روح المعاني - ج ١١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

ذهب إليه المحققون وأميل إليه ما قاله مالك وسفيان واختاره غير واحد من الفقهاء والمتكلمين أنه يجب تخصيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر الأنبياء بالصلاة والتسليم كما يختص الله سبحانه عند ذكره بالتقديس والتنزيه ويذكر من سواهم بالغفران والرضا كما قال تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة : ١٠٠] (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) [الحشر : ١٠] وأيضا فهو أمر لم يكن معروفا في الصدر الأول وإنما أحدثه الرافضة في بعض الأئمة والتشبه بأهل البدع منهى عنه فتجب مخالفتهم انتهى. ولا يخفى أن كراهة التشبه بأهل البدع مقررة عندنا أيضا لكن لا مطلقا بل في المذموم وفيما قصد به التشبه بهم فلا تغفل. وجاء عن عمر بن عبد العزيز بسند حسن أو صحيح أنه كتب لعامله إن ناسا من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على حلفائهم ومواليهم عدل صلاتهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا جاءك كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين خاصة ودعاؤهم للمسلمين عامة ويدعوا ما سوى ذلك.

وصح عن ابن عباس أنه قال : لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد إلا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي رواية عنه ما أعلم الصلاة تنبغي على أحد من أحد إلا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار ، وكلاهما يحتمل الكراهة والحرمة. واستدل المانعون بأن لفظ الصلاة صار شعارا لعظم الأنبياء وتوقيرهم فلا تقال لغيرهم استقلالا وإن صح كما لا يقال محمد عزوجل وإن كان عليه الصلاة والسلام عزيزا جليلا لأن هذا الثناء صار شعارا لله تعالى فلا يشارك فيه غيره. وأجابوا عما مر بأنه صدر من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام. ولهما أن يخصا من شاءا بما شاءا وليس ذلك لغيرهما إلا بإذنهما ولم يثبت عنهما إذن في ذلك. ومن ثم قال أبو اليمن ابن عساكر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلي على غيره مطلقا لأنه حقه ومنصبه فله التصرف فيه كيف شاء بخلاف أمته إذ ليس لهم أن يؤثروا غيره بما هو له لكن نازع فيه صاحب المعتمد من الشافعية بأنه لا دليل على الخصوصية. وحمل البيهقي القول بالمنع على ما إذا جعل ذلك تعظيما وتحية وبالجواز عليها إذا كان دعاء وتبركا ، واختار بعض الحنابلة أن الصلاة على الآل مشروعة تبعا وجائزة استقلالا وعلى الملائكة وأهل الطاعة عموما جائزة أيضا وعلى معين شخص أو جماعة مكروهة ولو قيل بتحريمها لم يبعد سيما إذا جعل ذلك شعارا له وحده دون مساويه ومن هو خير منه كما تفعل الرافضة بعلي كرّم الله تعالى وجهه ولا بأس بها أحيانا كما صلى عليه الصلاة والسلام على المرأة وزوجها وكما صلى عليه الصلاة والسلام على علي وعمر رضي الله تعالى عنهما لما دخل عليه وهو مسجى ثم قال : وبهذا التفصيل تتفق الأدلة ، وأنت تعلم اتفاقها بغير ما ذكر. والسلام عند كثير فيما ذكر وفي شرح الجوهرة للقاني نقلا عن الإمام الجويني أنه في معنى الصلاة فلا يستعلم في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء عليهم‌السلام فلا يقال علي عليه‌السلام بل يقال رضي الله تعالى عنه. وسواء في هذا الأحياء والأموات إلا في الحاضر فيقال السّلام أو سلام عليك أو عليكم وهذا مجمع عليه انتهى. وفي حكاية الإجماع على ذلك نظر.

وفي الدر المنضود السّلام كالصلاة فيما ذكر إلا إذا كان لحاضر أو تحية لحي غائب ، وفرق آخرون بأنه يشرع في حق كل مؤمن بخلاف الصلاة ، وهو فرق بالمدعي فلا يقبل ، ولا شاهد في السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لأنه وارد في محل مخصوص وليس غيره في معناه على أن ما فيه وقع تبعا لا استقلالا.

وحقق بعضهم فقال ما حاصله مع زيادة عليه‌السلام الذي يعم الحي والميت هو الذي يقصد به التحية كالسلام عند تلاق أو زيارة قبر وهو مستدع للرد وجوب كفاية أو عين بنفسه في الحاضر ورسوله أو كتابه في الغائب ، وأما السّلام الذي يقصد به الدعاء منا بالتسليم من الله تعالى على المدعو له سواء كان بلفظ غيبة أو حضور فهذا هو الذي اختص به صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأمة فلا يسلم على غيره منهم إلا تبعا كما أشار إليه التقى السبكي في شفاء الغرام ، وحينئذ فقد

٢٦١

أشبه قولنا عليه‌السلام قولنا عليه الصلاة من حيث أن المراد عليه‌السلام من الله تعالى ، ففيه إشعار بالتعظيم الذي في الصلاة من حيث الطلب لأن يكون المسلم عليه الله تعالى كما في الصلاة وهذا النوع من السّلام هو الذي ادعى الحليمي كون الصلاة بمعناه انتهى.

واختلف في جواز الدعاء له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرحمة فذهب ابن عبد البرّ إلى منع ذلك ، ورد بوروده في الأحاديث الصحيحة ، منها وهو أصحها حديث التشهد السّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، ومنها قول الأعرابي : اللهم ارحمني ومحمدا وتقريره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم إني أسألك رحمة من عندك اللهم أرجو رحمتك يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» وفي خطبة رسالة الشافعي ما لفظه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورحم وكرم ، نعم قضية كلامه كحديث التشهد أن محل الجواز إن ضم إليه لفظ الصلاة أو السّلام وإلا لم يجز وقد أخذ به جمع منهم الجلال السيوطي بل نقله القاضي عياض في الإكمال عن الجمهور ، قال القرطبي : وهو الصحيح ، وجزم بعدم جوازه منفردا الغزالي عليه الرحمة فقال : لا يجوز ترحم على النبي ويدل له قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور : ٦٣] والصلاة وإن كانت بمعنى الرحمة إلا أن الأنبياء خصوا بها تعظيما لهم وتمييزا لمرتبتهم الرفيعة على غيرهم على أنها في حقهم ليست بمعنى مطلق الرحمة بل المراد بها ما هو أخص من ذلك كما سمعت فيما تقدم.

نعم ظاهر قول الأعرابي السابق وتقريره عليه الصلاة والسّلام له الجواز ولو بدون انضمام صلاة أو سلام.

قال ابن حجر الهيتمي : وهو الذي يتجه وتقريره المذكور خاص فيقدم على العموم الذي اقتضته الآية ثم قال : وينبغي حمل قول من قال لا يجوز ذلك على أن مرادهم نفي الجواز المستوي الطرفين فيصدق بأن ذلك مكروه أو خلاف الأولى ، وذكر زين الدين في بحره أنهم اتفقوا على أنه لا يقال ابتداء رحمه‌الله تعالى ، وأنا أقول : الذي ينبغي أن لا يقال ذلك ابتداء.

وقال الطحطاوي في حواشيه على الدر المختار : وينبغي أن لا يجوز غفر الله تعالى له أو سامحه لما فيه من إيهام النقص ، وهو الذي أميل إليه وإن كان الدعاء بالمغفرة لا يستلزم وجوب ذنب بل قد يكون بزيادة درجات كما يشير إليه استغفاره عليه الصلاة والسّلام في اليوم والليلة مائة مرة. وكذا الدعاء بها للميت الصغير في صلاة الجنازة ، ومثل ذلك فيما يظهر عفا الله تعالى عنه وإن وقع في القرآن فإن الله تعالى له أن يخاطب عبده بما شاء ، وأرى حكم الترحم على الملائكة عليهم‌السلام كحكم الترحم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن اختلف في نبوته كلقمان يقل فيه رضي الله تعالى عنه أو صلّى الله تعالى على الأنبياء وعليه وسلم ، هذا وقد بقيت في هذا المقام أبحاث كثيرة يطول الكلام بذكرها جدا فلتطلب من مظانها والله تعالى ولي التوفيق وبيده سبحانه أزمة التحقيق.

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أريد بالإيذاء إما ارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر وكبائر المعاصي مجازا لأنه سبب أو لازم له وإن كان ذلك بالنظر إليه تعالى بالنسبة إلى غيره سبحانه فإنه كاف في العلاقة ، وقيل في إيذائه تعالى : هو قول اليهود والنصارى والمشركين يد الله مغلولة والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وقيل قول الذين يلحدون في آياته سبحانه ، وقيل تصوير التصاوير وروي عن كعب ما يقتضيه ، وقيل في إيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو قولهم : شاعر ساحر كاهن مجنون وحاشاه عليه الصلاة والسّلام ، وقيل هو كسر رباعيته وشج وجهه الشريف وكان ذلك في غزوة أحد ، وقيل طعنهم في نكاح صفية بنت حيي ، والحق هو العموم فيهما ، وإما إيذاؤه عليه الصلاة والسّلام خاصة بطريق الحقيقة وذكر الله عزوجل لتعظيمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان قربه وكونه حبيبه المختص به حتى كان ما يؤذيه يؤذيه سبحانه كما أن من يطيعه يطيع الله تعالى.

