روح المعاني - ج ١١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

سائر الأفلاك وما فيها من الكواكب ويسمى حركة الكل والحركة اليومية والحركة السريعة والحركة الأولى والحركة على خلاف التوالي والحركة الشرقية ، وبعضهم يسميها الحركة الغربية ، وقيل : ما يعم هذه الحركة وحركتهما الخاصة بهما وهي حركتهما بواسطة فلكيهما على التوالي من المغرب إلى المشرق وهي للقمر أسرع منها للشمس ، وليس في العقل الصريح والنقل الصحيح ما يأبى إثبات هاتين الحركتين لكل من النيرين كما لا يخفى على المنصف العارف ، ومنتهى هذا الجري العام لهاتين الحركتين يوم القيامة أيضا ، والجملة على تقدير عموم الخطاب اعتراض بين المعطوفين لبيان الواقع بطريق الاستطراد ، وعلى تقدير اختصاصه به صلّى الله تعالى عليه وسلم يجوز أن تكون حالا من الشمس والقمر فإن جريهما إلى يوم القيامة من جملة ما في حيز رؤيته عليه الصلاة والسلام ، وقيل جريهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما والأجل المسمى لجري الشمس آخر السنة المسماة بالسنة الشمسية الحقيقية وهي زمان مفارقة الشمس أية نقطة تفرض من فلك البروج إلى عودها إليها بحركتها الخاصة ، وجعلوا ابتداءها من حين حلول الشمس رأس الحمل ومدتها عند بعض ثلاثمائة وخمسة وستون يوما بليلته وربع يوم كذلك وعند بطليموس ثلاثمائة وخمسة وستون يوما بليلته وخمس ساعات وخمسة وخمسون دقيقة واثنتا عشر ثانية ، وعند بعض المتأخرين ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وخمس ساعات وست وأربعون دقيقة وأربع وعشرون ثانية ، وعند الحكيم محيي الدين الكسر الزائد خمس ساعات ودقيقة ، وبالرصد الجديد الذي تولاه الطوسي بمراغة خمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة ، ووجد برصد سمرقند أزيد من هذا بربع دقيقة ، وأما الاصطلاحية فاعتبرها بعض كالروم والأقدمين من الفرس ثلاثمائة وخمسة وستون يوما بليلته وربع يوم كذلك وأخذ الكسر ربعا تاما إلّا أن الروم يجعلون ثلاث سنين ثلاثمائة وخمسة وستين ويكبسون في الرابعة بيوم والفرس كانوا يكسبون في مائة وعشرين سنة بشهر ، واعتبرها بعض آخر كالقبط والمستعملين لتاريخ الفرس من المحدثين ثلاثمائة وستين يوما بليلته وأسقط الكسر رأسا ولجري القمر آخر الشهر القمري الحقيقي وهو زمان مفارقة القمر أي وضع يعرض له من الشمس إلى عوده إليه ، وجعلوا ابتداءه من اجتماع الشمس والقمر وزمان ما بين الاجتماعين المتتالين كط لان من الأيام ودقائقها وثوانيها تقريبا وأما الشهر الغير الحقيقي فالمعتبر فيه الهلال ويختلف زمان ما بين الهلالين كما هو معروف.

قيل : وعلى هذا فالجملة بيان لحكم تسخيرهما أو تنبيه على كيفية إيلاج أحد الملوين في الآخر ، وكون ذلك بحسب اختلاف جريان الشمس على مداراتها اليومية فكلما كان جريانها متوجها إلى سمت الرأس تزداد القوس التي فوق الأرض كبرا فيزداد النهار طولا بانضمام بعض أجزاء الليل إليه إلى أن يبلغ المدار الذي هو أقرب المدارات إلى سمت الرأس وذلك عند بلوغها إلى رأس السرطان ثم ترجع متوجهة إلى التباعد عن سمت الرأس فلا تزال القسي التي فوق الأرض تزداد صغرا فيزداد النهار قصرا بانضمام بعض أجزائه إلى الليل إلى أن يبلغ المدار الذي هو أبعد المدارات اليومية عن سمت الرأس وذلك عند بلوغها رأس الجدي.

وأنت تعلم أنه لا مدخل لجريان القمر في الإيلاج فالتعرض له في الآية الكريمة يبعد هذا الوجه ، ولعل الأظهر على تقدير جعل جريهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما أن يجعل الأجل المسمى عبارة عن يوم القيامة أو يجعل عبارة عن آخر السنة والشهر المعروفين عند العرب فتأمل ، وجرى يتعدى بإلى تارة وباللام أخرى وتعديته بالأول باعتبار كون المجرور غاية وبالثاني باعتبار كونه غرضا فتكون اللام لام تعليل أو عاقبة وجعلها الزمخشري للاختصاص ولكل وجه ، ولم يظهر لي وجه اختصاص هذا المقام بإلى وغيره باللام. وقال النيسابوري : وجه ذلك أن هذه الآية صدرت بالتعجيب فناسب التطويل وهو كما ترى فتدبر ، وقوله تعالى :

١٠١

(وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عطف على قوله : (أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ) إلخ داخل معه في حيز الرؤية على تقديري خصوص الخطاب وعمومه فإن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق والتدبير اللائق لا يكاد يغفل عن كون صانعه عزوجل محيطا بحلائل أعماله ودقائقها وقرأ عياش عن أبي عمرو «بما يعملون» بياء الغيبة (ذلِكَ) إشارة إلى ما تضمنته الآيات وأشارت إليه من سعة العلم وكمال القدرة واختصاص الباري تعالى شأنه بها (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي بسبب أنه سبحانه وحده الثابت المتحقق في ذاته أي الواجب الوجود.

(وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) إلها (الْباطِلُ) المعدوم في حد ذاته وهو الممكن الذي لا يوجد إلّا بغيره وهو الواجب تعالى شأنه (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) على الأشياء (الْكَبِيرُ) عن أن يكون له سبحانه شريك أو يتصف جلّ وعلا بنقص لا بشيء أعلى منه تعالى شأنه شأنا وأكبر سلطانا ، ووجه سببية الأول لما ذكر أن كونه تعالى وحده واجب الوجود في ذاته يستلزم أن يكون هو سبحانه وحده الموجد لسائر المصنوعات البديعة الشأن فيدل على كمال قدرته عزوجل وحده والإيجاب قد أبطل في الأصول ومن صدرت عنه جميع هاتيك المصنوعات لا بد من أن يكون كامل العلم على ما بين في الكلام ، ووجه سببية الثالث لذلك أن كونه تعالى وحده عليا على جميع الأشياء متسلطا عليها متنزها عن أن يكون له سبحانه شريك أو يتصف بنقص عزوجل يستلزم كونه تعالى وحده واجب الوجود في ذاته وقد سمعت الكلام فيه ، وأما وجه سببية كون ما يدعونه من دونه إلها باطلا ممكنا في ذاته لذلك فهو أن إمكانه على علو شأنه عندهم على ما عداه مما لم يعتقدوا إلهيته يستلزم إمكان غيره مما سوى الله عزوجل لأن ما فيه مما يدل على إمكانه موجود في ذلك حذو القذة بالقذة ومتى كان ما يدعونه إلها من دونه تعالى وغيره مما سوى الله سبحانه وتعالى ممكنا انحصر وجوب الوجود في الله تعالى فيكون جلّ وعلا وحده واجب الوجود في ذاته وقد علمت إفادته للمطلوب وكأنه إنما قيل إن ما يدعون من دونه الباطل دون أن ما سواه الباطل مثلا نظير قول لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

تنصيصا على فظاعة ما هم عليه واستلزم ذلك إمكان ما سوى الله تعالى من الموجودات من باب أولى بناء على ما يزعم المشركون في آلهتهم من علو الشأن ولم يكتف في بيان السبب بقوله سبحانه : (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) بل عطف عليه ما عطف مع أنه مما يعود إليه وتشعر تلك الجملة به إظهارا لكمال العناية بالمطلوب وبما يفيده منطوق المعطوف من بطلان الشريك وكونه تعالى هو العلي الكبير.

وقيل : أي ذلك الاتصاف بما تضمنته الآيات من عجائب القدرة والحكمة بسبب أن الله تعالى هو الإله الثابت إلهيته وأن من دونه سبحانه باطل الإلهية وإن الله تعالى هو العلي الشأن الكبير السلطان ومدار أمر السببية على كونه سبحانه هو الثابت الإلهية وبين ذلك الطيبي بأنه قد تقرر أن من كان إلها كان قادرا خالقا عالما إلى غير ذلك من صفات الكمال ثم قال إن قوله تعالى بأن الله هو الحق كالفذلكة لما تقدم من قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ) الى هذا المقام وقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) كالفذلكة لتلك الفواصل المذكورة هنالك كلها.

ولعل ما قدمنا أولى بالاعتبار ، وقال العلامة أبو السعود في الاعتراض على ذلك : أنت خبير بأن حقيته تعالى وعلوه وكبرياءه وإن كانت صالحة لمناطية ما ذكر من الصفات لكن بطلان إلهية الأصنام لا دخل له في المناطية قطعا فلا مساغ لنظمه في سلك الأسباب بل هو تعكيس للأمر ضرورة أن الصفات المذكورة هي المقتضية لبطلانها لا أن بطلانها يقتضيها انتهى ، وفيه تأمل والعجب منه أنه ذكر مثل ما اعترض عليه في نظير هذه الآية في سورة الحج ولم يتعقبه بشيء.

١٠٢

وجوز أن يكون المعنى ذلك أي ما تلي من الآيات الكريمة بسب بيان أن الله هو الحق إلهيته فقط ولأجله لكونها ناطقة بحقية التوحيد ولأجل بيان بطلان إلهية ما يدعون من دونه لكونها شاهدة شهادة بينة لا ريب فيها ولأجل بيان أنه تعالى هو المرتفع على كل شيء المتسلط عليه فإن ما في تضاعيف تلك الآيات الكريمة مبين لاختصاص العلو والكبرياء به أي بيان وهو وجه لا تكلف فيه سوى اعتبار حذف مضاف كما لا يخفى وكأنه إنما قيل هنا : وأن ما يدعون من دونه الباطل بدون ضمير الفصل ، وفي سورة الحج وأن ما يدعون من دونه هو الباطل بتوسيط ضمير الفصل لما أن الحط على المشركين وآلهتهم في هذه السورة دون الحط عليهم في تلك السورة.

