منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام - ج ٣

لطف الله الصافي الگلپايگاني

منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

لطف الله الصافي الگلپايگاني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مكتب المؤلّف دام ظلّه
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٢

وأنّ محاورة القرآن الكريم بنفسها كافية في بيان ذلك ، كما في قوله تعالى في سورة الزمر / ٤٣ : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى). ألا ترى أنّه لا يستقيم الكلام إذا قيل : الله يميت الأنفس حين موتها ، وكيف يصحّ أنّ الّتي لم تمت يميتها في منامها؟

وكما في قوله تعالى في سورة الأنعام / ٦٠ : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) فإنّ توفّي الناس بالليل إنّما يكون بأخذهم بالنوم ثمّ يبعثهم الله باليقظة في النهار ليقضوا بذلك آجالهم المسمّاة ، ثمّ إلى الله مرجعهم بالموت والمعاد.

وكما في قوله تعالى في سورة النساء / ١٩ : (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) فإنّه لا يستقيم الكلام إذا قيل : يميتهنّ الموت.

وحاصل الكلام : أنّ معنى التوفّي في موارد استعماله في القرآن وغيره إنّما هو أخذ الشيء وافيا ، أي تامّا ، كما يقال : درهم واف. وهذا المعنى للتوفّي ذكره اللغويّون في معاجمهم ، وقالوا : إنّ «توفّاه» و «استوفاه» بمعنى واحد ، وأنشدوا له قول الشاعر :

إنّ بني الأدرد ليسوا الأحد

ولا توفّاهم قريش في العدد

أي : لا تتوفّاهم وتأخذهم تماما.

قلت : لكنّ بين الاستيفاء والتوفّي فرقا واضحا من جهة أثر الاشتقاق ، فإنّ الاستيفاء استفعال كالاستخراج ، يشير إلى طلب الأخذ واستدعائه ومعالجته ، والتوفّي يشير إلى القدرة على الأخذ بدون حاجة إلى استدعاء وطلب ومعالجة ، ولذا اختصّ القرآن الكريم بلفظ «التوفّي» ،

٣٢١

وعدل عن «الأخذ» ؛ لعدم دلالته على التمام والوفاء ، كالتوفّي الدالّ على تمام القدرة على نحو المعنى في (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

ولك العبرة فيما قلناه بقوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) ، فإنّك إن جعلت قوله تعالى : (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ) معطوفا على (الْأَنْفُسَ) لم تقدر أن تقول : إنّ معنى يتوفّى : يميت.

وإن قلت : إنّ التوفّي في المنام إماتة مجازيّة ، قلنا : كيف يكون معنى اللفظ الواحد معنيين : معنى حقيقيّا ومعنى مجازيّا ، ويتعلّق باعتبار كلّ معنى بمفعول ، ويعطف أحد المفعولين على الآخر مع اختلاف المعنى العامل به؟ وهل يكون اللفظ الواحد مرآة لكلّ من المعنيين المستقلّين؟ كلّا ، لا يكون.

وإن جعلت قوله تعالى : (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ) مفعولا لكلمة «يتوفّى» مقدّرة يدلّ عليها قوله تعالى : (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) ، قلنا : إنّ دلالة الموجود على المحذوف إنّما هي بمعناه ، كما لا يخفى على من له معرفة بمحاورات الكلام في كلّ لغة ، فكيف يجعل التوفّي بمعنى الموت دليلا على توفّ محذوف هو بمعنى آخر؟!

إذن ، فليس إلّا أنّ «التوفّي» بمعنى واحد وهو الأخذ تماما ووافيا ، إمّا من عالم الحياة ، وإمّا من عالم اليقظة ، وإمّا من عالم الأرض والاختلاط بالبشر إلى العالم السماوي ، كتوفّي المسيح وأخذه. ومن الغريب ما قاله بعض من أنّ رفع المسيح إلى السماء غير مشتمل على أخذ الشيء تامّا ، انتهى.