٢٦٢

وجوز أن يكون الإيذاء على حقيقته والكلام على حذف مضاف أي يؤذون أولياء الله ورسوله وليس بشيء ، وقيل يجوز أن يراد منه المعنى المجازي بالنسبة إليه تعالى والمعنى الحقيقي بالنسبة إلى رسوله عليه الصلاة والسّلام وتعدد المعمول بمنزلة تكرر لفظ العامل فيخف أمر الجمع بين المعنيين حتى ادعى بعضهم أنه ليس من الجمع الممنوع وليس بشيء (لَعَنَهُمُ اللهُ) طردهم وأبعدهم من رحمته (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئا منها ، وذلك في الآخرة ظاهر ، وأما في الدنيا فقيل بمنعهم زيادة الهدى (وَأَعَدَّ لَهُمْ) مع ذلك (عَذاباً مُهِيناً) يصيبهم في الآخرة خاصة (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) يفعلون بهم ما يتأذون به من قول أو فعل ، وتقييده بقوله تعالى : (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أي بغير جناية يستحقون بها الأذية شرعا بعد إطلاقه فيما قبله للإيذان بأن أذى الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يكون إلا في غير حق وأما أذى هؤلاء فمنه ومنه.

وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال يوما لأبي : يا أبا المنذر قرأت البارحة آية من كتاب الله تعالى فوقعت مني كل موقع (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) والله إني لأعاقبهم وأضربهم فقال : إنك لست منهم إنما أنت معلم ومقوم وقوله تعالى : (الَّذِينَ) مبتدأ وقوله سبحانه (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً) أي فعلا شنيعا وقيل ما هو كالبهتان أي الكذب الذي يبهت الشخص لفظاعته في الإثم ، وقيل احتمل بهتانا أي كذبا فظيعا إذا كان الإيذاء بالقول (وَإِثْماً مُبِيناً) أي ظاهرا بينا خبره ، ودخلت الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ، والآية قيل نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليا كرّم الله تعالى وجهه ويسمعونه ما لا خير فيه.

وأخرج ابن جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال : أنزلت في عبد الله بن أبي وناس معه قذفوا عائشة رضي الله تعالى عنها فخطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «من يعذرني من رجل يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني فنزلت».

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنها أنها نزلت في الذين طعنوا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في أخذ صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها ، وعن الضحّاك والسدي والكلبي أنها نزلت في زناة كانوا يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن وكانوا لا يتعرضون إلا للإماء ولكن ربما يقع منهم التعرض للحرائر جهلا أو تجاهلا لاتحاد الكل في الزيّ واللباس ، والظاهر عموم الآية لكل ما ذكر ولكل ما سيأتي من أراجيف المرجفين ، وفيها من الدلالة على حرمة المؤمنين والمؤمنات ما فيها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في هذه الآية قال : يلقى الجرب على أهل النار فيحكون حتى تبدو العظام فيقولون ربنا بما ذا أصابنا هذا فيقال : بأذاكم المسلمين ، وأخرج غير واحد عن قتادة قال : إياكم وأذى المؤمن فإن الله تعالى يحوطه ويغضب له.

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه أي الربا أربى عند الله؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم ثم قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا الآية».

(يا أَيُّهَا النَّبِيُ) بعد ما بين سبحانه سوء حال المؤذين زجرا لهم عن الإيذاء أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يأمر بعض المتأذين منهم بما يدفع إيذاءهم في الجملة من التستر والتميز عن مواقع الإيذاء فقال عزوجل :

(قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) روي عن غير واحد أنه كانت الحرة والأمة تخرجان ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل من غير امتياز بين الحرائر والإماء وكان في المدينة فساق يتعرضون للإماء وربما تعرضوا للحرائر فإذا قيل لهم يقولون حسبناهن إماء فأمرت الحرائر أن يخالفن الإماء بالزيّ والتستر

٢٦٣

ليحتشمن ويهبن فلا يطمع فيهن ، والجلابيب جمع جلباب وهو على ما روي عن ابن عباس الذي يستر من فوق إلى أسفل ، وقال ابن جبير : المقنعة ، وقيل : الملحفة ، وقيل : كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها ، وقيل : كل ما تتستر به من كساء أو غيره ، وأنشدوا :

تجلببت من سواد الليل جلبابا

وقيل هو ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء ، والإدناء التقريب يقال أدناني أي قربني وضمن معنى الإرخاء أو السدل ولذا عدي بعلى على ما يظهر لي ، ولعل نكتة التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل.

ونقل أبو حيان عن الكسائي أنه قال : أي يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ثم قال : أراد بالانضمام معنى الإدناء ، وفي الكشاف معنى (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَ) يرخين عليهن يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة أدني ثوبك على وجهك.

وفسر ذلك سعيد بن جبير بيسدلن عليهن ، وعندي أن كل ذلك بيان لحاصل المعنى ، والظاهر أن المراد بعليهن على جميع أجسادهن ، وقيل : على رءوسهن أو على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه.

واختلف في كيفية هذا التستر فأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن محمد بن سيرين قال : سألت عبيدة السلماني عن هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) فرفع ملحفة كانت عليه فتقنع بها وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين وغطى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر ، وقال السدي : تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين ، وقال ابن عباس وقتادة : تلوي الجلباب فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكن تستر الصدر ومعظم الوجه ، وفي رواية أخرى عن الحبر رواها ابن جرير ، وابن أبي حاتم وابن مردويه تغطي وجهها من فوق رأسها بالجلباب وتبدي عينا واحدة.

وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) خرج نساء الأنصار كان على رءوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها.

وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : رحم الله تعالى نساء الأنصار لما نزلت (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ) الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنما على رءوسهن الغربان.

ومن للتبعيض ويحتمل ذلك على ما في الكشاف وجهين ، أحدهما أن يكون المراد بالبعض واحدا من الجلابيب وإدناء ذلك عليهن أن يلبسنه على البدن كله ، وثانيهما أن يكون المراد بالبعض جزءا منه وإدناء ذلك عليهن أن يتقنعن فيسترن الرأس والوجه بجزء من الجلباب مع إرخاء الباقي على بقية البدن ، والنساء مختصات بحكم العرف بالحرائر وسبب النزول يقتضيه وما بعد ظاهر فيه فإماء المؤمنين غير داخلات في حكم الآية.

وعن عمر رضي الله تعالى عنه أن غير الحرة لا تتقنع أخرج ابن أبي شيبة عن قلابة قال : كان عمر بن الخطاب لا يدع في خلافته أمة تتقنع ويقول : القناع للحرائر لكيلا يؤذين ، وأخرج هو وعبد بن حميد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : رأى عمر رضي الله تعالى عنه جارية مقنعة فضربها بدرته وقال : ألقي القناع لا تتشبهي بالحرائر ، وجاء في بعض الروايات أنه رضي الله تعالى عنه قال لأمة رآها مقنعة : يا لكعاء أتشبهين بالحرائر؟ وقال أبو حيان : نساء المؤمنين يشمل الحرائر والإماء والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح انتهى ، وأنت تعلم أن وجه الحرة عندنا ليس بعورة فلا يجب ستره ويجوز النظر من الأجنبي إليه إن أمن الشهوة

٢٦٤

مطلقا وإلا فيحرم ، وقال القهستاني : منع النظر من الشابة في زماننا ولو بلا شهوة وأما حكم أمة الغير ولو مدبرة أو أم ولد فكحكم المحرم فيحل النظر إلى رأسها ووجهها وساقها وصدرها وعضدها إن أمن شهوته وشهوتها. وظاهر الآية لا يساعد على ما ذكر في الحرائر فلعلها محمولة على طلب تستر تمتاز به الحرائر عن الإماء أو العفائف مطلقا عن غيرهن فتأمل ، و (يُدْنِينَ) يحتمل أن يكون مقول القول وهو خبر بمعنى الأمر وأن يكون جواب الأمر على حد (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣١] وفي الآية رد على من زعم من الشيعة أنه عليه الصلاة والسّلام لم يكن له من البنات إلا فاطمة صلّى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم وأما رقية وأم كلثوم فربيبتاه عليه الصلاة والسّلام (ذلِكَ) أي ما ذكر من الإدناء والتستر (أَدْنى) أي أقرب (أَنْ يُعْرَفْنَ) أي يميزن عن الإماء اللاتي هن مواقع تعرضهم وإيذاءهم. ويجوز إبقاء المعرفة على معناها أي أدنى أن يعرفن أنهن حرائر (فَلا يُؤْذَيْنَ) من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن بناء عن أنهن إماء.

وقال أبو حيان : أي ذلك أولى أن يعرفن لتسترهن بالعفة فلا يتعرض لهن ولا يلقين بما يكرهن لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها ، وهو تفسير مبني على رأيه في النساء ، وأيا ما كان فقد قال السبكي في طبقاته : إن أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن وإن لم يفعله السلف لأن فيه تمييزا لهم حتى يعرفوا فيعمل بأقوالهم وهو استنباط لطيف (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) كثير المغفرة فيغفر سبحانه ما عسى يصدر من الإخلال بالتستر ، وقيل : يغفر ما سلف منهن من التفريط. وتعقب بأنه إن أريد التفريط في أمر التستر قبل نزول الآية فلا ذنب قبل الورود في الشرع وإن أريد التفريط في غير ذلك ليكون وكان الله كثير المغفرة فيغفر ما سلف من ذنوبهن وارتكابهن ما نهى عنه مطلقا فهو غير مناسب للمقام ، وجوز أن يراد التفريط في أمر التستر والأمر به معلوم من آية الحجاب التزاما وهو كما ترى (رَحِيماً) كثير الرحمة فيثيب من امتثل أمره منهن بما هو سبحانه أهله ، وقيل : رحيما بهن بعد التوبة عن الإخلال بالتستر بعد نزول الآية ، وقيل : رحيما بعباده حيث راعى سبحانه في مصالحهم أمثال هذه الجزئيات.

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) عما هم عليه من النفاق وأحكامه الموجبة للإيذاء (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهم قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه عما هم عليه من التزلزل وما يستتبعه مما لا خير فيه (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) من اليهود المجاورين لها عما هم عليه من نشر أخبار السوء عن سرايا المسلمين وغير ذلك من الأراجيف الملفقة المستتبعة للأذية ، وأصل الإرجاف التحريك من الرجفة التي هي الزلزلة وصفت به الأخبار الكاذبة لكونها في نفسها متزلزلة غير ثابتة أو لتزلزل قلوب المؤمنين واضطرابها منها ، والتغاير بينه المتعاطفات على ما ذكرنا بالذات وهو الذي يقتضيه ظاهر العطف.

