منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام - ج ٣

لطف الله الصافي الگلپايگاني

منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

لطف الله الصافي الگلپايگاني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مكتب المؤلّف دام ظلّه
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٢

الوثوق بالأخبار ، والتقصير في معرفة شأن الأئمّة الأطهار ، إذ وجدنا الأخبار المشتملة على المعجزات الغريبة إذا وصلت إليهم ، فهم : إمّا يقدحون فيها أو في راويها ، بل ليس جرم أكثر المقدوحين من أصحاب الرجال إلّا نقل مثل تلك الأخبار.

ثمّ أورد على هذا الكلام بقوله (١) : الظاهر أنّ مراد النجاشي ببعض أصحابنا شيخه أحمد بن الحسين الغضائري ، وهو من نقّاد الرجال ومحقّقي الآثار ، وهو أدقّ نظرا من الصدوق ، وكان ذا سعة اطّلاع في الرجال. قال الشيخ في أول فهرسته : إنّ جماعة من شيوخ طائفتنا وإن عملوا فهرست كتب أصحابنا ممّا صنّفوه من التصانيف ، ورووه من الاصول ، إلّا أنّ أحدا منهم لم يستوف ذلك ، ولا ذكر أكثره ، بل اقتصروا على فهرست ما رووه وما كانت في خزائنهم ، سوى أحمد بن الحسين ، فعمل كتابين ؛ أحدهما : في المصنّفات ، والآخر : في الاصول ، واستوفاهما على مبلغ ما وجد وقدر ... الى أن قال : وقد اعتمد النجاشي الذي هو أوثق علماء الرجال عندهم عليه ، وكان تلميذه يروي عنه مشافهة تارة ، وبالأخذ عن كتبه اخرى (٢).

أقول : الظاهر أنّ مراد المجلسي أيضا من البعض الذي لا يعرف حاله هو هذا أحمد بن الحسين الغضائري الذي يقول فيه الأردبيلي صاحب «جامع الرواة» : لم أجد في كتب الرجال في شأنه شيئا من جرح ولا تعديل (٣) ، ولم يصرّح باسمه تأسّيا بالنجاشي ، فإنّه أيضا لم يصرّح باسمه لئلا يوجب ذلك تنقيصه ، سيّما بعد ما كان الرجل معروفا بحكمه

__________________

(١) أي الناقد.

(٢) الأخبار الدخيلة : ج ١ ص ٩٦.

(٣) جامع الرواة : ج ١ ص ٤٨.

٣٤١

على الروايات بالوضع ، وعلى الرجال بالغلوّ ، والنجاشي وهو الذي يصفه الناقد نفسه بأنّه أوثق علماء الرجال اعتمد على هذا الخبر وقال : لقي مولانا أبا محمّد عليه‌السلام ، واستدراكه بعد ذلك بقوله : ورأيت بعض أصحابنا ... لعلّه كان لإظهار التعجّب ممّا رأى من هذا البعض.

وأين هذا الذي لا يعرف حاله من الصدوق الذي يصفه النجاشي ـ الذي هو أوثق علماء الرجال ـ بأنّه : كان جليلا ، حافظا للأحاديث ، بصيرا بالرجال ، ناقدا للأخبار ، لم ير في القميّين مثله في حفظه وكثرة علمه ، له نحو من ثلاثمائة مصنّف (١) ، ونحوه ما في الفهرست (٢) والخلاصة (٣). ثمّ كيف يكون هو أدقّ نظرا وأعرف بحال شيوخ الصدوق منه مع تأخّر طبقته عنه؟!

وأمّا ما في «فهرست» (٤) الشيخ ـ رضوان الله عليه ـ فهو يدلّ بالصراحة على قدحه ، وعدم وقوع كتابيه موردا للقبول ، فلم ينسخهما احد من أصحابنا ، وأنّه اخترم وعمد بعض ورثته إلى إهلاك هذين الكتابين وغيرهما من الكتب على ما حكى بعضهم عنه. وهذا الكلام صريح في أنّ كتبه لم تقع عند الطائفة وشيوخهم موردا للقبول ، وأعرضوا عنها ، حتّى عدّت من الكتب التي يجب إهلاكها ، ولا يجوز نسخها ، ولذا عمد بعض ورثته إهلاكها. وعلى كلّ نسأل الله تعالى له المغفرة.

ولا نخفي العجب من الناقد الذي يكتب عن الأحاديث وما فيها

__________________

(١) رجال النجاشي : ص ٣٨٩ رقم ١٠٤٩.

(٢) الفهرست : ص ٣٠٤.

(٣) خلاصة العلامة : ص ١٤٧.

(٤) الفهرست : ص ٢٤.

٣٤٢

بزعمه من التحريف والوضع وغيرهما ، وهو بنفسه يحكي عن مثل شيخ الطائفة ـ رضوان الله تعالى عليه ـ كلاما ، فيأتي بصدده تأييدا لغرضه ، ويسقط ذيله الصريح في نقضه وإليك كلام الشيخ في «الفهرست» : ... ولم يتعرّض أحد منهم لاستيفاء جميعه إلّا ما قصده أبو الحسن أحمد بن الحسين بن عبيد الله ـ رحمه‌الله ـ فإنّه عمل كتابين ؛ أحدهما : ذكر فيه المصنفات ، والآخر : ذكر فيه الاصول ، واستوفاهما على مبلغ ما وجده وقدر عليه ، غير أنّ هذين الكتابين لم ينسخهما أحد من أصحابنا واخترم هو ـ رحمه‌الله ـ وعمد بعض ورثته إلى إهلاك هذين الكتابين وغيرهما من الكتب على ما حكى بعضهم عنه (١).