وقال النيسابوري في ذلك إن آية الحج وقعت بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين فناسب ذلك توسيط الضمير بخلاف ما هنا ويمكن أن يقال تقدم في تلك السورة ذكر الشيطان مرات فلهذا ذكرت تلك المؤكدات بخلاف هذه السورة فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان فيها نحو ذكره هناك ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو بكر «تدعون» بتاء الخطاب (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) استشهاد آخر على باهر قدرته جلّ وعلا وغاية حكمته عزوجل وشمول إنعامه تبارك وتعالى ، والمراد بنعمة الله تعالى إحسانه سبحانه في تهيئة أسباب الجري من الريح وتسخيرها فالباء للتعدية كما في مررت بزيد أو سببية متعلقة بتجري.

وجوز أن يراد بنعمته تعالى ما أنعم جلّ شأنه به بما تحمله الفلك من الطعام والمتاع ونحوه فالباء للملابسة والمصاحبة متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير الفلك أي تجري مصحوبة بنعمته تعالى ؛ وقرأ موسى بن الزبير «الفلك» بضم اللام ومثله معروف في فعل مضموم الفاء.

حكي عن عيسى بن عمر أنه قال : ما سمع فعل بضم الفاء وسكون العين إلّا وقد سمع فيه فعل بضم العين.

وفي الكشاف كل فعل يجوز فيه فعل كما يجوز في كل فعل فعل ، وجعل ضم العين للإتباع وإسكانها للتخفيف.

وقرأ الأعرج ، والأعمش ، وابن يعمر «بنعمات الله» بكسر النون وسكون العين جمعا بالألف والتاء وهو جمع نعمة بكسر فسكون ، ويجوز كما قال غير واحد في كل جمع مثله تسكين العين على الأصل وكسرها اتباعا للفاء وفتحها تخفيفا.

(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) سالك القصد أي الطريق المستقيم لا يعدل عنه لغيره ، وأصله استقامة الطريق ثم أطلق عليه مبالغة ، والمراد بالطريق المستقيم التوحيد مجازا فكأنه قيل : فمنهم مقيم على التوحيد ، وقول الحسن : أي مؤمن يعرف حق الله تعالى في هذه النعمة يرجع إلى هذا ، وقيل : مقتصد من الاقتصاد بمعنى اتوسط والاعتدال.

والمراد حينئذ على ما قيل متوسط في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء موف بما عاهد عليه الله تعالى في البحر ، وتفسيره بموف بعهده مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويدخل في هذا البعض على هذا المعنى عكرمة بن أبي جهل فقد روى السدي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الناس أن يكفوا عن قتل أهلها إلّا أربعة نفر منهم قال : اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن خطل ، وقيس بن ضبابة ، وعبد الله بن أبي سرح. فأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم ريح عاصفة فقال أهل السفينة : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر إلّا الإخلاص ما ينجني في البر غيره. اللهم إن لك عليّ عهدا إن أنت عافيتي مما أنا فيه أن آتي محمّدا صلّى الله تعالى

١٠٣

عليه وسلم حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما فجاء وأسلم ، وقيل : متوسط في الكفر لانزجاره بما شاهده بعض الانزجار.

وقيل : متوسط في الإخلاص الذي كان عليه في البحر فإن الإخلاص الحادث عند الخوف قلما يبقى لأحد عند زوال الخوف. وأيا ما كان فالظاهر أن المقابل لقسم المقتصد محذوف دل عليه قوله تعالى :

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) والآية دليل ابن مالك ومن وافقه على جواز دخول الفاء في جواب لما ومن لم يجوز قال : الجواب محذوف أي فلما نجاهم إلى البر انقسموا قسمين فمنهم مقتصد ومنهم جاهد ، والختار من الختر وهو أشد الغدر ومنه قولهم : إنك لا تمد لنا شبرا من غدر إلّا مددنا لك باعا من غدر ، وبنحو ذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لابن الأزرق وأنشد قول الشاعر :

لقد علمت واستيقنت ذات نفسها

بأن لا تخاف الدهر صرمي ولا ختري

ونحوه قول عمرو بن معد يكرب :

وإنك لو رأيت أبا عمير

ملأت يديك من غدر وختر

وفي مفردات الراغب الختر غدر يختر فيه الإنسان أي يضعف ويكسر لاجتهاده فيه أي وما يجحد بآياتنا ويكفر بها إلّا كل غدار أشد الغدر لأن كفره نقض للعهد الفطري ، وقيل : لأنه نقض لما عاهد الله تعالى عليه في البحر من الإخلاص له عزوجل (كَفُورٍ) مبالغ في كفران نعم الله تعالى ، و (خَتَّارٍ) مقابل لصبار لأن من غدر لم يصبر على العهد وكفور مقابل لشكور (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) أمر بالتقوى على سبيل الموعظة والتذكير بيوم عظيم بعد ذكر دلائل الوحدانية ، ويجزى من جزى بمعنى قضى ومنه قيل للمتقاضي المتجازي أن لا يقضي والد عن ولده شيئا.

وقرأ أبو السمال ، وعامر بن عبد الله ، وأبو السوار «لا يجزئ» بضم الياء وكسر الزاي مهموزا ومعناه لا يغني والد عن ولده ولا يفيده شيئا من أجزأت عنك مجزأ فلان أي أغنيت.

وقرأ عكرمة «يجزي» بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول والجملة على القراءات صفة يوما والراجع إلى الموصوف محذوف أي فيه فأما أن يحذف برمته وأما على التدريج بأن يحذف حرف الجر فيعدى الفعل إلى الضمير ثم يحذف منصوبا ، وقوله تعالى : (وَلا مَوْلُودٌ) أما عطف على (والِدٌ) فهو فاعل (يَجْزِي) وقوله تعالى : (هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) في موضع الصفة له والمنفي عنه هو الجزاء في الآخرة والمثبت له الجزاء في الدنيا أو معنى هو جاز أي من شأنه الجزاء لعظيم حق الوالد أو المراد بلا يجزي لا يقبل ما هو جاز به ، وأما مبتدأ والمسوغ للابتداء به مع أنه نكرة تقدم النفي ، وذهل المهدوي عن ذلك فمنع صحة كونه مبتدأ وجملة (هُوَ جازٍ) خبره و (شَيْئاً) مفعول به أو منصوب على المصدرية لأنه صفة مصدر محذوف وعلى الوجهين قيل تنازعه (يَجْزِي) و (جازٍ) واختيار ما لا يفيد التأكيد في الجملة الأولى وما يفيده في الجملة الثانية لأن أكثر المسلمين وأجلتهم حين الخطاب كان آباؤهم قد ماتوا على الكفر وعلى الدين الجاهلي فلما كان غناء الكافر عن المسلم بعيدا لم يحتج نفيه إلى التأكيد ، ولما كان غناء المسلم عن الكافر مما يقع في الأوهام أكد نفيه قاله الزمخشري.

وتعقبه ابن المنير بأنه يتوقف صحته على أن هذا الخطاب كان خاصا بالموجودين حينئذ والصحيح أنه عام لهم

١٠٤

ولكل من ينطلق عليه اسم الناس ، ورده في الكشف بأن المتقدمتين فاسدتان ، أما الثانية فلما تقرّر في أصول الفقه أن (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يتناول الموجودين ، وأما لغيرهم فبالإعلام أو بطريقه والمالكية موافقة ، وأما الأولى فعلى تقدير التسليم لا شك أن أجلة المؤمنين وأكابرهم إلى انقراض الدنيا هم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ومعلوم أن أكثرهم قبض آباؤهم على الكفر فمن أين التوقيف ا ه.

واختار ابن المنير في وجه ذلك أن الله تعالى لما أكد الوصية بالآباء وقرن وجوب شكرهم بوجوب شكره عزوجل وأوجب على الولد أن يكفي والده ما يسوء بحسب نهاية إمكانه قطع سبحانه هاهنا وهم الوالد في أن يكون الولد في القيامة يجزيه حقه عليه ويكفيه ما يلقاه من أهوال يوم القيامة كما أوجب الله تعالى عليه في الدنيا ذلك في حقه فلما كان جزاء الولد عن الوالد مظنة الوقوع لأنه سبحانه حض عليه في الدنيا كان جديرا بتأكيد النفي لإزالة هذا الوهم ولا كذلك العكس وقريب منه ما قاله الإمام : إن الولد من شأنه أن يكون جازيا عن والده لما عليه من الحقوق والولد يجزي لما فيه من النفقة وليس ذلك بواجب عليه فلذا قال سبحانه في الولد : (لا يَجْزِي) وفي الولد (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ) ألا ترى أنه يقال لمن يحيك وليست الحياكة صنعته هو يحيك ولمن يحيك وهي صنعته هو حائك ، وقيل : إن التأكيد في الجملة الثانية الدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي لأنه دون الوالد في الحنو والشفقة فلما كان أولى بهذا الحكم استحق التأكيد وفي القلب منه شيء ، وقد يقال : إن العرب كانوا يدخرون الأولاد لنفعهم ودفع الأذى عنهم وكفاية ما يهمهم ولعل أكثر الناس كذلك فأريد حسم توهم نفعهم ودفعهم الأذى ، وكفاية المهم في حق آبائهم يوم القيامة فأكدت الجملة المفيدة لنفي ذلك عنهم وعد من جملة المؤكدات التعبير بالمولود لأنه من ولد بغير واسطة بخلاف الولد فإنه عام يشمل ولد الولد فإذا أفادت الجملة أن الولد الأدنى لا يجزي عن والده علم أن من عداه من ولد لا يجزي عن جده من باب أولى.

واعترض بأن هذه التفرقة بين الولد والمولود لم يثبتها أهل اللغة ، ورد بأن الزمخشري ، والمطرزي ذكرا ذلك وكفى بهما حجة ، ثم إن في عموم الولد لولد الولد أيضا مقالا فقد ذهب جمع أنه خاص بالولد الصلبي حقيقة.

وقال صاحب المغرب يقال للصغير مولود وإن كان الكبير مولودا أيضا لقرب عهده من الولادة كما يقال لبن حليب ورطب جني للطري منهما ، ووجه أمر التأكيد عليه بأنه إذا كان الصغير لا يجزي حينئذ مع عدم اشتغاله بنفسه لعدم تكليفه في الدنيا فالكبير المشغول بنفسه من باب أولى وهو كما ترى ، وخصص بعضهم العموم بغير صبيان المسلمين لثبوت الأحاديث بشفاعتهم لوالديهم.

وتعقب بأن الشفاعة ليست بقضاء ولو سلم فلتوقفها على القبول يكون القضاء منه عزوجل حقيقة فتدبر.

