع عامله ويشرفه بيان ما تشير إليه الآية في الجملة. والذي يتبادر إلى ذهني من الآية ما روي عن قتادة واختاره ابن عطية ، وتخصيص العمل الصالح برفع الله تعالى إياه على ذلك قيل لما فيه من الكلفة والمشقة إذ هو الجهاد الأكبر ، وظاهر هذا أن العمل أشرف من الكلام ولا كلام في ذلك إذا أريد بالعمل الصالح ما يشمل العمل القلبي كالتصديق ، ولعل الكلام عليه نظير قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) [الأعراف : ١٤٣] وقوله سبحانه : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١] وكلام الإمام صريح في أن الكلم الطيب المفسر بالذكر أشرف من العمل حيث جعل صعود الكلم بنفسه دليل ترجيحه على العمل الذي يرفعه غيره ، وقال في وجه ذلك : الكلام شريف فإن امتياز الإنسان عن كل حيوان بالنطق والعمل حركة وسكون يشترك فيه الإنسان وغيره والشريف إذا وصل إلى باب الملك لا يمنع ومن دونه لا يجد الطريق إلا عند الطلب ، ويدل على هذا أن الكافر إذا تكلم بكلمة الشهادة أمن من عذاب الدارين إن كان ذلك عن صدق وأمن في نفسه ودمه وحرمه في الدنيا إن كان ظاهرا ولا كذلك العمل بالجوارح ، وأيضا أن القلب هو الأصل وما فيه لا يظهر إلا باللسان وما في اللسان لا يبين صدقه إلا بالفعل فالقول أقرب إلى القلب من الفعل فيكون أشرف منه ، ا ه وفي القلب منه شيء فتدبر.

٣٤٨

(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) أي المكرات السيئات أو أصناف المكرات السيئات على أن (السَّيِّئاتِ) صفة لمحذوف وليس مفعولا به ليمكرون لأن مكر لازم ، وجوز أن يكون مفعولا على تضمين يقصدون أو يكسبون وعلى الأول فيه مبالغة للوعيد الشديد على قصد المكر أو هو إشارة إلى عدم تأثير مكرهم ، والموصول مبتدأ وجملة قوله تعالى (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) خبره أي لهم بسبب مكرهم عذاب شديد لا يقادر قدره ولا يعبأ بالنسبة إليه بما يمكرون. والآية على ما روي عن أبي العالية في الذين مكروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار الندوة كما قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) [الأنفال : ٣٠] والمضارع لحكاية الحال الماضية ، ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم في قوله سبحانه (وَمَكْرُ أُولئِكَ) للإيذان بكمال تميزهم بما هم عليه من الشر والفساد عن سائر المفسدين واشتهارهم بذلك ، وما فيه من معنى البعد للتنبيه على ترامي أمرهم في الطغيان وبعد منزلتهم في العدوان أي ومكر أولئك المفسدين المشهورين (هُوَ يَبُورُ) أي يفسد ، وأصل البوار فرط الكساد أو الهلاك فاستعير هنا للفساد عدم التأثير لأن فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد أو لأن الكاسد يكسد في الغالب لفساده ولأن الهالك فاسد لا أثر له. و (مَكْرُ) مبتدأ خبره جملة (هُوَ يَبُورُ) وتقديم الضمير للتقوى أو الاختصاص أي مكرهم هو يفسد خاصة لأمكرنا بهم ، وأجاز الحوفي وأبو البقاء كون الخبر جملة (يَبُورُ) و (هُوَ) ضمير فصل. وتعقبه في البحر بأن ضمير الفصل لا يكون ما بعده فعلا ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمنا إلا عبد القاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلا. ورد ذلك عليه.

وجوز أبو البقاء أيضا كون (هُوَ) تأكيدا للمبتدإ ، والظاهر ما قدمناه ، وقد أبار الله تعالى أولئك الماكرين بعد إبارة مكرهم حيث أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم الثلاث التي اكتفوا في حقه عليه الصلاة والسلام بواحدة منهن وحقق عزوجل فيهم قوله سبحانه : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران : ٥٤] وقوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : ٤٣] ووجه ارتباط الآية بما قبلها على ما ذكره شيخ الإسلام أنها بيان لحال الكلم الخبيث والعمل السيّئ وأهلهما بعد بيان حال الكلم الطيب والعمل الصالح.

وقال في الكشف : كأنه لما حصر سبحانه العزة وخصها به تعالى يعطيها من يشاء وأرشد إلى نيل ما به ينال ذلك المطلوب ذكر على سبيل الاستطراد حال من أراد العزة من عند غيره عزوجل وأخذ في إهانة من أعزه الله تعالى فوق السماكين قدرا وما رجع إليهم من وبال ذلك كالاستشهاد لتلك الدعوى وهو خلاصة ما ذكره الطيبي في وجه الانتظام ، وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب أن الآية في أصحاب الرياء وهي متصلة بما عندها على ما روي عن شهر حيث قال : (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) أي يراءون (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) هم أصحاب الرياء عملهم لا يصعد ، وقال الطيبي : إن الجملة على هذه الرواية عطف على جملة الشرط والجزاء أعني قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) إلخ فيجب حينئذ مراعاة التطابق بين القرينتين والتقابل بين الفقرتين بحسب الإمكان بأن يقدر في كل منهما ما يحصل به التقابل بدلالة المذكور في الأولى على المتروك في الأخرى وبالعكس ا ه ولا يخفى بعده ، وأيا ما كان فالمضارع للاستمرار التجددي (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) دليل آخر على صحة البعث والنشور أي خلقكم ابتداء منه في ضمن خلق آدم عليه‌السلام خلقا إجماليا (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ثم خلقكم منها خلقا تفصيليا (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي أصنافا ذكرانا وإناثا كما قال سبحانه : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) [الشورى : ٥٠] وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي ، وأخرج هو وغيره عن قتادة أنه قال قدر بينكم الزوجية وزوج بعضكم بعضا (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) حال من الفاعل ومن زائدة أي إلا ملتبسة بعلمه تعالى ومعلومية الفاعل راجعة

