روح المعاني - ج ١١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

على أنه فاعل (يَعْرُجُ) والأوصاف مجرورة على البدلية من ضمير (إِلَيْهِ) وقرأ أبو زيد النحوي بخفض الوصفين الأخيرين على أن (ذلِكَ) إشارة إلى الله تعالى مرفوع المحل على الابتداء و (عالِمُ) خبره والوصفان مجروران على البدلية من الضمير ، وقوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) خبر رابع أو نعت ثالث أو نصب على المدح ، وجوز أبو البقاء كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي ، وكون (الْعَزِيزُ) مبتدأ و (الرَّحِيمُ) صفته وهذا خبره وجملة (خَلَقَهُ) في محل جر صفة (شَيْءٍ) ويجوز أن تكون في محل نصب صفة (كُلَ) واحتمال الاستئناف بعيد أي حسن سبحانه كل مخلوق من مخلوقاته لأنه ما من شيء منها إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة واستدعته المصلحة فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت في مراتب الحسن كما يشير إليه قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] ونفى التفاوت في خلقه تعالى في قوله سبحانه : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] على معنى ستعرفه إن شاء الله تعالى غير مناف لما ذكر ، وجوز أن يكون المعنى علم كيف يخلقه من قوله ، قيمة المرء ما يحسن وحقيقته يحسن معرفته أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإيقان ، ولا يخفى بعده.

وقرأ العربيان ، وابن كثير «خلقه» بسكون اللام فقيل : هو بدل اشتمال من (كُلَ) والضمير المضاف إليه له وهو باق على المعنى المصدري ، وقيل : هو بدل كل من كل أو بدل بعض من كل والضمير لله تعالى وهو بمعنى المخلوق ، وقيل : هو مفعول ثان لأحسن على تضمينه معنى أعطى أي أعطى سبحانه كل شيء خلقه اللائق به بطريق الإحسان والتفضل ، وقيل : هو المفعول الأول و (كُلَّ شَيْءٍ) المفعول الثاني وضميره لله سبحانه على تضمين الإحسان معنى الإلهام كما قال الفراء أو التعريف كما قال أبو البقاء ، والمعنى اللهمّ أو عرف خلقه كل شيء مما يحتاجون إليه فيؤول إلى معنى قوله تعالى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠].

واختار أبو علي في الحجة ما ذكره سيبويه في الكتاب أنه مفعول مطلق لأحسن من معناه والضمير لله تعالى نحو قوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ) [النمل : ٨٨] و (وَعْدَ اللهِ) [النساء : ١٢٢ وغيرها] (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) أي آدم عليه‌السلام (مِنْ طِينٍ) أو بدأ خلق هذا الجنس المعروف (مِنْ طِينٍ) حيث بدأ خلق آدم عليه‌السلام خلقا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا منه ، وقرأ الزهري «بدا» بالألف بدلا من الهمزة قال في البحر : وليس القياس في هدأ هدا بإبدال الهمزة ألفا بل قياس هذه الهمزة التسهيل بين بين على أن الأخفش حكى في قرأت قريت قيل : وهي لغة الأنصار فهم يقولون في بدأ بدي بكسر عين الكلمة وياء بعدها ، وطيئ يقولون في فعل هذا نحو بقي بقي كرمي فاحتمل أن تكون قراءة الزهري على هذه اللغة بأن يكون الأصل بدى ثم صار بدا ، وعلى لغة الأنصار قال ابن رواحة :

باسم الإله وبه بدينا

ولو عبدنا غيره شقينا

(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) أي ذريته سميت بذلك لأنها تنسل وتنفصل منه (مِنْ سُلالَةٍ) أي خلاصة وأصلها ما يسل ويخلص بالتصفية (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) ممتهن لا يعتنى به وهو المني (ثُمَّ سَوَّاهُ) عدله بتكميل أعضائه في الرحم وتصويرها على ما ينبغي ، وأصل التسوية جعل الأجزاء متساوية ، و (ثُمَ) للترتيب الرتبي أو الذكري (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أضاف الروح إليه تعالى تشريفا له كما في بيت الله تعالى وناقة الله تعالى وإشعارا بأنه خلق عجيب وصنع بديع ، وقيل : إضافة لذلك إيماء إلى أن له شأنا له مناسبة ما إلى حضرة الربوبية.

ومن هنا قال أبو بكر الرازي : من عرف نفسه فقد عرف ربه ، ونفخ الروح قيل : مجاز عن جعلها متعلقة بالبدن

١٢١

وهو أوفق بمذهب القائلين بتجرد الروح وأنها غير داخلة في البدن من الفلاسفة وبعض المتكلمين كحجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة ، وقيل : هو على حقيقته والمباشر له الملك الموكل على الرحم وإليه ذهب القائلون بأن الروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن سريان ماء الورد في الورد والنار في الجمر ، وهو الذي تشهد له ظواهر الأخبار وأقام العلامة ابن القيم عليه نحو مائة دليل.

(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) التفات إلى الخطاب لا يخفى موقع ذكره بعد نفخ الروح وتشريفه بخلعة الخطاب حين صلح للخطاب والجعل ابداعي واللام متعلقة به ، والتقدم على المفعول الصريح لما مرّ مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم ، وتقديم السمع لكثرة فوائده فإن أكثر أمور الدين لا تعلم إلّا من جهته وأفرد لأنه في الأصل مصدر.

وقيل : للإيماء إلى أن مدركه نوع واحد وهو الصوت بخلاف البصر فإنه يدرك الضوء واللون والشكل والحركة والسكون وبخلاف الفؤاد فإنه يدرك مدركات الحواس بواسطتها وزيادة على ذلك أي خلق لمنفعتكم تلك المشاعر لتعرفوا أنها مع كونها في أنفسها نعما جليلة لا يقادر قدرها وسائل إلى التمتع بسائر النعم الدينية والدنيوية الفائضة عليكم وتشكروها بأن تصرفوا كلا منها إلى ما خلق هو له فتدركوا بسمعكم الآيات التنزيلية الناطقة بالتوحيد والبعث وبأبصاركم الآيات التكوينية الشاهدة بهما وتستدلوا بأفئدتكم على حقيتهما ، وقوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) بيان لكفرهم بتلك النعم بطريق الاعتراض التذييلي والقلة بمعنى النفي كما ينبئ عنه ما بعده.

ونصب الوصف على أنه صفة لمحذوف وقع معمولا لتشكرون أي شكرا قليلا تشكرون أو زمانا قليلا تشكرون.

واستظهر الخفاجي عليه الرحمة كون الجملة حالية لا اعتراضية

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ

١٢٢

بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ)(٣٠)

(وَقالُوا) كلام مستأنف مسوق لبيان أباطيلهم بطريق الالتفات إيذانا بأن ما ذكر من عدم شكرهم تلك النعم موجب للاعراض عنهم وتعديد جناياتهم لغيرهم بطريق المباثة ، وروي أن القائل أبي بن خلف فضمير الجمع لرضا الباقين بقوله (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أي ضعنا فيه بأن صرنا ترابا مخلوطا بترابها بحيث لا نتميز منه فهو من ضل المتاع إذا ضاع أو غبنا فيها بالدفن وإن لم نصر ترابا وإليه ذهب قطرب ، وأنشد قول النابغة يرثي النعمان بن المنذر :

وآب مضلوه بعين جلية

وغودر بالجولان حزم ونائل

وقرأ يحيى بن يعمر ، وابن محيصن ، وأبو رجاء ، وطلحة ، وابن وثاب «ضللنا» بكسر اللام ويقال : ضل يضل كضرب يضرب وضل يضل كعلم يعلم وهما بمعنى والأول اللغة المشهورة الفصيحة وهي لغة نجد والثاني لغة أهل العالية. وقرأ أبو حيوة ضللنا بضم الضاد المعجمة وكسر اللام ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه.

وقرأ الحسن ، والأعمش ، وأبان بن سعيد بن العاصي «صللنا» بالصاد المهملة وفتح اللام ونسبت إلى علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وعن الحسن أنه كسر اللام ويقال فيه نحو ما يقال في ضل بالضاد المعجمة وزيادة أصل بالهمزة كافعل ، قال الفراء : والمعنى صرنا بين الصلة وهي الأرض اليابسة الصلبة كأنها من الصليل لأن اليابس الصلب إذا انشق يكون له صليل. وقيل : أنتنا من الصلة وهو النتن ، وقيل للأرض الصلة لأنها است الدنيا وتقول العرب ضع الصلة على الصلة ، وقال النحاس لا نعرف في اللغة صللنا ولكن يقال أصل اللحم وصل وأخم وخم إذا نتن وهذا غريب منه. وقرأ ابن عامر «إذا» بترك الاستفهام والمراد الإخبار على سبيل الاستهزاء والتهكم والعامل في «إذا» ما دلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وهو نبعث أو يجدد خلقنا ، ولا يصح أن يكون هو العامل لمكان الاستفهام وإن وكل منهما لا يعمل ما بعده فيما قبله ويعتبر ما ذكر من نبعث أو يجدد خلقنا جوابا لإذا إذا اعتبرت شرطية لا ظرفية محضة والهمزة للإنكار والمراد تأكيد الإنكار لا إنكار التأكيد كما هو المتبادر من تقديمها على أداته فإنها مؤخرة عنها في الاعتبار وتقديمها عليها لقوة اقتضائها الصدارة.