وأخرج ابن المنذر وغيره عن مالك بن دينار قال : سألت عكرمة عن الذين في قلوبهم مرض فقال : هم أصحاب الفواحش ، وعن عطاء أنه فسرهم بذلك أيضا ، وفي رواية أخرى عنه أنه قال هم قوم مؤمنون كان في أنفسهم أن يزنوا فالمرض حب الزنا ، وإذا فسر المرجفون على ذلك بما سمعت يكون التغاير بين المتعاطفات بالذات أيضا.

وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب أن الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون وهو المعروف في وصفهم.

وأخرج هو أيضا عن عبيد بن حنين أن الذين في قلوبهم مرض والمرجفون جميعا هم المنافقون فيكون العطف مع الاتحاد بالذات لتغاير الصفات على حد :

هو الملك القرم وابن الهمام

٢٦٥

فكأنه قيل : لئن لم ينته الجامعون بين هذه الصفات القبيحة عن الاتصاف بها المفضي إلى الإيذاء (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي لندعونك إلى قتالهم وإجلائهم أو فعل ما يضطرهم إلى الجلاء ونحرضك على ذلك يقال أغراه بكذا إذا دعاه إلى تناوله بالتحريض عليه ، وقال الراغب : غرى بكذا أي لهج به ولصق ، وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلصق به وقد أغريت فلانا بكذا ألهجت به ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي لنسلطنك عليهم (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ) عطف على جواب القسم وثم للتفاوت الرتبي والدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم ما يصيبهم وأشده عندهم (فِيها) أي في المدينة (إِلَّا قَلِيلاً) أي زمانا أو جوارا قليلا ريثما يتبين حالهم من الانتهاء وعدمه أو يتلقطون عيالاتهم وأنفسهم.

وفي الآية عليه كما في الانتصاف إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتيسر له منزل آخر على حسب الاجتهاد ، ونصب (قَلِيلاً) على ما أشرنا إليه على الظرفية أو المصدرية ، وجوز أن يكون نصبا على الحال أي إلا قليلين أذلاء ، ولا يخفى حاله على ذي تمييز.

وقوله تعالى : (مَلْعُونِينَ) نصب على الذم أي أذم ملعونين أو على الحال من فاعل (لا يُجاوِرُونَكَ) والاستثناء شامل له عند من يرى جواز نحو ذلك ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) [الأحزاب : ٥٣] وجعل ابن عطية المعنى على الحالية ينتفون ملعونين ، وجوز أن يكون حالا من ضميرهم في قوله تعالى : (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) أي حصروا وظفر بهم ، وكأنه على معنى أينما ثقفوا متصفين بما هم عليه (أُخِذُوا) أي أسروا ومنه الأخيذ للأسير (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) أي قتلوا أبلغ قتل. وقرئ «قتلوا» بالتخفيف فيكون (تَقْتِيلاً) مصدرا على غير الصدر. واعترض على الحالية مما ذكر بأن أداة الشرط لا يعمل ما بعدها فيما قبلها مطلقا وهذا أحد مذاهب للنحاة في المسألة ، ثانيها الجواز مطلقا ، وثالثها جواز تقديم معمول الجواب دون معمول الشرط. وجوز على تقدير كون (قَلِيلاً) حالا أن يكون (مَلْعُونِينَ) بدلا منه. وتعقبه أبو حيان بأن البدل بالمشتق قليل ثم قال : والصحيح أن (مَلْعُونِينَ) صفة لقليل أي إلا قليلين ملعونين ويكون (قَلِيلاً) مستثنى من الواو في (لا يُجاوِرُونَكَ) والجملة الشرطية صفة أيضا أي مقهورين مغلوبا عليهم ا ه ، وهو كما ترى.

وقوله تعالى : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) مصدر مؤكد أي سن الله تعالى ذلك في الأمم الماضية سنة وهي قتال الذين يسعون بالفساد بين قوم وإجلائهم عن أوطانهم وقهرهم أينما ثقفوا متصفين بذلك.

(وَلَنْ تَجِدَ) أيها النبي أو يا من يصح منك الوجدان أبدا (لِسُنَّةِ اللهِ) لعادته عزوجل المستمرة (تَبْدِيلاً) لابتنائها على أساس الحكمة فلا يبدلها هو جل شأنه وهيهات هيهات أن يقدر غيره سبحانه على تبديلها ، ومن سبر أخبار الماضين وقف على أمر عظيم في سوء معاملتهم المفسدين فيما بينهم ، وكأن الطباع مجبولة على سوء المعاملة معهم وقهرهم ، وفي تفسير الفخر (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ. وللسدي كلام غريب في الآية لا أظن أن أحدا قال به. أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال فيها : كان النفاق على ثلاثة أوجه : نفاق مثل نفاق عبد الله بن سلول ونظائره كانوا وجوها من وجوه الأنصار فكانوا يستحيون أن يأتوا الزنا يصونون بذلك أنفسهم وهم المنافقون في الآية ، ونفاق الذين في قلوبهم مرض وهم منافقون إن تيسر لهم الزنا عملوه وإن لم يتيسر لم يتبعوه ويهتموا بأمره ، ونفاق المرجفين وهم منافقون يكابرون النساء يقتصون أثرهن فيغلبوهن على أنفسهم فيفجرون بهن ، وهؤلاء الذين يكابرون النساء (لَنُغْرِيَنَّكَ

٢٦٦

بِهِمْ) يقول سبحانه لنعلمنك بهم ثم قال تعالى : (مَلْعُونِينَ) ثم فصلت الآية (أَيْنَما ثُقِفُوا) يعملون هذا العمل مكابرة النساء (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) ثم قال السدي : هذا حكم في القرآن ليس يعمل به لو أن رجلا وما فوقه اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم وهو أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم سنّة الله في الذين خلوا من قبل كذلك كان يفعل بمن مضى من الأمم ولن تجد لسنّة الله تبديلا فمن كابر امرأة على نفسها فغلبها فقتل فليس على قاتله دية لأنه يكابر انتهى ، والظاهر أنه قد وقع الانتهاء من المنافقين والذين في قلوبهم مرض عما هو المقصود بالنهي وهو ما يستتبعه حالهم من الإيذاء ولم يقع من المرجفين أعني اليهود فوقع القتال والإجلاء لهم.

وفي البحر الظاهر أن المنافقين يعني جميع من ذكر في الآية انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وتستر جميعهم وكفوا خوفا من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه وهو الإغراء والإجلاء والقتل. وحكي ذلك عن الجبائي ، وعن أبي مسلم لم ينتهوا وحصل الإغراء بقوله تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣ ، التحريم : ٩] وفيه أن الإجلاء والقتل لم يقعا للمنافقين والجهاد في الآية قولي ، وقيل : إنهم لم يتركوا ما هم عليه ونهوا عنه جملة ولا نفذ عليهم الوعيد كاملا ألا ترى إلى إخراجهم من المسجد ونهيه تعالى عن الصلاة عليهم وما نزل في سورة براءة ، وزعم بعضهم أنه لم ينته أحد من المذكورين أصلا ولم ينفذ الوعيد عليهم ففيه دليل على بطلان القول بوجوب نفاذ الوعيد في الآخرة ويكون هذا الوعيد مشروطا بالمشيئة وفيه من البعد ما فيه.

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) أي عن وقت قيامها ووقوعها ، كان المشركون يسألونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك استعجالا بطريق الاستهزاء والمنافقون تعنتا واليهود امتحانا لما أنهم يعلمون من التوراة أنها مما أخفاه الله تعالى فيسألونه عليه الصلاة والسلام ليمتحنوه هل يوافقها وحيا أو لا (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) لا يطلع سبحانه عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا (وَما يُدْرِيكَ) خطاب مستقل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير داخل تحت الأمر مسوق لبيان أنها مع كونها غير معلومة مرجوة المجيء عن قريب ، وما استفهام في موضع الرفع بالابتداء والجملة بعده خبر أي أي شيء يعلمك بوقت قيامها ، والمعنى على النفي أي لا يعلمنك به شيء أصلا.

(لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي لعلها توجد وتتحقق في وقت قريب فقريبا منصوب على الظرفية واستعماله كذلك كثير ، و (تَكُونُ) تامة ويجوز أن تكون ناقصة وإذا كان (قَرِيباً) الخبر واعتبر وصفا لا ظرفا فالتذكير لكونه في الأصل صفة لخبر مذكر يخبر به عن المؤنث وليس هو الخبر أي لعل الساعة تكون شيئا قريبا ، وجوز أن يكون ذلك رعاية للمعنى من حيث إن الساعة بمعنى اليوم أو الوقت.

