منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام - ج ٣

لطف الله الصافي الگلپايگاني

منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

لطف الله الصافي الگلپايگاني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مكتب المؤلّف دام ظلّه
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٢

الحلال ، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله» (١). وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام «الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن ، قال الله سبحانه : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه» (٢) ، هذا هو الزهد ، ولا يلزم معه ترك الانتفاع بما أحلّه الله تعالى والالتذاذ بالملذّات ، بل يجمع معه الانتفاع بكلّ ما أنعم الله تعالى به على الإنسان من نعم الدنيا ، لأنّ المترفين أخذوا بالنعم حبّا للدنيا الدنيّة فيصعب عليهم تركها ، دون هؤلاء. فإنّهم يتركون الدنيا بلا عناء ومشقّة ، لا فرق عندهم في مقام الإنفاق بين الرمّانة الذهبية والرمّانة الطبيعية. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصف حجج الله تعالى : استلانوا ما استوعره المترفون (٣) ، فهم كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم ، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت ، وأكلوها بأفضل ما أكلت ، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون ، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبّرون ، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح (٤).

إذن فما شأن هذه الرمّانة الذهبية التي لم تكن أصلها من الذهب ، بل كانت منقوشة به ، وما كان قيمتها ، ومن أين علم أنّه أبقاها؟ فلعلّها اهديت إليه في ذلك الحال كما يشعر به قوله : قد كان أهداها بعض رؤساء أهل البصرة. ويظهر من ألفاظه أنّه بالغ في توصيفها ، وما كان

__________________

(١) سفينة البحار : ج ١ ص ٥٦٨.

(٢) نهج البلاغة صبحي الصالح : ص ٥٥٣ خطبة ٤٣٩.

(٣) نهج البلاغة صبحي الصالح : ص ٤٩٧ الحكمة ١٤٧.

(٤) نفس المصدر ص ٣٨٣ من كتابه عليه‌السلام إلى محمد بن أبي بكر.

٣٦١

إعجابه بها إلّا لأنّه رآها بين يدي مولاه ، وأنّها كانت الواسطة لملاطفته عليه‌السلام مع قرّة عينه ، ولو وصف غير الرمّانة أيضا ممّا كان في البيت من الأشياء والأثاث كان توصيفه لها مثل ذلك ، فعين مثل عينه التي تشرّفت برؤية مولانا العسكري وولده العزيز الذي بشّر به الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام ، ووقعت على الجمال الذي ليس فوقه جمال إلّا جمال الله ـ جلّ جماله ـ الذي هذا الجمال منه ، يرى كل ما يرى متعلّقا بهذا الجمال جميلا ، ويصفه بأحسن ما بإمكانه من الألفاظ البليغة ، والعبارات اللطيفة.

السادس ممّا تمسّك به لإثبات وضع الحديث : تضمّنه إنكار تفسير «خلع النعلين» في آية : «فاخلع نعليك» (١) بمعناه الظاهري وتأويله بنزع حبّ الأهل من القلب.

قال : وتضمّن الإنكار في تفسير آية (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) بما فيه مع إنّ الصدوق نفسه روى في «العلل» عن ابن الوليد عن الصفّار عن يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن أبان عن يعقوب بن شعيب عن الصادق عليه‌السلام قال : قال الله تعالى لموسى : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) لأنّها كانت من جلد حمار ميّت (٢) ، والخبر صحيح أو كالصحيح ، حيث أنّ أبانا من أصحاب الإجماع على فرض صحّة نسخة الكشّي في كونه ناووسيا مع أنّ الراوي للخبر ابن الوليد النقّاد للآثار. وأيضا : قال تعالى ذلك لمّا أراد بعثته ، فلا معنى لقوله في الخبر : «استجهله في نبوته» فالأنبياء كانوا لا يعرفون شيئا من الشريعة قبل الوحي إليهم بها ، ثمّ من

__________________

(١) طه : ١٢.

(٢) علل الشرائع : ج ١ ص ٦٣.

