منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام - ج ٣

لطف الله الصافي الگلپايگاني

منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

لطف الله الصافي الگلپايگاني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مكتب المؤلّف دام ظلّه
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٢

حول اختلاف الأخبار

في مدّة دولته وبقائه عليه‌السلام

بعد ظهوره

٢٦١
٢٦٢

اعلم أنّنا لم نخرج الأخبار المتعارضة في هذا الكتاب إلّا للاستناد بمداليلها الّتي اتّفقت هذه الأخبار عليها ، لأنّه ربّما تكون هناك قرائن توجب القطع بصدور بعضها ، أو يستكمل بضمّها إلى غيرها التواتر المعنوي أو الإجمالي.

وأمّا في مورد تعارض بعضها مع بعض فلا نحتجّ بواحد من المتعارضين فيما هو المطلوب فيه الاعتقاد به دون العمل ، لأنّه لا اعتبار بخبر الواحد فيه ؛ لعدم سببيّته لحصول الاعتقاد حتّى وإن لم يكن له معارض من سائر الأخبار ، فلا تشمله الأدلّة الّتي اقيمت على حجّيّة الخبر وقول الثقة في الأحكام العمليّة ، لأنّ اعتباره في الأحكام معناه وجوب العمل به ، والأخذ به في البرامج العمليّة التكليفيّة ، وهذا أمر يجوز صدوره من الشارع تأسيسا أو إمضاء ، كما قرّر وجوب العمل بالبيّنة في مواردها المعلومة ، وأمّا في غير الأحكام ممّا يتطلّب فيه العلم والعقيدة به ـ حيث إنّ الخبر الواحد لا يوجب الاعتقاد ـ فلا يصحّ إيجاب الاعتقاد بمضمونه ، لأنّه أمر لا يتحصّل إلّا بسببه ، وهو في باب الأخبار : الخبر المقطوع صدوره بالتواتر ، أو القرائن الموجبة للقطع ، والمقطوع دلالته.

٢٦٣

ومع ذلك لا حاجة إلى تشريع الشارع اعتباره ووجوب الاعتقاد به ؛ لأنّ الاعتقاد به يتحقّق حينئذ بنفسه.

وأمّا إذا لم يكن الخبر كذلك ، وكان ظنّي الصدور ، أو ظنّيّ الدلالة ، فلا يتأتّى منه القطع بمضمونه ، ولا يجوز للشارع التكليف بالاعتقاد به ، لأنّ معناه : جعل ما هو علّة للظنّ بالذات علّة للقطع ، وإيجاب القطع بأمر هو المظنون بالذات ، وهو محال ، وخارج عن شأن الشارع.

وبالجملة : في التكاليف العمليّة مفاد دليل حجّيّة الخبر فيها إنّما يكون وجوب البناء العملي عليه ، والجري على طبقه عملا ، وهو أمر ممكن يجوز التعبّد به من الشارع ، وأمّا الاعتقاد فلا يجوز فيه ذلك. ولا فرق في ذلك ـ كما أشرنا إليه ـ بين خبر الواحد السالم عن المعارض إذا لم يكن صدوره أو دلالته يقينيّا ، وبين الخبر المبتلى بالمعارض ، سواء عولج تعارضه مع غيره بوجه من الوجوه من الجمع العرفيّ أو الترجيح ببعض المرجّحات أم لا.

ولا يخفى عليك أنّه لا يضرّ اختلاف الأخبار في تفاصيل أمر من الامور بصحّة أصله الثابت بالأحاديث المتواترة أو الآحاد الصحيحة ، حتّى وإن لم يظهر لنا وجه الاختلاف ، ولا وجه علاجه.

ولا يستلزم التعارض العلم بمخالفة أحد المتعارضين مع الواقع مطلقا ، حتّى في غير خصوص المورد الّذي وقع التعارض فيه بينهما حتّى يسقط فيه عن الحجّيّة أيضا ، وذلك لأنّ التعارض في الأخبار يمكن وقوعه لأحد امور :

الأوّل : عدم ضبط بعض الرواة ، واختلاف حالاتهم عند تحمّل

٢٦٤

الحديث ، وحالات من يملي الحديث ، ممّا ـ ربّما ـ يوجب الضعف أو اختلال بعض الشرائط العاديّة العرفيّة لتحمّل الحديث.