٣٤٩

إلى معلومية أحواله مفصلة ومنها حال ما حملته الأنثى ووضعته فجعله من ذلك أبلغ معنى وأحسن لفظا من جعله من المفعول أعني المحمول والموضوع لأن المفعول محذوف متروك كما صرح به الزمخشري في حم السجدة ، وجعله حالا من الحمل والوضع أنفسهما خلاف الظاهر (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي من أحد أي وما يمد في عمر أحد وسمي معمرا باعتبار الأول نحو (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف : ٣٦] ومن قتل قتيلا على ما ذكر غير واحد وهذا لئلا يلزم تحصيل الحاصل ، وجوز أن يقال لأن (يُعَمَّرُ) مضارع فيقتضي أن لا يكون معمرا بعد ولا ضرورة للحمل على الماضي (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) الضمير عائد على معمر آخر نظير ما قال ابن مالك في عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر ، ولا يضر في ذلك احتمال أن يكون المراد مثل نصفه لأنه مثال وهو استخدام أو شبيه به وإلى ذلك ذهب الفراء وبعض النحويين ولعله الأظهر ، وفسروا المعمر بالمزاد عمره بدليل ما يقابله من قوله تعالى : (وَلا يُنْقَصُ) إلخ وهو الذي دعاهم إلى إرجاع الضمير إلى نظير المذكور دون عينه ضرورة أنه لا يكون المزيد في عمره منقوصا من عمره ، وقيل عليه : هب أن مرجع الضمير معمر آخر أليس قد نسب النقص في العمر إلى معمر وقد قلتم إنه المزاد عمره. أجيب بأن الأصل وما يعمر من أحد فسمي معمرا باعتبار ما يؤول إليه وعاد الضمير باعتبار الأصل المحول عنه فمال ذلك ولا ينقص من عمر أحد أي ولا يجعل من ابتداء الأمر ناقصا فهو نظير قولهم ضيق فم الركية ، وقال آخرون : الضمير عائد على المعمر الأول بعينه والمعمر هو الذي جعل الله تعالى له عمرا طال أو قصر ، ولا مانع أن يكون المعمر ومن ينقص من عمره شخصا واحدا والمراد بنقص عمره ما يمر منه وينقضي مثلا يكتب عمره مائة سنة ثم يكتب تحته مضى يوم مضى يومان وهكذا حتى يأتي إلخ وروي هذا عن ابن عباس وابن جبير وأبي مالك وحسان بن عطية والسدي ، وقيل بمعناه :

حياتك أنفاس تعد فكلما

مضى نفس منها انتقصت به جزءا

وقيل الزيادة والنقص في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح كما ورد في الخبر الصدقة تزيد في العمر فيجوز أن يكون أحد معمرا أي مزادا في عمره إذا عمل عملا وينقص من عمره إذا لم يعمله ، وهذا لا يلزم منه تغيير التقدير لأنه في تقديره تعالى معلق أيضا وإن كان ما في علمه تعالى الأزلي وقضائه المبرم لا يعتريه محو على ما عرف عن السلف ولذا جاز الدعاء بطول العمر.

وقال كعب : لو أن عمر رضي الله تعالى عنه دعا الله تعالى أخر أجله ، ويعلم من هذا أن قول ابن عطية : هذا قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين كما ذهبت إليه المعتزلة ليس بشيء ، ومن العجيب قول ابن كمال : النظر الدقيق يحكم بصحة أن المعمر أي الذي قدر له عمر طويل يجوز أن يبلغ ذلك العمر وأن لا يبلغ فيزيد عمره على الأول وينقص على الثاني ومع ذلك لا يلزم التغيير في التقدير لأن المقدر في كل شخص هو الأنفاس المعدودة لا الأيام المحدودة والأعوام الممدودة ثم قال : فإنهم هذا السر العجيب وكتب في الهامش حتى ينكشف لك سر اختيار حبس النفس ويتضح وجه صحة قوله عليه الصلاة والسلام : «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار» ا ه. وتعقبه الشهاب الخفاجي بأنه مما لا يعول عليه عاقل ولم يقل به أحد غير بعض جهلة الهنود مع أنه مخالف لما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم والنسائي وابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن عبد الله بن مسعود من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأم حبيبة وقد قالت : اللهم أمتعني بزوجي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية ، سألت الله تعالى لآجال مضروبة وأيام معدودة الحديث وأطال الجلبي في رده وهو غني عنه ا ه.

وقال بعضهم : يجوز أن لا يبلغ من قدر له عمر طويل ما قدر له بأن يغير ما قدر أولا بتقدير آخر ولا حجر على

٣٥٠

الله تعالى ، ويشير إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث التراويح «خشيت أن تفرض عليكم» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعاء القنوت «وقنى شر ما قضيت» وخوفه عليه من الله تعالى آلاف آلاف صلاة وسلام من قيام الساعة إذا اشتدت الريح مع إخباره بأن بين يديها خروج المهدي والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك مما لم يحدث بعد ، وغاية ما يلزم من ذلك تغير المعلوم ولا يلزم منه تغير العلم على ما بين في موضعه وعلى هذا لا إشكال في خبر «الصدقة تزيد في العمر» ويتضح أمر فائدة الدعاء ، وما يحكى عن بعضهم من نفي القضاء المبرم يرجع إليه ، وقد رأيت كراسة لبعض الأفاضل أطال الكلام فيها لتشييد هذا القول وتثبيت أركانه ، والحق عندي أن ما في العلم الأزلي المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر لا يتغير ويجب أن يقع كما علم وإلا يلزم الانقلاب ، وما يتبادر منه خلاف ذلك إذا صح مؤول ، وخبر «الصدقة تزيد في العمر» قيل إنه خبر آحاد فلا يعارض القطعيات ، وقيل المراد أن الصدقة وكذا غيرها من الطاعات تزيد فيما هو المقصود الأهم من العمر وهو اكتساب الخير والكمال والبركة التي بها تستكمل النفوس الإنسانية فتفوز بالسعادة الأبدية ، والدعاء حكمه حكم سائر الأسباب من الأكل والشرب والتحفظ من شدة الحر والبرد مثلا ففائدته كفائدتها ، وقيل هو لمجرد إظهار الاحتياج والعبودية فليتدبر.

وقيل الضمير المعمر والنقص لغيره أي ولا ينقص من عمر المعمر لغيره بأن يعطي له عمر ناقص من عمره ، وقيل الضمير للمنقوص من عمره وهو وإن لم يصرح به في حكم المذكور كما قيل. وبضدها تتبين الأشياء. فيكون عائدا على ما علم من السياق أي ولا ينقص من عمر المنقوص من عمره بجعله ناقصا.

