منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام - ج ٣

لطف الله الصافي الگلپايگاني

منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

لطف الله الصافي الگلپايگاني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مكتب المؤلّف دام ظلّه
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٢

على ما سمّاه بالاطروحة الاولى النزر القليل ، وما دلّ على الاطروحة الثانية الأخبار الكثيرة ، مع أنّه ليس في الأخبار حتّى خبر واحد يدلّ عليها ، وليت شعري بأيّ دليل دعم بزعمه الاطروحة الثانية ، ورفض هذه الأخبار الكثيرة الدالّة على أنّ الدجّال شخص بعينه.

نعم لو اريد بالدجّال الشخص الموصوف بتمام الصفات المذكورة في الأخبار فلا يدلّ عليه إلّا القليل من الأخبار ، لا نأخذ بظاهرها في هذه الصفات المفصّلة ؛ لضعف إسناد أكثرها أوّلا ، ولعدم حجّيّة خبر الواحد في غير الفروع ثانيا ، ولمخالفة بعضها مع ضرورة العقل أو الشرع ثالثا. أمّا لو اريد منها شخص بعينه يظهر في آخر الزمان ، يضلّ جماعة من الناس ، ويغطّي باطله بالحقّ ، فدعوى تواتر هذه الأخبار المخرّجة من طرق الفريقين على ذلك بالتواتر الإجماليّ أو المعنويّ في محلّه لا ينكرها البصير بالأحاديث.

هذا مع أنّا لم نقف على إنكار خروج الدجّال من أحد من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، ورواة أحاديثهم ، وسائر أعلام الشيعة ، ومع ذلك لما ذا وبأيّ دليل نرفض ما اتّفق عليه ظاهر جميع هذه الروايات ، ونسمّي ما اتّفق عليه كلمات الكلّ من علمائنا الأبرار وحفظة الآثار بالاطروحة ، كأنّنا واجهنا هذا الموضوع لأوّل مرّة؟!

ثمّ إنّ كاتبنا هذا لم يقتصر على تأويل الدجّال ، وفهم مفهومه بما سمّاه بالفهم المتكامل ، بل أوّل بفهمه المتكامل غير الدجّال من علائم الظهور ، مثل : السفياني ، وجاء باصطلاحه باطروحات يجب طرحها بعد عدم مخالفة ظاهر الحديث ومضمونه المتبادر منه العرفيّ مع ضرورة العقل أو الشرع ، ولا تقنع النفوس المؤمنة بها ، وتجعل سائر ما ورد من

٣٠١

الشرع معرض مثل هذه التأويلات لعدم الفرق بين هذا وكثير من غيره ، مثل : نزول عيسى عليه‌السلام من السماء ، واقتدائه بمولانا المهدي عليه‌السلام ، والنداء ، والصيحة ، وغيرها من الامور الّتي يستغربها البعض ، وأخبر عنها الكتاب أو السنّة الصحيحة ، مثل : معجزات الأنبياء وغيرها.

وإنّنا قد كرّرنا الإشارة إلى خطر هذا التفكير التأويليّ على الدين والقيم الإسلاميّة ؛ حرصا على سدّ باب تأويل النصوص وحمله على الرموز من غير موجب عقليّ ولا شرعيّ ، وتأكيدا على التمسّك بها ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

التنبيه الخامس : لا يخفى عليك أنّه وإن وجب الإيمان بكلّ ما أخبر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه لا يجب الإيمان به ولا الإقرار به تفصيلا إن لم يكن من اصول الدين ، وما يكون الإقرار به من شرائط الإسلام ، فلا يجب معرفة كلّ ما في الكتاب والسنّة بالتفصيل ، إلّا في الفروع ، وما يرتبط بعمل المكلّف وتكاليفه العمليّة ، فإنّه يجب على الفقهاء والمجتهدين على تفصيل مذكور في مبحث الاجتهاد والتقليد والاحتياط.

فمن لم يعرف من تفاصيل معجزات الأنبياء شيئا ، ولم يعلم معنى دابّة الأرض ، وتفاصيل عالم الآخرة والجنّة والنار ، أو غزوات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما حدث بينه وبين المشركين ، ولم يعرف عدد زوجات النبي أو أولاده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمثال ذلك ممّا يطول الكلام بذكره ، لا يضرّ بإسلامه إذا كان مؤمنا مصدّقا بكلّ ما أخبر عنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣٠٢

نعم ، إذا كان أمر من هذه الامور الّتي لا تكون لمعرفتها دخل في الإسلام والإيمان من الضروريّات الإسلاميّة ، فإنكاره على ما ذكر في الفقه ـ موضوعا وحكما ـ موجب للحكم بالكفر ولو ظاهرا. كما أنّ بعد معرفة كلّ واحد من هذه الامور ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر عنه ، يجب الإيمان به ، ولا يجوز إنكاره واحتمال خلافه ؛ لأنّه مستلزم لإنكار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن هذه الامور : خروج الدجّال ، والسفيانيّ ، فليس الإيمان بذلك شرطا في الإسلام والإيمان ، فمن لم يعرف من أمرهما شيئا ولم يقرّبهما ، لا يخرج بذلك من الإسلام والإيمان. نعم بعد ما ثبت عنده إخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهما لا يجوز له الإنكار ، ويخرج به من دائرة الإسلام.

