روح المعاني - ج ١١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

بالبال لتقرير ما أشعر به قوله تعالى : (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) من عظيم قدرته عزوجل ، وقال الشيخ الإسلام : هو لتقرير ما قبله من اختلاف الناس ببيان أن الاختلاف والتفاوت أمر مطرد في جميع المخلوقات من النبات والجماد والحيوان.

وقال أبو حيان : تقرير لوحدانيته تعالى بأدلة سماوية وأرضية أثر تقريرها بأمثال ضربها جل شأنه ، وهذا كما ترى ، والاستفهام للتقرير ، والرؤية قلبية لأن إنزال المطر وإن كان مدركا بالبصر لكن إنزال الله تعالى إياه ليس كذلك ، والخطاب عام أي ألم تعلم أن الله تعالى أنزل من جهة العلو ماء (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بذلك الماء على أنه سبب عادي للإخراج ، وقيل أي أخرجنا عنده ، والالتفات لإظهار كمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة والحكمة (ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) أي أنواعها من التفاح والرمان والعنب والتين وغيرها مما لا يحصر ، وهذا كما يقال فلان أتى بألوان من الأحاديث وقدم كذا لونا من الطعام ، واختلاف كل نوع بتعدد أصنافه كما في التفاح فإن له أصنافا متغايرة لذة وهيئة وكذا في سائر الثمرات ولا يكاد يوجد نوع منها إلا وهو ذو أصناف متغايرة ، ويجوز أن يراد اختلاف كل نوع باختلاف أفراده.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه حمل الألوان على معناها المعروف واختلافها بالصفرة والحمرة والخضرة وغيرها ، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا وهو الأوفق لما في قوله تعالى.

(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ) وهو إما عطف على ما قبله بحسب المعنى أو حال وكونه استئنافا مع ارتباطه بما قبله غير ظاهر ، و (جُدَدٌ) جمع جدة بالضم وهي الطريقة من جده إذا قطعه.

وقال أبو الفضل : هي من الطرائق ما يخالف لونه لون ما يليه ومنه جدة الحمار للخط الذي في وسط ظهره يخالف لونه ، وسأل ابن الأزرق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الجدد فقال طرائق طريقة بيضاء وطريقة خضراء ، وأنشد قول الشاعر :

قد غادر السبع في صفحاتها جددا

كأنها طرق لاحت على أكم

والكلام على تقدير مضاف إن لم تقصد المبالغة لأن الجبال ليست نفس الطرائق أي ذو جدد. وقرأ الزهري «جدد» بضمتين جمع جديدة كسفينة وسفن وهي بمعنى جدة. وقال صاحب اللوامح هو جمع جديد بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان. وقال أبو عبيدة : لا مدخل لمعنى الجديدة في هذه الآية. ولعل من يقول بتجدد حدوث الجبال وتكونها من مياه تنبع من الأرض وتتحجر أولا فأولا ثم تنبع من موضع قريب مما تحجر فتتحجر أيضا وهكذا حتى يحصل جبل لا يأبى حمل الآية على هذه القراءة على ما ذكر ، والظاهر من الآيات والأخبار أن الجبال أحدثها الله تعالى بعيد خلق الأرض لئلا تميد بسكانها ، والفلاسفة يزعمون أنها كانت طينا في بحار انحسرت ثم تحجرت ، وقد أطال الإمام الكلام على ذلك في كتابه المباحث المشرقية واستدل على ذلك ، بوجود أشياء بحرية كالصدف بين أجزائها ، وهذا عند تدقيق النظر هباء وأكثر الأدلة مثلة ، ومن أراد الاطلاع على ما قالوا فليرجع إلى كتبهم. وروي عنه أيضا أنه قرأ «جدد» بفتحتين ولم يجز ذلك أبو حاتم وقال : إن هذه القراءة لا تصح من حيث المعنى وصححها غيره وقال : الجدد الطريق الواضح المبين إلا أنه وضع المفرد موضع الجمع ولذا وصف بالجمع ، وقيل هو من باب نطفة أمشاج وثوب أخلاق لاشتمال الطريق على قطع.

وتعقب بأنه غير ظاهر ولا مناسب لجمع الجبال (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) أي أصنافها بالشدة والضعف لأنها مقولة

٣٦١

بالتشكيك فمختلف صفة بيض وحمر ، و (أَلْوانُها) فاعل له وليس بمبتدإ ، و (مُخْتَلِفٌ) خبره لوجوب مختلفة حينئذ ، وجوز أن يكون صفة (جُدَدٌ وَغَرابِيبُ) عطف على (بِيضٌ) فهو من تفاصيل الجدد والصفات القائمة بها أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر ، وغرابيب والغربيب هو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب ، وكثر في كلامهم اتباعه للأسود على أنه صفة له أو تأكيد لفظي فقالوا أسود غربيب كما قالوا أبيض يقق وأصفر فاقع وأحمر قانئ.

وظاهر كلام الزمخشري أن (غَرابِيبُ) هنا تأكيد لمحذوف والأصل وسود غرابيب أي شديدة السواد.

وتعقب بأنه لا يصح إلا على مذهب من يجوز حذف المؤكد ومن النحاة من منع ذلك وهو اختيار ابن مالك لأن التأكيد يقتضي الاعتناء والتقوية وقصد التطويل والحذف يقتضي خلافه. ورده الصفار كما في شرح التسهيل لأن المحذوف لدليل كالمذكور فلا ينافي تأكيده ، وفي بعض شروح المفصل أنه صفة لذلك المحذوف أقيم مقامه بعد حذفه ، وقوله تعالى : (سُودٌ) بدل منه أو عطف بيان له وهو مفسر للمحذوف ، ونظير ذلك قول النابغة :

والمؤمن العائذات الطير يمسحها

ركبان مكة بين الغيل والسند

وفيه التفسير بعد الإبهام ومزيد الاعتناء بوصف السواد حيث دل عليه من طريق الإضمار والإظهار.

ويجوز أن يكون العطف على (جُدَدٌ) على معنى ومن الجبال ذو جدد مختلف اللون ومنها غرابيب متحدة اللون كما يؤذن به المقابلة وإخراج التركيب على الأسلوب الذي سمعته ، وكأنه لما اعتنى بأمر السواد بإفادة أنه في غاية الشدة لم يذكر بعده الاختلاف بالشدة والضعف.

وقال الفراء : الكلام على التقديم والتأخير أي سود غرابيب ، وقيل ليس هناك مؤكد ولا موصوف محذوف وإنما (غَرابِيبُ) معطوف على (جُدَدٌ) أو على بيض من أول الأمر و (سُودٌ) بدل منه ، قال في البحر : وهذا حسن ويحسنه كون غربيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيدا ، ومنه ما جاء في الحديث إن الله تعالى يبغض الشيخ الغربيب وهو الذي يخضب بالسواد ، وفسره ابن الأثير بالذي لا يشيب أي لسفاهته أو لعدم اهتمامه بأمر آخرته ، وحكي ما في البحر بصيغة قيل ، وقول الشاعر :

العين طامحة واليد شامخة

والرجل لائحة والوجه غربيب

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) أي ومنهم بعض مختلف ألوانه أو بعضهم مختلف ألوانه على ما ذكروا في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٨] والجملة عطف على الجملة التي قبلها وحكمها حكمها.

وفي إرشاد العقل السليم أن إيراد الجملتين اسميتين مع مشاركتهما لما قبلهما من الجملة الفعلية في الاستشهاد بمضمونها على تباين الناس في الأحوال الباطنة لما أن اختلاف الجبال والناس والدواب والأنعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر فعبر عنه بما يدل على الاستمرار وأما إخراج الثمرات المختلفة فحيث كان أمرا حادثا عبر عنه بما يدل على الحدوث ثم لما كان فيه نوع خفاء علق به الرؤية بطريق الاستفهام التقريري المنبئ عن الحمل عليها والترغيب فيها بخلاف أحوال الجبال والناس وغيرهما فإنها مشاهدة غنية عن التأمل فلذلك جردت عن التعليق بالرؤية فتدبر ا ه ، وما ذكره من أمر تعليق الرؤية مخالف لما في البحر حيث قال : وهذا استفهام تقرير ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جدا فتأمل.

وقرأ الزهري «والدواب» بتخفيف الباء مبالغة في الهرب من التقاء الساكنين كما همز بعضهم (وَلَا الضَّالِّينَ) لذلك.

٣٦٢

وقرأ ابن السميفع «ألوانها» وقوله تعالى : (كَذلِكَ) في محل نصب صفة لمصدر مختلف المؤكد والتقدير مختلف اختلافا كائنا كذلك أي كاختلاف الثمرات والجبال فهو من تمام الكلام قبله والوقف عليه حسن بإجماع أهل الأداء وقوله سبحانه : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) تكملة لقوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [فاطر : ١٨] بتعيين من يخشاه عزوجل من الناس بعد الإيماء إلى بيان شرف الخشية ورداءة ضدها وتوعد المتصفين به وتقرير قدرته عزوجل المستدعي للخشية على ما نقول أو بعد بيان اختلاف طبقات الناس وتباين مراتبهم أما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل وأما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح توفية لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان ، وقيل (كَذلِكَ) في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك أي كما بين ولخص ثم قيل : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ) إلخ وسلك به مسلك الكناية من باب العرب لا تخفر الذمم دلالة على أن العلم يقتضي لخشية ويناسبها وهو تخلص إلى ذكر أوليائه تعالى مع إفادة أنهم الذين نفع فيهم الإنذار وأن لك بهم غنية عن هؤلاء المصرين ، قال صاحب الكشف : والرفع أظهر ليكون من فصل الخطاب.

