روح المعاني - ج ١١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

مبالغة «الغيوب» بالجمع (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) أي لا يبعد ومنه روض عزيب بعيد من الناس.

وقرأ الكسائي بكسر الزاي (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) مقدار أصغر نملة (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي كائنة فيهما (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) أي مثقال ذرة (وَلا أَكْبَرُ) أي منه ، والكلام على حد (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) ورفعهما على الابتداء والخبر قوله تعالى : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) هو اللوح المحفوظ عند الأكثرين.

والجملة مؤكدة لنفي العزوب ، وقرأ الأعمش وقتادة وأبو عمرو ونافع في رواية عنهما (وَلا أَصْغَرُ وَلا أَكْبَرُ) بالنصب على أن (لا) لنفي الجنس عاملة عمل إن وما بعدها اسمها منصوب بها لأنه شبيه بالمضاف ولم ينون للوصف ووزن الفعل فليس ذلك نحو لا مانع لما أعطيت ، والخبر هو الخبر على قراءة الجمهور ، وقال أبو حيان : (لا) لنفي الجنس وهي وما بني معها مبتدأ على مذهب سيبويه والخبر (إِلَّا فِي كِتابٍ) وما ذكرناه في توجيه القراءتين هو الذي ذهب إليه كثير من الأجلة ، وقيل : إن ذلك معطوف في قراءة الرفع على (مِثْقالُ) وفي القراءة الأخرى على (ذَرَّةٍ) والفتحة فيه نيابة عن الكسرة للوصف والوزن وإليه ذهب أبو البقاء واستشكل بأنه يصير المعنى عليه إذا كان الاستثناء متصلا كما هو الأصل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين فإنه يعزب عنه فيه ، وفساده ظاهر ، والتزم السراج البلقيني على تقدير العطف المذكور أن يكون الاستثناء من محذوف والتقدير ولا شيء إلا في كتاب ثم قال : ولا بدع في حذف ما قدر لدلالة الكلام عليه ، ويحصل من مجموع ذلك إثبات العلم لله تعالى بكل معلوم وأن كل شيء مكتوب في الكتاب ، وقيل العطف على ما ذكر والاستثناء منقطع والمعنى لا يعزب عنه تعالى شيء من ذلك لكن هو في كتاب ، وقيل العطف على ذلك والكلام نهج قوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

فالمعنى إن كان يعزب عنه شيء فهو الذي في كتاب مبين لكن الذي في الكتاب لا يعزب عنه فلا يعزب عنه شيء ، وفيه من البعد ما فيه ، وقيل : إن المراد بقوله تعالى : (لا يَعْزُبُ) إلخ أنه تعالى عالم به والمراد بقوله سبحانه : (إِلَّا فِي كِتابٍ) نحو ذلك لأن الكتاب هو علم الله تعالى ، والمعنى وما يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا يعلمه ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في علمه فيكون نظير قوله : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ) [الأنعام : ٥٩] وفيه أنه أبعد مما قبله ، وقيل : يعزب بمعنى يظهر ويذهب والعطف على ما سمعت ، والمعنى لم يظهر شيء عن الله تعالى بعد خلقه له ألا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ ، وتلخيصه كل مخلوق مكتوب ، وفيه أن هذا المعنى ليعزب غير معروف وإنما المعروف ما تقدم ، نعم قال الصغاني في العباب قال : أبو سعيد الضرير يقال ليس لفلان امرأة تعزبه أي تذهب عزبته بالنكاح مثل قولك تمرضه أي تقوم عليه في مرضه ثم قال الصغاني : والتركيب يدل على تباعد وتنح فتفسيره بالظهور بعيد ولئن سلمنا قربه فلأي شيء جمع بين الظهور والذهاب ، وقيل إلا بمعنى الواو وهو مقدر في الكلام والكلام قد تم عند (أَكْبَرُ) كأنه قيل : لا يعزب عنه ذلك وهو في كتاب ، ومجيء إلا بمعنى الواو ذهب إليه الأخفش من البصريين والفراء من الكوفيين.

وخرج عليه قوم : (يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [النجم : ٣٢] و (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [هود : ١٠٧] وقد حكي هذا القول مكي في نظير الآية ثم قال : وهو قول حسن لو لا أن جميع البصريين لا يعرفون إلا بمعنى الواو كأنه لم يقف على قول الأخفش وهو من رؤساء نحاة البصرة أو لم يعتبره فلذا قال جميع البصريين ، وقد كثر الكلام في هذا الوجه وارتضاه السراج البلقيني وأنا لا أراه مرضيا وإن أوقد

٢٨١

له ألف سراج ، وقيل العطف على ما سمعت وضمير (عَنْهُ) للغيب فلا إشكال إذ المعنى حينئذ لا يبعد عن غيبه شيء إلا ما كان في اللوح لبروزه من الغيب إلى الشهادة واطلاع الملأ الأعلى عليه. وتعقب بأن المعنى لا يساعده لأن الأمر الغيبي إذا برز إلى الشهادة لم يعزب عنه بل بقي في الغيب على ما كان عليه مع بروزه ، ومعناه أن كونه في اللوح المحفوظ كناية عن كونه من جملة معلوماته تعالى وهي إما مغيبة وإما ظاهرة وكل مغيب سيظهر وإلا كان معدوما لا مغيبا وظهوره وقت ظهوره لا يرفع كونه مغيبا فلا يكون استثناء متصلا ، ألا ترى أنك لو قلت علم الساعة مغيب عن الناس إلا علمهم بها حين تقوم ويشاهدونها لم يكن هذا الاستثناء متصلا كذا قيل فتأمل ولا تغفل.

وأنت تعلم أن هذا الوجه على فرض عدم ورود ما ذكر عليه ضعيف لأن الظاهر الذي يقتضيه قوله تعالى: (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) الآية رجوع الضمير إلى الله عزوجل.

والذي ذهب إليه أبو حيان أن الكتاب ليس هو اللوح وليس الكلام إلا كناية عن ضبط الشيء والتحفظ به وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ) بكسر الراءين.

وخرج علي أنه نوى مضاف إليه والتقدير ولا أصغره ولا أكبره ، و (مِنْ ذلِكَ) ليس متعلقا بأفعل بل هو تبيين لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم لفظا فبين بقوله تعالى من ذلك أي أعني من ذلك ، ولا يخفى أنه توجيه شذوذ.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) متعلق بقوله سبحانه : (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) على أنه علة له وبيان لمقتضى إتيانها فهو من تتمة المقسم عليه ، فحاصل الكلام أن الحكمة تقتضي إثباتها والعلم البالغ المحيط بالغيب وجميع الجزئيات جليها وخفيها حاصل والقدرة المقتضية لإيجاد العالم وما فيه وجعله نعمة على ما مر فقد تم المقتضى وارتفع المانع فليس في الآية اكتفاء في الرد بمجرد اليمين ، واستظهر في البحر تعلقه بلا يعزب.

وذهب إليه أبو البقاء وتعقب بأن علمه تعالى ليس لأجل الجزاء ، وقيل متعلق بمتعلق (فِي كِتابٍ) وهو كما ترى.

(أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول من حيث اتصافه بما في حيز الصلة ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل والشرف أي أولئك الموصوفون بالإيمان وعمل الأعمال الصالحات (لَهُمْ) بسبب ذلك (مَغْفِرَةٌ) لما فرط منهم من بعض فرطات قلما يخلو عنها البشر (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) حسن لا تعب فيه ولا من عليه (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) بالقدح فيها وصيد الناس عن التصديق بها (مُعاجِزِينَ) أي مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا قاله قتادة ، وقال عكرمة : مراغمين ، وقال ابن زيد : مجاهدين في إبطالها.

وقرأ جمع «معجزين» مخففا ، وابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال مثقلا ، قال ابن الزبير : أي مثبطين عن الإيمان من أراده مدخلين عليه العجز في نشاطه ، وقيل معجزين قدرة الله عزوجل في زعمهم.

(أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر وفيه إشارة إلى بعد منزلتهم في الشر (لَهُمْ) بسبب ذلك (عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) أي من سيئ العذاب وأشده ، ومن للبيان (أَلِيمٌ) بالرفع صفة (عَذابٌ) وقرأ أكثر السبعة بالجر على أنه صفة مؤكدة لرجز بناء على ما سمعت من معناه ، وجعله بعضهم صفة مؤسسة له بناء على أن الرجز كما روي عن قتادة مطلق العذاب وجوز جعله صفة (عَذابٌ) أيضا والجر للمجاورة ، والظاهر أن الموصول مبتدأ والخبر جملة (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ) وجوز أن يكون في محل نصب عطفا على الموصول قبله أي ويجزي الذين سعوا وجملة (أُولئِكَ لَهُمْ) إلخ التي بعده مستأنفة والتي قبله معترضة. وفي البحر يحتمل على تقدير العطف على الموصول أن تكون الجملتان

٢٨٢

المصدرتان بأولئك هما نفس الثواب والعقاب ، ويحتمل أن يكونا مستأنفين والثواب والعقاب غير ما تضمنتا مما هو أعظم كرضا الله تعالى عن المؤمن دائما وسخطه على الكافر دائما ، وفيه أنه كيف يتأتى حمل ذلك على رضا الله تعالى وضده وقد صرح أولا بالمغفرة والرزق الكريم وفي مقابله بالعذاب الأليم وجعل الأول جزاء.

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي ويعلم أولو العلم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن يطأ أعقابهم من أمته عليه الصلاة والسلام أو من آمن من علماء أهل الكتاب كما روى عن قتادة كعبد الله بن سلام وكعب وأضرابهما رضي الله تعالى عنهم (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي القرآن (هُوَ الْحَقَ) بالنصب على أنه مفعول ثان ليرى والمفعول الأول هو الموصول الثاني و (هُوَ) ضمير الفصل.

وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على جعل الضمير مبتدأ وجعله خبرا والجملة في موضع المفعول الثاني ليرى وهي لغة تميم يجعلون ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ، وقوله تعالى : (وَيَرَى) إلخ ابتداء كلام غير معطوف على ما قبله مسوق للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات. وفي الكشف هو عطف على قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) على معنى وقال الجهلة : لا ساعة وعلم أولى العلم أنه الحق الذي نطق به المنزل إليك الحق. وتعقب بأنه تكلف بعيد فإن دلالة النظم الكريم على الاهتمام بشأن القرآن لا غير ، وقيل عليه : أنت خبير بأن ما قبله من قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) وقوله سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ) إلخ في شأن الساعة ومنكري الحشر فكيف يكون ما ذكر بعيدا بسلامة الأمير فذكر حقية القرآن بطريق الاستطراد والمقصود بالذات حقية ما نطق به من أمر الساعة ، وقال الطبري والثعلبي : إن (يَرَى) منصوب بفتحة مقدرة عطفا على يجزي أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة معاينة أنه الحق حسبما علموه قبل برهانا ويحتجوا به على المكذبين وعليه فقوله تعالى : (وَالَّذِينَ سَعَوْا) معطوف على الموصول الأول أو مبتدأ والجملة معترضة فلا يضر الفصل كما توهم ، وجوز أن يراد بأولى العلم من لم يؤمن من الأحبار أي ليعلموا يومئذ أنه هو الحق فيزدادوا حسرة وغما. وتعقب بأن وصفهم بأولى العلم يأباه لأنه صفة مادحة ولعل المجوز لا يسلم هذا ، نعم كون ذلك بعيدا لا ينكر لا سيما وظاهر المقابلة بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يقتضي الحمل على المؤمنين (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ) الذي يقهر ولا يقهر (الْحَمِيدِ) المحمود في جميع شئونه عزوجل ، والمراد بصراطه تعالى التوحيد والتقوى ، وفاعل يهدي إما ضمير (الَّذِي أُنْزِلَ) أو ضمير الله تعالى ففي (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) التفات ، والجملة على الأول إما مستأنفة أو في موضع الحال من (الَّذِي) على إضمار مبتدأ أي وهو يهدي كما في قوله :

نجوت وأرهنهم مالكا

أو معطوفة على (الْحَقَ) بتقدير وإنه يهدي وجوز أن يكون يهدي معطوفا على (الْحَقَ) عطف الفعل على الاسم لأنه في تأويله كما في قوله تعالى : (صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) [الملك : ١٩] أي قابضات وبعكسه قوله :

وألفيته يوما يبير عدوه

وبحر عطاء يستحق المعابرا

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هم كفار قريش قالوا مخاطبا بعضهم لبعض على جهة التعجب والاستهزاء (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) يعنون به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بذلك من باب التجاهل كأنهم لم يعرفوا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنه رجل وهو عليه الصلاة والسلام عندهم أظهر من الشمس :

وليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

٢٨٣

(يُنَبِّئُكُمْ) يحدثكم بأمر مستغرب عجيب. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ينبيكم» بإبدال الهمزة ياء محضة وحكي عنه «ينبئكم» بالهمز من أنبأ (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ (١) لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) إذا شرطية وجوابها محذوف لدلالة ما بعده عليه أي تبعثون أو تحشرون وهو العامل في إذا على قول الجمهور والجملة الشرطية بتمامها معمولة لينبئكم لأنه في معنى يقول لكم إذا مزقتم كل ممزق تبعثون ثم أكد ذلك بقوله تعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وجوز أن يكون «إنكم لفي خلق جديد» معمولا لينبئكم وهو معلق ولو لا اللام في خبر إن لكانت مفتوحة والجملة سدت مسد المفعولين والشرطية على هذا اعترض ، وقد منع قوم التعليق في باب أعلم والصحيح جوزه وعليه قوله :

حذار فقد نبئت أنك للذي

ستجزى بما تسعى فتسعد أو تشقى

وجوز أن تكون إذ المحض الظرفية فعاملها الذي دل عليه ما بعد يقدر مقدما أي تبعثون أو تحشرون إذا مزقتم ، ولا يجوز أن يكون العامل (نَدُلُّكُمْ) أو (يُنَبِّئُكُمْ) لعدم المقارنة ولا (مُزِّقْتُمْ) لأن إذا مضافة إليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. ولا خلق ولا جديد لأن إن لها الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها.

وقال الزجاج : إذا في موضع النصب بمزقتم وهي بمنزلة من الشرطية يعمل فيها الذي يليها ، وقال السجاوندي : العامل محذوف وما بعدها إنما يعمل فيها إذا كان مجزوما بها وهو مخصوص بالضرورة نحو. وإذا تصبك خصاصة فتجمل. فلا يخرج عليه القرآن فإذا لم تجزم كانت مضافة إلى ما بعدها والمضاف إليه لا يعمل في المضاف.

وقال أبو حيان : الصحيح أن العامل فيها فعل الشرط كسائر أدوات الشرط ، وتمام الكلام على ذلك في كتب النحو ، وممزق مصدر جاء على زنة اسم المفعول كمسرح في قوله :

ألم تعلم مسرّحي القوافي

فلا عيّا بهن ولا اجتلابا

وتمزيق الشيء تخريقه وجعله قطعا قطعا ومنه قوله :

إذا كنت مأكولا فكن خير آكل

وإلا فأدركني ولما أمزق

والمراد إذا متم وفرقت أجسادكم كل تفريق بحيث صرتم رفاتا وترابا ، ونصب (كُلَ) على المصدرية.

وجوز أن يكون اسم مكان فنصب كل على الظرفية لأن لها حكم ما تضاف إليه أي إذا فرقت أجسادكم في كل مكان من القبور وبطون الطير والسباع وما ذهبت به السيول كل مذهب وما نسفته الرياح فطرحته كل مطرح ، و (جَدِيدٍ) فعيل بمعنى فاعل عند البصريين من جد الشيء إذا صار جديدا وبمعنى مفعول عند الكوفيين من جده إذا قطعه ثم شاع في كل جديد وإن لم يكن مقطوعا كالبناء ، والسبب في الخلاف أنهم رأوا العرب لا يؤنثونه ويقولون ملحفة جديد لا جديدة فذهب الكوفيون إلى أنه بمعنى مفعول والبصريون إلى خلافه وقالوا ترك التأنيث لتأويله بشيء جديد أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول كذا قيل : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فيما ينسب إليه من أمر البعث (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه ، واستدل به أبو عمرو الجاحظ على ما ذهب إليه من أن صدق الخبر مطابقته للواقع مع الاعتقاد وكذبه عدمها معه وغيرهما ليس بصدق ولا كذب ، وذلك أن الكفار وهم عقلاء من أهل اللسان عارفون باللغة حصروا أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبعث في الافتراء والأخبار حال الجنة على سبيل منع الخلو بالمعنى الأعم ولا شك أن المراد بالثاني غير الكذب لأنه قسيمه وغير الصدق لأنهم اعتقدوا عدمه ، وأيضا لا دلالة لقولهم : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) على معنى أم صدق بوجه من الوجوه فيجب أن يكون بعض الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب ليكون ذلك منه بزعمهم وإن كان صادقا في نفس الأمر ، وتوضيحه أن ظاهر كلامهم هذا يدل على طلب تعيين أحد حالي النبي

٢٨٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم المستويين في اعتقاد المتكلم حين الإخبار بالبعث وهو يستلزم تعيين أحد حالي الخبر والاستفهام هاهنا للتقرير فيفيد ثبوت أحد الحالين للخبر ولا شك أن ثبوت أحدهما لا يثبت الواسطة ما لم يعتبر تنافيهما وكذا تنافيهما في الجمع لا يثبتها بل لا بدّ من تنافيهما في الارتفاع يعني أن خبره عليه الصلاة والسلام بالبعث لا يخلو عن أحد الأمرين المتنافيين فيكون المراد بالثاني ما هو مناف وقسيم للأول ومعلوم أنه غير الصدق فليس الصدق عبارة عن مطابقة الواقع فقط والكذب عن عدم المطابقة له كما يقول الجمهور أو عن مطابقة الاعتقاد له وعدم مطابقته له كما يقول النظام فيكونان عبارتين عن مطابقتهما وعدم مطابقتهما وتثبت الواسطة. وأجيب بأن معنى (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أم لم يفتر فعبر عن عدم الافتراء بالجنة لأن المجنون يلزمه أن لا افتراء له كما دل عليه نقل الأئمة واستعمال العرب الكذب عن عمد ولا عمد للمجنون فالثاني ليس قسيما للكذب بل لما هو أخص منه أعني الافتراء فيكون ذلك حصرا للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد ولو سلم أن الافتراء بمعنى الكذب مطلقا فالمعنى أقصد الافتراء أي الكذب أم لم يقصد بل كذب بلا قصد لما به من الجنة.

وقيل : المعنى افترى أم لم يفتر بل به جنون وكلام المجنون ليس بخبر لأنه لا قصد له يعتد به ولا شعور فيكون مرادهم حصره في كونه خبرا كاذبا أو ليس بخبر فلا يثبت خبر لا يكون صادقا ولا كاذبا ، ونوقش فيه كما لا يخفى على من راجع كتب المعاني. بقي هاهنا بحث وهو أن الطيبي أشار إلى أن مبنى الاستدلال كون (أَمْ) متصلة واعترضه بأن الظاهر كونها منقطعة أما لفظا فلاختلاف مدخول الهمزة وأم وأما معنى فلأن الكفرة المعاندين لما أخرجوا قولهم هل ندلكم على رجل ينبئكم مخرج الظن والسخرية متجاهلين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبكلامه من إثبات الحشر والنشر وعقبوه بقولهم (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أضربوا عنه إلى ما هو أبلغ منه ترقيا من الأهون إلى الأغلظ من نسبة الجنون إليه وحاشاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكأنهم قالوا : دعوا حديث الافتراء فإن هاهنا ما هو أطعم منه لأن العاقل كيف يحدث بإنشاء خلق جديد بعد الرفات والتراب ، ولما كان التعويل على ما بعد الاضراب من إثبات الجنون أوقع الاضراب الثاني في كلامه تعالى ردا لقولهم ونفيا للجنون عنه صلوات الله تعالى وسلامه عليه وإثباتا له فيهم إلى آخر ما قال ، ولم يرتض ذلك صاحب الكشف فقال في كلام الكشاف إشارة إلى أن أم متصلة : وفائدة العدول عن الفعل في جن إيماء إلى أن الثابت هو ذلك الشق كأنه قيل : أعن افتراء هذا الكذب العجاب أم جنون ، والتقابل لأن المجنون لا افتراء له فالاستدلال على الانقطاع بتخالف العديلين ساقط ، وأما الترقي من الاتصال أيضا على ما لوح إليه بوجه الطف ا ه.

وأنت تعلم أن ظاهر الاستدلال يقتضي الاتصال لكن قال الخفاجي : إن كون الاستدلال مبنيا على الاتصال غير مسلم فتأمل ، والظاهر أفترى على الله كذبا أم به جنة من قول بعضهم لبعض. وفي البحر يحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب لمن قال هل ندلكم ردد بين شيئين ولم يجزم بأحدهما لما في كل من الفظاعة.

(بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) إبطال من جهته تعالى لما قالوا بقسيميه وإثبات ما هو أشد وأفظع لهم ولذا وضع الذين لا يؤمنون موضع الضمير توبيخا لهم وإيماء إلى سبب الحكم بما بعده كأنه قيل : ليس الأمر كما زعموا بل هم في كمال اختلال العقل وغاية الضلال عن الفهم والإدراك الذي هو الجنون حقيقة وفيما يؤدي إليه ذلك من العذاب حيث أنكروا حكمة الله تعالى في خلق العالم وكذبوه عزوجل في وعده ووعيده وتعرضوا لسخطه سبحانه. وتقديم العذاب على ما يوجبه ويستتبعه للمسارعة إلى بيان ما يسوءهم ويفت في أعضادهم والأشعار بغاية سرعة ترتبه عليه كأنه يسابقه فيسبقه ، ووصف الضلال بالبعيد الذي هو وصف الضال للمبالغة لأن ضلالهم إذا كان بعيدا في نفسه فكيف بهم أنفسهم.

وقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ

٢٨٥

نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) قيل : هو استئناف مسوق لتذكيرهم بما يعاينون مما يدل على كمال قدرته عزوجل وتنبيههم على ما يحتمل أن يقع من الأمور الهائلة في ذلك إزاحة لاستحالتهم الإحياء حتى قالوا ما قالوا فيمن أخبرهم به وتهديدا على ما اجترءوا عليه ، والمعنى أعموا فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء والأرض ولم يتفكروا أنهم أشد خلقا أم هي وأنا إن نشأ نخسف بهم الأرض كما خسفناها بقارون أو نسقط عليهم كسفا أي قطعا من السماء كما أسقطنا على أصحاب الأيكة لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات وهو تفسير ملائم للمقام إلا أن ربط قوله تعالى إن نشأ إلخ بما قبله بالطريق الذي ذكره بعيد. وفي البحر أنه تعالى وقفهم في ذلك على قدرته الباهرة وحذرهم إحاطة السماء والأرض بهم وكأن ثم حالا محذوفة أي أفلا يرون إلى ما يحيط بهم من سماء وأرض مقهورا تحت قدرتنا نتصرف فيه كما نريد إن نشأ نخسف بهم الأرض إلخ أو فلم ينظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم محيطا بهم وهم مقهورون فيما بينه إن نشأ إلخ ولا يخلو عن شيء ، وقال العلامة أبو السعود : إن قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَرَوْا) إلخ استئناف مسوق لتهويل ما اجترءوا عليه من تكذيب آيات الله تعالى واستعظام ما قالوا في حقه عليه الصلاة والسلام وأنه من العظائم الموجبة لنزول أشد العقاب وحلول أفظع العذاب من غير ريث وتأخير ، وقوله تعالى : (إِنْ نَشَأْ) إلخ بيان لما ينبئ عنه ذكر إحاطتهما بهم من المحذور المتوقع من جهتهما وفيه تنبيه على أنه لم يبق من أسباب وقوعه إلا تعلق المشيئة به أي فعلوا ما فعلوا من المنكر الهائل المستتبع للعقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاط بهم من جميع جوانبهم بحيث لا مفر لهم عنه ولا محيص إن نشأ جريا على موجب جناياتهم نخسف إلخ ، ولا يخفى أن فيه بعدا وضعف ربط بالنسبة إلى ما سمعت أولا مع أن ما بعد ليس فيه كثير ملائمة لما قبله عليه ، ويخطر لي أن قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَرَوْا) مسوق لتذكيرهم بأظهر شيء لهم بحيث إنهم يعاينونه أينما التفتوا ولا يغيب عن أبصارهم حيثما ذهبوا يدل على كمال قدرته عزوجل إزاحة لما دعاهم إلى ذلك الاستهزاء والوقيعة بسيد الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام من زعمهم قصور قدرته تعالى عن البعث والإحياء ضرورة أن من قدر على خلق تلك الاجرام العظام لا يعجزه إعادة أجسام هي كلا شيء بالنسبة إلى تلك الإجرام كما قال سبحانه : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس : ٨١] وفيه من التنبيه على مزيد جهلهم المشار إليه بالضلال البعيد ما فيه ، وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر مما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض (لَآيَةً) أي لدلالة واضحة على كمال قدرة الله عزوجل وأنه لا يعجزه البعث بعد الموت وتفرق الأجزاء المحاطة بهما (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي راجع إلى ربه تعالى مطيع له جل شأنه لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله عزوجل والتفكر فيها كالتعليل لما يشعر به قوله سبحانه (أَفَلَمْ يَرَوْا) إلخ من الحث على الاستدلال بذلك على ما يزيح إنكارهم البعث وفيه تعريض بأنهم معرضون عن ربهم سبحانه غير مطيعين له جل وعلا وتخلص إلى ذكر المنيبين إليه تعالى على قول ، وقوله تعالى : (إِنْ نَشَأْ) كالاعتراض جيء به لتأكيد تقصيرهم والتنبيه على أنهم بلغوا فيه مبلغا يستحقون به في الدنيا فضلا عن الأخرى نزول أشد العقاب وحلول أفظع العذاب وأنه لم يبق من أسباب ذلك إلا تعلق المشيئة به إلا أنها لم تتعلق لحكمة ، وظني أنه حسن وتحتمل الآية غير ذلك والله تعالى أعلم بأسرار كتابه ، وقيل : إن ذلك إشارة إلى مصدر يروا وهو الرؤية وذكر لتأويله بالنظر والمراد به الفكر ، وقيل إشارة إلى ما تلي من الوحي الناطق بما ذكر. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وعيسى والأعمش وابن مصرف يشأ ويخسف ويسقط بالياء فيهن وأدغم الكسائي الفاء في الباء في يخسف بهم قال أبو علي : ولا يجوز ذلك لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم فيها وإن كانت الباء تدغم في الفاء نحو اضرب فلانا وهذا كما تدغم الباء في الميم نحو اضرب مالكا ولا تدغم الميم في الباء نحو اضمم بك لأن الباء انحطت عن الميم بفقد العنة التي فيها ، وقال الزمخشري : قرأ الكسائي «يخسف بهم» بالإدغام وليست

٢٨٦

بقوية ، وأنت تعلم أن القراءة سنة متبعة ويوجد فيها الفصيح والأفصح وذلك من تيسير الله تعالى القرآن للذكر وما أدغم الكسائي إلا عن سماع فلا التفات إلى قول أبي علي ولا الزمخشري (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) أي آتيناه لحسن إنابته وصحة توبته فضلا أي نعمة وإحسانا ، وقيل فضلا وزيادة على سائر الأنبياء المتقدمين عليه أو أنبياء بني إسرائيل أو على ما عدا نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه ما من فضيلة في أحد من الأنبياء عليهم‌السلام إلا وقد أوتي عليه الصلاة والسلام مثلها بالفعل أو تمكن منها فلم يختر إظهارها أو على الأنبياء مطلقا وقد يكون في المفضول ما ليس في غيره ، وقد انفرد عليه‌السلام بما ذكر هاهنا ، وقيل : أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن. وتعقب بأنه إن أريد أن كلا منها فضل لا يوجد في سائر الناس فعدم مثل ملكه وصوته محل شبهة وإن أريد المجموع من حيث هو نفيه أنه غير موجود في الأنبياء أيضا فلا وجه لتخصيصه بهذا الوجه. وأنا أرى الفضل لتفسير الفضل بالإحسان وتنكيره للتفخيم و (مِنَّا) أي بلا واسطة لتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية كما في قوله تعالى : و (آتَيْناهُ) ... (مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)(١) وتقديمه على المفعول الصريح للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن في النفس عند وروده فضل تمكن ، وذكر شئون داود وسليمان عليهما‌السلام هنا لمناسبة ذكر المنيب في قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) لآية لكل عبد منيب كما أشرنا إليه ، وقال أبو حيان : مناسبة قصتيهما عليهما‌السلام لما قبلها هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته في زعمهم فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره إذ طفحت ببعضه أخبارهم وأشعارهم ، وقيل : ذكر سبحانه نعمته عليهما احتجاجا على ما منح نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قيل : لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديما بكذا وكذا فلما فرغ التمثيل له عليه الصلاة والسّلام رجع التمثيل لهم بسبا وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) أي سبحي معه قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد ، وأخرجه ابن جرير عن أبي ميسرة إلا أنه قال : معناه ذلك بلغة الحبشة ، والظاهر أنه عربي من التأويب والمراد رجعي معه التسبيح وردديه ، وقال ابن عطية : إن أصل ماضيه آب وضعف للمبالغة. وتعقبه في البحر بقوله ويظهر أن التضعيف للتعدية لأن آب بمعنى رجع لازم صلته اللام فعدي بالتضعيف إذ شرحوه بقولهم رجعي معه التسبيح.

يروى أنه عليه‌السلام كان إذا سبح سبحت الجبال مثل تسبيحه بصوت يسمع منها ولا يعجز الله عزوجل أن يجعلها بحيث تسبح بصوت يسمع وقد سبح الحصى في كف نبينا عليه الصلاة والسّلام وسمع تسبيحه وكذا في كف أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، ولا يبعد على هذا أن يقال : إنه تعالى خلق فيها الفهم أولا فناداها كما ينادى أولو الفهم وأمرها ، وقال بعضهم : إنه سبحانه نزل الجبال منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئته تعالى غير ممتنع على إرادته سبحانه ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية حيث نادى الجبال وأمرها ، وقيل : المراد بتأويبها حملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها ، وفيه مع كونه خلاف المأثور أن (مَعَهُ) يأباه ، وأيضا لا اختصاص له عليه‌السلام بتأويب الجبال بهذا المعنى حتى يفضل به أو يكون معجزة له ، وقيل : كان عليه‌السلام ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تسعده بأصدائها. وفيه أن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما قام عليه البرهان ، والله تعالى نادى الجبال وأمرها أن تؤوب معه ، وأيضا أي اختصاص له عليه الصلاة والسّلام بذلك ولصوت كل أحد صدى عند الجبال ،

__________________

(١) نص الآية ٢٢ من سورة يوسف (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) ونص الآية ٦٥ من سورة الكهف (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً).

٢٨٧

وعن الحسن أن معنى (أَوِّبِي مَعَهُ) سيري معه أين سار ، والتأويب سير النهار كأن الإنسان يسير الليل ثم يرجع السير بالنهار أي يردده.