وهل يكون خروج الدجّال من الضروريّات بين المسلمين حتّى يكون إنكاره موجبا للحكم بالارتداد ولو ظاهرا وإن احتمل عدم علم منكره به؟ الظاهر أنّه ليس من الضروريّات ، سيّما بعد ما عرفت إنكاره من جماعة من المسلمين.

التنبيه السادس : هل يجب معرفة علائم الظهور الّتي من جملتها خروج الدجّال ، ليعلم به عند وقوعه ، ويعرف المحقّ من المبطل ، ويميز بين الخبيث والطيّب؟ الظاهر هو وجوبها ؛ حذرا عن الوقوع في الضلالة ، ودفعا للضرر المحتمل ، ويمكن أن يقال : إنّ الفائدة من بيان هذه العلامات أن يتعلّمها من يريد الأمان من الضلالة ، ولا يكون للناس على الله حجّة ، وذلك يقتضي وجوب تعلّم العلامات ، وعدم معذوريّة الشخص في الجهل به.

٣٠٣

نعم ، الظاهر أنّ هذا الوجوب ليس نفسيّا ، بل هو وجوب طريقيّ ، بمعنى : أنّ المكلّف الجاهل بالعلامات إذا وقع بسبب جهله بها في الضلالة ليس معذورا ، وإذا لم يقع فيها لا يكون معاقبا لتركه التعلّم.

هذا ما وفّقني الله تعالى للبحث حول «الدجّال» ، وقد تضمّن المباحث الكليّة الّتي يحتاج الباحث إليها في كثير من المباحث ، والله تعالى هو الموفّق ، ومنه نستمدّ ونستعين ، وصلواته على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

٣٠٤

حول حياة المسيح عيسى عليه‌السلام

ونزوله من السماء في آخر الزمان

٣٠٥
٣٠٦

اعلم انّه لا خلاف يعتدّ به بين المسلمين في رفع المسيح عيسى بن مريم عليهما‌السلام حيّا إلى السماء ، وامتداد حياته حتّى الآن ، وإلى نزوله في آخر الزمان.

وقد ادّعى بعضهم صريحا إجماع الامّة على ذلك ؛ كابن عطيّة الغرناطي الأندلسي في تفسيره على ما نقل عنه أبو حيّان الأندلسي أيضا في تفسيره «البحر المحيط» ، قال ابن عطيّة : وأجمعت الامّة على ما تضمّنه الحديث المتواتر من أنّ عيسى في السماء حيّ ، وأنّه ينزل في آخر الزمان ... الخ (١). وقال أبو حيّان نفسه في تفسيره الصغير : «النهر المارّ من البحر» المطبوع على حاشية «البحر المحيط» : وأجمعت الامّة على أنّ عيسى عليه‌السلام حيّ في السماء ، وسينزل إلى الأرض (٢). وقال السفاريني الحنبلي في شرح منظومته المسماة ب «لوامع الأنوار البهيّة» : قد أجمعت الامّة على نزول عيسى بن مريم عليه‌السلام ، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة ، وإنّما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ممّن لا يعتدّ بخلافه. وقال الشريف سيدي محمّد بن جعفر الكتّاني في كتابه : «نظم

__________________

(١) تفسير البحر المحيط : ج ٢ ص ٤٧٣ من سورة آل عمران.

(٢) المصدر نفسه.

٣٠٧

المتناثر من الحديث المتواتر» : وقد ذكروا أنّ نزول سيّدنا عيسى عليه‌السلام ثابت بالكتاب والسنّة والإجماع (١).

ولا ريب أنّ الأصل في هذا الاتّفاق والإجماع ، وإرسال جميع أكابر محدّثي أهل السنّة والشيعة ومفسّريهم حياة عيسى عليه‌السلام ونزوله في آخر الزمان إرسال المسلّمات ، هو الكتاب والسنّة المتواترة الّتي لا مجال لإنكار تواترها المعنويّ ، فصار هذا عقيدة للمسلمين ، أخذها الخلف عن السلف من زماننا هذا إلى عصر الرسالة.