وقال ابن عطية يحتمل أن يكون (كَذلِكَ) متعلقا بما بعده خارجا مخرج السبب أي كذلك الاعتبار والنظر في مخلوقات الله تعالى واختلاف ألوانها يخشى الله العلماء ، ورده السمين بأن إنما لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وبأن الوقف على كذلك عند أهل الأداء جميعا ، وارتضاه الخفاجي وقال : وبه ظهر ضعف ما قيل : إن المعنى الأمر كذلك أي كما بين ولخص على أنه تخلص لذكر أولياء الله تعالى ، وفيه أنه ليس في هذا المعنى عمل ما بعد إنما فيما قبلها وإجماع أهل الأداء على الوقف على (كَذلِكَ) إن سلم لا يظهر به ضعف ذلك ، وفي بعض التفاسير المأثورة عن السلف ما يشعر بتعلق (كَذلِكَ) بما بعده.

أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية كما اختلفت هذه الأنعام تختلف الناس في خشية الله تعالى كذلك وهذا عندي ضعيف والأظهر ما عليه الجمهور وما قيل أدق وألطف ، والمراد بالعلماء العالمون بالله عزوجل وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الحميدة وسائر شئونه الجميلة لا العارفون بالنحو والصرف مثلا فمدار الخشية ذلك العلم لا هذه المعرفة فكل من كان أعلم به تعالى كان أخشى. روى الدارمي عن عطاء قال : قال موسى عليه‌السلام يا رب أي عبادك أحكم؟ قال الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه قال : يا رب أي عبادك أغنى؟ قال : أرضاهم بما قسمت له قال : يا رب أي عبادك أخشى؟ قال : أعلمهم بي وصح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له» ولكونه المدار ذكرت الخشية بعد ما يدل على كمال القدرة ، ولهذه المناسبة فسر ابن عباس كما أخرج عنه ابن المنذر وابن جرير (الْعُلَماءُ) في الآية بالذين يعلمون أن الله تعالى على كل شيء قدير ، وتقديم المفعول لأن المقصود بيان الخاشين والإخبار بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم ولو أخر لكان المقصود بيان المخشي والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره كما في قوله تعالى : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) [الأحزاب : ٣٩] والمقام لا يقتضيه بل يقتضي الأول ليكون تعريضا بالمنذرين المصرين على الكفر والعناد وأنهم جهلاء بالله تعالى وبصفاته ولذلك لا يخشون الله تعالى ولا يخافون عقابه.

وأنكر بعضهم إفادة (إِنَّما) هنا للحصر وليس بشيء ، وروي عن عمر بن عبد العزيز. وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما أنهما قرءا «إنما يخشى الله» بالرفع «العلماء» بالنصب وطعن صاحب النشر في هذه القراءة ، وقال أبو حيان : لعلها لا تصح عنهما ، وقد رأينا كتبا في الشواذ ولم يذكروا هذه القراءة وإنما ذكرها الزمخشري وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن علي بن جنادة في كتابه الكامل وخرجت على أن الخشية مجاز عن التعظيم بعلاقة اللزوم فإن المعظم يكون مهيبا ، وقيل الخشية ترد بمعنى الاختيار كقوله :

٣٦٣

خشيت بني عمي فلم أر مثلهم

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) تعليل لوجوب الخشية لأن العزة دالة على كمال القدرة على الانتقام ولا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة ، وقيل ذكر (غَفُورٌ) من باب التكميل نظير ما في بيت الغنوي المذكور آنفا.

والآية على ما في بعض الآثار نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ(٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ

٣٦٤

إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً)(٤٥)

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) أي يداومون على قراءته حتى صارت سمة لهم وعنوانا كما يشعر به صيغة المضارع ووقوعه صلة واختلاف الفعلين والمراد بكتاب الله القرآن فقد قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : هذه آية القراء.

وأخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أنها نزلت في حصين بن الحارث بن عبد المطلب القرشي ، ثم إن العبرة بعموم اللفظ فلذا قال السدي في التالين : هم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال عطاء : هم المؤمنون أي عامة وهو الأرجح ويدخل الأصحاب دخولا أوليا ، وقيل معنى يتلون كتاب الله يتبعونه فيعملون بما فيه ، وكأنه جعل يتلو من تلاه إذا تبعه أو حمل التلاوة المعروفة على العمل لأنها ليس فيها كثير نفع دونه ، وقد ورد : «رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه» ويشعر كلام بعضهم باختيار المعنى المتبادر حيث قال : إنه تعالى لما ذكر الخشية وهي عمل القلب ذكر بعدها علم اللسان والجوارح والعبادة المالية ، وجوز أن يراد بكتاب الله تعالى جنس كتبه عزوجل الصادق على التوراة والإنجيل وغيرهما فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين بقوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) إلخ والمضارع لحكاية الحال الماضية ، والمقصود من الثناء عليهم وبيان ما لهم حث هذه الأمة على اتباعهم وأن يفعلوا نحو ما فعلوا ، والوجه الأول أوجه كما لا يخفى وعليه الجمهور.

(وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي مسرين ومعلنين أو في سر وعلانية ، والمراد ينفقون كيفما اتفق من غير قصد إليهما ، وقيل السر في الإنفاق المسنون والعلانية في الإنفاق المفروض ، وفي كون الإنفاق مما رزقوا إشارة إلى أنهم لم يسرفوا ولم يبسطوا أيديهم كل البسط ، ومقام التمدح مشعر بأنهم تحروا الحلال الطيب ، وقيل جيء بمن لذلك ، والمعتزلة يخصون الرزق بالحلال وهو أنسب بإسناد الفعل إلى ضمير العظمة ، ومن لا يخصه بالحلال يقول هو التعظيم والحث على الإنفاق (يَرْجُونَ) بما آتوا من الطاعات (تِجارَةً) أي معاملة مع الله تعالى لنيل ربح الثواب على أن التجارة مجاز عما ذكر والقرينة حالية كما قال بعض الأجلة ، وقوله تعالى : (لَنْ تَبُورَ) أي لن تكسد ، وقيل لن تهلك بالخسران صفة تجارة وترشيح للمجاز ، وجملة (يَرْجُونَ) إلخ على ما قال الفراء وأبو البقاء خبر إن ، وفي إخباره تعالى عنهم بذلك إشارة إلى أنهم لا يقطعون بنفاق تجارتهم بل يأتون ما آتوا من الطاعات وقلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم ، وجعل بعضهم التجارة مجازا عن تحصيل الثواب بالطاعة وأمر الترشيح على حاله وإليه ذهب أبو السعود ثم قال : والإخبار برجائهم من أكرم الأكرمين عدة قطعية بحصول مرجوهم.

وظاهر ما روي عن قتادة من تفسيره التجارة بالجنة أنها مجاز عن الربح وفسر (لَنْ تَبُورَ) بلن تبيد وهو كما ترى ، وقوله تعالى : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) متعلق عند بعض بما دل عليه لن تعلق (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) في قوله تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم : ٢] بما دل عليه ـ ما ـ لا بالحرف إذ لا يتعلق الجار به على المشهور أي ينتفي الكساد عنها وتنفق عند الله تعالى ليوفيهم أجور أعمالهم (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على ذلك من خزائن رحمته ما يشاء وعن أبي وائل زيادته تعالى إياهم بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم.

وقال الضحاك : بتفسيح القلوب ، وفي الحديث بتضعيف حسناتهم ، وقيل بالنظر إلى وجهه تعالى الكريم.

والظاهر أن (مِنْ فَضْلِهِ) راجع لما عنده ففيه إشارة إلى أن توفية أجورهم كالواجب لكونه جزاء لهم بوعده

٣٦٥

سبحانه ويجوز أن يكون راجعا إليهما أو متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله وهو ما عد من أفعالهم المرضية أي فعلوا ذلك ليوفيهم أجورهم إلخ ، وجوز تعلقه بما قبله على التنازع وصنيع أبي البقاء يشعر باختيار تعلقه بيرجون وجعل اللام عليه لام الصيرورة. ويعقب بأنه لا مانع من جعلها لام العلة كما هو الشائع الكثير ولا يظهر للعدول عنه وجه.

ووجه ذلك الطيبي بأن غرضهم فيما فعلوا لم يكن سوى تجارة غير كاسدة لأن صلة الموصول هنا علة وإيذان بتحقق الخبر ولما أدى ذلك إلى أن وفاهم الله تعالى أجورهم أتى باللام ، وإنما لم يذهب إليه بعض الأجلة كالزمخشري لأن هذه اللام لا توجد إلا فيما يترتب الثاني الذي هو مدخولها على الأول ولا يكون مطلوبا نحو تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] وقوله تعالى : (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) تعليل لما قبله من التوفية والزيادة عند الكثير أي غفور لفرطات المطيعين شكور لطاعاتهم أي مجازيهم عليها أكمل الجزاء فيوفي هؤلاء أجورهم ويزيدهم من فضله ، وجوز أن يكون خبرا بعد خبر والعائد محذوف أي لهم ، وجوز أن يكون هو الخبر بتقدير العائد وجملة (يَرْجُونَ) حال من ضمير (أَنْفَقُوا) بناء على أن القيد المتعقب لأمور متعددة يختص بالأخير كما هو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أو على أن رجاء التجارة النافقة أوفق بالإنفاق أو من مقدر أي فعلوا جميع ذلك راجين.

واستظهره الطيبي ، والجملة عليه معترضة فلا يرد أن فيه الفصل بين المبتدأ وخبره بأجنبي ، وجوز أن يكون حالا من ضمير (الَّذِينَ) على سبيل التنازع ، ولم يشتهر التنازع في الحال وأنا لا أرى فيه بأسا ، واستظهر بعض المعاصرين جعل الجملة المذكورة حالا من ضمير (أَنْفَقُوا) لقربه وشدة الملاءمة بين الإنفاق ورجاء تجارة لها نفاق ولا يبعد أن يكون قد حذف فيما تقدم نظيرها لدلالتها عليه وجعل (لِيُوَفِّيَهُمْ) متنازعا فيه للأفعال الثلاثة المتعاطفة أو جعل الجملة حالا من مقدر كما سمعت آنفا و (لِيُوَفِّيَهُمْ) متعلقا بيرجون وجملة (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) خير المبتدأ والربط محذوف وفي جملة (يَرْجُونَ) إلخ احتمال الاستعارة التمثيلية ولو على بعد ولم أر من أشار إليه فتدبر.