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ) قيل بالثواب والعقاب على تغليب الوعد على الوعيد أو هو بمعناه اللغوي (حَقٌ) ثابت متحقق لا يخلف وعدم إخلاف الوعد بالثواب مما لا كلام فيه وأما عدم إخلاف الوعد بالعقاب ففيه كلام والحق أنه لا يخلف أيضا ، وعدم تعذيب من يغفر له من العصاة المتوعدين فليس من إخلاف الوعيد في شيء لما أن الوعيد في حقهم كان معلقا بشرط لم يذكر ترهيبا وتخويفا ، والجملة على هذا تعليل لنفي الجزاء ، وقيل : المراد أن وعد الله بذلك اليوم حق ، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه لما قيل : يا أيها الناس اتقوا يوما (١) إلخ سأل سائل أن يكون ذلك اليوم؟ فقيل : إن وعد الله حق أي نعم يكون لا محالة لمكان الوعد به فهو جواب على أبلغ وجه ، وإليه يشير كلام

__________________

(١) قوله «اتقوا يوما» إلخ هكذا بخطه والتلاوة تقدمت اتقوا ربكم واخشوا يوما.

١٠٥

الإمام (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بأن تلهيكم بلذاتها عن الطاعات (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي الشيطان كما روي عن ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، ومجاهد والضحاك بأن يحملكم على المعاصي بتزيينها لكم ويرجيكم التوبة والمغفرة منه تعالى أو يذكر لكم أنها لا تضر من سبق في علم الله تعالى موته على الإيمان وأن تركها لا ينفع من سبق في العلم موته على الكفر ، وعن أبي عبيدة كل شيء غرك حتى تعصي الله تعالى وتترك ما أمرك سبحانه به فهو غرور شيطانا أو غيره ، وإلى ذلك ذهب الراغب قال : الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان.

وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين وبالدنيا لما قيل : الدنيا تغر وتضر وتمر ، وأصل الغرور من غر فلانا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد والمراد به الخداع ، والظاهر أن (بِاللهِ) صلة (يَغُرَّنَّكُمْ) أي لا يخدعنكم بذكر شيء من شئونه تعالى يجسركم على معاصيه سبحانه.

وجوز أن يكون قسما وفيه بعد ، وقرأ ابن أبي إسحاق ، وابن أبي عبلة ، ويعقوب ، «تغرنكم» بالنون الخفيفة ، وقرأ سمال بن حرب ، وأبو حيوة «الغرور» بضم الغين وهو مصدر والكلام من باب جد جده ، ويمكن تفسيره بالشيطان يجعله نفس الغرور مبالغة (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلخ ، أخرج ابن المنذر عن عكرمة أن رجلا يقال له الوارث بن عمرو جاء إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا محمد متى قيام الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ وقد تركت امرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فما ذا أكسب غدا؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت ، فنزلت هذه الآية ، وذكر نحوه محيي السنة البغوي ، والواحدي ، والثعلبي فهو نظرا إلى سبب النزول جواب لسؤال محقق ونظرا إلى ما قبلها من الآي جواب لسؤال مقدر كأن قائلا يقول : متى هذا اليوم الذي ذكر من شأنه ما ذكر؟ فقيل إن الله ، ولم يقل إن علم الساعة عند الله مع أنه أخصر لأن اسم الله سبحانه أحق بالتقديم ولأن تقديمه وبناء الخبر عليه يفيد الحصر كما قرّره الطيبي مع ما فيه من مزية تكرر الإسناد ، وتقديم الظرف يفيد الاختصاص أيضا بل لفظ عند كذلك لأنها تفيد حفظه بحيث لا يوصل إليه فيفيد الكلام من أوجه اختصاص علم وقت القيامة بالله عزوجل ، وقوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أي في إبانه من غير تقديم ولا تأخير في بلد لا يتجاوزه به وبمقدار تقتضيه الحكمة ، الظاهر أنه عطف على الجملة الظرفية المبنية على الاسم الجليل على عكس قوله تعالى : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) [المؤمنون : ٢١] فيكون خبرا مبنيا على الاسم الجليل مثل المعطوف عليه فيفيد الكلام الاختصاص أيضا والمقصود تقييدات التنزيل الراجعة إلى العلم لا محض القدرة على التنزيل إذ لا شبهة فيه فيرجع الاختصاص إلى العلم بزمانه ومكانه ومقداره كما يشير إلى ذلك كلام الكشف ، وقال العلامة الطيبي في شرح الكشاف : دلالة هذه الجملة على علم الغيب من حيث دلالة المقدور المحكم المتقن على العلم الشامل ؛ وقوله تعالى (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أي أذكر أم أنثى أتامّ أم ناقص وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال عطف على الجملة الظرفية أيضا نظير ما قبله ، وخولف بين (عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) وبين هذا ليدل في الأول على مزيد الاختصاص اعتناء بأمر الساعة ودلالة على شدة خفائها ، وفي هذا على استمرار تجدد التعلقات بحسب تجدد المتعلقات مع الاختصاص ، ولم يراع هذا الأسلوب فيما قبله بأن يقال : ويعلم الغيث مثلا إشارة بإسناد التنزيل الى الاسم الجليل صريحا إلى عظم شأنه لما فيه من كثرة المنافع لأجناس الخلائق وشيوع الاستدلال بما يترتب عليه من إحياء الأرض على صحة البعث المشار إليه بالساعة في الكتاب العظيم قال تعالى : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) [الروم : ٤٩ ، ٥٠] وقال سبحانه : (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) [الروم : ١٩] إلى غير ذلك ، وربما يقال : إن لتنزيل الغيث وإن لم يكن الغيث

١٠٦

المعهود دخلا في المبعث بناء على ما ورد من حديث مطر السماء بعد النفخة الأولى مطرا كمني الرجال ، وقيل : الاختصاص راجع إلى التنزيل وما ترجع إليه تقييداته التي يقتضيها المقام من العلم ، وفي ذلك ردّ على القائلين مطرنا بنوء كذا وللاعتناء برد ذلك لما فيه من الشرك في الربوبية عدل عن يعلم إلى (يُنَزِّلُ) وهو كما ترى ، وقوله تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) أي كل نفس برة كانت أو فاجرة كما يدل عليه وقوع النكرة في سياق النفي (ما ذا تَكْسِبُ غَداً) أي في الزمان المستقبل من خير أو شر ، وقوله سبحانه : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) عطف على ما استظهره صاحب الكشف على قوله تعالى (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) وأشار إلى أنه لما كان الكلام مسوقا للاختصاص لا لإفادة أصل العلم له تعالى فإنه غير منكر لزم من النفي على سبيل الاستغراق اختصاصه به عزوجل على سبيل الكناية على الوجه الأبلغ ، وفي العدول عن لفظ العلم إلى لفظ الدراية لما فيها من معنى الختل والحيلة لأن أصل دري رمي الدرية وهي الحلقة التي يقصد رميها الرماة وما يتعلم عليه الطعن والناقة التي يسببها الصائد ليأنس بها الصيد فيستتر من ورائها فيرميه وفي كل حيلة ، ولكونها علما بضرب من الختل والحيلة لا تنسب إليه عزوجل إلّا إذا أولت بمطلق العلم كما في خبر خمس «لا يدريهن إلا الله تعالى» وقيل : قد يقال الممنوع نسبتها إليه سبحانه بانفراده تعالى أما مع غيره تبارك اسمه تغليبا فلا ، ويفهم من كلام بعضهم صحة النسبة إليه جلّ وعلا على سبيل المشاكلة كما في قوله :

لا هم لا أدري وأنت الداري.

فلا حاجة إلى ما قيل : إنه كلام أعرابي جلف لا يعرف ما يجوز إطلاقه على الله تعالى وما يمتنع فيكون المعنى لا تعرف كل نفس وإن أعملت حيلها ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان من معرفة ما عداهما أبعد وأبعد ، وقد روعي في هذا الأسلوب الإدماج المذكور ولذا لم يقل : ويعمل ما ذا تكسب كل نفس ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت ، وجوز أن يكون أصل (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) وأن ينزل الغيث فحذف أن وارتفع الفعل كما في قوله : * أيهذا الزاجري أحضر الوغى* وكذا قوله سبحانه : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) والعطف على (عِلْمُ السَّاعَةِ) فكأنه قيل : إن الله عنده علم الساعة وتنزيل الغيث وعلم ما في الأرحام ، ودلالة ذلك على اختصاص علم تنزيل الغيث به سبحانه ظاهر لظهور أن المراد بعنده تنزيل الغيث عنده علم تنزيله ، وإذا عطف (يُنَزِّلُ) على (السَّاعَةِ) كان الاختصاص أظهر لانسحاب علم المضاف إلى الساعة الى الإنزال حينئذ فكأنه قيل : إن الله عنده علم الساعة وعلم تنزيل الغيث ، وهذا العطف لا يكاد يتسنى في (وَيَعْلَمُ) إذ يكون التقدير وعنده علم علم ما في الأرحام وليس ذاك بمراد أصلا.

وجعل الطيبي (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) إلخ معطوفا على خبر إن من حيث المعنى بأن يجعل المنفي مثبتا بأن يقال : ويعلم ما ذا تكسب كل نفس غدا ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت وقال : إن مثل ذلك جائز في الكلام إذا روعي نكتة كما في قوله تعالى : (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الأنعام : ١٥١] فإن العطف فيه باعتبار رجوع التحريم إلى ضد الإحسان وهي الإساءة ، وذكر في بيان نكتة العدول عن المثبت إلى المنفي نحو ما ذكرنا آنفا. وتعقب ذلك صاحب الكشف بأن عنه مندوحة أي بما ذكر من عطفه على جملة (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) وقال الإمام : في وجه نظم الجمل الحق أنه تعالى لما قال : (وَاخْشَوْا يَوْماً) إلخ وذكر سبحانه أنه كائن بقوله عزوجل قائلا : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فكأن قائلا يقول : فمتى هذا اليوم؟ فأجيب بأن هذا العلم مما لم يحصل لغيره تعالى وذلك قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) ثم ذكر جلّ وعلا الدليلين اللذين ذكرا مرارا على البعث. أحدهما إحياء الأرض بعد موتها المشار إليه بقوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) والثاني الخلق ابتداء المشار

١٠٧

إليه بقوله سبحانه : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) فكأنه قال عزوجل : يا أيها السائل إنك لا تعلم وقتها ولكنها كائنة والله تعالى قادر عليها كما هو سبحانه قادر على إحياء الأرض وعلى الخلق في الأرحام ثم بعد جلّ شأنه له أن يعلم ذلك بقوله عزوجل وما تدري إلخ فكأنه قال تعالى : يا أيها السائل إنك تسأل عن الساعة أيان مرساها وإن من الأشياء ما هو أهم منها لا تعلم معاشك ومعادك فما تعلم ما ذا تكسب غدا مع أنه فعلك وزمانك ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك فكيف تعلم قيام الساعة متى يكون والله تعالى ما علمك كسب غدك ولا علمك أين تموت مع أن لك في ذلك فوائد شتى وإنما لم يعلمك لكي تكون في كل وقت بسبب الرزق راجعا متوكلا عليه سبحانه ولكيلا تأمن الموت إذا كنت في غير الأرض التي أعلمك سبحانه أنك تموت فيها فإذا لم يعلمك ما تحتاج إليه كيف يعلمك ما لا حاجة لك إليه وهو وقت القيامة وإنما الحاجة إلى العلم بأنها تكون وقد أعلمك جلّ وعلا بذلك على ألسنة أنبيائه تعالى عليهم الصلاة والسلام انتهى ، ولا يخفى أن الظاهر على ما ذكره أن يقال : وبخلق ما في الأرحام كما قال سبحانه : (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) ووجه العدول عن ذلك إلى ما في النظم الجليل غير ظاهر على أن كلامه بعد لا يخلو عن شيء ، وكون المراد اختصاص علم هذه الخمس به عزوجل هو الذي تدل عليه الأحاديث والآثار ، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة من حديث طويل «أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل متى الساعة؟ فقال للسائل : ما المسئول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربها وإذا تطاول رعاة الإبل إليهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى ثم تلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) الآية» أي إلى آخر السورة كما في بعض الروايات ، وما وقع عند البخاري في التفسير من قوله : إلى الأرحام تقصير من بعض الرواة ، وأخرجها أيضا هما وغيرهما عن ابن قال : عمر قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «مفتاح ـ وفي رواية مفاتح ـ الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى لا يعلم أحد ما يكون في غد ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام ولا تعلم نفس ما ذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت وما يدري أحد متى يجيء المطر».