ومن ذلك قول تميم بن مقبل :

لحقنا بحي أوبوا السير بعد ما

دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح

وقول آخر :

يومان يوم مقامات وأندية

ويوم سير إلى الأعداء تأويب

وأورد عليه أن الجبال أوتاد الأرض ولم ينقل سيرها مع داود عليه‌السلام أو غيره ، وقيل : المعنى تصرفي معه على ما يتصرف فيه فكانت إذا سبح سبحت وإذا ناح ناحت وإذا قرأ الزبور قرأت. وتعقب بأنه لم يعرف التأويب بمعنى التصرف في لغة العرب ، وقيل : المعنى ارجعي إلى مراده فيما يريد من حفر واستنباط أعين واستخراج معدن ووضع طريق ، والجملة معمولة لقول مضمر أي قولنا يا جبال على أنه بدل من (فَضْلاً) بدل كل من كل أو بدل اشتمال أو قلنا يا جبال على أنه بدل من (آتَيْنا) وجوز كونه بدلا من (فَضْلاً) بناء على أنه يجوز إبدال الجملة من المفرد ، وجوز أبو حيان الاستئناف وليس بذاك.

وقرأ ابن عباس والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق «أوبي» بضم الهمزة وسكون الواو أمر من الأوب وهو الرجوع وفرق بينهما الراغب بأن الأوب لا يقال إلا في الحيوان الذي له إرادة والرجوع يقال فيه وفي غيره.

والمعنى على هذه القراءة عند الجمهور ارجعي معه في التسبيح وأمر الجبال كأمر الواحدة المؤنثة لأن جمع ما لا يعقل يجوز فيه ذلك ، ومنه يا خيل الله اركبي وكذا (مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٨] وقد جاء ذلك في جمع من يعقل من المؤنث قال الشاعر :

تركنا الخيل والنعم المفدى

وقلنا للنساء بها أقيمي

لكن هذا قليل (وَالطَّيْرَ) بالنصب وهو عند أبي عمرو بن العلاء بإضمار فعل تقديره وسخرنا له الطير وحكى أبو عبيدة عنه أن ذاك بالعطف على (فَضْلاً) ولا حاجة إلى الإضمار لأن إيتاءها إياه عليه‌السلام تسخيرها له ، وذكر الطيبي أن ذلك كقوله :

علفتها تبنا وماء باردا

وقال الكسائي : بالعطف أيضا إلا أنه قدر مضافا أي وتسبيح لطير ولا يحتاج إليه ، وقال سيبويه : الطير معطوف على محل (جِبالُ) نحو قوله :

ألا يا زيد والضحاك سيرا

بنصب الضحاك ، ومنعه بعض النحويين للزوم دخول يا على المنادى المعرف بال.

والمجيز يقول : رب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا ، وقال الزجاج : هو منصوب على أنه مفعول معه. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز لأن قبله (مَعَهُ) ولا يقتضي اثنين من المفعول معه إلا على البدل أو العطف فكما لا يجوز جاء زيد مع عمرو مع زينب إلا بالعطف كذلك هذا ، وقال الخفاجي : لا يأباه (مَعَهُ) سواء تعلق بأوبي على أنه ظرف لغو أو جعل حالا لأنهما معمولان متغايران إذ الظرف والحال غير المفعول معه وكل منها باب على حده وإنما الموهم

٢٨٨

لذلك لفظ المعية فما اعترض به أبو حيان غير متوجه وإن ظن كذلك ، وأقبح من الذنب الاعتذار حيث أجيب بأنه يجوز أن يقال حذفت واو العطف من قوله تعالى : (وَالطَّيْرَ) استثقالا لاجتماع الواوين أو اعتبر تعلق الثاني بعد تعلق الأول.

وقرأ السلمي وابن هرمز وأبو يحيى وأبو نوفل ويعقوب وابن أبي عبلة وجماعة من أهل المدينة وعاصم في رواية «والطير» بالرفع وخرج على أنه معطوف على (جِبالُ) باعتبار لفظه وحركته لعروضها تشبه حركة الإعراب ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ، وقيل معطوف على الضمير المستتر في (أَوِّبِي) وسوغ ذلك الفصل بالظرف ، وقيل : هو بتقدير ولتؤوب الطير نظير ما قيل في قوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة : ٣٥ ، الأعراف : ١٩].

وقيل : هو مرفوع بالابتداء والخبر محذوف أي والطير تؤوب (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) وجعلناه في يده كالشمع والعجين يصرفه كما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة قاله السدي وغيره ، وقيل : جعلناه بالنسبة إلى قوته التي آتيناها إياه لينا كالسمع بالنسبة إلى قوى سائر البشر (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أَنِ) مصدرية وهي على إسقاط حرف الجر أي ألنا له الحديد لعمل سابغات أو وأمرناه بعمل سابغات ، والأول أولى ، وأجاز الحوفي وغيره أن تكون مفسرة ولما كان شرط المفسرة أن يتقدمها معنى القول دون حروفه وألنّا ليس فيه ذلك قدر بعضهم قبلها فعلا محذوفا فيه معنى القول ليصح كونها مفسرة أي وأمرناه أن أعمل أي أي أعمل ، وأورد عليه أن حذف المفسر لم يعهد ، والسابغات الدروع وأصله صفة من السبوغ وهو التمام والكمال فغلب على الدروع كالأبطح قال الشاعر :

لا سابغات ولا جأواء باسلة

تقي المنون لدى استيفاء آجال

ويقال سوابغ أيضا كما في قوله :

عليها أسود ضاريات لبوسهم

سوابغ بيض لا تخرقها النبل

فلا حاجة إلى تقدير موصوف أي دروعا سابغات ، ولا يرد هذا نقصا على ما قيل إن الصفة ما لم تكن مختصة بالموصوف كحائض لا يحذف موصوفها. وقرئ «صابغات» بإبدال السين صادا لأجل الغين.

(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) السرد نسج في الأصل كما قال الراغب خرز ما يخشن ويغلظ قال الشماخ :

فظلت سراعا خيلنا في بيوتكم

كما تابعت سرد العنان الخوارز

واستعير لنظم الحديد وفي البحر هو اتباع الشيء بالشيء من جنسه ويقال للدرع مسرودة لأنه توبع فيها الحلق بالحلق قال الشاعر :

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السوابغ تبع

ولصانعها سراد وزراد بإبدال السين زايا ، وفسره هنا غير واحد بالنسج وقال : المعنى اقتصد في نسج الدروع بحيث تتناسب حلقها ، وابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق بالحلق أي اجعل حلقها على مقادير متناسبة ، وقال ابن زيد : لا تعملها صغيرة فتضعف فلا يقوى الدرع على الدفاع ولا كبيرة فينال صاحبها من خلالها ، وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس تفسيرها بالمسامير وروي ذلك عن قتادة ومجاهد أي قدر مساميرها فلا تعملها دقاقا ولا غلاظا أي اجعلها على مقدار معين دقة وغيرها مناسبة للثقب الذي هيئ لها في الحلقة فإنها إن كانت دقيقة اضطربت فيها فلم تمسك طرفيها وإن كانت غليظة خرقت طرف الحلقة الموضوعة فيه فلا تمسك أيضا ، ويبعد هذا أن إلانة الحديد له عليه‌السلام بحيث كان كالشمع والعجين يغني عن التسمير فإنه بعد جمع الحلق وإدخال بعضه في بعض يزال انفصال طرفي كل حلقة يمزج الطرفين كما يمزج طرفا حلقة من شمع أو عجين والاحكام بذلك أتم من الأحكام بالتسمير بل لا يبقى معه حاجة إلى التسمير أصلا فلعله إن صح مبني على أنه عليه

٢٨٩

السّلام كان يعمل الحلق من غير مزج لطرفي كل فيسمر للاحكام بعد إدخال بعضه في بعض ، ويظهر ذلك على التفسير الثاني لقوله تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) إذ غاية القوة كسر الحديد كما يريد من غير آلة دون وصل بعضه ببعض ، ولا يعارض ذلك ما نقل عن البقاعي أنه قال : أخبرنا بعض من رأى ما نسب إلى داود عليه‌السلام من الدروع أنه بغير مسامير فإنه نقل عن مجهول فلا يلتفت لمثله ، وقيل معنى (قَدِّرْ فِي السَّرْدِ) لا تصرف جميع أوقاتك فيه بل مقدار ما يحصل به القوت وأما الباقي فاصرفه إلى العبادة قيل وهو الأنسب بالأمر الآتي ، وحكي أنه عليه‌السلام أول من صنع الدرع حلقا وكانت قبل صفائح وروي ذلك عن قتادة.

وعن مقاتل أنه عليه‌السلام حين ملك على بني إسرائيل يخرج متنكرا فيسأل الناس عن حاله فعرض له ملك في صورة إنسان فسأله فقال : نعم العبد لو لا خلة فيه فقال وما هي؟ قال : يرزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده تمت فضائله فدعا الله تعالى أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه فعلمه صنعة الدروع وألان له الحديد فأثرى وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين وكان يفرغ من الدرع في بعض يوم أو في بعض ليل وثمنها ألف درهم.

وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال : كان داود عليه‌السلام يرفع في كل يوم درعا فيبيعها بستة آلاف درهم ألفان له ولأهله وأربعة آلاف يطعم بها بني إسرائيل الخبز الحواري ، وقيل : كان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله ويتصدق على الفقراء ، وفي مجمع البيان عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه عمل ثلاثمائة وستين درعا فباعها بثلاثمائة وستين ألف درهم فاستغنى عن بيت المال (وَاعْمَلُوا صالِحاً) خطاب لداود وآله عليهم‌السلام وهم وإن لم يجر لهم ذكر يفهمون على ما قال الخفاجي التزاما من ذكره ، وجوز أن يكون خطابا له عليه‌السلام خاصة على سبيل التعظيم ، وأيا ما كان فالظاهر أنه أمر بالعمل الصالح مطلقا ، وليس هو على الوجه الثاني أمرا بعمل الدروع خالية من عيب.

(إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فأجازيكم به وهو تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به على وجه الترغيب والترهيب (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي وسخرنا له الريح ، وقيل (لِسُلَيْمانَ) عطف على (لَهُ) في (أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) والريح عطف على (الْحَدِيدَ) وإلانة الريح عبارة عن تسخيرها.