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) وهو القرآن ، و (مِنَ) للتبيين إذ القرآن أخص من الذي أوحينا مفهوما وإن اتحدا ذاتا أو جنس الكتاب ومن للتبعيض إذ المراد من (الَّذِي أَوْحَيْنا) هو القرآن وهو بعض جنس الكتاب ، وقيل هو اللوح ومن للابتداء (هُوَ الْحَقُ) إذا كان المراد الحصر فهو من قصر المسند إليه على المسند لا العكس لعدم استقامة المعنى إلا أن يقصد المبالغة قاله الخفاجي والمتبادر الشائع في أمثاله قصر المسند على المسند إليه وهو هاهنا إن لم تقصد المبالغة قصر إضافي بالنسبة إلى ما يفتريه أهل الكتاب وينسبونه إلى الله تعالى.

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لما تقدمه من الكتب السماوية ونصب (مُصَدِّقاً) على الحالية والعامل فيه مقدر يفهم من مضمون الجملة قبله أي أحققه مصدقا وهو حال مؤكدة لأن حقيته تستلزم موافقته الكتب الإلهية المتقدمة عليه بالزمان في العقائد وأصول الأحكام ، واللام للتقوية (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) محيط ببواطن أمورهم وظواهرها فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الحق المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب ، وتقديم «الخبير» للتنبيه على أن العمدة هي الأمور الروحانية ، وإلى ذلك أشارصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «إن الله لا ينظر إلى أعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم» (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) أي القرآن كما عليه الجمهور ، والعطف قيل على (الَّذِي أَوْحَيْنا) وقيل على (أَوْحَيْنا) بإقامة الظاهر مقام الضمير العائد على الموصول ، واستظهر ذلك بالقرب وتوافق الجملتين أي ثم أعطيناه من غير كد وتعب في طلبه (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) وهم كما قال ابن عباس وغيره أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الله تعالى اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس وخصهم بالانتماء

٣٦٦

إلى أكرم رسله وأفضلهم عليهم الصلاة والسلام ، و (ثُمَ) للتراخي الرتبي فإن إيحاء الكتاب إليهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أشرف من الإيراث المذكور كأنه كالعلة له وبه تحققت نبوته عليه الصلاة والسلام التي هي منبع كل خير وليست للتراخي الزماني إذ زمان إيحائه إليه عليه الصلاة والسلام هو زمان إيراثه ، وإعطائه أمته بمعنى تخصيصه بهم وجعله كتابهم الذي إليه يرجعون وبالعمل بما فيه ينتفعون ، وإذا أريد بإيراثه إياهم إيراثه منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعلهم منتفعين به فاهمين ما فيه بالذات كالعلماء أو بالواسطة كغيرهم بعده عليه الصلاة والسلام فهي للتراخي الزماني ، والتعبير عن ذلك بالماضي لتحققه ، وجوز أن يكون معنى (أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) حكمنا بإيراثه وقدرناه على أنه مجاز من إطلاق السبب على المسبب فتكون ثم للتراخي الرتبي وإلا فزمان الحكم سابق على زمان الإيحاء.

ووجه التعبير بالماضي عليه ظاهر. وفي شرح الرضي أن ثم قد تجيء في عطف الجمل خاصة لاستبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها وعدم مناسبته له كما في قوله تعالى : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [هود : ٣ ، ٩٠] فإن بين توبة العباد وهي انقطاع العبد إليه تعالى بالكلية وبين طلب لمغفرة بونا بعيدا وهذا المعنى فرع التراخي ومجازه ا ه.

وابن الشيخ جعل ما هنا كما في هذه الآية ، وجوز أن يكون (ثُمَّ أَوْرَثْنَا) إلخ متصلا بما سبق من قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) [البقرة : ١١٩] و (إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] والمراد ثم أورثنا الكتاب من الأمم السالفة وأعطيناه بعدهم الذين اصطفيناهم من الأمة المحمدية ، والكتاب القرآن كما قيل : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ١٩٦] وقيل لا يحتاج إلى اعتبار ذلك ويجعل المعنى ثم أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناه هذه الأمة ، ووجه النظم أنه تعالى قدم إرساله في كل أمة رسولا وعقبه بما ينبئ أن تلك الأمم تفرقت حزبين حزب كذبوا الرسل وما أنزل معهم وهم المشار إليهم بقوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) [فاطر : ٢٥] وحزب صدقوهم وتلوا كتاب الله تعالى وعملوا بمقتضاه وهم المشار إليهم بقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إلخ وبعد أن أثنى سبحانه على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم جاء بما يختص برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله سبحانه : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) إلخ استطرادا معترضا ثم أخبر سبحانه بإيراثه هذا الكتاب الكريم هذه الأمة بعد إعطاء تلك الأمم الزبر والكتاب المنير ، وعلى هذا يكون المعنى في (أَوْرَثْنَا) على ظاهره ، وثم للتراخي في الأخبار أو للتراخي في الرتبة إيذانا بفضل هذا الكتاب على سائر الكتب وفضل هذه الأمة على سائر الأمم ، وفي هذا الوجه حمل الكتاب في قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) على الجنس وجعل الآية ثناء على الأمم المصدقين بعد اقتصاص حال المكذبين منهم ، فإن دفع ما فيه فهو من الحسن بمكان. وجوز أن يكون عطفا على (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) وإذا كان إيراث الكتاب سابقا على تلاوته فالمعنى على ظاهره وثم للتفاوت الرتبي أو للتراخي في الأخبار (وَالَّذِي أَوْحَيْنا) إلخ اعتراض لبيان كيفية الإيراث لأنه إذا صدقها بمطابقته لها في العقائد والأصول كان كأنه هي وكأنه انتقل إليهم ممن سلف ، وهو كما ترى ، وجوز على هذا وما قبله أن يراد بالكتاب الجنس ، ولا يخفى أن إرادة القرآن هو الظاهر ، وقيل المراد بالمصطفين علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم ممن يسير بسيرتهم وإيراثهم القرآن جعلهم فاهمين معناه واقفين على حقائقه ودقائقه أمناء على أسراره.

وروى الإمامية عن الصادق والباقر رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا : هي لنا خاصة وإيانا عنى أرادا أن أهل البيت أو الأئمة منهم هم المصطفون الذين أورثوا الكتاب ، واختار هذا الطبرسي الإمامي قال في تفسيره مجمع البيان : وهذا

٣٦٧

أقرب الأقوال لأنهم أحق الناس بوصف الاصطفاء والاجتباء وإيراث علم الأنبياء عليهم‌السلام.

وربما يستأنس له بقوله عليه الصلاة والسلام : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض» وحملهم على علماء الأمة أولى من هذا التخصيص ويدخل فيهم علماء أهل البيت دخولا أوليا ففي بيتهم نزل الكتاب ولن يفترقا حتى يردا الحوض يوم الحساب ، وإذا كانت الإضافة في (عِبادِنا) للتشريف واختص العباد بمؤمني هذه الأمة وكانت من للتبعيض كأن حمل المصطفين على العلماء كالمتعين ، وعن الجبائي أنهم الأنبياء عليهم‌السلام اختارهم الله تعالى وحباهم رسالته وكتبه ، وعليه يكون تعريف الكتاب للجنس والعطف على قوله تعالى : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُ) وثم للتراخي في الأخبار ، أخبر سبحانه أولا عما أوتيه نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو متضمن للأخبار بإيتائه عليه الصلاة والسّلام الكتاب على أكمل وجه ثم أخبر سبحانه بتوريث إخوانه الأنبياء عليهم‌السلام وإيتائهم الكتب ، ومما يرد عليه أن إيتاء الأنبياء عليهم‌السلام الكتب قد علم قبل من قوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) [فاطر : ٢٥].

وعن أبي مسلم أنهم المصطفون المذكورون في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٣٣] وهو دون ما قبله ، وأيا ما كان فالموصول مفعول أول لأورثنا ، و (الْكِتابَ) مفعول ثان له قدم لشرفه والاعتناء به وعدم اللبس ، ومن للبيان أو للتبعيض (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) الفاء للتفصيل لا للتعليل كما قيل ، وضمير الجمع على ما سمعت أولا في تفسير الموصول للموصول ، والظالم لنفسه من قصر في العمل بالكتاب وأسرف على نفسه وهو صادق على من ظلم غيره لأنه بذلك ظالم لنفسه والمشهور مقابلته بالظالم لغيره ، واللام للتقوية.

(وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) يتردد بين العمل به ومخالفته فيعمل تارة ويخالف أخرى ، وأصل معنى الاقتصاد التوسط في الأمر (وَمِنْهُمْ سابِقٌ) متقدم إلى ثواب الله تعالى وجنته (بِالْخَيْراتِ) أي بسبب الخيرات أي الأعمال الصالحة ، وقيل : سابق على الظالم لنفسه والمقتصد في الدرجات بسبب الخيرات ، وقيل : أي محرز الفضل بسببها (بِإِذْنِ اللهِ) أي بتيسيره تعالى وتوفيقه عزوجل ، وفيه تنبيه على عزة منال هذه الرتبة وصعوبة مأخذها ، وفسر بمن غلبت طاعته معاصيه وكثر عمله بكتاب الله تعالى ، وما ذكر في تفسير الثلاثة مما يشير إليه كلام الحسن فقد روي عنه أنه قال : الظالم من خفت حسناته والمقتصد من استوت والسابق من رجحت ، ووراء ذلك أقوال كثيرة فقال معاذ : الظالم لنفسه الذي مات على كبيرة لم يتب منها والمقتصد من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها والسابق من مات تائبا من كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك ، وقيل الظالم لنفسه العاصي المسرف والمقتصد متقي الكبائر والسابق المتقي على الإطلاق ، وقيل الأول المقصر في العمل والثاني العامل بالكتاب في أغلب الأوقات ولم يخل عن تخليط والثالث السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.