وليت شعري ما ذا بقي من المسيح في الأرض؟ وما ذا تعاصى منه

٣٢٢

على قدرة الله في أخذه ، فلا يكون رفعه مشتملا على أخذ الشيء تامّا؟

هذا ولا يخفى أنّ القرآن ناطق بأنّ المسيح ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم ، ورفعه الله إليه ، وأنّ عقيدة المسلمين مستمرّة كإجماعهم على أنّه لم يمت ، بل رفع إلى السماء إلى أن ينزل في آخر الزمان ، فلأجل ذلك التجأ بعض من يفسّر التوفّي بالإماتة إلى أن يفسّر قوله تعالى : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ، ولكنّي لا أدري ما ذا يصنع بحكاية القرآن لما سبق على نزوله في قوله في أواخر سورة المائدة / ١١٦ و ١١٧ : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ... (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) فهل يسوغ أن تفسّر هذه الآية بالوفاة بعد النزول؟ وهل يصحّ القياس في ذلك على قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ)؟ وهل يخفى أنّ مقتضى كلام المسيح في الآيتين هو أنّه بعد أن توفّاه الله ، وانقطعت تبليغاته في دعوة رسالته ، وكونه شهيدا على امّته ، تمحّص الأمر ورجع إلى أنّ الله هو الرقيب عليهم؟ وأنّ سوق الكلام واتّساقه ليدلّ على اتّصال الحالين ، وأنّ الرقيب كيفما فسّرته إنّما يكون رقيبا في وجود تلك الامّة في الدنيا دار التكليف ، لا الآخرة الّتي هي دار جزاء وانتقام. ولا تصحّ الطفرة في المقام من أيّام دعوة المسيح لامّته في رسالته ، وكونه شهيدا عليهم إلى ما بعد نزوله من السماء في آخر الزمان ، حيث يكون وزيرا في الدعوة الإسلاميّة لا صاحب الدعوة.

ومن الواضح أنّ المراد في الآيتين من الناس الّذين جرى الكلام في شأنهم إنّما هم الّذين كانوا أمّة المسيح ، وفي عصر رسالته ، ونوبة دعوته وتبليغه ... ، وأمّا صرف وجهة الكلام إلى الناس الّذين هم في أيّام نزوله

٣٢٣

من السماء فما هو إلّا مجازفة ، فيها ما فيها ، وتحريف للكلم.

وأمّا قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) فلم يكن إخبارا ابتدائيا ، يكون وقوع الفعل الماضي باعتبار حال المتكلّم كما في الآيتين ، بل جاء في سياق قوله تعالى : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ) في حوادث زمان البعث والقيامة ومقدّماتها ، فهو في سياقه ناظر إلى ذلك الحين ، وسياق الكلام يجعله بدلالته في قوّة قوله : «ونفخ ـ حينئذ ـ في الصّور» فهو على حقيقة الفعل الماضي ، وباعتبار ذلك الحين كما في قوله : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) (١).

هذا وبعض المفسّرين لقوله تعالى : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) قال : أي مميتك حتف أنفك. وأقول : إن أراد الإماتة بعد نزول المسيح من السماء شارك ما سبق من التفسير وورد الاعتراض عليه ، وإن أراد إماتته قبل ذلك وقبل نزول القرآن خالف المعروف من عقيدة المسلمين وإجماعهم في أجيالهم ، ويرد عليه السؤال أيضا بأنّه من أين جاء بالإماتة حتف أنفه؟ وما ذا يصنع بما جاء في القرآن كثيرا ممّا ينافي اختصاص التوفّي بالموت حتف الأنف؟ بل المراد منه الأخذ بالموت وإن كان بالقتل ، كقوله في سورة الحجّ : ٥ ، والمؤمن : ٦٧ في أطوار خلق الإنسان من التراب والنطفة إلى الهرم : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) لتكونوا شيوخا (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) وفي سورة البقرة : ٢٣٤ و ٢٤١ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) ، ويونس : ١٠٤ (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) ، والنحل : ٧٠ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) ،

__________________

(١) الفجر : ٢٣.

٣٢٤

والسجدة : ١١ (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) ، والأعراف : ٣٧ (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) ، والنساء : ٩٧ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) والنحل : ٣٢ (تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) ، والأنعام : ٦١ (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ٢٧ (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) ، والأنفال : ٥٠ (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) ، والزمر : ٤٣ (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) ، وإنّك لا تكاد تجد في القرآن المجيد لفظ «التوفّي» مستعملا فيما يراد منه الإماتة حتف الأنف.

إذن ، فمن أين جيء بذلك في قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)؟ نعم ابتلي لفظ «التوفّي» ومشتقّاته بالأخذ بمعناه يمنة ويسرة ، حتّى إنّ العامّة حسبوها مرادفة للموت ، حتّى إنّهم يقولون في الّذي مات : توفّى بفتح التاء والواو والفاء بالبناء للفاعل ، ويقولون في الميّت : متوفّي بكسر الفاء وصيغة اسم الفاعل ، بل يحكى : أنّ أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام كان يمشي خلف جنازة في الكوفة فسمع رجلا يسأل عن الميّت ويقول : من المتوفّي؟ ـ بكسر الفاء ـ.

وأمّا ما نسب إلى ابن عبّاس من أنّ معنى قوله تعالى : «يا عيسى إنّي متوفّيك» ، إنّي مميتك ، فما أراه إلّا كما نسب إلى ابن عبّاس في مسائل نافع بن الأزرق ، كما ذكر في الفصل الثاني من النوع السادس والثلاثين من اتقان السيوطي من أنّ. نافعا سأله عن قول الله : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) (١) أي بما يرجع إلى معنى : تبهظهم (٢) وتثقل عليهم ، كما قال عمرو بن كلثوم في معلّقته :

__________________

(١) القصص : ٧٦.