الثاني : النقل بالمضمون ، حيث إنّه قلّما يخلص عن اجتهاد الناقل ، واعتماده على ما فهمه من كلام المنقول منه ، من حيث : الإطلاق والتقييد ، والعموم والخصوص ، والحقيقة والمجاز ، وغيرها.

الثالث : كون نقل الحديث في الصدر الأوّل ـ كثيرا أو غالبا ـ عن ظهر القلب لا من الكتاب ، مضافا إلى منع الفئة الغالبة على الحكم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الحديث عنه ، فانقطع بذلك عند غير شيعة أهل البيت عليهم‌السلام سلسلة النقل والرواية عنه إلى زمان عمر بن عبد العزيز ، بل إلى انقضاء حكومة بني اميّة على اختلاف وقع بين أرباب التواريخ في أوّل زمان رفع المنع الحكومي عن التحدّث بأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأوّل من نهى عن كتابة الحديث هو عمر بن الخطّاب ، حيث نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كتابة ما لم يضلّوا بعده فقال ما قال ، وكان ابن عبّاس يقول : الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم ، وعن أبي بكر أنّه قال : ... فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه (١). وكان عمر شديد المنع من رواية الأحاديث.

والمتدبّر يفهم أنّ ذلك لم يكن منهم إلّا لعلّة سياسيّة ، وهي المنع عن روايات فضائل أهل البيت ، سيّما أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ،

__________________

(١) تذكرة الحفّاظ : ج ١ ص ٣.

٢٦٥

لأنّها توجب الوهن في حكوماتهم ، وتعلن مخالفتهم للنصوص ، وتوجب ميل القلوب إلى أهل البيت عليهم‌السلام.

الرابع : عدم نقل بعض القرائن الحاليّة والمقاميّة الّتي لها دخل في فهم المخاطب مراد المتكلّم من كلامه ، بحيث يكون خلوّ الكلام من هذه القرائن أو عدم التفات بعض الحاضرين بها موجبا لاستظهار معنى آخر من حاق لفظه.

الخامس : تقطيع الحديث ، ورواية بعضه الّذي تعلّق بنقله غرض الراوي ، من بيان حكم ، أو إثبات أمر ، أو غير ذلك ، سواء وقع التقطيع في ألفاظ الحديث ومتنه أو وقع في نقل مضمونه ، ولا ريب أنّ ذلك ربّما يؤثّر في دلالة الكلام على مدلوله الواقعي أو بعض مداليله ، فلعلّ التقطيع لا يضرّ باستفادة ما أراد المقطّع من الكلام ، ولكن يضرّ باستفادة السائرين أو سائر ما يستفاد من الكلام من امور كان دالّا عليها لو لا التقطيع.

السادس : كلّ ذلك يكون وليس لأحد عمد في إيقاع الاختلاف والاشتباه ، وقد يتحقّق بالعمد ، وسوء النيّة ، والأغراض الفاسدة سيّما السياسيّة منها ، وهذا تارة يتحقّق بوضع الحديث رأسا ، وتارة بزيادة أمر فيه ، أو إسقاط جملة منه ، ممّا ـ ربّما ـ يعرفه الخبير بالأحاديث والأسناد.

السابع : ممّا يؤثّر في وقوع الاختلاف في الأحاديث جهة الصدور ، فإنّ الأصل في المحاورات أن يكون جهة صدور الكلام عن المتكلّم بيان مفاده العرفي والظاهري ، وإذا كان جهة صدور الكلام فيه أمرا آخر ، مثل : المزاح ، أو الحذر من الضرر ووقوع الفتنة ، أو التقيّة ، فينفي مثلا أمرا أثبته جدّا في كلامه الآخر ، ويقول : إذا كان في مقام التقيّة مثلا :

٢٦٦

(لا) في مقام (نعم) ، فيقع التعارض بين الكلامين ، ولا يدري من ليس عارفا بالحال ، ولا معرفة له بمقاصد المتكلّم وآرائه الظاهرة أن أيّهما المراد ، فيحكم بالتعارض.

