روح المعاني - ج ١١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

تعالى عليه وسلم فطرة الله التي فطر الناس عليها دين الله تعالى» والمراد بفطرهم على دين الإسلام خلقهم قابلين له غير نابين عنه ولا منكرين له مجاوبا للعقل مساوقا للنظر الصحيح حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينا آخر ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما من مولود يولد إلّا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء» والمراد بالناس على التفسيرين جميعهم.

وزعم بعضهم أن المراد بهم على التفسير الثاني المؤمنون وليس بشيء. واستشكل الاستغراق بأنه ورد في الغلام الذي قتله الخضر عليه‌السلام أنه طبع على الكفر. وأجيب بأن معنى ذلك أنه قدر أنه لو عاش يصير كافرا بإضلال غيره له أو بآفة من الآفات البشرية ، وهذا على ما قيل هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام : «الشقي شقي في بطن أمه» وذلك لا ينافي الفطر على دين الإسلام بمعنى خلقه متهيأ له مستعدا لقبوله فتأمل فالمقام محتاج بعد إلى تحقيق ، وقيل : فطرة الله العهد المأخوذ على بني آدم ، ومعنى فطرهم على ذلك على ما قيل خلقهم مركوزا فيهم معرفته تعالى كما أشير إليه بقوله سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥ ، الزمر : ٣٨] وقوله سبحانه : (لا تَبْدِيلَ (١) لِخَلْقِ اللهِ) تعليل للأمر بلزوم فطرته تعالى أو لوجوب الامتثال به فالمراد بخلق الله فطرته المذكورة أولا ففيه إقامة المظهر مقام المضمر من غير لفظه السابق ، والمعنى لا صحة ولا استقامة لتبديل فطرة الله تعالى بالإخلال بموجبها وعدم ترتيب مقتضاها عليها باتباع الهوى وقبول وسوسة الشياطين ، وقيل : المعنى لا يقدر أحد على أن يغير خلق الله سبحانه وفطرته عزوجل فلا بد من حمل التبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأسا ووضع فطرة أخرى مكانها غير مصححة لقبول الحق والتمكن من إدراكه ضرورة ، فإن التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعا فالتعليل حينئذ من جهة أن سلامة الفطرة متحققة في كل أحد فلا بد من لزومها بترتيب مقتضاها عليها وعدم الإخلال به بما ذكر من اتباع الهوى ووسوسة الشياطين ، وقال الإمام : يحتمل أن يقال : إن الله تعالى خلق خلقه للعبادة وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيدا مثل كون المملوك عبدا للإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية ، وهذا لبيان فساد قول من يقول : العبادة لتحصيل الكمال وإذا كمل للعبد بها لا يبقى عليه تكليف.

وقول المشركين : إن الناقض لا يصلح لعبادة الله تعالى وإنما يعبد نحو الكواكب وهي عبيد الله تعالى ، وقول النصارى : إن عيسى عليه‌السلام كمل بحلول الله تعالى فيه وصار إلها ا ه وفيه ما فيه ، ومما يستغرب ما روي عن ابن عباس من أن معنى (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) النهي عن خصاء الفحول من الحيوان ، وقيل : إن الكلام متعلق بالكفرة كأنه قيل : فأقم وجهك للدين حنيفا والزم فطرة الله التي فطر الناس عليها فإن هؤلاء الكفرة خلق الله تعالى لهم الكفر ولا تبديل لخلق الله أي أنهم لا يفلحون. وأنت تعلم أنه لا ينبغي حمل كلام الله تعالى على نحو هذا (ذلِكَ) إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو إلى لزوم فطرة الله تعالى المستفاد من الإغراء أو إلى الفطرة والتذكير باعتبار الخبر أو بتأويل المشار إليه بمذكر (الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف عن الحق بوجه من الوجوه كما ينبئ عنه صيغة المبالغة ، وأصله قيوم على وزن فيعل اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فيها (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فيصدون عنه صدودا.

وقيل : أي لا علم لهم أصلا ولو علموا لعلموا ذلك على أن الفعل منزل منزلة اللازم (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي راجعين إليه تعالى بالتوبة وإخلاص العمل من ناب نوبة ونوبا إذا رجع مرة بعد أخرى ، ومن النواب أي النحل سميت

٤١

بذلك لرجوعها إلى مقرها ، وقيل : أي منقطعين إليه تعالى من الناب السن خلف الرباعية لما يكون بها من الانقطاع ما لا يكون بغيرها. وتعقب بأنه بعيد لأن الناب يأتي وهذا واوي ، وقد تقدم غير بعيد عدة أقوال في وجه نصبه ، وزاد عليها في البحر القول بكونه نصبا على الحال من (النَّاسَ) في قوله تعالى : (فَطَرَ النَّاسَ) وقدمه على سائر الأقوال وهو كما ترى ، وتقدم أيضا ما قيل في عطف قوله تعالى : (وَاتَّقُوهُ) أي من مخالفة أمره تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) المبدلين لفطرة الله سبحانه تبديلا ، والظاهر أن المراد بهم كل من أشرك بالله عزوجل ، والنهي متصل بالأوامر قبله ، وقيل : بأقيموا الصلاة ، والمعنى ولا تكونوا من المشركين بتركها وإليه ذهب محمد بن أسلم الطوسي وهو كما ترى ، وقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) بدل من المشركين بإعادة الجار ، وتفريقهم لدينهم اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم ، وقيل : اختلافهم في اعتقاداتهم مع اتحاد معبودهم ، وفائدة الإبدال التحذير عن الانتماء إلى حزب من أحزاب المشركين ببيان أن الكل على الضلال المبين.

وقرأ حمزة ، والكسائي «فارقوا» أي تركوا دينهم الذي أمروا به أو الذي اقتضته فطرتهم (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا تشايع كل فرقة أمامها الذي مهد لها دينها وقرره ووضع أصوله (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ) من الدين المعوج المؤسس على الرأي الزائغ والزعم الباطل (فَرِحُونَ) مسرورون ظنا منهم أنه حق ، والجملة قيل اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من تفريق دينهم وكونهم شيعا ، وقيل : في موضع نصب على أنها صفة (شِيَعاً) بتقدير العائد أي كل حزب منهم ، وزعم بعضهم كونها حالا. وجوز أن يكون (فَرِحُونَ) صفة لكل كقول الشماخ :

وكل خليل غير هاضم نفسه

لوصل خليل صارم أو معارز

والخبر هو الظرف المتقدم أعني قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) فيكون منقطعا عما قبله ، وضعف بأنه يوصف المضاف إليه في نحوه صرح به الشيخ ابن الحاجب في قوله :

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان

وفي البحر أن وصف المضاف إليه في نحوه هو الأكثر وأنشد قوله :

جادت عليه كل عين ترة

فتركن كل حديقة كالدرهم

وما قيل : إنه إذا وصف به (كُلُ) دل على أن الفرح شامل للكل وهو أبلغ ليس بشيء بل العكس أبلغ لو تؤمل أدنى تأمل (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) أي شدة (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) راجعين إليه تعالى من دعاء غيره عزوجل من الأصنام وغيرها (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) خلاصا من تلك الشدة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ) الذي كانوا دعوه منيبين إليه (يُشْرِكُونَ) أي فاجأ فريق منهم الإشراك وذلك بنسبة خلاصهم إلى غيره تعالى من صنم أو كوكب أو نحو ذلك من المخلوقات ؛ وتخصيص هذا الفعل ببعضهم لما أن بعضهم ليسوا كذلك ، وتنكير (ضُرٌّ) و (رَحْمَةً) للتعليل إشارة إلى أنهم لعدم صبرهم يجزعون لأدنى مصيبة ويطغون لأدنى نعمة ، و«ثم» للتراخي الرتبي أو الزماني (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) اللام فيه للعاقبة وكونها تقتضي المهلة ولذا سميت لام المآل والشرك والكفر متقاربان لا مهلة بينهما كما قيل لا وجه له ، وقيل : للأمر وهو للتهديد كما يقال عند الغضب اعصني ما استطعت وهو مناسب لقوله سبحانه : (فَتَمَتَّعُوا) فإنه أمر تهديدي ، واحتمال كونه ماضيا معطوفا على (يُشْرِكُونَ) لا يخفى حاله ، والفاء للسببية ، والتمتع التلذذ ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال تمتعكم. وقرأ أبو العالية «فيمتعوا» بالياء التحتية مبنيا للمفعول وهو معطوف على (يكفروا) فسوف يعلمون بالياء التحتية أيضا ، وعن أبي العالية أيضا «فيتمتعوا» بياء تحتية قبل التاء وهو معطوف على (يكفروا) أيضا ، وعن ابن مسعود «وليتمتعوا» باللام والياء

٤٢

التحتية وهو عطف على «ليكفروا» (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) التفات من الخطاب إلى الغيبة إيذانا بالإعراض عنهم وتعديدا لجناياتهم لغيرهم بطريق المباثة ، و (أَمْ) منقطعة ، والسلطان لحجة فالإنزال مجاز عن التعليم أو الإعلام ، وقوله تعالى : (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) بمعنى فهو يدل على أن التكلم مجاز عن الدلالة ، ولك أن تعتبر هنا جميع ما اعتبروه في قولهم : نطقت الحال من الاحتمالات ، ويجوز أن يراد بسلطانا ذا سلطان أي ملكا معه برهان فلا مجاز أولا وآخرا.

وجملة هو (يَتَكَلَّمُ) جواب للاستفهام الذي تضمنته (أَمْ) إذ المعنى بل أأنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم (بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي بإشراكهم بالله عزوجل ، وصحته على أن (ما) مصدرية وضمير (بِهِ) له تعالى أو بالأمر الذي يشركون بسببه وألوهيته على أن (ما) موصولة وضمير (بِهِ) لها والباء سببية ، والمراد نفي أن يكون لهم مستمسك يعول عليه في شركهم (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) أي نعمة من صحة وسعة ونحوهما (فَرِحُوا بِها) بطرا وأشرا فإنه الفرح المذموم دون الفرح حمدا وشكرا ، وهو المراد في قوله تعالى : «قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا» وقال الامام : المذموم الفرح بنفس الرحمة والممدوح الفرح برحمة الله تعالى من حيث إنها مضافة إلى الله تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شدة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بشؤم معاصيهم (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) أي فاجئوا القنوط من رحمته عزوجل ، والتعبير بإذا أولا لتحقق الرحمة وكثرتها دون المقابل ، وفي نسبة الرحمة إليه تعالى دون السيئة تعليم للعباد أن لا يضاف إليه سبحانه الشر وهو كثير كقوله تعالى : (أَنْعَمْتَ) و (الْمَغْضُوبِ) في [الفاتحة : ٧] ، وعدم بيان سبب إذاقة الرحمة وبيان سبب إصابة السيئة إشارة إلى أن الأول تفضل والثاني عدل ، والتعبير بالمضارع في (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) لرعاية الفاصلة والدلالة على الاستمرار في القنوط ، والمراد بالناس إما فريق آخر غير الأول على أن التعريف للعهد أو للجنس وإما الفريق الأول لكن الحكم الأول ثابت لهم في حال تدهشهم كمشاهدة العرق وهذا الحكم في حال آخر لهم فلا مخالفة بين قوله تعالى : «وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه» وقوله سبحانه : «وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم ينقطون» فلا يحتاج إلى تكلف التوفيق بأن الدعاء اللساني جار على العادة فلا ينافي القنوط القلبي ولذا سمع بعض الخائضين في دم عثمان رضي الله تعالى عنه يدعو في طوافه ويقول : اللهم اغفر لي ولا أظنك تفعل ، أو المراد يفعلون فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء ، ولا يخفى أن في المفاجأة نبوة ما عن هذا فتأمل.

