روح المعاني - ج ١١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

تعالى عنه فأطلق عليه السحت ، ولا يأبى ذلك إذنه عليه الصلاة والسلام في المناحبة لما أنها لا تضر بالمروءة أصلا وفيها من إظهار اليقين بصدق ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فيها وكان عليه الصلاة والسلام على ثقة من صلاح الصديق رضي الله تعالى عنه وأنه إذا أمره بالتصدّق بما يأخذه ونهاه عن تموله لم يخالفه ، وقيل : السحت هنا بمعنى ما لا شيء على من استهلكه وهو أحد إطلاقاته كما في النهاية ، والمراد هذا الذي لا شيء عليك إذا استهلكته وتصرفت فيه حسبما تشاء تصدق به كأنه عليه الصلاة والسلام بعد أن أخبر الصديق رضي الله تعالى عنه بأنه لا مانع له من التصرف فيه حسبما يريد أرشده إلى ما هو الأولى والأحرى فقال : تصدق به ، وهو كما ترى ، وقيل : إن السحت كما في النهاية يرد في الكلام بمعنى الحرام مرة وبمعنى المكروه أخرى ويستدل على ذلك بالقرائن فيجوز أن يكون في الخبر إذا صح فيه بمعنى المكروه إذ الأمر بالتصدق يمنع أن يكون بمعنى الحرام فيتعين كونه بمعنى المكروه ، وفيه نظر ، وأما تفسير السحت بالحرام والتزام القول بجواز التصدق بالحرام لهذا الخبر فمما لا يلتفت إليه أصلا فتأمل. وكانت كلتا الغلبتين في سلطنة خسرو برويز ، قال في روضة الصفا ما ترجمته : إنه لما مضى من سلطنة خسرو أربعة عشر سنة غدر الروميون بملكهم وقتلوه مع ابنه بناطوس وهرب ابنه الآخر إلى خسرو فجهز معه ثلاثة رؤساء أولى قدر رفيع مع عسكر عظيم فدخلوا بلاد الشام وفلسطين وبيت المقدس وأسروا من فيها من الأساقفة وغيرهم وأرسلوا إلى خسرو الصليب الذي كان مدفونا عندهم في تابوت من ذهب وكذلك استولوا على الإسكندرية وبلاد النوبة إلى أن وصلوا إلى نواحي القسطنطينية وأكثروا الخراب وجهدوا على إطاعة الروميين لابن قيصر فلم تحصل ، قيل : إن الروميين جعلوا عليهم حاكما شخصا اسمه هرقل وكان سلطانا عادلا يخاف الله تعالى فلما رأى تخريب فارس قد شاع في بلاد الروم من النهب والقتل تضرع وبكى وسأل الله تعالى تخليص الروميين فصادف دعاؤه هدف الإجابة فرأى في ليالي متعددة في منامه أنه قد جيء إليه بخسرو في عنقه سلسلة ، وقيل له: عجل بمحاربة برويز لأنه يكون لك الظفر والنصرة فجمع هرقل عسكره بسبب تلك الرؤيا وتوجه من قسطنطينية إلى نصيبين فسمع خسرو فجهز اثني عشر ألفا مع أمير من أمرائه فقابلهم هرقل فكسرهم وقتل منهم تسعة آلاف مع رؤسائهم.

وفي بعض الروايات أنهم ربطوا خيولهم بالمدائن ، ورأيت في بعض الكتب أن سبب ظهور الروم على فارس أن كسرى بعث إلى أميره شهريار وهو الذي ولاه على محاربة الروم أن اقتل أخاك فرخان لمقالة قالها وهو قوله : لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى فلم يقتله فبعث إلى فارس إني قد عزلت شهريار ووليت أخاه فرخان فاطلع فرخان على حقيقة الحال فرد الملك إلى أخيه وكتب شهريار إلى قيصر ملك الروم فتعاونا على كسرى فغلبت الروم فارس وجاء الخبر ففرح المسلمون وكان ذلك من الآيات البينات الباهرة الشاهدة بصحة النبوة وكون القرآن من عند الله عزوجل لما في ذلك من الإخبار عن الغيب الذي لا يعلمه الله تعالى العليم الخبير ، وقد صح أنه أسلم عند ذلك ناس كثير. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ، وابن عباس ، وابن عمر ، وأبو سعيد الخدري ، والحسن ، ومعاوية بن قرة «غلبت الروم» على البناء للفاعل و (سَيَغْلِبُونَ) على البناء للمفعول ، والمعنى على ما قيل : إن الروم غلبوا على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزول الآية ففتحوا بعض بلادهم ، وإضافة «غلب» عليه من إضافة المصدر إلى الفاعل ، ووفق بين القراءتين بأن الآية نزلت مرتين مرة بمكة على قراءة الجمهور ومرة يوم بدر كما رواه الترمذي وحسنه عن أبي سعيد على هذه القراءة.

وقال بعض الأجلة : الصواب أن يبقى نزولها على ظاهره ويراد بغلب المسلمين إياهم ما كان في غزوة مؤتة وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان وذلك قريب من التاريخ الذي ذكروه لنزول الآية أولا ولا حاجة إلى تعدد النزول

٢١

فإنه يجوز تخالف معنى القراءتين إذا لم يتناقضا ، وكون فريق غالبا ومغلوبا في زمانين غير متدافع فتأمل انتهى.

ولا يخفى على من سبر السبر أن هذا مما لا يكاد يتسنى لأن الروم لم يغلبهم المسلمون في تلك الغزوة بل انصرفوا عنهم بعد أن أصيبوا بجعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة ، وعباد بن قيس في آخرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين كالمغلوبين ، بل ذكر ابن هشام أنهم لما أتوا المدينة جعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون : يا فرار فررتم في سبيل الله تعالى وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى» وروي أن أم سلمة قالت لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة : ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومع المسلمين؟ فقالت : والله ما يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس يا فرار ففررتم في سبيل الله حتى قعد في بيته ولم يخرج ، وذكر أبياتا لقيس اليعمري يعتذر فيها مما صنع يومئذ وصنع الناس وقد تضمنت كما قال بيان أن القوم حاجزوا وكرهوا الموت وأن خالد بن الوليد انحاز بمن معه ، على أن فيما ذكر أنه الصواب بحثا بعد : فلعل الأول في التوفيق إذا صحت هذه القراءة ما ذكر أولا فتأمل ..

وفي البحر كان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) ـ إلى ـ (سِنِينَ) افتتاح المسلمين بيت المقدس معينا زمانه ويومه وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى وإن ابن برجان مات قبل الوقت الذي عينه للفتح وإنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم وكان أبو جعفر يعتقد في أبو الحكم هذا أنه كان يتطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب الله تعالى انتهى ، واستخرج بعض العارفين كمحيي الدين قدس‌سره ، والعراقي ، وغيرهم المغيبات من القرآن العظيم أمر شهير وهو مبني على قواعد حسابية وأعمال حرفية لم يرد شيء منها عن سلف الأمة ولا حجر على فضل الله عزوجل وكتاب الله تعالى فوق ما يخطر للبشر ، وقد سئل علي كرم الله تعالى وجهه هل أسر إليكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا كتمه عن غيركم فقال : لا إلّا أن يؤتي الله تعالى عبدا فهما في كتابه ، هذا ونسأل الله سبحانه أن يوفقنا لفهم أسرار كتابه بحرمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه.

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي من قبل هذه الحالة ومن بعدها وهو حاصل ما قيل أي من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين ، وتقديم الخبر للتخصيص ، والمعنى أن كلا من كونهم مغلوبين أولا وغالبين آخرا ليس إلا بأمر الله تعالى شأنه وقضائه عزوجل (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١٤٠] وقرأ أبو السمال ، والجحدري عن العقيلي «من قبل ومن بعد» بالكسر والتنوين فيهما فليس هناك مضاف إليه مقدر أصلا على المشهور كأنه قيل : لله الأمر قبلا وبعدا أي في زمان متقدم وفي زمان متأخر ، وحذف بعضهم الموصوف ، وذكر السكاكي أن المضاف إليه مقدر في مثل ذلك أيضا والتنوين عوض عنه ، وجوز الفراء الكسر من غير تنوين ، وقال الزجاج : إنه خطأ لأنه إما أن لا يقدر فيه الإضافة فينون أو يقدر فيبنى على الضم ، وأما تقدير لفظه قياسا على قوله : بين ذراعي وجبهة الأسد فقياس مع الفارق لذكره فيه بعد وما نحن فيه ليس كذلك ، وقال النحاس للفراء في كتابه : في القرآن أشياء كثيرة الغلط ، منها أنه زعم أنه يجوز «من قبل ومن بعد» بالكسر بلا تنوين وإنما يجوز «من قبل ومن بعد» على أنهما نكرتان أي من متقدم ومن متأخر ، وذهب إلى قول الفراء بن هشام في بعض كتبه ، وحكى الكسائي عن بعض بني أسد «لله الأمر من قبل ومن بعد» على أن الأول مخفوض منون والثاني مضموم بلا تنوين.

(وَيَوْمَئِذٍ) أي ويوم إذ يغلب الروم فارسا (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) وتغليبه من له كتاب على من لا

٢٢

كتاب له وغيظ من شمتهم من كفار مكة وكون ذلك مما يتفاءل به لغلبة المؤمنين على الكفار ، وقيل : نصر الله تعالى صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس ، وقيل : نصره عزوجل أنه ولّى بعض الظالمين بعضا وفرق بين كلمتهم حتى تناقضوا وتحاربوا وقلل كل منهما شوكة الآخر ، وعن أبي سعيد الخدري أنه وافق ذلك يوم بدر ، وفيه من نصر الله تعالى العزيز للمؤمنين وفرحهم بذلك ما لا يخفى ، والأول أنسب لقوله تعالى : (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) أي من يشاء أن ينصره من عباده على عدوه ويغلبه عليه فإنه استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) والظاهر أن (يوم) متعلق بيفرح وكذا (بِنَصْرِ) وجوز تعلق (يوم) به ، وكذا جوز تعلق (بِنَصْرِ) بالمؤمنين ، وقيل : (يَوْمَئِذٍ) عطف على قبل أو بعد كأنه حصر الأزمنة الثلاثة الماضي والمستقبل والحال ثم ابتدأ الاخبار بفرح المؤمنين (وَهُوَ الْعَزِيزُ) المبالغ في العزة والغلبة فلا يعجزه من شاء أن ينصر عليه كائنا من كان (الرَّحِيمُ) المبالغ في الرحمة فينصر من يشاء أن ينصره أي فريق كان ، والمراد بالرحمة هنا هي الدنيوية ، أما على القراءة المشهورة فظاهر لأن كلا الفريقين لا يستحق الرحمة الأخروية ، وأما على القراءة الأخيرة فلأن المسلمين وإن كانوا مستحقين لها لكن المراد هاهنا نصرهم الذي هو من آثار الرحمة الدنيوية ، وتقديم وصف (الْعَزِيزُ) لتقدمه في الاعتبار.

(وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة من قوله تعالى : (سَيَغْلِبُونَ) وقوله سبحانه : (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) ويقال له المؤكد لنفسه لأن ذلك في معنى الوعد وعامله محذوف وجوبا كأنه قيل : وعد الله تعالى ذلك وعدا (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) أي وعد كان مما يتعلق بالدنيا والآخرة لما في خلفه من النقص المستحيل عليه عزوجل ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للتعليل الحكمي وتفخيمه ، والجملة استئناف مقرر لمعنى المصدر ، وجوز أن يكون حالا منه فيكون كالمصدر الموصوف كأنه سبحانه يقول : وعد الله تعالى وعدا غير مخلف (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنه تعالى لا يخلف وعده لجهلهم بشئونه عزوجل وعدم تفكرهم فيما يجب له جلّ شأنه وما يستحيل عليه سبحانه أو لا يعلمون ما سبق من شئونه جلّ وعلا ، وقيل : لا يعلمون شيئا أو ليسوا من أولي العلم حتى يعلموا ذلك (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) وهو ما يحسون به من زخارفها وملاذها وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم الملائمة لأهوائهم المستدعية لانهماكهم فيها وعكوفهم عليها.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعلمون منافعها ومضارها ومتى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يجمعون وكيف يبنون أي ونحو ذلك مما لا يكون لهم منه أثر في الآخرة ، وروي نحوه عن قتادة ، وعكرمة.

وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في الآية : بلغ من حذق أحدهم بأمر دنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن يصلي ، وقال الكرماني : كل ما يعلم بأوائل الروية فهو الظاهر وما يعلم بدليل العقل فهو الباطن وقيل : هو هنا التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، وتعقب بأنهما ليسا مما علموه منها بل من أفعالهم المرتبة على علمهم ، وعن ابن جبير أن الظاهر هو ما علموه من قبل الكهنة مما تسترقه الشياطين ، وليس بشيء كما لا يخفى ، وأيا ما كان فالظاهر أن المراد بالظاهر مقابل الباطن ، وتنويه للتحقير والتخسيس أي يعلمون ظاهرا حقيرا خسيسا ؛ وقيل : هو بمعنى الزائل الذاهب كما في قول الهذلي :

وعيرها الواشون أني أحبها

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

أي يعلمون أمرا زائلا لا بقاء له ولا عاقبة من الحياة الدنيا (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) التي هي الغاية القصوى والمطلب الأسنى (هُمْ غافِلُونَ) لا تخطر ببالهم فكيف يتفكرون فيها وفيما يؤدي إلى معرفتها من الدنيا وأحوالها ،

٢٣

والجملة معطوفة على (يَعْلَمُونَ) وإيرادها اسمية للدلالة على استمرار غفلتهم ودوامها ، و (هُمْ) الثانية تكرير للأولى وتأكيد لفظي لها دافع للتجوز وعدم الشمول ، والفصل بمعمول الخبر وإن كان خلاف الظاهر لكن حسنه وقوع الفصل في التلفظ والاعتناء بالآخرة أو هو مبتدأ و (غافِلُونَ) خبره والجملة خبر (هُمْ) الأولى ، وجملة (يَعْلَمُونَ) إلخ بدل من جملة (لا يَعْلَمُونَ) على ما ذهب إليه صاحب الكشف فإن الجاهل الذي لا يعلم أن الله لا يخلف وعده أو لا يعلم شئونه تعالى السابقة ولا يتفكر في ذلك هو الذي قصر نظره على ظاهر الحياة الدنيا ، والمصحح للبدلية اتحاد ما صدقا عليه ، والنكتة المرجحة له جعل علمهم والجهل سواء بحسب الظاهر ، وجملة (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) إلخ مناد على تمكن غفلتهم عن الآخرة المحققة لمقتضى الجملة السابقة تقريرا لجهالتهم وتشبيها لهم بالبهائم المقصور إدراكها على ظواهر الدنيا الخسيسة دون أحوالها التي هي من مبادئ العلم بأمور الآخرة. واختار العلامة الطيبي أن جملة (يَعْلَمُونَ) إلخ استئنافية لبيان موجب جهلهم بأن وعد الله تعالى حق وأن لله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد وأنه جلّ شأنه ينصر المؤمنين على الكافرين ولعله الأظهر (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) إنكار واستقباح لقصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا مع الغفلة عن الآخرة ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، وقوله سبحانه : (فِي أَنْفُسِهِمْ) ظرف للتفكر ، وذكره مع أن التفكر لا يكون إلا في النفس لتحقيق أمره وزيادة تصوير حال المتفكرين كما في اعتقده في قلبك وأبصره بعينك ، وقوله عزوجل : (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) متعلق إما بالعلم الذي يؤدي إليه التفكر ويدل عليه أو بالقول الذي يترتب عليه كما في قوله تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) [آل عمران : ١٩١] أي أعلموا ظاهر الحياة الدنيا فقط أو أقصروا النظر على ذلك ولم يحدثوا التفكر في قلوبهم فيعلموا أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات التي هم من جملتها ملتبسة بشيء من الأشياء إلا ملتبسة بالحق أو يقولوا هذا القول معترفين بمضمونه إثر ما علموه ، والمراد بالحق هو الثابت الذي يحق أن يثبت لا محالة لابتنائه على الحكم البالغة التي من جملتها استشهاد المكلفين بذواتها وصفاتها وأحوالها على وجود صانعها ووحدته وعلمه وقدرته واختصاصه بالمعبودية وصحة أخباره التي من جملتها إحياؤهم بعد الفناء بالحياة الأبدية ومجازاتهم بحسب أعمالهم عما يتبين المحسن من المسيء ويمتاز درجات افراد كل من الفريقين حسب امتياز طبقات علومهم واعتقاداتهم المترتبة على أنظارهم فيما نصب في المصنوعات من الآيات والدلائل والإمارات والمخايل كما نطق به قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] فإن العمل غير مختص بعمل الجوارح ولذلك فسره عليه الصلاة والسلام بقوله : «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله تعالى وأسرع في طاعة الله عزوجل».

وقوله سبحانه : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) عطف على الحق أي وبأجل معين قدره الله تعالى لبقائها لا بد لها من أن تنتهي إليه لا محالة وهو وقت قيام الساعة وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات ، هذا وجوز أن يكون قوله تعالى : (فِي أَنْفُسِهِمْ) متعلقا بيتفكروا ومفعولا له بالواسطة على معنى أولم يتفكروا في ذواتهم وأنفسهم التي هي أقرب المخلوقات إليهم وهم أعلم بشئونها وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها فيتدبروا ما أودعها الله تعالى ظاهر أو باطنا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها الحكيم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانا وعلى الإساءة مثلها حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت. وتعقب بأن أمر معاد الإنسان ومجازاته بما عمل من الإساءة

٢٤

والإحسان هو المقصود بالذات والمحتاج إلى الإثبات فجعله ذريعة إلى إثبات معاد ما عداه مع كونه بمعزل من الأجزاء تعكيس للأمر فتدبر. وجوز أبو حيان أن يكون (ما خَلَقَ) إلخ مفعول (يَتَفَكَّرُوا) معلقا عنه بالنفي ، وأنت تعلم أن التعليق في مثله ممنوع أو قليل ، وقوله تعالى :

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) تذييل مقرر لما قبله ببيان أن أكثرهم غير مقتصرين على ما ذكره من الغفلة من أحوال الآخرة والأعراض عن التفكر فيما يرشدهم إلى معرفتها من خلق السماوات والأرض وما بينهما من المصنوعات بل هم منكرون جاحدون لقاء حسابه تعالى وجزائه عزوجل بالبعث ، وهم القائلون بأبدية الدنيا كالفلاسفة على المشهور (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) توبيخ لهم بعدم اتعاظهم بمشاهدة أحوال أمثالهم الدالة على عاقبتهم ومآلهم ؛ والهمزة للإنكار التوبيخي أو الإبطالي وحيث دخلت على النفي وإنكار النفي إثبات قيل : إنها لتقرير المنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أقعدوا في أماكنهم ولم يسيروا في الأرض ، وقوله تعالى : (فَيَنْظُرُوا) عطف على يسيروا داخل في حكمه والمعنى أنهم قد ساروا في أقطار الأرض وشاهدوا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المهلكة كعاد ، وثمود ، وقوله تعالى : (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) إلخ بيان لمبدأ أحوالهم ومآلها يعني أنهم كانوا أقدر منهم على التمتع بالحياة الدنيا حيث كانوا أشد منهم قوة (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أي قلبوها للحرث والزراعة كما قال الفراء ، وقيل : لاستنباط المياه واستخراج المعادن وغير ذلك.

وقرأ أبو جعفر «وآثاروا» بمدة بعد الهمزة ، وقال ابن مجاهد : ليس بشيء وخرج ذلك أبو الفتح على الإشباع كقوله.

ومن ذم الزمان بمنتزاح*

وذكر أن هذا من ضرورة الشعر ولا يجيء في القرآن ، وقرأ أبو حيوة وأثروا من الأثرة وهو الاستبداد بالشيء وآثروا الأرض أي أبقوا فيها آثارا (وَعَمَرُوها) أي وعمرها أولئك الذين كانوا قبلهم بفنون العمارات من الزراعة والغرس والبناء وغيرها ، وقيل : أي أقاموا بها ، يقال عمرت بمكان كذا وعمرته أي أقمت به (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي عمارة أكثر من عمارة هؤلاء إياها والظاهر أن الأكثرية اعتبارا لكم وعممه بعضهم فقال : أكثر كما وكيفا وزمانا ، وإذا أريد العمارة بمعنى الإقامة فالمعنى أقاموا بها إقامة أكثر زمانا من إقامة هؤلاء بها ، وفي ذكر أفعل تهكم بهم إذ لا مناسبة بن كفار مكة وأولئك الأمم المهلكة فإنهم كانوا معروفين بالنهاية في القوة وكثرة العمارة وأهل مكة ضعفا ملجئون إلى واد غير ذي زرع يخافون أن يتخطفهم الناس ، ونحو هذا يقال إذا سرت العمارة بالإقامة فإن أولئك كانوا مشهورين بطول الأعمار جدا وأعمار أهل مكة قليلة بحيث لا مناسبة يعتد بها بينها وبين أعمال أولئك المهلكين.

(وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات أو الآيات الواضحات (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي فكذبوهم فأهلكهم فما كان الله تعالى شأنه ليهلكهم من غير جرم يستدعيه من قبلهم ، وفي التعبير عن ذلك بالظلم اظهار لكمال نزاهته تعالى عنه وإلا فقد قال أهل السنة : إن إهلاكه تعالى من غير جرم ليس من الظلم في شيء لأنه عزوجل مالك والمالك يفعل بملكه ما يشاء والنزاع في المسألة شهير (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث ارتكبوا باختيارهم من المعاصي ما أوجب بمقتضى الحكمة ذلك ، وتقديم (أَنْفُسَهُمْ) على (يَظْلِمُونَ) للفاصلة ؛ وجوز أن يكون للحصر بالنسبة إلى الرسل الذين يدعونهم (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا) أي عملوا السيئات ، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالإساءة والإشعار بعلة الحكم ، و (ثُمَ) للتراخي الحقيقي أو للاستبعاد والتفاوت في الرتبة (السُّواى) أي العقوبة السوأى وهي العقوبة بالنار فإنها تأنيث الأسوأ كالحسنى تأنيث الأحسن أو مصدر كالبشرى وصف به العقوبة مبالغة كأنها نفس السوء ، وهي مرفوعة على أنها اسم وكان خبرها (عاقِبَةَ).