وقرأ الحسن وابن سيرين وعيسى «ولا ينقص» بالبناء للفاعل وفاعله ضمير المعمر أو (عُمُرِهِ) و (مِنْ) زائدة في الفاعل وإن كان متعديا جاز كونه ضمير الله تعالى. وقرأ الأعرج (مِنْ عُمُرِهِ) بسكون الميم (إِلَّا فِي كِتابٍ) عن ابن عباس هو اللوح المحفوظ ، وجوز أن يراد به صحيفة الإنسان فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أم سعيد أذكر أم أنثى فيقول الله تعالى ويكتب ثم يكتب عمله ورزقه وأجله وأثره ومصيبته ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص منها» وجوز أيضا أن يراد به علم الله عزوجل ، وذكر في ربط الآيات أن قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) إلخ مساق للدلالة على القدرة الكاملة وقوله سبحانه : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) [فصلت : ٤٧] إلخ للعلم الشامل وقوله عزوجل : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) إلخ لإثبات القضاء والقدر ، والمعنى وما يعمر منكم خطابا لأفراد النوع الإنساني وأيد بذلك الوجه الأول من أوجه (وَما يُعَمَّرُ) إلخ (إِنَّ ذلِكَ) أي ما ذكر من الخلق وما بعده مع كونه محارا للعقول والأفهام (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لاستغنائه تعالى عن الأسباب فكذلك البعث والنشور (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ) طيب (فُراتٌ) كاسر العطش ومزيله.

وقال الراغب : الفرات الماء العذب يقال للواحد ، والجمع ، ولعل الصوف على هذا على طرز أسود حالك وأصفر فاقع (سائِغٌ شَرابُهُ) سهل انحداره لخلوه مما تعافه النفس. وقرأ عيسى «سيغ» كميت بالتشديد ، وجاء كذلك عن أبي عمرو وعاصم ، وقرأ عيسى أيضا «سيغ» كميت بالتخفيف (وَهذا مِلْحٌ) متغير طعمه التغير المعروف ، وقرأ أبو نهيك وطلحة «ملح» بفتح الميم وكسر اللام ، وقال أبو الفتح الرازي : وهي لغة شاذة ، وجوز أن يكون مقصورا من مالح للتخفيف ، وهو مبني على ورود مالح والحق وروده بقلة وليس بلغة رديئة كما قيل.

وفرق الإمام بين الملح والمالح بأن الملح الماء الذي فيه الطعم المعروف من أصل الخلقة كماء البحر والمالح الماء الذي وضع فيه ملح فتغير طعمه ولا يقال فيه إلا مالح ولم أره لغيره ، وقال بعضهم : لم يرد مالح أصلا وهو قول

٣٥١

ليس بالمليح (أُجاجٌ) شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار وأجتها ، ومن هنا قيل هو الذي يحرق بملوحته ، وهذا مثل ضرب للمؤمن والكافر ، وقوله تعالى : (وَمِنْ كُلٍ) أي من كل واحد منهما (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) أي غضا جديدا وهو السمك على ما روي عن السدي ، وقيل الطير والسمك واختار كثير الأول ، والتعبير عن السمك باللحم مع كونه حيوانا قيل للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل ، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيه على المسارعة إلى أكله لئلا يتسارع إليه الفساد كما ينبئ عنه جعل كل من البحرين مبدأ أكله.

واستدل مالك والثوري بالآية حيث سمي فيها السمك لحما على حنث من حلف لا يأكل لحما وأكل سمكا ، وقال غيرهما : لا يحنث لأن مبنى الايمان على العرف وهو فيه لا يسمى لحما ولذلك لا يحنث من حلف لا يركب دابة فركب كافرا مع أن الله تعالى سماه دابة في قوله سبحانه : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٥٥] ولا يبعد عندي أن يراد بلحما لحم السمك ودعوى التلويح بانحصار الانتفاع بالسمك في الأكل لا أظنها تامة (وَتَسْتَخْرِجُونَ) ظاهره ومن كل تستخرجون (حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) والحلية التي تستخرج من البحر الملح اللؤلؤ والمرجان ويلبس ذلك الرجال والنساء وإن اختلفت كيفية اللبس ، أو يقال عبر عن لبس نسائهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لبسهن لأجلهم ، ولا نعلم حلية تستخرج من البحر العذب ، ولا يظهر هنا اعتبار إسناد ما للبعض إلى الكل كما اعتبر ذلك في قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] وكون بعض الصخور التي في مجاري السيول قد تكسر فيوجد فيها ماس وهو حلية تلبس إن صح لا ينفع اعتباره هنا إذ ليس فيه استخراج الحلية من البحر العذب ظاهرا ، وقيل : لا يبعد أن تكون الحلية المستخرجة من ذلك عظام السمك التي يصنع منها قبضات للسيوف والخناجر مثلا فتحمل ويتحلى بها ، وفيه ما فيه لا سيما إذا كانت الحلية كالحلي ما يتزين به من مصنوع المعدنيات أو الحجارة ، وقال الخفاجي : لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة وإن لم نره ، ولا يخفى ما فيه من البعد.

وذهب بعض الأجلة للخلاص من القيل والقال أن المراد وتستخرجون من البحر الملح خاصة حلية تلبسونها ويشعر به كلام السدي يحتمل ثلاثة أوجه ، الأول أنه استطراد في صفة لبحرين وما فيهما من النعم والمنافع.

والثاني أنه تتميم وتكميل للتمثيل لتفضيل المشبه به على المشبه وليس من ترشيح الاستعارة كما زعم الطيبي في شيء بل إنما هو استدراك لدعوى الاشتراك بين المشبه والمشبه به يلزم منه أن يكون المشبه أقوى وهذا الاستدراك مخصوص بالملح ، وإيضاحه أنه شبه المؤمن والكافر بالبحرين ثم فضل الأجاج على الكافر بأنه قد شارك الفرات في منافع والكافر خلو من النفع فهو على طريقة قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤] ثم قال سبحانه : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [البقرة : ٧٤] والثالث أنه من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين وإن اشتركا في بعض الفوائد تفاوتا فيما هو المقصود بالذات لأن أحدهما خالطه ما لم يبقه على صفاء فطرته كذلك المؤمن والكافر وإن اتفق اتفاقهما في بعض المكارم كالشجاعة والسخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر فجملة (وَمِنْ كُلٍ) إلخ حالية ، وعندي خير الأوجه الثلاثة أوسطها ، وعلى كل يحصل الجواب عما قيل كيف يناسب ذكر منافع البحر الملح وقد شبه به الكافر؟ وقل أبو حيان : إن قوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) إلخ لبيان ما يستدل به كل عاقل على أنه مما لا مدخل لصنم فيه.

وقال الإمام : الأظهر أنه دليل لكمال قدرة الله عزوجل ، وما ذكرنا أولا من أنه تمثيل للمؤمن والكافر هو المشهور رواية ودراية وفيه من محاسن البلاغة ما فيه (وَتَرَى الْفُلْكَ) السفن (فِيهِ) أي في كل منهما وانظر هل يحسن

٣٥٢

رجوع الضمير للبحر الملح لانسياق الذهن إليه من قوله سبحانه : (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) بناء على أن المعروف استخراجها منه خاصة وأمر الفلك فيه أعظم من أمرها في البحر العذب ولذا اقتصر على رؤية الفلك فيه على الحال التي ذكر الله تعالى ، وأفرد ضمير الخطاب مع جمعه فيما سبق وما لحق لأن الخطاب لكل أحد تتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط (مَواخِرَ) شواق للماء يجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة فالمخر الشق.