وقرأ نافع ، والكسائي ، ويعقوب «إنا» بترك الاستفهام على نحو ما ذكر آنفا (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) إضراب وانتقال عن بيان كفرهم بالبعث إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه وهو كفرهم بلقاء ملائكة ربهم عند الموت وما يكون بعده جميعا ، وقيل : هو إضراب وترق من التردّد في البعث واستبعاده إلى الجزم بجحده بناء على أن لقاء الرب كناية عن البعث ، ولا يضر فيه على ما يقال الخفاجي كون الاستفهام السابق إنكاريا وهو يؤول إلى الجحد فتأمل

١٢٣

(قُلْ) ردا عليهم (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) يستوفي نفوسكم لا يترك منها شيئا من أجزائها أو لا يترك شيئا من جزئياتها ولا يبقي أحدا منكم ، وأصل التوفي أخذ الشيء بتمامه ، وفسر بالاستيفاء لأن التفعل والاستفعال يلتقيان كثيرا كتقضيته واستقضيته وتعجلته واستعجلته ، ونسبة التوفي إلى ملك الموت باعتبار أنه عليه الصلاة والسلام يباشر قبض الأنفس بأمره عزوجل كما يشير إلى قوله سبحانه : (الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أي بقبض أنفسكم ومعرفة انتهاء آجالكم.

وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله تعالى عنهما قال : دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على رجل من الأنصار يعوده فإذا ملك الموت عليه‌السلام عند رأسه فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال : أبشر يا محمد فإني بكل مؤمن رفيق واعلم يا محمد أني لأقبض روح ابن آدم فيصرح أهله فأقوم في جانب من الدار فأقول والله ما لي من ذنب وإن لي لعودة وعودة الحذر الحذر وما خلق الله تعالى من أهل بيت ولا مدر ولا شعر ولا وبر في بر ولا بحر إلّا وأنا أتصفحهم فيه كل يوم وليلة خمس مرات حتى أني لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم والله يا محمد إني لا أقدر أقبض روح بعوضة حتى يكون الله تبارك وتعالى الذي يأمر بقبضه ، وأخرج نحوه الطبراني ، وأبو نعيم ، وابن مندة ونسبته إليه عزوجل في قوله سبحانه : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) [الزمر : ٤٢] باعتبار أن أفعال العباد كلها مخلوطة له جلّ وعلا لا مدخل للعباد فيها بسوى الكسب كما يقوله الأشاعرة أو باعتبار أن ذلك بإذنه تعالى ومشيئته جلّ شأنه ونسبته إلى الرسل في قوله تعالى : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) [الأنعام : ٦١] وإلى الملائكة في قوله سبحانه : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النحل : ٢٨] لما أن ملك الموت لا يستقل به بل له أعوان كما جاء في الآثار يعالجون نزع الروح حتى إذا قرب خروجها قبضها ملك الموت ، وقيل : المراد بملك الموت الجنس ، وقال بعضهم : إن بعض الناس يتوفاهم ملك الموت وبعضهم يتوفاهم الله عزوجل بنفسه ، أخرج ابن ماجة عن أبي أمامة قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقول إن الله تعالى وكل ملك الموت عليه‌السلام بقبض الأرواح إلا شهداء البحر فإنه سبحانه يتولى قبض أرواحهم».

وجاء ذلك أيضا في خبر آخر يفيد أن ملك الموت للأنس غير ملك الموت للجن والشياطين وما لا يعقل. أخرج ابن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : وكل ملك الموت عليه‌السلام بقبض أرواح المؤمنين فهو الذي يلي قبض أرواحهم وملك في الجن وملك في الشياطين وملك في الطير والوحش والسباع والحيتان والنمل فهم أربعة أملاك والملائكة يموتون في الصعقة الأولى وأن ملك الموت يلي قبض أرواحهم ثم يموت وأما الشهداء في البحر فإن الله تعالى يلي قبض أرواحهم لا يكل ذلك إلى ملك الموت بكرامتهم عليه سبحانه.

والذي ذهب إليه الجمهور أن ملك الموت لمن يعقل وما لا يعقل من الحيوان واحد وهو عزرائيل ومعناه عبد الله فيما قيل نعم له أعوان كما ذكرنا ، وخبر الضحاك عن ابن عباس الله تعالى أعلم بصحته (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) بالبعث للحساب والجزاء. ومناسبة هذه الآية لما قبلها على ما ذكرنا في توجيه الإضراب ظاهرة لأنهم لما جحدوا لقاء ملائكة ربهم عند الموت وما يكون بعده ذكر لهم حديث توفى ملك الموت إياهم إيماء إلى أنهم سيلاقونه وحديث الرجوع إلى الله تعالى بالبعث للحساب والجزاء ، وأما على ما قيل فوجه المناسبة أنهم لما أنكر والبعث والمعاد رد عليهم بما ذكر لتضمن قوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) البعث وزيادة ذكر توفي ملك الموت إياهم وكونه موكلا بهم لتوقف البعث على وفاتهم ولتهديدهم وتخويفهم وللإشارة إلى أن القادر على الإماتة قادر على الإحياء ، وقيل : إن ذلك لرد ما يشعر به كلامهم من أن الموت بمقتضى الطبيعة حيث أسندوه إلى أنفسهم في قولهم : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) فليس عندهم بفعل الله تعالى ومباشرة ملائكته ، ولا يخفى بعده. وأبعد منه ما قيل في المناسبة :

١٢٤

إن عزرائيل وهو عبد من عبيده تعالى إذا قدر على تخليص الروح من البدن مع سريانها فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الجمر فكيف لا يقدر خالق القوى والقدر جل شأنه على تمييز أجزائهم المختلطة بالتراب وكيف يستبعد البعث مع القدرة الكاملة له عزوجل لما أن ذلك السريان مما خفي على العقلاء حتى أنكره بعضهم فكيف بجهلة المشركين فتأمل. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ترجعون» بالبناء للفاعل (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ) وهم القائلون : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أو جنس المجرمين وهو من حملتهم (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) مطرقوها من الحياء والخزي (عِنْدَ رَبِّهِمْ) حين حسابهم لم يظهر من قبائحهم التي اقترفوها في الدنيا. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «نكسوا رءوسهم» فعلا ماضيا ومفعولا (رَبَّنا) بتقدير القول الواقع حالا والعامل فيه (ناكِسُوا) أي يقولون ربنا إلخ وهو أولى من تقدير يستغيثون بقولهم : ربنا (أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي صرنا ممن يبصر ويسمع وحصل لنا الاستعداد لإدراك الآيات المبصرة والآيات المسموعة وكنا من قبل عميا صما لا ندرك شيئا (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً) حسبما تقتضيه تلك الآيات وهذا على ما قيل ادعاء منهم لصحة مشعري البصر والسمع ، وقوله تعالى : (إِنَّا مُوقِنُونَ) استئناف لتعليل ما قبله ، وقيل : استئناف لم يقصد به التعليل ، وعلى التقديرين هو متضمن لادعائهم صحة الأفئدة والاقتدار على فهم معاني الآيات والعمل بما يوجبها ، وفيه من إظهار الثبات على الإيقان وكمال رغبتهم فيه ما فيه ، وكأنه لذلك لم يقولوا : أبصرنا وسمعنا وأيقنا فارجعنا إلخ ، ولعل تأخير السمع لأن أكثر العمل الصالح الموعود يترتب عليه دون البصر فكان عدم الفصل بينهما بالبصر أولى ، ويجوز أن يقدر لكل من الفعلين مفعول مناسب له مما يبصرونه ويسمعونه بأن يقال : أبصرنا البعث الذي كنا ننكره وما وعدتنا به على إنكاره وسمعنا منك ما يدل على تصديق رسلك عليهم‌السلام ويراد به نحو قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [الأنعام : ١٣٠] لا الإخبار الصريح بلفظ أن رسلي صادقون مثلا أو يقال أبصرنا البعث وما وعدتنا به وسمعنا قول الرسل أي سمعناه سمع طاعة وإذعان أو يقال : أبصرنا قبح أعمالنا التي كنا نراها في الدنيا حسنة وسمعنا قول الملائكة لنا إن مردكم إلى النار ، وقيل : أرادوا أبصرنا رسلك وسمعنا كلامهم حين كنا في الدنيا أو أبصرنا آياتك التكوينية وسمعنا آياتك التنزيلية في الدنيا فلك الحجة علينا وليس لنا حجة فارجعنا إلخ ، ولا يخفى حال هذا القيل ، وعلى سائر هذه التقادير وجه تقديم الأبصار على السماع ظاهر ، ولو» هي التي سماها غير واحد امتناعية وجوابها محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا لا يقادر قدره.

والخطاب في «ترى» لكل أحد ممن يصح منه الرؤية إذ المراد بيان كمال سوء حالهم وبلوغها من الفظاعة إلى حيث لا يختص استغرابها واستفظاعها براء دون راء ممن اعتاد مشاهدة الأمور البديعة والدواهي الفظيعة بل كل من يتأتى منه الرؤية يتعجب من هولها وفظاعته ، وقيل : لأن القصد إلى بيان أن حالهم قد بلغت من الظهور إلى حيث يمتنع خفاؤها البتة فلا يختص برؤيتها راء دون راء ، والجواب المقدر أوفق بما ذكر أولا ، والفعل منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول أي لو تكن منك رؤية في ذلك الوقت لرأيت أمرا فظيعا ، وجوز أن يكون الخطاب خاصا بسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (لَوْ) للتمني كأنه قيل : ليتك ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم لتشمت بهم ، وحكم التمني منه تعالى حكم الترجي وقد تقدم ، ولا جواب لها حينئذ عند الجمهور ، وقال أبو حيان ، وابن مالك : لا بد لها من الجواب استدلالا بقول مهلهل في حرب البسوس :

فلو نبش المقابر عن كليب

فيخبر بالذنائب أي زير

بيوم الشعثمين لقر عينا

وكيف لقاء من تحت القبور

١٢٥

فإن لو فيه للتمني بدليل نصب فيخبر وله جواب وهو قوله لقر ، ورد بأنها شرطية ويخبر عطف على مصدر متصيد من نبش كأنه قيل : لو حصل نبش فأخبار ، ولا يخفى ما فيه من التكلف ، وقال الخفاجي عليه الرحمة : لو قيل : إنها لتقدير التمني معها كثيرا أعطيت حكمه واستغنى عن تقدير الجواب فيها إذا لم يذكر كما في الوصلية ونصب جوابها كان أسهل مما ذكر ، وجوز أن يقدر لترى مفعول دلّ عليه ما بعد أي لو ترى المجرمين أو لو ترى نكسهم رءوسهم والمضي في لو الامتناعية وإذ لأن أخباره تعالى عما تحقق في علمه الأزلي لتحققه بمنزلة الماضي فيستعمل فيه ما دلّ على المضي مجازا كلو وإذ ، هذا ومن الغريب قول أبي العباس في الآية : المعنى قل يا محمد للمجرم ولو ترى وقد حكاه عنه أبو حيان ثم قال : رأى أن الجملة معطوفة على (يَتَوَفَّاكُمْ) داخلة تحت (قُلْ) السابق ولذا لم يجعل الخطاب فيه للرسول عليه الصلاة والسلام انتهى كلامه فلا تغفل.

