روح المعاني - ج ١١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً)(١٥)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) ناداه جلّ وعلا بوصفه عليه الصلاة والسلام دون اسمه تعظيما له وتفخيما ، قال في الكشاف إنه تعالى جعل نداءه من بين الأنبياء عليهم‌السلام بالوصف كرامة له عليه الصلاة والسلام وتشريفا وربأ بمحله وتنويها بفضله ، وأوقع اسمه في الأخبار في قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) [الفتح : ٢٩] (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) [آل عمران : ١٤٤] لتعليم الناس بأنه رسول الله وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به فلا تفاوت بين النداء والإخبار ، ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره تعالى بنحو ما ذكره في النداء كما في قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِ) [الفرقان : ٣٠] (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب : ٦] إلى غير ذلك.

وتعقبه في الكشف بأن أمر التعليم والتلقين في قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) ظاهر أما في قوله تعالى (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) فلا ، على أن قوله تعالى : (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) [محمد : ٢] ينقض ما بناه ، نعم النداء يناسب التعظيم وربما يكون نداء سائر الأنبياء عليهم‌السلام في كتبهم أيضا على نحو منه ، وحكي في القرآن بأسمائهم دفعا للإلباس ، والأشبه أنه لما قل ذكره صلّى الله تعالى عليه وسلم باسمه دلّ على أنه أعظم شأنا

١٤١

صلوات الله تعالى وسلامه وعليهم أجمعين ، وفيه نظر.

واختار الطيبي طيب الله تعالى ثراه أن النداء المذكور هنا للاحتراس وجبر ما يوهمه الأمر والنهي كقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] وظاهر سياق ما بعد أن المعنى بالأمر بالتقوى هو النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم لا أمته كما قيل في نظائره والمقصود الدوام والثبات عليها ، وقيل : الازدياد منها فإن لها بابا واسعا وعرضا عريضا لا ينال مداه (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) أي المجاهدين بالكفر (وَالْمُنافِقِينَ) المضمرين لذلك فيما يريدون من الباطل ؛ أخرج ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة دعوا النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يرجع عن قوله على أن يعطوه شطر أموالهم (١) وخوفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه فنزلت ، وذكر الثعلبي والواحدي بغير إسناد أن أبا سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبا الأعور (٢) السلمي قدموا عليه عليه الصلاة والسلام في زمان الموادعة التي كانت بينه صلّى الله تعالى عليه وسلم وبينهم وقام معهم عبد الله بن أبي ، ومعتب بن قشير ، والجد بن قيس فقالوا لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم : ارفض ذكر آلهتنا وقل : إنها تشفع وتنفع وندعك وربك فشق ذلك على النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين وهموا بقتلهم فنزلت ، وقيل : نزلت في ناس من ثقيف قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطلبوا منه عليه الصلاة والسلام أن يمتعهم باللات والعزى سنة قالوا : لتعلم قريش منزلتنا منك ولا يبعد أن يكون المراد بالنهي الثبات على عدم الإطاعة ، وذكره بعد الأمر بالتقوى المراد منه الثبات عليها على ما قيل من قبيل التخصيص بعد التعميم لاقتضاء المقام الاهتمام به ، وقيل : من قبيل التأكيد ، وقيل : متعلق كل من التقوى والإطاعة مغاير للآخر على ما روى الواحدي ، والثعلبي ، والمعنى اتق الله تعالى في نقض العهد ونبذ الموادعة ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا منك من رفض ذكر آلهتهم وقولك : إنها تشفع وتنفع وكأنه إنما قدم الأمر بتقوى الله تعالى في نقض العهد لما أن المؤمنين قد هموا بما يقتضيه بخلاف الإطاعة المنهي عنها فإنها مما لم يهم بما يقتضيها أحد أصلا فكان الاهتمام بالأمر أتم من الاهتمام بذلك النهي (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) مبالغا في العلم والحكمة فيعلم الأشياء من المصالح والمفاسد فلا يأمرك إلّا بما فيه مصلحة ولا ينهاك إلّا عما فيه مفسدة ولا يحكم إلّا بما تقتضيه الحكمة البالغة فالجملة تعليل للأمر والنهي مؤكد لوجوب الامتثال بها.

وقيل : المعنى أن الله كان عليما بمن يتقي فيجازيه بما يليق به حكيما في هدي من شاء وإضلال من شاء فالجملة تسلية له صلّى الله تعالى عليه وسلم ، وليس بشيء ، وقوله تعالى : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) عطف على ما تقدم من قبيل عطف العام على الخاص أي اتبع في كل ما تأتي وتذر من أمور الدين ما يوحى إليك من الآيات التي من جملتها هذه الآية الآمرة بتقوى الله تعالى الناهية عن إطاعة الكفرة والمنافقين ، والتعرض لعنوان الربوبية لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) قيل : الخطاب للرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم والجمع للتعظيم ، وقال أبو البقاء : إنما جاء بالجمع لأنه عنى بقوله تعالى : (اتَّبِعْ ما يُوحى) إلخ اتبع أنت وأصحابك ؛ وقيل : للغائبين من الكفرة المنافقين وبطريق الالتفات ؛ ولا يخفى بعده. نعم يجوز أن يكون للكل على ضرب من التغليب ، وأيا ما كان فالجملة تعليل للأمر وتأكيد لموجبه فكأنه قيل على الأول : إن الله تعالى يعلم بما تعمل فيرشدك إلى ما فيه

__________________

(١) وفي رواية ويزوجه شيبة بنته ا ه منه.

(٢) اسمه عمرو بن أبي سفيان ا ه منه.

١٤٢

الصلاح فلا بد من اتباع الوحي والعمل بمقتضاه حتما ، وعلى الثاني أن الله تعالى خبير بما يعمل الكفرة والمنافقون من الكيد والمكر فيأمرك سبحانه بما يدفعه فلا بد من اتباع ما يوحيه جلّ وعلا إليك ، وعلى الثالث أن الله تعالى خبير بما تعمل ويعمل الكفرة والمنافقون فيرشدك إلى ما فيه صلاح حالك ويطلعك على كيدهم ومكرهم ويأمرك جلّ شأنه بما يدفع ذلك ويرده فلا بد من اتباع وحيه تعالى والعمل بموجبه. وقرأ أبو عمرو «يعملون» بياء الغيبة على أن الضمير للكفرة والمنافقين.

وجوز كونه عاما فلا تغفل (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فوض جميع أمورك إليه عزوجل (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) حافظا موكولا إليه كل الأمور ، والإظهار في مقام الإضمار للتعظيم ولتستقل الجملة استقلال المثل.

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) أخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قام النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترى أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فنزلت ، وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم صلاة فسها فيها فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون فأكثروا فقالوا : إن له قلبين ألم تسمعوا إلى قوله وكلامه في الصلاة إن له قلبا معكم وقلبا مع أصحابه فنزلت ، وقال مقاتل في تفسيره ، وإسماعيل بن أبي زياد الشامي ، وغيرهما : نزلت في أبي معمر الفهري كان أهل مكة يقولون : له قلبان من قوة حفظه وكانت العرب تزعم أن كل لبيب أريب له قلبان حقيقة ، وأبو معمر هذا اشتهر بين أهل مكة بذي القلبين وهو على ما في الإصابة جميل بن أسيد مصغر الأسد ، وقيل : ابن أسد مكبرا وسماه ابن دريد عبد الله ابن وهب ، وقيل : إن ذا القلبين هو جميل بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة (١) بن جمح الجمحي وهو المعني بقوله : وكيف ثوائي البيت وقد تقدم في تفسيره سورة لقمان ، والمعول على ما في الإصابة ، وحكي أنه كان يقول : (٢) إن لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم فروي أنه انهزم يوم بدر فمرّ بأبي سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له أبو سفيان : ما فعل الناس؟ فقال : هم ما بين مقتول وهارب فقال له : ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال : ما ظننت إلّا أنهما في رجلي فأكذب الله تعالى قوله وقولهم.

وعن الحسن أنه كان جماعة يقول الواحد منهم : نفس تأمرني ونفس تنهاني فنزلت ، والجعل بمعنى الخلق ومن سيف خطيب ، والمراد ما خلق سبحانه لأحد أو لذي قلب من الحيوان مطلقا قلبين فخصوص الرجل ليس بمقصود وتخصيصه بالذكر لكمال لزوم الحياة فيه فإذا لم يكن ذلك له فكيف بغيره من الإناث ، وأما الصبيان فمآلهم إلى الرجولية ، وقوله سبحانه : (فِي جَوْفِهِ) للتأكيد والتصوير كالقلوب في قوله تعالى : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] وذكر في بيان عدم جعله تعالى قلبين في جوف بناء على ما هو الظاهر من أن المراد بالقلب المضغة الصنوبرية أن النفس الناطقة وكذا الحيوانية لا بد له من متعلق ومتعلقها هو الروح وهو جسم لطيف بخاري يتكون من ألطف أجزاء الأغذية لأن شد الأعصاب يبطل قوى الحس والحركة عما وراء موضع الشد مما لا يلي جهة الدماغ والشد لا يمنع إلّا نفوذ الأجسام ، والتجارب الطبية أيضا شاهدة بذلك ، وحيث إن النفس واحدة فلا بد من عضو واحد يكون تعلقها به أولا ثم بسائر الأعضاء بواسطته.

__________________

(١) في البحر حارثة بدل حذافة ا ه منه.

(٢) وأسلم بعد وعده ابن حجر في الصحابة وكذا جميل الجمحي ا ه منه.