قال الراغب : يقال مخرت السفينة مخرا ومخورا إذا شقت الماء بجؤجئها ، وفي الكشاف يقال : مخرت السفينة الماء ويقال للسحاب بتات مخر لأنها تمخر الهواء ، والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره ، وقيل المخر صوت جرى الفلك وجاء في سورة : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) [النحل : ١٤] بتقديم (مَواخِرَ) وتأخير (فِيهِ) وعكس هاهنا فقيل في وجهه لأنه علق (فِيهِ) هنا بتري وثمت بمواخر ، ولا يحسم مادة السؤال.

والذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذاك سوابقها ولواحقها وتعقيب الآيات بقوله سبحانه : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤ ، النحل : ١٨] فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة وهو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطرادا أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفا فقدم فيه (فِيهِ) إيذانا بأنه ليس المقصود بالذات ذلك ، وكأن الاهتمام بما هناك اقتضى أن يقال في تلك الآية (وَلِتَبْتَغُوا) بالواو ، ومخالفة ما هنا لذلك اقتضت ترك الواو في قوله سبحانه : (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي من فضل الله تعالى بالنقلة فيها وهو سبحانه وإن لم يجر له ذكر في الآية فقد جرى له تعالى ذكر فيما قبلها ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه عز شأنه.

واللام متعلقة بمواخر ، وجوز تعلقها بمحذوف دل عليه الأفعال المذكورة كسخر البحرين وهيأهما أو فعل ذلك (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تعرفون حقوقه تعالى فتقومون بطاعته عزوجل وتوحيده سبحانه.

ولعل للتعليل على ما عليه جمع من الأجلة وقد قدمنا ذلك ، وقال كثير : هي للترجي ولما كان محالا عليه تعالى كان المراد اقتضاء ما ذكر من النعم للشكر حتى كأن كل أحد يترجاه من المنعم عليه بها فهو تمثيل يؤول إلى أمره تعالى بالشكر للمخاطبين (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) بزيادة أحدهما ونقص الآخر بإضافة بعض أجزاء كل منهما إلى الآخر (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) عطف على (يُولِجُ) واختلافهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد حينا فحينا وأما تسخير النيرين فأمر لا تعدد فيه وإنما المتعدد والمتجدد آثاره ، وقد أشير إليه بقوله تعالى : (كُلٌ) من الشمس والقمر (يَجْرِي) أي بحسب حركته على المدارات اليومية المتعددة حسب تعدد أيام السنة أو بحسب حركتيه الخاصة وهي من المغرب إلى المشرق والقسرية التي هي من المشرق إلى المغرب جريانا مستمرا (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) قدره الله تعالى لجريانهما وهو يوم القيامة كما روي عن الحسن.

وقيل جريانهما عبارة عن حركتيهما الخاصتين بهما والأجل المسمى عبارة عن مجموع مدة دورتيهما أو منتهاها وهي للشمس سنة وللقمر شهر وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا (ذلِكُمُ) إشارة إلى فاعل الأفاعيل المذكورة ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية العظمة وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم العظيم الشأن الذي أبدع هذه الصنائع البديعة (اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) وفيه من الدلالة على أن إبداعه تعالى لتلك البدائع مما يوجب ثبوت تلك الأخبار له تعالى ، وفي الكشاف ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله تعالى صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و (رَبُّكُمْ) خبرا لو لا أن المعنى يأباه ا ه.

قال في الكشف : فيه نظر لأن الاسم الجليل جار مجرى العلم فلا يجوز أن يقع وصفا لاسم الإشارة البتة لا

٣٥٣

لفظا ولا معنى ، وكأنه فرض على تقدير عدم الغلبة ، وأما إباء المعنى على تقدير تجويز الوصف فقد قيل : إن المقصود أنه تعالى المنفرد بالإلهية لا أن المنفرد بالإلهية هو ربكم لأن المشركين ما كانوا معترفين بالمنفرد على الإطلاق ، وأما عطف البيان فقيل لأنه يوهم تخييل الشركة ألا ترى أنك إذا قلت ذلك الرجل سيدك عندي ففيه نوع شركة لأن ذا اسم مبهم ، وكأنه أراد أن البيان حيث يذهب الوهم إلى غيره ويحتمل الشركة مناسب لا في مثل هذا المقام ، وأفاد الطيبي أن ذلك يشار به إلى ما سبق للدلالة على جدارة ما بعده بسبب الأوصاف السابقة ولو كان وصفا أو بيانا لكان المشار إليه ما بعده ، وهذا في الأول حسن دون الثاني اللهم إلا أن يكون قوله : أو عطف بيان إشارة إلى المذهب الذي يجعل الجنس الجاري على المبهم غير وصف فيكون حكمه حكم الوصف إذ ذاك ، وبعد أن تبين أن المقام للإشارة إلى السابق فاسم الإشارة قد يجاء به لأغراض آخر ا ه.

وأبو حيان : منع صحة الوصفية للعلمية ثم قال لا يظهر إباء المعنى ذلك ، ويجوز أن يكون قوله تعالى : (لَهُ الْمُلْكُ) جملة مبتدأة واقعة في مقابلة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) ويكون ذلك مقررا لما قبله من التفرد بالإلهية والربوبية واستدلالا عليه إذ حاصله جميع الملك والتصرف في المبدأ والمنتهى له تعالى وليس لغيره سبحانه منه شيء ، ولذا قيل إن فيه قياسا منطقيا مطويا. وجوز أن يكون مقررا لقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) إلخ وقوله تعالى : (يُولِجُ) إلخ فجملة (الَّذِينَ تَدْعُونَ) إلخ عليه إما استئنافية أيضا وهي معطوفة على جملة (لَهُ الْمُلْكُ) وإما حال من الضمير المستقر في الظرف أعني له ، وعلى الوجه الأول هي معطوفة على جملة (ذلِكُمُ اللهُ) إلخ أو حال أيضا ، والقطمير على ما أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد لفافة النواة وهي القشر الأبيض الرقيق الذي يكون بين التمر والنواة وهو المعنى المشهور.