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) مقدر بقول معطوف على مقدر قبل قوله تعالى : (رَبَّنا أَبْصَرْنا) إلخ وهو جواب لقولهم (فَارْجِعْنا) يفيد أنهم لو أرجعوا لعادوا لما نهوا عنه لسوء اختيارهم وأنهم ممن لم يشإ الله تعالى إعطاؤهم الهدى أي ونقول : لو شئنا أي لو تعلقت مشيئتنا تعلقا فعليا بأن نعطي كل نفس من النفوس البرة والفاجرة هداها أي ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح ، وفسره بعضهم بنفس الإيمان والعمل الصالح والأول أولى ، وأما تفسيره بما سأله الكثرة من الرجوع إلى الدنيا أو بالهداية إلى الجنة فليس بشيء لأعطيناها إياه في الدنيا التي هي دار الكسب وما أخرناه إلى دار الجزاء (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي ثبت وتحقق قولي وسبقت كلمتي حيث قلت لإبليس عند قوله : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٤ ، ٨٥] وهو المعنى بقوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) كما يلوح به تقديم الجنة على الناس فإنه في الخطاب لإبليس مقدم وتقديمه هناك لأنه الأوفق لمقام تحقير ذلك المخاطب عليه اللعنة ، وقيل : التقديم في الموضعين لأن الجهنميين من الجنة أكثر.

ويعلم مما ذكرنا وجه العدول عن ضمير العظمة في قوله سبحانه : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا) إلى ضمير الوحدة في قوله جلّ وعلا : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) وذلك لأن ما ذكر إشارة إلى ما وقع في الرّد على اللعين وقد وقع فيه القول والإملاء مسندين إلى ضمير الوحدة ليكون الكلام على طرز (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ) [ص : ٨٢ ، ٨٣] في توحيد الضمير ، وقد يقال : ضمير العظمة أوفق بالكثرة الدال عليها «كل نفس» والضمير الآخر أوفق بما دون تلك الكثرة الدال عليه (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) أو يقال : إنه وحد الضمير في الوعيد لما أن المعنى به المشركون فكأنه أخرج الكلام على وجه لا يتوهم فيه متوهم نوعا من أنواع الشركة أصلا أو أخرج على وجه يلوح بما عدلوا عنه من التوحيد إلى ما ارتكبوه مما أوجب لهم الوعيد من الشرك ، أو يقال : وحد الضمير في (لَأَمْلَأَنَ) لأن الإملاء لا تعدد فيه فتوحيد الضمير أوفق به ويقال نظير ذلك في (حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) والإيتاء يتعدد المؤتى فضمير العظمة أوفق به ويقال نظيره في (شِئْنا) فتدبر ، ولا يلزم من قوله تعالى : (أَجْمَعِينَ) دخول جميع الجن والإنس فيها ، وأما قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] فالورود فيه غير الدخول ، وقد مرّ الكلام في ذلك لأن (أَجْمَعِينَ) تفيد عموم الأنواع لا الإفراد فالمعنى لأملأنها من ذينك النوعين جميعا كملأت الكيس من الدراهم والدنانير جميعا كذا قيل ، ورد بأنه لو قصد ما ذكر لكان المناسب التثنية دون الجمع بأن يقال كليهما ، واستظهر أنها لعموم الأفراد والتعريف في (الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) للعهد والمراد عصاتهما ويؤيده الآية المتضمنة خطاب إبليس ، وحاصل الآية لو شئنا إيتاء كل نفس هداها لآتيناها إياه لكن تحقق القول مني لأملأن جهنم إلخ فبموجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى على العموم بل

١٢٦

منعناه من أتباع إبليس الذين أنتم من جملتهم حيث صرفتم اختياركم إلى الغي بإغوائه ومشيئتنا لأفعال العباد منوطة باختيارهم إياها فلما لم تختاروا الهدى واخترتم الضلال لم نشأ إعطاءه لكم وإنما أعطيناه الذين اختاروه من البررة وهم المعنيون بما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) الآية فيكون مناط عدم مشيئته تعالى إعطاء الهدى في الحقيقة سوء اختيارهم لا تحقق القول ، وإنما قيدت المشيئة بما مرّ من التعلق الفعلي بأفعال العباد عند حدوثها لأن المشيئة الأزلية من حيث تعلقها بما سيكون من أفعالهم إجمالا متقدمة على تحقق كلمة العذاب فلا يكون عدمها منوطا بتحققها وإنما مناطه علمه تعالى أنه لا يصرف اختيارهم فيما سيأتي إلى الغي وإيثارهم له على الهدى فلو أريدت هي من تلك الحيثية لاستدرك بعدمها بأن يقال : ولكن لم نشأ ونيط ذلك بما ذكر من المناط على منهاج قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [الأنفال : ٢٣] كذا قال بعض الأجلة.

وقد يقال : يجوز أن يراد بالمشيئة المشيئة الأزلية من حيث تعلقها بما سيكون من أفعالهم ويراد بالقول علم الله تعالى فإنه وكذا كلمة الله سبحانه يطلق على ذلك كما قال الراغب ، وذكر منه قوله تعالى : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [يس : ٧] وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ٩٦] وحاصل المعنى لو شئنا في الأزل إيتاء كل نفس هداها في الدنيا لآتيناها إياه ولكن ثبت وتحقق علمي أزلا بتعذيب العصاة فبموجب ذلك لم نشأ إذ لا بد من وقوع المعلوم على طبق العلم لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا ووقوع ذلك يستدعي وجود العصاة إذ تعذيب العصاة فرع وجودهم ومشيئة إيتاء الهدى كل نفس تستلزم طاعة كل نفس ضرورة استلزام العلة للمعلول فيلزم أن تكون النفس المعذبة عاصية طائعة وهو محال وهذا المحال جاء من مشيئته إيتاء كل نفس هداها مع علمه تعالى بتعذيب العصاة فإما أن ينتفي العلم المذكور وهو محال لأن تعلق علمه سبحانه بالمعلوم على ما هو عليه ضروري فتعين انتفاء المشيئة لذلك ويرجح هذا بالآخرة إلى أن سبب انتفاء مشيئته إيتاء الهدى للعصاة سوء ما هم عليه في أنفسهم لأن المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع للمعلوم في نفسه فعلمه تعالى بتعذيب العصاة يستدعي علمه سبحانه إياهم بعنوان كونهم عصاة فلا يشاؤهم جلّ جلاله إلّا بهذا العنوان الثابت لهم في أنفسهم ولا يشاؤهم سبحانه على خلافه لأن مشيئته تعالى إياهم كذلك تستدعي تعلق العلم بالشيء على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر وليس ذلك علما.

ويمكن أن يبقى العلم على ظاهره ويقال : إنه تعالى لم يشأ هداهم لأنه جلّ وعلا قال لإبليس عليه اللعنة : إنه سبحانه يعذب أتباعه ولا بد ولا يقول تعالى خلاف ما يعلم فلا يشاء تبارك وتعالى خلاف ما يقول ويرجع بالآخرة أيضا إلى أنه تعالى لم يشأ هداهم لسوء ما هم عليه في أنفسهم بأدنى تأمل ، وما آل الجواب على التقريرين لا فائدة لكم في الرجوع لسوء ما أنتم عليه في أنفسكم ، ولا يخفى أن ما ذكر مبني على القول بالأعيان الثابتة وأن الشقي شقي في نفسه والسعيد سعيد في نفسه وعلم الله تعالى إنما تعلق بهما على ما هما عليه في أنفسهما وأن مشيئته تعالى إنما تعلقت بإيجادهما حسبما علم جلّ شأنه فوجدا في الخارج بإيجاده تعالى على ما هما عليه في أنفسهما فإذا تم هذا تم ذاك وإلا فلا ، والفاء في قوله تعالى : (فَذُوقُوا) لترتيب الأمر بالذوق على ما يعرب عنه ما قيل من نفي الرجع إلى الدنيا أو على قوله تعالى : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) إلخ ، ولعل هذا أسرع تبادرا ، وجعلها بعضهم واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا يئستم من الرجوع أو إذا حق القول فذوقوا ، وجوز كونها تفصيلية والأمر للتهديد والتوبيخ ، والباء في قوله سبحانه : (بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) للسببية و(ما) مصدرية و (هذا) صفة يوم جيء به للتهويل ، وجوز كونه مفعول (ذُوقُوا) وهو إشارة إلى ما هم فيه من نكس الرءوس والخزي والغم ، وعلى الأول يكون مفعول (ذُوقُوا)

١٢٧

محذوفا والوصفية أظهر أي فذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم الهائل وترككم التفكر فيه والتزود له بالكلية ، وهذا تصريح بسبب العذاب من قبلهم فلا ينافي أن يكون له سبب آخر حقيقيا كان أو غيره ، والتوبيخ به من بين الأسباب لظهوره وكونه صادرا منهم لا يسعهم إنكاره ، والمراد بنسيانهم ذلك تركهم التفكر فيه والتزود له كما أشرنا إليه وهو بهذا المعنى اختياري يوبخ عليه ولا يكاد يصح إرادة المعنى الحقيقي وإن صح التوبيخ عليه باعتبار تعمد سببه من الانهماك في اتباع الشهوات ، ومثله في كونه مجازا النسيان في قوله تعالى : (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي تركناكم في العذاب ترك المنسي بالمرة وجعل بعضهم هذا من باب المشاكلة ولم يعتبر كون الأول مجازا مانعا منها قيل : والقرينة على قصد المشاكلة فيه أنه قصد جزاؤهم من جنس العمل فهو على حد (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ، وقوله تعالى : (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تكرير للتأكيد والتشديد وتعيين المفعول المبهم للذوق والإشعار بأن سببه ليس مجرد ما ذكر من النسيان بل به أسباب أخر من فنون الكفر والمعاصي التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا ، ولما كان فيه زيادة على الأول حصلت به مغايرته له استحق العطف عليه ولم ينظم الكل في سلك واحد للتنبيه على استقلال كل من النسيان وما ذكر في استيجاب العذاب ، وفي إبهام المذوق أولا وبيانه ثانيا بتكرير الأمر وتوسيط الاستئناف المنبئ عن كمال السخط بينهما من الدلالة على غاية التشديد في الانتقام منهم ما لا يخفى.