(٢) أبهظه الحمل أو الأمر : أثقله وسبّب له مشقّة.

٣٢٥

ومتني لدنة سمقت وطالت

روادفها تنوء بما ولينا

وكما أنشده اللغويّون :

إلّا عصا أرذن طالت برايتها

تنوء ضربتها بالكفّ والعضد

فذكر : أنّ ابن عبّاس قال في الجواب : لتثقل ، أو ما سمعت قول الشاعر :

تمشي فتثقلها عجيزتها

مشي الضعيف ينوء بالوسق

أي : ينهض بالوسق بتكلّف وجهد ، على عكس المعنى المذكور في القرآن.

أفهل ترى ابن عبّاس يفسّر «تنوء» الّتي في الآية بغير معناها ، كما ثار من هذا الاستشهاد المنسوب إليه اعتراض النصارى : جاء بلفظة «لتنوء» في غير محلّها؟

وهل ترى ابن عبّاس لا يعرف أنّ معنى «ينوء بالوسق» ليس «يثقل» بل «ينهض به بتكلّف»؟

وهل ترى ابن عبّاس لا يدري ببيت المعلّقة ليستشهد به استشهادا صحيحا مطابقا منتظما؟ كيف وإنّ المعلّقات كانت للشعر في ذلك العصر كبيت القصيد ، ولكن «حنّ قدح ليس منها» (١).

وقد خرجنا عمّا نؤثره من الاختصار ، ولكنّا ما خرجنا عن المقصود الأصلي من الكلام في تفسير القرآن الكريم ، بل سارعنا إلى شيء من الخير ، والله المسدّد الموفّق (٢).

__________________

(١) القدح : أحد قداح الميسر ، وإذا كان أحد القداح من غير جوهر أخواته ثمّ أجاله المفيض خرج له صوت يخالف أصواتها فيعرف به أنّه ليس من جملة القداح. يضرب ـ هذا المثل ـ للرجل يفتخر بقبيلة ليس هو منها ، أو يمتدح بما لا يوجد فيه ، انظر مجمع الامثال : ج ١ ص ٢٠٠.

(٢) آلاء الرحمن في تفسير القرآن : ص ٣٣ ـ ٣٧.

٣٢٦

النقود اللطيفة

على الكتاب المسمّى بالأخبار الدخيلة

٣٢٧
٣٢٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا أبي القاسم محمّد وآله الطاهرين ، سيّما مولانا بقيّة الله في الأرضين.

وبعد ، فقد نشر من بعض الأعلام المؤلّفين المعاصرين ـ أدام الله أيامه ، وسدّد خطاه ـ كتابا سماه «الأخبار الدخيلة» ، ذكر فيه الروايات التي فيها ـ بزعمه ـ خلل من تحريف أو وضع ، وقد ساعدني التوفيق عند ما كنت اجدّد النظر في الأخبار الواردة في مولانا الإمام المهدي أرواح العالمين له الفداء ، لمراجعة ما فيه حول بعض هذه الأحاديث الشريفة ، فرأيت أنّه قد عدّ من الموضوعات طائفة ممّا رواه شيخنا الصدوق ـ قدس‌سره ـ في كتابه القيّم «كمال الدين» ، وشيخنا الطوسي ـ أعلى الله درجته ـ في كتابه «الغيبة» وغيرهما ، ووجدت أنّه مع إصراره على إثبات وضعها اعتمد على أدلّة ضعيفة وشواهد واهية.

ثمّ رأيت أنّ هذه التشكيكات في الأحاديث ربّما تعدّ عند البعض نوعا من التنوّر والثقافة وتقع في نفوسهم العليلة ، فالمتنوّر وصاحب

٣٢٩

الثقافة عندهم من كان جريئا على نقد الأحاديث وردّها ، أو تأويل الظواهر ، حتّى ظواهر الكتاب بما يقبله المتأثّرون بآراء المادّيين وغير المؤمنين بعالم الغيب ، وتأثيره في عالم المادة والشهادة.

وهذا الباب ، أي باب التشكيك في الأحاديث سندا أو متنا سيّما متونها البعيدة عن الأذهان المتعارفة ، باب افتتن به كثير من الشباب ، ومن الكتّاب الذين يرون أنّ من الثقافة التشكيك في الأحاديث ، أو تأويل الظواهر الدالّة على الخوارق ، إلّا أنّه لا ريب أنّ التسرّع في الحكم القطعي بالوضع والجعل على الأحاديث سيّما بشواهد عليلة لا يتوقّع صدوره عن العلماء الحاذقين ، والعارفين بموازين الردّ والحكم بالوضع والتحريف والجرح وغيرها ، ولو كان أحد مبالغا في ذلك ، ويرى أنّه لا بدّ منه ، فالاحتياط يقتضي أن يذكره بعنوان الاحتمال.