تحقيق في اعتبار عدالة الراوي في جواز الاخذ بخبره

إن قلت : لعلّ الصدوق وغيره من المحدّثين ـ رضوان الله عليهم ـ أخذوا بأصالة العدالة في رواياتهم عن المجاهيل وغير الموصوفين بالعدالة والصدق في كتب الرجال ، ومع أنّه لا طريق لنا إلى معرفة حالهم وإحراز عدالتهم وصدقهم لعدم ذكر منهم في تلك الكتب ، أو عدم ذكر جرح ولا تعديل لهم فيها ، فكيف نعتمد على تلك الروايات؟

قلت : إن اريد بالأخذ بأصالة العدالة أنّ الشرط في جواز الاعتماد على الخبر وإن كان عندهم عدالة المخبر وصدقه إلّا أنّهم كانوا يعتمدون في ذلك على البناء على الإيمان وعدالة من لم يثبت فساد عقيدته وصدور الفسق والكذب منه من دون أن يعرفوه بحسن الظاهر ، فاستناده إليهم في

__________________

(١) الفهرست : ص ٢٤.

٣٤٣

غاية البعد ، بل معلوم العدم ، لعدم وجود أصل تعبّدي لهذا الأصل.

أمّا الأصل التعبّدي الشرعي فليس في البين إلّا الاستصحاب وفساد الابتناء عليه أوضح من أن يخفى ؛ لعدم حالة العدالة السابقة المتيقّنة لمن لم يثبت فسقه وعدالته حتّى تستصحب تلك الحالة.

وأمّا الأصل التعبّدي العقلائي ، أي استقرار بناء العقلاء على قبول كلّ خبر ما لم يثبت جرح مخبره بالكفر وفساد العقيدة أو ارتكاب الكبيرة والفسق ، فهذا أيضا محلّ الإنكار ، مضافا إلى رجوعه إلى عدم اعتبار شرط العدالة وإلغائه في جواز الأخذ بالخبر.

وإن اريد بأصالة العدالة : الاعتماد على حسن الظاهر على أنّه العدالة ، أو على أنّه طريق إليها ، بناء على كونها ملكة نفسانية وحالة روحية يشقّ بها على صاحبها ارتكاب المعصية ، فإن اتّفق صدورها منه يندم عليها ويتداركها بالتوبة ويلوم نفسه بها ، وأنّ عليها يحكم بعدالة من كان له ظاهر حسن لا يتجاهر بما يخالف الشرع ويرتّب عليه آثار العدالة ، فإجراء هذا الأصل بالنسبة إلى المجاهيل وغير الموصوفين بحسن الظاهر واضح الفساد.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ المحدّثين القدماء ، مثل : الصدوق والكليني وغيرهما ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ لم يأخذوا الأحاديث التي أخرجوها في كتبهم من المناكير وأبناء السبيل والقاعدين على الطرق والشوارع والقصّاص وأمثالهم ، فمثل الصدوق عادة يعرف شيوخه بأسمائهم وأنسابهم وحالاتهم من الإيمان والعدالة والفسق ، ولا يروي عمّن لا يعرفه بشخصه واسمه ونسبه وصفاته أصلا ، ولا يكتفي بتعريفه نفسه ، فلا يكتب عنه إلّا بعد معرفته بظاهر حاله وبمذهبه ونحلته ، وأنّ له

٣٤٤

شأنا في الحديث ، وبعد ذلك اعتماده على الشيخ الذي يروي مثل هذا الحديث في محلّه ، ولو كانوا من غير الشيعة أو من المقدوحين لصرّح بهم.

احتمال آخر : من المحتمل أن يكون بناء القدماء على الأخذ بأصالة الصدق والعدالة مبنيا على أصالة البراءة ، واعتماد العقلاء بخبر الواحد ، وبنائهم على العمل به ما لم يصدر منه ما يوجب الفسق. والمراد من الأصل المعوّل عليه هنا : أصل العدم ، واستصحاب العدم ، فيستصحب عدم صدور الكبيرة منه ويبنى على عدم صدورها منه ما دام لم يحرز ذلك بالوجدان أو التعبّد ، ولا بأس بذلك ، فلا حاجة إلى إثبات العدالة ، سواء كانت عبارة عن الملكة أو حسن الظاهر.

وبعبارة اخرى نقول : لمّا كان اعتبار العدالة وإحرازها في جواز الأخذ بأخبار المخبرين موجبا لتعطيل الامور ، وتضييع كثير من المصالح لقلّة من يحرز عدالته ، استقرّ بناء العقلاء على العمل بخبر الواحد الذي لم يحرز صدور ما يوجب الفسق منه ، وما يوهن الاعتماد عليه ، ولم يكن في البين قرينة حالية تدلّ على رفع اليد عن نبئه ، وآية النبأ (١) إنّما تدلّ على وجوب التبيّن في خبر الفاسق ، أي الذي جاوز الحدّ ، وصدرت منه الكبيرة ، دون من لم تصدر منه الكبيرة ، وأحرز ذلك بالوجدان أو بالأصل ، وهذا الاحتمال قويّ جدّا ؛ لأنّا نرى : أنّ العقلاء لا يزالون يعملون بخبر غير المتّهم بالكذب والفسق ، وإنّما يردّون من الخبر ويضعّفون الإسناد إذا كان المخبر فاسقا ، ثبت صدور الفسق منه ، أو بعلل اخرى لا ترجع إلى عدم إثبات عدالة الراوي.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