وقوله تعالى : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) استئناف مسوق لتقرير عدم استحقاقهم لإيتاء الهدى والإشعار بعدم إيمانهم لو أوتوه بتعيين من يستحقه بطريق القصر كأنه قيل : إنكم لا تؤمنون بآياتنا الدالة على شئوننا ولا تعملون بموجبها عملا صالحا ولو ارجعناكم إلى الدنيا وإنما يؤمن (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها) أي وعظوا (خَرُّوا سُجَّداً) أثر ذي أثير من غير تردّد ولا تلعثم فضلا عن التسويف إلى معاينة ما نطقت به من الوعد والوعيد أي سقطوا ساجدين تواضعا لله تعالى وخشوعا وخوفا من عذابه عزوجل ، قال أبو حيان : هذه السجدة من عزائم سجود القرآن ، وقال ابن عباس : السجود هنا الركوع.

وروي عن ابن جريج ، ومجاهد ان الآية نزلت بسبب قوم من المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من المسجد فكان الركوع يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارئ لآية السجدة يركع واستدل بقوله تعالى (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) [ص : ٢٤] اه.

ولا يخفى ما في الاستدلال من المقال (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي ونزهوه تعالى عند ذلك عن كل ما لا يليق به سبحانه من الأمور التي من جملتها العجز عن البعث ملتبسين بحمده تعالى على نعمائه جلّ وعلا التي من أجلها الهداية بإيتاء الآيات والتوفيق إلى الاهتداء بها فالحمد في مقابلة النعمة ، والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال ، والتعرض لعنوان الربوبية بطريق الالتفات مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة التسبيح والتحميد بانهم يفعلونهما بملاحظة ربوبيته تعالى لهم (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصر مستكبرا كأن لم يسمع الآيات ، والجملة عطف على الصلة أو حال من أحد ضميري (خَرُّوا) و (سَبَّحُوا) وجوز عطفها على أحد الفعلين ، وقوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) جملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم.

وجوز أن تكون حالية أو خبرا ثانيا للمبتدإ ، والتجافي البعد والارتفاع ؛ والجنوب جمع جنب الشقوق ، وذكر الراغب أن أصل الجنب الجارحة ثم يستعار في الناحية التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال ، و (الْمَضاجِعِ) جمع المضجع أماكن الاتكاء للنوم أي تتنحى وترتفع جنوبهم عن مواضع النوم وهذا كناية عن تركهم النوم ومثله قول عبد الله بن رواحة يصف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم :

١٢٨

نبي تجافى جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

والمشهور أن المراد بذلك التجافي القيام لصلاة النوافل بالليل وهو قول الحسن ، ومجاهد ، ومالك ، والأوزاعي ، وغيرهم. وفي الأخبار الصحيحة ما يشهد له ، أخرج أحمد ، والترمذي ، وصححه ، والنسائي ، وابن ماجة ، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن معاذ بن جبل قال : «كنت مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت : يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال : لقد سألت عن عظيم وإنه يسير على من يسره الله تعالى عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) حتى بلغ يعملون الحديث.

وقال أبو الدرداء ، وقتادة ، والضحاك هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة ، وعن الحسن ، وعطاء هو أن لا ينام الرجل حتى يصلي العشاء ، أخرج الترمذي وصححه ، وابن جرير ، وغيرهما عن أنس قال : إن هذه الآية (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) زلت في انتظار الصلاة التي تدعي العتمة ، وفي رواية أخرى عنه أنه قال فيها نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : هو أن يصلي الرجل المغرب ويصلي بعدها إلى العشاء ، فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن عدي ، وابن مردويه عن مالك بن دينار قال : سألت أنس بن مالك عن هذه الآية (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) قال : كان قوم من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من المهاجرين الأولين يصلون المغرب ويصلون بعدها إلى عشاء الآخرة فنزلت هذه الآية فيهم ، وقال قتادة ، وعكرمة : هو أن يصلي الرجل ما بين المغرب والعشاء ؛ واستدل له بما أخرجه محمد بن نصر عن عبد الله بن عيسى قال : كان ناس من الأنصار يصلون ما بين المغرب والعشاء فنزلت فيهم (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ).

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : تتجافى جنوبهم لذكر الله تعالى كلما استيقظوا ذكروا الله عزوجل إما في الصلاة وإما في قيام أو قعود أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله تعالى ، وروى نحوه هو ومحمد بن نصر عن الضحاك ، والجمهور عولوا على ما هو المشهور ، وفي فضل التهجد ما لا يحصى من الأخبار وأفضله على ما نص عليه غير واحد ما كان في الأسحار.

(يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) حال من ضمير (جُنُوبُهُمْ) وقد أضيف إليه ما هو جزء ، وجوز على احتمال كون جملة (تَتَجافى) إلخ حالية أن تكون حالا ثانية مما جعلت تلك حالا منه وعلى احتمال كونها خبرا ثانيا للمبتدإ أن تكون خبرا ثالثا ، وجوز كونها مستأنفة ، والظاهر أن المراد بدعائهم ربهم سبحانه المعنى المتبادر ، وقيل : المراد به الصلاة (خَوْفاً) أي خائفين من سخطه تعالى وعذابه عزوجل وعدم قبول عبادتهم (وَطَمَعاً) في رحمته تبارك وتعالى فالمصدران حالان من ضمير (يَدْعُونَ) وجوز أن يكونا مصدرين لمقدر أي يخافون خوفا ويطمعون طمعا وتكون الجملة حينئذ حالا ، وأن يكونا مفعولا له ولا يخفى أن الآية على الحالية أمدح.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) إياه من المال (يُنْفِقُونَ) في وجوه الخير (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ) أي كل نفس من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عمن عداهم فإن النكرة في سياق النفي تعم. والفاء سببية أو فصيحة أي أعطوا فوق

١٢٩

رجاءهم فلا تعلم نفس (ما أُخْفِيَ لَهُمْ) أي لأولئك الذين عددت نعوتهم الجليلة (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) أي ما تقر به أعين ، وفي إضافة القرة إلى الأعين على الإطلاق لا إلى أعينهم تنبيه على أن ما أخفي لهم في غاية الحسن والكمال.

وروى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول الله تعالى : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتكم عليه اقرءوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين» وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إنه لمكتوب في التوراة «لقد أعد الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر» ولا يعلم ملك مقرب ولا نبي مرسل وأنه لفي القرآن فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جوزوا جزاء بسبب ما كانوا يعملونه من الأعمال الصالحة فجزاء مفعول مطلق لفعل مقدر والجملة مستأنفة.

وجوز جعلها حالية ، وقيل : يجوز جعله مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة المتقدمة ، وقيل : يجوز أن يكون مفعولا له لقوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ) على معنى منعت العلم للجزاء أو لأخفى فإن إخفاءه لعلو شأنه ، وعن الحسن أنه قال : أخفى القوم أعمالا في الدنيا فأخفى الله تعالى لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت أي أخفى ذلك ليكون الجزاء من جنس العمل.

وفي الكشف أن هذا يدل على أن الفاء في قوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ) رابطة للأحق بالسابق وأصله فلا يعلمون والعدول لتعظيم الجزاء ، وعدم ذكر الفاعل في (أُخْفِيَ) ترشيح له لأن جازيه من هو العظيم وحده فلا يذهب وهل إلى غيره سبحانه اه فتأمل.

وقرأ حمزة ، ويعقوب ، والأعمش «أخفي» بسكون الياء فعلا مضارعا للمتكلم ، وابن مسعود «نخفي» بنون العظمة ، والأعمش أيضا «أخفيت» بالإسناد إلى ضمير المتكلم وحده ، ومحمد بن كعب (أُخْفِيَ) فعلا ماضيا مبنيا للفاعل.

و (ما) في جميع ذلك اسم موصول مفعول (تَعْلَمُ) والعلم بمعنى المعرفة والعائد الضمير المستتر النائب عن الفاعل على قراءة الجمهور وضميره محذوف على غيرها ، وقال أبو البقاء : يجوز أن تكون (ما) استفهامية وموضعها رفع بالابتداء و (أُخْفِيَ لَهُمْ) خبره على قراءة من فتح الياء وعلى قراءة من سكنها وجعل (أُخْفِيَ) مضارعا يكون (ما) في موضع نصب بأخفى ويعلم منه حالها على سائر القراءات ، وإذا كانت استفهامية يجوز أن يكون العلم بمعنى المعرفة وأن يكون على ظاهره فيتعدى لمفعولين تسد الجملة الاستفهامية مسدهما ، وعلى كل من احتمالي الموصولية والاستفهامية فالإيهام للتعظيم ، وقرأ عبد الله ، وأبو الدرداء ، وأبو هريرة وعون ، والعقيلي «من قرأت» على الجمع بالألف والتاء ، وهي رواية عن أبي عمرو ، وأبي جعفر ، والأعمش ، وجمع المصدر أو اسمه لاختلاف أنواع القرة ، والجار والمجرور في موضع الحال.