وأخرج أحمد ، والبزار ، وابن مردويه ، والروياني ، والضياء بسند صحيح عن بريدة قال «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : خمس لا يعلمهن إلّا الله إن الله عنده علم الساعة الآية» وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن ما عدا هذه الخمس من المغيبات قد يعلمه غيره عزوجل وإليه ذهب من ذهب. أخرج حميد بن زنجويه عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنه ذكر العلم بوقت الكسوف قبل الظهور فأنكر عليه فقال : إنما الغيب خمس وتلا هذه الآية وما عدا ذلك غيب يعلمه قوم ويجهله قوم ، وفي بعض الأخبار ما يدل على أن علم هذه الخمس لم يؤت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويلزمه أنه لم يؤت لغيره عليه الصلاة والسلام من باب أولى.

أخرج أحمد ، والطبراني ، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أوتيت مفاتيح كل شيء إلّا الخمس (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)» الآية وأخرج أحمد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال : أوتي نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفاتيح كل شيء غير الخمس (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآية.

وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لم يغم على نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا الخمس من سرائر الغيب هذه الآية في آخر لقمان إن الله عنده علم الساعة إلى آخر السورة ، وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، والبخاري في الأدب عن ربعي بن حراش قال : حدثني رجل من بني عامر أنه قال : يا رسول الله هل بقي من العلم شيء لا تعلمه؟ فقال عليه الصلاة والسلام : لقد علمني الله تعالى خيرا وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله تعالى الخمس إن الله عنده علم الساعة الآية ، وصرح بعضهم باستئثار الله تعالى بهن ، أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة أنه قال في الآية : خمس

١٠٨

من الغيب استأثر الله تعالى بهن فلم يطلع عليهن ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا إن الله عنده علم الساعة ولا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة ولا في أي شهر أليلا أم نهارا وينزل الغيث فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث أليلا أم نهارا ويعمل ما في الأحلام فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكرا أم أنثى أحمر أو أسود ولا تدري نفس ما ذا تكسب غدا أخيرا أم شرا وما تدري بأي أرض تموت ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض أفي بحر أم في بر في سهل أم في جبل ، والذي ينبغي أن يعلم أن كل غيب لا يعلمه إلا الله عزوجل وليس المغيبات محصورة بهذه الخمس وإنما خصت بالذكر لوقوع السؤال عنها أو لأنها كثيرا ما تشتاق النفوس إلى العلم بها ، وقال القسطلاني : ذكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا وإن كان الغيب لا يتناهى لأن العدد لا ينفي زائدا عليه ولأن هذه الخمسة هي التي كانوا يدعون علمها انتهى ، وفي التعليل الأخير نظر لا يخفى وأنه يجوز أن يطلع الله تعالى بعض أصفيائه على إحدى هذه الخمس ويرزقه عزوجل العلم بذلك في الجملة وعلمها الخاص به جلّ وعلا ما كان على وجه الإحاطة والشمول لأحوال كل منها وتفصيله على الوجه الأتم ، وفي شرح المناوي الكبير للجامع الصغير في الكلام على حديث بريدة السابق خمس لا يعلمهن إلا الله على وجه الإحاطة والشمول كليا وجزئيا فلا ينافيه اطلاع الله تعالى بعض خواصه على بعض المغيبات من هذه الخمس لأنها جزئيات معدودة ، وإنكار المعتزلة لذلك مكابرة انتهى ، ويعلم مما ذكرنا وجه الجمع بين الأخبار الدالة على استئثار الله تعالى بعلم ذلك وبين ما يدل على خلافه كبعض إخباراته عليه الصلاة والسلام بالمغيبات التي هي من هذا القبيل يعلم ذلك من راجع نحو الشفاء والمواهب اللدنية مما ذكر فيها معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخباره عليه الصلاة والسلام بالمغيبات ، وذكر القسطلاني أنه عزوجل إذا أمر بالغيث وسوقه إلى ما شاء من الأماكن علمته الملائكة الموكلون به ومن شاء سبحانه من خلقه عزوجل ، وكذا إذا أراد تبارك تعالى خلق شخص في رحم يعلم سبحانه الملك الموكل بالرحم بما يريد جلّ وعلا كما يدل عليه ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى وكل بالرحم ملكا يقول : يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقه قال : أذكر أم أنثى شقي أم سعيد فما الرزق والأجل؟ فيكتب في بطن أمه فحينئذ يعلم بذلك الملك ومن شاء الله تعالى من خلقه عزوجل» وهذا لا ينافي الاختصاص والاستئثار بعلم المذكورات بناء على ما سمعت منا من أن المراد بالعلم الذي استأثر سبحانه به العلم الكامل بأحوال كل على التفصيل فما يعلم به الملك ويطلع عليه بعض الخواص يجوز أن يكون دون ذلك العلم بل هو كذلك في الواقع بلا شبيهة ، وقد يقال فيما يحصل للأولياء من العلم بشيء مما ذكر إنه ليس بعلم يقيني قال : علي القارئ في شرح الشفا : الأولياء وإن كان قد ينكشف لهم بعض الأشياء لكن علمهم لا يكون يقينيا وإلهامهم لا يفيد إلا أمرا ظنيا ومثل هذا عندي بل هو دونه بمراحل علم النجومي ونحوه بواسطة أمارات عنده بنزول الغيث وذكورة الحمل أو أنوثته أو نحو ذلك ولا أرى كفر من يدعي مثل هذا العلم فإنه ظن عن أمر عادي ، وقد نقل العسقلاني في فتح الباري عن القرطبي أنه قال : من ادعى علم شيء من الخمس غير مسندة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان كاذبا في دعواه وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم ، وعليه فقول القسطلاني من ادعى علم شيء منها فقد كفر بالقرآن العظيم ينبغي أن يحمل العلم فيه على نحو العلم الذي استأثر الله تعالى به دون مطلق العلم الشامل للظن وما يشبهه ، وبعد هذا كله أن أمر الساعة أخفى الأمور المذكورة وأن ما أطلع الله تعالى عليه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وقت قيامها في غاية الإجمال وإن كان أتم من علم غيره من البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم* وقوله عليه الصلاة والسلام : «بعثت أنا والساعة كهاتين» لا يدل على أكثر من العلم الإجمالي بوقتها ولا أظن أن خواص الملائكة عليهم‌السلام أعلم منه صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك ، ويؤيد ظني ما رواه الحميدي في نوادره بالسند عن الشعبي قال : سأل عيسى ابن مريم جبريل عليهما‌السلام عن الساعة فانتفض بأجنحته ، وقال : ما المسئول بأعلم من السائل ،

١٠٩

والمراد التساوي في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها على الوجه الأكمل ويرشد إلى العلم الإجمالي بها ذكر أشراطها كما لا يخفى ، ويجوز أن يكون الله تعالى أطلع حبيبه عليه الصلاة والسلام على وقت قيامها على وجه كامل لكن لا على وجه يحاكي علمه تعالى به إلّا أنه سبحانه أوجب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم كتمه لحكمة ويكون ذلك من خواصه عليه الصلاة والسلام ، وليس عندي ما يفيد الجزم بذلك ، هذا وخص سبحانه المكان في قوله تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) ليعرف الزمان من باب أولى فإن الأول في وسع النفس في الجملة بخلاف الثاني ، وأخرج أحمد وجماعة عن أبي غرة الهذلي قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا أراد الله تعالى قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها ثم قرأ عليه الصلاة والسلام وما تدري نفس بأي أرض تموت» وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن خيثمة أن ملك الموت مرّ على سليمان عليه‌السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل : من هذا؟ قال : ملك الموت فقال : كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك : كان دوام نظري إليه تعجبا منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.

و (تَدْرِي) في الموضعين معلقة فالجملة من قوله تعالى : (ما ذا تَكْسِبُ) في موضع المفعول ، ويجوز أن تكون (ما ذا) كلها موصولا منصوب المحل بتدري كأنه قيل : وما تدري نفس الشيء الذي تكسبه غدا و (بِأَيِ) متعلق بتموت والباء ظرفية ، والجملة في موضع نصب بتدري.