فلذلك رأيت أنّ الواجب إبداء ما في تشكيكات هذا المؤلّف ـ دام ظلّه ـ حول هذه الأحاديث حتّى لا توجب سوء ظنّ بعض المغترّين بالتشكيكات بالمحدّثين الأقدمين ، قدّس الله أنفسهم الزكية.

وخلاصة كلامنا معه ـ دام بقاه ـ : أنّ هذه الأحاديث التي ذكرت في كتابه لو كان فيها بعض العلل ـ على اصطلاحات بعض الرجاليّين ـ فإنّه يجبر بما يجبر مثله أيضا ، على ما بنوا عليه من الاعتماد على الأحاديث.

مضافا إلى أنّ كثيرا ممّا ذكره من العلل واضح الفساد ، لا يعتني به العارف بأحوال الأحاديث ، وما عرض لبعض الروايات بواسطة النقل بالمضمون ، أو وقوع الاضطراب في المتن لبعض الجهات ، لا يوجب ترك العمل والاعتناء به رأسا ، وعدم الاستناد إلى ما يكون فيه مصونا من

٣٣٠

الاضطراب ، ولو لا ذلك لكان باب التشكيك مفتوحا حتّى لا يبقى معه مجال للاحتجاج على جلّ ما يحتجّ به العقلاء في الامور النقلية التي لا طريق لإثباتها إلّا النقل ، ولضاع بذلك أكثر العلوم النقلية الإسلامية وغيرها.

ولا أظنّك أن تتوهّم أنّا ننكر ما هو المسلّم عند الكلّ من وجود الأحاديث الموضوعة والمحرّفة ، ونريد الحكم بصحّة جميع ما في الكتب من الأحاديث ، بل غرضنا :

أولا : توضيح أنّ هذه الأخبار ليست بهذه المرتبة من الضعف الذي اهتمّ لتبيينه هذا المؤلّف ، لو لم نقل بعدم وجود الضعف في بعضها.

وثانيا : أنّ التهجّم على مثل كتاب «كمال الدين» و «غيبة الطوسي» مع أنّ مؤلّفيها من حذّاق فنّ الحديث وأكابر العارفين بالأحاديث وعللها ، والإكثار من ذكر العلل في رواياتها ، والقول بأنّ هذه الكتب خلط مؤلّفوها الصحيح بالسقيم والغث بالسمين ، لا فائدة فيه غير زرع سوء الظنّ في نفوس بعض الجهّال ، وذلك ممّا لا ينبغي أن يصدر من مثله ـ سلّمه الله ـ. نعم لو كان في بعض الأحاديث ما لا يوافق الاصول الأصلية الاعتقادية ، كان التعرّض لعلله وإطالة الكلام فيها والاشتغال بها واجبا.

حديث سعد بن عبد الله

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ من جملة ما عدّه في الأحاديث الموضوعة في الفصل الأول من الباب الثاني من ذلك الكتاب (الأخبار الدخيلة) ما رواه شيخنا الصدوق ـ قدس‌سره ـ في «كمال الدين» عن

٣٣١

محمّد بن علي بن حاتم النوفلي ، عن أحمد بن عيسى الوشّاء ، عن أحمد بن طاهر القمّي ، عن محمّد بن بحر بن سهل الشيباني ، عن أحمد بن مسرور ، عن سعد ابن عبد الله القمّي قال : كنت امرأ لهجا بجمع الكتب المشتملة على غوامض العلوم ودقائقها ، كلفا باستظهار ما يصحّ لي من حقائقها ، مغرما بحفظ مشتبهها ومستغلقها ، شحيحا على ما أظفر به من معضلاتها ومشكلاتها ، متعصّبا لمذهب الإمامية ، راغبا عن الأمن والسلامة في انتظار التنازع والتخاصم ، والتعدّي إلى التباغض والتشاتم ، معيبا للفرق ذوي الخلاف ، كاشفا عن مثالب أئمتهم ، هتّاكا لحجب قادتهم ، إلى أن بليت بأشدّ النواصب منازعة ، وأطولهم مخاصمة ، وأكثرهم جدلا ، وأشنعهم سؤالا ، وأثبتهم على الباطل قدما.

الى آخر ما نقلناه في المجلد الثاني من المنتخب الاثر تحت الرقم ٨٠٩.

قال صاحب كتاب الأخبار الدخيلة ـ دام بقاه ـ تعليقا على هذا الحديث : كما أنّ متنه يشهد بعدم صحّته ، كذلك سنده ، فإنّ الصدوق إنّما يروي عن سعد بتوسط أبيه أو شيخه ابن الوليد ، كما يعلم من مشيخة فقيهه ، والخبر تضمن أربع وسائط منكرين ، ومن الغريب أنّ صاحب الكتاب المعروف بالدلائل رواه بثلاث وسائط مع أنّه يروي كالشيخ عن الصدوق بواسطة ... (١).