٣٤٥

إن قلت : فهل يعمل على خبر المجهول؟ وهل يجوز الاعتماد عليه؟

قلت : الجهل بحال الراوي : إمّا يكون مطلقا يشمل الجهل بإيمانه وبعدالته وفسقه ، وإمّا يكون مقصورا بفسقه وعدالته مع العلم بإيمانه. ولا كلام في أنّه لا يجوز العمل على القسم الأول ولا يحتجّ به ، وأمّا القسم الثاني فيجوز مع الجهل ـ أي الشكّ في فسقه وعدالته ـ البناء على عدم فسقه ؛ لعدم ثبوت صدور معصية منه ، والأخذ بخبره إذا لم يكن معارضا بما يخرجه عن استقرار سيرة العقلاء على العمل بخبر الواحد ، فما يخرج الخبر عن صلاحية الاعتماد عليه هو الجرح ، ومع عدمه لا حاجة إلى تعديل رواية.

إن قلت : إذن كيف يصحّ الاعتماد على خبر المخالف أو غير الاثني عشرية من الشيعة مع أنّهم قد جوزوا العمل بأخبار الثقات الممدوحين بالصدق والأمانة كائنا مذهبه ما كان؟

قلت : أمّا رواياتهم المؤيّدة لمذهب أهل الحقّ ، المأثورة في اصول الدين ، ورواياتهم في فضائل أهل البيت ، وما اتّفقت عليه كلمة أصحابهم وشيعتهم ، فاعتمادهم عليها : إمّا للاحتجاج عليهم والجدال معهم بالتي هي أحسن ، وإمّا لحصول الوثوق بصحّتها ؛ لعدم الداعي غالبا لهم في وضع هذه الأخبار ، فالاحتجاج بها أحسن ، والاعتماد عليها أفحم للخصم.

وأمّا رواياتهم في الفروع والتكاليف العملية فالاعتماد عليها يدور مدار كون الراوي موثّقا في جميع الطبقات ، يوجب نقله الاطمئنان بصدوره ، ولم يكن معارضا لغيره من الأخبار ، ومع التعارض يعمل على طبق قواعد التعادل والترجيح كما بيّن في محلّه في الاصول.

٣٤٦

وقد أورد على الحديث ثانيا أيضا بما يرجع إلى سنده ، فقال : لو كان الصدوق حكم بصحّته ، لم لم يرو في فقيهه ما تضمّنه من الفقه؟ ولم لم يرو في معانيه ما تضمّنه من معاني الحروف؟ (١).

والجواب عنه : أنّ عدم روايته في فقيهه لا يدلّ على عدم اعتماده بالحديث ، ولا ينافي حكمه بصحّته ، فلعلّه ألّف كماله بعد فقيهه ، أو ظفر بالحديث بعد تأليفه «للفقيه» ، فأدرجه في كماله ، مضافا إلى أنّه لم يستقص في «الفقيه» جميع الفروع ، كما لم يستقصها في مقنعه وهدايته ، وترك فيهما بعض الفروع المشهورة التي لا ينساها المحدّث والفقيه عادة ، ولا ريب أنّه لم يلتزم باستقصاء جميع الفروع في كتبه ، ولو التزم بذلك أيضا فلا يستبعد عدم وفائه به لبعض الأعذار مثل النسيان ، وممّا قلنا يظهر عذره في عدم روايته في معانيه ، وليت شعري أيّ دلالة لعدم إخراج رواية أخرجها مثل الصدوق في كتاب مثل «كمال الدين» في كتابه الآخر على ضعف الرواية ، وإلّا فيدلّ عدم ذكره كثيرا من الفروع في «المقنع» و «الهداية» على أنّه لم يكن عنده من الفروع غير ما ذكره ، وكذا سائر مؤلّفي الموسوعات الفقهية وغيرها.

وقال أيضا : لو كان الخبر صحيحا لم لم يروه الشيخ في غيبته مع وقوفه على «كمال الدين»؟ (٢).

وهذا أيضا عجيب منه ، فإنّه لو كان هذا دليلا على ضعف الخبر يلزم منه تضعيف كلّ ما لم يروه الشيخ في غيبته ممّا أخرجه الصدوق في كماله ، وما أخرجه النعماني في غيبته ، والفضل بن شاذان ، وغيرهم.

__________________

(١) الأخبار الدخيلة : ج ١ ص ٩٨.

(٢) المصدر نفسه.

٣٤٧

وإذا كان عدم اتّفاق المحدّثين في إخراج الحديث من آيات الضعف فقلّما يوجد حديث كذلك ، ويجب الحكم بضعف أكثر الأحاديث بمجرّد ذلك ، وهذا شرط لم يشترطه أحد في جواز الأخذ بالحديث وحجّيته ، وأظنّ أنّ هذا الناقد أيضا لا يقول به. هذا مضافا إلى أنّ الشيخ ـ قدس سرّه ـ لم يلزم على نفسه إخراج الأحاديث ، بل كان في مقام الإيجاز والاكتفاء بما يزول به الريب ، فلعلّه لم يذكر هذا الحديث لطوله ، وأنّ إخراجه يخرجه عمّا هو بصدده من الإيجاز والاختصار.