وقال أبو حيان : يجوز أن يكون ذلك لأن التقدير لعل قيام الساعة فلوحظ الساعة في تكون فأنث ولوحظ المضاف المحذوف وهو قيام في (قَرِيباً) فذكر ، ولا يخفى بعده ، وقيل إن قريبا لكونه فعيلا يستوي فيه المذكر والمؤنث كما في قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] وقد تقدم ما في ذلك ، وفي الكلام تهديد للمستعجبين المستهزئين وتبكيت للمتعنتين والممتحنين ، والإظهار في موضع الإضمار للتهويل وزيادة التقرير وتأكيد استقلال الجملة كما أشير إليه (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ) على الإطلاق أي طردهم وأبعدهم عن رحمته العاجلة والآجلة (وَأَعَدَّ) هيأ (لَهُمْ) مع ذلك في الآخرة (سَعِيراً) نارا شديدة الاتقاد كما يؤذن بذلك صيغة المبالغة (خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) متوليا لأمرهم يحفظهم (وَلا نَصِيراً) ناصرا يخلصهم منها (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) ظرف لعدم الوجدان ، وقيل لخالدين ، وقيل لنصير ، وقيل مفعول لا ذكر أي يوم تصرف

٢٦٧

وجوههم فيها من جهة إلى جهة كاللحم يشوى في النار أو يطبخ في القدر فيدور به الغليان من جهة إلى جهة أو يوم تتغير وجوههم من حال إلى حال فتتوارد عليها الهيئات القبيحة من شدة الأهوال أو يوم يلقون في النار مقلوبين منكوسين ، وتخصيص الوجوه بالذكر لما أنها أكرم الأعضاء ففيه مزيد تفظيع للأمر وتهويل للخطب ، ويجوز أن تكون عبارة عن كل الجسد. وقرأ الحسن وعيسى وأبو جعفر الرواسي. «تقلب» بفتح التاء والأصل تتقلب فحذفت إحدى التاءين ، وقرأ ابن أبي عبلة بهما على الأصل ، وحكى ابن خالويه عن أبي حيوة أنه قرأ «تقلب وجوههم» بإسناد الفعل إلى ضمير العظمة ونصب «وجوههم» على المفعولية.

وقرأ عيسى الكوفة «تقلب وجوههم» بإسناد الفعل إلى ضمير السعير اتساعا ونصب الوجوه (يَقُولُونَ) استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم الفظيعة كأنه قيل : فما ذا يصنعون عند ذلك؟ فقيل : يقولون متحسرين على ما فاتهم (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) فلا نبتلي بهذا العذاب أو حال من ضمير (وُجُوهُهُمْ) أو من نفسها.

وجوز أن يكون هو الناصب ليوم (وَقالُوا) عطف على (يَقُولُونَ) والعدول إلى صيغة الماضي للإشعار بأن قولهم هذا ليس مستمرا كقولهم السابق بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضربا من التشفي بمضاعفة عذاب الذين أوردوهم هذا المورد الوخيم وألقوهم في ذلك العذاب الأليم وإن علموا عدم قبوله في حق خلاصهم بما هم فيه.

(رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا) أي ملوكنا وولاتنا الذين يتولون تدبير السواد الأعظم منا (وَكُبَراءَنا) أي رؤساءنا الذين أخذنا عنهم فنون الشر وكان هذا في مقابلة ما تمنوه من إطاعة الله تعالى وإطاعة الرسول فالسادة والكبراء متغايران ، والتعبير عنهما بعنوان السيادة والكبر لتقوية الاعتذار وإلا فهم في مقام التحقير والإهانة.

وقدموا في ذلك إطاعة السادة لما أنه كان لهم قوة البطش بهم لو لم يطيعوهم فكان ذلك أحق بالتقديم في مقام الاعتذار وطلب التشفي ، وقيل : باتحاد السادة والكبراء والعطف على حد العطف في قوله. وألفي قولها كذبا ومينا. والمراد بهم العلماء الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم ، وعن قتادة رؤساؤهم في الشر والشرك.

وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلمي وابن عامر والعامة في الجامع بالبصرة ساداتنا على جمع الجمع وهو شاذ كبيوتات ، وفيه على ما قيل دلالة على الكثرة ، ثم إن كون سادة جمعا هو المشهور ، وقيل : اسم جمع فإن كان جمعا لسيد فهو شاذ أيضا فقد نصوا على شذوذ فعلة في جميع فعيل وإن كان جمعا لمفرد مقدر وهو سائد كان ككافر وكفرة لكنه شاذ أيضا لأن فاعلا لا يجمع على فعلة إلا في الصحيح (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي جعلونا ضالين عن الطريق الحق بما دعونا إليه وزينوه لنا من الأباطيل ، والألف للإطلاق كما في (وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا).

(رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أي عذابين يضاعف كل واحد منهما الآخر عذابا على ضلالهم في أنفسهم وعذابا على إضلالهم لنا (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) أي شديدا عظيما فإن الكبر يستعار للعظمة مثل (كَبُرَتْ كَلِمَةً) [الكهف : ٥] ويستفاد التعظيم من التنوين أيضا ، وقرأ الأكثر «كثيرا» بالثاء المثلثة أي كثير العدد ، وتصدير الدعاء بالنداء مكررا للمبالغة في الجؤار واستدعاء الإجابة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) قيل نزلت فيما كانت من أمر زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها وتزوجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها وما سمع في ذلك من كلام آذاه عليه الصلاة والسلام (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) أي من قولهم أو الذي قالوه وأيا ما كان فالقول هنا بمعنى المقول ، والمراد به مدلوله الواقع في الخارج وبتبرئة الله تعالى إياه من ذلك إظهار براءته عليه‌السلام منه وكذبهم فيما أسندوا إليه لأن المرتب على أذاهم ظهور براءته لا براءته لأنها مقدمة عليه ، واستعمال الفعل مجازا عن إظهاره ، والمقول بمعنى المضمون كثير شائع فالمعنى فأظهر الله تعالى براءته من الأمر المعيب الذي نسبوه إليه عليه‌السلام.

٢٦٨

وقيل : لا حاجة إلى ما ذكر فإنه تعالى لما أظهر براءته عما افتروه عليه انقطعت كلماتهم فيه فبرأ من قولهم على أن (برأه) بمعنى خلصه من قولهم لقطعه عنه ، وتعقب بأنه مع تكلفه لأن قطع قولهم ليس مقصودا بالذات بل المراد انقطاعه لظهور خلافه لا بدّ من ملاحظة ما ذكر ، والمراد بالأمر الذي نسبوه إليه عليه‌السلام عيب في بدنه.

أخرج الإمام أحمد والبخاري والترمذي وجماعة من طريق أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن موسى عليه‌السلام كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل وقالوا ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده أما برص وأما أدرة وأما آفة وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا وأن موسى عليه‌السلام خلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وأن الحجر غدا بثوبه فأخذ موسى عليه‌السلام عصاه وطلب الحجر فجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله تعالى وبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا). وقيل : إن ذلك ما نسبوه إليه عليه‌السلام من قتل هارون ، أخرج ابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية : صعد موسى وهارون عليهما‌السلام الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل لموسى أنت قتلته كان أشد حبا لنا منك وألين فآذوه من ذلك فأمر الله تعالى الملائكة عليهم فحملوه فمروا به على مجالس بني إسرائيل وتكلمت الملائكة عليهم‌السلام بموته فبرأه الله تعالى فانطلقوا به فدفنوه ولم يعرف قبره إلا الرخم وإن الله تعالى جعله أصم أبكم ، وفي رواية عن ابن عباس وأناس من الصحابة أن الله تعالى أوحى إلى موسى إني متوف هارون فأت جبل كذا فانطلقا نحو الجبل فأذاهم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيبة فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه فقال يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال نم عليه قال نم معي فلما ناما أخذ هارون الموت قلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء قلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا قتل هارون وحسده لحب بني إسرائيل له وكان هارون أكف عنهم وألين لهم وكان في موسى بعض الغلظة عليهم فلما بلغه ذلك قال : ويحكم إنه كان أخي أفتروني أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه ، وقيل : ما نسبوه إليه عليه‌السلام من الزنا وحاشاه ، روي أن قارون أغرى مومسة على قذفه عليه‌السلام بنفسها ودفع إليها مالا عظيما فأقرت بالمصانعة الجارية بينها وبين قارون وفعل به ما فعل كما فصل في سورة القصص ، ويبعد هذا القول تبعيدا ما جمع الموصول ، وقيل : ما نسبوا إليه من السحر والجنون ، وقيل : ما حكي عنهم في القرآن من قولهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤] (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] وقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] إلى غيرك ذلك ويمكن حمل ما قالوا على جميع ما ذكر.

(وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) أي كان ذا جاه ومنزلة عنده عزوجل ، وفي معناه قول قطرب : كان رفيع القدر ونحوه قول ابن زيد : كان مقبولا ، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال وجيها مستجاب الدعوة وزاد بعضهم ما سأل شيئا إلا أعطى إلا الرؤية في الدنيا ، ولا يخفى أن استجابة الدعوة من فروع رفعة القدر ، وقيل : وجاهته عليه‌السلام أن الله تعالى كلمه ولقب كليم الله ، وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة «عبدا» من العبودة «لله» بلام الجر فيكون عبدا خبر كان ووجيها صفة له وهي قراءة شاذة ، وفي صحة القراءة بالشواذ كلام.

قال ابن خالويه : صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ وكان «عبدا لله» على قراءة ابن مسعود

٢٦٩

ولعل ابن شنبوذ ممن يرى صحة القراءة بها مطلقا ، ويحتمل مثل ذلك في ابن خالويه وإلا فقد قال الطيبي قال صاحب الروضة : وتصح بالقراءة الشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنى ولا زيادة حرف ولا نقصان ، وهاهنا بين المعنيين بون كما يشير إليه كلام الزمخشري ونحوه عن ابن جني (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) في كل ما تأتون وتذرون لا سيما في ارتكاب ما يكرهه تعالى فضلا عما يؤذي رسوله وحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقُولُوا) في كل شأن من الشئون (قَوْلاً سَدِيداً) قاصدا ومتوجها إلى هدف الحق من سد يسد بكسر السين سدادا بفتحها يقال سدد سهمه إذا وجهه للغرض المرمي ولم يعدل به عن سمته ، والمراد على ما قيل نهيهم عن ضد هذا القول وهو القول الذي ليس بسديد ويدخل فيه ما صدر منهم في قصة زينب من القول الجائر عن العدل والقصد وكذا كل قول يؤذيه عليه الصلاة والسّلام ، وعن مقاتل. وقتادة أن المعنى وقولوا قولا سديدا في شأن الرسول عليه الصلاة والسّلام وزيد وزينب ، وعن ابن عباس وعكرمة تخصيص القول السديد بلا إله إلا الله ، وقيل : هو ما يوافق ظاهره باطنه ، وقيل : ما فيه إصلاح ، ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) بالقبول والإثابة عليها على ما روي عن ابن عباس ومقاتل ، وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية.