ثمّ إنّه بعد ما عرف أنّ الاختلاف إنّما يقع بسبب من الأسباب المذكورة ، ففي كلّ مورد تحقّق التعارض بين الخبرين بالتباين لا بدّ من العمل بالقواعد المذكورة في باب التعادل والترجيح ، من ملاحظة المرجّحات السنديّة ، ثمّ الجهتيّة ، ثمّ الدلاليّة ، مثلا : يؤخذ برواية كان راويها ضابطا حافظا ، أو أضبط وأحفظ دون غيرها ، أو رواية لا يمكن حملها على صدورها لغير جهة بيان الواقع دون ما يجوز ذلك فيه ، ويمكن حمل صدورها بملاحظة بعض الشواهد والقرائن على التقيّة أو جهة اخرى ، أو يؤخذ بالرواية المنقولة بألفاظها ، أو ما لم يقع فيه التقطيع على المنقول بالمضمون ، أو ما وقع فيه التقطيع ، وكذا يؤخذ بما هو موافق لعموم الكتاب أو إطلاقه ، دون المخالف لواحد منهما (١).

وإن كان الخبران من جميع ما ذكر في باب المرجّحات ، خارجيّة كانت أم داخليّة ، متساويين متكافئين ، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر ، فيتساقطان ولا يحتجّ بواحد منهما.

ولا يخفى عليك أنّ ما ذكرناه من إعمال المرجّحات ، والأخذ بما فيه جهة من جهات الترجيحات العرفيّة أو الشرعيّة ـ كما صرّحنا به ـ لا يجري إلّا في الأخبار المأثورة في فروع الدين ، وما يراد منه العمل دون الاعتقاد ، وأمّا ما يطلب فيه الاعتقاد فلا يحتجّ فيه بخبر الواحد السليم عن

__________________

(١) وأمّا الخبر المعارض لواحد منهما إذا لم يكن مبتلى بالمعارض فهو حجّة إذا كان واجدا لشرائطها فيخصّص أو يقيّد به عموم الكتاب أو إطلاقه ، دون ما إذا كان تعارضه مع الكتاب بالتباين فإنّه لا يجوز الأخذ والاحتجاج به.

٢٦٧

المعارض ، فضلا عن غيره ، إلّا إذا كان مقطوع الصدور والدلالة ، كالخبر المتواتر المقطوع صدوره.

فعلى هذا لا يحتجّ بخبر الواحد المظنون صدوره في تفاصيل علائم المهدي عليه‌السلام ، وأوصافه ، وخصائصه ، وغير ذلك من الامور الّتي المطلوب فيها هو الاعتقاد بها ، سواء كان له معارض من سائر الأخبار أم لا.

إذا عرفت ما تلونا عليك فاعلم : أنّه ربّما يقال في الأخبار الواردة في مدّة ملكه ودولته عليه‌السلام : إنّها بما فيها من الاختلاف في تعيين تلك المدّة أكثرها لقلّة ما عيّن فيه من سنيها لا يناسب هذا الظهور المبشّر به على لسان الأنبياء ، المفسّر به آيات من القرآن الكريم ، مثل قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ ...) (١) وقوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ...) (٢) وقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ...) (٣) ويقع (أي الظهور) بعد وقوع البشريّة طول تاريخ مجتمعها ومدنيّتها تحت سلطان ظلم الظالمين ، وأنواع الاضطهاد ، وليس هذا إلّا مثل أن يبشّر مسجون حكم عليه بالسجن الدائم ، ومات أبوه وأجداده قبله في السجن : إنّك ستخلص من السجن في آخر ساعة أو يوم من حياتك ، فمستقبلك يكون بذلك مستقبل خير وأمن وعدل. أليس له أن يقول : ما قيمة هذا في جنب هذا السجن الطويل الّذي فقدت فيه أبي وجدّي و... ، ورأيت فيه أنواع المحن والفتن.

__________________

(١) الأنبياء : ١٠٥.

(٢) القصص : ٥.

(٣) النور : ٥٥.