وقرئ «يقنطون» بكسر النون (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم ينظروا ولم يشاهدوا (أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أن يبسطه تعالى له (وَيَقْدِرُ) أي ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه ، وهذا إما باعتبار شخصين أو باعتبار شخص واحد في زمانين ، والمراد إنكار فرحهم وقنوطهم في حالتي الرخاء والشدة أي أو لم يروا ذلك فما لهم لم يشكروا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور أي البسط وضده أو جميع ما ذكر (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة ولله تعالى در من قال :

نكد الأريب وطيب عيش الجاهل

قد أرشداك إلى حكيم كامل

قال الطيبي : كانت الفاصلة قوله تعالى : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إيذانا بأنه تعالى يفعل ذلك بمحض مشيئته سبحانه وليس الغنى بفعل العبد وجهده ولا العدم بعجزه وتقاعده ولا يعرف ذلك إلا من آمن بأن ذلك تقدير العزيز العليم كما قال :

كم من أريب فهم قلبه

مستكمل العقل مقلّ عديم

ومن جهول مكثر ماله

ذلك تقدير العزيز العليم

٤٣

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) من الصلة والصدقة وسائر المبرات (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) ما يستحقانه ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنه عليه الصلاة والسلام المقصود أصالة وغيره من المؤمنين تبعا ، وقال الحسن : هو خطاب لكل سامع ، وجوز غير واحد أن يكون لمن بسط له الرزق ، ووجه تعلق هذا الأمر بما قبله واقترانه بالفاء على ما ذكره الزمخشري أنه تعالى لما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك ، وحاصله على ما في الكشف أن امتثال أوامره تعالى مجلبة رضاه والحياة الطيبة تتبعه كما أن عصيانه سبحانه مجلبة سخطه والجدب والضيقة من روادفه فإذا استبان ذلك فآت يا محمد ومن تبعه أو فآت يا من بسط له الرزق ذا القربى حقه إلخ ، وذكر الإمام وجها آخر مبنيا على أن الأمر متفرع على حديث البسط والقدر وهو أنه تعالى لما بين أنه سبحانه يبسط ويقدر أمر جلّ وعلا بالإنفاق إيذانا بأنه لا ينبغي أن يتوقف الإنسان في الإحسان فإن الله تعالى إذا بسط الرزق لا ينقص بالإنفاق وإذا قدر لا يزداد بالإمساك كما قيل :

إذ جادت الدنيا عليك فجد بها

على الناس طرّا إنها تتقلب

فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت

ولا البخل يبقيها إذا هي تذهب

قال صاحب الكشف روح الله تعالى روحه : إن ما ذكره الزمخشري أوفق لتأليف النظم الجليل فإن قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) لتتميم الإنكار على من فرح بالنعمة عن شكر المنعم ويئس عند زوالها عنه ، والظاهر على ما ذكره الإمام أن المراد بالحق الحق المالي وكذا المراد به في جانب المسكين وابن السبيل ، وحمل ذلك بعضهم على الزكاة المفروضة. وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة واستثناء هذه الآية ودعوى أنها مدنية يحتاج إلى نقل صحيح ، وسبق النزول على الحكم بعيد ولذا لم يذكر هنا بقية الأصناف ، وحكي أن أبا حنيفة استدل بالآية على وجوب النفقة لكل ذي رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا أو عاجزا عن الكسب ، ووجه بأن (آت) أمر للوجوب ، والظاهر من الحق بقرينة ما قبله أنه مالي ولو كان المراد الزكاة لم يقدم حق ذوي القربى إذ الظاهر من تقديمه المغايرة ، والشافعية أنكروا وجوب النفقة على من ذكر وقالوا : لا نفقة بالقرابة إلّا على الولد والوالدين على ما بين في الفقه ، والمراد بالحق المصرح به في ذي القربى صلة الرحم بأنواعها وبالحق المعتبر في جانب المسكين وابن السبيل صدقة كانت مفروضة قبل فرض الزكاة أو الزكاة المفروضة والآية مدنية أو مكية والنزول سابق على الحكم. واعترض على هذا بأنه إذا فسر حق الأخيرين بالزكاة وجب تفسير الأول بالنفقة الواجبة لئلا يكون لفظ الأمر للوجوب والندب ، ولذا استدل أبو حنيفة عليه الرحمة بالآية على ما تقدم ، وفيه بحث.

وقال بعض أجلّة الشافعية رادا على الاستدلال : إنه كيف يتم مع احتمال أن يكون الأمر بإيتاء الصدقة أيضا بدليل ما تلاه ، ثم إن (ذَا الْقُرْبى) مجمل عند المستدل ومن أين له أنه بين بذي الرحم المحرم ، وكذلك قوله تعالى : (حَقَّهُ) ثم قال : والحق أنه أمر بتوفير حقه من الصلة لا خصوص النفقة وصلة الرحم من الواجبات المؤكدة انتهى ، والحق أحق بالاتباع ، ودليل الإمام عليه الرحمة ليس هذا وحده كما لا يخفى على علماء مذهبه.

وخص بعض الخطاب به صلّى الله تعالى عليه وسلّم وقال : المراد بذي القربى بنو هاشم وبنو المطلب أمر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يؤتيهم حقهم من الغنيمة والفيء ، وفي مجمع البيان للطبرسي من الشيعة المعنى وآت يا محمد ذوي قرابتك حقوقهم التي جعلها الله تعالى لهم من الأخماس. وروى أبو سعيد الخدري وغيره أنه لما نزلت هذه الآية أعطى عليه الصلاة والسلام فاطمة رضي الله تعالى عنها فدكا وسلمه إليها ، وهو المروي عن أبي جعفر ، وأبي عبد الله انتهى ؛ وفيه أن هذا ينافي ما اشتهر عند الطائفتين من أنها رضي الله تعالى عنها ادعت فدكا بطريق

٤٤

الإرث ، وزعم بعضهم أنها ادعت الهبة وأتت على ذلك بعلي والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم وبأم أيمن رضي الله تعالى عنها فلم يقبل منها لمكان الزوجية والبنوة وعدم كفاية المرأة الواحدة في الشهادة في هذا الباب فادعت الإرث فكان ما كان وهذا البحث مذكور على أتم وجه في التحفة إن أردته فارجع إليه ، وخص بعضهم (ابْنَ السَّبِيلِ) بالضيف وحقه بالإحسان إليه إلى أن يرتحل والمشهور أنه المنقطع عن ماله وبين المعنيين عموم من وجه ، وقدم ذو القربى اعتناء بشأنه وهو السر في تقديم المفعول الثاني على العطف والعدول عن وآت ذا القربى والمسكين وابن السبيل حقهم ، وعبر عن القريب بذي القربى في جميع المواضع ولم يعبر عن المسكين بذي المسكنة لأن القرابة ثابتة لا تتجدد وذو كذا لا يقال في الأغلب إلا في الثابت ألا ترى أنهم يقولون لمن تكرر منه الرأي الصائب فلان ذو رأي ويكاد لا تسمعهم يقولون لمن أصاب مرة في رأيه كذلك وكذا نظائر ذلك من قولهم : فلان ذو جاه وفلان ذو إقدام ، والمسكنة لكونها مما تطرأ وتزول لم يقل في المسكين ذو مسكنة كذا قال الإمام : (ذلِكَ) أي الإيتاء المفهوم من الأمر (خَيْرٌ) في نفسه أو خير من غيره (لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي ذاته سبحانه أي يقصدونه عزوجل بمعروفهم خالصا أو جهته تعالى أي يقصدون جهة التقرب إليه سبحانه لا جهة أخرى والمعنيان كما في الكشف متقاربان ولكن الطريقة مختلفة.

(وَأُولئِكَ) المتصفون بالإيتاء (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حيث حصلوا بإنفاق ما يفنى النعيم المقيم ، والحصر إضافي على ما قيل : أي أولئك هم المفلحون لا الذين بخلوا بما لهم ولم ينفقوا منه شيئا.

وقيل : هو حقيقي على أن المتصفين بالإيتاء المذكور هم الذين آمنوا وأقاموا الصلاة وأنابوا إليه تعالى واتقوه عزوجل فلا منافاة بين هذا الحصر والحصر المذكور في أول سورة البقرة فتأمل (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) الظاهر أنه أريد به الزيادة المعروفة في المعاملة التي حرمها الشارع إليه ذهب الجبائي وروي ذلك عن الحسن ويشهد له ما روي عن السدي من أن الآية نزلت في ربا ثقيف كانوا يرون وكذا كانت قريش ، وعن ابن عباس ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، ومحمد بن كعب القرظي ، وطاوس وغيرهم أنه أريد به العطية التي يتوقع بها مزيد مكافأة وعليه فتسميتها ربا مجاز لأنها سبب للزيادة ، وقيل : لأنها فضل لا يجب على المعطي.

وعن النخعي أن الآية نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضيل عليهم وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع لهم وهي رواية عن ابن عباس فالمراد بالربا العطية التي تعطى للأقارب للزيادة في أموالهم ، ووجه تسميتها بما ذكر معلوم مما ذكرنا ، وأيا ما كان ـ فمن ـ بيان ـ لما ـ لا للتعليل.