ومع ذلك يرى أنّه قد وقع أخيرا مورد التشكيك من بعض كتّاب العصر الحديث ، وتلامذة مدرسة الشيخ محمّد عبده ؛ اولئك الّذين لا يؤمنون بالمعجزات الكونيّة ، أو يخفون عقيدتهم بها وحاولوا تأويلها بتعليلها واستنادها إلى العلل المادّية ، أو حملها على الرمز حذرا من أن تقع مورد استبعاد أفكار من لا يؤمن بالله وبعالم الغيب ، وأن يأخذ هؤلاء المادّيّون ، ومن يحذو حذوهم ويميل إلى طريقتهم من الشباب المتأثّرين بكلمات هؤلاء الماديّين على المؤمنين بإيمانهم بامور لا توافق السنن العاديّة الطبيعيّة الّتي يظنّها هؤلاء عللا تامّة للحوادث الطبيعيّة ، فأنكر هؤلاء المتّسمون بأهل الثقافة الحديثة الخوارق ؛ مثل : رفع عيسى حيّا ، وامتداد حياته ، وبعض المعجزات العظيمة الهائلة ؛ خوفا من ردّها من جانب أصحاب المادّة ، أو ميلا إلى آرائهم وأفكارهم الإلحاديّة.

ولا يخفى عليك أنّ ما يؤمن به المؤمن بالله تعالى من خلقه ما سواه أكبر من جميع هذه الخوارق والمعجزات ، إذا فما نستفيد من تأويل المعجزات ، وصرف النصوص المتواترة عن مداليلها المعلومة المقبولة لدى

__________________

(١) لوامع الأنوار البهيّة : ج ٢ ص ٩٤ و ٩٥.

٣٠٨

المؤمنين بالله وبقدرته تعالى إلى معان أخر ليقبلها أو لا يستبعدها من لا يؤمن بقدرة الله تعالى وخرق العادات الطبيعيّة؟ ولكنّ الفئة المذكورة يصرّون على ذلك ، فجاءوا في التفسير والامور الثابتة بالسنّة بآراء حديثة تنفي أو تضعف الإيمان باستناد المعجزات إلى الله تعالى ، وأنّه على كلّ شيء قدير.

أجل قد وقع رفع عيسى عليه‌السلام ونزوله موردا لتشكيك هؤلاء الكتّاب المتنوّرين ، وقد سبقهم في إبداء ذلك شيخهم محمّد عبده على ما نقل عنه تلميذه رشيد رضا في كتابه المسمّى ب «تفسير المنار» (١) ، ثمّ أخذ ذلك منه غيره من الأزهريّين ، كمحمّد فهيم أبو عبية ، وغيره ، وقد ردّ عليهم جماعة من أكابر علماء أهل السنّة ، فأظهروا غيرتهم على الكتاب والسنّة ، مثل الاستاذ محمّد علي حسين البكري في رسالة أسماها : «صواعق الملكوت على أباطيل الاستاذ شلتوت» ، والشيخ محمّد زاهد الكوثري في رسالة أسماها : «نظرة عابرة» ، والصدّيق الغماري في : «عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه‌السلام» ، وله أيضا : «إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان» ، والكشميري في : «عقيدة الإسلام في حياة عيسى عليه‌السلام» ، وغيرهم.

وممّن ردّ على الشيخ شلتوت الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام للدولة العثمانيّة سابقا في كتابه : «موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين وعباده المرسلين» ، ولا بأس بنقل كلامه بطوله إيضاحا للموضوع.

قال : وممّا يجدر بالذكر هنا أنّه نشرت مجلّة «الرسالة» في عددها (٤٦٢) مقالة للشيخ شلتوت ، وكيل كلّيّة الشريعة ، وعضو هيئة كبار

__________________

(١) راجع ج ٣ ص ٣١٧.

٣٠٩

العلماء ، يجيب فيها على سؤال ورد إلى مشيخة الأزهر عن مسألة رفع عيسى عليه‌السلام من عبد الكريم خان بالقيادة العامّة الانكليزيّة لجيوش الشرق الأوسط ، ولعلّ السائل هندي قاديانيّ المذهب ، أراد الحصول على فتوى من الأزهر تؤيّد مذهبه ، ولعلّ مشيخة الأزهر ندمت بعض الندامة على ما سبق لها من تنفيذ القرار الصادر عن هيئة كبار العلماء لفصل الطالبين الالبانيّين القاديانيين من الأزهر ، إذ حوّلت السؤال إلى الشيخ كاتب المقالة من بين أعضاء الهيئة الّذي ستعرف نزعته القاديانيّة في المسألة المحوّلة إليه (١).