وقرأ أبو بكر «الريح» بالرفع على أنه مبتدأ و«لسليمان» خبره والكلام على تقدير مضاف أي ولسليمان تسخير الريح ، وذهب غير واحد إلى أنه مبتدأ ومتعلق الجار كون خاص هو الخبر وليس هناك مضاف مقدر أي ولسليمان الريح مسخرة ، وعندي أن الجملة على القراءتين معطوفة على قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) إلخ عطف القصة على القصة ، وقال ابن الشيخ : العطف على القراءة الأولى على (أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) وكلتا الجملتين فعلية وعلى القراءة الثانية العطف على اسمية مقدرة دلت عليها تلك الجملة الفعلية لا عليها للتخالف فكأنه قيل : ما ذكرنا لداود ولسليمان الريح فإنها كانت له كالمملوك المختص بالمالك يأمرها بما يريد ويسير عليها حيثما يشاء ، ثم قال : وإنما لم يقل ومع سليمان الريح لأن حركتها ليست بحركة سليمان بل هي تتحرك بنفسها وتحرك سليمان وجنوده بحركتها وتسير بهم حيث شاء وهذا على خلاف تأويب الجبال فإنه كان تبعا لتأويب داود عليه‌السلام فلذا جيء هناك بمعه.

وقرأ الحسن وأبو حيوة وخالد بن إلياس «الرياح» بالرفع جمعا (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك ، والجملة أما مستأنفة أو حال من (الرِّيحَ) ولا بدّ من تقدير مضاف في الخبر لأن الغدو والرواح ليس نفس الشهر وإنما يكونان فيه ، ولا حاجة إلى تقدير في المبتدأ كما فعل مكي حيث قال : أي مسير غدوها مسيرة شهر ومسير رواحها كذلك لما لا يخفى ، وقال ابن الحاجب في أماليه الفائدة في إعادة لفظ الشهر

٢٩٠

الأعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح والألفاظ التي تأتي مبينة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار ألا ترى أنك تقول زنة هذا مثقال وزنة هذا مثقال فلا يحسن الإضمار كما لا يحسن في التمييز ، وأيضا فإنه لو أضمر فالضمير إنما يكون لما تقدم باعتبار خصوصيته فإذا لم يكن له بذلك الاعتبار وجب العدول إلى الظاهر ، ألا ترى أنك إذا أكرمت رجلا وكسوت ذلك الرجل بخصوصه لكانت العبارة أكرمت رجلا وكسوته ولو أكرمت رجلا وكسوت رجلا آخر لكانت العبارة أكرمت رجلا وكسوت رجلا فتبين أنه ليس من وضع الظاهر موضع الضمير كذا في حواشي الطيبي عليه الرحمة ، ولا يخفى أن ما ذكره مبني على ما هو الغالب وإلا فقد قال تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) [فاطر : ١١] ولم يقتصر على الإعلام بزمن الغدو ليقاس عليه زمن الرواح لأن الريح كثيرا ما تسكن أو تضعف حركتها بالعشي فدفع بالتنصيص على بيان زمن الرواح توهم اختلاف الزمانين ، قال قتادة كانت الريح تقطع به عليه‌السلام في الغدو إلى الزوال مسيرة شهر وفي الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر.

وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أنه قال في الآية كان سليمان عليه‌السلام يغدو من بيت المقدس فيقيل بإصطخر ثم يروح من إصطخر فيقيل بقلعة خراسان.

وقد ذكر حديث هذه الريح في بعض الأشعار القديمة قال وهب : ونقله عنه في البحر وجدت أبياتا منقورة في صخرة بأرض كسكر لبعض أصحاب سليمان عليه‌السلام وهي :

ونحن ولا حول سوى حول ربنا

نروح من الأوطان من أرض تدمر

إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا

مسيرة شهر والغدو لآخر

أناس شروا لله طوعا نفوسهم

بنصر ابن داود النبي المطهر

لهم في معالي الدين فضل ورفعة

وإن نسبوا يوما فمن خير معشر

متى تركب الريح المطيعة أسرعت

مبادرة عن شهرها لم تقصر

تظلم طير صفوف عليهم

متى رفرفت من فوقهم لم تنفر

وذكر أيضا رضي الله تعالى عنه أنه عليه‌السلام كان مستقره تدمر وأن الجن قد بنتها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأشقر وقال : وفيه يقول النابغة :

ألا سليمان إذ قال الإله له

قم في البرية فاصددها عن الفند

وجيش الجن إني قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصفاح والعمد

انتهى ، وما ذكره في تدمر هو المشهور عند العامة وقد ذكر ذلك الثعالبي في تفسيره مع الأبيات المذكورة لكن في القاموس تدمر كتنصر بنت حسان بن أذينة بها سميت مدينتها وهو ظاهر في المخالفة ، ولعل التعويل على ما فيه إن لم يمكن الجمع والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

وقرأ ابن أبي عبلة «غدوتها» «وروحتها» على وزن فعلة وهي المرة الواحدة غدا وراح (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي النحاس الذائب من قطر يقطر قطرا وقطرانا بسكون الطاء وفتحها ، وقيل الفلزات النحاس والحديد وغيرهما ، وعلى الأول جمهور اللغويين ، وأريد بعين القطر معدن النحاس ولكنه سبحانه أساله كما ألان الحديد لداود فنبع كما ينبع الماء من العين فلذلك سمي عين القطر باسم ما آل إليه ، وذكر الجلبي أن نسبة الإسالة إلى العين مجازية كما في جري النهر.

وقال الخفاجي : إن كانت العين هنا بمعنى الماء المعين أي الجاري وإضافتها كما في لجين الماء فلا تجوز في

٢٩١

النسبة وإنما هو من مجاز الأول على أن العين منبع الماء ولا حاجة إليه ا ه فتأمل.

وقال بعضهم : القطر النحاس وعين بمعنى ذات ومعنى أسلنا أذبنا فالمعنى أذبنا له النحاس على نحو ما كان الحديد يلين لداود عليه‌السلام فكانت الأعمال تتأتى منه وهو بارد دون نار ولم يلن ولا ذاب لأحد قبله والظاهر المؤيد بالآثار أنه تعالى جعله في معدنه عينا تسيل كعيون الماء.

أخرج ابن المنذر عن عكرمة أنه قال في الآية : أسأل الله تعالى له القطر ثلاثة أيام يسيل كما يسيل الماء قيل : إلى أين؟ قال : لا أدري. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : سيلت له عين من نحاس ثلاثة أيام ، وفي البحر عن ابن عباس والسدي ومجاهد قالوا ، أجريت له عليه‌السلام ثلاثة أيام بلياليهن وكانت بأرض اليمن ، وفي رواية عن مجاهد أن النحاس سال من صنعاء وقيل : كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام.

(وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) يحتمل أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف هو خبر مقدم و (مِنَ) في محل رفع مبتدأ ويحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا مقدما من (مِنَ) وهي في محل نصب عطف على (الرِّيحَ) وجوز أن يكون (مِنَ الْجِنِ) عطفا على الريح على أن من للتبعيض و (مَنْ يَعْمَلُ) بدل منه وهو تكلف و (يَعْمَلُ) إما منزل منزلة اللازم أو مفعوله مقدر يفسره ما سيأتي إن شاء الله تعالى ليكون تفصيلا بعد الإجمال وهو أوقع في النفس (بِإِذْنِ رَبِّهِ) بأمره عزوجل (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) أي ومن يعدل منهم عما أمرناه به من طاعة سليمان عليه‌السلام. وقرئ «يزغ» بضم الياء من أزاغ مبنيا للفاعل ومفعوله محذوف أي من يمل ويصرف نفسه أو غيره ، وقيل مبنيا للمفعول فلا يحتاج إلى تقدير مفعول (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي عذاب النار في الآخرة كما قال أكثر المفسرين وروي ذلك عن ابن عباس ، وقال بعضهم : المراد تعذيبه في الدنيا.

روي عن السدي أنه عليه‌السلام كان معه ملك بيده سوط من نار كل ما استعصى عليه جني ضربه من حيث لا يراه الجني.

وفي بعض الروايات أنه كان يحرق من يخالفه ، واحتراق الجني مع أنه مخلوق من النار غير منكر فإنه عندنا ليس نارا محضة وإنما النار أغلب العناصر فيه.

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤) لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤) لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ

٢٩٢

(١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢٤)

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) جمع محراب وهو كما قال عطية القصر ، وسمي باسم صاحبه لأنه يحارب غيره في حمايته ، فإن المحراب في الأصل من صيغ المبالغة اسم لمن يكثر الحرب وليس منقولا من اسم الآلة وإن جوزه بعضهم ، ولابن حيوس :

جمع الشجاعة والخشوع لربه

ما أحسن المحراب في محرابه

ويطلق على المكان المعروف الذي يقف بحذائه الإمام ، وهو مما أحدث في المساجد ولم يكن في الصدر الأول كما قال السيوطي وألف في ذلك رسالة ولذا كره الفقهاء الوقوف في داخله.

وقال ابن زيد : المحاريب المساكر ، وقيل ما يصعد إليه بالدرج كالغرف ، وقال مجاهد : هي المساجد سميت باسم بعضها تجوزا على ما قيل ، وهو مبني على أن المحراب اسم لحجرة في المسجد يعبد الله تعالى فيها أو لموقف الإمام.

وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة تفسيرها بالقصور والمساجد معا ، وجملة (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ) استئناف لتفصيل ما ذكر من عملهم ، وجوز كونها حالا وهو كما ترى (وَتَماثِيلَ) قال الضحاك : كانت صور حيوانات ، وقال الزمخشري : صور الملائكة والأنبياء والصلحاء كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم وكان اتخاذ الصور في ذلك الشرع جائزا كما قال في الآية اتخذ سليمان عليه‌السلام تماثيل من نحاس فقال يا رب انفخ فيها الروح فإنها أقوى على الخدمة فينفخ الله تعالى فيها الروح فكانت تخدمه وإسفنديار من بقاياهم ، وهذا من العجب العجاب ولا ينبغي اعتقاد صحته وما هو إلا حديث خرافة ، وأما ما روي من أنهم عملوا له عليه‌السلام أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما فأمر غير مستبعد فإن ذلك يكون بآلات تتحرك عند الصعود وعند القعود فتحرك الذراعين والأجنحة ، وقد انتهت صنائع البشر إلى مثل ذلك في الغرابة ، وقيل : التماثيل طلسمات فتعمل تمثالا للتمساح أو للذباب أو للبعوض فلا يتجاوزه الممثل به ما دام في ذلك المكان ، وقد اشتهر عمل نحو ذلك عن الفلاسفة وهو مما لا يتم عندهم إلا بواسطة بعض الأوضاع الفلكية ، وعلى الباب الشهيرة بباب الطلسم من أبواب بغداد تمثال حية يزعمون أنه لمنع الحيات عن الإيذاء داخل بغداد ونحن قد شاهدنا مرارا أناسا لسعتهم الحيات فمنهم من لم يتأذ ومنهم من تأذى يسيرا ولم نشاهد موت أحد من ذلك وقلما يسلم من لسعته خارج بغداد لكن لا نعتقد أن لذلك التمثال مدخلا فيما ذكر ونظن أن ذاك لضعف الصنف الموجود في بغداد من الحيات وقلة شره بالطبيعة ، وقيل كانت التماثيل صور شجر أو حيوانات

٢٩٣

محذوفة الرءوس مما جوز في شرعنا ، ولا يحتاج إلى التزام ذلك إذا صح فيه نقل فإن الحق أن حرمة تصوير الحيوان كاملا لم تكن في ذلك الشرع وإنما هي في شرعنا ولا فرق عندنا بين أن تكون الصورة ذات ظل وأن لا تكون كذلك كصورة الفرس المنقوشة على كاغد أو جدار مثلا.