١٤٣

وقد ذكر غير واحد أن أول عضو يخلق هو القلب فإنه المجمع للروح فيجب أن يكون التعلق أولا به ثم بواسطته بالدماغ والكبد وبسائر الأعضاء فمنبع القوى بأسرها منه وذلك يمنع التعدد إذ لو تعدد بأن كان هناك قلبان لزم أن يكون كل منهما أصلا للقوى وغير أصل لها أو توارد علتين على معلول واحد ، ولا يخفى على من له قلب أن هذا مع ابتنائه على مقدمات لا تكاد تثبت عند أكثر الإسلاميين من السلف الصالح والخلف المتأخرين ولو بشق الأنفس أمر إقناعي لا برهان قطعي ، على أن للفلسفي أيضا له فيه مقالا ، وقد يفسر القلب بالنفس بناء على أن سبب النزول ما روي عن الحسن إطلاقا للمتعلق على المتعلق وقد بينوا وحدة النفس وأنه لا يجوز أن تتعلق نفسان فأكثر ببدن بما يطول ذكره ، وللبحث فيه مجال فليراجع ، ثم إن هذا التفسير بناء على أن سبب النزول ما ذكر غير متعين بل يجوز تفسير القلب عليه بما هو الظاهر المتبادر أيضا ، وحيث إن القلب متعلق النفس يكون نفي جعل القلبين دالا على نفي جعل النفسين فتدبر.

(وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) إبطال لما كان في الجاهلية من اجزاء أحكام الأمومة على المظاهر منها ، والظهار لغة مصدر ظاهر وهو مفاعلة من الظهر ويستعمل في معان مختلفة راجعة إليه معنى ولفظا بحسب اختلاف الأغراض فيقال ظاهرته إذا قابلت ظهرك بظهره حقيقة وكذا إذا غايظته باعتبار أن المغايظة تقتضي هذه المقابلة ، وظاهرته إذا نصرته باعتبار أنه يقال : قوي ظهره إذا نصره وظاهرت بين ثوبين إذا لبست أحدهما فوق الآخر على اعتبار جعل ما يلي به كل منهما الآخر ظهرا للثوب ، ويقال : ظاهر من زوجته إذ قال لها أنت عليّ كظهر أمي نظير لي إذ قال لبيك وأفف إذا قال أف ، وكون لفظ الظهر في بعض هذه التراكيب مجازا لا يمنع الاشتقاق منه ويكون المشتق مجازا أيضا والمراد منه هنا المعنى الأخير ، وكان ذلك طلاقا منهم.

وإنما عدي بمن مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى التباعد ونحوه مما فيه معنى المجانبة ويتعدى بمن ، والظهر في ذلك مجاز على ما قيل عن البطن لأنه إنما يركب البطن فقوله : كظهر أمي بمعنى كبطنها بعلاقة المجاورة ولأنه عموده ، قال ابن الهمام : لكن لا يظهر ما هو الصارف عن الحقيقة من النكات ، وقال الأزهري ما معناه : خصوا الظهر لأنه محل الركوب والمرأة تركب إذ غشيت فهو كناية تلويحية انتقل من الظهر إلى المركوب ومنه إلى المغشي ، والمعنى أنت محرمة علي لا تركبين كما لا يركب ظهر الأم وقيل : خص الظهر لأن إتيان المرأة من ظهرها في قبلها حراما عندهم فإتيان أمه من ظهرها أحرم فكثر التغليظ ، وقيل : كنوا بالظهر عن البطن لأنهم يستقبحون ذكر الفرج وما يقرب منه سيما في الأم وما شابه بها ، وليس بذاك وهو في الشرع تشبيه الزوجة أو جزء منها شائع أو معبر به عن الكل بما لا يحل النظر إليه من المحرمة على التأييد ولو برضاع أو صهرية وزاد في النهاية قيد الاتفاق ليخرج التشبيه بما لا يحل النظر إليه ممن اختلف في تحريمها كالبنت من الزنا ، وتحقيق الحق في ذلك في فتح القدير ، وخص باسم الظهار تغليبا للظهر لأنه كان الأصل في استعمالهم وشرطه في المرأة كونها زوجة وفي الرجل كونه من أهل الكفارة ، وركنه اللفظ المشتمل على ذلك التشبيه ، وحكمه حرمة الوطء ودواعيه إلى وجود الكفارة ؛ وتمام الكلام فيه في كتب الفروع ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بعض ذلك في محله.

وقرأ قالون ، وقنبل هنا وفي المجادلة والطلاق «اللاء» بالهمز من غير ياء ، وورش بياء مختلسة الكسرة ، والبزي ، وأبو عمرو «اللاي» ياء ساكنة بدلا من الهمزة وهو بدل مسموع لا مقيس وهي لغة قريش ، وقرأ أهل الكوفة غير عاصم «تظاهرون» بفتح التاء وتخفيف الظاء وأصله تتظاهرون فحذفت إحدى التاءين.

وقرأ ابن عامر «تظّاهرون» بفتح التاء وتشديد الظاء وأصله كما تقدم إلّا أنه أدغمت التاء الثانية في الظاء ..

١٤٤

وقرأ الحسن «تظهّرون» بضم التاء وفتح الظاء المخففة وشد الهاء المكسورة مضارع ظهر بتشديد الهاء بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد ، وقرأ ابن وثاب فيما نقل ابن عطية «تظهرون» بضم التاء وسكون الظاء وكسر الهاء مضارع أظهر ، وقرأ هارون عن أبي عمرو «تظهرون» بفتح التاء والهاء وسكون الظاء مضارع ظهر بتخفيف الهاء ، وفي مصحف أبي «تتظهرون» بتاءين ومعنى الكل واحد.

(وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) إبطال لما كان في الجاهلية أيضا وصدر من الإسلام من أنه إذا تبنى الرجل ولد غيره أجريت أحكام النبوة عليه ، وقد تبنى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قبل البعثة زيد بن حارثة ، والخطاب عامر بن ربيعة ، وأبو حذيفة مولاه سالما إلى غير ذلك ، وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد أن قوله تعالى : (وَما جَعَلَ) إلخ ، نزلت في زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه.

و«أدعياء» جمع دعي وهو الذي يدعى ابنا فهو فعيل بمعنى مفعول وقياسه أن يجمع على فعلى كجريح وجرحى لا على أفعلاء فإن الجميع عليه قياس فعيل المعتل اللام بمعنى فاعل كتقي وأتقياء فكأنه شبه به في اللفظ فحمل عليه وجمع جمعه كما قالوا في أسير وقتيل أسراء وقتلاء ، وقل : إن هذا الجمع مقيس في المعتل مطلقا ، وفيه نظر.

(ذلِكُمْ) قيل : إشارة إلى ما يفهم من الجمل الثلاث من أنه قد يكون قلبان في جوف والظهار والادعاء ، وقيل : إلى ما يفهم من الأخيرتين ، وقيل : إلى ما يفهم من الأخيرة (قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) فقط من غير أن يكون له مصداق وحقيقة في الواقع ونفس الأمر فإذن هو بمعزل عن القبول أو استتباع الأحكام كما زعمتم.

(وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) الثابت المحقق في نفس الأمر (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي سبيل الحق فدعوا قولكم وخذوا بقوله عزوجل.

وقرأ قتادة على ما في البحر «يهدي» بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال ، وفي الكشاف أنه قرأ «وهو الذي يهدي السبيل» (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) أي انسبوهم إليهم وخصوهم بهم ، أخرج الشيخان ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما كنا ندعوه إلّا زيد بن محمد حتى نزل القرآن (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) إلخ فقال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم : أنت زيد بن حارثة بن شراحيل ، وكان من أمره رضي الله تعالى عنه على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه كان في أخواله بني معن من بني ثعل من طيئ فأصيب في نهب من طيئ فقدم به سوق عكاظ وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوق بها فأوصته عمته خديجة أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا إن قدر عليه فلما قدم وجد زيدا يباع فيها فأعجبه ظرفه فابتاعه فقدم به عليها وقال لها : إني قد ابتعت لك غلاما ظريفا عربيا فإن أعجبك فخذيه وإلّا فدعيه فإنه قد أعجبني فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته فتزوجها رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو عندها فأعجب النبي عليه الصلاة والسلام ظرفه فاستوهبه (١) منها فقالت : أهبه لك فإن أردت عتقه فالولاء لي فأبى عليها عليه الصلاة والسلام فأوهبته له إن شاء أعتق وإن شاء أمسك قال : فشب عند النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب بأرض الشام فمرّ بأرض قومه فعرفه عمه فقام إليه فقال : من أنت يا غلام؟ قال : غلام من أهل مكة قال : من أنفسهم؟ قال : لا قال : فحر أنت أم مملوك؟ قال : بل مملوك قال : لمن؟ قال : لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال له : أعرابي أنت أم عجمي؟ قال : عربي قال : ممن أصلك؟ قال : من كلب قال : من أي كلب؟ قال : من بني عبد ود قال : ويحك ابن

__________________

(١) يروى أنه كان ابن ثمان حين وهب ا ه منه.

١٤٥

أنت؟ قال : ابن حارثة بن شراحيل قال : وأين أصبت؟ قال : في أخوالي قال : ومن أخوالك؟ قال طيئ قال : ما اسم أمك؟ قال : سعدي فالتزمه وقال : ابن حارثة ودعا أباه فقال : يا حارثة هذا ابنك فأتاه حارثة فلما نظر إليه عرفه قال : كيف صنع مولاك إليك؟ قال : يؤثرني على أهله وولده فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة فلقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له حارثة : يا محمد أنتم أهل حرم الله تعالى وجيرانه وعند بيته تفكون العاني وتطعمون الأسير ابني عندك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه فإنك ابن سيد قومه وإنا سنرفع إليك في الفداء ما أحببت فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعطيكم خيرا من ذلك قالوا : وما هو؟ قال أخيره فإن اختاركم فخذوه بغير فداء وإن اختارني فكفوا عنه فقال : جزاك الله تعالى خيرا فقد أحسنت فدعاه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا زيد أتعرف هؤلاء؟ قال : نعم هذا أبي وعمي وأخي فقال عليه الصلاة والسلام : فهم من قد عرفتهم فإن اخترتهم فاذهب معهم وإن اخترتني فأنا من تعلم قال له زيد : ما أنا بمختار عليك أحدا أبدا أنت معي بمكان الوالد والعم قال أبوه وعمه : أيا زيد أتختار العبودية؟ قال : ما أنا بمفارق هذا الرجل فلما رأى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حرصه عليه قال : اشهدوا أنه حر وأنه ابني يرثني وأرثه فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامته عليه عليه الصلاة والسلام فلم يزل في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) فدعي زيد بن حارثة ، وفي بعض الروايات أن أباه سمع أنه بمكة فأتاه هو وعمه وأخوه فكان ما كان (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) تعليل للأمر والضمير لمصدر ادعوا كما في قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، و (أَقْسَطُ) أفعل تفضيل قصد به الزيادة مطلقا من القسط بمعنى العدل والمراد به البالغ في الصدق فاندفع ما يتوهم من أن المقام يقتضي ذكر الصدق لا العدل أي دعاؤكم إياهم لآبائهم بالغ في العدل والصدق وزائد فيه في حكم الله تعالى وقضائه عزوجل.