وينبغي الكلام أوّلا في سنده ، ثمّ في متنه ، فنقول :

أمّا محمّد بن علي بن محمد بن حاتم النوفلي المعروف بالكرماني فهو من مشايخ الصدوق ، روى عنه وكنّاه بأبي بكر مترضّيا عليه في

__________________

(١) الأخبار الدخيلة : ج ١ ص ١٠٤.

٣٣٢

الجزء الثاني الباب ٤٣ من «كمال الدين» في ذكر من شاهد القائم عليه‌السلام ورآه وكلّمه الحديث السادس ، فهو مرضيّ موثوق به ، وفي هذا الجزء الباب ٤١ ، الحديث الأول (١).

وأمّا أحمد بن عيسى الوشّاء البغدادي أبو العباس ، وشيخه أحمد ابن طاهر القمّي ، فأسند إليهما الصدوق أيضا في «كمال الدين» في الجزء الثاني باب ٤١ باب ما روي في نرجس أمّ القائم عليهما‌السلام واسمها مليكة بنت يشوعا بن قيصر الملك (٢) ، والظاهر معرفته بحالهما واعتماده عليهما ، وذلك لأنّه لم يرو في هذا الباب الذي هو من الأبواب المهمّة من كتابه إلّا حديثا واحدا ، وهو ما رواه عن شيخه محمد بن علي بن حاتم النوفلي ، عن أبي العباس أحمد بن عيسى الوشّاء البغدادي ، عن أحمد ابن طاهر ، بل يظهر من ذلك كمال وثاقتهما عنده ، واعتماده على صدقهما وأمانتهما ، ويظهر ممّا عنون به الباب أيضا اعتماده واستدلاله على ما كان مشهورا في عصره من اسم امّه عليه‌السلام ونسبها بهذا الحديث ، فالرجلان كانا معلومي الحال عنده بالصدق والأمانة ، وإلّا فلا ينبغي لمثله أن يعتمد على رواية غير موثّقة ، لا يعرف رواتها بالوثاقة في مثل هذا الأمر المعتنى به عند الخاصّ والعامّ ، فالمظنون بل المقطوع اطمئنانه بصحّة الرواية وصدق رواتها ، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا محيص عن القول باطمئنانه بصدورها بواسطة بعض القرائن والأمارات المعتبرة التي يجبر بها ضعف الراوي ، ويقطع بها بصحّتها ، وإلّا فيسأل : ما فائدة عقد باب في كتاب مثل «كمال الدين» للاحتجاج برواية واحدة لا يحتجّ

__________________

(١) راجع كمال الدين : ج ٢ ص ٤١٧ و ٤٣٧.

(٢) كمال الدين : ج ٢ ص ٤١٧.

٣٣٣

بها ولا يعتمد عليها مؤلّف الكتاب لجهله بأحوال رجالها؟ وما معنى عنوان الباب بمضمونها؟ وكيف يقبل صدور ذلك من الصدوق قدس‌سره؟ ألم يصنّف كتابه «كمال الدين» لرفع الحيرة والشبهة والاستدلال على وجود الحجة (١)؟ فهل هذه الرواية إذا كان مؤلّف الكتاب لا يعتمد عليها تزيد الشبهة والحيرة أو ترفعها؟

وهكذا نقول في أحمد بن مسرور ، وأنّه من المستبعد أن لا يعرف مثل الصدوق تلامذة مثل سعد بن عبد الله.

لا يقال : لما ذا يستبعد ذلك ، والمستبعد أن لا يعرف كلّهم. وبعبارة اخرى : المستبعد أن يجهل الكلّ دون أن لا يعرف الكلّ ، فإنّه يجوز أن يعرف الكلّ إذا قلّت تلامذته ، كما يجوز أن لا يعرف الجميع إذا كثرت تلامذته.

فإنّه يقال : نعم ، يجوز ذلك عقلا كما يجوز عرفا باللحاظ الابتدائي ، إلّا أنّ وجه الاستبعاد اهتمامهم بمعرفة الشيوخ وتلامذتهم واستقصاؤهم لذلك ، وحضورهم في الحوزات الحديثية التي كان أهلها يعرفون الشيوخ وتلامذتهم ، سيّما إذا كانوا من معاصريهم وقريبي العهد بعصرهم ، وتركهم حديث من لا معرفة لهم بحاله وتتلمذه عند من يروي عنه ، وكانوا مستقصين لهذه الامور بحيث إذا اسند حديث إلى من

__________________

(١) قال الصدوق ـ رحمه‌الله ـ في مقدّمة كمال الدين : فبينا هو (أي الشيخ نجم الدين أبو سعيد محمّد بن الحسن) يحدّثني ذات يوم ، إذ ذكر لي عن رجل قد لقيه ببخارا من كبار الفلاسفة والمنطقيّين كلاما في القائم عليه‌السلام قد حيّره وشكّكه في أمره ، لطول غيبته وانقطاع أخباره ، فذكرت له فصولا في إثبات كونه عليه‌السلام ، ورويت له أخبارا في غيبته عن النبي والأئمّة سكنت إليها نفسه ، وزال بها عن قلبه ما كان دخل عليه من الشكّ والارتياب والشبهة وتلقّى ما سمعه من الآثار الصحيحة بالسمع والطاعة والقبول والتسليم ، وسألني أن اصنّف له في هذا المعنى كتابا فأجبته إلى ملتمسه ...