٢٦٨

اذن فيقال : ما قيمة سبع سنين ، أو تسع ، أو تسع عشرة وأشهر ، أو عشرين ، أو ثلاثين ، أو أربعين ، في حساب مكث البشريّة طوال تاريخها الطويل في الشدائد والمحن والظلم والجور.

والجواب عن ذلك : أنّه قد ظهر لك أنّه لا اعتداد بأخبار الآحاد في مثل هذه الامور الّتي لا يأتي الاعتقاد بها منها ، وحيث لم يصل إلينا خبر قطعي من الرسول الصادق المصدّق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن أوصيائه وورثة علمه بتعيين مدّة ملكه ، فنترك الاحتمالات بحالها ، فمنها : أنّها على ما في بعض الأخبار تبلغ ثلاثمائة وتسع سنين ، ومنها : امتداد الزمان ، فيكون يوم كشهر ، وشهر كسنة ، ولا بعد ، فإنّه كما يوسع المكان والفضاء ، قال الله تعالى : (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (١) يوسع الله تعالى الزمان ، قال الشبلنجي : السنة من سنيه مقدار عشر سنين (٢). وقال البكري في الهدية : والّذي يلوح للسرّ الممنوح أنّه يمتدّ الزمان ، ويتّسع له الأوان (٣). ويؤيّد ما قالاه بعض الأخبار. ومنها : أنّها يمتدّ نظامها بامتداد الرجعة على بعض التفاصيل المذكورة في الأخبار ، ومنها غير ذلك.

فإن قلت : قد علم ذلك ممّا ذكرت ، ولكن لنا ردّ هذه الأخبار الواردة في مدّة ملكه ، سيّما ما حدّدتها بمدّة قصيرة ، مثل : الخمس ، والسبع ، والتسع ، ونحو ذلك بالبيان السابق.

قلت : أوّلا : يمكن حمل المدّة المعلومة في هذه الأخبار على الرمز ، بشهادة خبر «عقد الدرر» (٤) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وخبر

__________________

(١) الذاريات : ٤٧.

(٢) نور الأبصار : ص ١٨٩.

(٣) العطر الوردي : ص ٧٠.

(٤) تقدم تحت الرقم ١١٩٩.

٢٦٩

«الإرشاد» (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وبعد هذا الاحتمال لا يجوز ردّه.

وثانيا : نقول : لم لا يجوز أن تكون مدّة حكمه عليه‌السلام في كمال استيلائه وسلطنته على الشرق والغرب ، وامتلاء الأرض بالعدل والقسط ، عوضا عن المدّة الّتي تمتلئ الأرض من الظلم والجور ، وخفاء الحقّ حتّى لا يقول أحد : الله ، إلّا متخفّيا؟

وأمّا الجور الّذي لا يعمّ البسيطة ، والباطل الّذي يعرض الحقّ قباله فهو أمر يقتضيه طبع هذا العالم المادي ، ولا يزول إلّا في مدّة غلبة حكمه على جميع الأرض.

ولا نقول هذا إلّا على سبيل إبداء الاحتمال ، وبيان عدم جواز ردّ هذه الأخبار والحكم عليه بالبطلان كلا أم بعضا. ونسأل الله الهداية والأمن من الزلّة والضلالة.

هذا واعلم أنّ العلامة المجلسي ـ قدس‌سره ـ قال في مقام الجمع بين هذه الأخبار المختلفة في أيّام ملكه عليه‌السلام : بعضها محمول على جميع مدّة ملكه ، وبعضها على زمان استقرار دولته ، وبعضها على حساب ما عندنا من السنين والشهور ، وبعضها على سنيه وشهوره الطويلة ، والله يعلم (٢).

وقال الشريف البرزنجي : وردت في مدّة ملك المهدي روايات مختلفة ، ففي بعض الروايات : يملك خمسا أو سبعا أو تسعا بالترديد ، وفي بعضها : سبعا ، وفي بعضها : تسعا ، وفي بعضها : إن قلّ فخمسا

__________________

(١) تقم تحت الرقم ١٢٠٣.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥٢ ص ٢٨٠.