وجوز أن يكون أفعل على ما هو الشائع فيه ، والمعنى أعدل مما قالوه ويكون جعله ذا عدل مع أنه زور لا عدل فيه أصلا على سبيل التهكم (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا) أي تعرفوا (آباءَهُمْ) فتنسبوهم إليهم (فَإِخْوانُكُمْ) أي فهم إخوانكم (فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي وأولياؤكم فيه فادعوهم بالأخوة والمولوية بتأويلهما بالأخوة والولاية في الدين ، وبهذا المعنى قيل لسالم بعد نزول الآية مولى حذيفة وكان قد تبناه قبل ، وقيل : (مَوالِيكُمْ) أي بنو أعمامكم ، وقيل : معتقوكم ومحرروكم وكأن دعاءهم بذلك لتطييب قلوبهم ولذا لم يؤمر بدعائهم بأسمائهم فقط.

(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي إثم (فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أي فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل النهي (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) أي ولكن الجناح والإثم فيما تعمدتموه بعد النهي على أن (ما) في محل الجر عطفا على ما من (فِيما أَخْطَأْتُمْ) وتعقب بأن المعطوف المجرور لا يفصل بينه وبين ما عطف عليه ، ولذا قال سيبويه في قولهم ما مثل عبد الله يقول ذلك ولا أخيه : إنه حذف المضاف من جهة المعطوف وأبقى المضاف إليه على إعرابه والأصل ولا مثل أخيه ليكون العطف على المرفوع. وأجيب بالفرق بين ما هنا والمثال وأن لا فصل فيه لأن المعطوف هو الموصول مع صلته أعني ما تعمدت على مثله أعني ما أخطأتم أو ولكن ما تعمدتم فيه الجناح على أن ما في موضع رفع على الابتداء وخبره جملة مقدرة ، ونسبة التعمد إلى القلوب على حد النسبة في قوله تعالى : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٣٨] وكون المراد في الأول قبل النهي وفي الثاني بعده أخرجه الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد ، وقيل : كلا الأمرين بعد النهي والخطأ مقابل العمد ، والمعنى لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بني على سبيل الخطأ وعدم التعمد كأن سهوتم أو سبق لسانكم ولكن الإثم عليكم إذا قلتم ذلك متعمدين ، وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية : لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه.

١٤٦

وجوز أن يراد بقوله تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) إلخ العفو عن الخطأ دون العمد على طريق العموم

لحديث عائشة (١) رضي الله تعالى عنها قالت : «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إني لست أخاف عليكم الخطأ ولكن أخاف عليكم العمد» وحديث ابن عباس (٢) قال : قال عليه الصلاة والسلام وضع عن أمتي الخطأ والنسيان «وما أكرهوا عليه» ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده ، والجملة على تقديري الخصوص والعموم واردة على سبيل الاعتراض التذييلي تأكيدا لامتثال ما ندبوا إليه مع ادماج حكم مقصود في نفسه ، وجعلها بعضهم عطفا مؤولا بجملة طلبية على معنى ادعوهم لآبائهم هو أقسط لكم ولا تدعوهم لأنفسكم متعمدين فتأثموا على تقدير الخصوص وجملة مستطردة على تقدير العموم وتعقب بأنه تكلف عنه مندوحة ، وظاهر الآية حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه ، ولعل ذلك فيما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية ، وأما إذا لم تكن كذلك كما يقول الكبير للصغير على سبيل التحنن والشفقة يا ابني وكثيرا ما يقع ذلك فالظاهر عدم الحرمة.

وفي حواشي الخفاجي على تفسير البيضاوي النبوة وإن صح فيها التأويل كالإخوة لكن نهي عنها بالتشبيه بالكفرة والنهي للتنزيه انتهى ، ولعله لم يرد بهذا النهي ما تدل عليه الآية المذكورة فإن ما تدل عليه نهي التحريم عن الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية ، والأولى أن يقال في تعليل النهي : سدا لباب التشبيه بالكفرة بالكلية ، وهذا الذي ذكره الخفاجي من كراهة قول الشخص لولد غيره يا ابني حكاه لي من أرتضيه عن فتاوى ابن حجر الكبرى ، وحكم التبني بقوله : هو ابني إن كان عبدا للقائل العتق على كل حال ولا يثبت نسبه منه إلا إذا كان مجهول النسب وكان بحيث يولد مثله لمثله ولم يقر قبله بنسب من غيره ، وعند الشافعي لا عبرة بالتبني فلا يفيد العتق ولا ثبوت النسب ، وتحقيق ذلك في موضعه ، ثم الظاهر أنه لا فرق إذا لم يعرف الأب بين أن يقال يا أخي وأن يقال يا مولاي في أن كلا منهما مباح مطلقا حينئذ لكن صرح بعضهم بحرمة أن يقال للفاسق يا مولاي لخبر في ذلك ، وقيل : لما أن فيه تعظيمه وهو حرام ، ومقتضاه أن قول يا أخي إذا كان فيه تعظيم بأن كان من جليل الشأن حرام أيضا ، فلعل الدعاء لغير معروف الأب بما ذكر مخصوص بما إذا لم يكن فاسقا ودليل التخصيص هو دليل حرمة تعظيم الفاسق فتدبر ، وكذا الظاهر أنه لا فرق في أمر الدعوة بين كون المدعو ذكرا وكونه أنثى لكن لم نقف على وقوع التبني للإناث في الجاهلية والله تعالى أعلم (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) فيغفر للعامد إذا تاب (رَحِيماً) ولذا رفع سبحانه الجناح عن المخطئ ، ويعلم من الآية أنه لا يجوز انتساب الشخص إلى غير أبيه ، وعد ذلك بعضهم من الكبائر لما أخرج الشيخان ، وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام».

وأخرج الشيخان أيضا «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله تعالى والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله تعالى منه صرفا ولا عدلا» وأخرجا أيضا «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلم إلّا كفر».

وأخرج الطبراني في الصغير من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديثه حسن قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفر من تبرأ من نسب وإن دق أو ادعى نسبا لا يعرف» إلى غير ذلك من الأخبار ، هذا ومناسبة قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ) إلخ لما قبله أنه شروع في ذكر شيء من الوحي الذي أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اتباعه كذا قيل ، وقيل : إنه تعالى لما أمر

__________________

(١) أخرجه ابن مردويه ا ه منه.

(٢) أخرجه ابن ماجة ا ه منه.

١٤٧

بالتقوى كان من حقها أن لا يكون في القلب تقوى غير الله تعالى فإن المرء ليس له قلبان يتقي بأحدهما لله تعالى وبالآخر غيره سبحانه إلّا بصرف القلب عن جهة الله تعالى إلى غيره جلّ وعلا ولا يليق ذلك بمن يتقي الله تعالى حق تقاته ، وعن أبي مسلم أنه متصل بقوله تعالى : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ٤٨] حيث جيء به للرد عليهم ، والمعنى ليس لأحد قلبان يؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر وإنما هو قلب واحد فإما أن يؤمن وإما أن يكفر ، وقيل : هو متصل ـ بلا تطع واتبع ـ والمعنى أنه لا يمكن الجمع بين اتباعين متضادين اتباع الوحي والقرآن واتباع أهل الكفر الطغيان فكني عن ذلك بذكر القلبين لأن الاتباع يصدر عن الاعتقاد وهو من أفعال القلوب فكما لا يجمع قلبان في جوف واحد لا يجمع اعتقادان متضادان في قلب واحد ، وقيل : هو متصل بقوله تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) من حيث إنه مشعر بوحدته عزوجل فكأنه قيل : وتوكل على الله وكفى به تعالى وكيلا فإنه سبحانه وتعالى وحده المدبر لأمور العالم ، ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أن أمر الرجل الواحد لا ينتظم ومعه قلبان فكيف تنتظم أمور العالم وله إلهان ، وقيل : إن ذاك مسوق للتنفير عن إطاعة الكفرة والمنافقين بحكاية أباطيلهم ، وذكر أن قوله تعالى : (ما جَعَلَ) إلخ ضرب مثلا للظهار والتبني أي كما لا يكون لرجل قلبان لا تكون المظاهرة أما والمتنبي ، ابنا ، وجعل المذكورات الثلاث بجملتها مثلا فيما لا حقيقة له وارتضى ذلك غير واحد ، وقال الطيبي : إن هذا أنسب لنظم القرآن لأنه تعالى نسق المنفيات الثلاث عن ترتيب واحد ، وجعل سبحانه قوله جلّ وعلا : (ذلِكُمْ) فذلكة لها ثم حكم تعالى بأن ذلك قول لا حقيقة له ، وثم ذيل سبحانه وتعالى الكل بقوله تعالى : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) وتعقبه في الكشف بأن سبب النزول وقوله سبحانه بعد التذييل (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) الآية شاهد أصدق بأن الأول مضروب للتبني ثم إنهم ما كانوا يجعلون الأزواج أمهات بل كانوا يجعلون اللفظ طلاقا فإدخاله في قرن مسألة التبني استطرادا هو الوجه لا أنه قول لا حقيقة له كالأول.