وقرأ ابن كثير «أتيتم» بالقصر ومعناه على قراءة الجمهور أعطيتم وعلى هذه القراءة جئتم أي ما جئتم به من عطاء ربا (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) أي ليزيد ذلك الربا ويزكو في أموال الناس الذين آتيتموهم إياه ، وقال ابن الشيخ : المعنى على تفسير الربا بالعطية ليزيد ذلك الربا في جذب أموال الناس وجلبها ، وفي معناه ما قيل ليزيد ذلك بسبب أموال الناس وحصول شيء منها لكم بواسطة العطية ، وعن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وأبي رجاء ، والشعبي ، ونافع ، ويعقوب ، وأبي حيوة «لتربوا» بالتاء الفوقية مضمومة وإسناد الفعل إليهم وهو باب الأفعال المتعدية لواحد بهمزة التعدية والمفعول محذوف أي لتربوه وتزيدوه في أموال الناس أو هو من قبيل يجرح في عراقيبها نصلى أي لتربوا وتزيدوا أموال الناس ، ويجوز أن يكون ذلك للصيرورة أي لتصيروا ذوي ربا في أموال الناس. وقرأ أبو مالك «لتربوها» بضمير المؤنث وكان الضمير للربا على تأويله بالعطية أو نحوها (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) أي فلا يبارك فيه في تقديره تعالى وحكمه عزوجل (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) أي من صدقة (تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) تبتغون به وجهه تعالى خالصا (فَأُولئِكَ هُمُ

٤٥

الْمُضْعِفُونَ) أي ذوو الأضعاف على أن مضعفا اسم فاعل من أضعف أي صار ذا ضعف بكسر فسكون بأن يضاعف له ثواب ما أعطاه كما قوى وأيسر إذا صار ذا قوة ويسار فهو لصيرورة الفاعل ذا أصله ، ويجوز أن يكون من أضعف والهمزة للتعدية والمفعول محذوف أي الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة. ويؤيد هذا الوجه قراءة أبي «المضعفون» اسم مفعول ، وكان الظاهر أن يقال : فهو يربو عند الله لأنه الذي تقتضيه المقابلة إلا أنه غير في العبارة إذا أثبت غير ما قبله وفي النظم إذا أتى فيما قبل بجملة فعلية وهنا بجملة اسمية مصدرة باسم الإشارة مع ضمير الفصل لقصد المبالغة فأثبت لهم المضاعفة التي هي أبلغ من مطلق الزيادة على طريق التأكيد بالاسمية والضمير وحصر ذلك فيهم بالاستحقاق مع ما في الإشارة من التعظيم لدلالته على علو المرتبة وترك ما أتوا وذكر المؤتى إلى غير ذلك ، والالتفات عن الخطاب حيث قيل : فأولئك دون فأنتم للتعظيم كأنه سبحانه خاطب بذلك الملائكة عليهم‌السلام وخواص الخلق تعريفا لحالهم ، ويجوز أن يكون التعبير بما ذكر للتعميم بأن يقصد بأولئك هؤلاء وغيرهم ، والراجع في الكلام إلى (ما) محذوف إن جعلت موصولة وكذلك إن جعلت شرطية على الأصح لأنه خبر على كل حال أي فأولئك هم المضعفون به أو فمؤتو على صيغة اسم الفاعل أولئك المضعفون ، والحذف لما في الكلام من الدليل عليه ، وعلى تقدير مؤتوه العام لا يكون هناك التفات بالمعنى المتعارف ، واعتبار الالتفات أولى ، وفي الكشاف أن الكلام عليه أملأ بالفائدة وبين ذلك بأن الكلام مسوق لمدح المؤتين حثا في الفعل وهو على تقدير الالتفات من وجوه. أحدها الإشارة بأولئك تعظيما لهم والثاني تقريه الملائكة عليهم‌السلام بمدحهم. والثالث ما في نفس الالتفات من الحسن. والرابع ما في أولئك على هذا من الفائدة المقررة في نحو* فذلك أن يهلك فحسبي ثناؤه* بخلافه إذا جعل وصفا للمؤتين وعلى ذلك التقدير يفيد تعظيم الفعل لا الفاعل وإن لزم بالعرض فلا يعارض ما يفيده بالأصالة فتأمل ، والآية على المعنى الأول للربا في معنى قوله عزوجل : يمحق الله الربا ويربي الصدقات [البقرة : ٢٧٦] سواء بسواء ، والذي يقتضيه كلام كثير أنها تشعر بالنهي عن الربا بذلك المعنى لكن أنت تعلم أنها لو أشعرت بذلك لأشعرت بحرمة الربا بمعنى العطية التي يتوقع بها مزيد مكافأة على تقدير تفسير الربا بها مع أنهم صرحوا بعدم حرمة ذلك على غيره صلّى الله تعالى عليه وسلم وحرمتها عليه عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى : ولا تمنن تستكثر [المدثر : ٦] وكذا صرحوا بأن ما يأخذه المعطي لتلك العطية من الزيادة على ما أعطاه ليس بحرام ودافعه ليس بآثم لكنه لا يثاب على دفع الزيادة لأنها ليست صلة مبتدأة بل بمقابلة ما أعطي أولا ولا ثواب فيما يدفع عوضا وكذا لا ثواب في إعطاء تلك العطية أولا لأنها شبكة صيد ، ومعنى قول بعض التابعين الجانب المستغزر يثاب من هبته أن الرجل الغريب إذا أهدى إليك شيئا لتكافئه وتزيده شيئا فأثبه من هديته وزده.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) الظاهر أن الاسم الجليل مبتدأ و (الَّذِي) خبره والاستفهام إنكاري و (مِنْ شُرَكائِكُمْ) خبر مقدم و (مِنْ) مبتدأ مؤخر و (مِنْ) فيه للتبعيض و (مِنْ ذلِكُمْ) صفة (شَيْءٍ) قدمت عليه فأعربت حالا و (مِنْ) فيه للتبعيض أيضا و (شَيْءٍ) مفعول يفعل و (مِنْ) الداخلة عليه مزيدة لتأكيد الاستغراق ، وجوز الزمخشري أن يكون الاسم الجليل مبتدأ و (الَّذِي) صفته والخبر (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) إلخ والرابط اسم الإشارة المشار به إلى أفعاله تعالى السابقة ـ فمن ذلكم ـ بمعنى من أفعاله ، ووقعت الجملة المذكورة خبرا لأنها خبر منفي معنى وإن كانت استفهامية ظاهرا فكأنه قيل : الله الخالق الرازق المميت المحيي لا يشاركه شيء ممن لا يفعل أفعاله هذه ، وبعضهم جعلها خبرا بتقدير القول فكأنه قيل : الله الموصوف بكونه خالقا ورازقا ومميتا ومحييا مقول في حقه هل من شركائكم من هو موصوف بما هو موصوف به.

٤٦

وتعقب ذلك أبو حيان بأن اسم الإشارة لا يكون رابطا إلا إذا أشير به إلى المبتدأ وهو هنا ليس إشارة إليه لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الربط بالمعنى وخالفه الناس وذلك في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة : ٢٣٤] فإن التقدير يتربصن أزواجهم فقدر الضمير بمضاف إلى ضمير (الَّذِينَ) فحصل به الربط.

وكذلك قدر الزمخشري من ذلكم بمن أفعاله المضاف إلى ضمير المبتدأ لكن لا يخفى أن الإضافة غير معتبرة وعلى تقدير اعتبارها يلزم تقدير مضاف آخر ، وجوز أن تكون (مِنْ) الأولى لبيان من يفعل ومتعلقها محذوف و (مَنْ يَفْعَلُ) فاعل لفعل محذوف أي هل حصل واستقر من يفعل كائنا من شركائكم ، وكذا جوز في (مِنْ) الثانية أن تكون لبيان المستغرق ، وقيل : إن من الأولى ومن الثانية زائدتان كالثالثة وهو كما ترى ، والآية على ما قلناه أولا متضمنة جملتين دلت الأولى على إثبات ما هو من اللوازم المساوية للألوهية من الخلق والرزق والإماتة والإحياء له عزوجل وأفادت الثانية بواسطة عكس السالبة الكلية نفيها رأسا عن شركائهم الذين اتخذوهم شركاء له سبحانه من الأصنام وغيرها مؤكدا بالإنكار ، والعقل حاكم بأن ما يتخذ شريكا كالذي اتخذ في الحكم المذكور أعني نفي تلك الأفعال منه ، وإن شئت جعلت (شُرَكائِكُمْ) شاملا للصنفين ويفهم من ذلك عدم صحة الشركة إذ لا يعقل شركة ما ليس باله لعدم وجود لازم الألوهية فيه لمن هو إله في الألوهية ولتأكيد ذلك قال سبحانه وتعالى : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن شركهم ، والتعبير بالمضارع لما في الشرك من الغرابة أو للإشعار باستمراره وتجدده منهم ، وأشار بعضهم إلى أن تينك الجملتين يؤخذ منهما مقدمتان موجبة وسالبة كلية مرتبتان على هيئة قياس من الشكل الثاني وأن قوله تعالى : (سُبْحانَهُ) إلخ يؤخذ منه سالبة كلية هي نتيجة ذلك القياس فتكون الجملتان المذكورتان في حكم قياس من الشكل الثاني ، وقوله تعالى : (سُبْحانَهُ) إلخ في حكم النتيجة له ، ولا يخفى احتياج ذلك إلى تكلف فتأمل جدا ، وقرأ الأعمش ، وابن وثاب «تشركون» بتاء الخطاب

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ(٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ

٤٧

ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)(٦٠)

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الصيادين والغاصة ومحق البركات من كل شيء وقلة المنافع في الجملة وكثرة المضارع ، وعن ابن عباس أجدبت الأرض وانقطعت مادة البحر وقالوا : إذا انقطع القطر عميت دواب البحر ، وقال مجاهد : ظهر الفساد في البر بقتل ابن آدم أخاه وفي البحر بأخذ السفن غصبا ، وفي رواية عن ابن عباس بأخذ جلندي كل سفينة غصبا ، ولعل المراد التمثيل ، وكذا يقال في قتل ابن آدم أخاه وكان أول معصية ظهرت في البر ؛ قال الضحاك : كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان ماء البحر عذبا وكان لا يفترس الأسد البقر ولا الذئب الغنم فلما قتل قابيل هابيل اقشعر ما في الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحا زعافا وقصد الحيوان بعضه بعضا.

وذكر أن أول معصية في البحر غصب جلندي كل سفينة تمر عليه فكأن تخصيص الآمرين بالذكر لذلك ، وأيا ما كان فالبر والبحر على ظاهرهما ، وعن مجاهد البر البلاد البعيدة من البحر والبحر السواحل والمدن التي عند البحر والأنهار ، وقال قتادة : البر الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحارى والعمود والبحر المدن ، والعرب تسمي الأمصار بحارا لسعتها ، ومنه قول سعد بن عبادة في عبد الله بن أبي ابن سلول ، ولقد أجمع أهل هذه البحيرة يعني المدينة ليتوجوه.

قال أبو حيان : ويؤيد هذا قراءة عكرمة «والبحور» بالجمع ورويت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وجوز النحاس أن يكون البحر على ظاهره إلا أن الكلام على حذف مضاف أي مدن البحر فهو مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وجوز أيضا أن يراد بالفساد المعاصي من قطع الطريق والظلم وغيرهما ، و(أل) في (الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) للجنس وكذا في (الْفَسادُ) أي ظهر جنس الفساد من الجدب والموتان ونحوهما في جنس البر وجنس البحر (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي بسبب ما فعله الناس من المعاصي والذنوب وشؤمه وهذا كقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] وهو على التفسير الأول للفساد ظاهر وأما على تفسيره بالمعاصي فالمعنى ظهرت المعاصي في البر والبحر بكسب الناس إياها وفعلهم لها ، ومعنى قوله تعالى : (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) على الأول ظاهر وهو أن الله تعالى قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة لعلهم يرجعون عما هم عليه وأما على الثاني فاللام مجاز على معنى أن ظهور المعاصي بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم الله تعالى وبال أعمالهم إرادة الرجوع فكأنهم إنما فسدوا وتسببوا لفشو المعاصي في الأرض لأجل ذلك.