٣٦٢

أين أنّ صلاة موسى عليه‌السلام كانت فيها؟ ومن أين اتحاد الشرائع في مثله (١)؟

أقول : نحن نتكلّم أولا في دلالة الآية الكريمة بالنظر إلى ظاهرها ، ثمّ ننظر أيّ التفسيرين أقرب إلى الظاهر ، فنقول : الظاهر أنّ موسى عليه‌السلام أمر بخلع نعليه احتراما للواد المقدّس كما هو شأن كلّ مكان مقدّس يخلع الناس النعال عند ورودهم فيه ، وكما نرى يخلعون نعالهم عند دخولهم المساجد والمشاهد والمقامات الشريفة ، وهذا علامة تعظيمهم لهذا المكان ، وأمر الله تعالى نبيّه موسى بذلك إيذانا بأنّه دخل الوادي المقدّس ، ويظهر منها أنّ موسى كان عالما بأنّ أدب الورود والكون في المكان المقدّس خلع النعلين ، وأنّ الأمر لم يكن مولويا بل كان إرشاديا ، وإخبارا بأنّه وقع في هذا المكان المقدّس ، فيلزم عليه خلع نعليه ، وسواء كان مولويا أو إرشاديا ، وسواء كان «طوى» اسم هذا الوادي أو كان خبرا ك «إنّ» ، وحكاية عن الحالة الحاصلة لموسى ، فالمناسب للتعظيم خلع النعلين. هذا ما يستفاد من ظاهر الآية.

وأمّا تفسيرها بحسب الروايات فنقول : إنّ القانون في الروايتين المتعارضتين إذا كانتا متضمّنتين لحكم من الأحكام العملية والفروع الفقهية الجمع العرفي بينهما إن أمكن ، وإلّا فالرجوع إلى المرجّحات المذكورة في باب التعادل والترجيح إن كان لإحداهما ترجيح على الاخرى ، وإلّا فالحكم هو التخيير كما بيّن في محلّه ، إلّا أنّ لازم ذلك ليس الحكم بكذب الرواية التي رجّح غيرها عليها والحكم بوضعها ، كما أنّ في صورة التخيير لا يحكم بتساقط أحدهما عن الحجية رأسا ، بل يؤخذ بهما

__________________

(١) الأخبار الدخيلة : ج ١ ص ٩٩ ـ ١٠٠.

٣٦٣

في نفي القول الثالث ، فكلتاهما حجّة لو لا ابتلاء كلّ واحدة منهما بالاخرى.

وعلى هذا ، على فرض ترجيح الخبر الذي فسّر الآية بأنّ الله تعالى إنّما أمر موسى بخلع نعليه لأنّها كانت من جلد حمار ميّت ، مثل رواية يعقوب بن شعيب عن الصادق عليه‌السلام المتقدّمة ، يجب الأخذ بها بالحكم الظاهري ، وهو وجوب تصديق العادل ، والبناء العملي على خبره ، ولا يستلزم من ذلك سقوط الخبر من الحجّية بالمرّة فيما لا يعارضه خبر آخر ، ولا يجوز الحكم بوضعه وكذبه بمجرّد هذا التعارض ورجحان الآخر عليه ، فما ذكره الناقد هنا لا يوجب خللا في الحديث ، ولا وهنا فيه ، فليس هنا إلّا أنّ الشارع تعبّدنا بالأخذ بما فيه المرجّح في مقام العمل ، ولا يخفى عليك أنّه ليس مجرّد معارضة خبر آخر أخذنا به على ما تقتضيه القواعد في مورد تعارضهما موجبا لترك الآخر في غير مورده ، فلا يترك خبر «كمال الدين» لأنّ بعض مضمونه معارض لمضمون خبر ابن شعيب ، وإن كان الأخير صحيح السند والأول ضعيف السند.

وبعد ذلك كلّه ننظر إلى مضمون خبر «كمال الدين» بالقياس إلى خبر ابن شعيب ، فنرى أيّهما أوفق بالآية ، فنقول : أمّا تفسير الآية بأنّه إنّما أمر الله تعالى نبيّه موسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام بخلع نعليه لأنّها كانت من جلد حمار ميّت ، فهو خلاف الظاهر ، فإنّ الظاهر : أنّ خلع النعلين بما أنّها نعلين تعظيم للواد المقدّس ، وأنّ الوقوف مع النعلين في هذا الوادي خلاف التعظيم والتكريم ، لا لأنّها كانت من جلد حمار ميّت ، فيجوز عليه الورود والوقوف مع النعلين لو لم تكن من ميتة ، فهذا مخالف لظهور الكتاب ، وموجب لاختلال شرائط حجّية الحديث ، لأنّ

٣٦٤

التعارض إذا وقع بين ظاهر الكتاب وظاهر الخبر لا شكّ في أنّ الكتاب هو الحجّة ، فلو لا ابتلاء خبر يعقوب بن شعيب بالمعارض أيضا مثل خبر «كمال الدين» لا يجوز الاستناد به من جهة معارضة ظاهر الكتاب.