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) أي أبعد ظهور ما بينهما من التباين البين يتوهم كون المؤمن الذي حكيت أوصافه الفاضلة كالفاسق الذي ذكرت أحواله القبيحة العاطلة ، وأصل الفسق الخروج من فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها ثم استعمل في الخروج عن الطاعة وأحكام الشرع مطلقا فهو أعم من الكفر وقد يخص به كما في قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [النور : ٥٥] وكما هنا لمقابلته بالمؤمن مع ما ستسمعه بعد إن شاء الله تعالى : (لا يَسْتَوُونَ) التصريح به مع إفادة الإنكار لنفي المشابهة بالمرة على أبلغ وجه وآكده لزيادة

١٣٠

التأكيد وبناء التفصيل الآتي عليه ، والجمع باعتبار معنى من كما أن الافراد فيما سبق باعتبار لفظها ، وقيل : الضمير لاثنين وهما المؤمن والكافر والتثنية جمع.

(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) تفصيل لمراتب الفريقين بعد نفي استوائهما وقيل : بعد ذكر أحوالهما في الدنيا ، وأضيفت الجنان إلى المأوى لأنها المأوى والمسكن الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنه لا محالة ، وقيل : المأوى علم لمكان مخصوص من الجنان كعدن ، وقيل : جنة المأوى لما روي عن ابن عباس ، أنها تأوي إليها أرواح الشهداء ، وروي أنها عن يمين العرش ولا يخفى ما في جعله علما من البعد وأيا ما كان فلا يبعد أن يكون فيه رمز إلى ما ذكر من تجافيهم عن مضاجعهم التي هي مأواهم في الدنيا.

وقرأ طلحة «جنة المأوى» بالإفراد (نُزُلاً) أي ثوابا وهو في الأصل ما يعد للنازل من الطعام والشراب والصلة ثم عم كل عطاء ، وانتصابه على أنه حال من (جَنَّاتُ) والعامل فيه الظرف ، وجوز أن يكون جمع نازل فيكون حالا من ضمير (الَّذِينَ آمَنُوا) وقرأ أبو حيوة «نزلا» بإسكان الزاي كما في قوله :

وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

(بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بسبب الذي كانوا يعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة على أن ما موصولة والعائد محذوف والباء سببية ، وكون ذلك سببا بمقتضى فضله تعالى ووعده عزوجل فلا ينافي حديث «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله» ويجوز أن تكون الباء للمقابلة والمعارضة كعلى في نحو بعتك الدار على ألف درهم أي فلهم ذلك على الذي كانوا يعملونه.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) أي خرجوا عن الطاعة فكفروا وارتكبوا المعاصي (فَمَأْواهُمُ) أي فمسكنهم ومحلهم (النَّارُ) وذكر بعضهم أن المأوى صار متعارفا فيما يكون ملجأ للشخص ومستراحا يستريح إليه من الحر والبرد ووهما فإذا أريد هنا يكون في الكلام استعارة تهكمية كما في قوله تعالى (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١ ، التوبة : ٣٤ ، الانشقاق : ٢٤] ، وجوز أن يكون استعمال ذلك من باب المشاكلة لأنه لما ذكر في أحد القسمين فلهم جنات المأوى ذكر في الآخر (فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا) استئناف لبيان كيفية كون النار مأواهم والكلام على حد قوله تعالى : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٧] على ما قيل ، والمعنى كلما شارفوا الخروج منها وقربوا منه أعيدوا فيها ودفعوا إلى قعرها ، فقد روي أنهم يضربهم لهب النار فيرتفعون إلى أعلاها حتى إذا قربوا من بابها وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم اللهب فيهوون إلى قعرها وهكذا يفعل بهم أبدا ، وقيل : الكلام على ظاهره إلا أن فيه حذفا أي كلما أرادوا أن يخرجوا منها فخرجوا من معظمها أعيدوا فيها ، ويشير إلى أن الخروج من معظمها قوله تعالى : (فِيها) دون إليها ، وجوز أن يكون الكلام هنا عبارة عن خلودهم فيها ، وأيا ما كان لا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة : ١٦٧] (وَقِيلَ لَهُمْ) تشديدا عليهم وزيادة في غيظهم.

(ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ) أي بعذاب النار (تُكَذِّبُونَ) على الاستمرار في الدنيا وأظهرت النار مع تقدمها قبل لزيادة التهديد والتخويف وتعظيم الأمر ، وذكر ابن الحاجب في أماليه وجها آخر للإظهار وهو أن الجملة الواقعة بعد القول حكاية لما يقال لهم يوم القيامة عند إرادتهم الخروج من النار فلا يناسب ذلك وضع الضمير إذ ليس القول حينئذ مقدما عليه ذكر النار وإنما ذكرها سبحانه قبل إخبارا عن أحوالهم ، ونظر فيه الطيبي عليه الرحمة بأن هذا

١٣١

القول داخل أيضا في حيز الأخبار لعطفه على (أُعِيدُوا) الواقع جوابا لكلما فكما جاز الإضمار في المعطوف عليه جاز فيه أيضا إن لم يقصد زيادة التهديد والتخويف.

ورد بأن المانع أنه حكاية لما يقال لهم يوم القيامة والأصل في الحكاية أن تكون على وفق المحكي عنه دون تغيير ولا إضمار في المحكي لعدم تقدم ذكر النار فيه. وتعقب بأنه قد يناقش فيه بأن مراده أنه يجوز رعاية المحكي والحكاية وكما أن الأصل رعاية المحكي الأصل الإضمار إذا تقدم الذكر فلا بد من مرجح.

وقال بعض المحققين : أراد ابن الحاجب أن الإظهار هو المناسب في هذه الجملة نظرا إلى ذاتها ونظرا إلى سياقها أما الأول فلأنها تقال من غير تقدم ذكر النار ، وأما الثاني فلأن سياق الآية للتهديد والتخويف وتعظيم الأمر وفي الإظهار من ذلك ما ليس في الإضمار ، وهذا بعيد من أن يرد عليه نظر الطيبي ، والإنصاف أن كلا من الإضمار والإظهار جائز وأنه رجح الإظهار اقتضاء السياق لذلك ونقل عن الراغب ما يدل على أن المقام في هذه الآية مقام الضمير حيث ذكر عنه أنه قال في درة التنزيل : إنه تعالى قال هاهنا (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) وقال سبحانه في آية أخرى : (عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [سبأ : ٤٢] فذكر جل وعلا هاهنا وأنث سبحانه هناك والسر في ذلك أن النار هاهنا وقعت موقع الضمير والضمير لا يوصف فأجرى الوصف على العذاب المضاف إليها وهو مذكر وفي تلك الآية لم يجر ذكر النار في سياقها فلم تقع النار موقع الضمير فأجرى الوصف عليها وهي مؤنثة دون العذاب فتأمل (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) أي الأقرب ، وقيل : الأقل وهو عذاب الدنيا فإنه أقرب من عذاب الآخرة وأقل منه ، واختلف في المراد به فروى النسائي وجماعة وصححه الحاكم عن ابن مسعود أنه سنون أصابتهم وروي ذلك عن النخعي ، ومقاتل ، وروى الطبراني وآخرون وصححه والحاكم عن ابن مسعود أيضا أنه ما أصابهم يوم بدر. وروي نحوه عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما بلفظ هو القتل بالسيف نحو يوم بدر ، وعن مجاهد القتل والجوع.

وأخرج مسلم ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وأبو عوانة في صحيحه ، وغيرهم عن أبي بن كعب أنه قال : هو مصائب الدنيا والروم والبطشة والدخان ، وفي لفظ مسلم أو الدخان.

وأخرج ابن المنذر ، وابن جرير ، عن ابن عباس أنه قال : هو مصائب الدنيا وأسقامها وبلاياها ، وفي رواية عنه وعن الضحاك وابن زيد بلفظ مصائب الدنيا في الأنفس والأموال ، وفي معناه ما أخرج ابن مردويه عن أبي إدريس الخولاني قال : سألت عبادة بن الصامت عن قوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ) الآية فقال : سألت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عنها فقال عليه الصلاة والسلام : هي المصائب والأسقام والآصار عذاب للمسرف في الدنيا دون عذاب الآخرة قلت : يا رسول الله فما هي لنا؟ قال : زكاة وطهور ، وفي رواية عن ابن عباس أنه الحدود. وأخرج هنا عن أبي عبيدة أنه فسره بعذاب القبر ، وحكي عن مجاهد أيضا (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) هو عذاب يوم القيامة كما روي عن ابن مسعود ، وغيره ، وقال : ابن عطية لا خلاف في أنه ذلك ، وفي التحرير إن أكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار ، وقيل : هو القتل والسبي والأسر ، وعن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما أنه خروج المهدي بالسيف انتهى. وعليهما يفسر العذاب الأدنى بالسنين أو الأسقام أو نحو ذلك مما يكون أدنى مما ذكر ، وعن بعض أهل البيت تفسيره بالدابة والدجال ، والمعول عليه ما عليه الأكثر.