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعلم (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأوامر والنواهي التي من جملتها ما تضمنته هذه الآيات (فَقَدْ فازَ) في الدارين (فَوْزاً عَظِيماً) لا يقادر قدره ولا تبلغ غايته.

قال في الكشاف وهذه الآية يعني (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) إلى آخرها مقررة للتي قبلها بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان ليترادف عليهم النهي والأمر مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه‌السلام لأن وصفه بوجاهته عند الله تعالى متضمن أنه تعالى انتقم له ممن آذاه واتباع الأمر الوعد البليغ فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه انتهى فلا تغفل.

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) لما بين جل شأنه عظم شأن طاعة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم ومنال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها بطريق التمثيل مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها صدر عنهم بعد القبول والالتزام من غير جبر هناك ولا إبرام ، وعبر عنها بالأمانة وهي في الأصل مصدر كالأمن والأمان تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها ، وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى استعداد ما ذكر من السماوات وغيرها من حيث الخصوصيات بالعرض عليهن لإظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة في قبولهن لها ، وعن عدم استعدادهن لقبولها ومنافاتها لما هن عليه بالإباء والإشفاق منها لتهويل أمرها وتربية فخامتها وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة ، والمعنى أن تلك الأمانة في عظم الشأن بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام التي هي مثل في القوة والشدة مراعاتها وكانت ذات شعور وإدراك لأبين قبولها وخفن منها لكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق لزيادة تحقيق المعنى المقصود وتوضيحه.

(وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أي هذا الجنس نحو : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات : ٦] و (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) [العلق : ٦] وحمله إياها إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده أو بتكليفه إياها يوم الميثاق أي تكلفها والتزمها

٢٧٠

مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة ، وهو إما عبارة عن قبولها بموجب استعداده الفطري أو عن القبول القولي يوم الميثاق ، وتخصيص الإنسان بالذكر مع أن الجن مكلفون أيضا وكذا الملائكة عليهم‌السلام وإن لم يكن في ذلك كلفة عليهم لما أنه ليس فيه ما يخالف طباعهم لأن الكلام معه ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) اعتراض وسط بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما تحمل ، والتأكيد لمظنة التردد أي إنه كان مفرطا في الظلم مبالغا في الجهل أي بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة أو قبولهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تعالى تبديلا ، ويكفي في صدق الحكم على الجنس بشيء وجوده في بعض أفراده فضلا عن وجوده في غالبها ، وإلى الفريق الأول أشير بقوله تعالى :

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) أي حملها الإنسان ليعذب الله تعالى بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة على أن اللام للعاقبة فإن التعذيب وإن لم يكن غرضا من الحمل لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على الأفعال المعلقة بها أبرز في معرض الغرض أي كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية ، وإلى الفريق الثاني أشير وبقوله سبحانه (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده أي يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة والالتفات إلى الاسم الجليل أولا لتهويل الخطب وتربية المهابة ، والإظهار في موضع الإضمار ثانيا لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لتكل من مقامي الوعيد والوعد حقه كذا قال بعض الأجلة في تفسير الآية. ووراء ذلك أقوال فقيل الأمانة الطاعة لأنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء والكلام تقرير الوعد الكريم الذي ينبئ عنه قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) بجعل تعظيم شأن الطاعة ذريعة إلى ذلك بأن من قام بحقوق مثل هذا الأمر العظيم الشأن وراعاه فهو جدير بأن يفوز بخير الدارين. وتعقب بأن جعل الأمانة التي شأنها أن تكون من جهته تعالى عبارة عن الطاعة التي هي من أفعال المكلفين التابعة للتكليف بمعزل عن التقريب وإن حمل الكلام على التقرير بالوجه الذي قرر يأباه وصف الإنسان بالظلم والجهل أولا وتعليل الحمل بتعذيب فريق والتوبة على فريق ثانيا ، وقد يقال : مراد ذلك القائل أن الأمانة هي الطاعة من حيث أمره عزوجل بها وأن قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ) إلخ على معنى أنه كان كذلك إن لم يراع حقها فتأمل. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أن الأمانة الفرائض وروي نحوه عن سعيد بن جبير وهو غير ما ذكر أولا بناء على أن التكليفات الشرعية مراد بها المعنى المصدري دون اسم المفعول ، وقيل : الصلاة فقد روي عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه كان إذا دخل وقت الصلاة اصفر وجهه الشريف وتغير لونه فسئل عن ذلك فقال : إنه دخل عليّ وقت أمانة عرضها الله تعالى على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وقد حملتها أنا مع ضعفي فلا أدري كيف أؤديها ، وحكى السفيري أنها الغسل من الجنابة ، وقيل الصلاة والصيام والغسل من الجنابة فقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأمانة ثلاث الصلاة والصيام والغسل من الجنابة» وفي رواية عن السدي والضحاك أنها أمانات الناس المعروفة والوفاء بالعهود. وقيل هي أن لا تغش مؤمنا ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير ، وقيل : هي كلمة التوحيد لأنها المدار الأعظم للتكليفات الشرعية. وقيل هي الأعضاء والقوى ، فقد أخرج ابن أبي الدنيا في الورع والحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمر ورضي الله تعالى عنهما قال : «أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه ثم قال هذه أمانتي عندك فلا تضعها إلا في حقها فالفرج أمانة والسمع أمانة والبصر أمانة».

٢٧١

ولا يخفى أن تفسير الأمانة في الآية بالأعضاء مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، والخبر المذكور إن صح لا يدل عليه ، ومثله بل دونه بكثير أنها حروف التهجي ولا يكاد يقول به إلا أطفال المكاتب ، وأقرب الأقوال المذكورة للقبول القول بأنها الفرائض أي من فعل وترك ، وتخصيص شيء منها بالذكر في خبران صح لا يدل على أنه الأمانة في الآية لا غيره وكم يخص بعض أفراد العام بالذكر لنكتة ، وقال أبو حيان : الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا ، ويعم هذا المعنى جميع ما تقدم ، وفيها أقوال أخر ستأتي إن شاء الله تعالى ، واختلفت كلمات الذاهبين إلى أنها الفرائض في تحقيق ما بعد فقيل الكلام على حذف مضاف والتقدير إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات إلخ.

وحكي ذلك عن الجبائي وليس بشيء ، وقيل الكلام على ظاهره وكذا العرض والإباء وذلك أنه عزوجل خلق للسماوات والأرض والجبال فهما وتمييزا فخيرت في الحمل فأبت وروي ذلك عن ابن عباس.

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ابن جريج قال : بلغني أن الله تعالى لما خلق السماوات والأرض والجبال قال : إني فارض فريضة وخالق جنة ونارا وثوابا لمن أطاعني وعقابا لمن عصاني فقالت السماوات خلقتني فسخرت في الشمس والقمر والنجوم والسحاب والريح فأنا مسخرة على ما خلقتني لا أتحمل فريضة ولا أبغي ثوابا ولا عقابا ونحو ذلك قالت الأرض والجبال ، ويعلم مما ذكر أن الإباء لم يكن معصية لأنه لم يكن هناك تكليف بل تخيير ، وأما كونها استحقرت أنفسها عن أن تكون محل الأمانة فلا ينفي عنهن العصيان بالإباء لو كان هناك تكليف بالحمل ، وقيل : لا حذف والكلام من باب التمثيل على ما سمعت أولا.

وذهب كثير إلى أن المراد بحملها التزام القيام بها وبالإنسان آدم عليه‌السلام ، واختلف في حمله إياها هل كان بعد عرضها عليه أو بدونه فقيل كان بعد العرض.

فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم «أن الله تعالى عرض الأمانة على السماء الدنيا فأبت ثم التي تليها فأبت حتى فرغ منها ثم الأرضين ثم الجبال ثم عرضها على آدم عليه‌السلام فقال نعم بين أذني وعاتقي» الخبر

وقيل : بدونه.

قال ابن الجوزي : لما خلق الله عزوجل آدم عليه‌السلام ونفخ فيه الروح مثلت له الأمانة بصخرة ثم قال : للسماوات احملي هذه فأبت وقالت : إلهي لا طاقة لي بها وقال سبحانه : للأرض احمليها فقالت : لا طاقة بها لي وقال تعالى للجبال : احمليها فقالت : لا طاقة لي بها فأقبل آدم عليه‌السلام فحركها بيده وقال لو شئت لحملتها فحملها حتى بلغت حقويه ثم وضعها على عاتقه فلما أهوى ليضعها نودي من جانب العز يا آدم مكانك لا تضعها فهذه الأمانة قد بقيت في عنقك وعنق أولادك إلى يوم القيامة ولكم عليها ثواب في حملها وعقاب في تركها ، وهذا ظاهر في أن الحمل على حقيقته وفي أن العرض على السماوات والأرض والجبال كان بمسمع من آدم عليه‌السلام وإلى هذا ذهب ابن الأنباري ، وفي بعض الآثار ما يدل على أن العرض عليهن قبل خلقه عليه‌السلام.

أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لما خلق الله تعالى السماوات والأرض عرض عليهن الأمانة فلم يقبلنها فلما خلق آدم عليه‌السلام عرضها عليه فقال : يا رب وما هي؟ قال سبحانه : هي إن أحسنت أجرتك وإن أسأت عذبتك قال : فقد تحملت يا رب فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج إلا قدر ما بين الظهر والعصر ، وكأني بك تختار من هذه الأقوال أن العرض على تقدير كونه بعد إعطاء الفهم والتمييز كان بمسمع من آدم عليه‌السلام وأنه بعد أن سمع الإباء حملته الغيرة على الحمل ، وربما يفضي بك هذا إلى اختيار القول بأنه حمل الأمانة بدون عرضها عليه كما هو ظاهر الآية وبه يتأكد وصفه بما وصف لكني لا أظنك تقول بصحة حديث تمثل الأمانة بصخرة وإن قلت بصحة تمثل

٢٧٢

المعاني بصور الأجسام كما ورد في حديث ذبح الموت وغيره ، وأنا لا أميل إلى القول بأن المراد بالإنسان آدم عليه‌السلام وإن كان أول أفراد الجنس ومبدأ سلسلتها لمكان (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) فإنه يبعد غاية البعد وصف صفي الله عزوجل بنص (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ) [آل عمران : ٣٣] بمزيد الظلم والجهل ، وكون المعنى كان ظلوما جهولا بزعم الملائكة عليهم‌السلام قول بارد ، وحمله على معنى كان ظلوما لنفسه حيث حملها على ضعفه ما أبت الأجسام القوية حمله جهولا بقدر ما دخل فيه أو بعاقبة ما تحمل لا يزيل البعد ، ولا استحسن كون المراد كان من شأنه لو خلي ونفسه ذلك كما قيل :

الظلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفة فلعلة لا يظلم

إلا على القول بإرادة الجنس ، وإخراج الكلام مخرج الاستخدام على نحو ما قالوا في عندي درهم ونصفه بعيد لفظا ومعنى ، وقيل المراد بالأمانة مطلق الانقياد الشامل للطبيعي والاختياري وبعرضها استدعاؤه الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته وأنشدوا :

إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة

وتحمل أخرى أخرجتك الودائع

فيكون الإباء امتناعا من الخيانة وإتيانا بالمراد ، فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها أبين الخيانة لأمانتنا وأتين بما أمرناهن به لقوله تعالى : (أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] وخانها الإنسان حيث لم يأت بما أمرناه به إنه كان ظلوما جهولا ولا يخفى بعده ولم نر في المأثور ما يؤيده ، نعم إن العوام يقولون : إن الأرض لا تخون الأمانة حتى أنهم جرت عادتهم في بلادنا أنهم إذا أرادوا دفن ميت في مكان ولم يتيسر لهم وضعوه في قبر وقالوا حين الوضع مخاطبين الأرض : هذا أمانة عندك كذا شهرا أو كذا سنة وحثوا التراب عليه وانصرفوا فإذا نبشوا القبر قبل مضي المدة وجدوه كما وضعوه لم يتغير منه شيء فيخرجونه ويدفنونه حيث أرادوا وإذا بقي حتى تمضي المدة التي عينوها وجدوه متغيرا ، وهذا أمر تواتر نقله لنا وهو مما يستبعده العقل ، وإلى نحو هذا ذهب أبو إسحاق الزجاج إلا أنه قال : عرض الأمانة وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات ، ونقله عنه أبو حيان وذكر البيت المار آنفا لكنه تعقبه بأن الحمل فيه ليس نصا في الخيالة ، وقيل المراد بالأمانة العقل أو التكليف وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد لها وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية الداعية للظلم والشهوية الداعية للجهل بعواقب الأمور ، قيل وعليه ينتظم قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) مع ما قبله على أنه علته باعتبار حمل العقل عليه بمعنى إيداعه فيه لأجل إصلاح ما فيه من القوتين المحتاجتين إلى سلطان العقل الحاكم عليهما فكأنه قيل : حملناه ذلك لما فيه من القوى المحتاجة لقهره وضبطه ، وكذا إذا أريد التكليف فإن معظم المقصود منه تعديل تلك القوى وكسر سورتها ، ومن هنا قيل إنه أقرب للتحقيق ، وقيل الأمانة تجلياته عزوجل بأسمائه الحسنى وصفاته تعالى العليا وعرضها عليهن وإباؤهن وحمل الإنسان كالمذكور آنفا.

وقوله تعالى : «إنه كان ظلوما جهولا» تعليل للحمل مشار به إلى قوة استعداده ، وقوله سبحانه : «ليعذب» تعليل للعرض على معنى عرضنا ذلك لتظهر تجلياتنا الجلالية والجمالية ، ويشير إلى هذا قول العلامة الطيبي عليه الرحمة : إن الله تعالى خلق الخلق ليكون مظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا فحامل معنى الكبرياء والعظمة السماوات والأرض والجبال من حيث كونها عاجزة عن حمل سائر الصفات لعدم استعدادها لقبولها ولذلك أبين أن يحملنها وأشفقن منها

٢٧٣

وحملها الإنسان لقوة استعداده واقتداره لكونه ظلوما جهولا فاختص لذلك من بين سائر المخلوقات بقبول تجلي القهارية والتوابية والمغفرة وشاركها بقبول تجلي الرحمة وله النصيب الأوفر منها لقوة استعداده واقتداره ، وهو مشرب صوفي كما لا يخفى وأنا اختار كون الأمانة كل ما يؤتمن عليه ويطلب حفظه ورعايته ولها أفراد كثيرة متفاوتة في جلالة القدر وإن عرضها على تلك الأجرام كان على وجه التخيير لهن في حملها لا الإلزام وأنهن خوطبن في ذلك وعقلن الخطاب والله عزوجل قادر على أن يخلق في كل ذرة من ذرات الكائنات الحياة والعلم كما خلقهما سبحانه في ذوي الألباب بل ذهب الفلاسفة إلى القول بثبوت النفوس والحركة الإرادية للأفلاك بل قال بعضهم نحو ذلك في الكواكب وأثبت الحركة الإرادية ونفي القواسر هناك وأن المراد بالإنسان الجنس وأن قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) في موضع التعليل للحمل.

ووصف الجنس بصيغتي المبالغة لكثرة الأفراد المتصفة بالظلم والجهل منه وإن لم يكونا فيها على وجه المبالغة بل لا يخلو فرد من الأفراد عن الاتصاف بظلم ما وجهل ما ، ولا يجب في وصف الجنس بصيغة المبالغة تحقق تلك الصفة في الأفراد كلا أو بعضا على وجه المبالغة ، نعم إن تحقق ذلك فهو زيادة خير ، كما فيما نحن فيه فإن أكثر أفراد الإنسان في غاية الظلم ونهاية الجهل ، ولعل المراد بظلوم جهول من شأنه الظلم والجهل وأن قوله تعالى : (لِيُعَذِّبَ) إلخ متعلق بعرضنا على أنه تعليل له ، وفي الكلام التفات لا يخفى ، وتقديم التعذيب لأنه أوفق بصفتي الظلم والجهل ، وقيل : لأن الأمانة من حكمها اللازم أن خائنها يضمن وليس من حكمها أن حافظها يؤجر ، ومقابلة التعذيب بالتوبة دون الإثابة أو الرحمة للإشارة إلى أن في المؤمنين والمؤمنات من يصدر منه ما يصح أن يعذب عليه ومع ذلك لا يعذب ، وفيه إشعار بأنه لا يعذب على كل ظلم وجهل وفي هذا من إدخال السرور على المؤمنين والكآبة على أضدادهم ما فيه ، وأيضا أن ذلك أوفق بظاهر قوله تعالى : «إنه كان ظلوما جهولا» وقيل لم يعتبر بالإثابة لأنها علمت من قوله سبحانه : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) فعبر بما ذكر للتنبيه على أن ذلك بمحض الفضل وهو كما ترى ، وقيل إن ذاك لأن التذييل متكفل بإفادة رحمتهم وإثابتهم.

وقرأ الحسن كما ذكر صاحب اللوامح «ويتوب» بالرفع على الاستئناف (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي مبالغا في المغفرة والرحمة حيث تاب على المؤمنين والمؤمنات وغفر لهم فرطاتهم وأثابهم بالفوز العظيم على طاعاتهم نسأل الله تعالى أن يتوب علينا ويغفر لنا ويثيبنا بالفوز العظيم إنه جل جلاله وعم نواله غفور رحيم.

ومن باب الإشارة في آيات من هذه السورة الكريمة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) إلخ فيه إشارة إلى عظم شأن التقوى وكذا شأن كل أمر ونهيى يتعلقان به عليه الصلاة والسّلام ، وفيه أيضا إشارة إلى أنه لا ينبغي محبة أعداء الله عزوجل حيث نهى عن طاعتهم وهما كالمتلازمين (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) لأن موقعه في البدن موقع الرئيس في المملكة والحكمة تقتضي وحدة الرئيس ، وفي الخبر إذا بويع خليفتان فاقتلوا أحدهما.