أخرج ابن جرير وابن المنذر أنه القمع الذي هو على رأس التمرة ، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه القشرة على رأس النواة وهو ما بين القمع والنواة ، وقال الراغب : إنه الأثر على ظهر النواة ، وقيل هو قشر الثوم ، وأيا ما كان فهو مثل للشيء الدنيء الطفيف ، قال الشاعر :

وأبوك يخصف نعله متوركا

ما يملك المسكين من قطمير

وقرأ عيسى وسلام ويعقوب يدعون بالياء التحتانية (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) استئناف مقرر لما قبله كاشف عن جلية حال ما يدعونه بأنه جماد ليس من شأنه السماع ، هذا إذا كان الكلام مع عبدة الأصنام ويحتمل أن يكون مع عبدتها وعبدة الملائكة وعيسى وغيرهم من المقربين ، وعدم السماع حينئذ إما لأن المعبود ليس من شأنه ذلك كالأصنام وإما لأنه في شغل شاغل وبعد بعيد عن عابده كعيسى عليه السّلام ، وروي هذا عن البلخي أو لأن الله عزوجل حفظ سمعه من أن يصل إليه مثل هذا الدعاء لغاية قبحه وثقله على سمع من هو في غاية العبودية لله سبحانه ، فلا يرد أن الملائكة عليهم‌السلام يسمعون وهم في السماء كما ورد في بعض الآثار دعاء المؤمنين ربهم سبحانه ، وفي نظم ذي النفوس القدسية في سلك الملائكة عليهم‌السلام من حيثية السماع وهم في مقار نعيمهم توقف عندي بل في سماع كل من الملائكة عليهم‌السلام وهم في السماء وذوي النفوس القدسية وهم في مقار نعيمهم نداء من ناداهم غير معتقد فيهم الالهية توقف عندي أيضا إذ لم أظفر بدليل سمعي على ذلك والعقل يجوزه لكن لا يكتفي بمجرد تجويزه في القول به.

(وَلَوْ سَمِعُوا) على سبيل الفرض والتقدير (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) لأنهم لم يرزقوا قوة التكلم والسماع لا يستلزم ذلك فالمراد بالاستجابة الاستجابة بالقول ، ويجوز أن يراد بها الاستجابة بالفعل أي ولو سمعوا ما نفعوكم

٣٥٤

لعجزهم عن الأفعال بالمرة ، هذا إذا كان المدعون الأصنام وأما إذا كانوا الملائكة عليهم‌السلام أو نحوهم من المقربين فعدم الاستجابة القولية لأن دعاءهم من حيث زعم أنهم آلهة وهم بمعزل عن الإلهية فكيف يجيبون زاعم ذلك فيهم وفيه من التهمة ما فيه ، وعدم الاستجابة الفعلية يحتمل أن يكون لهذا أيضا ويحتمل أن يكون لأن نفع من دعاهم ليس من وظائفهم ، وقيل لأنهم يرون ذلك نقصا في العبودية والخضوع لله عزوجل.

ويجوز أن يكون هذا تعليلا للأول أيضا فتأمل (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) فضلا عن أن يستجيبوا لكم إذا دعوتموهم ، وشرك مصدر مضاف إلى الفاعل أي ويوم القيامة يجحدون إشراككم إياهم وعبادتكم إياهم وذلك بأن يقدر الله تعالى الأصنام على الكلام فيقولون لهم ما كنتم إيانا تعبدون أو يظهر من حالها ظهور نار القرى ليلا على علم ما يدل على ذلك ولسان الحال أفصح من لسان المقال ، ومن هذا القبيل قول ذي الرمة :

وقفت على ربع لمية ناطق

يخاطبني آثاره وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثه

تكلمني أحجاره وملاعبه

وإن كان المدعوون الملائكة ونحوهم فأمر التكلم ظاهر ، وقد حكى الله تعالى قول الملائكة للمشركين في السورة السابقة بقوله سبحانه : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سبأ : ٤٠ ، ٤١] (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي لا يخبرك بالأمر مخبر مثل مخبر خبيرا أخبرك به يعني به تعالى نفسه كما روي عن قتادة وغيره فإنه سبحانه الخبير بكنه الأمور ، وهو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويجوز أن يكون غير مختص أي لا يخبرك أيها السامع كائنا من كنت مخبر هو مثل الخبير العالم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، والمراد تحقيق ما أخبر سبحانه به من حال آلهتهم ونفي ما يدعون لهم من الإلهية.

وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون ذلك من تمام ذكر الأصنام كأنه قيل : ولا يخبرك مخبر مثل من يخبرك عن نفسه وهي قد أخبرت عن أنفسها بأنها ليست بآلهة ، وفيه من البعد ما فيه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ(٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ

٣٥٥

مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)(٢٨)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) في أنفسكم وفيما يعن لكم من أمر مهم أو خطب ملم ، وتعريف (الْفُقَراءُ) للجنس أو للاستغراق إذ لا عهد ، وعرف كذلك للمبالغة في فقرهم كأنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب وأن افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم ولذلك قال تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨] ولا يرد الجن إذ هم لا يحتاجون في المطعم والملبس وغيرهما كما يحتاج الإنسان وضعفهم ليس كضعفه فلا حاجة إلى إدخالهم في الناس تغليبا على أنه قيل لا يضر ذلك إذ الكلام مع من يظهر القوة والعناد من الناس ، والقول أن القصر إضافي بالنسبة إليه تعالى لا يخفى ما فيه ، وقال صاحب الفرائد : الوجه أن يقال والله تعالى أعلم المراد الناس وغيرهم وهو على طريقة تغليب الحاضر على الغائب وأولي العلم على غيرهم ، وهو بعيد جدا.

وقال العلامة الطيبي : الذي يقتضيه النظم الجليل أن يحمل التعريف في الناس على العهد وفي الفقراء على الجنس لأن المخاطبين هم الذي خوطبوا في قوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) الآية أي ذلكم المعبود هو الذي وصف بصفات الجلال لا الذين تدعون من دونه وأنتم أشد الخلائق احتياجا إليه عزوجل ولا يخلو عن حسن (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُ) عن كل شيء لا غيره (الْحَمِيدُ) المنعم على جميع الموجودات المستحق بإنعامه سبحانه للحمد ، وأصله المحمود وأريد به ذلك على طريق الكناية ليناسب ذكره بعد فقرهم إذ الغني لا ينفع الفقير إلا إذا كان جوادا منعما ومثله مستحق للحمد ، وهذا كالتكميل لما قبله كما في قول كعب الغنوي :

حليم إذا ما الحلم زين أهله

مع الحلم في عين العدو مهيب

ويدخل في عموم المستغني عنه المخاطبون وعبادتهم ، وفي كلام الطيبي رائحة التخصيص حيث قال ما سمعت نقله وهو سبحانه غني عنكم وعن عبادتكم لأنه تعالى حميد له عباد يحمدونه وإن لم تحمدوه أنتم والأولى التعميم.