فكان جوابه أنّه عليه‌السلام مات في الأرض ورفعت روحه ، ولم يرفع حيّا كما ذهب إليه المفسّرون قبل الشيخ. وإذا لم يصحّ رفعه سقط القول بنزوله في آخر الزمان ، كما ورد في الأحاديث الّتي لا يعتمد عليها الشيخ المجيب رغم كثرتها ، بحجّة أنّها أخبار آحاد لا تبنى عليها المسائل الاعتقاديّة. فهو كما خطّا المفسّرين في مسألة رفع المسيح ، خطّا علماء اصول الدين القائلين بنزوله على أنّه من أشراط الساعة.

والخلاف بين الشيخ شلتوت وبين المفسّرين والمتكلّمين والمحدّثين راجع إلى الخلاف في إنكار المعجزات والاعتراف بها بين المنكرين الّذين منهم الشيخ والمعترفين الّذين منهم أهل التفسير والحديث والكلام ، فمن لم يؤمن بالمعجزات فدأبه رفض الأحاديث والآيات الواردة فيها

__________________

(١) وكنت قد سمعت عند ما فاوضت هيئة كبار العلماء فيما بينهم للبتّ في أمر الطالبين المذكورين أنّ في الهيئة من يشذّ ويتردّد في الإفتاء بكفر المنكر لكون نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله آخر الأنبياء ، طعنا منه في حجّيّة الحديث الوارد فيه والإجماع المنعقد عليه ، وفي دلالة قوله تعالى : و (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) عليه القطعيّة ... الخ.

٣١٠

بالتشكيك في ثبوت الأحاديث مهما كثرت رواتها ، والعبث في معنى الآيات ، لا لكون الأحاديث غير ثابتة في الحقيقة من طريق نقد الحديث المعروف عند علمائه ، أو لكون الآيات غير ظاهرة الدلالة ، بل لعقيدة راسخة في قلب الرافض تدفعه إلى إنكار المعجزات وسائر المغيبات أينما ورد ذكرها.

وقد أسلفنا في هذا الباب (الثالث) الكلام عن أصل هذا المرض الّذي يجعل التشكيك في صحّة الأحاديث والعبث في تأويل الآيات سهلا على المنكرين. وعقل الشيخ شلتوت الّذي لا يقبل معجزة الرفع والنزول لعيسى يقبل أنّ المحدّثين كذبوا في سبعين حديثا رووها في نزوله ، كما أخطأ المتكلّمون في قبول تلك الأحاديث سندا لعدّة من أشراط الساعة ، كما أنّ المفسّرين أخطئوا في فهم معنى الآيتين الدالّتين على الرفع والآيتين الدالّتين على النزول ، وإنّما أصاب الشيخ شلتوت في مقابل المخطئين ، وصدق في مقابل الكاذبين!

وكنّا كتبنا في صدر هذا الباب شيئا كثيرا يتعلّق بهذه المسألة ، وأرجأنا النظر في آيات الرفع والنزول إلى محلّ مناسب ، فنقول : ولعدم كون الشيخ في مذهب اليهود والنصارى بشأن سيّدنا المسيح بل في مذهب المادّيّين ، لم يعترض على عقيدة المسلمين المأخوذة من قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) ، وإنّما اعترض على عقيدتهم المستندة إلى قوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ).

وكان هذا الشيخ أنكر من قبل وجود الشيطان كشخص حيّ من شأنه أن يفعل الأفعال المذكورة له في القرآن ، ويتّصف بأوصاف متناسبة مع تلك الأفعال ، وكان المانع عنده عن وجود الشيطان هو عين المانع عن

٣١١

رفع عيسى عليه‌السلام ونزوله ، أعني العلم الحديث المادّي الّذي لا يقبل إلّا ما يمكن إثباته بالتجارب الحسّيّة. وهذا المانع عن وقوع معجزات الأنبياء الكونيّة ووجود الشيطان عند المؤمنين بالعلم المادّي أكثر من إيمانهم بكتاب الله وسنّة رسوله ، يمنعهم ـ أيضا ـ عن القول بنبوّة محمّد صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، مستبدلين بها العبقرية. فلا يكون كتابه كتاب الله الّذي لا يجترأ على مسّه بكلّ تأويل ، ولا أحاديثه أحاديث رسول الله الّذي لا يجترأ على تكذيبها بكلّ سهولة. فلو لم تكن لإنكار رفع عيسى ونزوله أسباب خفيّة عند الشيخ المنكر ، ونظر إلى آيتي الرفع وأحاديث النزول نظر المحايد غير المرتبط بتلك الأسباب الخفيّة ، لذهب به نظره إلى التسليم بعقيدة المسلمين في رفع المسيح عليه‌السلام ونزوله في آخر الزمان ، ولا رأى مانعا عنهما في آيات التوفّي الّتي تمسّك بها بدلا من الآيات والأحاديث القائمة على الرفع ثمّ النزول.