وانتصر الخفاجي للجماعة فقال : لو كان مثلا للتبني فقط لم يفصل منه ، وكون القلبين لرجل وجعل المتبنى ابنا في جميع الأحكام مما لا حقيقة له في نفس الأمر ولا في شرع ظاهر ، وكذا جعل الأزواج كالأمهات في الحرمة المؤبدة مطلقا من مخترعاتهم التي لم يستندوا فيها إلى مستند شرعي فلا حقيقة له أيضا فما ادعاه غير وارد عليهم لا سيما مع مخالفته لما روي عنهم انتهى ، ويد الله تعالى مع الجماعة ، وبين الطيبي نظم الآيات من مفتتح السورة إلى هاهنا فقال : إن الاستهلال بقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) دال على أن الخطاب مشتمل على التنبيه على أمر معتنى بشأنه لائح فيه معنى التهيج والإلهاب ، ومن ثم عطف عليه (وَلا تُطِعِ) كما يعطف الخاص على العام وأردف النهي بالأمر على نحو قولك لا تطع من يخذلك واتبع ناصرك ، ولا يبعد أن يسمى بالطرد والعكس ، ثم أمر بالتوكل تشجيعا على مخالفة أعداء الدين والالتجاء إلى حريم جلال الله تعالى ليكفيه شرورهم ، ثم عقب سبحانه كلا من تلك الأوامر على سبيل التتميم والتذييل بما يطابقه ، وعلل قوله تعالى (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) بقوله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) تتميما للارتداع أي اتق الله فيما تأتي وتذر في سرك وعلانيتك لأنه تعالى عليم بالأحوال كلها يجب أن يحذر من سخطه حكيم لا يحب متابعة حبيبه أعداءه ، وعلل قوله تعالى : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) تتميما أيضا أي اتبع الحق ولا تتبع أهواءهم الباطلة وآراءهم الزائغة لأن الله تعالى يعلم عملك وعملهم فيكافئ كلا ما يستحقه وذيل سبحانه وتعالى قوله تبارك وتعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) بقوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) تقريرا وتوكيدا على منوال فلان ينطبق بالحق والحق أبلج يعني من حق من يكون كافيا لكل الأمور أن تفوض الأمور إليه وتوكل عليه ، وفصل قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ

١٤٨

مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) على سبيل استئناف تنبيها على بعض من أباطيلهم وتمحلاتهم ، وقوله تعالى : (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ) إلخ فذلكة لتلك الأقوال آذنت بأنها جديرة بأن يحكم عليها بالبطلان وحقيق بأن يذم قائلها فضلا عن أن يطاع ، ثم وصل تعالى (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) إلخ على هذه الفذلكة بجامع التضاد على منوال ما سبق في (وَلا تُطِعِ) و (اتَّبِعْ) وفصل قوله تعالى : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) وقوله تعالى : (النَّبِيُ) إلخ وهلم جرا إلى آخر السورة تفصيلا لقول الحق والاهتداء إلى السبيل القويم انتهى فتأمل ولا تغفل (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) أي أحق وأقرب إليهم (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أو أشد ولاية ونصرة لهم منها فإنه عليه الصلاة والسلام لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلّا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس فإنها إما امارة بالسوء وحالها ظاهر أو لا فقد تجهل بعض المصالح وتخفى عليها بعض المنافع وأطلقت الأولوية ليفيد الكلام أولويته عليه الصلاة والسلام في جميع الأمور ويعلم من كونه صلّى الله تعالى عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم كونه عليه الصلاة والسلام أولى بهم من كل من الناس ، وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من مؤمن إلّا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا فإن ترك دينا أو ضياعا (١) فليأتني فأنا مولاه» ولا يلزم عليه كون الأنفس هنا مثلها في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] لأن إفادة الآية المدعي على الظاهر ظاهرة أيضا ، وإذا كان صلّى الله تعالى عليه وسلم بهذه المثابة في حق المؤمنين يجب عليه أن يكون أحب إليهم من أنفسهم وحكمه عليه الصلاة والسلام عليهم أنفذ من حكمها وحقه آثر لديهم من حقوقها وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها ، وسبب نزول الآية على ما قيل ما روي من أنه عليه الصلاة والسلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال أناس منهم : يستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت ، ووجه دلالتها على السبب أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا كان أولى من أنفسهم فهو أولى من الأبوين بالطريق الأولى ولا حاجة إلى حمل أنفسهم عليه على خلاف المعنى المتبادر كما أشرنا إليه آنفا (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي منزلات منزلة أمهاتهم في تحريم النكاح واستحقاق التعظيم وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن والخلوة بهن وإرثهن ونحو ذلك فهن كالأجنبيات ، وفرع على هذا القسطلاني في المواهب أنه لا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين في الأصح ، والطبرسي وهو شيعي أنه لا يقال لإخوانهن أخوال المؤمنين ، ولا يخفى أنه يسر حسوا بارتغاء ، وفي المواهب أن في جواز النظر إليهن وجهين أشهرهما المنع ، ولكون وجه الشبه مجموع ما ذكر قالت عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لها يا أمه : أنا أم رجالكم لا أم نسائكم أخرجه ابن سعد ، وابن المنذر والبيهقي في سننه عنها ، ولا ينافي هذا استحقاق التعظيم منهن أيضا.

وأخرج ابن سعد عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قالت أنا أم الرجال منكم والنساء وعليه يكون ما ذكر وجه الشبه بالنسبة إلى الرجال وأما بالنسبة إلى النساء فهو استحقاق التعظيم ، والظاهر أن المراد من أزواجه كل من أطلق عليها أنها زوجة له صلّى الله تعالى عليه وسلم من طلقها ومن لم يطلقها ، وروى ذلك ابن أبي حاتم عن مقاتل فيثبت الحكم لكلهن وهو الذي نص عليه الإمام الشافعي وصححه في الروضة ، وقيل : لا يثبت الحكم لمن فارقها عليه الصلاة والسلام في الحياة كالمستعيذة والتي رأى بكشحها بياضا وصحح أمام الحرمين ، والرافعي في الصغير تحريم المدخول بها فقط لما روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فهم عمر برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولا بها فكف ، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه هم برجمها فقالت له : ولم هذا؟ وما ضرب

__________________

(١) أي عيالا ضياعا ا ه منه.

١٤٩

على حجاب ولا سميت للمسلمين أما فكف عنها ، وذكر في المواهب أن في حل من اختارت منهن الدنيا للأزواج منهن الدنيا للأزواج طريقين ، أحدهما طرد الخلاف والثاني القطع بالحل ، واختار هذا الإمام والغزالي ، وحكى القول بأن المطلقة لا يثبت لها هذا الحكم عن الشيعة ، وقد رأيت في بعض كتبهم نفي الأمومة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالوا : لأن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فوض إلى علي كرم الله تعالى وجهه أن يبقي من يشاء من أزواجه ويطلق من يشاء منهن بعد وفاته وكالة عنه عليه الصلاة والسلام وقد طلق رضي الله تعالى عنه عائشة يوم الجمل فخرجت عن الأزواج ولم يبق لها حكمهن وبعد أن كتبت هذا اتفق لي أن نظرت في كتاب ألفه سليمان بن عبد الله البحراني عليه من الله تعالى ما يستحق في مثالب جمع من الصحابة حاشى رضي الله تعالى عنهم فرأيت ما نصه :

روى أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن سعد بن عبد الله أنه سأل القائم المنتظر وهو طفل في حياة أبيه فقال له يا مولانا وابن مولانا روي لنا أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم جعل طلاق نسائه إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه حتى أنه بعث في يوم الجمل رسولا إلى عائشة وقال : إنك أدخلت الهلاك على الإسلام وأهله بالغش الذي حصل منك وأوردت أولادك في موضع الهلاك بالجهالة فإن امتنعت وإلّا طلقتك فأخبرنا يا مولانا عن معنى الطلاق الذي فوض حكمه رسول صلّى الله تعالى عليه وسلم إلى أمير المؤمنين فقال : إن الله تقدس اسمه عظم شأن نساء النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فخصهن بشرف الأمهات فقال عليه الصلاة والسلام : يا أبا الحسن إن هذا الشرف باق ما دمنا على طاعة الله تعالى فأيتهن عصت الله تعالى بعدي بالخروج عليك فطلقها من الأزواج وأسقطها من شرف أمهات المؤمنين ، ثم قال : وروى الطبرسي أيضا في الاحتجاج عن الباقر أنه قال : لما كان يوم الجمل وقد رشق هودج عائشة بالنبل قال علي كرم الله تعالى وجهه : والله ما أراني إلّا مطلقها فأنشد الله تعالى رجلا سمع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقول : يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي لما قام فشهد فقام ثلاثة عشر رجلا فشهدوا بذلك الحديث ، ورأيت في بعض الأخبار التي لا تحضرني الآن ما هو صريح في وقوع الطلاق ا ه ما قاله البحراني عامله الله تعالى بعدله. وهذا لعمري من السفاهة والوقاحة والجسارة على الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم بمكان وبطلانه أظهر من أن يخفى وركاكة ألفاظه تنادي على كذبه بأعلى صوت ولا أظنه قولا مرضيا عند من له أدنى عقل منهم فلعن الله تعالى من اختلقه وكذا من يعتقده ، وأخرج الفريابي ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه كان يقرأ «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم» وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال : كان في الحرف الأول «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم» وفي مصحف أبي رضي الله تعالى عنه كما روى عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وغيرهما «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم» وإطلاق الأب عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم لأنه سبب للحياة الأبدية كما أن الأب سبب للحياة أيضا بل هو عليه الصلاة والسلام أحق بالأبوة منه وعن مجاهد كل نبي أب لأمته ، ومن هنا قيل في قول لوط هؤلاء بناتي أنه أراد المؤمنات ووجهه ما ذكر ، ويلزم من هذه الأبوة على ما قيل أخوة المؤمنين.