وقيل الأولان كما ذكر والثالث المداوم على إقامة مواجب الكتاب علما وعملا وتعليما ، وقيل : الأول من أسلم بعد الفتح والثاني من أسلم قبله والثالث من أسلم قبل الهجرة ، وقيل : هم من لا يبالي من أين ينال ومن قوته من الحلال ومن يكتفي من الدنيا بالبلاغ ، وقيل : من همه الدنيا ومن همه العقبى ومن همه المولى ، وقيل : طالب النجاة وطالب الدرجات وطالب المناجاة ، وقيل : تارك الزلة وتارك الغفلة وتارك العلاقة ، وقيل : من شغله معاشه عن معاده ومن شغله بهما ومن شغله معاده عن معاشه وقيل : من يأتي بالفرائض خوفا من البار ومن يأتي بها خوفا منها ورضا واحتسابا ومن يأتي بها رضا واحتسابا فقط ، وقيل : الغافل عن الوقت والجماعة والمحافظ على الوقت دون الجماعة والمحافظ

٣٦٨

عليهما ، وقيل : من غلبت شهوته عقله ومن تساويا ومن غلب عقله شهوته ، وقيل : من لا ينهى عن المنكر ويأتيه ومن ينهى عن المنكر ويأتيه ومن يأمر بالمعروف ويأتيه ، وقيل : ذو الجور وذو العدل وذو الفضل ، وقيل : ساكن البادية والحاضرة والمجاهد ، وقيل : من كان ظاهره خيرا من باطنه ومن استوى باطنه وظاهره ومن باطنه خير من ظاهره.

وقيل : التالي للقرآن غير العالم به ولا العامل بموجبه والتالي العالم غير العامل والتالي العالم العامل ، وقيل :

الجاهل والمتعلم والعالم ، وقيل : من خالف الأوامر وارتكب المناهي ومن اجتهد في أداء التكاليف وإن لم يوفق لذلك ومن لم يخالف تكاليف الله تعالى.

وروى بعض الإمامية عن ميسر بن عبد العزيز عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه الظالم لنفسه منا من لا يعرف حق الإمام والمقتصد العارف بحق الإمام والسابق هو الإمام ، وعن زياد بن المنذر عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه الظالم لنفسه منا من علم صالحا وآخر سيئا والمقتصد المتعبد المجتهد والسابق بالخيرات علي والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم ومن قتل من آل محمد شهيدا ، وقيل : هم الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه والموحد الذي يمنع جوارحه بالتكليف والموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد ، وقيل : من يدخل الجنة بالشفاعة ومن يدخلها بفضل الله تعالى ومن يدخلها بغير حساب ، وقيل : من أوتي كتابه من وراء ظهره ومن أوتي كتابه بشماله ومن أوتي كتابه بيمينه ، وقيل : الكافر مطلقا والفاسق والمؤمن التقي ، وفي معناه ما جاء في رواية عن ابن عباس وقتادة وعكرمة الظالم لنفسه أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة والسابق بالخيرات السابقون المقربون ، والظاهر أن هؤلاء ومن قال نحو قولهم يجعلون ضمير (مِنْهُمْ) للعباد لا للموصول ولا شك أن منهم الكافر وغيره وكون العباد المضاف إلى الله تعالى مخصوصا بالمؤمنين ليس بمطرد وإنما يكون كذلك إذا قصد بالإضافة التشريف ، والقول برجوع الضمير للموصول والتزام كون الاصطفاء بحسب الفطرة تعسف كما لا يخفى ، وقيل : في تفسير الثلاثة غير ما ذكر ، وذكر في التحرير ثلاثة وأربعين قولا في ذلك ، ومن تتبع التفاسير وجدها أكثر من ذلك لكن لا يجد في أكثرها كثير تفاوت ، والذي يعضده معظم الروايات والآثار أن الأصناف الثلاثة من أهل الجنة فلا ينبغي أن يلتفت إلى تفسير الظالم بالكافر إلا بتأويل كافر النعمة وإرادة العاصي منه.

أخرج الإمام أحمد والطيالسي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي والترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في هذه الآية : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) ـ إلى ـ (بِالْخَيْراتِ) هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة ، وقوله عليه الصلاة والسّلام وكلهم إلخ عطف تفسيري. وأخرج الطبراني وابن مردويه في البعث عن أسامة بن زيد أنه قال في الآية : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلهم من هذه الأمة وكلهم في الجنة» وأخرج ابن النجار عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له» وأخرج العقيلي وابن مردويه والبيهقي عن عمر بن الخطاب مرفوعا نحوه.

وأخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي الدرداء قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول قال الله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) فأما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة بغير حساب وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابا يسيرا وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يتلقاهم الله تعالى برحمته فهم الذين يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور» الآية قال البيهقي : إذا كثرت الروايات في حديث ظهر أن للحديث أصلا ، والأخبار في هذا الباب كثيرة وفيما

٣٦٩

ذكر كفاية ، وقدم الظالم لنفسه لكثرة الظالمين لأنفسهم وعقب بالمقتصد لقلة المقتصدين بالنسبة إليهم وأخر السابق لأن السابقين أقل من القليل قاله الزمخشري ، وحكى الطبرسي أن هذا الترتيب على مقامات الناس فإن أحوال العباد ثلاث معصية ثم توبة ثم قربة فإذا عصى العبد فهو ظالم فإذا تاب فهو مقتصد فإذا صحت توبته وكثرت مجاهدته فهو سابق ، وقيل : قدم الظالم لئلا ييأس من رحمة الله تعالى وأخر السابق لئلا يعجب بعمله فتعين توسيط المقتصد ، وقال قطب الدين : النكتة في تقديم الظالم أنه أقرب الثلاثة إلى بداية حال العبد قبل اصطفائه بإيراث الكتاب فإذا باشره الاصطفاء فمن العباد من يتأثر قليلا وهو الظالم لنفسه ومنهم من يتأثر تأثرا وسطا وهو المقتصد ومنهم من يتأثر تأثرا تاما وهو السابق ، وقريب منه ما قيل : إن الاصطفاء مشكك تتفاوت مراتبه وأولها ما يكون للمؤمن الظالم لنفسه وفوقه ما يكون للمقتصد وفوق الفوق ما يكون للسابق بالخيرات فجاء الترتيب كالترقي في المراتب ، وقيل : أخر السابق لتعدد ما يتعلق به فلو قدم أو وسط لبعد في الجملة ما بين الأقسام المتعاطفة ولما كان الاقتصاد كالنسبة بين الظلم والسبق اقتضى ذلك تقديم الظالم وتأخير المقتصد ليكون المقتصد بين الظالم والسابق لفظا كما هو بينهما معنى ، وقد يقال : رتب هذه الثلاثة هذا الترتيب ليوافق حالهم في الذكر بالنسبة إلى ما وعدوا به من الجنات في قوله سبحانه (جَنَّاتُ عَدْنٍ) الآية حالهم في الحشر عند تحقق الوعد فأخر السابق الداخل في الجنان أولا ليتصل ذكره بذكر الجنات الموعود بها وذكر قبله المقتصد وجعل السابق فاصلا بينه وبين الجنات لأنه إنما يدخلها بعده فيكون فاصلا بينه وبينها في الدخول وذكر قبلهما الظالم لنفسه لأنه إنما يدخلها ويتصل بها بعد دخولهما فتأخير السابق في المعنى تقديم وتقديم الظالم في المعنى تأخير ، ويحتمل ذلك أوجها أخرى تظهر بالتأمل فتأمل ، وقرأ أبو عمران الجوني وعمر بن أبي شجاع ويعقوب في رواية والقزاز عن أبي عمرو «سباق» بصيغة المبالغة (ذلِكَ) أي ما تقدم من الإيراث والاصطفاء (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) من الله عزوجل لا دخل للكسب فيه (جَنَّاتُ عَدْنٍ) مبتدأ خبره قوله تعالى : (يَدْخُلُونَها) ويؤيده قراءة الجحدري وهارون عن عاصم «جنات» بالنصب على الاشتغال أي يدخلون جنات عدن يدخلونها واحتمال جره بدلا من الخيرات بعيد وفيه الفصل بين البدل والمبدل منه بأجنبي فلا يلتفت إليه.

وضمير الجمع للذين اصطفينا أو للثلاثة. وقال الزمخشري : ذلك إشارة إلى السبق بالخيرات و (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من الفضل الذي هو السبق ولما كان السبق بالخيرات سببا لنيل الثواب جعل نفس الثواب إقامة للسبب مقام المسبب ثم أبدل منه وضمير الجمع للسابق لأن القصد إلى الجنس ، فخص الوعد بالقسم الأخير مراعاة لمذهب الاعتزال وهو على ما سمعت للأقسام الثلاثة وذلك هو الأظهر في النظم الجليل ليطابقه قوله تعالى بعد (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) وليناسب حديث التعظيم والاختصاص المدمج في قوله سبحانه (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) وإلا فأي تعظيم في ذلك الذكر بعد أن لز أكثر المصطفين في قرن الكافرين وليناسب ذكر الغفور بعد حال الظالم والمقتصد والشكور حال السابق ولتعسف ما ذكره من الاعراب وبعده عن الذوق وكيف لا يكون الأظهر وقد فسره كذلك أفضل الرسل ومن أنزل عليه هذا الكتاب المبين على ما مر آنفا وإليه ذهب الكثير من أصحابه الفخام ونجوم الهداية بين الأنام رضي الله تعالى عنهم وعد منهم في البحر عمر وعثمان وابن مسعود وأبا الدرداء وأبا سعيد وعائشة رضي الله تعالى عنهم ، وقد أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب أنه قال بعد أن قرأ الآية : أشهد على الله تعالى أنه يدخلهم الجنة جميعا ، وأخرج غير واحد عن كعب أنه قرأ الآية إلى (لُغُوبٌ) فقال دخلوها ورب الكعبة ، وفي لفظ كلهم في الجنة ألا ترى على أثره (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) نعم إن أريد بالظالم لنفسه الكافر يتعذر رجوع الضمير إلى ما ذكر ويتعين رجوعه إلى السابق وإليه وإلى المقتصد لأن المراد بهما الجنس لكن لا