٣٣٤

لا يعرفونه من تلامذة شيوخهم المعروفين سيّما معاصريهم يتركونه ، وهذا مثل من كان بينه وبين رجل صداقة كاملة في مدة طويلة ، يعرف عادة أبناءه وأرقابه وأصدقاءه ، فيأتيه رجل مجهول الحال لم يره في هذه المدة عند صديقه ، ولم يخبره أحد به ، يدّعي أنّه ابن صديقه أو تلميذه الملتزم مجلس درسه ، وإملائه للحديث ، ويخبر عنه بامور لم يسمع به من صديقه ، فلا شكّ أنّه لا يقبل ادّعاءه ويتّهمه بالكذب ، ولا ينقل ما يخبر عنه سيّما محتجّا به من دون إشارة إلى أنّه في طول معاشرته وحضوره مجالس هذا الصديق لم يطّلع به ، ولم يره في مجالسه وإلّا يكون مدلّسا. ومقام مثل الصدوق أرفع وأنبل من أن يعمل هكذا في كتاب كتبه لرفع الحيرة ، وإزالة الشبهة ، وامتثالا لأمر ولي الله روحي له الفداء (١) ، فيزيد بنقله الحيرة ويقوي الشبهة.

وخلاصة الكلام : لنا ادّعاء القطع بأنّ الصدوق ـ رحمه‌الله ـ كان عارفا بحال هؤلاء الرجال وصدقهم ، وإن اهمل ذكرهم فيما بأيدينا من كتب الرجال ولم يصل حالهم بالإجمال أو التفصيل إلى مؤلّفي المعاجم والرجال ، ولا يصدر من مثله الاعتماد على حديث لم يعرف رجاله بالصدق والأمانة ، ولم يطمئن بصدقهم في نقلهم هذا الحديث بالقرائن التي توجب الاطمئنان.

__________________

(١) قال ـ رحمه‌الله ـ في مقدّمة كمال الدين : فبينا أنا ذات ليلة افكّر فيما خلفت ورائي من أهل وولد وإخوان ونعمة إذ غلبني النوم ، فرأيت كأنّي بمكّة أطوف حول بيت الله الحرام ... فأرى مولانا القائم صاحب الزمان صلوات الله عليه واقفا بباب الكعبة ، فأدنو منه على شغل قلب وتقسّم فكر ، فعلم عليه‌السلام ما في نفسي بتفرّسه في وجهي ، فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام ثمّ قال لي : لم لا تصنّف كتابا في الغيبة حتّى تكفي ما قد همّك ... فلمّا أصبحت ابتدأت في تأليف هذا الكتاب ممتثلا لأمر ولي الله وحجّته ....

٣٣٥

وأمّا محمد بن بحر الشيباني ، وإن رماه الكشّي (في ترجمة زرارة بن أعين) بالغلوّ (١) ، إلّا أنّ الظاهر من كلمات الرجاليّين : أنّه غير متّهم بالكذب والخيانة ، فيصحّ الاعتماد عليه ، غاية الأمر أن لا يعتمد على روايته ما يوافق مذهبه من الغلوّ أو مطلق ما فيه الغلو وإن لم يوافق مذهبه ، أو لا يعلم مذهبه فيه ، فلا منافاة بينه وبين وثاقته ، بل مع وثاقته لا يجوز ردّ روايته بعد القول بصدقه ووثاقته ، إلّا أنّه ينظر إلى متن ما رواه فيؤوّل أو يحمل على المحامل الصحيحة إن امكن ، وإلّا فيترك فيما ثبت دلالته على ما ثبت بالعقل أو النقل الحجّة كونه غلوّا ، هذا. مضافا إلى أنّه قد صدر عن بعضهم كثيرا رمي الرجال بالغلوّ بما ليس منه عند الأكثر ، وربّما كان ذلك لانحطاط معرفة الرامي ، وعدم بصيرته بامورهم وشئونهم عليهم‌السلام الثابتة بالعقل أو النقل ، فإذا كان مراتب الصحابة الأجلاء مثل : سلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار ونظائرهم من خواصّ أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام في معرفتهم وشهود شئونهم ومراتبهم العلية متفاوتة جدّا ، فما ظنّك بغيرهم. وهذا باب الورود فيه صعب مستصعب ، لا يصل إلى منتهاه ، بل لا يقرب منتهاه إلّا الأوحدي من اصحاب المراتب العالية ، والدرجات الرفيعة ، فعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي! ما عرف الله إلّا أنا وأنت ، وما عرفني إلّا الله وأنت ، وما عرفك إلّا الله وأنا (٢).