ويعلم مما روي عن مجاهد أن الأبوة ليست من خصوصياته عليه الصلاة والسلام وهذا ليس كأمومة أزواجه فإنها على ما في المواهب من الخصوصيات فلا يحرم نكاح أزواج من عداه صلّى الله تعالى عليه وسلم من الأنبياء عليهم‌السلام من بعدهم على أحد من أممهم (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) أي ذوو القرابات الشاملون للعصبات لا ما يقابلهم (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) في النفع بميراث وغيره من النفع المالي أو في التوارث ويؤيده سبب النزول الآتي ذكره (فِي كِتابِ اللهِ) أي فيما كتبه في اللوح أو فيما أنزله وهي آية المواريث أو هذه الآية أو فيما كتبه سبحانه وفرضه

١٥٠

وقضاه (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) صلة لأولى فمدخول (مِنْ) هو المفضل عليه وهي ابتدائية مثلها في قولك : زيد أفضل من عمرو أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى في كل نفع أو بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة ، وقال الزمخشري : يجوز أن يكون بيانا لأولو الأرحام أي الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب ، والأول هو الظاهر ، وكان في المدينة توارث بالهجرة وبالموالاة في الدين ذلك بآية آخر الأنفال أو بهذه الآية ، وقيل : بالإجماع وأرادوا كشفه عن الناسخ وإلّا فهو لا يكون ناسخا كما لا يخفى ، ورفع (بَعْضُهُمْ) يجوز أن يكون على البدلية وأن يكون على الابتداء و (فِي كِتابِ) متعلق بأولى ويجوز أن يكون حالا والعامل فيه معنى (أَوْلى) ولا يجوز على ما قال أبو البقاء أن يكون حالا من (أُولُوا) للفصل بالخبر ولأنه لا عامل إذا ، وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) إما استثناء متصل من أعم ما تقدر الأولوية فيه من النفع كأنه قيل : القريب أولى من الأجنبي من المؤمنين والمهاجرين في كل نفع من ميراث وصدقة وهدية ونحو ذلك إلّا في الوصية فإنها المرادة بالمعروف فالأجنبي أحق بها من القريب الوارث فإنها لا تصح لوارث ، وأما استثناء منقطع بناء على أن المراد بما فيه الأولوية هو التوارث فيكون الاستثناء من خلاف الجنس المدلول عليه بفحوى الكلام كأنه قيل : لا تورثوا غير أولي الأرحام لكن فعلكم إلى أوليائكم من المؤمنين والمهاجرين الأجانب معروفا وهو أن توصوا لمن أحببتم منهم بشيء جائز فيكون ذلك له بالوصية لا بالميراث ، ويجوز أن يكون المعروف عاما لما عدا الميراث ، والمتبادر إلى الذهن انقطاع الاستثناء واقتصر عليه أبو البقاء ، ومكي وكذا الطبرسي وجعل المصدر مبتدأ محذوف الخبر كما أشرنا إليه.

وتفسير الأولياء بمن كان من المؤمنين والمهاجرين هو الذي يقتضيه السياق فهو من وضع الظاهر موضع الضمير بناء على أن (مِنْ) فيما تقدم للابتداء لا للبيان ، وأخرج ابن جرير ، وغيره عن مجاهد تفسيره بالذين والى بينهم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ، وأخرج ابن المنذر ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم. عن محمد بن الحنفية أنه قال : نزلت هذه الآية في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني ، وأخرجوا عن قتادة أنه قال : الأولياء القرابة من أهل الشرك والمعروف الوصية ، وحكي في البحر عن جماعة منهم الحسن ، وعطاء أن الأولياء يشمل القريب والأجنبي المؤمن والكافر وأن المعروف أعم من الوصية. وقد أجازها للكافر القريب وكذا الأجنبي جماعة من الفقهاء والإمامية يجوزونها لبعض ذوي القرابة الكفار وهم الوالدان والولد لا غير ، والنهي عن اتخاذ الكفار أولياء لا يقتضي النهي عن الإحسان إليهم والبر لهم. وعدّي (تَفْعَلُوا) بإلى لتضمنه معنى الإيصال والإسداء كأنه قيل : إلّا أن تفعلوا مسدين إلى أوليائكم معروفا (كانَ ذلِكَ) أي ما ذكر في الآيتين أعني (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) و (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وجوز أن يكون إشارة إلى ما سبق من أول السورة إلى هنا أو إلى ما بعد قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ) أو إلى ما ذكر في الآية الأخيرة وفيه بحث (فِي الْكِتابِ) أي في اللوح أو القرآن وقيل في التوراة (مَسْطُوراً) أي مثبتا بالأسطار وعن قتادة أنه قال في بعض القراءات : كان ذلك عند الله مكتوبا أن لا يرث المشرك المؤمن فلا تغفل.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) مقدر بأذكر على أنه مفعول لا ظرف لفساد المعنى ، وهو معطوف على ما قبله عطف القصة على القصة أو على مقدر كخذ هذا ، وجوز أن يكون ذلك عطفا على خبر كان وهو بعيد وإن كان قريبا ، ولما كان ما سبق متضمنا أحكاما شرعها الله تعالى وكان فيها أشياء مما كان في الجاهلية وأشياء مما كان في الإسلام أبطلت ونسخت اتبعه سبحانه بما فيه حث على البليغ فقال عزوجل : (وَإِذْ) إلخ واذكر وقت أخذنا من النبيين كافة عهودهم بتبليغ الرسالة والشرائع والدعاء إلى الدين الحق وذلك على ما قال الزجاج وغيره وقت استخراج

١٥١

البشر من صلب آدم عليه‌السلام كالذر ، وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة أنه سبحانه أخذ من النبيين عهودهم بتصديق بعضهم بعضا واتباع بعضهم بعضا ، وفي رواية أخرى عنه أنه أخذ الله تعالى ميثاقهم بتصديق بعضهم بعضا والإعلان بأن محمدا رسول الله وإعلان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أن لا نبي بعده (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) تخصيصهم بالذكر مع اندراجهم في النبيين اندراجا بينا للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع.

واشتهر أنهم هم أولو العزم من الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين وأخرج البزار عن أبي هريرة أنهم خيار ولد آدم عليهم الصلاة والسلام ، وتقديم نبيا صلّى الله تعالى عليه وسلم مع أنه آخرهم بعثة للإيذان بمزيد خطره الجليل أو لتقدمه في الخلق ، فقد أخرج ابن أبي عاصم والضياء في المختارة عن أبي بن كعب مرفوعا بدئ بي الخلق وكنت آخرهم في البعث ، وأخرج جماعة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قال : «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث ، وكذا في الاستنباء فقد جاء في عدة روايات أنه عليه الصلاة والسلام قال : «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد» وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قيل يا رسول الله متى أخذ ميثاقك؟ قال : وآدم بين الروح والجسد ، ولا يضر فيما ذكر تقديم نوح عليه‌السلام في آية الشورى أعني قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] الآية إذ لكل مقام مقال والمقام هناك وصف دين الإسلام بالأصالة والمناسب فيه تقديم نوح فكأنه قيل : شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم وبعث عليه محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء في العهد الحديث وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء والمشاهير ، وقال ابن المنير : السر في تقديمه صلّى الله تعالى عليه وسلم أنه هو المخاطب والمنزل عليه هذا المتلو فكان أحق بالتقديم ، وفيه بحث (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي عهد عهد عظيم الشأن أو وثيقا قويا وهذا هو الميثاق الأول وأخذه هو أخذه ، والعطف مبني على تنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي كما في قوله تعالى : (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [هود : ٥٨] أثر قوله سبحانه : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [هود : ٥٨] وفي ذلك من تفخيم الشأن ما فيه ولهذا لم يقل عزوجل : وإذ أخذنا من النبيين ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ميثاقا غليظا مثلا ، وقال سبحانه ما في النظم الكريم ، وقيل : الميثاق الغليظ اليمين بالله تعالى فيكون بعد ما أخذ الله سبحانه من النبيين الميثاق بتبليغ الرسالة والدعوة إلى الحق أكد باليمين بالله تعالى على الوفاء بما حملوا فالميثاقان متغايران بالذات ، وقوله عزوجل : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) قيل متعلق بمضمر مستأنف مسوق لبيان علة الأخذ المذكور وغايته أي فعل الله تعالى ذلك ليسأل إلخ وقيل : متعلق بأخذنا ، وتعقب بأن المقصود تذكير نفس الميثاق ثم بيان علته وغايته بيانا قصديا كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى الغيبة ، والمراد بالصادقين النبيون الذين أخذ ميثاقهم ووضع موضع ضميرهم للإيذان من أول الأمر بأنهم صادقوا فيما سألوا عنه وإنما السؤال لحكمة تقتضيه أي ليسأل الله تعالى يوم القيامة النبيين الذين صدقوا عهودهم عن كلامهم الصادق الذي قالوه لأقوامهم أو عن تصديق أقوامهم إياهم ، وسؤالهم عليهم‌السلام عن ذلك على الوجهين لتبكيت الكفرة المكذبين كما في قوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) [المائدة : ١٠٩] أو المراد بهم المصدقون بالنبيين ، والمعنى ليسأل المصدقين للنبيين عن تصديقهم إياهم فيقال : هل صدقتم؟ وقيل : يقال لهم هل كان تصديقكم لوجه الله تعالى؟ وجه إرادة ذلك أن مصدق الصادق صادق وتصديقه صدق ، وقيل : المعنى ليسأل المؤمنين الذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم.

١٥٢

وتعقب بأنه يأباه مقام تذكير ميثاق النبيين (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) قيل عطف على فعل مضمر متعلقا فيما قيل : وقيل : على مقدر دلّ عليه (لِيَسْئَلَ) كأنه قيل فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين إلخ ، وقيل : على (أَخَذْنا) وهو عطف معنوي كأنه قيل : أكد الله تعالى على النبيين الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد للكافرين إلخ.

وقيل : على (يسأل) بتأويله بالمضارع ولا بد من ملاحظة مناسبة ليحسن العطف ؛ وقيل : على مقدر وفي الكلام الاحتباك والتقدير ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد لهم ثوابا عظيما ويسأل الكاذبين عن كذبهم وأعد لهم عذابا أليما فحذف من كل منهما ما ثبت في الآخر ، وقيل : إن الجملة حال من ضمير (يسأل) بتقدير قد أو بدونه ، ولا يخفى أقلها تكلفا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) شروع في ذكر قصة الأحزاب وهي وقعة الخندق ، وكانت على ما قال ابن إسحاق في شوال سنة خمس ، وقال مالك : سنة أربع.