فكما أنّ قوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) ، وقوله : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) ظاهران في الرفع الخاصّ الّذي يمتاز به عليه‌السلام ، لا رفع الروح العامّ لجميع الأنبياء والسعداء كما ادّعاه الشيخ ، فتعقيب قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) ، وبقوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) قطعيّ في الرفع الّذي نقول به ، لا الرفع الّذي يقول به ، إذ لا معنى يليق بالنظم المعجز في القول بأنّهم ما قتلوه بل رفع الله روحه إليه كما فسّر به الشيخ ، لعدم معقوليّة التقابل على هذا التفسير بين القتل المنفي والرفع المثبت ، بناء على أنّ رفع الروح يمشي مع القتل والصلب ، كما يمشي مع عدم القتل والصلب ، فلا يكون ما بعد (بَلْ) ضدّا لما قبله على خلاف ما صرّح به النّحاة من أنّ «بل» بعد النفي أو النهي يجعل ما بعده ضدّا لما

٣١٢

قبله. وليس للشيخ المنكر لرفعه حيّا مجال للجواب عن هذا الاعتراض.

أمّا آيات التوفّي الّتي تمسّك بها الشيخ فليس فيها تأييد لمذهبه يعادل في القوّة أو يداني ما في تكميل نفي القتل والصلب بإثبات الرفع من تأييد مذهبنا ؛ لأنّ المعنى الأصليّ للتوفّي المفهوم منه مبادرة ليس هو الإماتة كما يظنّ الشيخ ، بل معناه أخذ الشيء وقبضه تماما (١) ، فهو ـ أي التوفّي ـ والاستيفاء في اللغة على معنى واحد ، قال في مختار الصحاح : «واستوفى حقّه وتوفّاه بمعنى» ، وإنّما الإماتة الّتي هي أخذ الروح نوع من أنواع التوفّي الّذي يعمّها وغيرها ، لكونه بمعنى الأخذ التامّ المطلق. وهذا منشأ غلط الشيخ شلتوت أو مغالطته في تفسير آيات القرآن الّتي يلزم أن يفهم منها رفع عيسى عليه‌السلام حيّا ، لأنّه ظنّ أنّ القرآن معترف بموته في الآيات الدالّة على توفّيه ، كما ظنّ أنّ التوفّي معناه الإماتة ، نظرا إلى أنّ الناس لا يستعملون التوفّي إلّا في هذا المعنى ، وغفولا عن معناه الأصليّ العامّ ، فكأنّه قال ـ بناء على ظنه هذا ـ : لا محلّ لرفعه حيّا بعد إماتته ، لكنّه لو راجع كتب اللغة لرأى أنّ الإماتة تكون معنى التوفّي في الدرجة الثانية حتّى ذكر الزمخشري هذا المعنى في «أساس البلاغة» بعد قوله : «ومن المجاز» ، والمعنى الأصليّ المتقدّم إلى أذهان العارفين باللغة العربيّة للتوفّي هو كما قلنا : أخذ الشيء تماما ، ولا اختصاص له بأخذ الروح.

ولقد فسّر القرآن نفسه معنى التوفّي الّذي يعمّ الإماتة وغيرها ، فقال : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) فهذه

__________________

(١) كما أنّ معنى التوفية جعل الغير آخذا للشيء تماما ، قال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) ، وقال : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ).

٣١٣

الآية تشتمل على نوعين من أنواع توفّي الأنفس الّذي هو الأخذ الوافي ، نوع في حالة الموت ، ونوع في حالة النوم ، فلو كان ينحصر في الإماتة كان المعنى في الآية : الله يميت الأنفس حين موتها ، ويميت الّتي لم تمت في منامها. والأوّل تحصيل للحاصل ، والثاني خلاف الواقع ، ولزم الأوّل أيضا أن تكون حالة الموت حالة إماتة الروح لا فصلها عن البدن.

ومن هذا يفهم أيضا معنى التوفّي في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) ، ومعنى قوله تعالى على هذا التحقيق : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إنّي آخذك من هذا العالم الأرضيّ ورافعك إليّ. وفي قوله : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعد قوله : (مُتَوَفِّيكَ) دلالة زائدة على عدم كون معنى توفّيه إماتته ؛ لأنّ تطهيره من الّذين كفروا بإماتة عيسى وإبقاء الكافرين لا يكون تطهيرا يشرّفه كما كان في تطهيره منهم برفعه إليه حيّا.