٢٥

وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو «عاقبة» بالرفع على أنه اسم كان و«السوأى» بالنصب على الخبرية ، وقرأ الأعمش ، والحسن «السوي» بإبدال الهمزة واوا وإدغام الواو فيها ، وقرأ ابن مسعود «السوء» بالتذكير (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) علة للحكم المذكور أي لأن أو بأن كذبوا وهو في الحقيقة مبين لما أشعر به وضع الموصول موضع الضمير لأنه مجمل.

وقوله تعالى : (وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) عطف على (كَذَّبُوا) داخل معه في حكم العلية وإيراد الاستهزاء بصيغة المضارع للدلالة على استمراره وتجدده ، وجوز أن يكون (السُّواى) مفعولا مطلقا لأساءوا من غير لفظه أو مفعولا به له لأن أساءوا بمعنى اقترفوا واكتسبوا ، والسوأى بمعنى الخطيئة لأنه صفة أو مصدره مؤول بها وكونه صفة مصدر أساءوا من لفظه أي الإساءة السوأى بعيد لفظا مستدرك معنى و (أَنْ كَذَّبُوا) اسم كان. وكون التكذيب عاقبتهم مع أنهم لم يخلوا عنه إما باعتبار استمراره أو باعتبار أنه عبارة عن الطبع ، وجوز أن يكون أن كذبوا بدلا من (السُّواى) الواقع اسما لكان أو عطف بيان لها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي أن كذبوا ، وأن تكون (أَنْ) تفسيرية بمعنى أي والمفسر إما أساءوا أو (السُّواى) فإن الإساءة تكون قولية كما تكون فعلية فإذن قبلها مضمن معنى القول دون حروفه ويظهر ذلك التضمن بالتفسير ، وإذا جاز (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) [ص : ٦] فهذا أجوز فليس هذا الوجه متكلفا خلافا لأبي حيان. وجوز في قراءة الحرميين ، وأبي عمرو وأن تكون (السُّواى) صلة الفعل و (أَنْ كَذَّبُوا) تابعا له أو خبر مبتدأ محذوف أو على تقدير حرف التعليل وخبر كان محذوفا تقديره وخيمة ونحوه وتعقب ذلك في البحر فقال : هو فهم أعجمي لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف وقد تكلف له محذوف لا يدل عليه دليل ، وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي ينشئهم.

وقرأ عبد الله وطلحة «يبدئ» بضم الياء وكسر الدال ، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر فما بالعهد من قدم.

(ثُمَّ يُعِيدُهُ) بالبعث (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء ، وتقديم المعمول للتخصيص ، وكان الظاهر يرجعون بياء الغيبة إلا أنه عدل عنه إلى خطاب المشركين لمكافحتهم بالوعيد ومواجهتهم بالتهديد وإيهام إن ذلك مخصوص بهم فهو التفات للمبالغة في الوعيد والترهيب. وقرأ أبو عمرو ، وروح «يرجعون» بياء الغيبة كما هو الظاهر (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) التي هي وقت إعادة الخلق ومرجعهم إليه عزوجل (يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي يسكتون وتنقطع حجتهم ، قال الراغب : الإبلاس الحزن المعترض من شدة اليأس ومنه اشتق إبليس فيما قيل ، ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قبل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته وأبلست الناقة فهي مبلاس إذا لم ترغ من شدة الضبعة (١) وقال ابن ثابت : يقال أبلس الرجل إذا يئس من كل خير ، وفي الحديث «وأنا مبشرهم إذا أبلسوا» والمراد بالمجرمين على ما أفاده الطيبي أولئك الذين أساءوا والسوأى لكنه وضع الظاهر موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بهذا الوصف الشنيع والإشعار بعلة الحكم.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ، والسلمي «يبلس» بفتح اللام وخرج على أن الفعل من أبلسه إذا أسكته ، وظاهره أنه يكون متعديا وقد أنكره أبو البقاء ، والسمين ، وغيرهما حتى تكلفوا وقالوا : أصله يبلس إبلاس المجرمين على إقامة المصدر مقام الفاعل ثم حذفه وإقامة المضاف إليه مقامه. وتعقبه الخفاجي عليه الرحمة فقال : لا يخفى عدم صحته لأن إبلاس المجرمين مصدر مضاف لفاعله وفاعله هو فاعل الفعل بعينه فكيف يكون نائب الفاعل فتأمل.

وأنت تعلم أنه متى صحت القراءة لا تسمع دعوى عدم سماع استعمال أبلس متعديا.

__________________

(١) قوله «الضبعة» هي شدة شهوة الناقة للفحل ا ه منه.

٢٦

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ) ممن أشركوهم بالله سبحانه في العبادة ولذا أضيفوا إليهم. وقيل : إن الإضافة لإشراكهم إياهم بالله تعالى في أموالهم والمراد بهم الأوثان ، وقال مقاتل : الملائكة عليهم‌السلام ، وقيل : الشياطين ، وقيل : رؤساؤهم (شُفَعاءُ) يجيرونهم من عذاب الله تعالى كما كانوا يزعمون ، وجيء بالمضارع منفيا بلم التي تقلبه ماضيا للتحقق ، وصيغة الجمع لوقوعها في مقابلة الجمع لوقوعها في مقابلة أي لم يكن لواحد منهم شفيع أصلا.

وقرأ خارجة عن نافع ، وابن سنان عن أبي جعفر ، والأنطاكي عن شيبة «ولم تكن» بالتاء الفوقية.

(وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ) أي بإلهيتهم وشركتهم كما يشير إليه العدول عن وكانوا بهم (كافِرِينَ) حيث يئسوا منهم ووقفوا على كنه أمرهم ، (وَكانُوا) للدلالة على الاستمرار لا للمحافظة على رءوس الفواصل كما توهم.

وقيل : إنها للمضي كما هو الظاهر ، والباء في (بِشُرَكائِهِمْ) سببية أي وكانوا في الدنيا كافرين بالله تعالى بسببهم ولم يرتضه بعض الأجلة إذ ليس في الأخبار بذلك فائدة يعتد بها ، ولأن المتبادر أن (يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) ظرف للإبلاس وما عطف عليه ولذا قيل : إن المناسب عليه جعل الواو حالية ليكون المعنى أنهم لم يشفعوا لهم مع أنهم سبب كفرهم في الدنيا وهو أحسن من جعله معطوفا على مجموع الجملة مع الظرف ، مع أنه عليه ينبغي القطع للاحتياط إلّا أن يقال : إنه ترك تعويلا على القرينة العقلية ، وهو خلاف الظاهر ، وكتب «شفعؤا» في المصحف بواو بعدها ألف وهو خلاف القياس والقياس ترك الواو أو تأخيرها عن الألف لكن الأول أحسن كما ذكر في الرسم ، وكذا خولف القياس في كتابة (السُّواى) حيث كتبت بالألف قبل الياء والقياس كما في الكشف الحذف لأن الهمز يكتب على نحو ما يسهل (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أعيد لتهويله وتفظيع ما يقع فيه وهو ظرف للفعل بعده ، وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ) على ما ذكره الطبرسي بدل منه.

وفي البحر التنوين في «يومئذ» تنوين عوض من الجملة المحذوفة أي ويوم تقوم الساعة يوم إذ يبلس المجرمون (يَتَفَرَّقُونَ) وظاهره أن «يومئذ» ظرف لتقوم ، ولا يخفى ما في جعل الجملة المعوض عنها التنوين حينئذ ما ذكره من النظر. وفي إرشاد العقل السليم أن قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) تهويل ليوم قيام الساعة إثر تهويل وفيه رمز إلى أن التفرق يقع في بعض منه ، وفي وجه الرمز إلى ذلك بما ذكر خفاء ، وضمير (يَتَفَرَّقُونَ) للمسلمين والكافرين الدال عليهما ، ما قبل من عموم الخلق وما بعد من التفصيل ، وذهب إلى ذلك الزمخشري ، وجماعة.

وقال في الإرشاد : هو لجميع الخلق المدلول عليهم بما تقدم من مبدئهم ومرجعهم وإعادتهم لا المجرمون خاصة ، وقال أبو حيان : يظهر أنه عائد على الخلق قبله وهو المذكور في قوله تعالى : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) والمراد بتفرقهم اختلافهم في المحال والأحوال كما يؤذن به التفصيل ، وليس ذلك باعتبار كل فرد بل باعتبار كل فريق ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في ذلك هؤلاء في عليين وهؤلاء في أسفل سافلين ، والتفصيل يؤذن بذلك أيضا ، وهذا التفرق بعد تمام الحساب.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) الروضة الأرض ذات النبات والماء ، وفي المثل أحسن من بيضة في روضة يريدون بيضة النعامة ، وباعتبار الماء قيل : أرض الوادي واستراض أي كثر ماؤه وأراضهم أرواهم بعض الري من أراضي الحوض إذا صب فيه من الماء ما يوارى أرضه ، ويقال : شربوا حتى أراضوا أي شربوا عللا بعد نهل. وقيل : معنى أراضوا صبوا اللبن على اللبن ، وظاهر تفسير الكثير للروضة اعتبار النبات والماء فيها ، وأظن أن ابن قتيبة صرح بأنه لا يقال الأرض ذات نبات بلا ماء روضة.

وقيل : هي البستان الحسن ، وقيل : موضع الخضرة ، وقال الخفاجي : الروضة البستان وتخصيصها بذات الأنهار

٢٧

بناء على العرف ، وأيّا ما كان فتنوينها هنا للتفخيم والمراد بها الجنة ، والحبر السرور يقال : حبره يحبره بالضم حبرا وحبرة وحبورا إذا سره سرورا تهلل له وجهه وظهر فيه أثره ، وفي المثل امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينتظرون العبرة ، وحكى الكسائي حبرته أكرمته ونعمته ، وقيل : الحبرة كل نعمة حسنة والتحبير التحسين ، ويقال : فلان حسن الحبر والسبر بالفتح إذا كان جميلا حسن الهيئة ، واختلفت الأقوال في تفسيره هنا فأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ، وابن أبي حاتم عن الضحاك أنهما قالا : يحبرون يكرمون.

وأخرج جماعة عن مجاهد يحبرون ينعمون ، وقال أبو بكر بن عياش : يتوجهون على رءوسهم.

وقال ابن كيسان : يحلون ، وقال الأوزاعي ، ووكيع ، ويحيى بن أبي كثير : يسمعون الأغاني ، وأخرج عبد بن حميد عن الأخير أنه قال : قيل يا رسول الله ما الحبر؟ فقال عليه الصلاة والسلام : اللذة والسماع.