ومن إيراداته أيضا أنّه قال : ولم قال الشيخ في رجاله في «سعد» بعد عنوانه في أصحاب العسكري عليه‌السلام : عاصره ولم أعلم أنّه روى عنه؟ (١).

وجوابه أيضا يظهر ممّا ذكرناه ، وأنّ هذا يرجع إلى عدم ظفر الشيخ بما رواه الصدوق ، ولذا لم يروه في غيبته وقال : لم أعلم أنّه روى عنه. فالإشكالان يرتضعان من ثدي واحد ، والجواب عنهما يرجع إلى أمر واحد ، وهو عدم ظفر الشيخ بكتاب «كمال الدين» قبل تأليف رجاله ، أو لم يكن عنده حال تأليفه ككتاب غيبته. هذا مضافا إلى أنّه ربّما يقال ـ كما أفاده سيدنا الاستاذ (٢) أعلى الله في الفردوس مقامه ـ : إنّ الشيخ في تأليف رجاله لم يصل إلى نهاية مراده من استيعاب البحوث وتراجم الرجال ، وهذا المعروف عندنا برجاله ليس إلّا ما كتب مقدّمة وتهيئة لما كان بصدده من التأليف.

ومن إيراداته أيضا : عدم عدّ محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، سعدا

__________________

(١) الأخبار الدخيلة : ج ١ ص ٩٨.

(٢) هو سيد الطائفة ومجدد المذهب الإمام البروجردي قدس‌سره.

٣٤٨

في عدد من انتهى إليه ممّن وقف على معجزات صاحب الزمان عليه‌السلام ورآه من الوكلاء وغيرهم ، كما لم يذكر أحمد بن إسحاق فيهم (١). قال : ولو كان ذلك الخبر صحيحا لعدّ فيهم (٢).

والجواب : أنّ ما ذكره هو عدد من انتهى إليه لا عدد من انتهى إليه ومن لم ينته ، وعدم انتهاء أمر سعد وأحمد إليه وسكوته عنهما لا يدلّ على عدم وقوف سعد وغيره على معجزات مولانا بأبي هو وامّي عليه‌السلام ، ولا على ضعف روايته ذلك ، وإلّا يلزم ردّ سائر الأحاديث الدالّة على أسماء من وقف على معجزاته أو رآه ، وعلى أخبارهم ممّن لم يذكرهم محمد بن أبي عبد الله ، ولو بنينا على ذلك لزم أن نردّ كلّ حديث وكلّ كلمة وخطبة مأثورة عن النبي والائمة صلوات الله عليهم بمجرّد عدم نقل من لم يطّلع عليه ، أو لم ينقله لعذر آخر في باب عقده لذلك في كتابه ، وكأنّه ـ دام تأييده ـ غفل عن المثل المشهور : «إثبات الشيء لا ينفي ما عداه» و «عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود» و «عدم الدليل ليس دليلا على العدم» سيّما بعد إثبات غير ذلك الشيء ، ووجدانه ، وقيام الدليل عليه ، فلا معارضة بين الوجود والعدم وبين من يخبر عن أمر ويعلمه وبين الجاهل به ، ومجرّد كون سعد من الأجلّة وتأخّر موت محمد بن أبي عبد الله عن موته لا يستلزم انتهاء جميع أحواله إليه.

ثمّ إنّه ـ حفظه الله ـ بعد الإيرادات التي تلوناها عليك شرع في الإيراد على الحديث بمضامين متنه ممّا يشهد بزعمه على وضعه. وهو اثنا

__________________

(١) راجع كمال الدين : ج ٢ ص ٤٤٢.

(٢) الأخبار الدخيلة : ج ١ ص ٩٨.

٣٤٩

عشر إيرادا (١) ، ننقلها واحدا بعد واحد مع جوابه وبيان ضعفه بعون الله تعالى.

الأوّل : تضمّن الحديث تفسير «الفاحشة المبيّنة» في «المطلقة» بالسحق ، قال : ولم يقل به أحد ، وإنّما فسّروها بأذى أهل زوجها أو زناها.

والجواب عن هذا الإيراد يظهر بالنظر إلى تفسير الآية الكريمة ، والبحث الفقهي حول حكم خروج المطلّقة من بيتها وإخراجها منه ، فنقول : قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ ، لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (٢) والذي يهمّنا هنا في تفسير قوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) والكلام فيه يقع في مقامين :

الأوّل : فيما يحتمل أن يكون المراد من الآية بادّعاء ظهورها فيه ، وتمام ما يدور الكلام حوله : تعيين ما يكون جملة «الفاحشة المبيّنة» ظاهرة فيه ، واستفادة المعنى منها بحسب الاستظهار.

الثاني : بيان أنّ المستثنى منه هل هو حرمة إخراجهنّ من بيوتهنّ أو حرمة خروجهنّ منها؟

فنقول : قال الراغب : يقال : آية مبيّنة اعتبارا بمن بيّنها ، وآية مبيّنة وآيات مبيّنات ومبيّنات ، وقال : الفحش والفحشاء والفاحشة : ما عظم

__________________

(١) راجع الأخبار الدخيلة : ج ١ ص ٩٨ ـ ١٠٤.