وقيل : إن ذاك لتشعر وحدته في بدن الإنسان الذي هو العالم الأصغر المنطوي فيه العالم الأكبر بوحدة الله سبحانه في الوجود ، وينبغي أن يعلم أن للقلب عندهم كما قال الصدر القونوي إطلاقين الأول إطلاقه على اللحم الصنوبري الشكل المعروف عند الخاصة والعامة والثاني إطلاقه على الحقيقة الجامعة بين الأوصاف والشئون الربانية وبين الخصائص والأحوال الكونية الروحانية منها والطبيعة وهي تنشأ من بين الهيئة الاجتماعية الواقعة بين الصفات والحقائق الإلهية والكونية وما يشتمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما بعد الارتياض والتزكية وظهور ذلك مما ذكر ظهور السواد بين العفص والزاج والماء وهذا هو القلب الذي أخبر عنه الحق على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله سبحانه : «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الوادع» وهو

٢٧٤

محل نظر الحق ومنصة تجليه ومهبط أمره ومنزل تدليه واللحم الصنوبري أحقر من حيث صورته أن يكون محل سره جل وعلا فضلا عن أن يسعه سبحانه ويكون مطمح نظره الأعلى ومستواه ، وادعوا أن تسمية ذلك الصنوبري الشكل بالقلب على سبيل المجاز باعتبار تسمية الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول «وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم» فيه أن الحقائق لا تنقلب وأن في القرابة النسبية خواص لا تكون في القرابة السببية فأين الأزواج من الأمهات والأدعياء من الأبناء فالأمهات أصول ولا كذلك الأزواج والأبناء فروع ولا كذلك الأدعياء ، ومن هنا قيل : الولد سر أبيه ، وقد أورده الشمس الفناري في مصباح الأنس حديثا بصيغة الجزم من غير عزو ولا سند ولا يصح ذلك عند المحدثين ، وهو إشارة إلى الأوصاف والأخلاق والكمالات التي يحصلها الولد بالسراية من والده لا بواسطة توجه القلب إلى حضرة الغيب الإلهي وعالم المعاني فإنه باعتبار ذلك قد تحصل للولد أوصاف وأخلاق على خلاف حال والده ، ومنه يظهر سر (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) [الأنعام : ٩٥ ، يونس : ٣١ ، الروم : ١٩] (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) فيه إشارة إلى أن للدين نوعا من الأبوة ولهذا قد يقع به التوارث (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) لأنه عليه الصلاة والسّلام يحب لهم فوق ما يحبون لها ويسلك بهم المسلك الذي يوصلهم إلى الحياة الأبدية (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) أي في الأزل إذ كانوا أعيانا ثابتة أو يوم الميثاق إذ صار لهم نوع تعين (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) سؤال تشريف لا تعنيف ، والصدق على ما قالوا إن لا يكون في أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب ولا في اعتقادك ريب ، ومن أماراته وجود الإخلاص من غير ملاحظة المخلوق وتصفية الأحوال من غير مداخلة إعجاب وسلامة القول من المعاريض والتباعد عن التلبيس فيما بين الناس وإدامة التبري من الحول والقوة بل الخروج من الوجود المجازي شوقا إلى الوجود الحقيقي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) إلخ طبق بعضهم ما تضمنته الآيات من قصة الأحزاب على ما في الأنفس ولا يخفى حاله ، ومن غريب ما رأيت أن الشيخ محيي الدين قدس الله سره قسم الأولياء إلى أقسام وجعل منهم قسما يقال لهم اليثربيون وقال : هم قوم من الأولياء لا مقام لهم كما لسائر الأولياء وجعل قول المنافقين (يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ) إشارة إلى ذلك ، وكم قول غريب لهذا الشيخ غفر الله تعالى له (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) لأنه عليه الصلاة والسّلام أكمل الخلق على الإطلاق وأحظى الناس بإشراق أنوار أخلاقه عليه الذين يرجون الله تعالى واليوم الآخر ويذكرونه عزوجل كثيرا لصقالة قلوبهم وقوة استعدادها لإشراق الأنوار وظهور الآثار (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ) أي رجال كاملون ، وقول بعضهم : أي متصرفون في الموجودات تصرف الذكور في الأناث كلام بشع تنقبض منه ككثير من كلام المتصوفة قلوب المقتفين للسلف الصالح.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) إلخ فيه إشارة إلى أن حب الدنيا وزينتها يكون سببا لمفارقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبعد عن حضرته الشريفة وأن محبته عليه الصلاة والسّلام تكون سببا للأجر العظيم (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَ) إلخ فيه إشارة إلى تفاوت قبح المعاصي وحسن الطاعات باعتبار الأشخاص ومثل ذلك تفاوتها باعتبار الأماكن والأزمان (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) إشارة إلى مقام التسليم وأنه اللائق بالمؤمنين وهذا حكم مستمر على الأمة إلى يوم القيامة فلا ينبغي لأحد بلغه شيء عن الله عزوجل وعن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يختار لنفسه خلافه لإشعار ذلك باتهام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسّلام.

٢٧٥

ولعل الإشارة في الآيات بعد ظاهرة لمن له أدنى التفات بيد أنهم أطالوا الكلام في الأمانة المذكورة في قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) الآية فلنذكر بعضا من ذلك فنقول : قال الشيخ محيي الدين قدس‌سره في بلغة الغواص: إن الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها هي السعة لمعرفة الله تعالى فلم يوجد في السماوات والأرض قبول لما قبله الإنسان بهذا التأليف الصوري إذ هو ثمرة العالم فهو يرى نفسه في العالم ويرى ربه سبحانه بالعالم الذي هو نفسه من حيث هو كل العالم فلذلك اتسع لما لم يسعه العالم ولذلك خصه سبحانه بالسعة حيث أخبر جل شأنه أنه لم يسعه سماواته ولا أرضه ووسعه قلب المؤمن من نوع الإنسان انتهى.

وكأنه أراد بكونه وسع الحق سبحانه كونه مظهرا جامعا للأسماء والصفات على وجه لا ينافي تنزيه الحق جل جلاله ، وهذا قريب مما ذكرناه في التفسير وقلنا إنه مشرب صوفي كما لا يخفي ، وقال آخر : هي عبارة عن الفيض الإلهي بلا واسطة وحمله خاص بالإنسان لأن نسبته مع المخلوقات كنسبة القلب مع الشخص فالعالم شخص وقلبه الإنسان فكما أن القلب حامل للروح بلا واسطة وتسري منه بواسطة العروق والشرايين ونحوها إلى سائر البدن كذلك الإنسان حامل للفيض الإلهي بلا واسطة ويسري منه إلى ظاهر الكون وباطنه بواسطة ظاهره وباطنه من أعمال البدن والروح فظاهر العالم وباطنه معموران بظاهر الإنسان وباطنه وهذا سر الخلافة ومعنى كونه ظلوما أنه ظالم لنفسه حيث استعد لأن يحمل أمرا عظيما وكونه جهولا أنه جاهل بها حيث لم يعرف حقيقتها ولم يدرك منها سوى الصورة الحيوانية المتصفة بالصفات البهيمية من الأكل والشرب والنكاح وهاتان الصفتان في حق حاملي الأمانة ومؤدي حقها من حيث إنهما صارتا سببا لحمل الأمانة صفتا مدح وفي حق الخائنين صفتا ذم والشيء قد يكون ذما في حق شخص ومدحا في حق آخر ، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل ومنه الاستمداد في فهم كلامه العزيز الجليل.

٢٧٦

سورة سباء

مكية كما روي عن ابن عباس وقتادة ، وفي التحرير هي مكية بإجماعهم ، وقال ابن عطية : مكية إلا قوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [سبأ : ٦] وروى الترمذي عن فروة بن مسيكة المرادي قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي الحديث ، وفيه وأنزل في سبأ ما أنزل فقال رجل : يا رسول الله وما سبأ؟ الحديث. قال ابن الحصار هذا يدل على أن هذه القصة مدنية لأن مهاجرة فروة بعد إسلام ثقيف سنة تسع ، ويحتمل أن يكون قوله وأنزل حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرته فلا يأبى كونها مكية ، وآياتها خمس وخمسون في الشامي وأربع وخمسون في الباقين ، وما قيل خمس وأربعون سهو من قلم الناسخ ، ووجه اتصالها بما قبلها أن الصفات التي أجريت على الله تعالى في مفتتحها مما يناسب الحكم التي في مختتم ما قبل من قوله تعالى : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) [الأحزاب : ٧٣] إلخ.

وأيضا قد أشير فيما تقدم إلى سؤال الكفار عن الساعة على جهة الاستهزاء وهاهنا قد حكي عنهم إنكارها صريحا والطعن بمن يقول بالمعاد على أتم وجه وذكر مما يتعلق بذلك ما لم يذكر هناك ، وفي البحر أن سبب نزولها أن أبا سفيان قال لكفار مكة لما سمعوا (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) كأن محمدا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت ويتخوفنا بالبعث واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث فقال الله تعالى قل يا محمد بلى وربي لتبعثن قاله مقاتل وباقي السورة تهديد لهم وتخويف ، ومن هذا ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها انتهى.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ

٢٧٧

لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ)(١٢)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي له عزوجل خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة جميع ما وجد فيهما داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما فكأنه قيل : له هذا العالم بالأسر ، ووصفه تعالى بذلك على ما قاله أبو السعود لتقرير ما أفاده تعليق الحمد المعرف بلام الحقيقة عند أرباب التحقيق بالاسم الجليل من اختصاص جميع أفراد المخلوقات به عزوجل ببيان تفرده تعالى واستقلاله بما يوجب ذلك وكون كل ما سواه سبحانه من الموجودات التي من جملتها الإنسان تحت ملكوته تعالى ليس لها في حد ذاتها استحقاق الوجود فضلا عما عداه من صفاتها بل كل ذلك نعم فائضة عليها من جهته عزوجل فما هذا شأنه فهو بمعزل من استحقاق الحمد الذي مداره الجميل الصادر عن القادر بالاختيار فظهر اختصاص جميع أفراده به تعالى ، وفي الوصف بما ذكر أيضا إيذان بأنه تعالى المحمود على نعم الدنيا حيث عقب الحمد بما تضمن جميع النعم الدنيوية فيكون الكلام نظير قولك : احمد أخاك الذي حملك وكساك فإنك تريد به أحمده على حملانه وكسوته ، وفي عطف قوله تعالى : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) على الصلة كما هو الظاهر إيذان بأنه سبحانه المحمود على نعم الآخرة ليتلاءم الكلام ، وفي تقييد الحمد فيه بأن محله الآخرة إيذان بأن محل الحمد الأول الدنيا لذلك أيضا فتفيد الجملتان أنه عزوجل المحمود على نعم الدنيا فيها وأنه تبارك وتعالى المحمود على نعم الآخرة فيها ، وجوز أن يكون في الكلام صنعة الاحتباك وأصله الحمد لله إلخ في الدنيا وله ما في الآخرة والحمد فيها فأثبت في كل منهما ما حذف من الآخر ، وقال أبو السعود : إن الجملة الثانية لاختصاص الحمد الأخروي به تعالى إثر بيان اختصاص الدنيوي به سبحانه على أن (فِي الْآخِرَةِ) متعلق بنفس الحمد أو بما تعلق به (لَهُ) من الاستقرار ، وإطلاقه عن ذكر ما يشعر بالمحمود عليه ليس للاكتفاء بذكر كونه في الآخرة عن التعيين كما اكتفى فيما سبق بذكر كون المحمود عليه في الدنيا عن ذكر كون الحمد فيها أيضا بل ليعم النعم الأخروية كما في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤] وقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) [فاطر : ٣٥] وما يكون ذريعة إلى نيلها من النعم الدنيوية كما في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [الأعراف : ٤٣] أي لما جزاؤه هذا النعيم من الإيمان والعمل الصالح.