٤٨

وقرأ السلمي ، والأعرج ، وأبو حيوة ، وسلام ، وسهل ، وروح ، وابن حسان ، وقنبل من طريق ابن مجاهد ، وابن الصباح ، وأبي الفضل الواسطي عنه ومحبوب عن أبي عمرو «لنذيقهم» بالنون ، وظهور الفساد المذكور على ما أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة كان قبل أن يبعث النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فلما بعث عليه الصلاة والسلام رجع من رجع من الناس عن الضلال والظلم ، وقيل : كان أوائل البعثة وذلك أن كفار قريش فعلوا ما فعلوا من المعاصي والإصرار على الشرك وإيذاء الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم فدعا صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم فأقحطوا وحل بهم من البلاء ما حل فأخبر الله سبحانه أن ذلك بسبب معاصيهم ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.

وفسر هذا القائل : (النَّاسِ) بكفار قريش ، وقيل : كان في زمان سابق على زمان النزول أعم من أن يكون الزمان الذي قبيل البعثة أو بعيدها أو غير ذلك ، وحكم الآية عام في كل فساد يظهر إلى يوم القيامة ، ومن هنا قيل : من أذنب ذنبا يكون جميع الخلائق من الإنس والدواب والوحوش والطيور والذر خصماءه يوم القيامة لأنه تعالى يمنع المطر بشؤم المعصية فيتضرر بذلك أهل البر والبحر جميعا ، وروي عن شقيق الزاهد أنه قال : من أكل الحرام فقد خان جميع الناس ، ووجه تعلق الآية بما قبلها أن فيها نعي ما يعم الشرك وغيره من المعاصي وفيما قبل نعي الشرك وفيها من تخويف المشركين ما فيها.

وقال الإمام : في وجه التعلق هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] وإذا كان الشرك سببه جعل الله تعالى إظهارهم الشرك مورثا لظهور الفساد ولو فعل بهم ما يقتضيه قولهم لفسدت السماوات والأرض كما قال سبحانه : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) [مريم : ٩٠] وإلى هذا أشار عزوجل بقوله سبحانه : (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) انتهى ، فتأمل وأنصف. وقوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) مسوق لتأكيد تسبب المعاصي لغضب الله تعالى ونكاله حيث أمروا بأن يسيروا فينظروا كيف أهلك الله تعالى الأمم وأذاقهم سوء العاقبة بمعاصيهم ويتحققوا صدق ما تقدم ، وقوله تعالى : (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) استئناف للدلالة على أن الشرك وحده لم يكن سبب لتدمير جميعهم بل هو سبب للتدمير في أكثرهم وما دونه من المعاصي سبب له في قليل منهم.

وجوز أن يكون للدلالة على أن سوء عاقبتهم لفشو الشرك وغلبته فيهم ففيه تهويل لأمر الشرك بأنه فتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) أي إذا كان الأمر كذلك فأقم وتمام الكلام فيما هنا يعلم مما تقدم في هذه السورة الكريمة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) جوز أن يتعلق بمرد وهو مصدر بمعنى الرد ، والمعنى لا يرده سبحانه بعد أن يجيء به ولا رد له من جهته عزوجل فيفيد انتفاء رد غيره تعالى له بطريق برهاني ، واعترض بأنه لو كان كذلك للزم تنوين (يَوْمٌ) لمشابهته للمضاف.

وأجيب بأنه مبني على ما قاله ابن مالك في التسهيل من أنه قد يعامل الشبيه بالمضاف معاملته فيترك تنوينه وحمل عليه قوله عليه الصلاة والسلام «لا مانع لما أعطيت» وتفصيله في شرحه ، وبعضهم جعله متعلقا بمحذوف يدل عليه (مَرَدَّ) أي لا يرد من جهته تعالى أي لا يرده هو عزوجل ؛ وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف والتقدير هو أي الرد المنفي كائن من الله تعالى ، والجملة استئناف جواب سؤال تقديره ممن ذلك الرد المنفي؟ وقيل : هو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير في الظرف الواقع خبرا للا ، وقيل : متعلق بالنفي أو بما دلّ عليه ، وقيل : متعلق بمحذوف وقع صفة اليوم ، وجوز كثير تعلقه بيأتي أي من قبل أن يأتي من الله تعالى يوم لا يقدر أحد أن يرده.

وتعقب بأن ذلك خلاف المتبادر من اللفظ والمعنى وهو مع ذلك قليل الفائدة وارتضاه الطيبي فقال : هذا الوجه

٤٩

أبلغ لإطلاق الرد وتفخيم اليوم وإن إتيانه من جهة عظيم قادر ذي سلطان قاهر ومنه يعلم أن ذلك ليس قليل الفائدة. نعم إن فيه الفصل الملبس وحال سائر الأوجه لا يخفى على ذي تمييز (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ يأتي (يَصَّدَّعُونَ) أصله يتصدعون فقلبت تاؤه صادا وأدغمت والتصدع في الأصل تفرق أجزاء الأواني ثم استعمل في مطلق التفرق أي يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير ، وقيل : يتفرقون تفرق الأشخاص على ما ورد في قوله تعالى : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة : ٤] لا تفرق الفريقين فإن المبالغة في التفرق المستفادة من (يَصَّدَّعُونَ) إنما تناسب الأول ، ورجح الثاني بأنه المناسب للسياق والسباق إذا الكلام في المؤمنين والكافرين فما ذكر بيان لتباينهم في الدارين ويكفي للمبالغة شدة بعد ما بين المنزلتين حسا ومعنى وهو تفسير رواه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة ، وروي أيضا عن ابن زيد (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي وبال كفره وهي النار المؤبدة ففي الكلام مضاف مقدر أو الكفر مجاز عن جزائه بل عن جميع المضار التي لا ضرر وراءها ، وأفراد الضمير باعتبار لفظ (مَنْ) وفيه إشارة إلى قلة قدرهم عند الله تعالى وحقارتهم مع ما علم من كثرة عددهم ، وجمعه في قوله تعالى : (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) باعتبار معناها ، وفيه مع رعاية الفاصلة إشارة إلى كثرة قدرهم وعظمهم عند الله تعالى ، و (يَمْهَدُونَ) من مهد فراشه وطأه أي يوطئون لأنفسهم كما يوطئ الرجل لنفسه فراشه لئلا يصيبه في مضجعه ما ينبيه وينغص عليه مرقده من نتوء أو ق أو بعض ما يؤذي الراقد فكأنه شبه حالة المكلف مع عمله الصالح وما يتحصل به من الثواب ويتخلص من العقاب بحالة من يمهد فراشه ويوطئه ليستريح عليه ولا يصيبه في مضجعه ما ينغص عليه ، وجوز أن يكون المعنى فعلى أنفسهم يشفقون على أن ذلك من قولهم في المثل للمشفق أم فرشت فأنامت فيكون الكلام كناية إيمائية عن الشفقة والمرحمة والأولى أظهر ، والظاهر أن هذه التوطئة لما بعد الموت من القبر وغيره ، وأخرج جماعة عن مجاهد أنه قال : فلأنفسهم يمهدون أي يسوون المضاجع في القبر وليس بذاك. وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص وقيل : للاهتمام ، ومقابلة من (كَفَرَ) ـ بمن عمل صالحا ـ لا بمن آمن إما للتنويه بشأن الإيمان بناء على أنه المراد بالعمل الصالح وإما لمزيد الاعتناء بشأن المؤمن العامل بناء على أن المراد بالعمل الصالح ما يشمل العمل القلبي والقالبي ويشعر بأن المراد بمن عمل صالحا المؤمن العالم قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) فإنه علّة ليمهدون وأقيم فيه الموصول مقام الضمير تعليلا للجزاء لما أن الموصول في معنى المشتق والتعليق به يفيد عليه مبدأ الاشتقاق ، وذكر (مِنْ فَضْلِهِ) للدلالة على أن الإثابة تفضل محض ؛ وتأويله بالعطاء أو الزيادة على ما يستحق من الثواب عدول عن الظاهر ، وجوز أن يكون ذلك علّة ليصدعون والاقتصار على جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء بفحوى قوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) فإن عدم المحبة كناية عن البغض في العرف. وهو يقتضي الجزاء بموجبه فكأنه قيل : وليعاقب الكافرين. وفي الكشاف أن تكرير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده تعالى إلّا المؤمن الصالح ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ) إلخ تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس ويعني بذلك كل كلامين يقرر الأول الثاني وبالعكس سواء كان صريحا وإشارة أو مفهوما ومنطوقا وذلك كقول ابن هانئ :

فما جازه جود ولا حل دونه

ولكن يصير الجود حيث يصير

وبيانه فيما نحن فيه أن قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) يدل بمنطوقه على ما قرر على اختصاصهم بالجزاء التكريمي وبمفهومه على أنهم أهل الولاية والزلفى ، وقوله سبحانه : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) لتعليل الاختصاص يدل بمنطوقه على أن عدم المحبة يقتضي حرمانهم وبمفهومه على أن الجزاء لأضدادهم. موفر فهو جلّ وعلا محب

٥٠

للمؤمنين ، وذكر العلامة الطيبي الظاهر أن قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) الآية بتمامها كالمورد للسؤال والخطاب لكل أحد من المكلفين وقوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) الآية وارد على الاستئناف منطو على الجواب فكأنه لما قيل : أقيموا على الدين القيم قبل مجيء يوم يتفرقون فيه فقيل : ما للمقيمين على الدين وما على المنحرفين عنه وكيف يتفرقون ، فأجيب من كفر فعليه كفره الآية ، وأما قوله سبحانه : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية فينبغي أن يكون تعليلا للكل ليفصل ما يترتب على ما لهم وعليهم لكن يتعلق بيمهدون وحده لشدة العناية بشأن الإيمان والعمل الصالح وعدم الأعباء بعمل الكافر ولذلك وضع موضعه (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) انتهى فلا تغفل ، وفي الآية لطيفة نبّه عليها الإمام قدس‌سره وهي أن الله عزوجل عند ما أسند الكفر والإيمان إلى العبيد قدم الكافر وعند ما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن لأن قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ) وعيد للمكلف ليمتنع عما يضره لينقذه سبحانه من الشر وقوله تعالى : (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً) تحريض له وترغيب في الخير ليوصله إلى الثواب والإنقاذ مقدم عند الحكيم الرحيم وأما عند الجزاء فابتدأ جلّ شأنه بالإحسان إظهارا للكرم والرحمة.