٢٧٠

وإن كثر فتسعا ، وفي بعضها : تسع عشرة سنة وأشهرا ، وفي بعضها : عشرين ، وبعضها : أربعة وعشرين ، وبعضها : ثلاثين ، وبعضها : أربعين منها تسع سنين يهادن فيها الروم.

قال ابن حجر في «القول المختصر» : ويمكن الجمع على تقدير صحّة الكلّ بأنّ ملكه متفاوت الظهور والقوّة ، فيحمل الأكثر على أنّه باعتبار جمع مدّة الملك ، والأقلّ على غاية الظّهور والأوسط على الوسط ، انتهى.

قلت : ويدلّ على ما قاله وجوه :

الأوّل : أنّه صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بشّر امّته وخصوصا أهل بيته ببشارات ، وأنّ الله يعوّضهم عن الظلم والجور قسطا وعدلا ، واللائق بكرم الله أن تكون مدّة العدل قدر ما ينسون فيه الظلم والفتن ، والسبع والتسع أقلّ من ذلك.

الثاني : أنّه يفتح الدنيا كلّها كما فتحها ذو القرنين وسليمان ، ويدخل جميع الآفاق كما في بعض الروايات ، ويبني المساجد في سائر البلدان ويحلّي بيت المقدس ، ولا شكّ أنّ مدّة التسع فما دونها لا يمكن أن يساح (١) فيها ربع أو خمس المعمورة سياحة ، فضلا عن الجهاد وتجهيز العساكر وترتيب الجيوش وبناء المساجد وغير ذلك.

الثالث : أنّه ورد أنّ الأعمار تطول في زمنه كما مرّ في سيرته ، وطولها فيه مستلزم لطوله ، وإلّا لا يكون طولها في زمنه ، والتسع وما دونه ليست من الطول في شيء.

__________________

(١) هذا في زمانه وفي زماننا أمكن سياحة جميع المعمورة بمدّة أقلّ من ذلك بكثير ، تعدّ بالأيّام والساعات.

٢٧١

الرابع : أنّه يهادن الروم تسع سنين. الخ (١) ونحوه قاله السفاريني (٢) ، والصبّان (٣) ، وشارح القطر الشهدي (٤) ، وغيرهم.

أقول : يؤيّد ما قاله البرزنجي من أنّ الأعمار تطول الخبر الّذي رواه المفيد في «الإرشاد» ، والشيخ في «الغيبة» عن المفضّل بن عمر وإن كان لا يخلو من الغرابة ، ففيه : روى المفضّل بن عمر قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إنّ قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنورها ، واستغنى العباد عن ضوء الشمس ، وذهبت الظلمة ، ويعمر الرجل في ملكه ... الحديث (٥).

ولا يخفى عليك أنّا ذكرنا ما ذكرنا عن العلامة المجلسي ـ قدس‌سره ـ والبرزنجي وغيرهما استطرادا ، وإلّا فالتحقيق المعتمد عليه في هذا الموضوع ما ذكرناه ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) الإشاعة : ص ١٠٥ و ١٠٦.

(٢) لوائح الأنوار الإلهيّة : ص ٢٠.

(٣) إسعاف الراغبين : ص ١٤٠ و ١٤١.

(٤) العطر الوردي : ص ٧٠.

(٥) إرشاد المفيد : ص ٣٦٣ ف ذكر مدّة ملك القائم ؛ غيبة الشيخ : ص ٢٨٠ ف صفاته ومنازله وسيرته.

٢٧٢
٢٧٣

حول الأخبار المأثورة

في الدجّال

٢٧٤

اعلم أنّ الأخبار المخرّجة في جوامع حديث العامّة وصحاحهم ومسانيدهم في الدجّال كثيرة جدّا ، أخرجوها عن أكثر من أربعين صحابيّا وصحابيّة ، مثل : أبي سعيد ، وجابر بن عبد الله ، وابن عمرو ، وأبي بكر ، وحذيفة ، وابن مسعود ، وعبد الله بن مغنم ، ومعاذ بن جبل ، واسامة ، وسمرة بن جندب ، وأبي بكرة ، وأبي امامة ، والنوّاس بن سمعان ، وابيّ بن كعب ، وأبي عبيدة ، وسلمة بن الأكوع ، وعمرو بن عوف ، وعبد الله بن بشير ، وفاطمة بنت قيس ، وأبي هريرة ، وعبادة بن الصامت ، وعمران بن حصين ، والمغيرة بن شعبة ، وعائشة ، وابن عبّاس ، وسعدة ، وأبي الدرداء ، وأمّ سلمة ، وأسماء بنت يزيد ، وهشام بن عامر ، ومجمع بن جارية ، وغيرهم وقد ادّعوا تواترها ، وقال بعضهم : إنّ أخباره تحتمل مجلّدا ، كما أفردها بالتأليف غير واحد منهم ؛ كأبي عمرو الداني.