فإذن ، كلّ من قوله تعالى : (مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بيان لحالة واحدة يفسّر بعضها بعضا ، من غير تقدّم أو تأخّر زمانيّ بين هذه الأخبار الثلاثة ل «إنّ» ومن المعلوم عدم دلالة الواو العاطفة على الترتيب ، فلو كان المراد من قوله تعالى : (مُتَوَفِّيكَ) مميتك ، ومن قوله : (رافِعُكَ) رافع روحك كما ادّعى الشيخ شلتوت كان القول الثاني مستغنى عنه ، لأنّ رفع روح عيسى عليه‌السلام بعد موته إلى ربّه وهو نبيّ جليل من أنبياء الله معلوم لا حاجة إلى ذكره ، بل لو حملنا القول الأوّل أعني : (مُتَوَفِّيكَ) على معنى مميتك كان هو أيضا مستغنى عنه ، إذ معلوم أنّ كلّ نفس ذائقة الموت ، وكلّ نفس فالله يميتها ، ومن من الناس أو الأنبياء قال الله له : إنّي مميتك؟ فهل لا يفكر فيه الشيخ

٣١٤

الّذي يفهم من قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أنّه مميته؟ إلّا أن يكون المعنى : أنّ الله مميته لا أعداؤه ، فالمراد : نفي كونهم يقتلونه ، وفيه : انّ كون الله مميته لا ينافي أن يقتلوه ؛ لأنّ الله هو مميت كلّ من جاء أجله حتّى المقتولين ، ولذا حمل كثير من المفسّرين قوله : (مُتَوَفِّيكَ) على معنى : أنّ الله مستوفي أجله عليه‌السلام ، ومؤخّره إلى أجله المسمّى فلا يظفر اعداؤه بقتله.

وعندي في هذا التفسير أيضا أنّه يرجع إلى حمل «التوفّي» على معنى الاستيفاء كما حملنا نحن لا على معنى الإماتة ، لكنّ التوفّي والاستيفاء معناه : استكمال أخذ الشيء ، لا استكمال إعطائه ، فليس الله تعالى مستوفي أجل عيسى عليه‌السلام ، بل المستوفي هو عيسى نفسه ، والله الموفي ، أي معطيه تمام أجله.

فقد التبس التوفّي على أصحاب هذا التفسير ـ والعجب أنّ فيهم الزمخشري ـ بالتوفية الّتي تتعدّى إلى مفعولين ، وهو خطأ لغويّ ظاهر.

وفيه أيضا تقدير مضاف بين التوفّي وضمير الخطاب ، حيث قال الله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي مستوفيك لا مستوفي أجلك ، فزيادة «الأجل» تكون زيادة على النصّ ، كما أنّ زيادة الروح في آيتي رفع عيسى عليه‌السلام نفسه زيادة على النصّ من جانب الشيخ شلتوت ؛ لإرهاق قول الله على خلاف ظاهر المعنى المنصوص.

وهذه الزيادة إن كانت خلاف الظاهر بين الرافع وضمير الخطاب في قوله : (وَرافِعُكَ) بأن يكون المعنى : ورافع روحك ، فهي في قوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) أشدّ من خلاف الظاهر ، أي غير جائز أصلا ؛ لكونها مفسدة لما يقتضيه «بل» ، من كون ما بعده وهو «رفعه الله

٣١٥

إليه» ضدّ ما قبله وهو قوله «ما قتلوه» ، بناء على أنّ رفع الروح يلتئم كما قلنا من قبل مع حالة القتل أيضا الّذي اعتني بنفيه ، فضلا عن أنّ هذا الرفع ـ أي رفع الروح ـ ليس بأمر يستحقّ الذكر في شأنه عليه‌السلام.