وقرأ غير واحد من السبعة «ينزل» من الإنزال ، وقرأ موسى الأسواري ، وابن أبي عبلة «بأية أرض» بتاء التأنيث لإضافتها إلى المؤنث وهي لغة قليلة فيها كما أن كلا إذا أضيفت إلى مؤنث قد تؤنث نادرا فيقال : كلتهن فعلن ذلك فليعلم والله عزّ جلّ أعلم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) مبالغ في العلم فلا يعزب عن علمه سبحانه شيء من الأشياء (خَبِيرٌ) يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها فالجمع بين الوصفين للإشارة الى التسوية بين علم الظاهر والباطن عنده عزوجل والجملة على ما قيل في موضع التعليل لعلمه سبحانه بما ذكر ، وقيل : جواب سؤال نشأ من نفي دراية الأنفس ما ذا تكسب غدا وبأي أرض تموت كأنه قيل : فمن يعلم ذلك فقيل : إن الله عليم خبير وهو جواب بأن الله تعالى يعلم ذلك وزيادة ، ولا يخفى أنه إذا كانت هذه الجملة من تتمة الجملتين اللتين قبلها كانت دلالة الكلام على انحصار العلم بالأمرين اللذين نفي العلم بهما عن كل نفس ظاهرة جدا فتأمل ذاك والله عزوجل يتولى هداك

ومن باب الإشارة في السورة الكريمة (الم) إشارة إلى آلائه تعالى ولطفه جلّ شأنه ومجده عزوجل (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بحضور القلب والإعراض عن السوي وهي صلاة خواص الخواص ، وأما صلاة الخواص فبنفي الخطرات الردية والإرادات الدنيوية ولا ضر فيها طلب الجنة ونحوه ، وأما صلاة العوام فما يفعله أكثر الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ببذل الوجود للملك المعبود لنيل المقصود وهي زكاة الأخص ، وزكاة الخاصة ببذل المال كله لتصفية قلوبهم عن صدأ محبة الدنيا ، وزكاة العامة ببذل القدر المعروف من المال المعلوم على الوجه المشروع المشهور لتزكية نفوسهم عن نجاسة البخل (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) هو ما يشغل عن الله تعالى ذكره ويحجب عنه عزوجل استماعه ، وأما الغناء فهو عند كثير منهم أقسام منها ما هو من لهو الحديث ، ونقل بعضهم عن الجنيد قدّس سره أنه قال : السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم وعلى أهل القلوب مباح لوفور علومهم وصفاء قلوبهم وعلى أصحابنا واجب لفناء حظوظهم ، وعن أبي بكر الكناني سماع العوام على متابعة الطبع وسماع المريدين رغبة ورهبة وسماع الأولياء رؤية الآلاء والنعم وسماع العارفين على المشاهدة وسماع أهل الحقيقة على الكشف والعيان ولكل من هؤلاء مصدر ومقام ، وذكروا أن من القوم من يسمع في الله ولله

١١٠

وبالله ومن الله جلّ وعلا ولا يسمع بالسمع الإنساني بل يسمع بالسمع الرباني كما في الحديث القدسي «كنت سمعه الذي يسمع به» وقالوا : إنما حرم اللهو لكونه لهوا فمن لا يكون لهوا بالنسبة إليه لا يحرم عليه إذ علة لحرمة في حقه منتفية والحكم يدور مع العلة وجودا وعدما ، ويلزمهم القول بحل شرب المسكر لمن لا يسكره لا سيما لمن يزيده نشاطا للعبادة مع ذلك ، ومن زنادقة القلندرية من يقول بحل الخمر والحشيشة ونحوها من المسكرات المحرمة بلا خلاف زاعمين أن استعمال ذلك يفتح عليهم أبواب الكشوف ، وبعض الجهلة الذين لعب بهم الشيطان يطلبون منهم المدد في ذلك الحال قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) قيل : هي إدراك خطاب الحق بوصف الإلهام ، وذكروا أن الحكمة موهبة الأولياء كما أن الوحي موهبة الأنبياء عليهم‌السلام فكل ليس بكسبي إلا أن للكسب مدخلا ما في الحكمة ، فقد ورد «من أخلص لله تعالى أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه» والحكمة التي يزعم الفلاسفة أنها حكمة ليست بحكمة إذ هي من نتائج الفكر ويؤتاها المؤمن والكافر وقلما تسلم من شوائب آفات الوهم ، ولهذا وقع الاختلاف العظيم بين أهلها وعدها بعض الصوفية من لهو الحديث ولم يبعد في ذلك عن الصواب ، وأشارت قصة لقمان إلى التوحيد ومقام جمع الجمع وعين الجمع واتباع سبيل الكاملين والإعراض عن السوي وتكميل الغير والصبر على الشدائد والتواضع للناس وحسن المماشاة والمعاملة والسيرة وترك التماوت في المشي وترك رفع الصوت ، وقيل : (الْحَمِيرِ) في قوله تعالى : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) هم الصوفية الذين يتكلمون بلسان المعرفة قبل أن يؤذن لهم ، وطبق بعضهم جميع ما في القصة على ما في الأنفس (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) قال الجنيد : النعم الظاهرة حسن الأخلاق والنعم الباطنة أنواع المعارف ، وقيل : على قراءة النعمة الظاهرة اتباع ظاهر العلم والباطنة طلب الحقيقة في الاتباع ، وقيل : النعمة الظاهرة بلا زلة والباطنة قلب بلا غفلة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) يشير الى أهل الجدل من الفلاسفة فإنهم يجادلون في ذات الله تعالى وصفاته عزوجل كذلك عند التحقيق لأنهم لا يعتبرون كلام الرسل عليهم الصلاة والسلام ولا الكتب المنزلة من السماء وأكثر علومهم مشوب بآفة الوهم ومع هذا فشئون الله جلّ وعلا طور ما وراء طور العقل :

هيهات أن تصطاد عنقاء البقا

بلعابهن عناكب الأفكار

وأبعد من محدب الفلك التاسع حصول علم بالله عزوجل وبصفاته جل شأنه يعتد به بدون نور إلهي يستضيء العقل به وعقولهم في ظلمات بعضها فوق بعض ، وقد سدت أبواب الوصول إلّا على متبع للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بعضهم مخاطبا لحضرة صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام :

وأنت باب الله أي امرئ

أتاه من غيرك لا يدخل

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) إلى قوله سبحانه (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) فيه إشارة الى أنه سبحانه تمام وفوق التمام ، والمراد بالأول من حصل له كل ما جاز له وإليه الإشارة بقوله تعالى : (هُوَ الْحَقُ) والمراد بالثاني من حصل له ذلك وحصل لما عداه ما جاز له وإليه الإشارة بقوله تعالى : (هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ووراء هذين الشيئين ناقص وهو ما ليس له ما ينبغي كالصبي والمريض والأعمى ومكتف وهو من أعطى ما تندفع به حاجته في وقته كالإنسان الذي له من الآلات ما تندفع به حاجته في وقته ولكنها في معرض التحلل والزوال (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآية ذكر غير واحد حكايات عن الأولياء متضمنة لاطلاع الله تعالى إياهم على ما عدا علم الساعة من الخمس وقد علمت

١١١

الكلام في ذلك ، وأغرب ما رأيت ما ذكره الشعراني عن بعضهم أنه كان يبيع المطر فيمطر على أرض من يشتري منه متى شاء ، ومن له عقل مستقيم لا يقبل مثل هذه الحكاية ، وكم للقصاص أمثالها من رواية نسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم من اعتقاد خرافات لا أصل لها وهو سبحانه ولي العصمة والتوفيق.

وقرأ ابن أبي عبلة «بنعمات الله» بفتح النون وكسر العين جمعا لنعمة بفتح النون وهي اسم للتنعيم ، وقيل : بمعنى النعمة بالكسر (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) أي بعض دلائل ألوهيته تعالى ووحدته سبحانه وقدرته جلّ شأنه وعمله عزوجل ، وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) تعليل لما قبله أي أن فيما ذكر لآيات عظيمة في ذاتها كثيرة في عددها لكل مبالغ في الصبر على بلائه سبحانه ومبالغ في الشكر على نعمائه جلّ شأنه.

و (صَبَّارٍ شَكُورٍ) كناية عن المؤمن من باب حي مستوي القامة عريض الأظفار فإنه كناية عن الإنسان لأن هاتين الصفتين عمدتا الإيمان لأنه وجميع ما يتوقف عليه إما ترك للمألوف غالبا وهو بالصبر أو فعل لما يتقرب به وهو شكر لعمومه فعل القلب والجوارح واللسان ، ولذا ورد الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر ، وذكر الوصفين بعد الفلك فيه أتم مناسبة لأن الراكب فيه لا يخلو عن الصبر والشكر ، وقيل : المراد بالصبار كثير الصبر على التعب في كسب الأدلة من الأنفس والآفاق وإلّا فلا اختصاص للآيات بمن تعب مطلقا وكلا الوصفين بنيا بناء مبالغة ، وفعال على ما في البحر أبلغ من فعول لزيادة حروفه ، قيل : وإنما اختير زيادة المبالغة في الصبر إيماء إلى أن قليله لشدة مرارته وزيادة ثقله على نفس كثير (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ) أي علاهم وغطاهم من الغشاء بمعنى الغطاء من فوق وهو المناسب هنا ، وقيل : أي أي أتاهم من الغشيان بمعنى الإتيان وضمير (غَشِيَهُمْ) أن اتحد بضمير المخاطبين قبله ففي الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة وإلّا فلا التفات ، والموج ما يعلو من غوارب الماء وهو اسم جنس واحدة موجة وتنكيره للتعظيم والتكثير ، ولذا أفرد مع جمع المشبه به في قوله تعالى : (كَالظُّلَلِ) وهو جمع ظلة كغرفة وغرف وقربة وقرب ، والمراد بها ما أظل من سحاب أو جبل أو غيرهما.

وقال الراغب : الظلة السحابة تظل وأكثر ما يقال فيما يستوخم ويكره ، وفسر قتادة الظل هنا بالسحاب ، وبعضهم بالجبال ، وقرأ محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه «كالظلال» وهو جمع ظلة أيضا كعلبة وعلاب وجفرة وجفار ، وإذا ظرف لقوله تعالى : (دَعَوُا) أي دعوا (اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) إذا غشيهم موج كالظلل وإنما فعلوا ذلك حينئذ لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد.

١١٢

سورة السجدة

وتسمى المضاجع أيضا كما في الإتقان ، وفي مجمع البيان أنها كما تسمى سورة السجدة تسمى سجدة لقمان لئلا تلتبس بحم السجدة ، وأطلق القول بمكيتها ، أخرج ابن الضريس ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس إنها نزلت بمكة ، وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله ، وجاء في رواية أخرى عن الحبر استثناء ، أخرج النحاس عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : نزلت سورة السجدة بمكة سوى ثلاث آيات (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) إلى تمام الآيات الثلاث ، وروي مثله عن مجاهد ، والكلبي ، واستثنى بعضهم أيضا آيتين أخريين وهما قوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) [السجدة : ١٦] إلخ ، واستدل عليه ببعض الروايات في سبب النزول وستطلع على ذلك إن شاء الله تعالى واستبعد استثناؤهما لشدة ارتباطهما بما قبلهما ، وهي تسع وعشرون آية في البصري وثلاثون في الباقية ، ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمال كل على دلائل الألوهية ، وفي البحر لما ذكر سبحانه فيما قبل دلائل التوحيد وهو الأصل الأول ثم ذكر جلّ وعلا المعاد وهو الأصل الثاني وختم جل شأنه به السورة ذكر تعالى في بدء هذه السورة الأصل الثالث وهو النبوة وقال الجلال السيوطي في وجه الاتصال بما قبلها : إنها شرح لمفاتيح الغيب الخمسة التي ذكرت في خاتمة ما قبل ، فقوله تعالى : (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة : ٥] شرح قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤] ولذلك عقب بقوله سبحانه : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [السجدة : ٦] وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) [السجدة : ٧] شرح قوله سبحانه : (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) [لقمان : ٣٤] وقوله تبارك وتعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة : ٧] الآيات شرح قوله جل جلاله : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) [لقمان : ٣٤] وقوله عزوجل : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) [السجدة : ٥] (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [السجدة : ١٣] شرح قوله تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) وقوله جلّ وعلا : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) [السجدة : ١٠] إلى قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [السجدة : ١١] شرح قوله سبحانه : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان : ٣٤] اه ، ولا يخلو عن نظر ، وجاء في فضلها أخبار كثيرة ، أخرج أبو عبيد وابن الضريس من مرسل المسيب بن رافع أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «تجيء الم تنزيل ـ وفي رواية ـ الم السجدة يوم القيامة لها جناحان تظل صاحبها وتقول : لا سبيل عليه لا سبيل عليه».