لا يقال : إنّ الحديث في مفاده أظهر وأنصّ من دلالة الكتاب على موضوعية خلع النعلين في أداء التعظيم وتحقّق التكريم ، فإنّه يقال : مناسبة الحكم والموضوع ، واقتضاء شرافة المكان ، وعرفية خلع النعلين في مقام التعظيم تؤيّد ظهور الكتاب فيما هو ظاهر فيه عرفا.

ولا يخفى عليك أنّ التعارض هنا ليس من تعارض المقيّد والخاصّ مع المطلق والعام ، بل التعارض والتخالف وقع بينهما بالتباين ، وعلى هذا يسقط الاستشهاد لوضع حديث سعد بمخالفة مضمونه لحديث يعقوب بن شعيب. هذا بالنظر إلى تفسير الآية برواية يعقوب والاستشكال فيه.

وأمّا بالنظر إلى حديث سعد فالظاهر منه أنّه سأله عليه‌السلام عن تأويل الآية لا عمّا يستفاد منها بحسب ظهورها العرفي الحجّة ، فلا منافاة بين الظهور واستفادة الأمر بخلع النعلين ، لأنّه لا ينبغي تأدّبا الورود والوقوف في هذا الوادي المقدّس وكلّ مكان ذي شرافة مع النعلين ، والتأويل المذكور الذي لا يعلمه إلّا الله والراسخون في العلم.

وعلى هذا لا يرد عليه بأنّ جعل «نعليك» كناية واستعارة عن حبّ الأهل مجاز يحتاج إلى قرينة ، ولا قرينة ، مع أنّ الأمر بالنزع ، لو كان المراد بالنعلين حبّ الأهل كان للدوام ، وينافيه تعليله (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) ، فإنّ هذا يقال لو قلنا : بأنّ ذلك هو المتبادر إلى الذهن بحسب الظهور العرفي ، لا إذا قلنا بحسب التأويل الذي ورد من أهله ،

٣٦٥

مضافا إلى أنّ باب الاستعارة واسع ، والمعيار في استحسانه الذوق السليم ، وخفاء القرينة علينا لا يقتضي عدم وجودها بين المتكلّم ومخاطبه ، فلعلّه كان حافيا والتعليل يقتضي دوام الأمر ، فإنّ التشرّف بالواد المقدّس والتكلّم مع الله تعالى يقتضي نزع حبّ غير الله تعالى من القلب ، وأن يكون أبدا ملازما له ، مخلصا محبّته لله.

لا يقال : على هذا يدور الأمر بين رفع اليد عن ظاهر الآية برواية ابن شعيب أو برواية سعد والترجيح بحسب السند مع الاولى ، لأنّه يقال : خبر ابن شعيب معارض لظاهر ما يستفاد من الكتاب ، وهو أنّ الأمر بخلع النعلين كان للتعظيم كما يدلّ عليه خبر ابن شعيب أيضا ، فإنّه قد دلّ على ذلك وإن خصّصه بما إذا كان النعل من جلد حمار ميّت ، ومعارضته للكتاب إنّما يكون لأجل دلالة الخبر على اختصاص التعظيم بما إذا كان النعل من جلد حمار ميّت مع أنّ العرف لا يساعد مع اختصاصه بخصوص هذا المورد ، ويرى تفسيره بالمورد منافيا للاحترام والتعظيم ، فحديث ابن شعيب مردود من جهة دلالته بهذا الاختصاص ونفي البأس عن سائر الموارد ، وأمّا كون المراد من «خلع النعلين» خلع محبّة الأهل فهو تفسير لا ينفي رجحان خلع النعلين ، وإن كانت الآية ليست بصدد بيان هذا الرجحان ، فتأمّل حتّى لا يشتبه عليك الفرق بين التفسيرين بالنسبة إلى ما يستفاد من ظاهر الآية. هذا.