٣٧٠

ينبغي أن يراد بعد هاتيك الأخبار ، وقرأ زر بن حبيش والزهري «جنة عدن» بالأفراد والرفع وقرأ أبو عمرو «يدخلونها» بالبناء للمفعول ورويت عن ابن كثير ، وقوله تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها) خبر ثان لجنات أو حال مقدرة ، وقيل : إنها لقرب الوقوع بعد الدخول تعد مقارنة وقرى «يحلون» بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام من حليت المرأة فهي حالية إذا لبست الحلي ويقال جيد حال إذا كان عليه الحلي (مِنْ أَساوِرَ) جمع سوار على ما في الإرشاد ، وفي القاموس السوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار بالضم جمعه أسورة وأساور وأساورة وسور وسؤور ا ه ، وإطلاق الجمع على جمع الجمع كثير فلا مخالفة ، وسوار المرأة معرب كما قال الراغب وأصله دستواره ، ومن للتبعيض أي يحلون بعض أساور كأنه بعض له امتياز وتفوق على سائر الأبعاض ، وجوز أن تكون للبيان لما أن ذكر التحلية مما ينبئ عن الحلي المبهم ، وقيل : زائدة بناء على ما يرى الأخفش من جواز زيادتها في الإثبات ، وقيل : نعت لمفعول محذوف ليحلون وأنه بمعنى يلبسون و (مِنْ) في قوله تعالى : (مِنْ ذَهَبٍ) بيانية (وَلُؤْلُؤاً) عطف على محل (مِنْ أَساوِرَ) أي ويحلون فيها لؤلؤا. أخرج الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا الآية فقال : إن عليهم التيجان إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب ، وقيل : عطف على المفعول المحذوف أو منصوب بفعل مضمر يدل عليه (يُحَلَّوْنَ) أي ويؤتون لؤلؤا. وقرأ جمع من السبعة «لؤلؤ» بالجر عطفا على (ذَهَبٍ) أي يحلون فيها بعض أساور من مجموع ذهب ولؤلؤ بأن تنظم حبات ذهب مع حبات لؤلؤ ويتخذ من ذلك سوار كما هو معهود اليوم في بلادنا أو بأن يرصع الذهب باللؤلؤ كما يرصع ببعض الأحجار ، وقيل : أي من ذهب في صفاء اللؤلؤ ، وفيه ما فيه من الكدر.

ولعل من يقول بأنه لا اشتراك بين ذهب الدنيا ولؤلؤها وذهب الآخرة ولؤلؤها إلا بالاسم لا يلتزم النظم ولا الترصيع كما لا يخفى ، وقرئ «لؤلؤا» بتخفيف الهمزة الأولى (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي إبريسم محض كما في مجمع البيان ، وقال الراغب : مارق من الثياب. وتغيير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرا قيل للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غني عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم عنه وإنما المحتاج إلى البيان إن لباسهم ما ذا بخلاف الأساور واللؤلؤ فإنها ليست من اللوازم الضرورية ولذا لا يلزم العدل بين الزوجات فيها فجعل بيان تحليتهم مقصورا بالذات ، ولعل هذا هو الباعث على تقديم التحلية على بيان حال اللباس ، وقيل : إن ذلك للدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة مع المحافظة على هيئة الفواصل وليس بذاك (وَقالُوا) أي ويقولون.

وصيغة الماضي للدلالة على التحقق (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) حزن تقلب القلب وخوف العاقبة على ما روي عن القاسم بن محمد ، وقال أبو الدرداء : حزن أهوال القيامة وما يصيب من ظلم نفسه هنالك.

وأخرج الحاكم وصححه : وابن أبي حاتم وغيرهما عن ابن عباس حزن النار. وقال الضحاك حزن الموت يقولون ذلك إذا ذبح الموت ، وقال مقاتل : حزن الانتقال يقولون ذلك إذا استقروا فيها ، وقال قتادة : حزن أن لا تتقبل أعمالهم ، وقال الكلبي : خوف الشيطان ، وقال سمرة بن جندب : حزن معيشة الدنيا الخبز ونحوه ، وعن ابن عباس حزن الآفات والأعراض وقيل : حزن كراء الدار والأولى أن يراد جنس الحزن المنتظم لجميع أحزان الدين والدنيا والآخرة ، وكل ما سمعت من باب التمثيل وقد تقدم في الحديث «إن الذين ظلموا أنفسهم هم الذين يقولون» أي بعد أن يتلقاهم الله تعالى برحمته (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) إلخ فلا تغفل وقرئ الحزن بضم الحاء وسكون الزاي ذكره جناح بن حبيش (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ) للمذنبين (شَكُورٌ) للمطيعين.

وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أنه قال في ذلك غفر لنا العظيم من ذنوبنا وشكر لنا القليل من أعمالنا ،

٣٧١

وفي الكشاف ذكر الشكور دليل على أن القوم كثير والحسنات ، وكان عليه أن يقول : وذكر الغفور دليل على أنهم كثير والفرطات فينطبق على الفرق ولا ينفك النظم ولكن منعه المذهب (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ) أي دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدا وهي الجنة (مِنْ فَضْلِهِ) من إنعامه سبحانه وتفضله وكرمه فإن العمل وإن كان سببا لدخول الجنة في الجملة لكن سببيته بفضل الله عزوجل أيضا إذ ليس هناك استحقاق ذاتي ، ومن علم أن العمل متناه زائل وثواب الجنة دائم لا يزول لم يشك في أن الله تعالى ما أحل من أحل دار الإقامة إلا من محض فضله سبحانه وقال الزمخشري : أي من إعطائه تعالى وإفضاله من قولهم لفلان فضول على قومه وفواضل وليس من الفضل الذي هو التفضل لأن الثواب بمنزلة الأجر المستحق والتفضل كالتبرع وفيه من الاعتزال ما فيه (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) أي تعب (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) كلال وفتور وهو نتيجة النصب ، وضمه إليه وتكرير الفعل المنفي للمبالغة في بيان انتفاء كل منهما كذا قال جمع من الأجلة ، وقال بعضهم : النصب التعب الجسماني واللغوب التعب النفساني.

وأخرج ابن جرير عن قتادة أنه فسر النصب بالوجع والكلام من باب :

لا ترى الضب بها ينجحر

والجملة حال من أحد مفعولي أحل. وقرأ علي كرّم الله تعالى وجهه والسلمي «لغوب» بفتح اللام ، قال الفراء : هو ما يغب به كالفطور والسحور ، وجاز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي لا يمسنا فيها لغوب لغوب نحو شعر شاعر كأنه وصف اللغوب بأنه قد لغب أي أعيا وتعب.

وقال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون مصدرا كالقبول وإن شئت جعلته صفة لمضمر أي أمر لغوب.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) أي لا يحكم عليهم بموت ثان (فَيَمُوتُوا) ليستريحوا بذلك من عذابها بالكلية وإنما فسر لا يقضي بما ذكر دون لا يموتون لئلا يلغوا فيموتوا ويحتاج إلى تأويله بيستريحوا.

ونصب يموتوا في جواب النفي بإضمار أن والمراد انتفاء المسبب لانتفاء السبب أي ما يكون حكم بالموت فكيف يكون الموت. وقرأ عيسى والحسن «فيموتون» بالنون عطفا كما قال أبو عثمان المازني على (يُقْضى) كقوله تعالى : (لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) أي لا يقضى عليهم ولا يموتون (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) المعهود لهم بل كلما خبت زيد إسعارها ، والمراد دوام العذاب فلا ينافي تعذيبهم بالزمهرير ونحوه ، ونائب فاعل يخفف (عَنْهُمْ) ومن عذابها في موضع نصب ويجوز العكس ، وجوز أن تكون من زائدة فيتعين رفع مجرورها على أنه النائب عن الفاعل على ما قال أبو البقاء وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «ولا يخفف» بإسكان الفاء شبه المنفصل بالمتصل كقوله :

فاليوم أشرب غير مستحقب

(كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء الفظيع (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) مبالغ في الكفر أو الكفران لا جزاء أخف وأدنى منه.

وقرأ أبو عمرو وأبو حاتم عن نافع «يجزى» بالياء مبنيا للمفعول و«كلّ» بالرفع على النيابة عن الفاعل وقرئ «نجازي» بنون مضمومة وألف بعد الجيم (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) افتعال من الصراخ وهو شدة الصياح والأصل يصترخون فأبدلت التاء طاء ويستعمل كثيرا في الاستغاثة لأن المستغيث يصيح غالبا ، وبه فسره هنا قتادة فقال : يستغيثون فيها ، واستغاثتهم بالله عزوجل بدليل ما بعده وقيل ببعضهم لحيرتهم وليس بذاك.

(رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) بإضمار القول أي ويقولون بالعطف أو يقولون بدونه على أنه تفسير لما قبله أو قائلين على أنه حال من ضميرهم ، وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه

٣٧٢

من غير الصالح مع الاعتراف به والأشعار بأن استخراجهم لتلافيه فهو وصف مؤكد ولأنهم كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا فكأنهم قالوا : نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا فنعمله فالوصف مقيد.

وذكر أبو البقاء أن (صالِحاً) و (غَيْرَ الَّذِي) يجوز أن يكونا صفتين لمصدر محذوف أو لمفعول محذوف وأن يكون (صالِحاً) نعتا لمصدر و (غَيْرَ الَّذِي) مفعول (نَعْمَلْ) وأيا ما كان فالمراد أخرجنا من النار وردنا إلى الدنيا نعمل صالحا وكأنهم أرادوا بالعمل الصالح التوحيد وامتثال أمر الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد له ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : (نَعْمَلْ صالِحاً) نقل لا إله إلا الله (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) جواب من جهته تعالى وتوبيخ لهم في الآخرة حين يقولون (رَبَّنا) إلخ فهو بتقدير فنقول لهم أو فيقال لهم «أو لم نعمركم» إلخ ، وفي بعض الآثار أنهم يجابون بذلك بعد مقدار الدنيا ، والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام وما موصولة أو موصوفة أي ألم نمهلكم ونعمركم الذي أي العمر الذي أو عمرا يتذكر فيه من تذكر أي يتمكن فيه من أراد التذكر وتحققت منه تلك الإرادة من التذكر والتفكر.