وما روي في سبب النزول من أنه لما كثر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدعاء وكثر الإصرار من الكفار قالوا لعل الله تعالى محتاج لعبادتنا فنزلت لا يقتضي شيئا من التخصيص في الآية كما لا يخفى (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي إن يشأ سبحانه إذهابكم أيها الناس والإتيان بخلق جديد يذهبكم (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) بعالم غير الناس لا تعرفونه هذا إذا كان الخطاب عاما أو إن يشأ يذهبكم أيها المشركون أو العرب ويأت بخلق جديد ليسوا على صفتكم بل مستمرون على طاعته وتوحيده. وهذا إذا كان الخطاب خاصا ، وتفسير الجديد بما سمعت مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأيا ما كان فالجملة تقرير لاستغنائه عزوجل (وَما ذلِكَ) أي ما ذكر من إذهابهم والإتيان بخلق جديد (عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي بصعب فإن أمره تعالى إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

وإن كان في الناس تغليب الحاضر على الغائب وأولى العلم على غيرهم وكان الخطاب هنا على ذلك الطرز وقلنا إن الآية تشعر بأن ما يأتي به سبحانه من العالم أبدع أشكل بحسب الظاهر قول حجة الإسلام ليس في الإمكان أبدع مما كان. وأجيب بأن ذلك على فرض وقوعه داخل في حيز ما كان وهو مع هذا العالم كبعض أجزاء هذا العالم مع بعض أو بأن الأبدعية المشعور بها بمعنى والأبدعية في كلام حجة الإسلام بمعنى آخر فتدبر.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) أي لا تحمل نفس آثمة (وِزْرَ أُخْرى) أي إثم نفس أخرى بل تحمل كل نفس وزرها.

٣٥٦

ولا منافاة بين هذا وقوله تعالى في سورة العنكبوت (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] فإنه في الضالين المضلين وهم يحملون إثم إضلالهم مع إثم ضلالهم وكل ذلك آثامهم ليس فيها شيء من آثام غيرهم ، ولا ينافيه قوله سبحانه : (مَعَ أَثْقالِهِمْ) لأن المراد بأثقالهم ما كان بمباشرتهم وبما معها ما كان بسوقهم وتسببهم فهو للمضلين من وجه وللآخرين من آخر (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) أي نفس أثقلتها الأوزار (إِلى حِمْلِها) الذي أثقلها ووزرها الذي بهظها ليحمل شيء منه ويخفف عنها ، وقيل : أي إلى حمل حملها (لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) لم تجب بحمل شيء منه ، والظاهر أن (وَلا تَزِرُ) إلخ نفي للحمل الاختياري تكرما من نفس الحامل ردا لقول المضلين (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) ويؤيده سبب النزول فقد روي أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلي وزركم فنزلت.

وهذا نفي للحمل بعد الطلب من الوازرة أعم من أن يكون اختيارا أو جبرا وإذا لم يجبر أحد على الحمل بعد الطلب والاستعانة علم عدم الجبر بدونه بالطريق الأولى فيعم النفي أقسام الحمل كلها ، وكذا الحامل أعم من أن يكون وازرا أم لا ، وجاء العموم من عدم ذكر المدعو ظاهرا ، وقد يقال مع ذلك : إن في الأولى نفي حمل جميع الوزر بحيث يتعرى منه المحمول عنه ، وفي الثاني نفي التخفيف فلا اتخاذ بين مضموني الجملتين كما لا يخفى ، وقيل في الفرق بينهما : إن الأول نفي الحمل إجبارا والثاني نفي له اختيارا ، وتعقب بأن المناسب على هذا ولا يوزر على وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها أحدا لا يحمل منه شيئا ، وأيضا حق نفي الإجبار أن يتعرض له بعد نفي الاختيار ، وقيل : إن الجملة الأولى كما دلت على أن المثقل بالذنوب لا يحمل أحد من ذنوبه شيئا دلت على عدله تعالى الكامل ، والجملة الثانية دلت على أنه لا مستغاث من هول ذلك اليوم أيضا وهما المقصودان من الآيتين فالفرق باعتبار ذلك ، ولعل ما ذكرناه أولا أولى ، وذكر بعض الأفاضل في الجملة الأولى ثلاثة أسئلة قال في الأخيرين منها : لم أر من تفطن لهما وقد أجاب عن كل ، الأول أن عدم حمل الغير على الغير عام في النفس الآثمة وغير الآثمة فلم خص بالآثمة مع أن التصريح بالعموم أم في العدل وأبلغ في البشارة وأخصر في اللفظ وذلك بأن يقال : ولا تحمل نفس حمل أخرى ، وجوابه أن الكلام في أرباب الأوزار المعذبين لبيان أن عذابهم إنما هو بما اقترفوه من الأوزار لا بما اقترفه غيرهم ، الثاني أن معنى وزر حمل الوزر لا مطلق الحمل على ما في النهاية الأثيرية حيث قال : يقال وزر يزر فهو وازر إذا حمل ما يثقل ظهره من الأشياء المثقلة ومن الذنوب فكيف صح ذكر وزر مع يزر وجوابه أنه من باب التجريد ، الثالث أن (وازِرَةٌ) يفهم من تزر كما يفهم ضارب من يضرب مثلا فأي فائدة في ذكره؟ وجوابه أنه إذا قيل ضرب ضارب زيدا فالذي يستفاد من ضرب إنما هو ذات قام بها ضرب حدث من تعلق هذا الفعل بتلك الذات ولما عبر عن شيء بما فيه معنى الوصفية وعلق به معنى مصدري في صيغة فعل أو غيرها فهم منه في عرف اللغة أن ذلك الشيء موصوف بتلك الصفة حال تعلق ذلك المعنى به لا بسببه كما حققه بعض أجلة شراح الكشاف فيجب أن يكون معنى ضارب في المثال متصفا بضرب سابق على تعلق ضرب به وكذا يقال في (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) وهذه فائدة جليلة ويزيدها جلالة استفادة العموم إذا أورد اسم الفاعل نكرة في حيز نفي ، وبذلك يسقط قول العلامة التفتازاني إن ذكر فاعل الفعل بلفظ اسم فاعله نكرة قليل الجدوى جدا انتهى.