بل إنّ قوله : (مُتَوَفِّيكَ) أيضا ممّا لا وجه لذكره إذا كان المعنى : مميتك ، ففي أيّ زمان تقع هذه الإماتة؟ فإن وقعت حالا ، أي في زمان مكر أعدائه به المذكور قبيل هذه الآية ، كان هذا الكلام المتوقّع منه طمأنته عليه‌السلام على حياته أجنبيّا عن الصدد ، بل مباينا له ؛ لأنّ فيه اعترافا ضمنيّا لنفاذ مكرهم بأن يكونوا قاتليه والله قابض روحه ، فهل فضيلة الشيخ شلتوت ينكر أنّهم ما قتلوه كما ينكر أنّ الله رفعه إلى السماء حيّا؟ وإن وقعت إماتته في المستقبل البعيد فليس في الآية تصريح به مع أنّ مقام الطمأنة يقتضي هذا التصريح ، كما أنّه يقتضي كون الرفع رفعه حيّا ، فحيث لا تصريح بكون إماتته في المستقبل البعيد ، فقوله : «إنّي متوفّيك» على معنى : إنّي مميتك ، أجنبيّ عن المقام ، حتّى إنّ توجيه العالم الكبير حمدي الصغير صاحب التفسير الكبير الجديد التركي ، بكون ذكر إماتته ردّا على عقيدة النصارى في تأليه المسيح ، لا يجدي في دفع هذا الاعتراض ؛ لكون ذلك الردّ أيضا أجنبيّا عن المقام الّذي هو مقام الطمأنة والّذي ينافيه كلّ ما ينافيها. فالواجب الّذي لم يحسّ بوجوبه أحد ممّن تكلّم قبلي ، واطّلعت عليه في تفسير قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) إحساسي به ، حمل (مُتَوَفِّيكَ) على معنى : آخذك تماما ، السالم عن جميع الاعتراضات والتكلّفات.

وقس عليه التوفّي في آية المائدة ، وهي قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ

٣١٦

سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) (١) ، ومعنى قوله : «فلمّا توفيتني» : فلمّا أخذتني من بينهم ، جعلت صلتي بهم وبعالمهم الأرضيّ منتهية.

فالمراد «توفّيه» أي أخذه بالرفع لا بالإماتة ، وقد علمت أنّ التوفّي في اللغة وفي عرف القرآن لا يختصّ بالأخذ من النوع الثاني ، أي أخذ الروح.

هذا تفصيل ما ورد في القرآن متعلّقا برفع عيسى عليه‌السلام ، وفيه فضلا عن الآيات المذكورة آيتان يفهم منهما نزوله في آخر الزمان ، فيكون فيهما ـ أيضا ـ دليلان على السابق ، كما كانت في أحاديث النزول أدلّة ، وليس الأمر كما توهّم الشيخ من أنّ حادثة الرفع لم يقم عليها دليل في القرآن ، ولا محلّ لنزوله بعد سقوط رفعه ... ، ليس الأمر كما توهّم ، بل كلّ من آيتي الرفع وقد سبق ذكرهما ، وآيتي النزول وهما قوله تعالى في سورة النساء : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) (٢) ، وقوله في سورة الزخرف : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) (٣) يعضد بعضهما بعضا ، ولا يستطيع الشيخ المنكر لنزوله عليه‌السلام في آخر الزمان أن يجد تأويلا لآيتي النزول المذكورتين من دون أن يذهب إلى تكلّفات بعيدة ، كما لا يستطيع أن يجد جوابا لما ذكرنا في آيتي الرفع من القرائن

__________________

(١) المائدة : ١١٦ و ١١٧.

(٢) النساء : ١٥٩.

(٣) الزخرف : ٦١.

٣١٧

الّتي لا تتمشّى مع مذهبه الّذي هو رفع روحه فقط.

فظهر ممّا سبق جميعا أن رفع عيسى عليه‌السلام بالمعنى الّذي يعتقده المسلمون مذكور في القرآن خمس مرّات : صراحة في آيتي الرفع ، واقتضاء في آيتي النزول ، وتلميحا في آية تطهيره من الّذين كفروا.

ولك أن تضمّ إليها قوله تعالى عنه عليه‌السلام : (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (١) ، ففيه إشارة إلى رفعه إلى محلّ الملائكة المقرّبين ، بل في قوله أيضا : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (٢) لأنّ الوجيه بمعنى ذي الجاه ، ولا أدلّ على كونه ذا جاه في الدنيا من رفعه إلى السماء ، وقوله عن أعدائه : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣) ، فيبلغ أدلّة القرآن على ثمانية.

ومن العجائب أنّ فضيلة الشيخ شلتوت عاكس الواقع مرّة اخرى ، فحاول أن يستخرج من آية المكر دليلا ضدّ الرفع منكرا لأن يكون في رفعه إلى السماء حيّا مكر من الله بأعدائه الماكرين ، وعنده أنّ مكر الله بهم المتغلّب على مكرهم بنبيّه حاصل في إماتته ورفع روحه إليه ، لا في رفعه حيّا ، فكأنّ الله نفّذ ما أراد أعداؤه أن يفعلوه به ، فقتله قبل أن يقتلوه ، أو نفّذ قتلهم بإماتته ، فكان الله إذا مساعدهم لا ماكرا بهم.