(٢) الطلاق : ١.

٣٥٠

قبحها من الأفعال والأقوال ، وقال : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ، (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ، (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) ، (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) ، (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) كناية عن الزنا ، وكذلك قوله : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) انتهى (١). وعلى هذا فالفاحشة : ما عظم قبحه من المعاصي ، لا مطلق المعصية كما فسّرها بعضهم به ، فتشمل الزنا والسحق والبذاء ، وهو الفحش بما يستعظم قبحه ، وعليه يكون مثل البذاء وأذى الأهل والزنا والسحق من أفراد الفاحشة ، بل والخروج من البيت ، ويكون المستثنى منه حرمة إخراجهنّ.

ويمكن أن تحمل الروايات الدالّة على خصوص بعض هذه الامور لبيان بعض المصاديق والأفراد ، لا اختصاص مفهوم الفاحشة مثلا بالزنا أو البذاء على أحمائها ، فلا مفهوم لكلّ واحد منها يعارض منطوق غيره ، وعلى فرض استفادة المفهوم منه دلالة المنطوق أظهر ، خصوصا إذا كان المنطوق موافقا للكتاب والمفهوم مخالفا له على حسب هذا الاستظهار ، ويحمل نفي الزنا في رواية سعد على نفي اختصاص الفاحشة به كما صرّح به مثل صاحب الجواهر قدس سرّه (٢) ، ولكن لا يخلو من ضعف.

وأمّا لو كان الاستثناء من حرمة خروجهنّ يكون المراد من «الفاحشة المبيّنة» نفس الخروج من البيت ، ودلالتها على حرمة خروجهنّ آكد ، إلّا

__________________

(١) المفردات : ص ٦٨ و ٣٧٣.

(٢) جواهر الكلام : ج ٣٢ ص ٣٣٤ كتاب الطلاق.

٣٥١

أنّ هذا الاحتمال لو بنينا على الرواية ولم نترك جميعها لضعفها مردود ، وكأنّه مخالف لإجماع المفسّرين ، أو أقوال من يعتدّ به منهم ، ولو كان الاستثناء من حرمة الخروج فالمراد بها نفس الخروج دون سائر المصاديق ، فالمعنى : لا يخرجن إلّا تعدّيا وحراما. قال ابن همام : كما يقال : لا تزن إلّا أن تكون فاسقا ، ولا تشتم امّك إلّا أن تكون قاطع رحم ، ونحو ذلك ، وهو بديع وبليغ جدّا (١).

هذا ما يحتمل بالنظر إلى ألفاظ الآية ، وقد عرفت أنّ الأشهر بين المفسّرين كون الاستثناء راجعا إلى قوله تعالى : و (لا تُخْرِجُوهُنَ).

وأمّا بحسب الروايات ، ففي بعضها : فسّرت «الفاحشة» بأذاها أهل زوجها وسوء خلقها (٢) ، وفي بعضها : فسّرت بالزنا فتخرج فيقام عليها الحدّ (٣) ، وفي رواية سعد بن عبد الله فسّرت بالسحق. ومع الغضّ عمّا قيل في هذه الروايات سندا ، وعدم ترجيح بعضها على بعض من حيث السند ، لا يخفى عليك عدم دلالة غير رواية سعد على حصر المراد من الفاحشة المبيّنة بما فسّرت به ، بل يستفاد منها أنّ المذكور فيها : إمّا من مصاديقها الظاهرة كالزنا ، أو من أدنى مصاديقها ، وعلى هذا لا تعارض بين هذه الروايات ورواية سعد من حيث تفسيرها «الفاحشة المبيّنة» بالسحق.

نعم ، حيث دلّت رواية سعد بن عبد الله على نفي كون المراد بها الزنا ، يقع التعارض بينها وبين ما دلّ على كون الزنا أحد مصاديقها إن لم

__________________

(١) روح المعاني : ج ٢٨ ص ١١٧ ، روائع البيان : ج ٢ ص ٦٠١ واللفظ منه نقلا عن روح المعاني.

(٢) نور الثقلين : ج ٥ ص ٣٥٠ نقلا عن الكافي.

(٣) نفس المصدر نقلا عن الفقيه.

٣٥٢

نحمل رواية سعد على نفي اختصاص الفاحشة بالزنا ، وحينئذ يعامل معهما معاملة المتعارضين ، ويؤخذ بالمرجّحات الجهتية أولا ، أي يلاحظ جهة صدور الروايات ، وأنّها إنّما صدرت للتقيّة ، أو لأجل بيان حكم الله الواقعي ، ومع عدم المرجّح فيهما يؤخذ بالمرجّحات السندية.

وعلى كلّ حال لا يحكم على الحديث بالوضع ، كما لا يحكم على المتعارضين في سائر الموارد به.

هذا كلّه بحسب الكتاب والروايات ، وأمّا بحسب الأقوال فإليك بعضها :

قال الشيخ في «النهاية» : وإذا طلّق الرجل امرأته طلاقا يملك فيه رجعتها ، فلا يجوز أن يخرجها من بيته ، ولا لها أن تخرج إلّا أن تأتي بفاحشة مبيّنة ، والفاحشة : أن تفعل ما يجب فيه عليها الحدّ ، وقد روي : أنّ أدنى ما يجوز له معه إخراجها أن تؤذي أهل الرجل ، فإنّها متى فعلت ذلك جاز له إخراجها (١).