وحكى مكي في الهداية أن قوما أجازوا التصوير وحكاه النحاس أيضا وكذا ابن الفرس واحتجوا بهذه الآية ، وأنت تعلم أنه ورد في شرعنا من تشديد الوعيد على المصورين ما ورد فلا يلتفت إلى هذا القول ولا يصح الاحتجاج بالآية ، وكأنه إنما حرمت التماثيل لأنه بمرور الزمان اتخذها الجهلة مما يعبد وظنوا وضعها في المعابد لذلك فشاعت عبادة الأصنام أو سدا لباب التشبه بمتخذي الأصنام بالكلية (وَجِفانٍ) جمع جفنة وهي ما يوضع فيها الطعام مطلقا كما ذكره غير واحد ، وقال بعض اللغويين : الجفنة أعظم القصاع ويليها القصعة وهي ما تشبع العشرة ويليها الصحفة وهي ما تشبع الخمسة ويليها المئكلة وهي ما تشبع الاثنين والثلاثة ويليها الصحيفة وهي ما تشبع الواحد ، وعليه فالمراد هنا المطلق لظاهر قوله تعالى : (كَالْجَوابِ) أي كالحياض العظام جمع جابية من الجباية أي الجمع فهي في الأصل مجاز في الطرف أو النسبة لأنها يجبي إليها لا جابية ثم غلبت على الإناء المخصوص غلبة الدابة في ذوات الأربع ، وجاء تشبيه الجفنة بالجابية في كلامهم من ذلك قول الأعشى :

نفي الذم عن آل المحلق جفنة

كجابية السيح العراقي تفهق

وقول الأفوه الأودي :

وقدور كالربى راسيه

وجفان كالجوابي مترعه

وذكر في سعة جفان سليمان عليه‌السلام أنها كان على الواحدة منها ألف رجل. وقرئ «كالجوابي» بياء وهو الأصل وحذفها للاجتزاء بالكسرة وإجراء أل مجرى ما عاقبها وهو التنوين فكما يحذف مع التنوين يحذف مع ما عاقبه (وَقُدُورٍ) جمع قدر وهو ما يطبخ فيه من فخار أو غيره وهو على شكل مخصوص (راسِياتٍ) ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها قاله قتادة ، وقيل : كانت عظيمة كالجبال وقدمت المحاريب على التماثيل لأن الصور توضع في المحاريب أو تنقش على جدرانها ، وقدمت الجفان على القدور مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل والطبخ قبل الأكل لأنه لما ذكرت الأبنية الملكية ناسب أن يشار إلى عظمة السماط الذي يمد فيها فذكرت الجفان أولا لأنها تكون فيها بخلاف القدور فإنها لا تحضر هناك كما ينبئ عنه قوله تعالى : (راسِياتٍ) على ما سمعت أولا ، وكأنه لما بين حال الجفان اشتاق الذهن إلى حال القدور فذكرت للمناسبة.

(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) بتقدير القول على الاستئناف أو الحالية من فاعل (سخرنا) المقدر وآل منادى حذف منه حرف النداء و (شُكْراً) نصب على أنه مفعول له ، وفيه إشارة إلى أن العمل حقه أن يكون للشكر لا للرجاء والخوف أو على أنه مفعول مطلق لاعملوا لأن الشكر نوع من العمل فهو كقعدت القرفصاء ، وقيل : لتضمين (اعْمَلُوا) معنى اشكروا ، وقيل : لا شكروا محذوفا أو على أنه حال بتأويل اسم الفاعل أي اعملوا شاكرين لأن الشكر يعم القلب والجوارح أو على أنه صفة لمصدر محذوف أي اعملوا عملا شكرا أو على أنه مفعول به لا عملوا فالكلام كقولك عملت الطاعة ، وقيل : إن اعملوا أقيم مقام اشكروا مشاكلة لقوله سبحانه يعملون.

وقال ابن الحاجب : إنه جعل مفعولا به تجوزا. وأيا ما كان فقد روى ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال : لما قيل لهم اعملوا آل داود شكرا ، لم يأت ساعة على القوم إلا ومنهم قائم يصلي ، وفي رواية

٢٩٤

كان مصلى آل داود لم يخل من قائم يصلي ليلا ونهارا وكانوا يتناوبونه وكان سليمان عليه‌السلام يأكل خبز الشعير ويطعم أهله خشادته ، والمساكين الدرمك وهو الدقيق الحواري وما شبع قط ، وقيل : له في ذلك فقال : أخاف إذا شبعت أن أنسى الجياع ، وجوز بعض الأفاضل دخول داود عليه‌السلام في الآل هنا لأن آل الرجل قد يعمه.

ويؤيده ما أخرجه أحمد في الزهد : وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان عن المغيرة بن عتيبة قال : قال داود عليه‌السلام يا رب هل بات أحد من خلقك أطول ذكرا مني فأوحى الله تعالى إليه الضفدع وأنزل سبحانه عليه عليه‌السلام (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) فقال داود عليه‌السلام كيف أطيق شكرك وأنت الذي تنعم عليّ ثم ترزقني على النعمة الشكر فالنعمة منك والشكر منك فكيف أطيق شكرك؟ فقال جل وعلا : يا داود الآن عرفتني حق معرفتي.

وجاء في رواية ابن أبي حاتم عن الفضيل أنه عليه‌السلام قال يا رب : كيف أشكرك والشكر نعمة منك؟ قال سبحانه : الآن شكرتني حين علمت النعم مني ، وكذا ما أخرجه الفريابي : وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قال داود لسليمان عليهما‌السلام : قد ذكر الله تعالى الشكر فاكفني قيام النار أكفك قيام الليل قال : لا أستطيع قال : فأكفني صلاة النهار فكفاه (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) قال ابن عباس : هو الذي يشكر على أحواله كلها ، وفي الكشاف هو المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعترافا واعتقادا وكدحا وأكثر أوقاته ، وقال السدي هو من يشكر على الشكر ، وقيل : من يرى عجزه عن الشكر لأن توفيقه للشكر نعمة يستدعي شكرا آخر لا إلى نهاية ، وقد نظم هذا بعضهم فقال :

إذا كان شكري نعمة الله نعمة

علي له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله

وإن طالت الأيام واتسع العمر

إذا مس بالنعماء عم سرورها

وإن مس بالضراء أعقبها الأجر

وقد سمعت آنفا ما روي عن داود عليه‌السلام ، وهذه الجملة يحتمل أن تكون داخلة في خطاب آل داود وهو الظاهر وأن تكون جملة مستقلة جيء بها إخبارا لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيها تنبيه وتحريض على الشكر.

وقرأ حمزة «عبادي» بسكون الياء وفتحها الباقون (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) قيل أي أوقعنا على سليمان الموت حاكمين به عليه ، وفي مجمع البيان أي حكمنا عليه بالموت ، وقيل : أوجبناه عليه ، وفي البحر أي أنفذنا عليه ما قضينا عليه في الأزل من الموت وأخرجناه إلى حيز الوجود ، وفيه تكلف ، وأيا ما كان فليس المراد بالقضاء أخا القدر فتدبر ، ولما شرطية ما بعدها شرطها وجوابها قوله تعالى : (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا (١) دَابَّةُ الْأَرْضِ) واستدل بذلك على حرفيتها وفيه نظر ، وضمير (دَلَّهُمْ) عائد على الجن الذين كانوا يعملون له عليه‌السلام ، وقيل : عائد على آل سليمان ، ويأباه بحسب الظاهر قوله تعالى بعد (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) والمراد بدابة الأرض الأرضة بفتحات وهي دويبة تأكل الخشب ونحوه وتسمى سرفة بضم السين وإسكان الراء المهملة وبالفاء ، وفي حياة الحيوان عن ابن السكيت إنها دويبة سوداء الرأس وسائرها أحمر تتخذ لنفسها بيتا مربعا من دقاق العيدان تضم بعضها إلى بعض بلعابها ثم تدخل فيه وتموت ، وفي المثل أصنع من سرفة وسماها في البحر بسوسة الخشب ، والأرض على ما ذهب إليه أبو حاتم وجماعة مصدر أرضت الدابة الخشب تأرضه إذا أكلته من باب ضرب يضرب فإضافة (دَابَّةُ) إليه من إضافة الشيء إلى فعله ، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس والعباس بن الفضل (الْأَرْضِ) بفتح الراء لأنه مصدر أرض من باب علم المطاوع لأرض من باب ضرب يقال أرضت الدابة الخشب بالفتح فأرض بالكسر كما يقال أكلت القوادح الأسنان أكلا فأكلت أكلا فالأرض بالسكون الأكل والأرض بالفتح التأثر من ذلك الفعل.

٢٩٥

وقد يفسر الأول بالتأثر الذي هو الحاصل بالمصدر لتتوافق القراءتان ، وقيل الأرض بالفتح جمع أرضة وإضافة (دَابَّةُ) إليه من إضافة العام إلى الخاص ، وقيل : إن الأرض بالسكون بمعناها المعروف وإضافة (دَابَّةُ) إليها قيل لأن فعلها في الأكثر فيها ، وقيل لأنها تؤثر في الخشب ونحوه كما تؤثر الأرض فيه إذا دفن فيها وقيل غير ذلك والأولى التفسير الأول وإن لم تجىء الأرض في القرآن بذلك المعنى في غير هذا الموضع ، وقوله تعالى: (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) في موضع الحال من (دَابَّةُ) أي آكلة منسأته والمنسأة العصا من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها أو من نسأته إذا أخرته ومنه النسيء ، ويظهر من هذا أنها العصا الكبيرة التي تكون مع الراعي وأضرابه.