هذا ولما ذكر سبحانه ظهور الفساد والهلاك بسبب المعاصي ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر عزوجل أنه بسبب العمل الصالح لأن الكريم يذكر لعقابه سببا لئلا يتوهم منه الظلم ولا يذكر لإحسانه فقال عزّ من قائل : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ) الجنوب ومهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا والصبا ومهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش ، والشمال ومهبها من بنات نعش إلى مسقط النسر الطائر فإنها رياح الرحمة وأما الدبور ومهبها من مسقط النسر الطائر إلى مطلع سهيل فريح العذاب ، وذكر أن الثلاثة الأول تلقح السحاب الماطر وتجمعه فلذا كانت رحمة ، وعن أبي عبيدة الشمال عند العرب للروح والجنوب للأمطار والأنداء والصبا لإلقاح الأشجار والدبور للبلاء وأهونه أن تثير غبارا عاصفا يقذي العين وهي أقلهن هبوبا ، وروى الطبراني ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس من حديث ذكر فيه ما كان يفعله ويقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا هاجت ريح : «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» وهو مبني على أن الرياح للرحمة والريح للعذاب ، وفي نهاية العرب تقول : لا تلقح السحاب إلّا من رياح مختلفة فكأنه قال صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم اجعلها لقاحا للسحاب ولا تجعلها عذابا ثم قال : وتحقيق ذلك مجيء الجمع في آيات الرحمة والواحد في قصص العذاب كالريح العقيم وريحا صرصرا ، وقال بعضهم : إن ذاك لأن الريح إذا كانت واحدة جاءت من جهة واحدة فصدمت جسم الحيوان والنبات من جهة واحدة فتؤثر فيه أثرا أكثر من حاجته فتضره ويتضرر الجانب المقابل لعكس ممرها ويفوته حظه من الهواء فيكون داعيا إلى فساده بخلاف ما إذا كانت رياحا فإنها تعم جوانب الجسم فيأخذ كل جانب حظه فيحدث الاعتدال ، وأنت تعلم أنه قد تفرد الريح حيث لا عذاب كما في قوله تعالى : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [يوسف : ٢٢] وقوله سبحانه: (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) [الأنبياء : ٨١] والحديث مختلف فيه فرمز السيوطي لحسنه ، وقال الحافظ الهيثمي : في سنده حسين بن قيس وهو متروك وبقية رجاله رجال الصحيح ، ورواه ابن عدي في الكامل من هذا الوجه وأعله بحسين المذكور ، ونقل تضعيفه عن أحمد والنسائي. نعم إن الحافظ عزاه في الفتح لأبي يعلى وحده عن أنس رفعه ، وقال إسناده صحيح فليحفظ ذلك.

وقرأ ابن كثير ، والكسائي ، والأعمش «الريح» مفردا على إرادة معنى الجمع ولذا قال سبحانه : (مُبَشِّراتٍ) أي بالمطر (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) يعني المنافع التابعة لها كتذرية الحبوب وتخفيف العفونة وسقي الأشجار إلى غير ذلك من اللطف والنعم ، وقيل : الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الذي هو مع هبوبها ، ولأوجه التخصيص ، والواو للعطف ، والعطف على علة محذوفة دلّ عليها (مُبَشِّراتٍ) أي ليبشركم وليذيقكم أو على

٥١

(مُبَشِّراتٍ) باعتبار المعنى فإن الحال قد يقصد بها التعليل نحو أهن زيدا مسيئا أي لإساءته فكأنه قيل : لتبشركم وليذيقكم ، وكونه من عطف التوهم أو توهم على (يُرْسِلَ) بإضمار فعل معلل والتقدير ويرسلها ليذيقكم ، وكون التقدير ويجري الرياح ليذيقكم بعيد قيل : أو على جملة ومن آياته إلخ بتقدير وليذيقكم أرسلها أو فعل ما فعل ، ولم يعتبره بعضهم لأن المقصود اندراج الإذاقة في الآيات ، وقيل : الواو زائدة (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) في البحر عند هبوبها (بِأَمْرِهِ) عزوجل وإنما جيء بهذا القيد لأن الريح قد تهب ولا تكون مؤاتية فلا بد من انضمام إرادته تعالى وأمره سبحانه للريح حتى يتأتى المطلوب ، وقيل : للإشارة إلى أن هبوبها مواتية أمر من أموره تعالى التي لا يقدر عليها غيره عزوجل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بتجارة البحر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ولتشكروا نعمة الله تعالى فيما ذكر (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) اعتراض لتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له عليه الصلاة والسلام والوعيد لمن عصاه ، وفي ذلك أيضا تحذير عن الإخلال بمواجب الشكر.

والمراد بقومهم أقوامهم والإفراد للاختصار حيث لا لبس والمعنى ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى أقوامهم كما أرسلناك إلى قومك (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي جاء كل قوم رسولهم بما يخصه من البينات كما جئت قومك ببيناتك (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) الفاء فصيحة أي فآمن بعض وكذب بعض فانتقمنا ، وقيل : أي فكذبوهم فانتقمنا منهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للإشعار بالعلة والتنبيه على مكان المحذوف ، وجوز أن تكون تفصيلا للعموم بأن فيهم مجرما مقهورا ومؤمنا منصورا (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) فيه مزيد تشريف وتكرمة للمؤمنين حيث جعلوا مستحقين على الله تعالى أن ينصرهم وإشعار بأن الانتقام لأجلهم ، والمراد بهم ما يشمل الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وجوز تخصيص ذلك بالرسل بجعل التعريف عهديا ، وظاهر الآية أن هذا النصر في الدنيا ، وفي بعض الآثار ما يشعر بعدم اختصاصه بها وأنه عام لجميع المؤمنين فيشمل من بعد الرسل من الأمة.

أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله تعالى أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا عليه الصلاة والسلام وكان حقا علينا نصر المؤمنين» وفي هذا إشعار بأن (حَقًّا) خبر كان و (نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) الاسم كما هو الظاهر ، وإنما آخر الاسم لكون ما تعلق به فاصلة وللاهتمام بالخبر إذ هو محط الفائدة على ما في البحر.

قال ابن عطية : ووقف بعض القراء على (حَقًّا) على أن اسم كان ضمير الانتقام أي وكان الانتقام حقا وعدلا لا ظلما ، ورجوعه إليه على حد (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] و (عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) جملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر المؤيد بالخبر وإن لم يكن فيه محذور من حيث المعنى (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) استئناف مسوق لبيان ما أجمل فيما سيق من أحوال الرياح (فَتُثِيرُ سَحاباً) تحركه وتنشره (فَيَبْسُطُهُ) بسطا تاما متصلا تارة (فِي السَّماءِ) في سمتها لا في نفس السماء بالمعنى المتبادر (كَيْفَ يَشاءُ) سائرا وواقفا مطبقا وغير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك فالجملة الإنشائية حال بالتأويل (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أي قطعا تارة أخرى.

وقرأ ابن عامر بسكون السين على أنه مخفف من المفتوح أو جمع كسفة أي قطعة أو مصدر كعلم وصف به مبالغة أو بتأويله بالمفعول أو بتقدير ذا كسف (فَتَرَى) يا من يصح منه الرؤية (الْوَدْقَ) أي المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي فرجه جمع خلل في التارتين الاتصال والتقطع فالضمير للسحاب وهو اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه ، وجوز على قراءة «كسفا» بالسكون أن يكون له ، وليس بشيء.

(فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بلادهم وأراضيهم ، والباء في (بِهِ) للتعدية (إِذا هُمْ(١) َيسْتَبْشِرُونَ)

٥٢

فاجئوا الاستبشار بمجيء الخصب (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) الودق (مِنْ قَبْلِهِ) أي التنزيل (لَمُبْلِسِينَ) أي آيسين ، والتكرير للتأكيد ، وأفاد كما قال ابن عطية الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار ، وذلك أن (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) يحمل الفسحة في الزمان فجاء (مِنْ قَبْلِهِ) للدلالة على الاتصال ودفع ذلك الاحتمال ، وقال الزمخشري : أكد ليدل على بعد عهدهم بالمطر فيفهم منه استحكام يأسهم ، وما ذكره ابن عطية أقرب لأن المتبادر من القبلية الاتصال وتأكيد دال على شدته. وأبو حيان أنكر على كلا الشيخين وقال : ما ذكراه من فائدة التأكيد غير ظاهر وإنما هو عندي لمجرد التأكيد ويفيد رفع المجاز فقط ، وقال قطرب : ضمير (قَبْلِهِ) للمطر فلا تأكيد. وأنت تعلم أنه يصير التقدير من قبل تنزيل المطر من قبل المطر وهو تركيب لا يسوغ في كلام فصيح فضلا عن القرآن ، وقيل : الضمير للزرع الدال عليه المطر أي من قبل تنزيل المطر من قبل أن يزرعوا ، وفيه أن (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ) متعلق بمبلسين ولا يمكن تعلق (مِنْ قَبْلِهِ) به أيضا لأن حرفي جر بمعنى لا يتعلقان بعامل واحد إلّا أن يكون بوساطة حرف العطف أو على جهة البدل ولا عاطف هنا ولا يصح البدل ظاهرا ، وجوز بعضهم فيه بدل الاشتمال مكتفيا فيه يكون الزرع ناشئا عن التنزيل فكان التنزيل مشتملا عليه وهو كما ترى.

وقال المبرد : الضمير للسحاب لأنهم لما رأوا السحاب كانوا راجين المطر ، والمراد من قبل رؤية السحاب ، ويحتاج أيضا إلى حرف عطف حتى يصح تعلق الحرفين بمبلسين ، وقال علي بن عيسى : الضمير للإرسال ، وقال الكرماني : للاستبشار لأنه قرن بالإبلاس ومن عليهم به ، وأورد عليهما أمر التعلق من غير عطف كما أورد على من قبلهما فإن قالوا بحذف حرف العطف ففي جوازه في مثل هذا الموضع قياسا خلاف. واختار بعضهم كونه للاستبشار على أن (مِنْ) متعلقة بينزل و (مِنْ) الأولى متعلقة بمبلسين لأنه يفيد سرعة تقلب قلوبهم من اليأس إلى الاستبشار بالإشارة إلى غاية تقارب زمانيهما ببيان اتصال اليأس بالتنزيل المتصل بالاستبشار بشهادة إذا الفجائية فتأمل ، و (إِنْ) مخففة من الثقيلة واللام في لمبلسين هي الفارقة ، ولا ضمير شأن مقدرا لإن ، لأنه إنما يقدر للمفتوحة وأما المكسورة فيجب إهمالها كما فصله في المغني ، وبعض الأجلة قال بالتقدير (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) المترتبة على تنزيل المطر من النبات والأشجار وأنواع الثمار ، والفاء للدلالة على سرعة ترتبها عليه.

وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وأبو بكر «أثر» بالإفراد وفتح الهمزة والثاء ، وقرأ سلام «إثر» بكسر الهمزة وإسكان الثاء ، وإسكان الثاء ، وقوله تعالى : (كَيْفَ يُحْيِ) أي الله تعالى (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) في حيز النصب بنزع الخافض و (كَيْفَ) معلق لانظر أي فانظر لإحيائه تعالى البديع للأرض بعد موتها ، وقال ابن جني : على الحالية بالتأويل أي محييا ، وأيا ما كان فالمراد بالأمر بالنظر التنبيه علي عظيم قدرته تعالى وسعة رحمته عزوجل مع ما فيه من التمهيد لما يعقبه من أمر البعث.

وقرأ الجحدري ، وابن السميفع ، وأبو حيوة «تحي» بتاء التأنيث والضمير عائد على الرحمة ، وجوز على قراءة الحرميين ومن معهما أن يكون الضمير للأثر على أنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه ، وليس بشيء كما لا يخفى (إِنَّ ذلِكَ) العظيم الشأن (لَمُحْيِ الْمَوْتى) لقادر على إحيائهم فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية ، وقيل : يحتمل أن يكون النبات الحادث من أجزاء نباتية تفتتت وتبدّدت واختلطت بالتراب الذي فيه عروقها في بعض الأعوام السالفة فيكون كالإحياء بعينه بإعادة المواد والقوى لا بإعادة القوى فقط ، وهو احتمال واهي القوى بعيد ، ولا نسلم أن المسلم المسترشد يعلم وقوعه ، وقوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل مقرّر لمضمون ما قبله أي مبالغ في القدرة على جميع

٥٣

الأشياء التي من جملتها إحياؤهم لما أن نسبة قدرته عزوجل إلى الكل سواء.

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) أي النبات المفهوم من السياق كما قال أبو حيان أو الأثر المدلول عليه بالآثار أو النبات المعبر عنه بها على ما قاله بعضهم ، والنبات في الأصل مصدر يقع على القليل والكثير ثم سمي به ما ينبت ، وقال ابن عيسى : الضمير للسحاب لأنه إذا كان مصفرا لم يمطر ، وقيل : للريح وهي تذكر وتؤنث ، وكلا القولين ضعيفان كما في البحر.

وقرأ جناح بن حبيش «مصفارا» بألف بعد الفاء ، واللام في (لَئِنْ) موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط ، والفاء في (فَرَأَوْهُ) فصيحة ، واللام في قوله تعالى : (لَظَلُّوا) لام جواب القسم الساد مسد الجوابين ؛ والماضي بمعنى المستقبل كما قاله أبو البقاء ، ومكي ، وأبو حيان ، وغيرهم ، وعلل ذلك بأنه في المعنى جواب (إن) وهو لا يكون إلّا مستقبلا ، وقال الفاضل اليمني : إنما قدروا الماضي بمعنى المستقبل من حيث إن الماضي إذا كان متمكنا متصرفا ووقع جوابا للقسم فلا بد فيه من قد واللام معا فالقصر على اللام لأنه مستقبل معنى وفيه نظر ، وقدروه بمضارع مؤكد بالنون أي وبالله تعالى لئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة فضربت زرعهم بالصفار فرأوه مصفرا بعد خضرته ونضارته ليظلنّ (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد الإرسال أو من بعد اصفرار زرعهم ، وقيل : من بعد كونهم راجين مستبشرين (يَكْفُرُونَ) من غير تلعثم نعمة الله تعالى ، وفيما ذكر من ذمهم بعدم تثبتهم وسرعة تزلزلهم بين طرفي الإفراط والتفريط ما لا يخفى حيث كان الواجب عليهم أن يتوكلوا على الله سبحانه في كل حال ويلجئوا إليه عزوجل بالاستغفار إذا احتبس عنهم المطر ولا ييأسوا من روح الله تعالى ويبادروا إلى الشكر بالطاعة إذا أصابهم جلّ وعلا برحمته ولا يفرطوا في الاستبشار وأن يصبروا على بلائه تعالى إذا اعترى زرعهم آفة ولا يكفروا بنعمائه جلّ شأنه فعكسوا الأمر وأبوا ما يجديهم وأتوا بما يؤذيهم ، ولا يخفى ما في الآيات من الدلالة على ترجيح جانب الرحمة على جانب العذاب فلا تغفل.

وقوله تعالى : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) تعليل لما يفهم من الكلام السابق كأنه قيل : لا تحزن لعدم اهتدائهم بتذكيرك فإنك إلخ ، وفي الكشف اعلم أن قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) كلام سبق مقرر لما فهم من قوله سبحانه : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) [الروم : ٤٧] الآية لدلالته على أنه عزوجل ينتقم من المكذبين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينصر متابعيه فذكر فيه من البينات ما أجمل هنالك مما يدل على القدرة والحكمة والرحمة واختير من الأدلة ما يجمع الثلاثة وفيه ما يرشد إلى تحقيق طرفي الإيمان أعني المبدأ والمعاد وصرح بكفرانهم بالنعمة وذمهم في الحالات الثلاث لأن ذلك مما يعرفه أهل الفطرة السليمة ويتخلق به وأدمج فيه دلالته على المعاد بقوله تعالى : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) ولما فرغ من حديث ذمهم بنى على هذا المدمج وما دل عليه سياق الكلام من تماديهم في الضلالة مثل هذه البينات التي لا أتم منها في الدلالة فقال سبحانه : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ) إلى قوله تعالى : (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) وفيه أنهم إذا لا محالة من الذين ينتقم منهم وأنك وأشياعك من المنصورين والله تعالى أعلم ا ه ، فتأمله مع ما ذكرنا.

وقد تقدم الكلام في هذه الجملة خالية عن الفاء في سورة النمل وكذا في قوله تعالى : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) بيد أنا نذكر هنا ما ذكره الأجلة في سماع الموتى وفاء بما وعدنا هنالك فنقول ومن الله تعالى التوفيق : نقل عن العلامة ابن الهمام أنه قال : أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع استدلالا بقوله تعالى : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) ونحوها يعني من قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر : ٢٢] ولذا لم يقولوا بتلقين القبر وقالوا : لو حلف لا

٥٤

يكلم فلانا فكلمه ميتا لا يحنث ، وحكى السفاريني في البحور الزاخرة أن عائشة ذهبت إلى نفي سماع الموتى ووافقها طائفة من العلماء على ذلك ، ورجحه القاضي أبو يعلى من أكابر أصحابنا ـ يعني الحنابلة ـ في كتابه الجامع الكبير واحتجوا بقوله تعالى : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) ونحوه ، وذهبت طوائف من أهل العلم إلى سماعهم في الجملة.

وقال ابن عبد البر : إن الأكثرين على ذلك وهو اختيار ابن جرير والطبري وكذا ذكر ابن قتيبة ، وغيره ، واحتجوا بما في الصحيحين عن أنس عن أبي طلحة رضي الله تعالى عنهما قال : «لما كان يوم بدر وظهر عليهم ـ يعني مشركي قريش ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر ببضعة وعشرين رجلا وفي رواية أربع وعشرين رجلا من صناديد قريش فألقوا في طوى أي بئر من أطواء بدر وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناداهم يا أبا جهل بن هشام ، يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعد ربي حقا؟ فقال عمر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال : والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، زاد في رواية لمسلم عن أنس «ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا» وبما أخرجه أبو الشيخ من مرسل عبيد بن مرزوق قال : «كانت امرأة بالمدينة تقمّ المسجد فماتت فلم يعلم بها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فمر على قبرها فقال عليه الصلاة والسلام : ما هذا القبر؟ فقالوا : أم محجن قال : التي كانت تقم المسجد؟ قالوا : نعم فصف الناس فصلى عليها فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي العمل وجدت أفضل؟ قالوا يا رسول الله أتسمع؟ قال : ما أنتم بأسمع منها فذكر عليه الصلاة والسلام أنها أجابته قم المسجد» وبما رواه البيهقي ، والحاكم وصححه وغيرهما عن أبي هريرة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على مصعب بن عمير وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال : «أشهد أنكم أحياء عند الله تعالى فزوروهم وسلموا عليهم فو الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة» وبما أخرج ابن عبد البر وقال عبد الحق الإشبيلي إسناده صحيح عن ابن عباس مرفوعا «ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا يسلم عليه إلا عرفه ورد عليه» وبما أخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : «الروح بيد ملك يمشي به مع الجنازة يقول له : أتسمع ما يقال لك؟ فإذا بلغ حفرته دفنه معه» وبما في الصحيحين من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أنه ليسمع قرع نعالهم» وأجابوا عن الآية فقال السهيلي : إنها كقوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) أي إن الله تعالى هو الذي يسمع ويهدي.

وقال بعض الأجلة : إن معناها لا تسمعهم إلّا أن يشاء الله تعالى أو لا تسمعهم سماعا ينفعهم ، وقد ينفى الشيء لانتفاء فائدته وثمرته كما في قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) [الأعراف : ٢٧٩] الآية ، وهذا التأويل يجوز أن يعتبر في قوله تعالى : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَ) ويكون نكتة العدول عن ـ فإنك لا تسمع الموتى ولا الصم ـ إلى ما في النظم الجليل العناية بنفي الإسماع ويجوز أن لا يعتبر فيه ويبقى الكلام على ظاهره ويكون نكتة العدول الإشارة إلى أن (لا تُسْمِعُ) في كل من الجملتين بمعنى.