وأنت تعلم أنه من مجموع الجملتين يستفاد ما ذكره في السؤال الأول من العموم ، وفي خصوص هاتين الجملتين وذكرهما معا ما لا يخفى من الفائدة ، وفي القاموس وزره كوعده وزرا بالكسر حمله ، وفي الكشاف وزر الشيء إذا حمله ، ونحوه في البحر ، وعلى ذلك لا حاجة إلى التجريد فلا تغفل ، وأصل الحمل ما كان على الظهر من

٣٥٧

ثقيل فاستعير للمعاني من الذنوب والآثام ، وقرأ أبو السمال عن طلحة وإبراهيم عن الكسائي «لا تحمل» بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الميم وتقتضي هذه القراءة نصب شيء على أنه مفعول به لتحمل وفاعله ضمير عائد على مفعول تدعو المحذوف أي وإن تدع مثقلة نفسا إلى حملها لم تحمل منه شيئا (وَلَوْ كانَ) أي المدعو المفهوم من الدعوة (ذا قُرْبى) ذا قرابة من الداعي ، وقال ابن عطية : اسم كان ضمير الداعي أي ولو كان الداعي ذا قرابة من المدعو ، والأول أحسن لأن الداعي هو المثقلة بعينه فيكون الظاهر عود الضمير عليه وتأنيثه.

وقول أبي حيان ذكر الضمير حملا على المعنى لأن قوله تعالى : (مُثْقَلَةٌ) لا يراد بها مؤنث المعنى فقط بل كل شخص فكأنه قيل وإن يدع شخص مثقل لا يخفي ما فيه. وقرئ ولو كان «ذو قربى» بالرفع ، وخرج على أن (كانَ) ناقصة أيضا و«ذو قربى» اسمها والخبر محذوف أي ولو كان ذو قربى مدعوا ، وجوز أن تكون تامة. وتعقب بأنه لا يلتئم معها النظم الجليل لأن الجملة الشرطية كالتتميم والمبالغة في أن لا غياث أصلا فيقتضي أن يكون المعنى أن المثقلة إن دعت أحدا إلى حملها لا يجيبها إلى ما دعته إليه ولو كان ذو القربى مدعوا ، ولو قلنا إن المثقلة إن دعت أحدا إلى حملها لا يحمل مدعوها شيئا ولو حضر ذو قربى لم يحسن ذلك الحسن ، وملاحظة كون ذي القربى مدعوا بقرينة السياق أو تقدير فدعته كما فعل أبو حيان خلاف الظاهر فيخفى عليه أمر الانتظام (إِنَّما تُنْذِرُ) إلخ استئناف مسوق لبيان من يتعظ بما ذكر أي إنما تنذر بهذه الإنذارات ونحوها (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي يخشونه تعالى غائبين عن عذابه سبحانه أو عن الناس في خلواتهم أو يخشون عذاب ربهم غائبا عنهم فالجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل أو من المفعول (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي راعوها كما ينبغي وجعلوها منارا منصوبا وعلما مرفوعا أي إنما ينفع إنذارك وتحذيرك هؤلاء من قومك دون من عداهم من أهل التمرد والعناد ، ونكتة اختلاف الفعلين تعلم مما مر في قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) فتذكر ما في العهد من قدم.

(وَمَنْ تَزَكَّى) تطهر من أدناس الأوزار والمعاصي بالتأثر من هذا الإنذارات (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) لاقتصار نفعه عليها كما أن من تدنس بها لا يتدنس إلا عليها ، والتزكي شامل للخشية وإقامة الصلاة فهذا تقرير وحث عليهما.

وقرأ العباس عن أبي عمرو «ومن يزكي فإنما يزكي» بالياء من تحت وشد الزاي فيهما وهما مضارعان أصلهما ومن يتزكى فإنما يتزكى فأدغمت التاء في الزاي كما أدغمت في يذكرون ، وقرأ ابن مسعود وطلحة «ومن أزكى» بإدغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في الابتداء ، وطلحة أيضا «فإنما تزكى» بإدغام التاء في الزاي (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) لا إلى أحد غيره استقلالا أو اشتراكا فيجازيهم على تزكيهم أحسن الجزاء (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) عطف على قوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) والأعمى والبصير مثلان للكافر والمؤمن كما قال قتادة والسدي وغيرهما.

وقيل : هما مثلان للصنم ولله عزوجل فهو من تتمة قوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) والمعنى لا يستوي الله تعالى مع ما عبدتم (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) أي ولا الباطل ولا الحق (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) ولا الثواب ولا العقاب ، وقيل : ولا الجنة ولا النار ، والحرور فعول من الحر وأطلق كما حكي عن الفراء على شدة الحر ليلا أو نهارا ، وقال أبو البقاء : هو شدة حر الشمس ، وفي الكشاف الحرور السموم إلا أن السموم يكون بالنهار والحرور بالليل والنهار ، وقيل : بالليل (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) تمثيل آخر للمؤمنين الذين دخلوا في الدين بعد البعثة والكافرين الذين أصروا واستكبروا فالتعريف كما قال الطيبي للعهد ، وقيل : للعلماء والجهلاء.

والثعالبي جعل الأعمى والبصير مثلين لهما وليس بذاك (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي يسمعه ويجعله مدركا

٣٥٨

للأصوات ، وقال الخفاجي وغيره : ولعل في الآية ما يقتضي أن المراد يسمع من يشاء سماع تدبر وقبول لآياته عزوجل (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات وإشباع في إقناطه عليه الصلاة والسلام من إيمانهم ، والباء مزيدة للتأكيد أي وما أنت مسمع ، والمراد بالسماع هنا ما أريد به في سابقه ، ولا يأبى إرادة السماع المعروف ما ورد في حديث القليب لأن المراد نفي الأسماع بطريق العادة وما في الحديث من باب (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] وإلى هذا ذهب البعض ، وقد مر الكلام في ذلك فلا تغفل.

وما ألطف نظم هذه التمثيلات فقد شبه المؤمن والكافر أولا بالبحرين وفضل البحر الأجاج على الكافر لخلوه من النفع ثم بالأعمى والبصير مستتبعا بالظلمات والنور والظل والحرور فلم يكتف بفقدان نور البصر حتى ضم إليه فقدان ما يمده من النور الخارجي وقرن إليه نتيجة ذلك العمى والفقدان فكان فيه ترق من التشبيه الأول إليه ثم بالأحياء والأموات ترقيا ثانيا وأردف قوله سبحانه : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ).

وذكر الطيبي أن إخلاء الثاني من لا المؤكدة لأنه كالتمهيد لقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) ولهذا كرر (وَما يَسْتَوِي) وأما ذكرها في التمثيلين بعده فلأنهما مقصودان في أنفسهما إذ ما فيهما مثلان للحق والباطل وما يؤديان إليه من الثواب والعقاب دون المؤمن والكافر كما في غيرهما ، وإنما حملت على أنها زائدة للتأكيد إذ ليس المراد أن الظلمات في نفسها لا تستوي بل تتفاوت فمن ظلمة هي أشد من أخرى مثلا وكذا يقال فيما بعد بل المراد أن الظلمات لا تساوي النور والظل لا يساوي الحرور والأحياء لا تساوي الأموات.