وذكر بعضهم أن الظاهر يسرون ولم يذكر ما يسرون به إيذانا بكثرة المسار وما جاء في الخبر فمن باب الاقتصار على البعض ، ولعل السائل كان يحب السماع فذكره صلى الله تعالى عليه وسلم له لذلك ، والتعبير بالمضارع للإيذان بتجدد السرور لهم ففي كل ساعة يأتيهم ما يسرون به من متجددات الملاذ وأنواعها المختلفة.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) التي من جملتها الآيات الناطقة بما فصل (وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي وكذبوا بالبعث ، وصرح بذلك مع اندراجه في تكذيب الآيات للاعتناء به ، وقوله تعالى : (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب بآياته تعالى وبلقاء الآخرة للإيذان بكمال تميزهم بذلك عن غيرهم وانتظامهم في سلك المشاهدات ، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار ببعد منزلتهم في الشر أي فأولئك الموصوفون بما ذكر من القبائح (فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) على الدوام لا يغيبون عنه أبدا ، والظاهر أن الفسقة من أهل الإيمان غير داخلين في أحد الفريقين أما عدم دخولهم في الذين كفروا وكذبوا بالآيات والبعث فظاهر وأما عدم دخولهم في الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإما لأن ذلك لا يقال في العرف إلّا على المؤمنين المجتنبين المفسقات على ما قيل ، وإما لأن المؤمن الفاسق يصدق على المؤمن الذي لم يعمل شيئا من الصالحات أصلا فهم غير داخلين في ذلك باعتبار جميع الأفراد وحكمهم معلوم من آيات أخر فلا تغفل.

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أثر ما بين حال فريقي المؤمنين العاملين بالصالحات والكافرين المكذبين بالآيات وما لهما من الثواب والعقاب أرشد سبحانه إلى ما ينجي من الثاني ويفضي إلى الأول من تنزيه الله عزوجل عن كل ما لا يليق بشأنه جلّ شأنه ومن حمده تعالى والثناء عليه ووصفه بما هو أهله من الصفات الجميلة والشئون الجليلة ، وتقديم الأول على الثاني لما أن التخلية متقدمة على التحلية مع أنه أول ما يدعي إليه الذين كفروا المذكورون قبل بلا فصل ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وظاهر كلامهم أن (سبحان) هنا منصوب بفعل أمر محذوف فكأنه قيل : إذا علمتم ذلك أو إذا صح واتضح حال الفريقين ، ومآلهما فسبحوا سبحان الله إلخ أي نزهوه تعالى تنزيهه اللائق به عزوجل في هذه الأوقات ، قال في الكشف : وفيه إشكال لأن سبحان الله لزم طريقة واحدة لا ينصبه فعل الأمر لأنه إنشاء من نوع آخر ، والجواب أن ذلك توضيح للمعنى وأن وقوعه جواب الشرط على منوال إن فعلت كذا فنعم ما فعلت فإنه إنشاء أيضا لكنه ناب مناب الخبر وأبلغ ، كذلك هو لإنشاء تنزيهه تعالى في الأوقات هربا من وبيل عقابه وطلبا لجزيل ثوابه ، والشرط والجواب مقول على ألسنة العباد انتهى ، وفي حواشي شيخ زاده أن الأمر بل الجملة الإنشائية مطلقا لا يصح تعليقها بالشرط لأن الإنشاء إيقاع المعنى بلفظ يقارنه ولو جاز تعليقه للزم تأخره عن زمان التلفظ وأنه غير جائز وإنما المعلق بالشرط هو الإخبار عن إنشاء التمني والترجي وإنشاء المدح والذم والاستفهام ونحوها فإذا قلت : إن فعلت كذا غفر الله تعالى لك

٢٨

أو فنعم ما فعلت كان المعنى فقد فعلت ما تستحق بسببه أن يغفر الله تعالى لك أو أن تمدح بسببه إلّا أن الجملة الإنشائية أقيمت مقامه للمبالغة للدلالة على الاستحقاق فمعنى الآية إذا كان الأمر كما تقرر فأنتم تسبحون الله تعالى في الأوقات المذكورة وهو في معنى الأمر بالتسبيح فيها انتهى.

ولعله أظهر مما في الكشف بل لا يظهر ما ذكر فيه من دعوى أن الشرط والجواب مقول على ألسنة العباد.

ويوهم كلام بعضهم أن الكلام بتقدير القول حيث قال : كأنه قيل إذا صح واتضح عاقبة المطيعين والعاصين فقولوا : نسبح سبحان إلخ ، والمعنى فسبحوه تسبيحا في الأوقات ، ولا يخفى ما فيه ، وكأني بك تمنع لزوم سبحان طريقة واحدة وهي التي ذكرت أولا ، ويجوز نصب فعل الأمر لها إذا اقتضاه المقام وأشعر به الكلام ، ولكن كأنك تميل إلى اعتبار كون الجملة خبرية لفظا إنشائية معنى بأن يراد بها الأمر لتوافق جملة (لَهُ الْحَمْدُ) فإنها وإن كانت خبرية إلّا أن الأخبار بثبوت الحمد له تعالى ووجوبه على المميزين من أهل السماوات والأرض كما يشعر به اتباع ذلك. ذكر الوعد والوعيد وتفريعه عليه بالفاء في معنى الأمر به على أبلغ وجه على ما صرح به بعض الأجلة فكأنه حينئذ قد قيل : فسبحوا الله تعالى تسبيحه اللائق به سبحانه في هذه الأوقات واحمدوه ، وظاهر كلام الأكثرين أن جملة (لَهُ الْحَمْدُ) إلخ معطوفة على الجملة التي قبلها وأن (عَشِيًّا) معطوف على (حِينَ تُمْسُونَ) بل هم صرحوا بهذا ، وعلى ما ذكر يكون جملة (لَهُ الْحَمْدُ) فاصلة بين المعطوف والمعطوف عليه ، وما أشبه الآية حينئذ بآية الوضوء على ما ذهب إليه أهل السنة. وفي الكشاف أن (عَشِيًّا) متصل بقوله تعالى : (حِينَ تُمْسُونَ) وقوله تعالى : (وَلَهُ الْحَمْدُ) إلخ اعتراض بينهما ، ومعناه أن على المميزين كلهم من أهل السماوات والأرض أن يحمدوه.

وإلى كون الجملة معترضة ذهب أبو البقاء أيضا ، وجعل قوله تعالى : (فِي السَّماواتِ) حالا من الحمد ، وفي جواز مجيء الحال منه على احتمال كونه مبتدأ وهو الظاهر خلاف ، ولعل من لا يجوّز ذلك يجعل الجار متعلقا بالثبوت الذي تقتضيه النسبة ، والمراد بالتسبيح والحمد ظاهرهما على ما ذهب إليه جمع من الأجلة ، وقيل : المراد بالتسبيح الصلاة وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن أبي رزين قال : جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس فقال : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ فقال : نعم فقرأ (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) صلاة المغرب (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) صلاة الصبح (وَعَشِيًّا) صلاة العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر ، وقرأ «ومن بعد صلاة العشاء» وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) المغرب والعشاء (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفجر (وَعَشِيًّا) العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظهر ، وذهب الحسن إلى ذلك حتى أنه ذهب إلى أن الآية مدنية لما أنه يرى فرضية الخمس بالمدينة وأنه كان الواجب بمكة ركعتين في أي وقت اتفقت الصلاة فيه ، والصحيح أنها فرضت بمكة ويدل عليه حديث المعراج دلالة بينة.

واختار الإمام الرازي حمل التسبيح على التنزيه فقال : إنه أقوى والمصير إليه أولى لأنه يتضمن الصلاة وذلك لأن التنزيه المأمور به يتناول التنزيه بالقلب وهو الاعتقاد الجازم وباللسان مع ذلك وهو الذكر الحسن وبالأركان معهما جميعا وهو العمل الصالح ، والأول هو الأصل والثاني ثمرة الأول والثالث ثمرة الثاني ، وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد شيئا ظهر من قلبه على لسانه وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أحوال أفعاله واللسان ترجمان الجنان والأركان برهان اللسان لكن الصلاة أفضل أعمال الأركان وهي مشتملة على الذكر باللسان والقصد بالجنان فهو تنزيه في التحقيق ، فإذا قال سبحانه نزهوني وهذا نوع من أنواع التنزيه والأمر المطلق لا يختص بنوع دون نوع فيجب حمله على كل ما هو تنزيه

٢٩

فيكون هذا أمرا بالصلاة ، ثم إن قولنا يناسبه ما تقدم وذلك لأن الله تعالى لما بين أن المقام الأعلى والجزاء الأوفى لمن آمن وعمل الصالحات حيث قال عزوجل : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) قال سبحانه : إذا علمتم أن ذلك المقام لمن آمن وعمل الصالحات والإيمان تنزيه بالجنان وتوحيد باللسان والعمل الصالح استعمال الأركان فالكل تنزيهات وتحميدات فسبحان الله أي فأتوا بذلك الذي هو الموصل إلى الحبور في الرياض والحضور على الحياض ا ه ، وأنا بالإمام أقتدي في دعوى أولوية الحمل على الظاهر ، واختار أيضا أن قوله تعالى : (لَهُ الْحَمْدُ) اعتراض مؤكد بين المعطوف والمعطوف عليه مطلقا ومعناه على ما سمعت عن الكشاف أن على المميزين كلهم أن يحمدوه فإن حمل التسبيح على الصلاة فهو كلام يؤكد الوجوب لأن الحمد يتجوز به عن الصلاة كالتسبيح ، ووجه التأكيد دلالته على أنه أمر عم المكلفين من أهل السماوات والأرض ، وأن حمل على الظاهر فوجهه أن ذلك جار مجرى الاستدراك للأمر بالتسبيح ، ولما كان من واد واحد كان كل منهما مؤكدا للآخر فدل على دوام وجوب الحمد في الأوقات ووجوب التسبيح على أهل السماوات والأرض ، وأما الدلالة على الوجوب فمن اتباع سبحان (اللهِ) إلخ ذكر الوعد والوعيد بالفاء فإنه يفهم تعين ذلك طريقا للخلاص عن الدركات والوصول إلى الدرجات وما يتعين طريقا لذلك كان واجبا كذا في الكشف.

وذكر الإمام أن في هذا الاعتراض لطيفة وهو أن الله تعالى لما أمر العباد بالتسبيح كأنه قال جلّ وعلا : بين لهم أن تسبيحهم الله تعالى لنفعهم لا لنفع يعود إلى الله عزوجل فعليهم أن يحمدوا الله تعالى إذا سبحوه جلّ شأنه ، وهذا كما في قوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [الحجرات : ١٧].