وأخرج الدارمي ، والترمذي ، وابن مردويه عن طاوس قال : الم السجدة ، وتبارك الذي بيده الملك تفضلان على كل سورة في القرآن بستين حسنة ، وفي رواية عن ابن عمر تفضلان ستين درجة على غيرهما من سور القرآن.

وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والدارمي ، والترمذي ، والنسائي ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن جابر قال : «كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك».

١١٣

وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من قرأ تبارك الذي بيده الملك والم تنزيل السجدة بين المغرب والعشاء الآخرة فكأنما قام ليلة القدر».

وروى نحوه هو ، والثعلبي ، والواحدي من حديث أبي بن كعب ، والثعلبي دونهم من حديث ابن عباس ، وتعقب ذلك الشيخ ولي الدين قائلا : لم أقف عليه وهذه الروايات كلها موضوعة ، لكن رأيت في الدر المنثور أن الخرائطي أخرج في مكارم الأخلاق من طريق حاتم بن محمد عن طاوس أنه قال : ما على الأرض رجل يقرأ الم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك في ليلة إلّا كتب له مثل أجر ليلة القدر ، قال : حاتم : فذكرت ذلك لعطاء فقال : صدق طاوس والله ما تركتهن منذ سمعت بهن إلّا أن أكون مريضا ، ولم أقف على ما قيل في هذا الخبر صحة وضعفا ووضعا ، وفيه أخبار كثيرة في فضلها غير هذا الله تعالى أعلم بحالها ، وكان عليه الصلاة والسلام يقرؤها (هَلْ أَتى) [الإنسان : ١] في صلاة فجر الجمعة وهو مشعر بفضلها والحديث في ذلك صحيح لا مقال فيه.

أخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجة عن أبي هريرة قال «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم تنزيل السجدة وهل أتى على الإنسان» وأخرج أبو داود ، وهؤلاء إلا البخاري نحوه عن ابن عباس.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٩)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم) إن جعل اسما للسورة أو القرآن فحمله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا الم ، وقوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) خبر بعد خبر على أنه مصدر باق على معناه لقصد المبالغة أو بتقدير مضاف أو هو مؤول باسم المفعول أي منزل وإضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى الموصوف أو بيانية بمعنى من ، وقوله سبحانه : (لا رَيْبَ فِيهِ) خبر ثالث ، وقوله تعالى : (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبر رابع ، وجوز أن يكون (الم) مبتدأ وما بعده أخبار له أي المسمى بألم الكتاب المنزل لا ريب فيه كائن من رب العالمين ، وتعقب بأن ما يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه وإذ لا عهد بالنسبة قبل فحقها الإخبار بها.

وقال أبو البقاء : (الم) يجوز أن يكون مبتدأ و (تَنْزِيلُ) بمعنى منزل خبره و (لا رَيْبَ فِيهِ) حال من

١١٤

(الْكِتابِ) والعامل فيها المضاف وهي حال مؤكدة وهي حال مؤكدة و (مِنْ رَبِ) متعلق بتنزيل ، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف هو حال من الضمير المجرور في (فِيهِ) والعامل فيها الظرف (لا رَيْبَ) لأنه هنا مبني وفيه ما سمعت ، وهذا التعليق يجوز أيضا على تقدير أن يكون (الم) خبر مبتدأ محذوف وما بعده أخبارا لذلك المحذوف ، وإن جعل (الم) مسرودا على نمط التعديد فلا محل له من الإعراب ، وفي إعراب ما بعد عدة أوجه ، قال البقاء : يجوز أن يكون (تَنْزِيلُ) مبتدأ و (لا رَيْبَ فِيهِ) الخبر و (مِنْ رَبِ) حال كما تقدم ، ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل لأن المصدر قد أخبر عنه ، ويجوز أن يكون الخبر (مِنْ رَبِ) و (لا رَيْبَ) حالا من (الْكِتابِ) وأن يكون خبرا بعد خبر انتهى.

ووجه منع التعليق بالمصدر بعد ما أخبر عنه أنه عامل ضعيف فلا يتعدى عمله لما بعد الخبر وعن التزام حديث التوسع في الظرف سعة هنا أو أن المتعلق من تمامه والاسم لا يخبر عنه قبل تمامه ، وجوز ابن عطية تعلق (مِنْ رَبِ) ريب وفيه أنه بعيد عن المعنى المقصود ، وجوز الحوفي كون (تَنْزِيلُ) خبر مبتدأ محذوف أي المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب ، وقال أبو حيان : الذي أختاره أن يكون (تَنْزِيلُ) مبتدأ و (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض لا محل له من الإعراب و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) الخبر وضمير (فِيهِ) راجع لمضمون الجملة أعني كونه منزلا من رب العالمين لا للتنزيل ولا للكتاب كأنه قيل : لا ريب في ذلك أي في كونه منزلا من رب العالمين وهذا ما اعتمد عليه الزمخشري وذكر أنه الوجه ويشهد لوجاهته قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) فإن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين أي فالأنسب أن يكون نفي الريب عما أنكروه وهو كونه من رب العالمين جلّ شأنه ، وقيل : أي فلا بد من أن يكون مورده حكما مقصودا بالإفادة لا قيد للحكم بنفي الريب عنه ، وفيه بحث ، وكذا قوله سبحانه : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فإن تقرير لما قبله فيكون مثله في الشهادة ثم قال في نظم الكلام على ذلك : إنه أسلوب صحيح محكم أثبت سبحانه أولا أن تنزيله من رب العالمين وإن ذلك مما لا ريب فيه أي لا مدخل للريب في أنه تنزيل الله تعالى وهو أبعد شيء منه لأن نافي الريب ومميطه معه لا ينفك أصلا عنه وهو كونه معجزا للبشر ، ثم أضرب جلّ وعلا عن ذلك إلى قوله تعالى : «أم يقولون افتراه» لأن «أم» هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة إنكارا لقولهم وتعجيبا منه لظهور عجز بلغائهم عن مثل أقصر سورة منه فهو أما قول متعنت مكابر أو جاهل عميت منه النواظر ، ثم أضرب سبحانه عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك ، وفي الكشف أن الزمخشري بين وجاهة كون (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) مبتدأ و (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراضا و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبرا بحسن موقع الاعتراض إذ ذاك حسن الإنكار على الزاعم إنه مفتري مع وجود نافي الريب ومميطه ثم إثبات ما هو المقصود وعدم الالتفات إلى شغب هؤلاء المكابرة بعد التلخيص البليغ بقوله تعالى : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وما في إيثار لفظ (الْحَقُ) وتعريفه تعريف الجنس من الحسن ؛ ويقرب عندي من هذا الوجه جعل (تَنْزِيلُ) مبتدأ وجملة (لا رَيْبَ فِيهِ) في موضع الحال من (الْكِتابِ) و (مِنْ رَبِ) خبرا فتدبر ولا تغفل ، وزعم أبو عبيدة أن (أَمْ) بمعنى بل الانتقالية وقال : إن هذا خروج من حديث إلى حديث وليس بشيء.

والظاهر أن (مِنْ رَبِّكَ) في موضع الحال أي كائنا من ربك ، وقيل : يجوز جعله خبر ثانيا وإضافة الرب إلى العالمين أولا ثم إلى ضمير سيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم ثانيا بعد ما فيه من حسن التخلص إلى إثبات النبوة وتعظيم شأنه علا شأنه فيه أنه عليه الصلاة والسلام العبد الجامع الذي جمع فيه ما فرق في العالم بالأسر ، ووروده على أسلوب الترقي دلّ على أن جمعيته صلى الله تعالى عليه وسلم أتم مما لكل العالم وحق له ذلك صلوات الله تعالى وسلامه عليه (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) بيان للمقصود من تنزيله فقيل هو متعلق بتنزيل ، وقيل :

١١٥

بمحذوف أي أنزله لتنذر إلخ ، وقيل : بما تعلق به (مِنْ رَبِّكَ) و (قَوْماً) مفعول أول لتنذر والمفعول الثاني محذوف أي العقاب و (ما) نافية كما هو الظاهر و (مِنْ) الأولى صلة (وَنَذِيرٌ) فاعل (أَتاهُمْ) ويطلق على الرسول وهو المشهور وعلى ما يعمه والعالم الذي ينذر عنه عزوجل قيل : وهو المراد هنا كما في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤].

وجوز أن يكون النذير هاهنا مصدرا بمعنى الإنذار و (مِنْ قَبْلِكَ) أي من قبل إنذارك أو من قبل زمانك متعلق بأتى والجملة في موضع الصفة لقوما ، والمراد بهم قريش على ما ذهب إليه غير واحد ، قال في الكشف : الظاهر أنه لم يبعث رسول منهم قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا ملزمين بشرائع الرسل من قبل وإن كانوا مقصرين في البحث عنها لا سيما دين إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام إن قلنا : إن دعوتي موسى ، وعيسى عليهما‌السلام لم تعما وهو الأظهر ، وقد تقدم لك القول بانقطاع حكم نبوة كل نبي ما عدا نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد موته فلا يكلف أحد مطلقا يجيء بعده باتباعه والقول بالانقطاع إلا بالنسبة لمن كان من ذريته ، والظاهر أن قريشا كانوا ملزمين بملة ابراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام وإنهم لم يزالوا على ذلك إلى أن فشت في العرب عبادة الأصنام التي أحدثها فيهم عمرو الخزاعي لعنه الله تعالى فلم يبق منهم على الملة الحنيفية إلّا قليل بل أقل من القليل فهم داخلون في عموم قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) فإنه عام للرسول وللعالم ينذر كذا قيل. واستشكل مع ما هنا ، وأجيب بأن المراد ما أتاهم نذير منهم من قبلك وإليه يشير كلام الكشف وهناك أو من غيرها أو يحمل النذير فيه على الرسول ، وفي تلك الآية على الأعم قال أبو حيان : في تفسير سورة الملائكة إن الدعاء إلى الله تعالى لم ينقطع عن كل أمة إما بمباشرة من أنبيائهم وإما بنقل إلى وقت بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والآيات التي تدل على أن قريشا ما جاءهم نذير معناها لم يباشرهم وآباءهم الأقربين قربين وإما أن النذارة انقطعت فلا نعم لما شرعت آثارها تندرس بعث محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. وما ذكره أهل علم الكلام من حال أهل الفترات فإن ذلك على حسب الفرض لا أنه واقع فلا توجد أمة على وجه الأرض إلا وقد علمت الدعوة إلى الله عزوجل وعبادته انتهى.