وإنما لم يقل الأصغر في مقابلة (الْأَكْبَرِ) أو إلّا بعد في مقابلة (الْأَدْنى) لأن المقصود هو التخويف والتهديد وذلك إنما يحصل بالقرب لا بالصغر وبالكبر لا بالبعد ، قاله النيسابوري ملخصا له من كلام الإمام ، وكذا

١٣٢

أوجب أبو حيان إلّا أنه قال : إن الأدنى يتضمن الأصغر لأنه منقض بموت المعذب والأكبر يتضمن الأبعد لأنه واقع في الآخرة فحصلت المقابلة من حيث التضمن وصرح بما هو آكد في التخويف (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لعل من بقي منهم يتوب قاله ابن مسعود ، وقال الزمخشري : أو لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه كقوله تعالى : (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) [السجدة : ١٢] وسميت إرادة الرجوع رجوعا كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] ويدل عليه قراءة من قرأ «يرجعون» على البناء للمفعول انتهى.

وهو على ما حكي عن مجاهد وروي عن أبي عبيدة فيتعلق (لَعَلَّهُمْ) إلخ بقوله تعالى : و (لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) كما في الأول إلا أن الرجوع هنالك التوبة وهاهنا الرجوع الى الدنيا ويكون من باب (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] أو يكون الترجي راجعا إليهم ، ووجه دلالة القراءة المذكورة عليه أنه لا يصح الحمل فيها على التوبة ، والظاهر التفسير المأثور ، والقراءة لا تأباه لجواز أن يكون المعنى عليهم لعلهم يرجعهم ذلك العذاب عن الكفر إلى الإيمان ، و(لعل) لترجي المخاطبين كما فسرها بذلك سيبويه ، وعن ابن عباس تفسيرها هنا بكى وكأن المراد كي نعرضهم بذلك للتوبة ، وجعلها الزمخشري لترجيه سبحانه ولاستحالة حقيقة ذلك منه عزوجل حمله على إرادته تعالى ، وأورد على ذلك سؤالا أجاب عنه على مذهبه في الاعتزال فلا تلتفت إليه ، هذا والآيات من قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) إلى هنا نزلت في علي كرم الله وجهه ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه لأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس ، أخرج أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني ، والواحدي ، وابن عدي ، وابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال : قال الوليد بن عقبة لعلي كرم الله تعالى وجهه أنا أحد منك سنانا وأبسط منك لسانا وأملأ للكتيبة منك فقال علي رضي الله تعالى عنه : اسكت فإنما أنت فاسق فنزلت (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) إلخ.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحو ذلك ، وأخرج هذا أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه ، والوليد بن عقبة ولم يذكر ما جرى. وفي رواية أخرى عنه أنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه ، ورجل من قريش ولم يسمه ، وفي الكشاف روي في نزولها أنه شجر بين علي رضي الله تعالى عنه ، والوليد بن عقبة يوم بدر كلام فقال له الوليد : اسكت فإنك صبي أنا أشب منك شبابا وأجلد منك جلدا وأدرب منك لسانا وأحد منك سنانا وأشجع منك جنانا وأملأ منك حشوا في الكتيبة فقال له علي كرم الله تعالى وجهه : اسكت فإنك فاسق فنزلت ، ولم نره بهذا اللفظ مسندا ، وقال الخفاجي : قال ابن حجر إنه غلط فاحش فإن الوليد لم يكن يوم بدر رجلا بل كان طفلا لا يتصور منه حضور بدر وصدور ما ذكر.

ونقل الجلال السيوطي عن الشيخ ولي الدين هو غير مستقيم فإن الوليد يصغر عن ذلك وأقول : بعض الأخبار تقتضي أنه لم يكن مولودا يوم بدر أو كان صغيرا جدا ، أخرج أبو داود في السنن من طريق ثابت بن الحجاج عن أبي موسى عبد الله الهمداني عنه أنه قال : لما افتتح رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رءوسهم فأتي بي إليه عليه الصلاة والسلام وأنا مخلق فلم يمسني من أجل الخلوق إلّا أن ابن عبد البر قال : إن أبا موسى مجهول ، وأيضا ذكر الزبير ، وغيره من أهل العلم بالسير أن أم كلثوم بنت عقبة لما خرجت مهاجرة إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم في الهدنة سنة سبع خرج أخواها الوليد وعمارة ليرداها ، وهو ظاهر في أنه لم يكن صبيا يوم الفتح إذ من يكون كذلك كيف يكون ممن خرج ليرد أخته قبل الفتح ، وبعض الأخبار تقتضي أنه كان رجلا يوم بدر ، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة أنه قدم في فداء ابن عم أبيه الحارث بن

١٣٣

أبي وجرة بن أبي عمرو بن أمية وكان أسر يوم بدر فافتداه بأربعة آلاف وقال : حكاه أهل المغازي ولم يتعقبه بشيء ، وسوق كلامه ظاهر في ارتضائه ووجه اقتضائه ذلك أن ما تعاطاه من أفعال الرجال دون الصبيان ، وهذا الذي ذكرناه عن ابن حجر يخالف ما ذكره عنه الخفاجي عليه الرحمة مما مرّ آنفا ، ولا ينبغي أن يقال : يجوز أن يكون صغيرا ذلك اليوم صغرا يمكن معه عادة الحضور فحضر وجرى ما جرى لأن وصفه بالفسق بمعنى الكفر والوعيد عليه بما سمعت في الآيات مع كونه دون البلوغ مما لا يكاد يذهب إليه إلّا من يلتزم أن التكليف بالإيمان إذ ذاك كان مشروطا بالتمييز ، ولا أن يقال : يجوز أن تكون هذه القصة بعد إسلامه وقد أطلق عليه فاسق وهو مسلم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات : ٦٠] فقد قال ابن عبد البر : لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن إنها نزلت فيه حيث إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه مصدقا إلى بني المصطلق فعاد وأخبر أنهم ارتدوا ومنعوا الصدقة ولم يكن الأمر كذلك لأن الفسق هاهنا بمعنى الكفر وهناك ليس كذلك ، ثم اعلم أن القول بأنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه والوليد لكلام جرى يوم بدر يقتضي أنها مدنية والمختار عند بعضهم خلافه.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) بيان إجمالي لمن قابل آيات الله تعالى بالإعراض بعد بيان حال من قابلها بالسجود والتسبيح والتحميد ، وكلمة (ثُمَ) لاستبعاد الإعراض عنها عقلا مع غاية وضوحها وإرشادها إلى سعادة الدارين كما في قول جعفر بن علية الحارثي :

ولا يكشف الغماء إلّا ابن حرة

يرى غمرات الموت ثم يزورها

والمراد أن ذلك أظلم من كل ظالم (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) قيل : أي من كل من اتصف بالإجرام وكسب الأمور المذمومة وإن لم يكن بهذه المثابة (مُنْتَقِمُونَ) فكيف ممن هو أظلم من كل ظالم وأشد جرما من كل جارم ، ففي الجملة إثبات الانتقام منه بطريق برهاني.

وجوز أن يراد بالمجرم المعرض المذكور وقد أقيم المظهر مقام المضمر الراجع إلى (مَنْ) باعتبار معناها وكان الأصل إنا منهم منتقمون ليؤذن بأن علة الانتقام ارتكاب هذا المعرض مثل هذا الجرم العظيم : وفسر البغوي المجرمين هنا بالمشركين. وقال الطيبي عليه الرحمة بعد حكايته : ولا ارتياب أن الكلام في ذم المعرضين وهذا الأسلوب أذم لأنه يقر أن الكافر إذا وصف بالظلم والإجرام حمل على نهاية كفره وغاية تمرده لأن هذه الآية كالخاتمة لأحوال المكذبين القائلين : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) [السجدة : ٣] وغيرها والتخلص إلى قصة الكليم مسلاة لقلب الحبيب عليهما الصلاة والسلام إلى آخر ما ذكره فليراجع.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي جنس الكتاب (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ) أي شك. وقرأ الحسن «مرية» بضم الميم (مِنْ لِقائِهِ) أي لقائك ذلك الجنس على أن لقاء مصدر مضاف إلى المفعول وفاعله محذوف وهو ضمير النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم والضمير المذكور للكتاب المراد به الجنس وإيتاء ذلك الجنس باعتبار إيتاء التوراة ولقاؤه باعتبار لقاء القرآن ، وهذا كقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) [النمل : ٦] وقوله سبحانه : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) [الإسراء : ١٣] وحمل بعضهم (الْكِتابَ) على العهد أي الكتاب المعهود وهو التوراة ولما لم يصح عود الضمير إليه ظاهرا لأنه عليه الصلاة والسلام لم يلق عين ذلك الكتاب قيل : الكلام على تقدير مضاف أي لقاء مثله أو على الاستخدام أو أن الضمير راجع إلى القرآن المفهوم منه ، ولا يخفى ما في كل من البعد ، والمعنى إنّا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب ولقيناه من الوحي مثل ما لقيناك من الوحي فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ونظيره ، وخلاصة ما تؤذن به الفاء التفريعية أن معرفتك بأن موسى عليه‌السلام أوتي التوراة

١٣٤

ينبغي أن تكون سببا لإزالة الريب عنك في أمر كتابك ؛ ونهيه عليه الصلاة والسلام عن أن يكون في شك المقصود منه نهي أمته صلّى الله تعالى عليه وسلم والتعريض بمن اتصف بذلك ، وقيل المصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف هو ضميره عليه الصلاة والسلام أي من لقائه إياك وصوله إليك ، وفي التعبير باللقاء دون الإيتاء من تعظيم شأنه صلّى الله تعالى عليه وسلم ما لا يخفى على المتدبر ، وقد يقال : إن التعبير به على الوجه السابق مؤذن بالتعظيم أيضا لكن من حيثية أخرى فتدبر.