وجوز بعضهم كون (عَشِيًّا) معطوفا على قوله تعالى : (فِي السَّماواتِ) ورد بأنه لا يعطف ظرف الزمان على المكان ولا عكسه ، وقيل : يحتمل أن يكون معطوفا على مقدر أي وله الحمد في السماوات والأرض دائما وعشيا على أنه تخصيص بعد تعميم والجملة اعتراضية أو حالية وهو كما ترى ، وتخصيص الأوقات المذكورة بالذكر لظهور آثار القدرة والعظمة والرحمة فيها ، وقدم الإمساء على الإصباح لتقدم الليل والظلمة ، وقدم العشي على الإظهار لأنه بالنسبة إلى الإظهار كالإمساء بالنسبة إلى الإصباح. وفي البحر قوبل بالعشي الإمساء وبالإظهار الإصباح لأن كلا منهما يعقب بما قابله فالعشي يعقبه الإمساء والإصباح يعقبه الإظهار ، وقال العلامة أبو السعود : إن تقديم (عَشِيًّا) على (حِينَ تُظْهِرُونَ) لمراعاة الفواصل وليس بذاك وذكر الإمام أنه قدم الإمساء على الإصباح هاهنا وأخر في قوله تعالى : (سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الأحزاب : ٤٢] لأن أول الكلام هاهنا ذكر الحشر والإعادة وكذا آخره والإمساء آخر فذكر الآخر أولا لتذكر الآخرة ، وتغيير الأسلوب في (عَشِيًّا) لما أنه لا يجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي كالمساء والصباح والظهيرة ، ولعل السر في ذلك على ما قيل : إنه ليس من الأوقات التي تختلف فيها أحوال الناس وتتغير تغيرا ظاهرا مصححا لوصفهم بالخروج عما قبلها والدخول فيها كالأوقات المذكورة فإن كلا منها وقت يتغير فيه الأحوال تغيرا ظاهرا ، أما في المساء والصباح فظاهر. وأما في الظهيرة فلأنها وقت يعاد فيه التجرد عن الثياب للقيلولة كما مرت إليه الإشارة في سورة النور ، هذا وفضل التسبيح والتحميد أظهر من أن يستدل عليه ، وذكروا في فضل ما تضمنته الآية عدة أخبار ، فأخرج الإمام أحمد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن السني في عمل اليوم والليلة والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدعوات عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفى لأنه يقول كلما أصبح وأمسى سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون».

٣٠

وأخرج أبو داود ، والطبراني ، وابن السني ، وابن مردويه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «من قال حين يصبح سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى قوله تعالى : وكذلك تخرجون أدرك ما فاته في يومه ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته من ليلته» إلى غير ذلك من الأخبار ، ولعل فيه تأييدا لكون (فَسُبْحانَ) إلخ مقولا على ألسنة العباد فتأمل. وقرأ عكرمة «حين تمسون وحينا تصبحون» بتنوين حين فالجملة صفة حذف منها العائد والتقدير تمسون فيه وتصبحون فيه ، وعلى قراءة الجمهور الجملة مضاف إليها ولا تقدير للضمير أصلا (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) الإنسان من النطفة (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) النطفة من الإنسان وهو التفسير المأثور عن ابن عباس ، وابن مسعود ، ولعل مرادهما التمثيل ، وعن مجاهد يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن ، وقيل : أي يعقب الحياة بالموت وبالعكس (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) يبسها فالإحياء والموت مجازان (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الإخراج البديع الشأن (تُخْرَجُونَ) من قبوركم. وقرأ ابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش «تخرجون» بفتح التاء وضم الراء ، وهذا على ما قيل نوع تفصيل لقوله تعالى : (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [الروم : ١١] (وَمِنْ آياتِهِ) الباهرة الدالة على أنكم تبعثون دلالة أوضح من دلالة ما سبق فإن دلالة بدأ خلقهم على إعادتهم أظهر من دلالة إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي ومن دلالة إحياء الأرض بعد موتها عليها (أَنْ خَلَقَكُمْ) أي في ضمن خلق آدم عليه‌السلام لما مر مرارا من أن خلقه عليه‌السلام منطو على خلق ذرياته انطواء إجماليا (مِنْ تُرابٍ) لم يشم رائحة الحياة قط ولا مناسبة بينه وبين ما أنتم عليه في ذاتكم وصفاتكم ، وقيل : خلقهم من تراب لأنه تعالى خلق مادتهم منه فهو مجاز أو على تقدير مضاف (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي في الأرض تتصرفون في أغراضكم وأسفاركم ، و (إِذا) فجائية و (ثُمَ) على ما ذهب إليه أبو حيان للتراخي الحقيقي لما بين الخلق والانتشار من المدة ، وقال العلامة الطيبي : إنها للتراخي الرتبي لأن المفاجأة تأبى الحقيقي. ورد بأنه لا مانع من أن يفاجئ أحدا أمر بعد مضي مدة من أمر آخر أو أحدهما حقيقي والآخر عرفي. وتعقب بأنه على تسليم صحته يأباه الذوق فإنه كالجمع بين الضب والنون فما ذكره الطيبي أنسب بالنظم القرآني ، والظاهر أن الجملة معطوفة على المبتدأ قبلها وهي بتأويل مفرد كأنه قيل : ومن آياته خلقكم من تراب ثم مفاجأتكم وقت كونكم بشرا منتشرين كذا قيل ، وفي وقوع الجملة مبتدأ بمثل هذا التأويل نظر إلا أن يقال : إنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ويتخيل من كلام بعضهم أن العطف على (خَلَقَكُمْ) بحسب المعنى حيث قال : أي ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين ، ويفهم من كلام صاحب الكشف في نظير الآية أعني قوله تعالى الآتي : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) أنه أقيمت الجملة مقام المفرد من حيث المعنى لأنها تفيد فائدته ، والكلام على أسلوب (مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] لأنه في معنى وأمن داخله ، وأما من حيث الصورة فهي جملة معطوفة على قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ) وفائدة هذا الأسلوب الإشعار بأن ذلك آية خارجة من جنس الآيات مستقلة بشأنها مقصودة بذاتها فتأمل (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على البعث أيضا (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ) أي لأجلكم (مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم عليه‌السلام متضمن لخلقهن من أنفسكم على ما عرفت من التحقيق ـ فمن ـ تبعيضية والأنفس بمعناها الحقيقي ، ويجوز أن تكون (مِنْ) ابتدائية والأنفس مجاز عن الجنس أي خلق لكم من جنسكم لا من جنس آخر ، قيل : وهو الأوفق بقوله تعالى : (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) أي لتميلوا إليها يقال : سكن إليه إذا مال فإن المجانسة من دواعي النظام والتعارف كما أن المخالفة من أسباب التفرق والتنافر (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) أي بين الأزواج إما على تغليب الرجال على النساء في الخطاب أو على حذف ظرف معطوف على الظرف المذكور أي جعل بينكم وبينهن كما في قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ

٣١

رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] وقيل : بين أفراد الجنس أو بين الرجال والنساء ، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى : (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) فإن المراد بهما ما كان منهما بعصمة الزواج قطعا أي جعل بينكم بالزواج الذي شرعه لكم توادا وترحما من غير أن يكون بينكم سابقة معرفة ولا مرابطة مصححة للتعاطف من قرابة أو رحم. قيل : المودة والرحمة من الله تعالى والفرك وهو بغض أحد الزوجين الآخر من الشيطان.

وقال الحسن ومجاهد وعكرمة المودة كناية عن النكاح والرحمة كناية عن الولد ، وكون المودة بمعنى المحبة كناية عن النكاح أي الجماع للزومها له ظاهر ، وأما كون الرحمة كناية عن الولد للزومها له فلا يخلو عن بعد ، وقيل : مودة للشابة ورحمة للعجوز ، وقيل : مودة للكبير ورحمة للصغير ، وقيل : هما اشتباك الرحم والكل كما ترى (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر من خلقهم من تراب وخلق أزواجهم من أنفسهم وإلقاء المودة والرحمة فهو إشارة إلى جميع ما تقدم ، وقيل : إلى ما قبله وليس بذاك ، وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه للإشعار ببعد منزلته (لَآياتٍ) عظيمة لا يكتنه كنهها كثيرة لا يقادر قدرها (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في تضاعيف تلك الأفاعيل المبنية على الحكم ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله مع التنبيه على أن ما ذكر ليس بآية فذة بل هي مشتملة على آيات شتى وإنها تحتاج إلى تفكر كما تؤذن بذلك الفاصلة. وذكر الطيبي أنه لما كان القصد من خلق الأزواج والسكون إليها وإلقاء المحبة بين الزوجين ليس مجرد قضاء الشهوة التي يشترك بها البهائم بل تكثير النسل وبقاء نوع المتفكرين الذين يؤديهم الفكر إلى المعرفة والعبادة التي ما خلقت السماوات والأرض إلا لها ناسب كون المتفكرين فاصلة هنا (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أي لغاتكم بأن علم سبحانه كل صنف لغته أو ألهمه جلّ وعلا وضعها وأقدره عليها فصار بعض يتكلم بالعربية وبعض بالفارسية وبعض بالرومية إلى غير ذلك مما الله تعالى أعلم بكميته. وعن وهب أن الألسنة اثنان وسبعون لسانا في ولد حام سبعة عشر وفي ولد سام تسعة عشر ، وفي ولد يافث ستة وثلاثون ، وجوز أن يراد بالألسنة أجناس النطق وأشكاله فقد اختلف ذلك اختلافا كثيرا فلا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية من كل وجه ، ولعل هذا أولى مما تقدم. والإمام حكى الوجه الأول وقدم عليه ما هو ظاهر في أن المراد بالأسنة الأصوات والنغم ونص على أنه أصح من المحكي (وَأَلْوانِكُمْ) بياض الجلد وسواده وتوسط فيما بينهما أو تصوير الأعضاء وهيئاتها وألوانها وحلاها بحيث وقع التمايز بين الأشخاص حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة وإن كانا في غاية التشابه ، فالألوان بمعنى الضروب والأنواع كما يقال : ألوان الحديث وألوان الطعام ، وهذا التفسير أعم من الأول ، وإنما نظم اختلاف الألسنة والألوان في سلك الآيات الآفاقية من خلق السماوات والأرض مع كونه من الآيات الأنفسية الحقيقة بالانتظام في سلك ما سبق من خلق أنفسهم وأزواجهم للإيذان باستقلاله والاحتراز عن توهم كونه من متممات خلقهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر من خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان (لَآياتٍ) عظيمة كثيرة (لِلْعالِمِينَ) أي المتصفين بالعلم كما في قوله تعالى : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] وقرأ الكثير «العالمين» بفتح اللام ، وفيه دلالة على وضوح الآيات وعدم خفائها على أحد من الخلق كافة (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ) أي نومكم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) لاستراحة القوى النفسانية وتقوي القوى الطبيعية (وَابْتِغاؤُكُمْ) أي طلبكم (مِنْ فَضْلِهِ) أي بالليل والنهار ، وحذف ذلك لدلالة ما قبل عليه ، ونظيره قوله :

عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم

ومقتلهم عند الوغى كان أغدرا

فإنه أراد يقتلون نفوسهم عند السلم وحذف لدلالة الوغى في الشطر الثاني عليه ، والنوم بالليل والابتغاء من