ومع ذلك نقول : ما للتراب وربّ الأرباب ، أشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ، وأنّ خلفاءه الأئمّة عباده المكرمون ، لا يسبقونه بالقول وهم

__________________

(١) رجال الكشّي : ص ١٤٧.

(٢) انظر البحار : ج ٣٩ ص ٨٤.

٣٣٦

بأمره يعملون ، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، وأشهد أنّهم المقرّبون المصطفون ، المطيعون لأمر الله ، القوّامون بأمره ، العاملون بإرادته ، وخلفاؤه في عباده ، من أتاهم نجا ومن تخلّف عنهم هلك ، وأنّهم محدّثون مفهمون ، لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم بأنّهم هم الولاة على الامور بأمر الله ، وخلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعرفوه بمعرفته بالولاية ، والتصديق لهم والتسليم لأمرهم ، وأنّ من عاداهم وجحدهم فقد عادى الله وجحده ، ولا يدخل النار إلّا من أنكرهم وأنكروه ، فهم خزّان علم الله ، وحفظة سرّ الله ، ولولاهم لساخت الأرض بأهلها. هذا وكما تلونا عليك ، المحدّثون والعلماء أيضا متفاوتون في مراتب معرفتهم بهم ، فبعضهم أقصر من البعض ، بل وبعضهم أقصر من البعض في أمر وشأن من شئونهم في حال كونه أكمل وأرفع منه ومن الكثيرين في سائر شئونهم ، فمثل الصدوق ـ رضوان الله تعالى عليه ـ يرى أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فربّما كان رجل عند شخص غاليا وهو صحيح المذهب عند غيره ، وهذا باب يدخل فيه اجتهاد الرجاليّين وآراؤهم في الغلوّ ، بل وغلوّهم في أمر الغلوّ ، وشدّة تحفّظهم عن الوقوع فيه ، فيتّهم بعضهم على حسب اجتهاده أو رأيه رجلا بالغلوّ في حين أنّه يراه غيره مستقيم المذهب ، فالاعتماد على حكم البعض بالغلوّ إنّما يجوز إذا كان ما هو الملاك عنده في الغلو معلوما لنا وملاكا عندنا أيضا ، وكان مستنده في إسناد الغلوّ إليه أيضا معتبرا عندنا ، فلا اعتماد على الاجتهاد والشهادة الحدسية ، وإلّا فلا عبرة برميه به ولا نحكم عليه به فضلا من أن نعدّ ذلك موجبا لعدم الاعتماد على رواياته ، سيّما إذا كان الرجل من

٣٣٧

المشايخ وتلامذة الشيوخ ، موصوفا بالصدق والوثاقة ، وكيف يجوز الحكم بكون رجل كمحمد بن بحر ، وهو كان من المتكلّمين ، عالما بالأخبار ، فقيها ، مصنّفا نحوا من خمسمائة مصنّف (١) ، من الغلاة بمجرّد أنّ معاصره الكشّي وإن بلغ في جلالة القدر ما بلغ ، عدّه من الغلاة ، من دون أن نعرف رأيه في الغلوّ بالتفصيل ، ومستنده في إسناد ذلك إليه ، فلعلّ الكشّي كان يرى القول في مسألة بالسلب والإيجاب من الغلوّ وهو لا يرى ذلك وكان هو محقّا ، فلا ينبغي الاعتماد على اجتهاد الغير في الحكم بالغلوّ وردّ روايات من رمي به سيّما إذا كان ذلك بالإجمال والإبهام.

ويحتمل أن يكون رمي محمد بن بحر هذا بالغلوّ لتفضيله الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام على الملائكة ، أو إخراجه في الأئمّة عليهم‌السلام ما يستغربه من لم يعرفهم حقّ معرفتهم ، من جملتها ما روي عن حبيب بن مظاهر ، وهذا لفظه : فقد روي لنا عن حبيب بن مظاهر الأسدي ـ بيض الله وجهه ـ أنّه قال للحسين بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام : أي شيء كنتم قبل أن يخلق الله عزوجل آدم عليه‌السلام؟ قال : كنّا أشباح نور ، ندور حول عرش الرحمن فنعلّم الملائكة التسبيح والتهليل والتحميد. ثمّ قال : ولهذا تأويل دقيق ليس هذا مكان شرحه ، وقد بيّناه في غيره (٢).

__________________

(١) راجع فهرست الشيخ : ص ١٥٨ قال : كان متكلّما ، عالما بالأخبار فقيها ، إلّا أنّه متّهم بالغلو ، وله نحو من خمسمائة مصنّف ورسالة.