وفي القلب منه شيء ، ومقتضاه أن المنفي هاهنا إتيان نذير مباشر أي نبي من الأنبياء عليهم‌السلام قريشا الذين كانوا في عصره عليه الصلاة والسلام قبله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه كان فيهم من ينذرهم ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده بالنقل أي عن نبي كان يدعو إلى ذلك ، والأول مما لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان بل لا ينبغي أن يتوقف فيه إنسان ، والثاني مظنون التحقق في زيد بن عمرو بن نفيل العدوي والد سعيد أحد العشرة فإنه عاصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم واجتمع وآمن به قبل بعثته عليه والصلاة السلام ولم يدركها إذ قد مات وقريش تبني الكعبة وكان ذلك قبل البعثة بخمس سنين ، وكان على ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام ، فقد صح عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول : يا معشر قريش والذي نفسي بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري ، وفي بعض طرق الخبر عنه أيضا بزيادة ، وكان يقول : اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم ثم يسجد على راحلته ، وذكر موسى بن عقبة في المغازي سمعت من أرضي يحدث أن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبحهم لغير الله تعالى وصح أنه لم يأكل من ذبائح المشركين التي أهل بها لغير الله ، وأخرج الطيالسي في مسنده عن ابنه سعيد أنه قال : قلت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أبي كان كما رأيت وكما بلغك أفأستغفر له : قال ، نعم فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده ولا يبعد ممن كان هذا شأنه الإنذار والدعوة إلى عبادة الله تعالى بل من أنصف يرى تضمن كلامه الذي حكته أسماء وإنكاره على قريش الذبح لغير الله تعالى الذي ذكره الطيالسي الدعوة إلى دين إبراهيم عليه‌السلام وعبادة الله سبحانه وحده ، وكذا تضمن كلامه النقل أيضا ، ويعلم مما نقلناه أن الرجل رضي الله تعالى عنه

١١٦

لم يكن نبيا وهو ظاهر ، وزعم بعضهم أنه كان نبيا ، واستدل على ذلك بأنه كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول : هلموا إلى فإنه لم يبق على دين الخليل غيري ؛ وصحة ذلك ممنوعة ، وعلى فرض التسليم لا دليل فيه على المقصود كما لا يخفى على من له أدنى ذوق ، ومثل زيد رضي الله تعالى عنه قس بن ساعدة الإيادي فإنه رضي الله تعالى عنه كان مؤمنا بالله عزوجل داعيا إلى عبادته سبحانه وحده وعاصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومات قبل البعثة على الملة الحنيفية وكان من المعمرين ، ذكر السجستاني أنه عاش ثلاثمائة وثمانين سنة ، وقال المرزباني : ذكر كثير من أهل العلم أنه عاش ستمائة سنة وذكروا في شأنه أخبارا كثيرة لكن قال الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة قد أفرد بعض الرواة طريق قس وفيه شعره وخطبته هو في الطوالات للطبراني وغيرها وطرقه كلها ضعيفة وعد منها ما عد فليراجع ، ثم إن الإشكال إنما يتوهم لو أريد بقريش جميع أولاد قصي أو فهر أو النضر أو الياس أو مضر أما إذا أريد من كان منهم حين بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا كما لا يخفى على المتأمل فتأمل ، وقيل : المراد بهم العرب قريش وغيرهم ولم يأت المعاصرين منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نذير من الأنبياء عليهم‌السلام غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان فيهم من ينذر ويدعو إلى التوحيد وعبادة الله تعالى وحده وليس بنبي على ما سمعت آنفا ، وأما العرب غير المعاصرين فلم يأتهم من عهد إسماعيل عليه‌السلام نبي منهم بل لم يرسل إليهم نبي مطلقا ، وموسى. وعيسى وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا إليهم على الأظهر ، وخالد بن سنان العبسي عند الأكثرين ليس بنبي ، وخبر ورود بنت له عجوز على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لها : مرحبا بابنة نبي ضيعه قومه ونحوه من الأخبار مما للحفاظ فيه مقال لا يصلح معه للاستدلال ، وفي شروح الشفاء والإصابة للحافظ ابن حجر بعض الكلام في ذلك ، وقيل : المراد بهم أهل الفترة من العرب وغيرهم حتى أهل الكتاب ، والمعنى ما أتاهم نذير من قبلك بعد الضلال الذي حدث فيهم. هذا وكأني بك تحمل النذير هنا على الرسول الذي ينذر عن الله عزوجل وكذا في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) ليوافق قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) [النحل : ٣٦] وأظن أنك تجعل التنوين في أمة للتعظيم أي وأن من أمة جليلة معتنى بأمرها إلّا خلا فيها نذير ولقد بعثنا في كل أمة جليلة معتنى بأمرها رسولا أو تعتبر العرب أمة وبني إسرائيل أمة ونحو ذلك أمة دون أهل عصر واحد وتحمل من لم يأتهم نذير على جماعة من أمة لم يأتهم بخصوصهم نذير ، ومما يستأنس به في ذلك أنه حين ينفي إتيان النذير ينفي عن قوم ونحوه لا عن أمة فليتأمل ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام ، وجوز كون (ما) موصولة وقعت مفعولا ثانيا لتنذر و (مِنْ نَذِيرٍ) عليه متعلق بأتاهم أي لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك أي على لسان نذير من قبلك واختاره أبو حيان ، وعليه لا مجال لتوهم الإشكال لكن لا يخفى أنه خلاف المتبادر الذي عليه أكثر المفسرين ، والاقتصار على الإنذار في بيان الحكمة لأنه الذي يقتضيه قولهم : (افْتَراهُ) دون التبشير (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي لأجل أن يهتدوا بإنذارك إياهم أو راجيا لاهتدائهم ، وجعل الترجي مستعارا للإرادة منسوبا إليه عزوجل نزغة اعتزالية : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) مرّ بيانه فيما سلف على مذهبي السلف والخلف (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أي ما لكم مجاوزين الله عزوجل أي رضاه سبحانه وطاعته تعالى ولي ولا شفيع أي لا ينفعكم هذان من الخلق عنده سبحانه دون رضاه جل جلاله ـ فمن دونه ـ حال من مجرور (لَكُمْ) والعامل الجار أو متعلقه ، وعلى هذا المعنى لا دليل في الخطاب على أنه تعالى شفيع دون غيره ليقال : كيف ذاك وتعالى جل شأنه أن يكون شفيعا ، وكفى في ذلك رده صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأعرابي حيث قال : إنا نستشفع بالله تعالى إليك ، وقد يقال : الممتنع اطلاق الشفيع عليه تعالى بمعناه الحقيقي وأما إطلاقه عليه سبحانه بمعنى الناصر مجازا فليس بممتنع ، ويجوز أن يعتبر ذلك هنا وحينئذ يجوز أن يكون (مِنْ دُونِهِ) حالا مما بعد قدم عليه لأنه

١١٧

نكرة ودون بمعنى غير ، والمعنى ما لكم ولي ولا ناصر غير الله تعالى ، ويجوز أن يكون حالا من المجرور كما في الوجه السابق ، والمعنى ما لكم إذا جاوزتم ولايته ونصرته جل وعلا ولي ولا ناصر ، ويظهر لي أن التعبير بالشفيع هنا من قبيل المشاكلة التقديرية لما أن المشركين المنذرين كثيرا ما كانوا يقولون في آلهتهم هؤلاء شفعاؤنا ويزعمون أن كل واحد منها شفيع لهم (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أي ألا تسمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون بها أو أتسمعونها فلا تتذكرون بها ، فالإنكار على الأول متوجه إلى عدم السماع وعدم التذكر معا ، وعلى الثاني إلى عدم التذكر مع تحقق ما يوجبه من السماع.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) قيل : أي أمر الدنيا وشئونها ، وأصل التدبير النظر في دابر الأمر والتفكر فيه ليجيء محمود العاقبة وهو في حقه عزوجل مجاز عن إرادة الشيء على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة والفعل مضمن معنى الإنزال والجار أن في قوله تعالى : (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) متعلقان به ومن ابتدائية وإلى انتهائية أي يريده تعالى على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة منزلا له من السماء إلى الأرض ، وإنزاله من السماء باعتبار أسبابه فإن أسبابه سماوية من الملائكة عليهم‌السلام وغيرهم (ثُمَّ يَعْرُجُ) أي يصعد ويرتفع ذلك الأمر بعد تدبيره (إِلَيْهِ) عزوجل وهذا العروج مجاز عن ثبوته في علمه تعالى أي تعلق علمه سبحانه به تعلقا تنجيزيا بأن يعمله جلّ وعلا موجودا بالفعل أو عن كتابته في صحف الملائكة عليهم‌السلام القائمين بأمره عزوجل موجودا كذلك (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي في برهة متطاولة من الزمان فليس المراد حقيقة العدد ، وعبر عن المدة المتطاولة بالألف لأنها منتهى المراتب وأقصى الغايات وليس مرتبة فوقها إلا ما يتفرع منها من أعداد مراتبها ، والفعلان متنازعان في الجار والمجرور وقد أعمل الثاني منهما فيه فتفيد الآية طول امتداد الزمان بين تعلق إرادته سبحانه بوجود الحوادث في أوقاتها متقنة مراعي فيها الحكمة وبين وجودها كذلك ، وظاهرها يقتضي أن وجودها لا يتوقف على تعلق الإرادة مرة أخرى بل يكفي فيه التعلق السابق وقيل : (فِي يَوْمٍ) متعلق بيعرج وليس الفعلان متنازعين فيه ، والمراد بعروج الأمر إليه بعد تدبيره سبحانه إياه وصول خبر وجوده بالفعل كما دبر جل وعلا بواسطة الملك وعرضه ذلك في حصرة قد أعدها سبحانه للاختبار بما هو جلّ جلاله أعلم به اظهار الكمال عظمته تبارك وتعالى وعظيم سلطنته جلت سلطنته ؛ وهذا كعرض الملائكة عليهم‌السلام أعمال العباد الوارد في الأخبار ، وألف سنة على حقيقتها وهي مسافة ما بين الأرض ومحدب السماء الدنيا بالسير المعهود للبشر فإن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام وثخن السماء كذلك كما جاء في الأخبار الصحيحة والملك يقطع ذلك في زمان يسير فالكلام على التشبيه فكأنه قيل : يريد تعالى الأمر متقنا مراعي فيه الحكمة بأسباب سماوية نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض فيكون كما أراد سبحانه فيعرج ذلك الأمر مع الملك ويرتفع خبره إلى حضرته سبحانه في زمان هو كألف سنة مما تعدون ، وقيل : العروج إليه تعالى صعود خبر الأمر مع الملك إليه عزوجل كما هو مروي عن ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك والفعلان متنازعان في (يَوْمٍ) والمراد أنه زمان تدبير الأمر لو دبره البشر وزمان العروج لو كان منهم أيضا وإلا فزمان التدبير والعروج يسير ، وقيل : المعنى يدبر أمر الدنيا بإظهاره في اللوح المحفوظ فينزل الملك الموكل به من السماء إلى الأرض ثم يرجع الملك أو الأمر مع الملك إليه تعالى في زمان هو نظر للنزول والعروج كألف سنة مما تعدون ، وأريد به مقدار ما بين الأرض ومقعر سماء الدنيا ذهابا وإيابا ، والظاهر أن (يُدَبِّرُ) عليه مضمن معنى الإنزال ، والجاران متعلقان به لا بفعل محذوف أي فينزل به الملك من السماء إلى الأرض كما قيل ، وزعم بعضهم أن ضمير (إِلَيْهِ) للسماء وهي قد تذكر كما في قوله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزمل : ١٨] وقيل : المعنى يدبر سبحانه أمر الدنيا كلها من السماء