والظاهر من أرباب الجوامع وأئمّتهم في الحديث الاعتماد على هذه الأخبار ، والاحتجاج بها ، وشدّة الإنكار على من ينكرها ، مع ما في إسناد أكثرها من العلل ، والذي ينبغي أن يقال : إنّ هذه الأخبار من حيث المتن على طائفتين :

٢٧٥

إحداهما : ما ليس فيه ما يخالف ضرورة العقل والنقل ، ويؤيّد بعضه بعضا ، فشأن هذه الطائفة وشأن سائر أخبار الملاحم سواء ، فإن ثبت الإخبار بها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجب قبولها والإيمان بها ، كرواية خروج شخص في آخر الزمان لقّب في لسان هذه الأخبار بالدجّال ، يدّعي الالوهيّة ، ويدعو الناس إلى نفسه ، ويصدر منه بعض التمويهات ، وتغطية الباطل بالحقّ ، يهلك بإضلاله جماعات من الناس ، يؤمنون به طمعا أو خوفا ، أكثر أتباعه العثمانيّون واليهود والنساء ....

وهذه مثل : رواية الفتن والمسند وغيرهما عن هشام بن عامر ، وحديث مسلم عن أمّ شريك ، وحديث أبي داود عن عمران بن حصين فيمن سمع بالدجّال ، وحديث مسلم عن المغيرة : هو أهون على الله من ذلك (يعني : من أن يكون معه جبال من خبز ولحم ، ونهر من ماء) ، وحديث أنس وأبي هريرة وعائشة وابن عبّاس وسعد وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه وغيره : اللهمّ إنّا نعوذ بك من عذاب جهنّم ... ومن فتنة المسيح الدجّال ، وحديث أبي داود عن أبي الدرداء : من حفظ عشر آيات ... ، وحديث مسلم عن نافع بن عيينة : تغزون جزيرة العرب ... ثمّ يغزون الدجّال فيفتحه الله تعالى ، وحديث أحمد عن معاذ بن جبل : ... عمران بيت المقدس وخراب يثرب والملحمة وفتح القسطنطينيّة وخروج الدجّال في سبعة أشهر ، وحديث مسلم عن حذيفة ، والفتن عن حذيفة بن اليمان ، وحديثه الآخر عن أنس ، وحديث ميزان الاعتدال عن زيد بن وهب عن حذيفة ، وحديث المسند عن أبي وائل عن حذيفة ، وحديث المسند عن أبي ذر ، وحديث أبي ظبيان عن عليّ عليه‌السلام ، وخبر

٢٧٦

أحمد عنه عليه‌السلام : غير ذلك أخوف لي عليكم ، وخبر أحمد عن جابر الّذي فيه : وأكثر من يخرج إليه من النساء وفيه : ويكون معه سبعون ألفا من اليهود ، وخبر أحمد عن هشام بن عامر : أنّ رأس الدجّال من ورائه حبك حبك فمن قال : أنت ربّي افتتن ، ومن قال : كذبت ربّي الله عليه توكّلت فلا يضرّ ، أو قال : فلا فتنة عليه ، وخبره عن ابن عمر فيه : أكثر من يخرج إليه النساء ، وخبره عن عثمان بن أبي العاص فيه : أكثر من معه اليهود والنساء (١) ، وفي هذا الخبر إشارة إلى ظهور المهدي عليه‌السلام إذ فيه : فبينما هم كذلك (أي المسلمون في المجاعة الشديدة وغيرها) إذ نادى مناد من السحر : يا أيّها الناس أتاكم الغوث (ثلاثا). وهناك من الأحاديث أكثر ممّا ذكرناه ، فلا نطيل الكلام بنقل أكثر من ذلك.