(٢) علل الشرائع : ص ٢٣ ب ١٨ ، ما ذكره محمد بن بحر الشيباني المعروف بالدهني ـ رحمه‌الله ـ في كتابه من قول مفضّلي الأنبياء والأئمّة الحجج صلوات الله عليهم أجمعين على الملائكة.

٣٣٨

وأمّا ما جعله الناقد شاهدا لعدم صحّة سنده من أنّ الصدوق يروي عن سعد بواسطة أبيه أو شيخه ابن الوليد ، مع أنّ هذا الخبر قد تضمّن أربع وسائط منكرين (١).

فأقول : أمّا تضمّن الخبر أربع وسائط فليس كذلك ، بل هو متضمّن لخمس وسائط ، وأمّا كونهم منكرين فقد عرفت ما فيه.

وامّا كون تضمن الخبر أربع أو خمس وسائط شاهدا لعدم صحّة سنده مع أنّ الصدوق قد روى عنه بواسطة واحدة ، ففيه : أنّ الاستشهاد بذلك غريب ، فإنّه كما يمكن أن يروي عن سعد بواسطة شيخ واحد يمكن أن يروي عنه بواسطة رجال متعدّدين متعاصرين ، فكما يجوز أن يروي المعاصر عن المعاصر بغير واسطة يجوز أن يروي عنه بواسطة رجال متعاصرين ، وما أظنّ به أبدا أنّه يريد أن يتّهم الصدوق ـ قدس‌سره ـ بجعل السند ووضع الحديث ـ العياذ بالله ـ أو يزيد أن يتّهمه بأنّه لم يفهم ما يلزم من كثرة الوسائط بينه وبين سعد بن عبد الله وقلّتها ، وأنّ ذلك قد ينجرّ إلى تعارض إسناد بعض الروايات مع بعض ، فروى عن سعد بواسطة خمسة أو أربعة رجال غير متعاصرين مختلفين في الطبقة وهو الذي يروي عنه بواسطة شيخ واحد ، أفترى أنّه لم يدرك ذلك ، أو أنّه لم ير في هذا السند وسائر أسناده إلى سعد تعارضا وتهافتا؟ بل هذا يدلّ على أنّه كان عارفا بأحوال هذه الرجال الوسائط في هذا السند بينه وبين سعد بن عبد الله.

ثمّ إنّه قال بعد ذلك : ومن الغريب أنّ صاحب الكتاب المعروف ب «الدلائل» رواه بثلاث وسائط مع أنّه يروي كالشيخ عن الصدوق

__________________

(١) الأخبار الدخيلة : ج ١ ص ١٠٤.

٣٣٩

بواسطة (١) ، وفيه : أنّه إذا بنينا على ما اختاره وحقّقه في تعريف مؤلّف الكتاب المعروف ب «دلائل الإمامة» ، فلا غرابة ، فإنّه يوافق رواية الصدوق بواسطة أبيه أو شيخه ابن الوليد عن سعد ، فلا فرق من هذه الجهة بين رواية الشيخ أو مؤلّف «الدلائل» بواسطة عن الصدوق ، عن أبيه ، عن سعد ، أو بواسطة أبي القاسم عبد الباقي بن يزداد بن عبد الله البزاز ، عن أبي محمّد عبد الله بن محمد الثعالبي ، عن أبي علي أحمد بن محمد بن يحيى العطّار عن سعد (٢).

ومع ذلك ، المظنون سقط «واو» العطف عن الإسناد المذكور في «كمال الدين» ، وكأنّه كان الإسناد هكذا : محمد بن علي بن حاتم النوفلي ، عن أحمد بن عيسى الوشّاء ، وعن أحمد بن طاهر القمّي ، عن محمّد بن بحر بن سهل الشيباني ، وعن أحمد بن مسرور ، عن سعد بن عبد الله ، أو نحو ذلك. هذا وقد ذكر الناقد كلام المجلسي ـ قدس‌سره ـ في «البحار» وهو قوله : قال النجاشي بعد توثيق سعد : لقي مولانا أبا محمد عليه‌السلام ، ورأيت بعض أصحابنا يضعّفون لقاءه ، ويقولون : هذه حكاية موضوعة. ثمّ قال المجلسي : الصدوق أعرف بصدق الأخبار والوثوق عليها من ذلك البعض الذي لا يعرف حاله ، وردّ الأخبار التي تشهد متونها بصحّتها بمحض الظنّ والوهم مع إدراك سعد زمانه عليه‌السلام وإمكان ملاقاة سعد له عليه‌السلام ـ إذ كان وفاته بعد وفاته عليه‌السلام بأربعين سنة تقريبا ـ ليس إلّا للإزراء بالأخيار ، وعدم

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) قال في البحار بعد نقل الرواية عن كمال الدين : دلائل الأئمّة للطبري عن عبد الباقي ابن يزداد ، عن عبد الله بن محمّد الثعالبي ، عن أحمد بن محمّد العطّار ، عن سعد بن عبد الله ... مثله.

٣٤٠