١١٨

الى الأرض لكل يوم من أيام الرب جلّ شأنه وهو ألف سنة كما قال سبحانه : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧] ثم يصير إليه تعالى ويثبت عنده عزوجل ويكتب في صحف ملائكته جلّ وعلا كل وقت من أوقات هذه المدة ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها ثم يدبر أيضا ليوم آخر وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة ، ويشير إلى هذا ما* روي عن مجاهد قال : إنه تعالى يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من سنينا وهو اليوم عنده تعالى فإذا فرغت ألقي إليهم مثلها ، وعليه الأمر بمعنى الشأن والجاران متعلقان به أو بمحذوف حال منه ولا تضمين في (يُدَبِّرُ) والعروج إليه تعالى مجاز عن ثبوته وكتبه في صحف الملائكة و (أَلْفَ سَنَةٍ) على ظاهره و (فِي يَوْمٍ) يتعلق بالفعلين واعمل الثاني كأنه قيل : يدبر الأمر ليوم مقداره كذا ثم يعرج إليه تعالى فيه كما تقول : قصدت ونظرت في الكتاب أي قصدت إلى الكتاب ونظرت فيه ، ولا يمنع اختلاف الصلتين من التنازع ، وتكرار التدبير إلى يوم القيامة يدل عليه العدول إلى المضارع مع أن الأمر ماض كأنه قيل : يجدد هذا الأمر مستمرا ؛ وقيل : المعنى يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة ثم يعرج إليه تعالى ذلك الأمر كله أي يصير إليه سبحانه ليحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة ، وعليه الأمر بمعنى الشأن والجاران متعلقان به أو بمحذوف حال له كما في سابقه ، والعروج إليه تعالى الصيرورة إليه سبحانه لا ليثبت في صحف الملائكة بل ليحكم جلّ وعلا فيه.

و (فِي يَوْمٍ) متعلق بالعروج ولا تنازع ، والمراد بيوم مقداره كذا يوم القيامة ، ولا ينافي هذا قوله تعالى : (كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٤] بناء على أحد الوجهين فيه لتفاوت الاستطالة على حسب الشدة أو لأن ثم خمسين موطنا كل موطن ألف سنة ، وقيل : المعنى ينزل الوحي مع جبريل عليه‌السلام من السماء إلى الأرض ثم يرجع إليه تعالى ما كان من قبوله أو رده مع جبريل عليه‌السلام في يوم مقدار مسافة السير فيه ألف سنة وهو ما بين السماء والأرض هبوطا وصعودا ، فالأمر عليه مراد به الوحي كما في قوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) [غافر : ١٥] والعروج إليه تعالى عبارة عن خبر القبول والرد مع عروج جبريل عليه‌السلام والتدبير والعروج في اليوم لكن على التوسع والتوزيع فالفعلان متنازعان في الظرف ولكن لا اختلاف في الصلة ولا تنافي الآية على هذا قوله تعالى شأنه : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) بناء على الوجه الآخر فيه وستعرفهما إن شاء الله تعالى لأن العروج فيه إلى العرش وفيها الى السماء الدنيا وكلاهما عروج إلى الله تعالى على التجوز.

وقيل : المراد بالأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحات ، والمعنى ينزل سبحانه ذلك مدبرا من السماء إلى الأرض ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه تعالى ذلك المأمور به خالصا يرتضيه إلا في مدة متطاولة لقلة الخلص من العباد وعليه (يُدَبِّرُ) مضمن معنى الإنزال ومن وإلى متعلقان به ، ومعنى العروج الصعود كما في قوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠] والغرض من الألف استطالة المدة ، والمعنى استقلال عبادة الخلص واستطالة مدة ما بين التدبير والوقوع ، و (ثُمَ) للاستبعاد ، واستدل لهذا المعنى بقوله تعالى إثر ذلك : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) [الأعراف : ١٠ ، المؤمنون : ٧٨ ، السجدة : ٩] لأن الكلام بعضه مربوط بالبعض وقلة الشكر مع وجود تلك الإنعامات دالة على الاستقلال المذكور.

وقيل : المعنى يدبر أمور الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض وزمان طلوعها إلى أن تغرب وترجع إلى موضعها من الطلوع مقداره في المسافة ألف سنة وهي تقطع ذلك في يوم وليلة. هذا ما قالوه في الآية الكريمة في بيان المراد منها ، ولا يخفى على ذي لب تكلف أكثر هذه الأقوال

١١٩

ومخالفته للظاهر جدا وهي بين يديك فاختر لنفسك ما يحلو ، ويظهر لي أن المراد بالسماء جهة العلو مثلها في قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) [الملك : ١٦] وبعروج الأمر إليه تعالى صعود خبره كما سمعت عن الجماعة و (فِي يَوْمٍ) متعلق بالعروج بلا تنازع ، وأقول : إن الآية من المتشابه وأعتقد أن الله تعالى يدبر أمور الدنيا وشئونها ويريدها متقنة وهو سبحانه مستو على عرشه وذلك هو التدبير من جهة العلو ثم يصعد خبر ذلك مع الملك إليه عزوجل إظهارا لمزيد عظمته جلت عظمته وعظيم سلطنته عظمت سلطنته إلى حكم هو جلّ وعلا أعلم بها وكل ذلك بمعنى لائق به تعالى مجامع للتنزيه مباين للتشبيه حسبما يقوله السلف في أمثاله ، وقول بعضهم : العرش موضع التدبير وما دونه موضع التفصيل وما دون السماوات موضع التصريف فيه رائحة ما مما ذكرنا ، وأما تقدير يوم العروج هنا بألف سنة وفي آية أخرى بخمسين ألف سنة فقد كثر الكلام في توجيهه وقد تقدم لك بعض منه.

وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف ، والحاكم وصححه عن عبد الله بن أبي مليكة قال : دخلت على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فسأله عن قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) فكأن ابن عباس اتهمه فقال : ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال : إنما سألتك لتخبرني فقال رضي الله تعالى عنه : هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه الله تعالى أعلم بهما وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم فضرب الدهر من ضرباته حتى جلست إلى ابن المسيب فسأله عنهما إنسان فلم يخبر ولم يدر فقلت : ألا أخبرك بما سمعت من ابن عباس؟ قال : بلى أخبرته فقال للسائل : هذا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أبى أن يقول فيهما وهو أعلم مني.

وبعض المتصوفة يسمون اليوم المقدر بألف سنة باليوم الربوبي واليوم المقدر بخمسين ألف سنة باليوم الإلهي ، ومحيي الدين قدس‌سره يسمى الأول يوم الرب والثاني يوم المعارج ، وقد ذكر ذلك وأياما أخر كيوم الشأن ويوم المثل ويوم القمر ويوم الشمس ويوم زحل وأيام سائر السيارة ويوم الحمل وأيام سائر البروج في الفتوحات. وقد سألت رئيس الطائفة الكشفية الحادثة في عصرنا في كربلاء عن مسألة فكتب في جوابها ما كتب واستطرد بيان إطلاقات اليوم وعد من ذلك أربعة وستين إطلاقا ، منها إطلاقه على اليوم الربوبي وإطلاقه على اليوم الإلهي وأطال الكلام في ذلك المقام ، ولعلنا إن شاء الله تعالى ننقل لك منه شيئا معتدا به في موضع آخر ، وسنذكر إن شاء الله تعالى أيضا تمام الكلام فيما يتعلق بالجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٤] وقوله تعالى : (مِمَّا تَعُدُّونَ) صفة (أَلْفَ) أو صفة (سَنَةٍ).

وقرأ ابن أبي عبلة «يعرج» بالبناء للمفعول والأصل يعرج به فحذف الجار واستتر الضمير. وقرأ جناح بن حبيش «ثم يعرج الملائكة» إليه بزيادة الملائكة قال أبو حيان : ولعله تفسير منه لسقوطه في سواد المصحف.

وقرأ السلمي ، وابن وثاب ، والأعمش والحسن بخلاف عنه «يعدون» بياء الغيبة (ذلِكَ) أي الذات الموصوف بتلك الصفات المقتضية للقدرة التامة والحكمة العامة (عالِمُ الْغَيْبِ) أي كل ما غاب عن الخلق (وَالشَّهادَةِ) أي كل ما شاهده الخلق فيدبر سبحانه ذلك على وفق الحكمة ، وقيل : الغيب الآخرة والشهادة الدنيا (الْعَزِيزُ) الغالب على أمره (الرَّحِيمُ) للعباد ، وفيه إيماء بأنه عزوجل متفضل فيما يفعل جلّ وعلا ، واسم الإشارة مبدأ والأوصاف الثلاثة بعده أخبار له ، ويجوز أن يكون الأول خبرا والأخيران نعتان للأول.

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بخفض الأوصاف الثلاثة على أن ذلك إشارة إلى الأمر مرفوع المحلى

١٢٠