وقال أبو حيان : ما مصدرية ظرفية أي ألم نعمركم في مدة تذكر ، وتعقب بأن ضمير (فِيهِ) يأباه لأنها لا يعود عليها ضمير إلا على نظر الأخفش فإنه يرى اسميتها وهو ضعيف ، ولعله يجعل الضمير للعمر المفهوم من (نعمر) وفيه بعد.

وجعل ما نافية لا يصح كما قال ابن الحاجب لفظا ومعنى ، وهذا العمر على ما روي عن علي كرّم الله تعالى وجهه وأخرجه جماعة وصححه الحاكم عن ابن عباس ستون سنة ، وقد أخرج الإمام أحمد البخاري والنسائي وغيرهم عن سهل بن سعد قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعذر الله تعالى إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة» ، ـ وقيل : ـ هو خمسون سنة» وفي رواية عن ابن عباس أنه ست وأربعون سنة ، وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن أنه أربعون سنة ، وفي رواية أخرى عنه أنه سن البلوغ ، وقيل : سبع عشرة سنة ، وعن قتادة ثمان عشرة سنة ، وعن عرم بن عبد العزيز عشرون سنة ، وعن مجاهد ما بين العشرين إلى الستين ، وقرأ الأعمش «ما يذكر فيه من اذكر» بالإدغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظا بها في الدرج (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) عطف على معنى الجملة الاستفهامية فكأنه قيل : عمرناكم وجاءكم النذير فليس من عطف الخبر على الإنشاء كما في قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) [الشرح : ١ ، ٢] وجوز أن يكون عطفا على (نُعَمِّرْكُمْ) ودخول الهمزة عليهما فلا تغفل. والمراد بالنذير على ما روي عن السدي وابن زيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : ما معه من القرآن ، وقال أبو حيان : المراد جنس النذير وهم الأنبياء عليهم‌السلام فكل نبي نذير أمته ، ويؤيده أنه قرئ «النذر» جمعا ، وعن ابن عباس وعكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسين بن الفضل والفراء والطبري هو الشيب وفي الأثر ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها استعدي فقد قرب الموت ، ومن هنا قيل :

رأيت الشيب من نذر المنايا

لصاحبه وحسبك من نذير

وقائلة تخضب يا حبيبي

وسود شعر شيبك بالعبير

فقلت لها المشيب نذير عمري

ولست مسودا وجه النذير

وقيل : الحمى ، وقيل : موت الأهل والأقارب ، وقيل : كمال العقل ، والاقتصار على النذير لأنه الذي يقتضيه المقام ، والفاء في قوله تعالى : (فَذُوقُوا) لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجيء النذير ، وفي قوله سبحانه : (فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) للتعليل ، والمراد بالظلم هنا الكفر ، قيل كان الظاهر فما لكم لكن عدل إلى

٣٧٣

المظهر لتقريعهم ، والمراد استمرار نفي أن يكون لهم نصير يدفع عنهم العذاب (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي كل غيب فيهما أي لا يخفى عليه سبحانه خافية فيهما فلا تخفى عليه جل شأنه أحوالهم التي اقتضت الحكمة أن يعاملوا بها هذه المعاملة ولا يخرجوا من النار ، وقرأ جناح بن حبيش «عالم» بالتنوين «غيب» بالنصب على المفعولية لعالم (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) قيل إنه تعليل لما قبله لأنه تعالى إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى ما يكون كان عزوجل أعلم بغيرها ، وفيه نوع خفاء ، وقال الإمام : إن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ) إلخ تقرير لدوامهم في العذاب مع أنهم ما كفروا إلا أياما معدودة فكأن سائلا يسأل عن وجه ذلك فقيل : إن الله تعالى لا يخفى عليه غيب السماوات والأرض فلا يخفى عليه ما في الصدور فكان يعلم سبحانه من الكافر أن الكفر قد تمكن في قلبه بحيث لو دام إلى الأبد لما أطاع الله تعالى ولا عبده انتهى ، وظاهره أن الجملة الأولى تعليل للثانية على عكس ما قيل ، ويمكن أن يقال : إن قوله تعالى : (فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) متضمن نفي أن يكون لهم نصير على سبيل الاستمرار ومستدع خلودهم في العذاب فكان مظنة أن يقال : كيف ينفي ذلك على سبيل الاستمرار والعادة في الشاهد قاضية بوجود نصير لمن تطول أيام عذابه فأجيب بأن الله عالم غيب السماوات والأرض على معنى أنه تعالى محيط بالأشياء علما فلو كان لهم نصير في وقت من الأوقات لعلمه ولما نفي ذلك على سبيل الاستمرار ، وكذا مظنة أن يقال : كيف يخلدون في العذاب وهم قد ظلموا في أيام معدودة؟ فأجيب بأنه عليم بذات الصدور على معنى أنه تعالى يعلم ما انطوت عليه ضمائرهم فيعلم أنهم صمموا على ما هم فيه من الضلال والكفر إلى الأبد فكل من الجملتين مستأنف استئنافا بيانيا فتأمل (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) ملقى إليكم مقاليد التصرف والانتفاع بما فيها أو جعلكم خلفاء ممن قبلكم من الأمم وأورثكم ما بأيديكم من متاع الدنيا لتشكروه بالتوحيد والطاعة أو جعلكم بدل من كان قبلكم من الأمم الذين كذبوا الرسل فهلكوا فلم تتعظوا بحالهم وما حل بهم من الهلاك ، والخطاب قيل عام ، واستظهره في البحر ، وقيل : لأهل مكة ، والخلائف جمع خليفة وقد اطرد جمع فعيلة على فعائل وأما الخلفاء فجمع خليف ككريم وكرماء ، وجوز الواحدي كونه جمع خليفة أيضا وهو خلاف المشهور (فَمَنْ كَفَرَ) منكم مثل هذه النعمة السنية وغمطها أو فمن استمر على الكفر وترك الإيمان بعد أن لطف به وجعل له ما ينبهه على ما يترتب على ذلك (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي وبال كفره وجزاؤه لا على غيره.

(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) أشد الاحتقار والبغض والغضب.

(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) في الآخرة وجملة (وَلا يَزِيدُ) إلخ بيان وتفسير لقوله سبحانه (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) ولزيادة تفصيله نزل منزلة المغاير له ولو لا ذلك لفصل عنه ، والتكرير لزيادة التقرير والتنبيه على أن اقتضاء الكفر لكل واحد واحد من الأمرين الأمرين المقت والخسارة مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه بمعنى أنه لو لم يكن الكفر مستوجبا لشيء سوى مقت الله تعالى لكفى ذلك في قبحه وكذا لو لم يستوجب شيئا سوى الخسار لكفى (قُلْ) تبكيتا لهم (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي آلهتكم ، والإضافة إليهم لأدنى ملابسة حيث إنهم هم الذين جعلوهم شركاء الله تعالى واعتقدوهم كذلك من غير أن يكون له أصل ما أصلا. وقيل : الإضافة حقيقية من حيث إنهم جعلوهم شركاء لأنفسهم فيما يملكونه أو جعلهم الله تعالى شركاء لهم في النار كما قال سبحانه : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) والصفة عليهما مقيدة لا مؤكدة ، وسياق النظم الكريم وسباقه ظاهر أن فيما تقدم (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) بدل اشتمال من (أَرَأَيْتُمْ) لأنه بمعنى أخبروني كأنه قيل : أخبروني عن شركائكم أروني أي جزء خلقوا من الأرض حتى يستحقوا الإلهية والشركة. وجوز أن يكون بدل كل ،

٣٧٤

وقال أبو حيان : لا تجوز البدلية لأنه إذا أبدل مما دخل عليه الاستفهام فلا بدّ من دخول الأداة على البدل ، وأيضا إبدال الجملة من الجملة لم يعهد في لسانهم ثم البدل على نية تكرار العامل ولا يتأتى ذلك هاهنا لأنه لا عامل لأرأيتم ثم قال : والذي أذهب إليه أن (أَرَأَيْتُمْ) بمعنى أخبروني وهي تطلب مفعولين أحدهما منصوب والآخر مشتمل على الاستفهام كقول العرب أرأيت زيدا ما صنع فالأول هنا (شُرَكاءَكُمُ) والثاني (ما ذا خَلَقُوا) و (أَرُونِي) جملة اعتراضية فيها تأكيد للكلام وتسديد ، ويحتمل أن يكون ذلك أيضا من باب الأعمال لأنه توارد على (ما ذا خَلَقُوا) أرأيتم. وأروني لأن أروني قد تعلق عن مفعولها الثاني كما علقت رأى التي لم تدخل عليها همزة النقل عن مفعولها في قولهم : أما ترى أي برق هاهنا ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين فانتهى ، وما ذكره احتمال في الآية الكريمة كما أن ما ذكر أولا احتمال وما قاله في رده ليس بشيء ، أما الأول فلأن لزوم دخول الأداة على البدل فيما إذا كان الاستفهام باق على معناه أما إذا نسخ عنه كما هنا فليس ذلك بلازم ، وأما الثاني فلأن أهل العربية والمعاني نصوا على خلافه وقد ورد في كلام العرب كقوله :

أقول له ارحل لا تقيمن عندنا

وإلا فكن في السر والجهر مسلما

وأما الثالث فلأن كون البدل على نية تكرار العامل إنما هو كما نقل الخفاجي عنهم في بدل المفردات.