والنعمة إن كانت مصدرا بمعنى الإنعام فالجار متعلق بها وإلّا فهو متعلق بمحذوف وقع حالا منها أي كائنة عليكم ، وقوله تعالى : (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) ظرف لنفس النعمة أو لثبوتها لهم ، وقيل : منصوب بأذكر على أنه بدل اشتمال من (نِعْمَةَ) والمراد بالجنود الأحزاب ، وهم قريش يقودهم أبو سفيان ، وبنو أسد يقودهم طليحة ، وغطفان يقودهم عيينة ، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل ، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي ، وبنو النضير رؤساؤهم حيي ابن أخطب وأبناء أبي الحقيق ، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد ، وكان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فنبذه بسعي حيي ، وكان مجموعهم عشرة آلاف في قول وخمسة عشر ألفا في آخر ، وقيل : زهاء اثني عشر ألفا فلما سمع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بإقبالهم حفر خندقا قريبا من المدينة محيطا بها بإشارة سلمان الفارسي أعطى كل أربعين ذراعا لعشرة ، ثم خرج عليه الصلاة والسلام في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء فدفعوا في الآطام ، واشتد الخوف وظن المؤمنون كل ظن وبحم النفاق كما قص الله تعالى ، ومضى قريب من شهر على الفريقين لا حرب بينهم سوى الرمي بالنبل والحجارة من وراء الخندق إلّا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وكان يعد بألف فارس ، وعكرمة بن أبي جهل ، وضرار بن الخطاب ، وهبيرة بن أبي وهب ، ونوفل بن عبد الله قد ركبوا خيولهم وتيمموا من الخندق مكانا ضيقا فضربوا بخيولهم فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع فخرج علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه في نفر من المسلمين رضي الله تعالى عنهم حتى أخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها فأقبلت الفرسان معهم وقتل علي كرم الله تعالى وجهه عمرا في قصة مشهورة فانهزمت خيله حتى اقتحمت من الخندق هاربة وقتل مع عمرو منبه بن عثمان بن عبد الدار. ونوفل بن عبد العزى ، وقيل : وجد نوفل في جوف الخندق فجعل المسلمون يرمونه بالحجارة فقال لهم : قتلة أجمل من هذه ينزل بعضكم أقاتله فقتله الزبير بن العوام.

وذكر ابن إسحاق أن عليا كرم الله تعالى وجهه طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فمات في الخندق وبعث المشركون إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال النبي عليه الصلاة والسلام : هو لكم لا نأكل ثمن الموتى ، ثم أنزل الله تعالى النصر وذلك قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) عطف على (جاءَتْكُمْ) مسوق لبيان النعمة إجمالا وسيأتي أن شاء الله تعالى بقيتها في آخر القصة.

(وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة عليهم‌السلام وكانوا على ما قيل ألفا ، روي أن الله تعالى بعث عليهم صبا باردة في ليلة باردة فاخصرتهم وسفت التراب في وجوههم وأمر الملائكة عليهم‌السلام فقلعت الأوتاد وقطعت الأطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة

١٥٣

في جوانب عسكرهم فقال طليحة بن خويلد الأسدي : أما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا ، وقال حذيفة رضي الله تعالى وقد ذهب ليأتي رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بخبر القوم. خرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته ويقول : الرحيل الرحيل لا مقام لكم وإذا الرجل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبرا فو الله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم والربح تضربهم ثم خرجت نحو النبي عليه الصلاة والسلام فلما صرت في نصف الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو عشرين فارسا متعممين فقالوا : أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم.

وقرأ الحسن «وجنودا» بفتح الجيم ، وقرأ أبو عمرو في رواية ، وأبو بكر في رواية أيضا «لم يروها» بياء الغيبة (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من حفر الخندق وترتيب مبادئ الحرب أعلاه لكلمة الله تعالى ، وقيل : من التجائكم إليه تعالى ورجائكم من فضله عزوجل.

وقرأ أبو عمرو «يعملون» بياء الغيبة أي بما يعمله الكفار من التحرز والمحاربة وإغراء بعضهم بعضا عليها حرصا على إبطال حقكم ، وقيل : من الكفر والمعاصي (بَصِيراً) ولذلك فعل ما فعل من نصركم عليهم ، والجملة اعتراض مقرّر لما قبله (إِذْ جاؤُكُمْ) بدل من (إِذْ جاءَتْكُمْ) بدل كل من كل ، وقيل : هو متعلق بتعملون أو ببصيرا (مِنْ فَوْقِكُمْ) من أعلى الوادي من جهة المشرق والإضافة إليهم لأدنى ملابسة ، والجائي من ذلك بنو غطفان ، ومن تابعهم من أهل نجد ، وبنو قريظة ، وبنو النضير (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) من أسفل الوادي من قبل المغرب ، والجائي من ذلك قريش ومن شايعهم من الأحابيش ، وبني كنانة ، وأهل تهامة ، وقيل : الجائي من فوق بنو قريظة ، ومن أسفل قريش ، وأسد ، وغطفان ، وسليم ، وقيل : غير ذلك.

ويحتمل أن يكون من فوق ومن أسفل كناية عن الإحاطة من جميع الجوانب كأنه قيل : إذ جاءوكم محيطين بكم كقوله تعالى : (يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [العنكبوت : ٥٥] (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) عطف على ما قبله داخل معه في حكم التذكير أي حين مالت الأبصار عن سننها وانحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة.

وقال الفراء : أي حين مالت عن كل شيء فلم تلتفت إلّا إلى عدوها (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) أي خافت خوفا شديدا وفزعت فزعا عظيما لأنها تحركت عن موضعها وتوجهت إلى الحناجر لتخرج.

أخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه قال في الآية : إن القلوب لو تحركت وزالت خرجت نفسه ولكن إنما هو الفزع فالكلام على المبالغة ، وقيل : القلب عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يسد مخرج النفس فلا يقدر المرء أن يتنفس ويموت خوفا ، وقيل : إن الرئة تنتفخ من شدة الفزع والغضب والغم الشديد وإذا انتفخت ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ، ومن ثم قيل للجبان : انتفخ سحره ، وإلى حمل الكلام على الحقيقة ذهب قتادة.

أخرج عنه عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم أنه قال في الآية : أي شخصت عن مكانها فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت ، وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا يا رسول الله هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال : نعم اللهم استر عورتنا وآمن روعاتنا قال : فضرب الله تعالى وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الله تعالى بالريح ، والخطاب في قوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) لمن يظهر الإيمان على الإطلاق ، والظنون جمع الظن وهو مصدر شامل للقليل والكثير ، وإنما جمع للدلالة على تعدد أنواعه ، وقد جاء كذلك في أشعارهم أنشد أبو عمرو في كتاب الألحان :

١٥٤

إذا الجوزاء أردفت الثريا

ظننت بآل فاطمة الظنونا

أي تظنون بالله تعالى أنواع الظنون المختلفة فيظن المخلصون منكم الثابتون في ساحة الإيمان أن ينجز سبحانه وعده في إعلاء دينه ونصرة نبيه صلّى الله تعالى عليه وسلم ، ويعرب عن ذلك ما سيحكى عنهم من قولهم (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) الآية ، أو أن يمتحنهم فيخافون أن تزل أقدامهم فلا يتحملون ما نزل بهم ، وهذا لا ينافي الإخلاص والثبات كما لا يخفى ، ويظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما حكي عنهم في قوله تعالى : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) الآية ، وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في الآية : ظنون مختلفة ظن المنافقون أن محمدا صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه يستأصلون وأيقن المؤمنون أن ما وعد والله ورسوله حق وأنه سيظهر على الدين كله ، وقد يختار أن الخطاب للمؤمنين ظاهرا وباطنا واختلاف ظنونهم بسبب أنهم يظنون تارة أن الله سبحانه سينصرهم على الكفار من غير أن يكون لهم استيلاء عليهم أولا ، وتارة أنه عزوجل سينصر الكفار عليه فيستولون على المدينة ثم ينصرهم عليهم بعد ، وأخرى أنه سبحانه سينصر الكفار بحيث يستأصلونهم وتعود الجاهلية ، أو بسبب أن بعضهم يظن هذا وبعضهم يظن ذاك وبعضهم يظن ذلك. ويلتزم أن الظن الذي لا يليق بحال المؤمن كان من خواطر النفس التي أوجبها الخوف الطبيعي ولم يمكن البشر دفعها ومثلها عفو ، أو يقال : ظنونهم المختلفة هي ظن النصر بدون نيل العدو منهم شيئا وظنه بعد النيل وظن الامتحان وعلى هذا لا يحتاج إلى الاعتذار ، وأيا ما كان فالجملة معطوفة على (زاغَتِ) وصيغة المضارع لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار ، وكتب (الظُّنُونَا) وكذا أمثاله من المنصوب المعرف بال كالسبيلا والرسولا في المصحف بألف في آخره ، فحذفها أبو عمرو وقفا ووصلا ، وابن كثير ، والكسائي وحفص يحذفونها وصلا خاصة ويثبتها باقي السبعة في الحالين ، واختار أبو عبيد ، والحذاق أن يوقف على نحو هذه الكلمة بالألف ولا توصل فتحذف أو تثبت لأن حذفها مخالف لما اجتمعت عليه مصاحف الأمصار ولأن إثباتها في الوصل معدوم في لسان العرب نظمهم ونثرهم لا في اضطرار ولا في غيره ، أما إثباتها في الوقف ففيه اتباع الرسم وموافقة لبعض مذاهب العرب لأنهم يثبتون هذه الألف في قوافي أشعارهم ومصاريعها ومن ذلك قوله : * أقلّي اللوم عاذل والعتابا* (١) والفواصل في الكلام كالمصاريع ، وقال أبو علي : إن رءوس الآي تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع كما كانت القوافي مقاطع (هُنالِكَ) ظرف مكان ويستعمل للزمان وقيل : إنه مجاز وهو أنسب هنا ، وأيا ما كان فهو ظرف لما بعده لا لتظنون كما قيل أي في ذلك الزمان الهائل أو في ذلك المكان المدحض (ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) أي اختبرهم الله تعالى ، والكلام من باب التمثيل ، والمراد عاملهم سبحانه وتعالى معاملة المختبر فظهر المخلص من المنافق والراسخ من المتزلزل ، وابتلاؤهم على ما روي عن الضحاك بالجوع ، وعلى ما روي عن مجاهد بشدة الحصار ، على ما قيل بالصبر على الإيمان.

(وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) أي اضطربوا اضطرابا شديدا من شدة الفزع وكثرة الأعداء ، وعن الضحاك «أنهم زلزلوا عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلّا موضع الخندق» وقيل : أي حركوا إلى الفتنة فعصموا. وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤي عن أبي عمرو «زلزلوا» بكسر الزاي قاله ابن خالويه ، وقال الزمخشري : وعن أبي عمرو إشمام زاي زلزلوا وكأنه عنى إشمامها الكسر ووجه الكسر انه اتباع حركة الزاي الأولى لحركة الثانية ولم يعتد بالساكن كما لم يعتد به من قال منتن بكسر الميم اتباعا لحركة التاء وهو اسم فاعل من أنتن. وقرأ الجحدري وعيسى «زلزلا» بفتح الزاي ، ومصدر فعلل

__________________

(١) في رواية ا ه منه.

١٥٥

من المضاعف يجوز فيه الفتح والكسر نحو قلقل قلقالا ، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو صلصال بمعنى مصلصل ، فإن كان من غير المضاعف فما سمع منه على فعلال مكسور الفاء نحو سرهفه سرهافا (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) عطف على (إِذْ زاغَتِ) وصيغة المضارع لما مر من الدلالة على استمرار القول واستحضار صورته.

(وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ظاهر العطف أنهم قوم لم يكونوا منافقين فقيل : هم قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبهة عليهم ، وقيل : قوم كانوا ضعفاء الاعتقاد لقرب عهدهم بالإسلام ، وجوز أن يكون المراد بهم المنافقون أنفسهم والعطف لتغاير الوصف كقوله : إلى الملك القرم وابن الهمام.

(ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من الظفر وإعلاء الدين (إِلَّا غُرُوراً) أي وعد غرور ، وقيل : أي قولا باطلا وفي البحر أي أمرا يغرنا ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به روي أن الصحابة بينما يحفرون الخندق عرضت لهم صخرة بيضاء مدورة شديدة جدا لا تدخل فيها المعاول فشكوا إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فأخذ المعول من سلمان رضي الله تعالى عنه فضربها ضربة دعها وبرقت منها برقة أضاء منها ما بين لابتي المدينة حتى لكأن مصباحا في جوف ليل مظلم فكبر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وكبر المسلمون ثم ضربها الثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاء منها ما بين لابتيها فكبر عليه الصلاة والسلام وكبّر المسلمون ثم ضربها الثالثة فكسرها وبرقت برقة أضاء منها ما بين لابتيها فكبر صلّى الله تعالى عليه وسلم وكبر المسلمون فسأل عن ذلك فقال عليه الصلاة والسلام : أضاء لي في الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل عليه‌السلام أن أمتي ظاهرة عليها وأضاء لي الثانية قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل عليه‌السلام أن أمتي ظاهرة عليها وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل عليه‌السلام أن أمتي ظاهر عليها فأبشروا بالنصر فاستبشر المسلمون وقال رجل من الأنصار يدعى معتب بن قشير وكان منافقا : أيعدنا محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يفتح لنا مدائن اليمن وبيض المدائن وقصور الروم وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته إلّا قتل هذا والله الغرور فأنزل الله تعالى في هذا (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) إلخ.

وفي رواية قال المنافقون حين سمعوا ذلك ألا تعجبون يحدثكم ويعدكم ويمنيكم الباطل أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا فأنزل الله تعالى قوله سبحانه (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) ووجه الجمع على القول بأن القائل واحد أن الباقين راضون بذلك قابلوه منه ، والظاهر أن نسبة الوعد إلى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة من المنافقين الذين لا يعتقدون اتصافه صلّى الله تعالى عليه وسلم بالرسالة ولا أن الوعد وعد الله تعالى شأنه كانت من باب المماشاة أو الاستهزاء وإن كانت قد وقعت من غيرهم فهي بالتبعية لهم.

ويجوز أن يكون وقوع ما ذكر في الحكاية لا في كلامهم ويستأنس له بما وقع في بعض الآثار وبعضهم بحث عن إطلاق الرسول عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال أنه في الحكاية لا في كلامهم كما يشهد بذلك ما روي عن معتب أو هو تقية لا استهزاء لأنه لا يصح بالنسبة لغير المنافقين فتأمل ولا تغفل (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) قال السدي : هم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه ، وقال مقاتل : هم بنو سلمة ، وقال أوس بن رومان هم أوس بن قيظي وأصحابه بنو حارثة وضمير (مِنْهُمْ) للمنافقين أو للجميع (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) هو اسم المدينة المنورة ، وقال أبو عبيدة اسم بقعة وقعت المدينة في ناحية منها ، وقيل : اسم أرضها وهو عليها ممنوع من الصرف للعملية ووزن الفعل أو التأنيث ولا ينبغي تسمية المدينة بذلك أخرج أحمد ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن البراء بن عازب قال قال رسول الله صلّى الله

١٥٦

تعالى عليه وسلم من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى هي طابة هي طابة هي طابة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن رسول الله عليه الصلاة والسلام لا تدعونها يثرب فإنها طيبة يعني المدينة ومن قال يثرب فليستغفر الله تعالى ثلاث مرات هي طيبة هي طيبة هي طيبة ، وفي الحواشي الخفاجية أن تسميتها به مكروهة كراهة تنزيهية ، وذكر في وجه ذلك أن هذا الاسم يشعر بالتثريب وهو اللوم والتعبير.

وقال الراغب : التثريب التقريع بالذنب والثرب شحمة رقيقة ، ويثرب يصح أن يكون أصله من هذا الباب والياء تكون فيه زائدة انتهى ، وقيل : يثرب اسم رجل من العمالقة وبه سميت المدينة وكان يقال لها أثرب أيضا ، ونقل الطبرسي عن الشريف المرتضى أن للمدينة أسماء منها يثرب وطيبة وطابة والدار والسكينة وجائزة والمحبورة والمحبة والمحبوبة والعذراء والمرحومة والقاصمة ويندّد انتهى ، وكأن القائلين اختاروا يثرب من بين الأسماء مخالفة له صلّى الله تعالى عليه وسلم لما علموا من كراهيته عليه الصلاة والسلام لهذا الاسم من بينها ، ونداؤهم أهل المدينة بعنوان أهليتهم لها ترشيح لما بعد من الأمر بالرجوع إليها (لا مُقامَ لَكُمْ) أي لا مكان إقامة أو لا إقامة لكم أي لا ينبغي أو لا يمكن لكم الإقامة هاهنا.

وقال أبو جعفر ، وشيبة ، وأبو رجاء ، والحسن ، وقتادة ، والنخعي ، وعبد الله بن مسلم ، وطلحة وأكثر السبعة «لا مقام» بفتح الميم وهو يحتمل أيضا المكان أي لا مكان قيام والمصدر أي لا قيام لكم ، والمعنى على نحو ما تقدم (فَارْجِعُوا) أي إلى منازلكم بالمدينة ليكون ذلك أسلم لكم من القتل أو ليكون لكم عند هذه الأحزاب يد ، قيل : ومرادهم أمرهم بالفرار على ما يشعر به ما بعد لكنهم عبروا عنه بالرجوع ترويجا لمقالتهم وإيذانا بأنه ليس من قبيل الفرار المذموم ، وقيل : المعنى لا مقام لكم في دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك أو فارجعوا عما بايعتموه عليه وأسلموه إلى أعدائه عليه الصلاة والسلام ، أو لا مقام لكم بعد اليوم في يثرب أو نواحيها لغلبة الأعداء فارجعوا كفارا ليتسنى لكم المقام فيها لارتفاع العداوة حينئذ.

وقيل : يجوز أن يكونوا خافوا من قتل النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم إياهم بعد غلبته عليه الصلاة والسلام حيث ظهر أنهم منافقون فقالوا : (لا مُقامَ لَكُمْ) على معنى لا مقام لكم مع النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم لأنه إن غلب قتلكم فارجعوا عما بايعتموه عليه وأسلموه عليه الصلاة والسلام أو فارجعوا عن الإسلام واتفقوا مع الأحزاب أو ليس لكم محل إقامة في الدنيا أصلا إن بقيتم على ما أنتم عليه فارجعوا عما بايعتموه عليه عليه الصلاة والسلام إلى آخره ، والأول أظهر وأنسب بما بعده ، وبعض هذه الأوجه بعيد جدا كما لا يخفى.

(وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) عطف على (قالَتْ) وصيغة المضارع لما مرّ من استحضار الصورة ، والمستأذن على ما روي عن ابن عباس ، وجابر بن عبد الله بنو حارثة بن الحارث ، قيل : أرسلوا أوس بن قيظي أحدهم للاستئذان ، وقال السدي : جاء هو ورجل آخر منهم يدعى أبا عرابة بن أوس ، وقيل : المستأذن بنو حارثة ، وبنو سلمة استأذنوه عليه الصلاة والسلام في الرجوع ممتثلين بأمر أولئك القائلين يا أهل يثرب.