وقال : إذا ساحقت المرأة اخرى وقامت عليها البيّنة بذلك ، وجب على كلّ واحد منهما الحدّ مائة جلدة إن لم تكونا محصنتين ، فإن كانتا محصنتين كان على كلّ واحد منهما الرجم (٢).

وقال ابن حمزة في «الوسيلة» : فإن كانت (معها أحماؤها) وأتت بفاحشة مبيّنة وأقلّها أن تؤذي أهل الرجل بلسانها ، كان للرجل إخراجها عنه إلى غيره (٣).

وقال في السحق : الحدّ فيه مثل الحدّ في الزنا ، ويعتبر فيه

__________________

(١) النهاية : ص ٥٣٤.

(٢) النهاية : ص ٧٠٦.

(٣) الوسيلة (المطبوعة ضمن الجوامع الفقهية) : ص ٧٦١.

٣٥٣

الإحصان وفقده على حدّ اعتبارهما في الزنا (١).

وقال المحقّق في «المختصر النافع» : لا يجوز لمن طلّق رجعيا أن يخرج الزوجة من بيته إلّا أن تأتي بفاحشة ، وهو ما يجب به الحدّ ، وقيل : أدناه أن تؤذي أهله (٢).

وقال في السحق : والحدّ فيه مائة جلدة ، حرّة كانت أو أمة ، محصنة كانت أو غير محصنة ، الفاعلة والمفعولة (٣).

وقال العلامة في «التحرير» : ويحرم عليه إخراجها منه إلّا أن تأتي بفاحشة ، وهو أن تفعل ما يوجب الحدّ فتخرج لإقامته ، وأدنى ما تخرج لأجله أن تؤذي أهله ، وقال : حدّ السحق جلد مائة ، حرّة كانت أو أمة ، مسلمة كانت أو كافرة ، محصنة كانت أو غير محصنة ، فاعلة كانت أو مفعولة (٤).

ومن جميع ما ذكر يظهر لك : أنّ تفسير «الفاحشة المبيّنة» بالزنا ، وأذى أهل زوجها ليس مبنيّا على الحصر ، بل هو تفسيرها ببعض مصاديقها ، فاستشهاده لوضع الحديث بتضمّنه أنّ الفاحشة المبيّنة في المطلّقة السحق ولم يقل به أحد ، وقع منه لأجل عدم تدبّره في الآية والروايات إن أراد بذلك نفي القول بكون السحق من مصاديق الفاحشة وبعض أفرادها ، ولعلّه ظاهر كلامه ، وإن أراد تضمّن الحديث حصر المراد بالفاحشة المبيّنة بالسحق فهو كذلك إن لم نحمله على نفي الاختصاص كما حمله عليه صاحب الجواهر قدس سرّه (٥) ، ولكن لا يستشهد بمثل

__________________

(١) الوسيلة : ص ٧٨١.

(٢) المختصر النافع : ص ٢٠٢.

(٣) المصدر نفسه : ص ٢١٩.

(٤) تحرير الأحكام : ج ٢ ص ٧٥ و ٢٢٥.

(٥) جواهر الكلام : ج ٣٢ ص ٣٣٤ كتاب الطلاق.

٣٥٤

ذلك لوضع الحديث ، بل يعامل معه ومع معارضه معاملة المتعارضين.

ثمّ إنّك قد عرفت الاختلاف في حدّ السحق ، وأنّ الشيخ فصّل بين المحصنة وغيرها ، وقال في المحصنة بالرجم ، ويمكن أن يقال : إنّه يستفاد من حديث سعد أنّ المرأة المطلّقة الرجعية ليست بمحصنة ، فإذا زنت واقيم عليها الحدّ ليس لمن أرادها أن يمتنع بعد ذلك من التزوّج بها لأجل الحدّ وأنّ حدّها في السحق مع كونها غير محصنة ـ بناء على هذا الاستظهار ـ الرجم ، وهذا وإن لم نعثر عليه في الأقوال إلّا أنّه ليس ببعيد منها ، ويؤيّده إطلاق بعض الروايات ، ولا يمنع من الأخذ بها عدم القائل بها لو لم يكن غيرها من الروايات أرجح عليها من جهة السند وغيره.

وكيف كان فليس في حديث سعد إلّا دلالته على اختصاص «الفاحشة» بالسحق ، ودلالته على كون الحدّ فيه الرجم مطلقا.

والأول يردّ بما اختاره في «الجواهر» (١) من حمله على نفي الاختصاص. ولا يخفى أنّ الحمل عرفي ، مبني على حمل الظاهر على الأظهر ، لأقوائية ظهور ما دلّ على كون المراد من «الفاحشة» الزنا من ظهور دلالة حديث سعد على الاختصاص بالسحق ، مضافا إلى أنّه لو لم نأخذ بهذا الحمل يعامل معهما معاملة المتعارضين كما مرّ ، كما يعامل معها ومع ما يعارضها وهو ما يدلّ على أنّ شرط الرجم الإحصان ، وأنّ المطلقة الرجعية محصنة أيضا معاملة المتعارضين.

الثاني ممّا جعله شاهدا لوضع الحديث : ما أشار إليه بقوله : وتضمّن أنّ السحق أفحش من الزنا مع اتّفاق الإمامية على أنّه كالزنا في الحدّ أو أدون بإيجابه الجلد فقط ولو كان من محصنة ، وهو الأشهر.