وليس لك أن تقول العامل هنا موجود وهو (قُلْ) لأن العبرة بالمقول ولا عامل فيه إذ يقال وهو ظاهر ، وجوز أن لا يكون (أَرَأَيْتُمْ) بمعنى أخبروني بل المراد حقيقة الاستفهام عن الرؤية وأروني أمر تعجيز للتبيين أي أعلمتم هذه التي تدعونها ما هي وعلى ما هي عليه من العجز أو تتوهمون فيها قدرة فإن كنتم تعلمونها عاجزة فكيف تعبدونها أو كنتم توهمتم فيها قدرة فأروني أثرها ، وما تقدم أظهر (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي بل ألهم شركة مع الله عزوجل في خلق السماوات حتى يستحقوا ما زعمتم فيهم ، وقال بعضهم : الأولى أن لا يقدر مضاف على أن المعنى أم لهم شركة معه سبحانه في السماوات خلقا وإبقاء وتصرفا لأن المقصود نفي آيات الإلهية عن الشركاء وليست محصورة في الخلق والتقدير أوفق بما قبله ، والكلام قيل من باب التدرج من الاستقلال إلى الشركة ثم منها إلى حجة وبينة مكتوبة بالشركة كأنه قيل : أخبروني عن الذين تدعون من دون الله هل استبدوا بخلق شيء من الأرض حتى يكونوا معبودين مثل الله تعالى بل ألهم شركة معه سبحانه في خلق السماوات (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) أي بل آتيناهم كتابا ينطق بأنا اتخذناهم شركاء (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) أي حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة معنا.

وقال في الكشف : الظاهر أن الكلام مبني على الترقي في إثبات الشركة لأن الاستبداد بخلق جزء من الأرض شركة ما معه عزوجل والاشتراك معه سبحانه في خلق السماوات أدل على إثباتها ثم إيتاء كتاب منه تعالى على أنهم شركاؤه أدل وأدل ، وقيل : هم في (آتَيْناهُمْ) للمشركين وكذا في ـ فهم ـ كما في قوله تعالى : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) [الروم : ٣٥] إلخ ففي الكلام التفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة إعراضا عن المشركين وتنزيلا لهم منزلة الغيب.

والمعنى أن عبادة هؤلاء إما بالعقل ولا عقل يحكم بصحة عبادة من لا يخلق جزءا ما من الأرض دلالة شرك في السماء وإما بالنقل ولم نؤت المشركين كتابا فيه الأمر بعبادة هؤلاء ، وفيه تفكيك للضمائر ، وقال بعضهم : ضمير (آتَيْناهُمْ) للشركاء كالضمائر السابقة وضمير (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ) للمشركين و (أَمْ) منقطعة للإضراب عن الكلام السابق وزعم أن لا التفات حينئذ ولا تفكيك فتأمل.

٣٧٥

وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب وأبو بكر «على بينات» بالجمع فيكون إيماء إلى أن الشرك خطير لا بدّ فيه من تعاضد الدلائل وهو ضرب من التهكم (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) لما نفي سبحانه ما نفي من الحجج في ذلك أضرب عزوجل عنه بذكر ما حملهم على الشرك وهو تقرير الأسلاف للأخلاف وإضلال الرؤساء للأتباع بأنهم شفعاء عند الله تعالى يشفعون لهم بالتقرب إليهم ، والآية عند الكثير في عبدة الأصنام وحكمها عام ، وقيل : في عبدة غير الله عزوجل صنما كان أو ملكا أو غيرهما.

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) استئناف مقرر لغاية قبح الشرك وهو له أي إن الله تعالى يحفظ السماوات والأرض كراهة زوالهما أو لئلا تزولا وتضمحلا فإن الممكن كما يحتاج إلى الواجب سبحانه حال إيجاده يحتاج إليه حال بقائه ، وقال الزجاج : (يُمْسِكُ) بمعنى يمنع و (أَنْ تَزُولا) مفعوله على الحذف والإيصال لأنه يتعدى بمن أي يمنعهما من أن تزولا ، وفي البحر يجوز أن يكون أن تزولا بدل اشتمال من السماوات والأرض أي يمنع سبحانه زوال السماوات والأرض ، وفسر بعضهم الزوال بالانتقال عن المكان أي إن الله تعالى يمنع السماوات من أن تنتقل عن مكانها فترتفع أو تنخفض ويمنع الأرض أيضا من أن تنتقل كذلك ، وفي أثر أخرجه عبد بن حميد وجماعة عن ابن عباس ما يقتضيه ، وقيل : زوالهما دورانهما فهما ساكنتان والدائرة بالنجوم أفلاكها وهي غير السماوات ، فقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد عن شقيق قال : قيل لابن مسعود إن كعبا يقول : إن السماء تدور في قطبة مثل قطبة الرحى في عمود على منكب ملك فقال : كذب كعب إن الله تعالى يقول : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) وكفى بها زوالا أن تدور ، والمنصور عند السلف أن السماوات لا تدور وأنها غير الأفلاك ، وكثير من الإسلاميين ذهبوا إلى أنها تدور وأنها ليست غير الأفلاك ، وأما الأرض فلا خلاف بين المسلمين في سكونها والفلاسفة مختلفون والمعظم على السكون ، ومنهم من ذهب إلى أنها متحركة وأن الطلوع والغروب بحركتها ورد ذلك في موضعه ، والأولى في تفسير الآية ما سمعت أولا وكذا كونها مسوقة لما ذكرنا ، وقيل إنه تعالى لما بين فساد أمر الشركاء ووقف على الحجة في بطلانها عقب بذلك عظمته عزوجل وقدرته سبحانه ليتبين الشيء بضده وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله عزوجل (وَلَئِنْ زالَتا) أي إن أشرفتا على الزوال على سبيل الفرض والتقدير ، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة «ولو زالتا» وقيل إن ذلك إشارة إلى ما يقع يوم القيامة من طي السماوات ونسف الجبال.

(إِنْ أَمْسَكَهُما) أي ما أمسكهما (مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد إمساكه تعالى أو من بعد الزوال ، والجملة جواب القسم المقدر قبل لام التوطئة في «لئن» وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، وأمسك بمعنى يمسك كما في قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) [البقرة : ١٤٥] ومن الأول مزيدة لتأكيد العموم والثانية للابتداء (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) فلذا حلم على المشركين وغفر لمن تاب منهم مع عظم جرمهم المقتضي لتعجيل العقوبة وعدم إمساك السماوات والأرض وتخريب العالم الذي هم فيه فلا يتوهم أن إلمام يقتضي ذكر القدرة لا الحلم والمغفرة (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) الضمائر لقريش ، وذلك أنهم بلغهم قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن طائفة من أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا : لعن الله تعالى اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فو الله لئن جاءنا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم فكان منهم بعد ما كان فأنزل الله تعالى هذه الآية (لَئِنْ جاءَهُمْ) جاء على المعنى وإلا فهم قالوا : «جاءنا» وكذا «ليكونن» وإحدى بمعنى واحدة ، والظاهر أنها عامة وإن كانت نكرة في الإثبات لاقتضاء المقام العموم ، وتعريف (الْأُمَمِ) للعهد والمراد الأمم الذين كذبوا رسلهم أي لئن جاءنا

٣٧٦

نذير لنكونن أهدى من كل واحدة من الأمم اليهود والنصارى وغيرهم فتؤمن جميعا ولا يكذب أحد منا أو المعنى لنكونن أهدى من أمة يقال فيها إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها من الأمم كما يقال هو واحد القوم وواحد عصره وكما قالوا هو أحد الأحدين وهي إحدى الأحد يريدون التفضيل في الدعاء والعقل ، قال الشاعر :

حتى استشاروا بي إحدى الأحد

ليثا هزبرا ذا سلاح معتمد

وقد نص ابن مالك في التسهيل على أنه قد يقال لما يستعظم مما لا نظير له هو إحدى الأحد لكن قال الدماميني في شرحه : إنما ثبت استعماله في إحدى ونحوه المضاف إلى جمع مأخوذ من لفظه كإحدى الأحد وأحد الأحدين أو المضاف إلى وصف كأحد العلماء وإحدى الكبر أما في المضاف إلى أسماء الأجناس كالأمم فيحتاج إلى نقل ، وبحث فيه بأنه قد ثبت استعمال إحدى في الاستعظام من دون إضافة أصلا فإنهم يقولون للداهية العظيمة هي إحدى من سبع أي إحدى الليالي عاد في الشدة وشاع واحد قومه وأوحدهم وأوحد أمه ولم يظهر فارق بين المضاف إلى الجمع المأخوذ من اللفظ والمضاف إلى الوصف وبين المضاف إلى أسماء الأجناس ولا أظن أن مثل ذلك يحتاج إلى نقل فليتدبر.

وقال صاحب الكشف : إن دلالة (إِحْدَى الْأُمَمِ) على التفضيل ليست بواضحة بخلاف واحد القوم ونحوه ثم وجهها أنه على أسلوب. أو يرتبط بعض النفوس حمامها. يعني أن البعض المبهم قد يقصد به التعظيم كالتنكير فإحدى مثله ، وفيه أنه متى ثبت استعماله للاستعظام كانت دلالته على التفضيل في غاية الوضوح.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) وأي نذير وهو أشرف الرسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما روي عن ابن عباس وقتادة وهو الظاهر ، وعن مقاتل هو انشقاق القمر وهو أخفى من السها والمقام عنه يأبى (ما زادَهُمْ) أي النذير أو مجيئه (إِلَّا نُفُوراً) تباعدا عن الحق وهربا منه ، وإسناد الزيادة إلى ذلك مجاز لأنه هو السبب لها. والجملة جواب لها.

واستدل بالآية على حرفيتها المكان النفي المانع عن عمل ما بعده فيها ، وفيه بحث ، وقوله تعالى : (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) بدل من (نُفُوراً) وقال أبو حيان : الظاهر أنه مفعول من أجله ، ونقل الأول عن الأخفش ، وقيل : هو حال أي مستكبرين (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) هو الخداع الذي يرومونه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكيد له ، وقال قتادة هو الشرك وروى ذلك عن ابن جريج ، وهو عطف على (اسْتِكْباراً) وأصل التركيب وأن مكروا السيّئ على أن (السَّيِّئِ) صفة لموصوف مقدر أي المكر المسيء ثم أقيم المصدر مقام أن والفعل وأضيف إلى ما كان صفة ، وجوز أن يكون عطفا على (نُفُوراً) وقرأ الأعمش وحمزة «السيّئ» بإسكان الهمزة في الوصل إجراء له مجرى الوقف أو لتوالي الحركات وإجراء المنفصل مجرى المتصل ، وزعم الزجاج أن هذه القراءة لحن لما فيها من حذف الإعراب كما قال أبو جعفر.