وقال الذاهبون إلى عدم سماعهم : الأصل عدم التأويل والتمسك بالظاهر إلى أن يتحقق ما يقتضي خلافه ، وأجابوا عن كثير مما استدل به الآخرون فقال بعضهم : إن ما وقع في حديث أبي طلحة رضي الله تعالى عنه يجوز أن يكون معجزة له صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهو مراد من قال : إنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام وهي من خوارق العادة ، والكلام في موافقها وهو الذي نفي في آية (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) ونحوها وفي قوله عليه الصلاة والسلام : «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» دون ما أنتم بأسمع لما يقال ونحوه منهم تأييد ما لذلك ، وحديث أبي الشيخ مرسل وحكم الاستدلال به معروف ، على أن احتمال الخصوصية قائم فيه أيضا : وفي صحيح البخاري قال قتادة :

٥٥

أحياهم الله تعالى يعني أهل الطوى حتى أسمعهم قوله صلى الله تعالى عليه وسلم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما ، ويؤيد ما أخرج البخاري ، ومسلم ، والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر قال : «وقف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على قليب بدر فقال : هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام : إنهم الآن يسمعون ما أقول» حيث قيد صلى الله تعالى عليه وسلم سماعهم بالآن ، وإذا قلنا ، بأن الميت يسأل سبعة أيام في قبره مؤمنا كان أو منافقا أو كافرا وإنه حين السؤال تعاد إليه روحه كان لك أن تقول : يجوز أن يكون خطاب أهل القليب حين إعادة أرواحهم إلى أبدانهم للسؤال فإنه كما في حديث أخرجه أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي كان في اليوم الثالث من قتلهم ، ويحتمل أن يكون خطابه صلى الله تعالى عليه وسلم لأم محجن كان وقت السؤال بأن يكون ذلك قبل مضي سبعة أيام عليها ، وعليه لا يكون سماعهم من المتنازع فيه لأنهم حين سمعوا أحياء لا موتى ، ويرد على هذا أن عمر رضي الله تعالى عنه قال عليه الصلاة والسلام : ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ، ولم ينكر ذلك عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بل قال له عليه الصلاة والسلام له : «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» ولو كان الأمر كما قال قتادة لكان الظاهر أن يقول صلى الله تعالى عليه وسلم له رضي الله تعالى عنه : ليس الأمر كما تقول إن الله عزوجل أحياهم لي أو نحو ذلك ، وعائشة رضي الله تعالى عنها أنكرت ما وقع في الحديث مما استدل به على المقصود ، ففي صحيح البخاري عن هشام عن أبيه قال : ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، فقالت : وهل ابن عمر إنما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «إنه ليعذب بخطيئته وذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن» قالت : وذلك مثل قوله : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنهم ليسمعون ما أقول إنما قال : «إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق» ثم قرأت (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى)(وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر : ٢٢] وتعقب ذلك السهيلي فقال : عائشة رضي الله تعالى عنها لم تحضر قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فغيرها ممن حضر أحفظ للفظه عليه الصلاة والسلام ، وقد قالوا له : يا رسول الله أتخاطب قوما قد جيفوا؟ فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم قالوا : وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين يعني كما تقول عائشة جاز أن يكونوا سامعين ا ه هو كلام قوي ، ولا يقدح عدم حضورها في روايتها لأنه مرسل صحابي وهو محمول على أنه سمع ذلك ممن حضره أو من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولو كان ذلك قادحا في روايتها لقدح في رواية ابن عمر السابقة فإنه لم يحضر أيضا ، ولا مانع من أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام قال اللفظين جميعا فإنه كما علم من كلام السهيلي لا تعارض بينهما ، وقال بعضهم فيما رواه البيهقي ، والحاكم وصححه ، وغيرهما : إنا لا نسلم صحته وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار ، وإن سلمنا صحته نلتزم القول بأن الموتى الذين لا يسمعون هم من عدا الشهداء أما الشهداء فيسمعون في الجملة لامتيازهم على سائر الموتى بما أخبر عنهم من أنهم أحياء عند الله عزوجل ، وقيل في حديث ابن عبد البر : إن عبد الحق وإن قال إسناده صحيح إلا أن الحافظ ابن رجب تعقبه وقال : إنه ضعيف بل منكر وفي حديث ابن أبي الدنيا إنه على تسليم صحته لا يثبت المطلوب لأن خطاب الملك عليه‌السلام للروح الذي بيده وهو ليس بميت ، وفي حديث الصحيحين من سماع العبد قرع نعال أصحابه إذا دفنوه وانصرفوا عنه إنه إذ ذاك تعود إليه روحه للسؤال فيسمع وهو حي والجمهور على عود الروح إلى الجسد أو بعضه وقت السؤال على وجه لا يحس به أهل الدنيا إلا من شاء الله تعالى منهم ووراء ذلك مذاهب ، فمذهب ابن جرير وجماعة من الكرامية أن السؤال في القبر على البدن فقط وأن الله تعالى يخلق فيه إدراكا بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم ، وعلى هذا المذهب يمكن أن يقال نحو ما قيل على الأول ، ومذهب ابن حزم وابن ميسرة إنه على الروح فقط ، ومذهب أبي الهذيل واتباعه أن الميت لا يشعر بشيء

٥٦

أصلا إلا بين النفختين ، والحق أن الموتى يسمعون في الجملة وهذا على أحد وجهين ، أولهما أن يخلق الله عزوجل في بعض أجزاء الميت قوة يسمع بها متى شاء الله تعالى السلام ونحوه مما يشاء الله سبحانه سماعه إياه ولا يمنع من ذلك كونه تحت أطباق الثرى وقد انحلت منه هاتيك البنية وانفصمت العرى ولا يكاد يتوقف في قبول ذلك من يجوز أن يرى أعمى الصين بقة أندلس ، وثانيهما أن يكون ذلك السماع للروح بلا وساطة قوة في البدن ولا يمتنع أن تسمع بل أن تحس وتدرك مطلقا بعد مفارقتها البدن بدون وساطة قوى فيه وحيث كان لها على الصحيح تعلق لا يعلم حقيقته وكيفيته إلا الله عزوجل بالبدن كله أو بعضه بعد الموت وهو غير التعلق بالبدن الذي كان لها قبلة أجرى الله سبحانه عادته بتمكينها من السمع وخلقه لها عند زيارة القبر وكذا عند حمل البدن إليه وعند الغسل مثلا ولا يلزم من وجود ذلك التعلق والقول بوجود قوة السمع ونحوه فيها نفسها أن تسمع كل مسموع لما أن السماع مطلقا وكذا سائر الإحساسات ليس الا تابعا للمشيئة فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن فيقتصر على القول بسماع ما ورد السمع بسماعه من السلام ونحوه ، وهذا الوجه الذي يترجح عندي ولا يلزم عليه التزام القول بأن أرواح الموتى مطلقا في أفنية القبور لما أن مدار السماع عليه مشيئة الله تعالى والتعلق الذي لا يعلم كيفيته وحقيقته إلا هو عزوجل فلتكن الروح حيث شاءت أو لا تكن في مكان كما هو رأي من يقول بتجردها.

ويؤخذ من كلام ذكره العارف ابن مرجان في شرح اسماء الله تعالى الحسنى تحقيق على وجه آخر وهو أن للشخص نفسا مبرأة من باطن ما خلق منه الجسم وهي روح الجسم وروحا أوجدها الله تبارك وتعالى من باطن ما برأ منه النفس وهي للنفس بمنزلة النفس للجسم فالنفس حجابها وبعد المفارقة في العبد المؤمن تجعل الحقيقة الروحانية عامرة العلو من السماء الدنيا إلى السماء السابعة بل إلى حيث شاء الله تعالى من العلو في سرور ونعيم وتجعل الحقيقة النفسانية عامرة السفل من قبره إلى حيث شاء الله تعالى من الجو ولذلك لقي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم موسى قائما يصلي في قبره وإبراهيم عليه‌السلام تحت الشجرة قبل صعوده عليه الصلاة والسلام إلى السماء ولقيهما عليهما‌السلام بعد الصعود في السماوات العلى فتلك أرواحهما وهذه نفوسهما وأجسادهما في قبورهما وكذا يقال في الكافر إلا أن الحقيقة الروحانية له لا تكون عامرة العلو فلا تفتح لهم أبواب السماء بل تكون عامرة دار شقائها والعياذ بالله تعالى ، وبين الحقيقتين اتصال وبوساطة ذلك ومشيئته عزوجل يسمع من سلم عليه في قبره السلام ولا يختص السماع في السلام عند الزيارة ليلة الجمعة ويومها وبكرة السبت أو يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما بعدها بل يكون ذلك في السلام عند الزيارة مطلقا فالميت يسمع الله تعالى روحه السلام عليه من زائره في أي وقت كان ويقدره سبحانه على رد السلام كما صرح في بعض الآثار.

وما أخرجه العقيلي من أنهم يسمعون السلام ولا يستطيعون رده محمول على نفي استطاعة الرد على الوجه المعهود الذي يسمعه الاحياء ، وقيل : رد السلام وعدمه مما يختلف باختلاف الأشخاص فرب شخص يقدره الله تعالى على الرد ولا يثاب عليه لانقطاع العمل وشخص آخر لا يقدره عزوجل ، وعندي أن التعلق أيضا مما يتفاوت قوة وضعفا بحسب الأشخاص بل وبحسب الأزمان أيضا وبذلك يجمع بين الاخبار والآثار المختلفة.

وأما الجواب عن الآية التي الكلام فيها ونحوها مما يدل بظاهره على نفي السماع فيعلم مما تقدم فليفهم والله تعالى أعلم (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) مبتدأ وخبر أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨] فمن ابتدائية وفي الضعف استعارة مكنية حيث شبه بالأساس والمادة وفي إدخال من عليه تخييل ، ويجوز أن يراد من الضعف الضعيف بإطلاق المصدر على الوصف مبالغة أو بتأويله به أو

٥٧

يراد من ذي ضعف والمراد بذلك النطفة أي الله تعالى الذي ابتدأ خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة كقوله تعالى : (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [السجدة : ٨ ، المرسلات : ٢٠] وهذا التفسير وإن كان مأثورا عن قتادة إلا أن الأول أولى وأنسب بقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) وذلك عند بلوغكم الحلم أو تعلق الروح بأبدانكم (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) إذا أخذ منكم السن والمراد بالضعف هنا ابتداؤه ولذا أخر الشيب عنه أو الأعم فقوله سبحانه : (شَيْبَةً) للبيان أو للجمع بين تغيير قواهم وظواهرهم ، وفتح عاصم وحمزة ضاد «ضعف» في الجمع وهي قراءة عبد الله : وأبي رجاء.

وقرأ الجمهور بضمها فيه والضم والفتح لغتان في ذلك كما في الفقر والفقر الفتح لغة تميم والضم لغة قريش ، ولذا اختار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قراءة الضم كما ورد حديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه ، وأحمد وابن المنذر والطبراني والدارقطني وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما انه قال : قرأت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) أي بالفتح فقال : (مِنْ ضَعْفٍ) يا بني أي بالضم لأنها لغة قومه عليه الصلاة والسلام ولم يقصد صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك رد القراءة الأخرى لأنها ثابتة بالوحي أيضا كالقراءة التي اختارها ، وروي عن عاصم الضم أيضا ، وعنه أيضا الضم في الأولين والفتح في الأخير ، وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري ، والضحاك الضم في الأول والفتح فيما بعد.