٣٢

الفضل أي الكسب بالنهار أمران معتادان ، وأما النوم بالنهار فكنوم القيلولة ، وأما الكسب بالليل فكما يقع من بعض المكتسبين ، وأهل الحرف من السعي والعمل ليلا لا سيما في أطول الليالي وعدم وفاء نهارهم بأغراضهم ، ومن ذلك حراسة الحوانيت بالأجرة وكذا قطع البراري في الأسفار ليلا للتجارة ونحوها ، وقال الزمخشري : وهذا من باب اللف وترتيبه ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار إلّا أنه فصل بين القرينين الأولين أعني منامكم وابتغاؤكم بالقرينين الآخرين أعني الليل والنهار لأنهما ظرفان والظرف والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد وهو الوجه الظاهر لتكرره في القرآن وأسد المعاني ما دلّ عليه القرآن انتهى ، والظاهر أنه أراد باللف الاصطلاحي ولا يأبى ذلك توسيط الليل والنهار لأنهما في نية التأخير وإنما وسطا للاهتمام بشأنهما لأنهما من الآيات في الحقيقة لا المنام والابتغاء على ما حققه في الكشف مع تضمن توسيطهما مجاورة كل لما وقع فيه فالجار والمجرور وقيل حال مقدمة من تأخير أي كائنين بالليل والنهار ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي ذلك بالليل والنهار ، والجملة في النظم الكريم معترضة ، وعلى كلا القولين لا يرد على الزمخشري لزوم كون النهار معمولا للابتغاء مع تقدمه عليه وعطفه على معمول (مَنامُكُمْ) وفي اقتران الفضل بالابتغاء إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من نفسه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه جلّ وعلا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي شأنهم أن يسمعوا الكلام سماع تفهم واستبصار ، وفيه إشارة إلى ظهور الأمر بحيث يكفي فيه مجرد السماع لمن له فهم وبصيرة ولا يحتاج إلى مشاهدة وإن كان مشاهدا.

وقال الطيبي : جيء بالفاصلة هكذا لأن أكثر الناس منسدحون بالليل كالأموات ومتردّدون بالنهار كالبهائم لا يدرون فيم هم ولم ذلك لكن من ألقى السمع وهو شهيد يتنبه لوعظ الله تعالى ويصغي إليه لأن مر الليالي وكر النهار يناديان بلسان الحال الرحيل الرحيل من دار الغرور إلى دار القرار كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) [الفرقان : ٦٢] وذكر الإمام أن من الأشياء ما يحتاج في معرفته إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهم إذا سمع من ذلك المرشد ، ولما كان المنام والابتغاء قد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد فيحتاج معرفة أنهما من آياته تعالى إلى مرشد يعين الفكر قيل : (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) فكأنه قيل : لقوم يسمعون ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد انتهى ؛ ولعل الاحتياج إلى مرشد يعين الفكر في أن الليل والنهار من الآيات بناء على ما سمعت في بيان نكتة التوسيط أظهر فتأمل (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) ذهب أبو علي إلى أنه بتقدير أن المصدرية والأصل أن يريكم فحذف أن وارتفع الفعل وهو الشائع بعد الحذف في مثل ذلك ، وشذ بقاؤه منصوبا بعده وقد روي بالوجهين قول طرفة :

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

وجوز كونه مما نزل فيه الفعل منزلة المصدر فلا تقدر أن بل الفعل مستعمل في جزء معناه وهو الحدث مقطوع فيه النظر عن الزمان فيكون اسما في صورة الفعل فيريكم بمعنى الرؤية ، وحمل على ذلك في المشهور قولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، وجوز فيه أن يكون مما حذف فيه أن وأيد بأنه روي فيه تسمع بالنصب أيضا ولم يرتضه بعض الأجلة لأن المعنى ليس على الاستقبال ، وأما أن تراه فالاستقبال فيه بالنسبة إلى السماع فلا ينافيه ، ومثله قوله :

فقالوا ما تشاء فقلت ألهو

إلى الإصباح آثر ذي أثير

ورجح الحمل على التنزيل منزلة اللازم دلالة على أنه كالحال اهتماما بشأن المراد لقوله : آثر ذي أثير ، والتعليل بأن ما تشاء سؤال عما يشاءوه في الحال وأن للاستقبال ليس بالوجه لأن المشيئة تتعلق بالمستقبل أبدا ، وقال الجامع

٣٣

الأصفهاني : تقدير الآية ومن آياته آية يريكم البرق على أن (يُرِيكُمُ) صفة وحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه كما في قوله :

وما الدهر إلا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

أي فمنهما تارة أموت قيل فلا بد من راجع فقدر فيها أو بها ، ونص على الثاني الرماني كما في البحر وكلاهما لا يسد ـ كما في الكشف ـ عليه المعنى ، وقيل : التقدير ومن آياته البرق ثم استؤنف يريكم البرق ، وقيل : (مِنْ آياتِهِ) حال من البرق أي يريكم البرق حال كونه من آياته ، وجوز أبو حيان تعلقه يريكم و (مِنْ) لابتداء الغاية وفيه مخالفة لنظرائه.

وفي الكشف لعل الأوجه أن يكون من آياته خبر مبتدأ محذوف أي من آياته ما يذكر أو ما يتلى عليكم ثم قيل : (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) بيانا لذلك ثم قال : وهذا أقل تكلفا من الكل ، وأنت تعلم أن الأوجه ما توافق الآية به نظائرها.

(خَوْفاً) أي من الصواعق (وَطَمَعاً) في المطر قاله الضحاك ، وقال قتادة : خوفا للمسافر لأنه علامة المطر وهو يضره لعدم ما يكنه ولا نفع له فيه وطمعا للمقيم ، وقيل : خوفا أن يكون خلبا وطمعا أن يكون ماطرا وقال ابن سلام : خوفا من البرد أن يهلك الزرع وطمعا في المطر ، ونصبهما على العلة عند الزجاج ، وهو على مذهب من لا يشترط في نصب المفعول له اتحاد المصدر والفعل المعلل في الفاعل ظاهر ؛ وأما على مذهب الأكثرين المشترطين لذلك فقيل في توجيهه : إن ذلك على تقدير مضاف أي إرادة خوف وطمع أو على تأويل الخوف والطمع بالإخافة والأطماع إما بأن يجعل أصلهما ذلك على حذف الزوائد أو بأن يجعلا مجازين عن سببيهما.

وقيل : إن ذلك لأن إراءتهم تستلزم رؤيتهم فالمفعولون فاعلون في المعنى فكأنه قيل : لجعلكم رائين خوفا وطمعا.

واعترض بأن الخوف والطمع ليسا غرضين للرؤية ولا داعيين لها بل يتبعانها فكيف يكونان علة على فرض الاكتفاء بمثل ذلك عند المشترطين ، ووجه بأنه ليس المراد بالرؤية مجرد وقوع البصر بل الرؤية القصدية بالتوجه والالتفات فهو مثل قعدت عن الحرب جبنا ولم يرتض ذلك أبو حيان أيضا ثم قال : لو قيل على مذهب المشترطين أن التقدير يريكم البرق فترونه خوفا وطمعا فحذف العامل للدلالة عليه لكان إعرابا سائغا ، وقيل : لعل الأظهر نصبهما على العلة للإراءة لوجود المقارنة والاتحاد في الفاعل فإن الله تعالى هو خالق الخوف والطمع ، وكون معنى قول النحاة لا بد أن يكون المفعول له فعل الفاعل أنه لا بد من كونه متصفا به كالإكرام في قولك : جئتك إكراما لك أن سلم فلا حجر من الانتصاب على التشبيه في المقارنة والاتحاد المذكور.

وتعقب بأن كون المعنى ما ذكر مما لا شبهة فيه وقد ذكره صاحب الانتصاف وغيره فإن الفاعل اللغوي غير الفاعل الحقيقي فالتوقف فيه وادعاء أنه لا حجر من الانتصاب على التشبيه مما لا وجه له ، وأنا أميل إلى عدم اشتراط الاتحاد في الفاعل لكثرة النصب مع عدم الاتحاد كما يشهد بذلك التتبع والرجوع إلى شرح الكافية للرضى ، والتأويل مع الكثرة مما لا موجب له ، وجوز أن يكون النصب هنا على المصدر أي تخافون خوفا وتطمعون طمعا على أن تكون الجملة حالا ، وأولى منه أن يكونا نصبا على الحال أي خائفين وطامعين.

(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً) وقرأ غير واحد بالتخفيف (فَيُحْيِي بِهِ) أي بسبب الماء (الْأَرْضَ) بأن يخرج سبحانه به النبات (بَعْدَ مَوْتِها) يبسها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكونها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع جلّ شأنه وحكمته سبحانه ، وقال الطيبي : لما كان ما ذكر تمثيلا لإحياء

٣٤

الناس وإخراج الموتى وكان التمثيل لإدناء المتوهم المعقول وإراءة المتخيل في صورة المحقق ناسب أن تكون الفاصلة لقوم يعقلون. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ). أي بقوله تعالى قوما أو بإرادته عزوجل ، والتعبير عنها بالأمر للدلالة على كمال القدرة والغنى عن المبادئ والأسباب ، وليس المراد بإقامتهما إنشاءهما لأنه قد بين حاله بقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولا إقامتهما بغير مقيم محسوس كما قيل فإن ذلك من تتمات إنشائهما وإن لم يصرح به تعويلا على ما ذكر في موضع آخر من قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [لقمان : ١٠] الآية بل قيامهما وبقاؤهما على ما هما عليه إلى أجلهما الذي أشير إليه بقوله تعالى فيما قبل : (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) [الروم : ٨].