وهذه الطائفة من حيث المضمون يكون احتمال وقوع مضمونها مقبولا لا يرى في وقوعه مانع من العقل أو الشرع ، ولا يجوز ردّ احتمال وقوعه بمجرّد الاستبعاد والاستغراب بعد ما جاء أغرب منه في الملاحم الّتي اخبر عنها في الكتاب والسنّة الصحيحة.

نعم في إسناد كثير منها علل توجب ضعفها وتركها ، وعدم الوثوق بصدورها ومن حدّث بها ، ومع ذلك لا يكون هذا مجوّزا لحمل هذه الأخبار على خلاف ظاهرها والأخذ بها ، بل يعامل معها بقاعدة الإمكان.

لا يقال : ربّما تكون هذه الأخبار العليلة من الكثرة بحيث توجب

__________________

(١) قال محقّق (نهاية البداية والنهاية) : «أكثر من معه اليهود والنساء» إشارة الى أنّ الدجّال يستعين في بثّ سمومه باليهود أهل الغدر ، وبالجنس حبالة الشيطان ، واليهود منذ كانوا يتّخذون من الجنس وسيلة للوصول إلى أغراضهم الخبيثة ، ومقاصدهم السيّئة.

٢٧٧

اليقين بالتواتر الإجمالي أو المعنوي ، وبعبارة اخرى : توجب كثرتها اليقين بصدور بعضها ولو واحد منها ، أو اليقين بصدور مضمون ما اتّفق عليه الكلّ الّذي نعبّر عنه بالتواتر المعنوي ، فإنّه يقال : لا بأس بذلك ، إلّا أنّ هذا أيضا لا يوجب حمل ما تواترت عليه الأخبار بالإجمال أو بالمعنى على خلاف الظاهر ، وتأويله بمجرّد الاستغراب ، ولا حمل سائر ما تضمّنته هذه الأخبار المحقّقة للتواتر على خلاف الظاهر ، كما سيأتي بيان ذلك.

وأمّا الطائفة الثانية : وهي الّتي لا يصحّ حملها على ظاهرها عقلا أو شرعا ، ويترك ظاهرها مطلقا وإن وجد فيها (ولا يوجد) ما لا بأس بسنده ، فهي أيضا من طرق أهل السنّة كثيرة جدّا ، فيها من الأعاجيب والأقاصيص امور لا تقبلها النفوس السليمة ، والعقول المستقيمة المؤمنة بالدعوة المحمّديّة البيضاء ، والرسالة الّتي هي أحكم الرسالات وأتمّها ، المنزّهة عن المجون والخرافات.

وهذه مثل : خبر الجساسة والدجّال الّذي رووه عن فاطمة بنت قيس ، وما رووه في ابن صيّاد ، وخبر مسلم عن جابر الذي فيه : أنّ له حمارا يركبه عرض ما بين اذنيه أربعون ذراعا ، وأنّ معه جبالا من خبز ، وأنّ معه نهرين ، وخبره عن النوّاس بن سمعان ، وخبره أيضا عن أبي الودّاك عن أبي سعيد ، وخبر أحمد أيضا عن ابي الوداك عنه وخبر احمد عن أسماء بنت يزيد ، وخبر ابن ماجة عن أبي امامة ، وخبر أحمد عن سفينة ، وخبر الطبراني عن مجاهد عن ابن عمرو ، وخبر أحمد عن الحسن البصري عن عائشة ، ومرسل محسن البصري الّذي رواه الذهبي عنه ، وخبر الطبراني عن سلمة بن الأكوع ، والخبر الّذي رواه ابن المنادى