__________________

(١) جواهر الكلام : ج ٣٢ ص ٣٣٤ كتاب الطلاق.

٣٥٥

أقول : أمّا كونه أفحش من الزنا ، فربّما يستفاد من بعض الروايات التي فيها التوعيدات الشديدة على السحق (١) ، ومثل قوله عليه‌السلام في بعضها : «وهو الزنا الأكبر» (٢) ، ومنها رواية سعد هذه.

وأمّا كون حدّها مساويا مع حدّ الزاني أو أدون منه ، وأنّه الأشهر ، فلا يدلّ ذلك على عدم كونه أفحش ، لجواز أن يكون ذلك لبعض الحكم ، مثل كون الزنا أكثر وأميل إليه مع منع أشهرية كون حدّ السحق أدون من الزنا بين القدماء ، ومثل الاتّفاق الذي نقله عن الإمامية لا منع من مخالفته بعد ما نعلم أنّ القولين اللذين وقع الاتّفاق عليهما مبناهما الروايات والاستظهار منها.

وكيف كان وقوع مثل هذه المخالفات بين الأحاديث لا يقع مستندا لردّها وردّ حجّيتها ، بل لا بدّ لنا من علاج المخالفة بالوجوه المقرّرة في الاصول.

الثالث من الامور التي زعم أنّها تشهد بوضعه : ما أشار إليه بقوله : وتضمّن لعب الحجّة عليه‌السلام مع أنّ من علائم الإمام عليه‌السلام عدم لعبه ، ففي خبر صفوان الجمّال أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن صاحب هذا الأمر ، فقال : إنّه لا يلهو ولا يلعب (٣). وأقبل أبو الحسن موسى عليه‌السلام وهو صغير ومعه عناق مكية وهو يقول لها : اسجدي لربّك ، فأخذه أبو عبد الله وضمّه إليه وقال : بأبي وامّي من لا يلهو ولا يلعب (٤). وفي صحيح معاوية بن وهب أنّه سأل

__________________

(١) راجع الوسائل : ج ١٤ ص ٢٦٠ كتاب النكاح ، باب تحريم السحق.

(٢) الوسائل : ج ١٤ ص ٢٦٢ نقلا عن الكافي.

(٣) الكافي : ج ١ ص ٣١١.

(٤) المصدر نفسه.

٣٥٦

الصادق عليه‌السلام عن علامة الإمامة ، فقال : طهارة الولادة ، وحسن المنشأ ، ولا يلهو ولا يلعب (١). وفي إثبات المسعودي والكتاب المعروف بدلائل الطبري في خبر مشتمل على خروج جماعة إلى الجواد عليه‌السلام بعد وفاة أبيه لامتحانه ، ومنهم علي بن حسّان الواسطي ، وأنّه حمل معه من آلات الصبيان أشياء مصاغة من الفضّة بقصد الإهداء والإتحاف إليه عليه‌السلام لطفوليّته ، قال : فنظر إليّ مغضبا ثمّ رمى به يمينا وشمالا ، فقال : ما لهذا خلقنا الله ، فاستقلته واستعفيته فعفا ، وقام فدخل ، وخرجت ومعي تلك الآلات (٢) ، والخبر.

أقول : ما ذكره من أنّ الإمام لا يلهو ولا يلعب حقّ لا ريب فيه ، ويدلّ عليه من الروايات أزيد ممّا رواه ، كما أنّ هذا ثابت بدلالة العقل أيضا ، إلّا أنّ اللعب يقال على فعل لم يقصد به فاعله مقصدا صحيحا. قال الراغب : ولعب فلان : إذا كان فعله غير قاصد به مقصدا صحيحا ، وقال : اللهو : ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه ويهمّه ، يقال : لهوت بكذا ، ولهيت عن كذا : اشتغلت عنه بلهو (٣). وأمثال هذه الأفعال الصادرة من الأطفال يترتّب عليها منافع مهمّة ، مثل : رشد جسمه ونموّه واعتدال أعضائه ، حتّى إنّ علماء التربية والرياضة يلزمون على مربّي الأطفال تشجيعهم على هذه الأفعال ، ولو لم يكن في طفل رغبة إلى هذه الأفعال الرياضية يستدلّون به على عدم صحّة جسمه ، بل وسلامة روحه.

فان قلت : إنّ هذه الأفعال وإن يترتّب عليها بعض المنافع إلّا أنّ

__________________

(١) الكافي : ج ١ ص ٢٨٤.

(٢) البحار : ج ٥٠ ص ٥٨ نقلا عن دلائل الطبري مع اختلاف يسير ، وراجع إثبات الوصيّة : ص ٨٦ وما في المتن موافق له.

(٣) المفردات : ص ٤٥٠ و ٤٥٥.

٣٥٧

الطفل مفطور عليها ، لا يقصد بها منفعة.

قلت : نعم ، ولكنّ الفرق بينها وبين اللعب واللهو الذي ينزّه عنه الإنسان الكامل أوضح من أن يخفى ، فالأول قد قصد منه مقصدا صحيحا تكوينا ، وبإرادة خالق الإنسان عزوجل ، ودليل على كمال خلقته وتمامية فطرته ، وعدمه دليل على النقصان. نعم ، لا يفهم الطفل غالبا ونوعا ما قصد من رغبته إلى ما نسمّيه مجازا ، ومن غير التفات إلى الحكم والغايات التكوينية لهوا ولعبا ، أمّا الإمام فيفهم ذلك ، شاعر بهذا الغرض الكاشف عن دقائق حكمة الله تعالى وكمال صنعه.