٢٧٨

وأنت تعلم أن المتبادر إلى الذهن هو ما قرر أولا ، والفرق بين الحمدين مع كون نعم الدنيا ونعم الآخرة بطريق التفضل أن الأول على نهج العبادة والثاني على وجه التلذذ والاغتباط ، وقد ورد في الخبر أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس ، وقول الزمخشري : إن الأول واجب لأنه على نعمة متفضل بها والثاني ليس بواجب لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها مبني على رأي المعتزلة على أن قوله : لأنه على نعمة واجبة الإيصال ليس على إطلاقه عندهم لأن ما يعطي الله تعالى العباد في الآخرة ليس مقصورا على الجزاء عندهم بل بعض ذلك تفضل وبعضه أجر ، وتقديم الخبر في الجملة الثانية لتأكيد الحصر المستفاد من اللام على ما هو الشائع اعتناء بشأن نعم الآخرة ، وقيل : للاختصاص لأن النعم الدنيوية قد تكون بواسطة من يستحق الحمد لأجلها ولا كذلك نعم الآخرة ، وكأنه أراد لتأكيد الاختصاص أو بنى الأمر على أن الاختصاص المستفاد من اللام بمعنى الملابسة التامة لا الحصر كما فصله الفاضل اليمني ، وأما أنه أراد لاختصاص الاختصاص فكما ترى ، ويرد على قوله : ولا كذلك نعم الآخرة (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] فتأمل (وَهُوَ الْحَكِيمُ) الذي أحكم أمر الدارين ودبره حسبما تقتضيه الحكمة (الْخَبِيرُ) العالم ببواطن الأشياء ومكنوناتها ويلزم من ذلك علمه تعالى بغيرها ، وعمم بعضهم من أول الأمر وما ذكر مبني على ما قاله بعض أهل اللغة من أن الخبرة تختص بالبواطن لأنها من خبر الأرض إذا شقها ، وفي هذه الفاصلة إيذان بأنه تعالى كما يستحق الحمد لأنه سبحانه منعم يستحقه لأنه جل شأنه منعوت بالكمال الاختياري وتكميل معنى كونه تعالى منعما أيضا بأنه على وجه الحكمة والصواب وعن علم بموضع الاستحقاق والاستيجاب لا كمن يطلق عليه أنه منعم مجازا ، وقوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) إلخ استئناف لتفصيل بعض ما يحيط به علمه تعالى من الأمور التي نيطت بها مصالحهم الدينية والدنيوية ، وجوز أن يكون تفسيرا لخبير ، وأن يكون حالا من ضميره تعالى في (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) فيكون (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) اعتراضا بين الحال وصاحبها أي بعلم سبحانه ما يدخل في الأرض من المطر (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من النبات قاله السدي.

وقال الكلبي : ما يدخل فيها من الأموات وما يخرج منها من جواهر المعادن ، والأولى التعميم في الموصولين فيشملان كل ما يلج في الأرض ولو بالوضع فيها وكل ما يخرج منها حتى الحيوان فإنه كله مخلوق من التراب.

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) أي من الملائكة قاله السدي والكلبي ، والأولى التعميم فيشمل (ما يَنْزِلُ) المطر والثلج والبرد والصاعقة والمقادير ونحوها أيضا (وَما يَعْرُجُ) الأبخرة والأدخنة وأعمال العباد وأدعيتهم ونحوها أيضا ، ويراد بالسماء جهة العلو مطلقا ولعل ترتيب المتعاطفات كما سمعت إفادة للترقي في المدح ، وضمن العروج معنى السير أو الاستقرار على ما قيل فلذا عدي بفي دون إلى ، وقيل : لا حاجة إلى اعتبار التضمين والمراد بما يعرج فيها ما يعرج في ثخن السماء ويعلم من العلم بذلك العلم بما يعرج إليها من باب أولى فتدبر ، وقرأ علي كرّم الله تعالى وجهه والسلمي «ينزّل» بضم الياء وفتح النون وشد الزاي أي الله كذا في البحر.

وفي الكشاف عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه قرأ «ننزّل» بالتشديد ونون العظمة (وَهُوَ) مع كثرة نعمته وسبوغ فضله (الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) للمفرطين في أداء مواجب شكرها فهذا التذنيب مع كونه مقررا للخبرة مفصل لما أجمل في قوله سبحانه : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يعرف منه كيف كان كله نعمة وكالتبصر لأنواع النعم الكلية فكل منه ومن التذنيب السابق في موضعه اللاحق فلا تتوهم أن العكس أنسب.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) أرادوا بضمير المتكلم جنس البشر قاطبة لا أنفسهم أو معاصريهم فقط وبنفي إتيانها نفي وجودها بالكلية لا عدم حضورها مع تحقيقها في نفس الأمر ، وإنما عبروا عنه بذلك لأنهم كانوا

٢٧٩

يوعدون بإتيانها ، وقيل : لأن وجود الأمور الزمانية المستقبلة لا سيما أجزاء الزمان لا يكون إلا بالإتيان والحضور ، وقيل : هو استبطاء لإتيانها الموعود بطريق الهزء والسخرية كقولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ)؟ [الملك : ٢٥] والأول أولى ، والجملة قيل : معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة وجعلها حالية غير ظاهر (قُلْ بَلى) رد لكلامهم وإثبات لما نفوه على معنى ليس الأمر إلا إتيانها ، وقوله تعالى : (وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) تأكيد له على أتم الوجوه وأكملها ، وجاء القسم بالرب للإشارة إلى أن إتيانها من شئون الربوبية ، وأتى به مضافا إلى ضميرهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدل على شدة القسم ، وروى هارون كما قال ابن جني عن طليق قال : سمعت أشياخنا يقرءون «ليأتينكم» بالياء التحتية وخرجت على أن الفاعل ضمير البعث لأن مقصودهم من نفي إتيان الساعة أنهم لا يبعثون ، وقيل : الفاعل ضمير (السَّاعَةُ) على تأويلها باليوم أو الوقت. وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد إذ لا يكون مثل هذا إلا في الشعر نحو :

ولا أرض أبقل إبقالها

وقوله تعالى : (عالِمِ الْغَيْبِ) بدل من المقسم به على ما ذهب إليه الحوفي وأبو البقاء ، وجوز أن يكون عطف بيان ، وأجاز أبو البقاء أن يكون صفة له.

وتعقب بأنه صفة مشبهة وهي كما ذكره سيبويه في الكتاب لا تتعرف بالإضافة إلى معرفة والجمهور على أنها تتعرف بها ولذا ذهب جمع من الأجلة إلى أنه صفة ووصف سبحانه بإحاطة العلم إمدادا للتأكيد وتشديدا له إثر تشديد فإن عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وشدة ثباته واستقامته لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر وكلما كان المستشهد به أعلى كعبا وأبين فضلا وأرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد والمستشهد عليه أثبت وأرسخ ، وخص هذا الوصف بالذكر من بين الأوصاف مع أن كل وصف يقتضي العظمة يتأتي به ذلك لما أن له تعلقا خاصا بالمقسم عليه فإنه أشهر إفراد الغيب في الخفاء ففيه مع رعاية التأكيد حسن الأقسام على منوال وثناياك أنها إغريض كأنه قيل : وربي العالم بوقت قيامها لتأتينكم ، وفيه إدماج أن لا كلام في ثبوتها.

وقال صاحب الفرائد : جيء بالوصف المذكور لأن إنكارهم البعث باعتبار أن الأجزاء المتفرقة المنتشرة يمتنع اجتماعها كما كانت يدل عليه قوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) [ق : ٤] الآية ، فالوصف بهذه الأوصاف رد لزعمهم الاستحالة وهو أن من كان علمه بهذه المثابة كيف يمتنع منه ذلك انتهى ، واستحسنه الطيبي ، وقال في البحر : أتبع القسم بقوله تعالى : (عالِمِ الْغَيْبِ) وما بعده ليعلم أن إتيانها من الغيب الذي تفرد به عزوجل ، وما ذكر أولا أبعد مغزى ، وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أن لا يبقى للمعاندين عذر ما أصلا فإنهم كانوا يعرفون أمانته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزاهته عن وصمة الكذب فضلا عن اليمين الفاجرة وإنما لم يصدقوه عليه الصلاة والسلام مكابرة ، وغفل صاحب الفرائد عن هذه الفائدة فقال : اقتضى المقام اليمين لأن من أنكر ما قيل له فالذي وجب بعد ذلك إذا أريد إعادة القول له أن يكون مقترنا باليمين وإلا كان خطأ بالنظر إلى علم المعاني وإن كان صحيحا بالنظر إلى العربية والنحو وقد يغفل الأريب.

وقرأ نافع وابن عامر ورويس وسلام والجحدري وقعنب «عالم» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم ، وجوز الحوفي أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي عالم الغيب هو ، وجوز هو وأبو البقاء أن يكون مبتدأ والجملة بعده خبره.

وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي «علام» بصيغة المبالغة والخفض ، وقرئ «عالم» بالرفع يكون بلا

٢٨٠