ولما كان البقاء مستقبلا باعتبار أواخره وما بعد نزول هذه الآية أظهرت هنا كلمة (أَنْ) التي هي علم في الاستقبال. والإمام ذهب إلى أن القيام بمعنى الوقوف وعدم النزول ثم قال على ما لخصه بعضهم : ذكرت (أَنْ) هاهنا دون قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) لأن القيام لما كان غير متغير أخرج الفعل ـ بأن ـ العلم في الاستقبال وجعل مصدرا ليدل على الثبوت ، وإراءة البرق لما كانت من الأمور المتجددة جيء بلفظ المستقبل ولم يذكر معه ما يدل على المصدر ا ه (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ إِذا) الأولى شرطية والثانية فجائية نائية مناسب الفاء في الجزاء لاشتراكهما في التعقيب. والجملة الشرطية قيل : معطوفة على (أَنْ تَقُومَ) على تأويل مفرد كأنه قيل : ومن آياته قيام السماء والأرض بأمره ثم خروجكم من قبوركم بسرعة إذا دعاكم ، وصاحب الكشف يقول : إنها أقيمت مقام المفرد من حيث المعنى وأما من حيث الصورة فهي جملة معطوفة على قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ) وذلك على أسلوب (مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] وفائدته ما سمعته قريبا ، وظاهر كلام بعض الأفاضل أن العطف عليه ظاهر في عدم قصد عد ما ذكر آية. واختار أبو السعود عليه الرحمة كون العطف من عطف الجمل وأن المذكور ليس من الآيات قال : حيث كانت آية قيام السماء والأرض بأمره تعالى متأخرة عن سائر الآيات المعدودة متصلة بالبعث في الوجود أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضا فقيل : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ) الآية ، والكلام مسوق للأخبار بوقوع البعث ووجوده بعد انقضاء أجل قيامهما مترتب على تعدد آياته تعدد آياته تعالى الدالة عليه غير منتظم في سلكها كما قيل كأنه قيل : ومن آياته قيام السماء والأرض على هيئتهما بأمره عزوجل إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامهما ثم إذا دعاكم أي بعد انقضاء الأجل في الأرض وأنتم في قبوركم دعوة واحدة بأن قال سبحانه : أيها الموتى أخرجوا فجأتم الخروج منها ، ولعل ما أشار إليه صاحب الكشف أدق وأبعد مغزى فتأمل ، (وَمِنَ الْأَرْضِ) متعلق بدعا و (مِنْ) لابتداء الغاية ويكفي في ذلك إذا كان الداعي هو الله تعالى نفسه لا الملك بأمره سبحانه كون المدعو فيها يقال دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي لا بدعوة فإنه إذا جاء نهر الله جلّ وعلا بطل نهر معقل. نعم جوز كون ذلك صفة لها وأن يكون حالا من الضمير المنصوب ولا يتخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها ، وقال ابن عطية : إن (مِنْ) عندي لانتهاء الغاية وأثبت ذلك سيبويه ، وقال أبو حيان : إنه قول مردود عند أصحابنا ، وظواهر الأخبار أن الموتى يدعون حقيقة للخروج من القبور ، وقيل : المراد تشبيه ترتب حصول الخروج على تعلق إرادته بلا توقف واحتياج إلى تجشم عمل بسرعة ترتب إجابة الداعي المطاع على دعائه ، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو تخييلية ومكنية بتشبيه الموتى بقوم يريدون الذهاب إلى محل ملك عظيم متهيئين لذلك وإثبات الدعوة لهم قرينتها أو هي تصريحية تبعية في قوله تعالى : (دَعاكُمْ) إلى آخرها ، وثم إما للتراخي الزماني أو للتراخي الرتبي ، والمراد عظم ما في المعطوف من إحياء الموتى في نفسه وبالنسبة إلى المعطوف عليه فلا ينافي قوله تعالى الآتي : (وَهُوَ

٣٥

أَهْوَنُ عَلَيْهِ) وكونه أعظم من قيام السماء والأرض لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء وبه استقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات وهو المقصود من خلق الأرض والسماوات ، فاندفع ما قاله ابن المنير من أن مرتبة المعطوف عليه هنا هي العليا مع إن كون المعطوف في مثله ارفع درجة أكثري لا كلي كما صرح به الطيبي فلا مانع من اعتبار التراخي الرتبي لو لم يكن المعطوف أرفع درجة ، ويجوز حمل التراخي على مطلق البعد الشامل للزماني والرتبي.

وقرأ السبعة ما عدا حمزة والكسائي «تخرجون» بضم التاء وفتح الراء ، وهذه الآية ذكر أنها مما تقرأ على المصاب ، أخرج ابن أبي حاتم عن الأزهر بن عبد الله الجرازي قال : يقرأ على المصاب إذا أخذ.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ(٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٤٠)

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) وذكر الإمام. وأبو حيان في وجه ترتيب الآيات وتذييل كل منهما بما ذيل كلاما طويلا أن احتجته فارجع إليه.

(وَلَهُ) عزوجل خاصة كل (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والثقلين خلقا وملكا وتصرفا ليس لغيره سبحانه شركة في ذلك بوجه من الوجوه (كُلٌّ لَهُ) لا لغيره جلّ وعلا (قانِتُونَ) منقادون لفعله لا يمتنعون عليه

٣٦

جلّ شأنه من الشئون وإن لم ينقد بعضهم لأمره سبحانه فالمراد طلعة الإرادة لا طاعة الأمر بالعبادة ، وهذا حاصل ما روي عن ابن عباس ، وقال الحسن : (قانِتُونَ) قائمون بالشهادة على وحدانيته تعالى كما قال الشاعر :

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

وقال ابن جبير : (قانِتُونَ) مخلصون ، وقيل : مقرون بالعبودية ، وعليهما ليس العموم على ظاهره (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد الموت ؛ والتكرير لزيادة التقرير لشدة إنكارهم البعث والتمهيد لما بعده من قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) الضمير المرفوع للإعادة وتذكيره لرعاية الخبر أو لأنها مؤولة بأن والفعل وهو في حكم المصدر المذكر أو لتأويلها بالبعث ونحوه ، وكونه راجعا إلى مصدر مفهوم من (يُعِيدُهُ) وهو لم يذكر بلفظ الإعادة لا يفيد على ما قيل لأنه اشتهر به فكأنه إذا فهم منه يلاحظ فيه خصوص لفظه والضمير المجرور لله تعالى شأنه ، و (أَهْوَنُ) للتفضيل أي والإعادة أسهل على الله تعالى من المبدأ ، والأسهلية على طريقة التمثيل بالنسبة لما يفعله البشر مما يقدرون عليه ، فإن إعادة شيء من مادته الأولى أهون عليهم من إيجاده ابتداء ، والمراد التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث وإلا فكل الممكنات بالنسبة إلى قدرته تعالى عزوجل سواء فكأنه قيل : وهو أهون عليه بالإضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم.

وذكر الزمخشري وجها آخر للتفضيل وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بد من فعله لأنها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب والأفعال أما محال والمحال ممتنع أصلا خارج عن المقدور ، وأما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح وهو رديف المحال لأن الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة ، وأما تفضل والتفضل حاله بين بين للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله ، وأما واجب لا بد من فعله ولا سبيل إلى الإخلال به فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الأفعال من الامتناع وإذا كانت أبعدها منه كانت أدخلها في التأتي والتسهل فكانت أهون منها وإذا كانت كذلك كانت أهون من الإنشاء ا ه. قال في التقريب : وفيه نظر لأنه مبني على الوجوب العقلي ولأن الوجوب إذا كان بالذات نافي القدرة كالامتناع وإلا كان ممكنا فتساوى الفعلان لاشتراكهما في مصحح المقدورية وهو الإمكان.

وتعقبه في الكشف بقوله أقول : أنه غير واجب بالذات ولا يلزم منه المساواة مع التفضل في سهولة التأتي وأما المساواة في مصحح المقدورية فلا مدخل لها فيما نحن فيه ، والحاصل منه أنه لو سلم منه أن الداعي إلى فعله أقوى فلا شك أنه أقرب إلى الوجود مما لا يكون الداعي كذلك. نعم إذا خلص الداعي إلى القسمين صارا سواء ، وليس البحث على ذلك التقدير ا ه.

والحق ما قاله أبو السعود من أنه ليس المراد بأهونية الفعل أقربيته إلى الوجود باعتبار كثرة الأمور الداعية للفاعل إلى إيجاده وقوة اقتضائها لتعلق قدرته به بل أسهلية تأتيه وصدوره عنه عند تعلق قدرته بوجوده وكونه واجبا بالغير ، ولا تفاوت في ذلك بين أن يكون ذلك التعلق بطريق الإيجاب أو بطريق الاختيار. وروى الزجاج عن أبي عبيدة وكثير من أهل اللغة أن (أَهْوَنُ) هاهنا بمعنى هين ، وروي ذلك عن ابن عباس ، والربيع ، وكذا هو في مصحف عبد الله ، وهذا كما يقال : الله تعالى أكبر أي كبير وأنت أوحد الناس أي واحدهم وإني لأوجل أي وجل. وفي الكشف التحقيق أنه من باب الزيادة المطلقة ، وإنما قيل بمعنى الهين لأنه يؤدي مؤداه ، وقيل : أفعل على ظاهره وضمير عليه عائد على الخلق على معنى أن الإعادة أيسر على المخلوق لأن البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن يصير إنسانا والإعادة لا

٣٧

تحتاج إلى التدريجات في الأطوار إنما يدعوه الله تعالى فيخرج* وأما على معنى أن الإعادة أسهل على المخلوق أي أن يعيدوا شيئا ويفعلوه ثانيا بعد ما زاولوا فعله وعرفوه أولا أسهل من أن يفعلوه أولا قبل المزاولة وإذا كان هذا حال المخلوق فما بالك بالخالق ، ولا يخفى أن الظاهر رجوع الضمير إليه تعالى ، ثم إن الجار والمجرور صلة (أَهْوَنُ) وقدمت الصلة في قوله تعالى : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) [مريم : ٩ ، ٢١] وأخرت هنا لأنه قصد هنالك الاختصاص وهو محزه فقيل (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) وإن كان صعبا عندكم أن يولد بين هم وعاقر وأما هاهنا فلا معنى للاختصاص كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى ، ولما أخبر سبحانه بأن الإعادة أهون عليه على طريق التمثيل عقب ذلك بقوله تعالى : (وَلَهُ) تعالى شأنه خاصة (الْمَثَلُ) أي الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة وسائر صفات الكمال (الْأَعْلى) الذي ليس لغيره ما يدانيه فضلا عما يساويه فكأنه قيل هذا لتفهيم العقول القاصرة إذ صفاته تعالى عجيبة وقدرته جلّ شأنه عامة وحكمته سبحانه تامة فكل شيء بدأ وإعادة وإيجادا وإعداما على حد سواء ولا مثل له تعالى ولا ند ، وعن قتادة ، ومجاهد أن (الْمَثَلُ الْأَعْلى) لا إله إلّا الله ، ولعلهما أرادا بذلك الوحدانية في ذاته تعالى وصفاته سبحانه ، والكلام عليه مرتبط بما قبله أيضا كأنه قيل : ما ذكر لتفهيم العقول القاصرة لأنه تعالى لا يشاركه أحد في ذاته تعالى وصفاته عزوجل ، وقيل : مرتبط بما بعده من قوله تعالى : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) وقال الزجاج : المثل قوله تعالى : (هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) قد ضربه الله تعالى مثلا فيما يسهل ويصعب عندكم وينقاس على أصولكم فاللام في المثل للعهد وهو محمول على ظاهره غير مستعار للوصف العجيب الشأن (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) متعلق بمضمون الجملة المتقدمة على معنى أنه سبحانه قد وصف بذلك وعرف به فيهما على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وقيل : بالأعلى ، وقيل : بمحذوف هو حال منه أو من (الْمَثَلُ) أو من ضميره في (الْأَعْلى) وقيل : متعلق بما تعلق به (لَهُ) أي له في السماوات والأرض المثل الأعلى ، والمراد أن دلالة خلقهما على عظيم القدرة أتم من دلالة الإنشاء فهو أدل على جواز الإعادة ولهذا جعل أعلى من الإنشاء فتأمل (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر الذي لا يعجز عن بدء ممكن وإعادته (الْحَكِيمُ) الذي يجري الأفعال على سنن الحكمة والمصلحة (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً) يتبين به بطلان الشرك (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي منتزعا من أحوالها التي هي أقرب الأمور إليكم وأعرفها عندكم وأظهرها دلالة على ما ذكر من بطلان الشرك لكونها بطريق الأولوية ، و (مِنْ) لابتداء الغاية وقوله تعالى : (هَلْ لَكُمْ) إلى آخره تصوير للمثل ، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي و (لَكُمْ) خبر مقدم وقوله تعالى : (مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) في موضع الحال من (شُرَكاءَ) بعد لأنه نعت نكرة تقدم عليها ؛ والعامل فيها كان في البحر هو العالم في الجار والمجرور الواقع خبرا و (مِنْ) للتبعيض و (ما) واقعة على النوع ، وقوله تعالى : (مِنْ شُرَكاءَ) مبتدأ و (مِنْ) مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من الاستفهام ، وقوله تعالى : (فِي ما رَزَقْناكُمْ) متعلق بشركاء أي هل شركاء فيما رزقناكم من الأموال وما يجري مجراها مما تنصرفون فيه كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم من نوع العبيد والإماء كائنون لكم.