وزعم محمد بن يزيد أن الحذف لا يجوز في نثر ولا شعر لأن حركات الإعراب دخلت للفرق بين المعاني ، وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش قرأ بها ، وقال : إنما كان يقف على هذه الكلمة فغلط من أدى عنه ، والدليل على هذا أنها تمام الكلام ولذا لم يقرأ في نظيرها كذلك مع أن الحركة فيه أثقل لأنها ضمة بين كسرتين ، والحق أنها ليست بلحن ، وقد أكثر أبو علي في الحجة من الاستشهاد والاحتجاج للإسكان من أجل توالي الحركات والوصل بنية الوقف ، وقال ابن القشيري : ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أنه قرئ به فلا بدّ من جوازه ولا يجوز أن يقال لحن ، ولعمري أن الإسكان هاهنا أحسن من الإسكان في (بارِئِكُمْ) [البقرة : ٥٤] كما في قراءة أبي عمرو ، وروي عن

٣٧٧

ابن كثير «ومكر السأي» بهمزة ساكنة بعد السين وياء بعدها مكسورة وهو مقلوب السيّئ المخفف من السيّئ كما قال الشاعر :

ولا يجزون من حسن بسيء

ولا يجزون من غلظ بلين

وقرأ ابن مسعود «مكرا سيئا» عطف نكرة على نكرة (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ) أي لا يحيط (إِلَّا بِأَهْلِهِ).

وقال الراغب : أي لا يصيب ولا ينزل ، وأيا ما كان فهو إنما ورد فيما يكره ، وزعم بعضهم أن أصل حاق حق فجيء بدل أحد المثلين بالألف نحو ذم وذام وزل وزال ، وهذا من إرسال المثل ومن أمثال العرب : من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا ، وعن كعب أنه قال لابن عباس : قرأت في التوراة من حفر مغواة وقع فيها قال : أنا وجدت ذلك في كتاب الله تعالى فقرأ الآية ، وفي الخبر «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا فإن الله تعالى يقول ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا فإن الله سبحانه يقول إنما بغيكم على أنفسكم» وقد حاق مكر هؤلاء بهم يوم بدر.

والآية عامة على الصحيح والأمور بعواقبها والله تعالى يمهل ولا يهمل ووراء الدنيا الآخرة وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، وبالجملة من مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلا في الظاهر ففي الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك ، أسأل الله تعالى بحرمة حبيبه الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدفع ويرفع عنا مكر الماكرين وأن يعاملهم في الدارين بعدله إنه سبحانه القوي المتين. وقرئ «ولا يحيق» بضم الياء «المكر السيئ» بالنصب على أنه يحيق من أحاق المتعدي وفاعله ضمير راجع إليه تعالى و (الْمَكْرُ) مفعوله (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) أي ما ينتظرون ، وهو مجاز بجعل ما يستقبل بمنزلة ما ينتظر ويتوقع (إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي إلا سنة الله تعالى فيهم بتعذيب مكذبيهم.

(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) بأن يضع سبحانه موضع العذاب (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) بأن ينقل عذابه من المكذبين إلى غيرهم ، والفاء لتعليل ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب من مجيئه ، ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما بالطريق البرهاني ، وتخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد انتفائهما ، والخطاب عام أو خاص به عليه الصلاة والسلام.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) استشهاد على ما قبله من جريان سنة الله تعالى على تعذيب المكذبين بما يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم في رحلتهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار الأمم الماضية وعلامات هلاكهم ، والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يليق بالمقام على رأي أي أقعدوا ولم يسيروا ، وقوله تعالى (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها.

(وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ) أي ليس من شأنه عز شأنه أن يسبقه ويفوته (مِنْ شَيْءٍ) أي شيء ومن لاستغراق الأشياء (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) هو نظير.

(لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) [الكهف : ٤٩] والواو حالية أو عاطفة.

وفي الإرشاد الجملة اعتراض مقرر لما يفهم مما قبله من استئصال الأمم السالفة ، وظاهره أن الواو اعتراضية.

(إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) مبالغا في العلم والقدرة ، والجملة تعليل لنفي الإعجاز (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ) جميعا (بِما كَسَبُوا) فعلوا من السيئات كما وأخذ أولئك (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) أي ظهر الأرض وقد سبق ذكرها في قوله تعالى : (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فليس من الإضمار قبل الذكر كما زعمه الرضي ، وظهر الأرض مجاز عن ظاهرها كما قال الراغب. وغيره ، وقيل : في الكلام استعارة مكنية تخييلية والمراد ما ترك عليها (مِنْ دَابَّةٍ)

٣٧٨

أي من حيوان يدب على الأرض لشؤم المعاصي ، وقد قال سبحانه : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] وهو المروي عن ابن مسعود ، وقيل : المراد بالدابة الإنس وحدهم وأيد بقوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو يوم القيامة فإن الضمير للناس لأنه ضمير العقلاء ويوم القيامة الأجل المضروب لبقاء نوعهم ، وقيل : هو لجميع من ذكر تغليبا ويوم القيامة الأجل المضروب لبقاء جنس المخلوقات (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) فيجازي المكلفين منهم عند ذلك بأعمالهم إن شرا فشر وإن خيرا فخير ، وجملة (فَإِنَّ اللهَ) إلخ موضوعة موضع الجزاء والجزاء في الحقيقة يجازي كما أشرنا إليه ، هذا والله تعالى هو الموفق للخير ولا اعتماد إلا عليه.

ومن باب الإشارة (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى إيجاد عالمي اللطافة والكثافة وإلى أن إيجاد عالم اللطافة مقدم على إيجاد عالم الكثافة ، ويشير إلى ذلك ما شاع خلق الله تعالى الأرواح قبل الأبدان بأربعة آلاف سنة (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) في إيصال أوامره إلى من يشاء من عباده أو وسائط تجري إرادته سبحانه في مخلوقاته على أيديهم (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) إشارة إلى اختلافهم في الاستعداد (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) عام في الملك وغيره ، وفسرت الزيادة بهبة استعداد رؤيته عزوجل للذين أحسنوا الحسنى وزيادة (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) الزيادة المشار إليها وغيرها (فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) فيه إشارة إلى أن رحمته سبحانه سبقت غضبه عزوجل (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية لحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإرشاد لورثته إلى الصبر على إيذاء أعدائهم لهم وتكذيبهم إياهم وإنكارهم عليهم (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) جرت سنته تعالى في إحياء الأرض بهذه الكيفية كذلك إذا أراد سبحانه إحياء أرض القلب فيرسل أولا رياح الإرادة فتسير سحاب المحبة ثم يأتي مطر الجود والعناية فينبت في القلب رياحين الروح وأزهار البسط ونوار الأنوار ويطيب العيش.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) إشارة إلى أن العزة الحقيقية لا تحصل بدون الفناء ، ولا تغفل عن حديث : «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل» إلخ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) وهو أبعد المخلوقات من الحضرة وأسفلها وأكثفها (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) وفيها نوع ما من اللطافة (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) إشارة إلى ما حصل لهم من ازدواج الروح اللطيف العلوي والقالب الكثيف السفلي وهو مبدأ استعداد لوقوف على عوالم الغيب والشهادة (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) قيل أي بحر العلم الوهبي وبحر العلم الكسبي (هذا) أي بحر العلم الوهبي (عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ) لخلوه عن عوارض الشكوك والأوهام (وَهذا) أي بحر العلم الكسبي (مِلْحٌ أُجاجٌ) لما فيه من مشقة الفكر ومرارة الكسب وعروض الشكوك والتردد والاضطراب (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) إشارات لطيفة تتغذون بها وتتقوون على الأعمال (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) وهي الأخلاق الفاضلة والآداب الجميلة والأحوال المستحسنة التي تكسب صاحبها زينة (وَتَرَى الْفُلْكَ) سفن الشريعة والطريقة (فِيهِ مَواخِرَ) جارية (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بالوصول إلى حضرته عزوجل فعل ذلك (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) في سائر شئونكم ، ومراتب الفقر متفاوتة وكلما ازداد الإنسان قربا منه عزوجل ازداد فقره إليه لازدياد المحبة حينئذ وكلما زاد العشق زاد فقر العاشق إلى المعشوق حتى يفنى (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فيه من البشارة ما فيه (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) أي العلماء به تعالى وبشئونه فهم كلما ازدادوا علما ازدادوا خشية لما يظهر لهم من عظمته عزوجل وأنهم بالنسبة إليه تعالى شأنه لا شيء (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ

٣٧٩

وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) قيل : الظالم لنفسه السالك والمقتصد السالك المجذوب والسابق المجذوب السالك ، والسالك هو المتقرب والمجذوب هو المقرب والمجذوب السالك هو المستهلك في كمالات القرب الفاني عن نفسه الباقي بربه عزوجل : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) حزن تخيل الهجر فلا حزن للعاشق أعظم من حزن تخيل هجر معشوقه له وجفوته إياه (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) فلا بدع إذا أذهب عنا ذلك وآمننا من القطيعة والهجران (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) هو نصب الأبدان وتعبها من أعمال الطاعة للتقرب إليه سبحانه (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) هو لغوب القلوب واضطرابها من تخيل القطيعة والرد وهجر الحبيب ، وقيل : لا يمسنا فيها نصب السعي في تحصيل أي أمر أردناه ولا يمسنا فيها لغوب تخيل ذهاب أي مطلوب حصلناه ، وقد أشاروا إلى أن كل ذلك من فضل الله تعالى والله عزوجل ذو الفضل العظيم ، هذا ونسأل الله تعالى من فضله الحلو ما تنشق منه مرارة الحسود وينفطر به قلب كل عدو وينتعش فؤاد كل محب ودود

٣٨٠