وقرأ نافع وابن عامر وجماعة «منساته» بألف وأصله منسأته فأبدلت الهمزة ألفا بدلا غير قياسي.

وقال أبو عمرو : أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقا فإن كانت مما لا تهمز فقد احتطت وإن كانت مما تهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز ، ولعله بيان لوجه اختيار القراءة بدون همزة وبالهمز جاءت في قول الشاعر :

ضربت بمنسأة وجهه

فصار بذاك مهينا ذليلا

وبدونه في قوله :

إذا دببت على المنساة من هرم

فقد تباعد منك اللهو والغزل

وقرأ ابن ذكوان وبكار والوليد بن أبي عتبة وابن مسلم وآخرون «منسأته» بهمزة ساكنة وهو من تسكين المتحرك تخفيفا وليس بقياس ، وضعف النحاة هذه القراءة لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل تاء التأنيث ساكنا غير ألف ، وقيل : قياسها التخفيف بين بين والراوي لم يضبط ، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهدا على السكون في هذه القراءة قول الراجز :

صريع خمر قام من وكأته

كقومة الشيخ إلى منسأته

وقرئ بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبا وحذفا و«منساءته» بالمد على وزن مفعالة كما يقال في الميضأة وهي آلة التوضؤ وتطلق على محله أيضا ميضاءة ، وقرئ «منسيته» بإبدال الهمزة ياء. وقرأت فرقة منهم عمرو بن ثابت عن ابن جبير «من» مفصولة حرف جر «ساته» بجر التاء وهي طرف العصا وأصلها ما انعطف من طرفي القوس ويقال فيه سية أيضا استعيرت لما ذكر إما استعارة اصطلاحية لأنها كانت خضراء فاعوجت بالاتكاء عليها على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى في القصة أو لغوية باستعمال المقيد في المطلق ، وبما ذكر علم رد ما قاله البطليوسي بعد ما نقل هذه القراءة عن القراء أنه تعجرف لا يجوز أن يستعمل في كتاب الله عزوجل ولم يأت به رواية ولا سماع ومع ذلك هو غير موافق لقصة سليمان عليه‌السلام لأنه لم يكن معتمدا على قوس وإنما كان معتمدا على عصا. وقرئ «أكلت منسأته» بصيغة الماضي فالجملة إما حال أيضا بتقدير قد أو بدونه وإما استئناف بياني.

(فَلَمَّا خَرَّ) أي سقط (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) أي علمت بعد التباس أمر سليمان من حياته ومماته عليهم (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته زمن وقوعه فلم يلبثوا بعده حولا في الأعمال الشاقة إلى أن خر ، والمراد بالجن الذين علموا ذلك ضعفاء الجن وبالذين نفي عنهم علم الغيب رؤساؤهم وكبارهم على ما روي عن قتادة ، وجوز عليه أن يراد بالأمر الملتبس عليهم أمر علم الغيب أو المراد بالجن الجنس بأن يسند للكل ما للبعض أو المراد كبارهم المدعون علم الغيب أي علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم وأنهم لا يعلمون الغيب ، وهم وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم لكن أريد التهكم بهم كما تقول

٢٩٦

للمبطل إذا دحضت حجته هل تبينت أنك مبطل. وأنت تعلم أنه لم يزل كذلك متبينا.

وجوز أن يكون تبين بمعنى بأن وظهر فهو وغير متعد لمفعول كما في الوجه الأول فإن مفعوله فيه (أَنْ لَوْ كانُوا) إلخ وهو في هذا الوجه بدل من (الْجِنُ) بدل اشتمال نحو تبين زيد جهله ، والظهور في الحقيقة مسند إليه أي فلما خر بأن للناس وظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب ، ولا حاجة على ما قرر إلى اعتبار مضاف مقدر هو فاعل تبين في الحقيقة إلا أنه بعد حذفه أقيم المضاف إليه مقامه وأسند إليه الفعل ثم جعل (أَنْ لَوْ كانُوا) إلخ بدلا منه بدل كل من كل والأصل تبين أمر الجن أن لو كانوا إلخ ، وجعل بعضهم في قوله تعالى (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) إلخ قياسا طويت كبراه فكأنه قيل لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين لكنهم لبثوا في العذاب المهين فهم لا يعلمون الغيب ، ومجيء تبين بمعنى بأن وظهر لازما وبمعنى أدرك وعلم متعديا موجود في كلام العرب قال الشاعر :

تبين لي أن القماءة ذلة

وأن أعزاء الرجال طيالها

وقال الآخر :

أفاطم إني ميت فتبيني

ولا تجزعي كل الأنام تموت

وفي البحر نقلا عن ابن عطية قال : ذهب سيبويه إلى أن (أَنْ) لا موضع لها من الأعراب وإنما هي منزلة منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين ، لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم ـ فما لبثوا ـ جواب القسم لا جواب لو ا ه فتأمله فإني لا أكاد أتعقله وجها يلتفت إليه.

وفي أمالي العز بن عبد السّلام أن الجن ليس فاعل (تَبَيَّنَتِ) بل هو مبتدأ و (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) خبره والجملة مفسرة لضمير الشأن في (تَبَيَّنَتِ) إذ لو لا ذلك لكان معنى الكلام لما مات سليمان وخر ظهر لهم أنهم لا يعلمون الغيب وعلمهم بعدم علمهم الغيب لا يتوقف على هذا بل المعنى تبينت القصة ما هي والقصة قوله تعالى : (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) ا ه ، والعجب من صدور مثله عن مثله ، وما جعله مانعا عن فاعلية (الْجِنُ) مدفوع بما سمعت في تفسير الآية كما لا يخفى ، وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه قرئ «تبينت الجن» بالنصب على أن تبينت بمعنى علمت والفاعل ضمير الإنس والجن مفعوله ، وقرأ ابن عباس فيما ذكر ابن خالويه ويعقوب بخلاف عنه «تبيّنت» مبنيا للمفعول ، وقرأ أبي «تبينت الإنس» وعن الضحاك «تباينت الإنس» بمعنى تعارفت وتعالمت والضمير في (كانُوا) للجن المذكور فيما سبق وقرأ ابن مسعود «تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب» وهي قراءات مخالفة لسواد المصحف مخالفة كثيرة وفي القصة روايات فروي أنه كان من عادة سليمان عليه‌السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله تعالى فيسألها لأي شيء أنت؟ فتقول : لكذا حتى أصبح ذات يوم فرأى الخرنوبة فسألها فقالت نبت لخراب هذا المسجد فقال : ما كان الله تعالى ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له واتخذ منها عصا وقال : اللهم عم على الجن موتى حتى يعلم أنهم لا يعلمون الغيب كما يموهون وقال لملك الموت : إذا أمرت بي فاعلمني فقال : أمرت بك وقد بقي من عمرك ساعة فدعا الجن فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب فقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها وكانت الجن تجتمع حول محرابه أينما صلى فلم يكن جني ينظر إليه في صلاته إلا احترق فمر جني فلم يسمع صوته ثم رجع فلم يسمع فنظر إذا سليمان قد خر ميتا ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة فأرادوا أن يعرفوا وقت موته

٢٩٧

فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقدارا فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حيا فتبين أنهم لو كانوا يعلمون الغيب لما لبثوا في العذاب سنة ، ولا يخفى أن هذا من باب التخمين والاقتصار على الأقل وإلا فيجوز أن تكون الأرضة بدت بالأكل بعد موته بزمان كثير وأنها كانت تأكل أحيانا وتترك أحيانا.

وأما كون بدئها في حياته فبعيد ، وكونه بالوحي إلى نبي في ذلك الزمان كما قيل فواه لأنه لو كان كذلك لم يحتاجوا إلى وضع الأرضة على العصا ليستعلموا المدة ، وروي أن داود عليه‌السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه‌السلام فمات قبل أن يتمه فوصى به إلى سليمان فأمر الجن بإتمامه فلما بقي من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه ولتبطل دعواهم علم الغيب ، وهذا بظاهره مخالف لما روي أن إبراهيم عليه‌السلام هو الذي أسس بيت المقدس بعد الكعبة بأربعين سنة ثم خرب وأعاده داود ومات قبل أن يتمه ، وأيضا إن موسى عليه‌السلام لم يدخل بيت المقدس بل مات في التيه ، وجاء في الحديث الصحيح أنه عليه‌السلام سأل ربه عند وفاته أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر ، وأيضا قد روي أن سليمان قد فرغ من بناء المسجد وتعبد فيه وتجهز بعده للحج شكرا لله تعالى على ذلك. وأجيب عن الأول بأن المراد تجديد التأسيس ، وعن الثاني بأن المراد بفسطاط موسى فسطاطه المتوارث وكانوا يضربونه يتعبدون فيه تبركا لا أنه كان يضرب هنالك في زمنه عليه‌السلام ، ويحتاج هذا إلى نقل فإن مثله لا يقال بالرأي فإن كان فأهلا ومرحبا ، وقيل المراد به مجمع العبادة على دين موسى كما وقع في الحديث فسطاط إيمان.

وقال القرطبي في التذكرة : المراد به فرقة منحازة عن غيرها ، مجتمعة تشبيها بالخيمة ، ولا يخفى ما فيهما وإن قيل إنهما أظهر من الأول ، وعن الثالث بأن المراد بالفراغ القرب من الفراغ وما قارب الشيء له حكمه وفيه بعد واختير أن هذا رواية وذاك رواية والله تعالى أعلم بالصحيح منهما. وروي أنه عليه‌السلام قد أمر ببناء صرح له فبنوه فدخله مختليا ليصفو له يوم في الدهر من الكدر فدخل عليه شاب فقال : له كيف دخلت عليّ بلا إذن؟ فقال : إنما دخلت بإذن فقال : ومن أذن لك؟ قال : رب هذا الصرح فعلم أنه ملك الموت أتى لقبض روحه فقال : سبحان الله هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفا فقال له : طلبت ما لم يخلق فاستوثق من الاتكاء على عصاه فقبض روحه وخفي على الجن موته حتى سقط ، وروي أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعده أن يدنو منه ، ولذا لم تقربه الجن وخفي أمر موته عليهم.

ونظر فيه بأن سليمان كان بعد موسى بمدة مديدة وأفريدون كان قبله لأن منوجهر من أسباط أفريدون وظهر موسى عليه في زمانه ، وعلى جميع الروايات الدالة على موته عليه‌السلام خروره لما كسرت العصا لضعفها بأكل الأرضة منها ، ونسبة الدلالة في الآية إليها نسبة إلى السبب البعيد.