٢٧٨

عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، وخبر حذيفة الّذي فيه : يخرج الدجّال عدوّ الله ومعه جنود من اليهود وأصناف من الناس ، ومعه جنّته وناره ، ورجال يقتلهم ثمّ يحييهم ، ومعه جبل من ثريد ، ونهر من ماء ... ، وفيه : يبعث الله إليه الشياطين من مشارق الأرض ومغاربها ، فيقولون له : استعن بنا على ما شئت ، فيقول : نعم انطلقوا فأخبروا الناس أنّي ربّهم ، وأنّي قد جئتهم بجنّتي وناري ، فتنطلق الشياطين فيدخل الرجل أكثر من مائة شيطان ، فيتمثّلون له بصورة والده وإخوته ومواليه ورفيقه ، فيقولون : يا فلان أتعرفنا؟ فيقول لهم الرجل : نعم هذا أبي وهذه امّي وهذه اختي وهذا أخي ، وفيه : تكذيب الرجل إيّاهم ، فيقول الرجل : كذبتم ما أنتم إلّا شياطين وهو الكذّاب ... ، وخبر نعيم في الفتن عن ابن مسعود الّذي فيه : بين اذني حمار الدجّال أربعون ذراعا ، وخطوة حماره مسيرة ثلاثة أيّام ، وأنّه يحبس الشمس حتّى يجعل اليوم كالشهر (١) ، وخبر أبي هريرة : يخرج الدجّال على حمار أحمر ما بين اذنيه سبعون ذراعا (٢) ، وغير هذه من الأخبار المعارضة للعقل أو الشرع التي يكذّبها مضمونها ، الواردة من طرق أهل السنّة ، والمخرّجة من جوامعهم المعتبرة ، وأصحّ كتبهم في الحديث.

هذا وقد حكم أخيرا بعدم صحّة هذه الأخبار ، وكونها مكذوبة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستنكرها استنكارا شديدا بعد أن كان السلف من عظماء محدّثيهم وغيرهم معتمدين عليها ، مصرّين بحفظها ، كأنّ الإيمان بمضامينها من أركان الإسلام ، جمع من

__________________

(١) الفتن لنعيم بن حمّاد : ج ٧ ص ٢٩٩.

(٢) المصدر نفسه.

٢٧٩

كتّابهم في مصر وغيرها ، فخرجوا على أسلافهم ، وعلى صحاحهم وجوامعهم ، وإليك بعض كلمات كاتب من هؤلاء :

قال في خبر الفتن عن ابن مسعود الّذي فيه امور وقوعها يناقض حكمة الله تعالى وعدله : «كان الرسول عليه‌السلام يتكلّم بكلام لو أراد العادّ أن يعدّه لعدّه ، وكان حديثه لباب الحكمة ومصاصها ، فأين هنا القصص الخياليّ من ذلك النور المثاليّ؟ وأين التوجيه الرشيد والقول السديد من هذا الخلط المسرف على الحقّ؟ تنزّه الرسول صلوات الله عليه وسلامه عن أن يقول هذا القول أو بعضا منه. هذا من حيث المعنى ، وأمّا من حيث المبنى فإنّ هذا الكلام بعيد عن بلاغة النبيّ بعد الظلام عن النور» (١).

وقال في خبر الداري من رؤية الجساسة والدجّال الّذي رواه مسلم : «هذا الحديث عليه طابع الخيال ، وسمة الوضع ، الأمر الّذي يجعلنا ننفي صدوره عن الرسول عليه [وآله] السلام الّذي لا يقول إلّا الحقّ ، ولا ينطق عن الهوى ...» (٢).

وقال أيضا في هذا الحديث الّذي رواه أحمد وغيره أيضا : «الغرابة بكلّ غيومها تحيط بهذا الحديث الّذي يرفض القلب والعقل معا التصديق بصدوره عن الرسول العظيم صلّى الله عليه [وآله] وسلّم» (٣).

وقال في خبر أحمد وغيره عن ابن صيّاد : «أين العهد لهذا الدجّال المدّعي للنبوّة والرسالة في مواجهة خاتم الأنبياء والمرسلين عليه وعليهم أزكى صلوات الله ، إنّ هذا المقطع من الحديث يقطع لأوّل وهلة بعدم

__________________

(١) نهاية البداية والنهاية : ج ١ ، ص ١٦١.

(٢) المصدر نفسه : ج ١ ، ص ٩٦.

(٣) المصدر نفسه : ج ١ ، ص ١٠١.

٢٨٠