وانظر بعد هذا التوجيه بالنسبة إلى مكره بهم في رفع نبيّه إليه حيّا ، وجعل مسعاتهم لقتله في خياب وهباب ... هذا مع أنّ تمام مكر الله بهم

__________________

(١) آل عمران : ٤٥.

(٢) آل عمران : ٤٥.

(٣) آل عمران : ٤٥.

٣١٨

مذكور في قوله : (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (١) بعد قوله : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) (٢) الّذي تغاضى عنه الشيخ بالمرّة.

وقول القرآن عن سيّدنا المسيح : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) ، (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) (٣) لو لم يفهم منه رفع المسيح حيّا وإنّما رفع روحه ، كما زعمه الشيخ وأصرّ على زعمه ، فإذن يمكن أن يقول قائل : إنّ القرآن لا ينفي قتل المسيح وصلبه في صورة قاطعة ؛ لأنّ رفع روحه إلى الله لا ينافي كونه مقتولا ومصلوبا بأيدي أعدائه ، وإنّما يكون هذا القول بأنّهم ما قتلوه وما صلبوه من قبيل الهزل ، كما لو قتل أحد إنسانا ثمّ قال في المحكمة : لم أقتله ولم أقبض روحه وإنّما الله قبض روحه! فلو أنّ الشيخ صاحب هذا التأويل الّذي يأمره به هواه لإنكار معجزة الرفع لم يغب عنه أنّ القرآن كلام الله ، لصانه عن أن لا يكون لنفيه القتل والصلب عن المسيح إلّا قيمة هزليّة!!

أمّا الكلام عن المانع الحقيقيّ عند كتّاب العصر الحديث وأتباعهم من علماء الأزهر عن الاعتراف بمعجزات الأنبياء عليهم‌السلام الكونيّة ، وغيرها ممّا يخالف سنّة الكون ، كرفع عيسى ونزوله ، ووجود الشيطان فيضطرّهم بسبب هذه المخالفة إلى تكذيب الأحاديث الواردة بشأنه ، وتأويل الآيات ، مهما كانوا ظالمين لأئمّة الحديث في التكذيب ، ومبتعدين عن منطوق الآيات في التأويل ، بل ظالمين أحيانا في تأويل الآيات أيضا كقول الشيخ شلتوت في مسألة وجود الشيطان : إنّ القرآن جار فيه عقيدة العرب الجاهلين ، وقول الاستاذ فريد وجدي بك في آيات

__________________

(١) النساء : ١٥٧.

(٢) النساء : ١٥٧.

(٣) النساء : ١٥٨.

٣١٩

المعجزات والبعث بعد الموت : إنّها آيات متشابهة غير مفهومة المعاني!

أمّا الكلام على هذا المانع فقد وفّيت حقّه في أوائل هذا الباب ، كما لم آل فيما سبقه من الكتاب جهدا لحلّ شبهة العصريّين من الكتّاب والعلماء الّذين لا يؤمنون بالغيب (١).

وإذ وقفت على ما ذكره هذا الشيخ من أهل السنّة فاسمع إلى ما ذكره معاصره من الشيعة أيضا في ذلك ، وهو الشيخ المجاهد المدافع عن حريم الإسلام والتوحيد والقرآن الشيخ البلاغي في مقدّمة تفسيره القيّم «آلاء الرحمن في تفسير القرآن» قال : ومن شواهد ما ذكرناه هو الاضطراب في معنى التوفّي ، وما استعمل في لفظه المتكرّر في القرآن الكريم ، فاللغويّون جعلوا الإماتة في معنى التوفّي ، والكثير من المفسّرين في تفسير قوله تعالى في سورة آل عمران / ٤٨ : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) قالوا : أي مميتك ، وقال بعض : مميتك حتف أنفك ، وقال بعض : مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ، وكأنّهم لم ينعموا الالتفات إلى مادّة «التوفّي» واشتقاقه ، ومحاورات القرآن الكريم ، والقدر الجامع بينها ، وإلى استقامة التفسير لهذه الآية الكريمة ، واعتقاد المسلمين بأنّ عيسى لم يمت ولم يقتل قبل الرفع إلى السماء كما صرّح به القرآن ، وإلى أنّ القرآن يذكر فيما مضى قبل نزوله أنّ المسيح قال لله : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) ، ومن كلّ ذلك لم يفطنوا إلى أنّ معنى التوفّي والقدر الجامع المستقيم في محاورة القرآن فيه وفي مشتقّاته ، إنّما هو الأخذ والاستيفاء ، وهو يتحقّق بالإماتة ، وبالنوم ، وبالأخذ من الأرض وعالم البشر إلى عالم السماء.

__________________

(١) موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين وعباده المرسلين : ج ٤ ص ١٧٤ ـ ١٨٢.

٣٢٠