والإشكال والاستبعاد بصدور هذه الأفعال من الإمام الذي أعطاه الله تعالى العلم والحكم صبيّا قريب من قول من قال : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) (١) فنفي صدور هذه الأفعال عنهم عليهم‌السلام ، لو لم يرجع إلى إثبات نقص فيهم لا يكون كمالا لهم ، ويؤول الأمر إلى تنزيههم من الأفعال العادية التي يستحي الإنسان أن يراه الناس فيها ، وإلى نفي مثل الشهوة والميل الجنسي عنهم ، والحال أن بكلّ ذلك تظهر كمالاتهم الروحية ، ومقاماتهم الشامخة العالية ، ولو راجعنا تواريخ الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام لوجدنا فيها أزيد من ذلك بكثير ، من أظهرها ما وقع بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسبطيه العزيزين عليه حتّى في حال صلاته وفي سائر الأحوال ، فهو يلاعبهما وهما يلاعبانه ويقول : نعم المطيّة مطيّتكما ، ونعم الراكبان أنتما (٢). ويقول في الحسين عليه‌السلام : حزقّة حزقّة ، ترقّ عين بقّة (٣) ، ولم يقل أحد : إنّ هذا لعب

__________________

(١) الفرقان : ٧.

(٢) البحار : ج ٤٣ ص ٢٨٦ نقلا عن المناقب.

(٣) نفس المصدر السابق.

٣٥٨

لا يجوز للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ارتكابه ، أو لا يجوز لسبطيه عليهما‌السلام الركوب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سيّما في حال الصلاة. وهذه سيّدتنا وسيّدة نساء العالمين كانت ترقّص الحسن عليه‌السلام وتقول : أشبه أباك يا حسن ... ، وقالت للحسين : أنت شبيه بأبي لست شبيها بعلي (١).

فهل تجد من نفسك أن يكون الأنبياء والأوصياء محرومين او ممنوعين من هذه الملاطفات التي تقع بين الآباء والأبناء ، ومن أوضح الشواهد على لطافة الروح وحسن الخلق والرحمة الإنسانية مع ما فيها من الحكم والرموز التربوية ، فتمنعهم من هذا الشوق النفسي والرغبة؟ فسبحان الذي جعلها من ألذّ لذائذ الحياة ، وما يذهب بها متاعبها ، وتنسى مشاقّها ومرارتها.

الرابع ممّا استشهد به من مضامين الحديث لوضعه : ما أشار إليه بقوله : وتضمّن منع الحجّة أباه عليه‌السلام عن الكتابة ، ولا يفعل مثل ذلك صبيان العامة إلّا قبل صيرورتهم ذوي تميز ، فكيف يفعل ذلك مثله عليه‌السلام؟

وقد ظهر جوابه من مطاوي ما ذكرناه في الجواب عن إيراده الثالث ، وركوب مولانا الحسن أو الحسين عليهما‌السلام على ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم المطيّة مطيّتكما ، ونعم الراكبان أنتما. ولا يطلق على مثل هذه الحركات اللطيفة والملاطفات المحبوبة المنع ، ولم يقل أحد : إنّ الإمام في حال كونه رضيعا صبيّا في المهد يجب أن يترك الأعمال التي جرت سنّة الله تعالى عليها في

__________________

(١) المصدر نفسه.

٣٥٩

الصبيان ، أو يجب عليه أن يعامل مع والديه وحاضنته وغيرهم خلاف ما هو المألوف عن الصبيان ، بل الأمر على خلاف ذلك ، قد جرت سنّة الله فيهم على ذلك لحكم ومصالح لعلّه يكون منها عدم غلوّ الناس فيهم فيتّخذونهم أربابا من دون الله تعالى أو أبناءه.

الخامس ممّا استشهد به لوضع الحديث ما أشار إليه بقوله : وتضمّن إبقاء العسكري عليه‌السلام رمّانة ذهبية تلمع بدائع نقوشها وسط غرائب الفصوص المركّبة عليها للعب ولده ، مع أنّ ذلك عمل مترفي أهل الدنيا ، لا مثلهم عليهم‌السلام المعرضين عن الدنيا وزخارفها.

أقول : قال الله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) (١) ، وقال عزّ اسمه في سليمان : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) (٢) ، وإن شئت فراجع سيرة الأنبياء سيّما سيرة سليمان على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ، فقد كان له قصور ونساء وإماء كثيرة ، حتّى قيل : إنّه كان له ألف امرأة ، وكان يجلس على العرش ، وروي : أنّه كان يخرج إلى مجلسه فتعكف عليه الطير ، ويقوم له الإنس والجنّ حتّى يجلس على سرير (٣) ، وقد روي فيما توسّع له وتوسّع به ما يستعجب منه (٤) ، ومع ذلك لم يقل أحد : إنّ كلّ ذلك عمل مترفي أهل الدنيا ، وخلاف الإعراض عن الدنيا.

وفي الحديث : «ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال ، ولا تحريم

__________________

(١) الأعراف : ٣٢.

(٢) سبأ : ١٣.

(٣) البحار : ج ١٤ ص ٧١.

(٤) راجع البحار : ج ١٤ ص ٨٠.

٣٦٠