وزعم ابن عطية أن دخول لا على نية التكرار كأنه قيل : ولا الظلمات والنور ولا النور والظلمات وهكذا فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ودل مذكور الكلام على متروكه ، والقول بأنها مزيدة لتأكيد النفي يغني عن اعتبار هذا الحذف الذي لا فائدة فيه.

وقال الإمام : كررت لا فيما كررت لتأكيد المنافاة فالظلمات تنافي النور وتضاده والظل والحرور كذلك لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد بخلاف الأعمى والبصير فإن الشخص الواحد قد يكون بصيرا. ثم يعرض له العمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف ، وأما الأحياء والأموات فيهما وإن كانا كالأعمى والبصير من حيث إن الجسم الواحد قد يكون حيا ثم يعرض له الموت لكن المنافاة بين الحي والميت أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير فإنهما قد يشتركان في إدراك أشياء ولا كذلك الحي والميت كيف والميت مخالف الحي في الحقيقة على ما تبين في الحكمة الإلهية ، وقيل لم تكرر قيل وكررت بعد لأن المخاطب في أول الكلام لا يقصر في فهم المراد ، وقيل كررت فيما عدا الأخير لأنه لو قيل وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور مثلا لتوهم نفي الاستواء بين مجموع الأعمى والبصير ومجموع الظلمات والنور ، وفي الأخير للاعتناء وإدخال (لا) على المتقابلين لتذكير نفي الاستواء ، وقدم الأعمى على البصير مع أن البصير أشرف لأنه إشارة إلى الكافر وهو موجود قبل البعثة والدعوة إلى الإيمان ، ولنحو هذا قدم الظلمات على النور فإن الباطل كان موجودا فدمغه الحق ببعثته عليه الصلاة والسلام ، ولم يقدم الحرور على الظل ليكون على طرز ما سبق من تقديم غير الأشرف بل قدم الظل رعاية لمناسبته للعمى والظلمة من وجه أو لسبق الرحمة مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة.

وقدم الأحياء على الأموات ولم يعكس الأمر ليوافق الأولين في تقديم غير الأشرف لأن الأحياء إشارة إلى المؤمنين بعد الدعوة والأموات إشارة إلى المصرين على الكفر بعدها ولذا قيل بعد (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) إلخ ووجود المصرين بوصف الإصرار بعد وجود المؤمنين ، وقيل قدم ما قدم فيما عدا الأخير لأنه عدم وله مرتبة السبق وفي

٣٥٩

الأخير لأن المراد بالأموات. فاقدو الحياة بعد الاتصاف بها كما يشعر به أرداف ذلك بقوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) فيكون للحياة مع أنها وجودية رتبة السبق أيضا ، وقيل إن تقديم غير الأشرف مع انفهام أنه غير أشرف على الأشرف للإشارة إلى أن التقديم صورة لا يخل بشرف الأشرف :

فالنار يعلوها الدخان وربما

يعلو الغبار عمائم الفرسان

وجمع الظلمات مع إفراد النور لتعدد فنون الباطل واتحاد الحق ، وقيل لأن الظلمة قد تتعدد فتكون في محال قد تخلل بينهما نور والنور في هذا العالم وإن تعدد إلا أنه يتحد وراء محل تعدده ، وجمع الأحياء والأموات على بابه لتعدد المشبه بهما ولم يجمع الأعمى والبصير لذلك لأن القصد إلى الجنس والمفرد أظهر فيه مع أن في البصراء ترك رعاية الفاصلة وهو على الذوق السليم دون البصير ، فتدبر جميع ذلك والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وهو العليم الخبير.

وقرأ الأشهب والحسن «بمسمع من» بالإضافة (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر فإن كان المنذر ممن أراد الله تعالى هدايته سمع واهتدى وإن كان ممن أراد سبحانه ضلاله وطبع على قلبه فما عليك منه تبعة (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) أي محقين على أنه حال من الفاعل أو محقا على أنه حال من المفعول أو إرسالا مصحوبا بالحق على أنه صفة لمصدر محذوف ، وجوز الزمخشري تعلقه بقوله سبحانه : (بَشِيراً) ومتعلق قوله تعالى : (وَنَذِيراً) محذوف لدلالة المقابل على مقابله أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعيد الحق.

(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) أي ما من جماعة كثيرة أهل عصر وأمة من الأمم الدارجة في الأزمنة الماضية (إِلَّا خَلا) مضى (فِيها نَذِيرٌ) من نبي أو عالم ينذرها ، والاكتفاء بذكره للعلم بأن النذارة قريبة البشارة لا سيما وقد اقترنا آنفا مع أن الإنذار أنسب بالمقام ، وقيل خص النذير بالذكر لأن البشارة لا تكون إلا بالسمع فهو من خصائص الأنبياء عليهم‌السلام فالبشير نبي أو ناقل عنه بخلاف النذارة فإنه تكون سمعا وعقلا فلذا وجه النذير في كل أمة ، وفيه بحث.

واستدل بعض الناس بهذه الآية مع قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [الأنعام : ٣٨] على في البهائم وسائر الحيوانات أنبياء أو علماء ينذرون ، والاستدلال بذلك باطل لا يكاد نفي بطلانه على أحد حتى على البهائم ، ولم نسمع القول بنبوة فرد من البهائم ونحوها إلا عن الشيخ محيي الدين ومن تابعه قدس الله سره ، ورأيت في بعض الكتب أن القول بذلك كفر والعياذ بالله تعالى.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم العاتية فلا تحزن من تكذيب هؤلاء إياك.

(جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) في موضع الحال على ما قال أبو البقاء إما بدون تقدير قد أو بتقديرها أي كذب الذين من قبلهم وقد جاءتهم رسلهم (بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات الظاهرة الدالة على صدقهم فيما يدعون (وَبِالزُّبُرِ) كصحف إبراهيم عليه‌السلام (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) كالتوراة والإنجيل على إرادة التفصيل يعني أن بعضهم جاء بهذا وبعضهم جاء بهذا لا على إرادة الجمع وأن كل رسول جاء بجميع ما ذكر حتى يلزم أن يكون لكل رسول كتاب وعدد الرسل أكثر بكثير من عدد الكتب كما هو معروف ، ومال هذا إلى منع الخلو ، ويجوز أن يراد بالزبر والكتاب واحد والعطف لتغاير العنوانين لكن فيه بعد (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وضع الظاهر موضع ضميرهم لذمهم بما حيز الصلة والأشعار بعلة الأخذ (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري عليهم بالعقوبة ، وفيه مزيد تشديد وتهويل وقد تقدم الكلام في نظير هذا في سبأ فتذكر.

وفي الآية من تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فيها (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) إلخ استئناف مسوق على ما يخطر

٣٦٠