وقوله تعالى : (يَقُولُونَ) بدل من (يَسْتَأْذِنُ) أو حال من فاعله أو استئناف مبني على السؤال عن كيفية الاستئذان (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي ذليلة الحيطان يخاف عليها السراق كما نقل عن السدي ، وقال الراغب : أي متخرقة ممكنة لمن أرادها ، وقال الكلبي : أي خالية من الرجال ضائعة ، وقال قتادة : قاصية يخشى عليها العدو ؛ وأصلها على ما قيل مصدر بمعنى الخلل ووصف بها مبالغة وتكون صفة للمؤنث والمذكر والمفرد وغيره كما هو شأن المصادر ، وجوز أن تكون صفة مشبهة على أنها مخفف عورة بكسر الواو كما قرأ بذلك هنا وفيما بعد ابن عباس ، وأبو

١٥٧

يعمر ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو طالوت ، وابن مقسم ، وإسماعيل بن سليمان عن ابن كثير من عورت الدار إذا اختلت ، قال ابن جني : صحة الواو على هذا شاذة والقياس قلبها الفا فيقال عارة كما يقال كبش صاف ونعجة صافة ويوم راح ورجل مال والأصل صوف وصوفة وروح ومول ، وتعقب بأن القياس إنما يقتضي القلب إذا وقع القلب في الفعل وعور هنا قد صحت عينه حملا على أعور المشدد ، ورجح كونها مصدرا وصف به للمبالغة بأنه الأنسب بمقام الاعتذار كما يفصح عنه تصدير مقالتهم بحرف التحقيق ، لكن ينبغي أن يقال في قوله تعالى : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) إذا أجرى فيه هذا اللفظ كما أجرى فيما قبله أن المراد المبالغة في النفي على نحو ما قيل (١) قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] والواو فيه للحال أي يقولون ذلك والحال أنها ليست كذلك (إِنْ يُرِيدُونَ) أي ما يريدون بالاستئذان (إِلَّا فِراراً) أي هربا من القتال ونصرة المؤمنين قاله جماعة ، قيل : فرار من الدين (وَلَوْ دُخِلَتْ) أي البيوت كما هو الظاهر (عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء القائلين ، وأسند الدخول إلى بيوتهم وأوقع عليهم لما أن المراد فرض دخولها وهم فيها لا فرض دخولها مطلقا كما هو المفهوم لو لم يذكر الجار والمجرور ولا فرض الدخول عليهم مطلقا كما هو المفهوم لو أسند الجار والمجرور وفاعل الدخول الداخل من أهل الفساد من كان أي لو دخل كل من أراد الدخول من أهل الدعارة والفساد بيوتهم وهم فيها (مِنْ أَقْطارِها) جمع قطر بمعنى الناحية والجانب ويقال قتر بالتاء لغة فيه أي من جميع جوانبها وذلك بأن تكون مختلة بالكلية وهذا داخل في المفروض فلا يخالف قوله تعالى (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ ثُمَّ سُئِلُوا) أي طلب منهم من جهة طائفة أخرى عند تلك النازلة والرجفة الهائلة (الْفِتْنَةَ) أي القتال كما قال الضحاك (لَآتَوْها) أي لأعطوها أولئك السائلين كأنه شبه الفتنة والمطلوب اتباعهم فيها بأمر نفيس يطلب منهم بذله ونزل إطاعتهم وابتاعهم بمنزلة بذل ما سألوه وإعطائه ، وقرأ نافع ، وابن كثير «لأتوها» بالقصر أي لفعلوها (وَما تَلَبَّثُوا بِها) أي بالفتنة ، والباء للتعدية أي ما لبثوها وما أخروها (إِلَّا يَسِيراً) أي إلا تلبثا يسيرا أو إلّا زمانا يسيرا وهو مقدار ما يأخذون فيه سلاحهم على ما قيل ، وقيل : مقدار ما يجيبون السؤال فيه ، وكلاهما عندي من باب التمثيل ، والمراد أنهم لو سألهم غيرك القتال وهم في أشد حال وأعظم بلبال لأسرعوا جدا فضلا عن التعلل باختلال البيوت مع سلامتها كما فعلوا الآن. والحاصل أن طلبهم الأذن في الرجوع ليس لاختلال بيوتهم بل لنفاقهم وكراهتهم نصرتك ، وقال ابن عطية : المعنى ولو دخلت المدينة من أقطارها واشتد الحرب الحقيقي ثم سألوا الفتنة والحرب لمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم لطاروا إليها ولم يتلبثوا في بيوتهم لحفظها إلّا يسيرا قيل قدر ما يأخذون سلاحهم انتهى ، فضمير (دُخِلَتْ) عنده عائد على المدينة وباء (بِها) للظرفية كما هو ظاهر كلامه ، وجوز أن تكون سببية والمعنى على تقدير مضاف أي ولم يتلبثوا بسبب حفظها ، وقيل : يجوز أن تكون للملابسة أيضا ، والضمير على كل تقدير للبيوت وفيه تفكيك الضمائر.

وعن الحسن ، ومجاهد ، وقتادة (الْفِتْنَةَ) الشرك ، وفي معناه ما قيل : هي الردة والرجوع إلى إظهار الكفر ، وجعل بعضهم ضميري (دُخِلَتْ بِها) للمدينة وزعم أن المعنى ولو دخلت المدينة عليهم من جميع جوانبها ثم سألوا الرجوع إلى إظهار الكفر والشرك لفعلوا وما لبثوا بالمدينة بعد إظهار كفرهم إلّا يسيرا فإن الله تعالى يهلكهم أو يخرجهم بالمؤمنين ، وقيل : ضمير (دُخِلَتْ) للبيوت أو للمدينة وضمير (بِها) للفتنة بمعنى الشرك والباء للتعدية ، والمعنى ولو دخلت عليهم ثم سئلوا الشرك لأشركوا وما أخروه إلّا يسيرا ، وقريب منه قول قتادة أي لو دخلت عليهم ثم

__________________

(١) قوله ما قيل إلخ كذا بخطه ولعل لفظة في ساقطة من قلمه.

١٥٨

سألوا الشرك لأعطوه طيبة به أنفسهم وما تحسبوا به إلّا يسيرا ، وجوز أن تكون الباء لغير ذلك ، وقيل : فاعل الدخول أولئك العساكر المتحزبة ، والوجوه المحتملة في الآية كثيرة كما لا يخفى على من له أدنى تأمل. وما ذكرناه أولا هو الأظهر فيما أرى. وقرأ الحسن «سولوا» بواو ساكنة بعد السين المضمومة قالوا : وهي من سال يسال كخاف يخاف لغة في سأل المهموز العين ، وحكى أبو زيد هما يتساولان ، وقال أبو حيان : ويجوز أن يكون أصلها الهمز لأنه يجوز أن يكون سولوا على قول من يقول في ضرب مبنيا للمفعول ضرب ثم سهل الهمزة بإبدالها واوا على قول من قال في بؤس بوس بابدال الهمزة واوا لضم ما قبلها. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو ، والأعمش «سيلوا» بكسر السين من غير همز نحو قيل ، وقرأ مجاهد «سويلوا» واو ساكنة بعد السين المضمومة وياء مكسورة بدلا من الهمزة (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) هؤلاء هم الفريق المستأذنون وهم بنو حارثة عند الأكثرين. وقيل : هم بنو سلمة كانوا قد جبنوا يوم أحد ثم تابوا وعاهدوا يومئذ قبل يوم الخندق أن لا يفروا ، وعن ابن عباس أنهم قوم عاهدوا بمكة ليلة العقبة أن يمنعوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يمنعون منه أنفسهم ، وقيل : أناس غابوا عن وقعة بدر فحزنوا على ما فاتهم مما أعطى أهل بدر من الكرامة فقالوا : لئن أشهدنا الله تعالى قتالا لنقاتلن و(عاهد) أجرى مجرى اليمين لذلك تلقى بقوله تعالى : (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) وجاء بصيغة الغيبة على المعنى ولو جاء كما لفظوا به لكان التركيب لا تولي الأدبار وتولية الإدبار كناية عن الفرار والانهزام فإن الفار يولي دبره من فر منه (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) عن الوفاء به مجازي عليه وذلك يوم القيامة ، والتعبير بالماضي على ما في مجمع البيان لتحقق الوقوع ، وقيل : أي كان عند الله تعالى مسئولا عن الوفاء به أو مسئولا مقتضى حتى يوفى به.

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ

١٥٩

ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(٣٠)

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) أي لن ينفعكم ذلك ويدفع عنكم ما أبرم في الأزل عليكم من موت أحدكم حتف أنفه أو قتله بسيف ونحوه فإن المقدر كائن لا محالة (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي وإن نفعكم الفرار بأن دفع عنكم ما أبرم عليكم فمتعتم لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا.

وهذا من باب فرض المحال ولم يقل : ولو نفعكم إخراجا للكلام مخرج المماشاة أو إذا نفعكم الفرار فمتعتم بالتأخير بأن كان ذلك معلقا عند الله تعالى على الفرار مربوطا به لم يكن التمتيع إلّا قليلا فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة ، وعمر تأكله ذرات الدقائق وإن كثر قليل ، وقال بعض الأجلة : المعنى لا ينفعكم نفعا دائما أو تاما في دفع الأمرين المذكورين الموت أو القتل بالكلية إذ لا بد لكل شخص من موت حتف أنفه أو قتل في وقت معين لا لأنه سبق به القضاء لأنه تابع للمقضى فلا يكون باعثا عليه بل لأنه مقتضى ترتب الأسباب والمسببات بحسب جري العادة على مقتضى الحكمة فلا دلالة فيه على أن الفرار لا يغني شيئا حتى يشكل بالنهي عن الإلقاء إلى التهلكة وبالأمر بالفرار عن المضار ، وقوله تعالى : (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) يدل على أن في الفرار نفعا في الجملة إذ المعنى لا تمتعون على تقدير الفرار إلّا متاعا قليلا ، وفيه ما فيه فتأمل.

وذكر الزمخشري أن بعض المروانية مر على حائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال : ذلك القليل نطلب وكأنه مال إلى الوجه الثاني أو إلى ما ذكره البعض في الآية ؛ وجواب الشرط لأن محذوف لدلالة ما قبله عليه و (إِذاً) تقدمها هاهنا حرف عطف فيجوز فيها الإعمال والإهمال لكنه لم يقرأ هنا إلّا بالإهمال. وقرئ بالإعمال في قوله تعالى في سورة [الإسراء : ٧٦] (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ) وقرئ «لا يمتعون» بياء الغيبة.

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) استفهام في معنى النفي أي لا أحد يمنعكم من الله عزوجل وقدره جلّ جلاله إن خيرا وإن شرا فجعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة مع أنه لا عصمة إلّا من السوء لما في العصمة من معنى المنع ، وجوز أن يكون في الكلام تقدير والأصل قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر نظير قوله :

ورأيت زوجك في الوغى

متقلدا سيفا ورمحا

فإنه أراد وحاملا أو ومعتقلا رمحا ، ويجري نحو التوجيه السابق في الآية ، وجوز الطيبي أن يكون المعنى من الذي يعصمكم من الله أراد بكم سوءا أو من الذي يمنع رحمة الله منكم إن أراد بكم رحمة ، وقرينة التقدير ما في

١٦٠