وقل : الكتاب التوراة وضمير (لِقائِهِ) عائد إليه من غير تقدير مضاف ولا ارتكاب استخدام ، ولقاء مصدر مضاف إلى مفعوله وفاعله موسى أي من لقاء موسى الكتاب أو مضاف إلى فاعله ومفعوله موسى أي من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه ، فالفاء مثلها في قوله :

ليس الجمال بمئزر

فاعلم وإن رديت بردا

دخلت على الجملة المعترضة بدل الواو اهتماما بشأنها ، وعن الحسن أن ضمير (لِقائِهِ) عائد على ما تضمنه الكلام من الشدة والمحنة التي لقي موسى عليه‌السلام فكأنه قيل : ولقد آتينا موسى هذا العبء الذي أنت بسبيله فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من الشدة والمحنة بالناس ، والجملة اعتراضية ولا يخفى بعده ، وأبعد منه بمراحل ما قيل : الضمير لملك الموت الذي تقدم ذكره والجملة اعتراضية أيضا ، بل ينبغي أن يجل كلام الله تعالى عن مثل هذا التخريج. وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال في الآية : أي من لقاء موسى ، وأخرج ابن المنذر ، وغيره عن مجاهد نحوه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية أنه قال كذلك فقيل له : أو لقي عليه الصلاة والسلام موسى؟ قال : نعم ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) [الزخرف : ٤٥] وأراد بذلك لقاءه صلّى الله تعالى عليه وسلم إياه ليلة الإسراء كما ذكر في الصحيحين ، وغيرهما ، وروي نحو ذلك عن قتادة وجماعة من السلف ، وقاله المبرد حين امتحن الزجاج بهذه الآية ، وكان المراد من قوله تعالى : «فلا تكن في مرية من لقائه» على هذا وعده تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بلقاء موسى وتكون الآية نازلة قبل الإسراء ، والجملة اعتراضية بالفاء بدل الواو كما سمعت آنفا.

وجعلها مفرعة على ما قبلها غير ظاهر ، وبهذا اعترض بعضهم على هذا التفسير ، وبالفرار إلى الإعراض سلامة من الاعتراض وكأني بك ترجحه على التفسير الأول من بعض الجهات والله تعالى الموفق (وَجَعَلْناهُ) أي الكتاب الذي آتيناه موسى ، وقال قتادة أي وجعلنا موسى عليه‌السلام (هُدىً) أي هاديا من الضلالة (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) خصوا بالذكر لما أنهم أكثر المنتفعين به ، وقيل : لأنه لم يتعبد بما في كتابه عليه الصلاة والسلام ولد إسماعيل صلّى الله تعالى عليه وسلم.

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) قال قتادة : رؤساء في الخير سوى الأنبياء عليهم‌السلام ، وقيل : هم الأنبياء الّذين كانوا في بني إسرائيل (يَهْدُونَ) بقيتهم بما في تضاعيف الكتاب من الحكم والأحكام إلى طريق الحق أو يهدونهم إلى ما فيه من دين الله تعالى وشرائعه عزوجل (بِأَمْرِنا) إياهم بأن يهدوا على أن الأمر واحد الأوامر ، وهذا على القول بأنهم أنبياء ظاهر ، وأما على القول بأنهم ليسوا بأنبياء فيجوز أن يكون أمره تعالى إياهم بذلك على حد أمر علماء هذه الأمة بقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) الآية.

وجوز أن يكون الأمر واحد الأمور والمراد يهدون بتوفيقنا (لَمَّا صَبَرُوا) قال قتادة : على ترك الدنيا ، وجوز

١٣٥

غيره أن يكون المراد لما صبروا على مشاق الطاعة ومقاساة الشدائد في نصرة الدين ، و (لَمَّا) يحتمل أن تكون هي التي فيها معنى الجزاء نحو لما أكرمتني أكرمتك أي لما صبروا جعلنا أئمة ، ويحتمل أن تكون هي التي بمعنى الحين الخالية عن معنى الجزاء ، والظاهر أنها حينئذ ظرف لجعلنا أي أئمة حين صبروا ، وجوز أبو البقاء كونها ظرفا ليهدون.

وقرأ عبد الله ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، ورويس (لَمَّا) بكسر اللام وتخفيف الميم على أن اللام للتعليل وما مصدرية أي لصبرهم وهو متعلق بجعلنا أو بيهدون. وقرأ عبد الله أيضا «بما» بالباء السببية وما المصدرية أي بسبب صبرهم (وَكانُوا بِآياتِنا) التي في تضاعيف الكتاب ، وقيل : المراد بها ما يعم الآيات التكوينية ، والجار متعلق بقوله تعالى : (يُوقِنُونَ) أي كانوا يوقنون بها لإمعانهم فيها النظر لا بغيرها من الأمور الباطلة ، وهو تعريض بكفرة أهل مكة ، والجملة معطوفة على (صَبَرُوا) فتكون داخلة في حيز (لَمَّا) وجوز أن تكون معطوفة على (جَعَلْنا) وأن تكون في موضع الحال من ضمير (صَبَرُوا).

والمراد كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتيناكه أو لنجعلنك هدى لأمتك ولنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ) أي يقضي (بَيْنَهُمْ) قيل : بين الأنبياء عليهم‌السلام وأممهم ، وقيل : بين المؤمنين والمشركين (يَوْمَ الْقِيامَةِ) فيميز سبحانه بين المحق والمبطل (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمور الدين.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) الهمزة للإنكار والواو للعطف على منوي يقتضيه المقام ويناسب المعطوف معنى على ما اختاره غير واحد ، وفعل الهداية أما من قبيل فلان يعطي في أن المراد إيقاع نفس الفعل بلا ملاحظة المفعول ، وأما بمعنى التبيين والمفعول محذوف والفاعل ضمير عائد إلى ما في الذهن ويفسره قوله تعالى :

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) وكم في محل نصب بأهلكنا أي أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم أو ولم يبين لهم مآل أمرهم أو طريق الحق كثرة من أهلكنا أو كثرة إهلاك من أهلكنا من القرون الماضية مثل عاد ، وثمود وقوم لوط ، ولا يجوز أن تكون (كَمْ) فاعلا لصدارتها كما نص على ذلك الزجاج حاكيا له عن البصريين ، وقال الفراء : كم في موضع رفع بيهد كأنك قلت : أو لم يهد لهم القرون الهالكة فيتعظوا ولا أن يكون محذوفا لأن الفاعل لا يحذف إلّا في مواضع مخصوصة ليس منها ولا مضمرا عائدا إلى ما بعد لأنه يلزم عود الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة في غير محل جوازه ، ولا الجملة نفسها لأنها لا تقع فاعلا على الصحيح إلّا إذا قصد لفظها نحو تعصم لا إله إلّا الله الدماء والأموال ، وجوز أن يكون الفاعل ضميره تعالى شأنه لسبق ذكره سبحانه في قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ) إلخ وأيد بقراءة زيد «نهد لهم» بنون العظمة ، قال الخفاجي : والفعل بكم عن المفعول وهو مضمون الجملة لتضمنه معنى العلم فلا تغفل.

(يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) أي يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم ويشاهدون آثار هلاكهم ، والجملة حال من ضمير (لَهُمْ) ، وقيل : من (الْقُرُونِ) ، والمعنى أهلكناهم حال غفلتهم ، وقيل : مستأنفة بيان لوجه هدايتهم.

وقرأ ابن السميفع «يمشّون» بالتشديد على أنه تفعيل من المشي للتكثير (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر من إهلاكنا للأمم الخالية العاتية أو في مساكنهم (لَآياتٍ) عظيمة في أنفسها كثيرة في عددها (أَفَلا يَسْمَعُونَ) هذه الآيات سماع تدبر واتعاظ (أَوَلَمْ يَرَوْا) الكلام فيه كالكلام في (أَوَلَمْ يَهْدِ) أي أعموا ولم يشاهدوا (أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) بسوق السحاب الحامل له ، وقيل : نسوق نفس الماء بالسيول ، وقيل : بإجرائه في الأنهار ومن العيون (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) أي التي جرز نباتها أي قطع إما لعدم الماء وإما لأنه رعي وأزيل كما في الكشاف.

وفي مجمع البيان الأرض الجرز اليابسة التي ليس فيها نبات لانقطاع الأمطار عنها من قولهم سيف جراز أي

١٣٦

قطاع لا يبقي شيئا إلّا قطعه وناقة جراز إذا كانت تأكل كل شيء فلا تبقي شيئا إلّا قطعته بفيها ورجل (١) جروز أي أكول ، قال الراجز :

خب جروز وإذا جاع بكى

وقال الراغب : الجرز منقطع النبات من أصله وأرض مجروزة أكل ما عليها ، وفي مثل لا ترضى شانئة إلّا بجروزة أي بالاستئصال ، والجارز الشديد من السعال تصور منه معنى الجرز وهو القطع بالسيف ا ه ، ويفهم مما قاله أن الجرز يطلق على ما انقطع نباته لكونه ليس من شأنه الإنبات كالسباخ وهو غير مناسب هنا لقوله تعالى : (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) والظاهر أن المراد الأرض المتصفة بهذه الصفة أي أرض كانت ، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنها قرى بين اليمن والشام.

وأخرج هو وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي شيبة عن ابن عباس أنها أرض باليمن ، وإلى عدم التعيين ذهب مجاهد ، أخرج عنه جماعة أنه قال : الأرض الجرز هي التي لا تنبت وهي أبين ونحوها من الأرض وقرئ «الجرز» بسكون الراء ، وضمير (بِهِ) للماء والكلام على ظاهره عند السلف الصالح وقالت الأشاعرة : المراد فنخرج عنده ، والزرع في الأصل مصدر وعبر به عن المزروع والمراد به ما يخرج بالمطر مطلقا فيشمل الشجر وغيره ولذا قال سبحانه : (تَأْكُلُ مِنْهُ) أي من ذلك الزرع (أَنْعامُهُمْ) كالتبن والقصيل والورق وبعض الحبوب المخصوصة بها (وَأَنْفُسُهُمْ) كالبقول والحبوب التي يقتاتها الإنسان ، وفي البحر يجوز أن يراد بالزرع النبات المعروف وخص بالذكر تشريفا له ولأنه أعظم ما يقصد من النبات ، ويجوز أن يراد به النبات مطلقا ، وقدم الأنعام لأن انتفاعها مقصور على ذلك والإنسان قد يتغذى بغيره ولأن أكلها منه مقدم لأنها تأكله قبل أن يثمر ويخرج سنبله ، وقيل ليترقى من الأدنى إلى الأشرف وهم بنو آدم.