ومن الغريب ما نقل عن ابن عباس أنه عليه‌السلام مات في متعبده على فراشه ، وقد أغلق الباب على نفسه فأكلت الأرضة المنسأة أي عتبة الباب فلما خر أي الباب علم موته فإن فيه جعل ضمير (خَرَّ) للباب وإليه ذهب بعضهم ، وفيه أنه لم يعهد تسمية العتبة منسأة ، وأيضا كان اللازم عليه خرت بتاء التأنيث ولا يجيء حذفها في مثل ذلك إلا في ضرورة الشعر ، وكون التذكير على معنى العود بعيد فالظاهر عدم صحة الرواية عن الحبر والله تعالى أعلم.

وحكى البغوي عنه أن الجن شكروا الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب وهذا شيء لا أقول به ولا أعتقد صحة الرواية أيضا ، وكان عمره عليه‌السلام ثلاثا وخمسين سنة وملك بعد أبيه وعمره ثلاثة عشر سنة وابتدأ

٢٩٨

في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه ثم مضى وانقضى وسبحان من لا ينقضي ملكه ولا يزول سلطانه ، وفي الآية دليل على أن الغيب لا يختص بالأمور المستقبلة بل يشمل الأمور الواقعة التي هي غائبة عن الشخص أيضا (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) لما ذكر عزوجل حال الشاكرين لنعمه المنيبين إليه تعالى ذكر حال الكافرين بالنعمة المعرضين عنه جل شأنه موعظة لقريش وتحذيرا لمن كفر بالنعم وأعرض عن المنعم ، وسبأ في الأصل اسم رجل وهو سبأ بن يشجب بالشين المعجمة والجيم كينصر بن يعرب بن قحطان ، وفي بعض الأخبار عن فروة بن مسيك قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله أخبرني عن سبأ أرجل هو أم امرأة؟ فقال : هو رجل من العرب ولد عشرة تيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة فأما الذين تيامنوا فالأزد وكندة ومذحج والأشعريون وأنمار ومنهم بجيلة وأما الذين تشاءموا فعاملة وغسان ولخم وجذام ، وفي شرح قصيدة عبد المجيد بن عبدون لعبد الملك بن عبد الله بن بدرون الحضرمي البستي أن سبأ بن يشجب أول ملوك اليمن في قول واسمه عبد شمس وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبى السبي من ولد قحطان وكان ملكه أربعمائة وأربعا وثمانين سنة ثم سمي به الحي ، ومنع الصرف عنه ابن كثير وأبو عمرو باعتبار جعله اسما للقبيلة ففيه العلمية والتأنيث ، وقرأ قنبل بإسكان الهمزة على نية الوقف ، وعن ابن كثير قلب همزته ألفا ولعله سكنها أولا بنية الوقف كقنبل ثم قلبها ألفا والهمزة إذا سكنت يطرد قلبها من جنس حركة ما قبلها ، وقيل : لعله أخرجها بين بين فلم يؤده الراوي كما وجب ، والمراد بسبإ هنا إما الحي أو القبيلة وإما الرجل الذي سمعت وعليه فالكلام على تقدير مضاف أي لقد كان في أولاد سبأ ، وجوز أن يراد به البلد وقد شاع إطلاقه عليه وحينئذ فالضمير في قوله تعالى : (فِي مَسْكَنِهِمْ) لأهلها أولها مرادا بها الحي على سبيل الاستخدام والأمر فيه على ما تقدم ظاهر ، والمسكين اسم مكان أي في محل سكناهم وهو كالدار يطلق على المأوى للجميع وإن كان قطرا واسعا كما تسمى الدنيا دارا ، وقال أبو حيان : ينبغي أن يحمل على المصدر أي في سكناهم لأن كل أحد له مسكن وقد أفرد في هذه القراءة وجعل المفرد بمعنى الجمع كما في قوله :

كلوا في بعض بطنكم تعفوا

وقوله :

قد عض أعناقهم جلد الجواميس

يختص بالضرورة عند سيبويه انتهى.

وبما ذكرنا لا تبقى حاجة إليه كما لا يخفى ، واسم ذلك المكان مأرب كمنزل وهي من بلاد اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ، وقرأ الكسائي والأعمش وعلقمة «مسكنهم» بكسر الكاف على خلاف القياس كمسجد ومطلع لأن ما ضمت عين مضارعه أو فتحت قياس المفعل منه زمانا ومكانا ومصدرا الفتح لا غير ، وقال أبو الحسن كسر الكاف لغة فاشية وهي لغة الناس اليوم والفتح لغة الحجاز وهي اليوم قليلة ، وقال الفراء : هي لغة يمانية فصيحة.

وقرأ الجمهور «مساكنهم» جمعا أي في مواضع سكناهم (آيَةٌ) أي علامة دالة بملاحظة أخواتها السابقة واللاحقة على وجود الصانع المختار وأنه سبحانه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة مجاز للمحسن والمسيء وهي اسم كان وقوله تعالى : (جَنَّتانِ) بدل منها على ما أشار إليه الفراء وصرح به مكي وغيره ، وقال الزجاج : خبر مبتدأ محذوف أي هي جنتان ولا يشترط في البدل المطابقة إفرادا وغيره وكذا الخبر إذا كان غير مشتق ولم يمنع المعنى من اتحاده مع المبتدأ ، ولعل وجه توحيد الآية هنا مثله في قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥٠] ولا حاجة إلى اعتبار مضاف مفرد محذوف هو البدل أو الخبر في الحقيقة أي قصة جنتين ، وذهب ابن عطية بعد أن

٢٩٩

ضعف وجه البدلية ولم يذكر الجهة إلى أن (جَنَّتانِ) مبتدأ خبره قوله تعالى : (عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) ولا يظهر لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها إلا أن اعتقد أن ثم صفة محذوفة أي جنتان لهم أو جنتان عظيمتان وعلى تقدير ذلك يبقى الكلام متلفتا عما قبله. وقرأ ابن أبي عبلة «جنتين» بالنصب على المدح ، وقال أبو حيان : على أن آية اسم كان و«جنتين» الخبر وأيا ما كان فالمراد بالجنتين على ما روي عن قتادة جماعتان من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وجماعة عن شماله وإطلاق الجنة على كل جماعة لأنها التقارب أفرادها وتضامها كأنها جنة واحدة كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، وقيل : أريد بستانا كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كما قال سبحانه : (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ) [الكهف : ٣٢] قيل : ولم تجمع لئلا يلزم أن لكل مسكن رجل جنة واحدة لمقابلة الجمع بالجمع ، ورد بأن قوله تعالى : (عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) يدفع ذلك لأنه بالنظر إلى كل مسكن إلا أنها لو جمعت أو هم أن لكل مسكن جنات عن يمين وجنات عن شمال هذا لا محذور فيه إلا أن يدعى أنه مخالف للواقع ثم أنه قيل إن في فيما سبق بمعنى عند فإن المساكن محفوفة بالجنتين لا ظرف لهما ، وقيل : لا حاجة إلى هذا فإن القريب من الشيء قد يجعل فيه مبالغة في شدة القرب ولكل جهة لكن أنت تعلم أنه إذا أريد بالمساكن أو المسكن ما يصلح أن يكون ظرفا لبلدهم المحفوفة بالجنتين أو لمحل كل منهم المحفوفة بهما لم يحتج إلى التأويل أصلا فلا تغفل (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) جملة مستأنفة بتقدير قول أي قال لهم نبيهم كلوا إلخ ، وفي مجمع البيان قيل : إن مساكنهم كانت ثلاثة عشر قرية في كل قرية نبي يدعوهم إلى الله عزوجل يقول كلوا من رزق ربكم إلخ ، وقيل : ليس هناك قول حقيقة وإنما هو قول بلسان الحال (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور فرطات من يشكره ، والجملة استئناف للتصريح بموجب الشكر ، ومعنى طيبة زكية مستلذة.

يروى أنها كانت لطيفة الهواء حسنة التربة لا تحدث فيها عاهة ولا يكون فيها هامة حتى أن الغريب إذا حلها وفي ثيابه قمل أو براغيث ماتت ، وقيل : المراد بطيبها صحة هوائها وعذوبة مائها ووفور نزهتها وأنه ليس فيها حر يؤذي في الصيف ولا برد يؤذي في الشتاء ، وقرأ رويس بنصب «بلدة» وجميع ما بعدها وذلك على المدح والوصفية.

وقال أحمد بن يحيى : بتقدير اسكنوا بلدة طيبة واعبدوا ربا غفورا ومن الاتفاقات النادرة إن لفظ بلدة طيبة بحساب الجمل واعتبار هاء التأنيث بأربعمائة كما ذهب إليه كثير من الأدباء وقع تاريخا لفتح القسطنطينية وكانت نزهة بلاد الروم (فَأَعْرَضُوا) أي عن الشكر كما يقتضيه المقام ويدخل فيه الأعراض عن الإيمان لأنه أعظم الكفر والكفران ، وقال أبو حيان : أعرضوا عما جاء به إليهم أنبياؤهم الثلاثة عشر حيث دعوهم إلى الله تعالى وذكروهم نعمه سبحانه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله نعمة (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) أي الصعب من عرم الرجل مثلث الراء فهو عارم وعرم إذا شرس خلقه وصعب ، وفي معناه ما جاء في رواية عن ابن عباس من تفسيره بالشديد ، وإضافة السيل إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة ، ومن أباها من النحاة قال التقدير سيل الأمر العرم.

وقيل : العرم المطر الشديد والإضافة على ظاهرها ، وقيل : هو اسم للجرذ الذي نقب عليهم سدهم فصار سببا لتسلط السيل عليهم وهو الفار الأعمى الذي يقال له الخلد وإضافة السيل إليه لأدنى ملابسة ، وقال ابن جبير : العرم المسناة بلسان الحبشة ، وقال الأخفش ، هو بهذا المعنى عربي ، وقال المغيرة بن حكيم وأبو ميسرة : العرم في لغة اليمن جمع عرمة وهي كل ما بني أو سنم ليمسك الماء ويقال لذلك البناء بلغة الحجاز المسناة ، والإضافة كما في سابقه والملابسة في هذا أقوى ، وعن ابن عباس وقتادة والضحاك ومقاتل هو اسم الوادي الذي كان يأتي السيل منه وبني السد فيه ، ووجه إضافة السيل إليه ظاهر ، وقرأ عزرة بن الورد فيما حكى ابن خالويه «العرم» بإسكان الراء تخفيفا كقولهم في

٣٠٠