وجوز أن يكون (لَكُمْ) متعلقا بشركاء ويكون (فِي ما رَزَقْناكُمْ) في موضع الخبر كما تقول : لزيد في المدينة مبغض فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ وفي المدينة الخبر أي هل شركاء لكم كائنون مما ملكته إيمانكم كائنون فيما رزقناكم ، وقوله تعالى : (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) جملة في موضع الجواب للاستفهام الإنكاري (وَفِيهِ) متعلق بسواء ، وفي الكلام محذوف معطوف على (أنتم) أي فأنتم وهم أي المماليك مستوون فيه لا فرق بينكم وبينهم في التصرف فيه ، وقيل : لا حذف و(أنتم) شامل للمماليك بطريق التغليب ، وقوله تعالى : (تَخافُونَهُمْ)

٣٨

خبر آخر لأنتم ، وقال أبو البقاء : حال من ضمير (أنتم) الفاعل في (سَواءٌ) وقوله تعالى : (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) في موضع الصفة لمصدر محذوف أي تخافونهم أن تستبدوا بالتصرف فيه بدون رأيهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من هو من نوعكم يعني الأحرار المساهمين لكم ، والمقصود نفي مضمون ما فصل من الجملة الاستفهامية أي لا ترضون بأن يشارككم فيما رزقناكم من الأموال ونحوها مماليككم وهم أمثالكم في البشرية غير مخلوقين لكم بل لله تعالى فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية التي هي من خصائصه تعالى الذاتية مخلوقه سبحانه بل مصنوع مخلوقه جلّ وعلا حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه.

وقرأ ابن أبي عبلة «أنفسكم» بالرفع على أن المصدر مضاف للمفعول و (أَنْفُسِكُمْ) فاعلة ، قال أبو حيان : وهو وجه حسن ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التفصيل الواضح (نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي نبينها ونوضحها لا تفصيلا أدنى منه فإن التمثيل تصوير للمعاني المعقولة بصورة المحسوس وإبراز لأوابد المدركات على هيئة المأنوس فيكون في غاية الإيضاح والبيان.

(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يستعملون عقولهم في تدبير الأمثال ، وقيل : في تدبير الأمور مطلقا ويدخل في ذلك الأمثال دخولا أوليا ، وخصهم بالذكر مع عموم تفصيل الآيات للكل لأنهم المنتفعون بها ، وذكر العرمة الطيبي أنه لما كان ضرب الأمثال لإدناء المتوهم إلى المعقول وإراءة المتخيل في صورة المحقق ناسب أن تكون الفاصلة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وهذه النكتة هنا أظهر منها فيما تقدم فتذكر.

وقرأ عباس عن أبي عمرو «يفصّل» بياء الغيبة رعيا لضرب إذ هو مسند لما يعود للغائب وقراءة الجمهور بالنون للحمل على (رَزَقْناكُمْ) وذكر بعض العلماء أن في هذه الآية دليلا على صحة أصل الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض كأنه قيل : الممتنع المستقبح شركة العبيد لساداتهم أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا تمتنع ولا تستقبح (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أعراض عن مخاطبتهم ومحاولة إرشادهم إلى الحق بضرب المثل وتفصيل الآيات واستعمال المقدمات الحقة المعقولة وبيان لاستحالة تبعيتهم للحق كأنه قيل : لم يعقلوا شيئا من الآيات المفصلة بل اتبعوا (أَهْواءَهُمْ) الزائغة ، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم في ذلك الاتباع ظالمون واضعون للشيء في غير موضعه أو ظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي جاهلين ببطلان ما أتوا منكبين عليه لا يصرفهم عنه صارف حسبما يصرف العالم إذا اتبع الباطل علمه ببطلانه (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي خلق فيه الضلال وجعله كاسبا له باختياره (وَما لَهُمْ) أي لمن أضله الله تعالى ، والجمع باعتبار المعنى (مِنْ ناصِرِينَ) يخلصونهم من الضلال ويحفظونهم من تبعاته وآفاته على معنى ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو المشهور في مقابلة الجمع بالجمع ، و (مَنْ) مزيدة لتأكيد النفي ، والكلام مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وتوطئة لأمره عليه الصلاة والسلام بقوله سبحانه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) قال العلامة الطيبي : إنه تعالى عقيب ما عدد الآيات البينات والشواهد الدالة على الوحدانية ونفي الشرك وإثبات القول بالمعاد وضرب سبحانه المثل وقال سبحانه : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أراد جلّ شأنه أن يسلي حبيبه صلوات الله تعالى وسلامه عليه ويوطنه على اليأس من إيمانهم فأضرب تعالى عن ذلك وقال سبحانه : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ) وجعل السبب في ذلك أنه عزوجل ما أراد هدايتهم وأنه مختوم على قلوبهم ولذلك رتب عليه قوله تعالى : (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) على التقريع والإنكار ثم ذيل سبحانه الكل بقوله تعالى : (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يعني إذا أراد الله تعالى منهم ذلك فلا مخلص لهم منه ولا أحد ينقذهم لا أنت ولا غيرك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فاهتم بخاصة نفسك ومن

٣٩

تبعك وأقم وجهك إلخ ا ه ، ومنه يعلم حال الفاء في قوله تعالى : (فَمَنْ) وكذا في قوله سبحانه : (فَأَقِمْ) وقدر النيسابوري للثانية إذا تبين الحق وظهرت الوحدانية فأقم إلخ ، ولعل ما أشار إليه الطيبي أولى ، ثم إنه يلوح من كلامه احتمال أن يكون الموصول قائما مقام ضمير (الَّذِينَ ظَلَمُوا) فتدبر.

و«أقم» من أقام العود ويقال قوم العود أيضا إذا عدله ، والمراد الأمر بالإقبال على دين الإسلام والاستقامة والثبات عليه والاهتمام بترتيب أسبابه على أن الكلام تمثيل لذلك فإن من اهتم بشيء محسوس بالبصر عقد إليه طرفة وسدد إليه نظره وأقبل عليه بوجه غير ملتفت عنه فكأنه قيل : فعدل وجهك للدين وأقبل عليه إقبالا كاملا غير ملتفت يمينا وشمالا ، وقال بعض الأجلة : إن إقامة الوجه للشيء كناية عن كمال الاهتمام به ، ولعله أراد بالكناية المجاز المتفرع على الكناية فإنه لا يشترط فيه إمكان إرادة المعنى الحقيقي ، ونصب (حَنِيفاً) على الحال من الضمير في (أقم) أو من الدين ، وجوز أبو حيان كونه حالا من الوجه ، وأصل الحنف الميل من الضلال إلى الاستقامة وضده الجنف بالجيم (فِطْرَتَ اللهِ) نصب على الإغراء أي الزموا فطرة الله تعالى ، ومن أجاز إضمار أسماء الأفعال جوز أن يقدر هنا عليكم اسم فعل ، وقال مكي : هو نصب بإضمار فعل أي اتبع فطرة الله ودل عليه قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) لأن معناه اتبع الدين ، واختاره الطيبي وقال : أنه أقرب في تأليف النظم لأنه موافق لقوله تعالى : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ) ولترتب قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) عليه بالفاء.

وجوز أن يكون نصبا بإضمار أعني وأن يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف دل عليه ما بعد أي فطركم فطرة الله ، ولا يصح عمل فطر المذكور بعد فيه لأنه من صفته ، وأن يكون منصوبا بما دل عليه الجملة السابقة على أنه مصدر مؤكد لنفسه. وأن يكون بدلا من (حَنِيفاً) والمتبادر إلى الذهن النصب على الإغراء ، وإضمار الفعل على خطاب الجماعة مع أن المتقدم (فَأَقِمْ) هو ما اختاره الزمخشري ليطابق قوله تعالى : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) وجعله حالا من ضمير الجماعة المسند إليه الفعل ، وجعل قوله تعالى : (وَ) اتقوا (وَأَقِيمُوا وَلا تَكُونُوا) معطوفا على ذلك الفعل.

وقال الطيبي : بعد ما اختار تقرير اتبع ورجحه بما سمعت : وأما قوله تعالى : (مُنِيبِينَ) فهو حال من الضمير في (أقم) وإنما جمع لأنه مردد على المعنى لأن الخطاب للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو خطاب لأمته فكأنه قيل : أقيموا وجوهكم منيبين.

وقال الفراء : أي أقم وجهك ومن تبعك كقوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) [هود: ١١٢] فلذلك قال سبحانه : (مُنِيبِينَ) وفي المرشد أن (مُنِيبِينَ) متعلق بمضمر أي كونوا منيبين لقوله تعالى بعد : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ا ه. ولا يخفى على المنصف حسن كلام الزمخشري ، وما أن ذكر من خطابه صلّى الله تعالى عليه وسلم خطاب الأمة يؤكد الدلالة وعلى ذلك المضمر لا أنه يجوز أن يكون (نِيبِينَ) حالا من الضمير في (أقم) وظاهر كلام الفراء يقتضي كون الحال من مذكور ومحذوف وهو قليل في الكلام ، وإضمار كونوا مع إضمار فعل ناصب لفطرة الله موجب لكثرة الإضمار ، وإضماره دون إضمار فيما قيل موجب لارتكاب خلاف المتبادر هناك ، والفطرة على ما قال ابن الأثير للحالة كالجلسة والركبة من الفطر بمعنى الابتداء والاختراع ، وفسرها الكثير هنا بقابلية الحق والتهيؤ لإدراكه ، وقالوا : معنى لزومها الجريان على موجبها وعدم الإخلال به باتباع الهوى وتسويل شياطين الأنس والجن ، ووصفها بقوله تعالى : (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) لتأكيد وجوب امتثال الأمر ، وعن عكرمة تفسيرها بدين الإسلام.

وفي الخبر ما يدل عليه ، أخرج ابن مردويه عن حماد بن عمر الصفار قال : سألت عن قتادة عن قوله تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) فقال : حدثني أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى الله

٤٠