وقرأ عيسى بضم الضاد والعين وهي لغة أيضا فيه. وحكي عن كثير من اللغويين أن الضعف بالضم ما كان في البدن والضعف بالفتح ما كان في العقل ، والظاهر انه لا فرق بين المضموم والمفتوح وكونهما مما يوصف به البدن والعقل ، والمراد بضعف الثاني عين الأول ، ونكر لمشاكلة (قُوَّةً) وبالأخير غيره فإنه ضعف الشيخوخة وذاك ضعف الطفولية ، والمراد بقوة الثانية عين الأولى ونكرت لمشاكلة (ضَعْفاً) وحديث النكرة إذا أعيدت كانت غير أغلبي ، وتكلف بعضهم لتحصيل المغايرة فيما نكر وكرر في الآية فتدبر (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) خلقه من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الضعف والقوة والشيبة وخلقها أما بمعنى خلق أسبابها أو محالها واما إيجادها أنفسها وهو الظاهر ولا داعي للتأويل فإنها ليست بعدم صرف (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) المبالغ في العلم والقدرة فإن الترديد فيما ذكر من الأحوال المختلفة مع إمكان غيره من أوضح دلائل العلم والقدرة.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها تقع بغتة وصارت علما لها بالغلبة كالنجم للثريا والكوكب للزهرة ، والمراد بقيامها وجودها أو قيام الخلائق فيها (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا) أي ما أقاموا في القبور كما روي عن الكلبي ومقاتل ، والمراد به ما أقاموا بعد الموت (غَيْرَ ساعَةٍ) أي قطعة من الزمان قليلة ، وروى غير واحد عن قتادة أنهم يعنون ما لبثوا في الدنيا كذلك وقيل : يعنون ما لبثوا فيما بين فناء الدنيا والبعث وهو ما بين النفختين ، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «ما بين النفختين أربعون قيل أربعون يوما يا أبا هريرة قال أبيت قيل أربعون شهرا قال أبيت قيل أربعون سنة قال أبيت» وعنى بقوله رضي الله تعالى عنه أبيت : امتنعت من بيان ذلك لكم أو أبيت أن أسأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك ، ولهذا الحديث قيل لا يعلم أهي أربعون سنة أم أربعون ألف سنة. وحكى السفاريني في البحور الزاخرة عن بعضهم دعوى اتفاق الروايات على أن ما بين النفختين أربعون عاما ، وأنا أقول : الحق أنه لا يعلمه إلا الله تعالى ودعوى الاتفاق لم يقم عندي دليل عليها.

٥٨

وذكر الزمخشري أن ذلك وقت ينقطع عذابهم فيه واستقلوا مدة لبثهم كذبا على ما روي عن الكلبي أو نسيانا لما عراهم من هول المطلع على ما قيل ، وجوز أن يكون استقلالهم تلك المدة بالإضافة إلى مدة عذابهم يومئذ ولا يبعد علمهم بها سواء كان هذا القول في أول وقت الحشر أو في أثنائه أو بعد دخول النار ، وجوز أن يكونوا عدوا مدة بقائهم في الدنيا ساعة لعدم انتفاعهم بها والكثير بلا نفع قليل كما أن القليل مع النفع كثير فالكلام تأسف وتحسر على إضاعتهم أيام حياتهم ، وبين الساعة وساعة جناس تام مماثل كما أطبق عليه البلغاء إلا من لا يعتد به ولا يضر في ذلك اختلاف الحركة الإعرابية ولا وجود أل في إحدى الكلمتين لزيادتها على الكلمة ، وكذا لا يضر اتحاد مدلولهما في الأصل لأن المعرف فيه كالمنكر بمعنى القطعة من الزمان لمكان النقل في المعرف وصيرورته علما على القيامة كسائر الأعلام المنقولة وأخذ أحدهما من الآخر لا يضر أيضا كما يوضح ذلك ما قرروه في جناس الاشتقاق ، وظن بعضهم أن الساعة في القيامة مجاز ولذا أنكر التجنيس هنا إذا التجنيس المذكور لا يكون بين حقيقة ومجاز فلا تجنيس في نحو ركبت حمارا ولقيت حمارا معهما تعني رجلا بليدا واشتهر أنه لم يقع في القرآن الكريم هذا النوع من الجناس إلا في هذا الموضع ، واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر عليه الرحمة موضعا آخر وهو قوله تعالى (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [النور : ٤٣ ، ٤٤] لأن الأبصار الأول جمع بصر والابصار الثاني مراد به ما هو جمع بصيرة ، وتعقب بأنه وإن كان الأبصار الثاني مراد به ما هو جمع بصيرة إلا أنه ليس من باب الحقيقة بل بطريق المجاز والاستعارة لأن البصيرة ما تجمع على أبصار بل على بصائر ، فقد قال علماء العربية : إن صيغة أفعال من جموع القلة لا تطرد إلا في اسم ثلاثي مفتوح الفاء كبصر وأبصار أو مكسورها كعنب وأعناب أو مضمومها كرطب وأرطاب ساكن العين كثوب وأثواب أو محركها كما تقدم وكعضد وأعضاد وفخذ وأفخاذ ، وصيغة فعائل من جموع الكثرة لا تطرد إلا في اسم رباعي مؤنث بالتاء أو بالمعنى ثالثة مدة كسحابة وسحائب وبصيرة وبصائر وحلوبة وحلائب وشمال وشمائل وعجوز وعجائز وسعيد علم امرأة وسعائد فاستعيرت الأبصار للبصائر بجامع ما بينهما من الإدراك والتمييز وقد سمعت أن هذا النوع لا يكون بين حقيقة ومجاز فليحفظ (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الإفك (كانُوا) أي في الدنيا (يُؤْفَكُونَ) أي يصرفون عن الصدق والتحقيق ، والغرض من سوق الآية الإغراق في وصف المجرمين بالتمادي في التكذيب والإصرار على الباطل أو مثل ذلك الإفك كانوا يؤفكون في الاغترار بما تبين لهم الآن أنه ما كان إلا ساعة فسوق الكلام للتعجب من اغترارهم بلا مع السراب والغرض أن يحقر عندهم ما فيه من التمتعات وزخارف الدنيا كي يقلعوا عن العناد ويرجعوا إلى سبيل الرشاد فكأنه : قيل مثل ذلك الإفك العجيب الشأن كانوا يؤفكون في الدنيا اغترار بما عدده ساعة استقصارا والصارف لهم هو الله تعالى أو الشيطان أو الهوى ، وأيا ما كان فليس ذاك إلا لسوء اختيارهم وخباثة استعدادهم ، وفي الآية على أحد الأقوال دليل على وقوع الكذب في الآخرة من الكفرة.

واستدل بها بعضهم على نفي عذاب القبر ، وليس بشيء (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) في الدنيا من الملائكة أو الإنس أو منهما جميعا (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) أي في علمه وقضائه أو ما كتبه وعينه سبحانه أو اللوح المحفوظ أو القرآن وهو قوله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ١٠٠] وأيا ما كان فالجار والمجرور متعلق بما عنده.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ـ وفيه من البعد ما فيه ـ إن الكلام على التقديم والتأخير والأصل وقال الذين أوتوا العلم والإيمان في كتاب الله لقد لبثتم (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) والكلام ولما قالوه مؤكد

٥٩

باليمين أو توبيخ وتفضيح وتهكم بهم فتأمل (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذي كنتم توعدون في الدنيا والفاء فصيحة كأنه قيل : إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه أي فنخبركم أنه قد تبين بطلان إنكاركم وجوز أن تكون عاطفة والتعقب ذكرى أو تعليلة (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أنه حق لتفريطكم في النظر فتستعجلون به استهزاء ، وقيل : لا تعلمون البعث ولا تتعرفون به فلذا صار مصيركم إلى النار.

وقرأ الحسن «البعث» بفتح العين فيهما ، وقرئ بكسرهما وهو اسم والمفتوح مصدر ، وفي الآية من الدلالة على فضل العلماء ما لا يخفى (فَيَوْمَئِذٍ) أي إذ يقع ذلك من أقسام الكفار وقول أولي العلم لهم (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) أي عذرهم.

وقرأ الأكثر «تنفع» بالتاء محافظة على ظاهر الأمر للفظ وإن توسط بينهما فاصل (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) الاستيعاب طلب العتبى وهي الاسم من الإعتاب بمعنى إزالة العتب كالعطاء والاستعطاء أي لا يطلب منهم إزالة عتب الله تعالى ، والمراد به غضبه سبحانه عليهم بالتوبة والطاعة فإنه قد حق عليهم العذاب وإن شئت قلت : أي لا يقال ارضوا ربكم بتوبة وطاعة كما كان يقال لهم ذلك في الدنيا ، وقيل : أي لا يستقيلون فيستقالون بردهم إلى الدنيا.

وقال ابن عطية : هذا إخبار عن هول يوم القيامة وشدة أحواله على الكفرة بأنهم لا ينفعهم الاعتذار ولا يعطون عتبى وهي الرضا (يُسْتَعْتَبُونَ) بمعنى يعتبون كما تقول يملك ويستملك والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه لأن المعنى يفسد إذ كان المفهوم منه ولا يطلب منهم عتبى انتهى ، فجعل استفعل بمعنى فعل.

وحاصل المعنى عليه على ما في البحر هم من الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب ، وقيل : المعنى عليه هم لا يعاتبون على سيئاتهم بل يعاقبون ، وما ذكرناه أولا هو الذي ينبغي أن يعول عليه ، ويا ليت شعري أين ما ادعاه ابن عطية من الفساد إذا كان المفهوم منه لا يطلب منهم عتبى على ما سمعت.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي وبالله تعالى لقد وصفنا للناس من كل صفة كأنها مثل في غرابتها وقصصنا عليهم كل صفة عجيبة الشأن كصفة المبعوثين يوم القيامة وما يقولون وما يقال لهم وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم ، فضرب المثل اتخاذه وصنعه من ضرب الخاتم واللبن.

والمثل مجاز عن الصفة الغريبة ، والمراد بهذا القرآن إما هذه السورة الجليلة الشأن أو المجموع وهو الظاهر ، و (مِنْ) تبعيضية وجوزت الزيادة وقيل : المعنى وبالله تعالى لقد بينا للناس من كل مثل ينبئهم عن التوحيد والبعث وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، فضرب بمعنى بين والمثل على أصله ، وقيل : بمعنى الدليل العجيب والقرآن بمعنى المجموع (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) أي مع ضربنا لهم من كل مثل في هذا القرآن الجليل الشأن لئن جئتهم بآية من آياته (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) لفرط عتوهم وعنادهم وقساوة قلوبهم مخاطبين لك وللمؤمنين (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي مزورون ، وجوز حمل الآية على المعجزة أي لئن جئتهم بمعجزة من المعجزات التي اقترحوها ليقولن الذين كفروا إلخ ، والإتيان بالموصول دون الضمير لبيان السبب الحامل على القول المذكور ، وإذا أريد بالناس ما يعم الكفرة غيرهم فوجه الإظهار ظاهر ، وتوحيد الخطاب في (جِئْتَهُمْ) على ما يقتضيه الظاهر ، وأما جمعه في قولهم : (إِنْ أَنْتُمْ) فلئلا يبقى بزعمهم له عليه الصلاة والسلام شاهد من المؤمنين حيث جعلوا الكل مدعين ، وقال الإمام : في توحيد الخطاب في (جِئْتَهُمْ) وجمعه في (أَنْتُمْ) لطيفة وهي أن الله تعالى قال : إن جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل عليهم‌السلام ويمكن أن يجاء بها يقولوا : أنتم كلكم أيها المدعون للرسالة مبطلون انتهى ، ولا يخفى أن ما ذكرناه أحسن وألطف (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الطبع الفظيع ، وجوز أن يكون المعنى مثل ذلك القول (يَطْبَعُ) أي يختم (اللهُ) الذي

٦٠