وقرأ أبو حيوة ، وأبو بكر في رواية «يأكل» بالياء التحتية (أَفَلا يُبْصِرُونَ) أي ألا يبصرون فلا يبصرون ذلك ليستدلوا به على كمال قدرته تعالى وفضله عزوجل ، وجعلت الفاصلة هنا (يُبْصِرُونَ) لأن ما قبله مرئي وفيما قبله (يَسْمَعُونَ) لأن ما قبله مسموع ، وقيل : ترقيا إلى الأعلى في الاتعاظ مبالغة في التذكير ورفع العذر.

وقرأ ابن مسعود «يبصرون» بالتاء الفوقية (وَيَقُولُونَ) على وجه التكذيب والاستهزاء (مَتى هذَا الْفَتْحُ) أي الفصل للخصومة بينكم وبيننا ، وكأن هذا متعلق بقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) وقيل : أي النصر علينا ، أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم إن لنا يوما يوشك أن نستريح فيه وننتقم فيه فقال المشركون : متى هذا الفتح إلخ فنزلت (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في أن الله تعالى هو يفصل بين المحقين والمبطلين ، وقيل : في أن الله تعالى ينصركم علينا.

(قُلْ) تبكيتا لهم وتحقيقا للحق (يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : يوم الفتح يوم القيامة ، وهو كما في البحر منصوب بلا ينفع ، والمراد بالذين كفروا إما أولئك القائلون المستهزءون فالإظهار في مقام الإضمار لتسجيل كفرهم وبيان علة الحكم ، وإما ما يعمهم وغيرهم وحينئذ يعلم حكم أولئك المستهزئين بطريق برهاني ، والمراد من

__________________

(١) قوله جروز أي أكول قال الراغب هو الذي يأكل ما على الخوان ا ه منه.

١٣٧

قوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) استمرار النفي الظاهر أن الجملة عطف على (لا يَنْفَعُ) إلخ والقيد معتبر فيها ، وظاهر سؤالهم بقولهم (مَتى هذَا الْفَتْحُ) يقتضي الجواب بتعيين اليوم المسئول عنه إلّا أنه لما كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالا منهم على وجه التكذيب والاستهزاء أجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم فكأنه قيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزءوا فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان واستنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا ، وهذا قريب من الأسلوب الحكيم هذا وتفسير (يَوْمَ الْفَتْحِ) بيوم القيامة ظاهر على القول بأن المراد بالفتح الفصل للخصومة فقد قال سبحانه : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ولا يكاد يتسنى على القول بأن المراد به النصر على أولئك القائلين إذا كانوا عانين به النصر والغلبة عليهم في الدنيا كما هو ظاهر مما سمعت عن مجاهد ، وعليه قيل : المراد بيوم الفتح يوم بدر ، أخرج ذلك الحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : يوم فتح مكة ، وحكي ذلك عن الحسن ، ومجاهد ، واستشكل كلا القولين بأن قوله تعالى : (يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) ظاهر في عدم قبول الإيمان من الكافر يومئذ مع أنه آمن ناس يوم بدر فقبل منهم وكذا يوم فتح مكة.

وأجيب بأن الموصول على كل منهما عبارة عن المقتولين في ذلك اليوم على الكفر ، فمعنى لا ينفعهم إيمانهم أنهم لا إيمان لهم حتى ينفعهم فهو على حد قوله :

على لاحب لا يهتدى بمناره

سواء أريد بهم قوم مخصوصون استهزءوا أم لا وسواء عطف قوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) على المقيد أو على المجموع فتأمل.

وتعقب بأن ذلك خلاف الظاهر ، وأيضا كون يوم الفتح يوم بدر بعيد عن كون السورة مكية وكذا كونه يوم فتح مكة ، ويبعد هذا أيضا قلة المقتولين في ذلك اليوم جدا تدبر.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ، وعن ابن عباس أن ذلك منسوخ بآية السيف ، ولا يخفى أنه يحتمل أن المراد الإعراض عن مناظرتهم لعدم نفعها أو تخصيصه بوقت معين فلا يتعين النسخ.

(وَانْتَظِرْ) النصرة عليهم وهلاكهم (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) قال الجمهور : أي الغلبة عليكم كقوله تعالى: (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) [التوبة : ٥٢] وقيل : الأظهر أن يقال : إنهم منتظرون هلاكهم كما في قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) الآية ، ويقرب منه ما قيل : وانتظر عذابنا لهم أنهم منتظرون أي هذا حكمهم وإن كانوا لا يشعرون فإن استعجالهم المذكور وعكوفهم على ما هم عليه من الكفر والمعاصي في حكم انتظارهم العذاب المترتب عليه لا محالة وقرأ اليماني «منتظرون» بفتح الظاء اسم مفعول على معنى أنهم أحقاء أن ينتظر هلاكم أو أن الملائكة المترتب عليه‌السلام ينتظرونه والمراد أنهم هالكون لا محالة هذا.

«ومن باب الإشارة» قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الالتفات إلى الأسباب والاعتماد عليها ، وقوله سبحانه : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) فيه إشارة إلى أن تدبير العباد عند تدبيره عزوجل لا أثر له فطوبى لمن رزق الرضا بتدبير الله تعالى واستغنى عن تدبيره (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) فيه إرشاد إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يستقبح شيئا من المخلوقات ، وقد حكي أن نوحا عليه‌السلام بصق على كلب أجرب فأنطق الله تعالى الكلب فقال : يا نوح أعبتني أم عبت خالقي فناحعليه‌السلام لذلك زمانا طويلا فالأشياء كلها حسنة كل في بابه والتفاوت إضافي ، وفي قوله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) إلى آخر الآية بعد قوله

١٣٨

سبحانه : (الَّذِي أَحْسَنَ) إلخ إشارة إلى التنقل في أطوار الحسن والعروج في معارجه فكم بين الطين والإنسان السميع البصير العالم فإن الإنسان مشكاة أنوار الذات والصفات والطين بالنسبة إليه كلا شيء (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) إشارة إلى حال كاملي الإيمان وعلو شأن السجود والتسبيح والتحميد والتواضع لعظمته عزوجل (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) إشارة إلى سهرهم في مناجاة محبوبهم وملاحظة جلاله وجماله ، وفي قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي من المعارف وأنواع الفيوضات (يُنْفِقُونَ) إشارة إلى تكميلهم للغير بعد كما لهم في أنفسهم وذكر القوم أن العذاب الأدنى الحرص على الدنيا ، والعذاب الأكبر العذاب على ذلك.

وقال بعضهم : الأول التعب في طلب الدنيا والثاني شتات السر ، وقيل : الأول حرمان المعرفة والثاني الاحتجاب عن مشاهدة المعروف ، وقيل : الأول الهوان والثاني الخذلان (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) فيه إشارة إلى ما ينبغي أن يكون المرشد عليه من الأوصاف وهو الصبر على مشاق العبادات وأنواع البليات وحبس النفس عن ملاذ الشهوات والإيقان بالآيات فمن يدعي الإرشاد وهو غير متصف بما ذكر فهو ضال مضلل (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) فيه إشارة إلى أنه ينبغي الإعراض عن المنكرين المستهزئين بالعارفين والسالكين إذا لم ينجع فيهم الإرشاد والنصيحة وإلى أنهم هالكون لا محال فإن الإنكار الذي لا يعذر صاحبه سمّ قاتل وسهم هدفه المقاتل نعوذ بالله تعالى من الحور بعد الكور بحرمة حبيبة إلّا كرم صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

١٣٩

سورة الأحزاب

أخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : نزلت سورة الأحزاب بالمدينة ، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله ، وهي ثلاث وسبعون آية قال الطبرسي بالإجماع ، وقال الداني هذا متفق عليه ، وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، والطيالسي ، وسعيد بن منصور ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، والنسائي والحاكم وصححه ، والضياء في المختارة وآخرون عن زر بن حبيش قال : قال لي أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه كائن (١) تقرأ سورة الأحزاب أو كائن تعدها؟ قلت : ثلاثا وسبعين آية فقال : اقطع (٢) لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة ، ولقد قرأنا فيها «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» فرفع فيما رفع وأراد رضي الله تعالى عنه بذلك النسخ ، وأما كون الزيادة كانت في صحيفة عند عائشة فأكلها الداجن (٣) فمن وضع الملاحدة وكذبهم في أن ذلك ضاع بأكل الداجن من غير نسخ كذا في الكشاف.

وأخرج أبو عبيد في الفضائل ، وابن الانباري ، وابن مردويه عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان رضي الله تعالى عنه المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن ، وهو ظاهر في الضياع من القرآن ، ومقتضى ما سمعت أنه موضوع ، والحق أن كل خبر ظاهره ضياع شيء من القرآن إما موضوع أو مؤول ، ووجه اتصالها بما قبلها على ما قال الجلال السيوطي تشابه مطلع هذه ومقطع تلك فإن تلك ختمت بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عن الكافرين وانتظار عذابهم وهذه بدأت بأمره عليه الصلاة والسلام بالتقوى وعدم طاعة الكافرين والمنافقين واتباع ما أوحى إليه والتوكل عليه عزوجل حيث قال سبحانه وتعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ

__________________

(١) أي كم ا ه منه.

(٢) أي احسب ا ه منه.

(٣) الداجن وكذا الراجن بالراء ما يألف البيوت ويأنس من شاة وغيرها ا ه منه.

١٤٠