وأمّا قوله : وأيضا قال تعالى ذلك له لمّا أراد بعثته ، فلا معنى لقوله في الخبر : استجهله في نبوّته ، فالأنبياء كانوا لا يعرفون شيئا من الشريعة قبل الوحي إليهم بها ، ثم من أين أنّ صلاة موسى عليه‌السلام كانت فيها؟ ومن أين اتّحاد الشرائع في مثله ... الخ.

٣٦٦

ففيه : أولا : أنّ كلامه هذا غريب منه ، فإنّه مثل الاجتهاد في مقابل النصّ ، فإنّ الحديث يدلّ على أنّ الأمر بخلع النعلين لم يكن لبيان حكم شرعي ابتدائي كما استظهرنا ذلك من الآية أيضا ، وأنّ موسى كان يصلّي في نعله هذا ، وبعد ذلك يتّجه ما أورد في الحديث على التفسير الذي زعمه الفقهاء ، وردّ الحديث بإنكار ذلك ، والترديد في أنّ صلاة موسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام كانت فيها ، وفي اتّحاد الشرائع في مثله بعد دلالة الحديث عليه ، في غير محلّه ومن الهفوات.

السابع من الوجوه التي توهّم أنّها تشهد بوضع حديث سعد : تضمّنه أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى أن انزع حبّ أهلك من قلبك إن كان محبّتك لي خالصة ، مع أنّ محبّة الخالق على وجه ومحبّة الخلائق على وجه ، ولا يزاحم الثاني الأول ولا ينقضه ، كيف وقد قال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أكمل الرسل وأفضلهم : حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : النساء ... الخبر ، وقال الصادق عليه‌السلام من الأخلاق (أخلاق ـ ظ) الأنبياء حبّ النساء ، وقال عليه‌السلام : ما أظنّ رجلا يزداد في الإيمان (أو في هذا الأمر) خيرا إلّا ازداد حبّا للنساء. وإنّما المذموم حبّ يوجب مخالفة أمره تعالى ونهيه ، قال عزوجل : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) ... إلى قوله : (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) الآية ، مع أنّ جعل «نعليك» كناية واستعارة عن حبّ الأهل مجاز يحتاج إلى قرينة ، ولا قرينة ، مع أنّ الأمر بالنزع ، لو كان المراد بالنعلين حبّ الأهل كان للدوام ، وينافيه تعليله : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١).

أقول : أولا : إنّ توهّم التخالف والتعارض بين مثل حديث سعد

__________________

(١) الأخبار الدخيلة : ج ١ ص ١٠٠.

٣٦٧

الذي يستفاد منه الترغيب إلى الإخلاص في المحبّة وكمال التوحيد فيها وما ذكره من الآيات ناشئ من عدم التأمّل في المراد من الطائفتين من الآيات والأحاديث ، فالطائفة الاولى تنظر إلى مقام اندكاك كلّ محبّة ومحبّة كلّ شيء في محبّة الله ، فلا محبوب للمحبّ إلّا هو ، فكلّ حبّ ومحبّ يفنى عنده ، فلا يرى شيئا ، ولا يحبّ أحدا سواه ، ولا يلتفت إلى رؤيته ما سواه وحبّه ما سواه كما إذا كان الإنسان مشغول القلب بالتفكّر في أمر ينسى ما سواه حتّى نفسه ، وحتّى ينسى اشتغاله بالتفكّر فيه ، ولمّا كان موسى عليه‌السلام في هذا المشهد العظيم مشتغل القلب بأمر أهله لأنّه جاء ليقتبس نارا ، وأمرهم بالمكث لأن يأتيهم منها بقبس ، أمره تعالى بأن يفرغ قلبه له ولما يوحى إليه في هذا المشهد المقدّس ، فالوصول بهذه المرتبة الرفيعة يناسب ترك الاشتغال بغير الله تعالى والتوجّه إلى غيره وإلى محبّة الأهل والولد ، وعلى هذا الشأن وأعلى مرتبته كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حال نزول الوحي إليه وغيره من الحالات المقتضية لذلك ، فالشئون متفاوتة ، والمشاهد والمقامات المتعالية القدسية لا تقاس مع غيرها من الشؤون والمقامات التي لا بدّ للنبي والولي التلبّس بها ، ولا يجوز في الحكمة ترفّعهما عنها ، بل هما مأموران بهما ، متقرّبان بهما إلى الله تعالى.

وأمّا المشهد الذي هو مشهد ظهور محبّة الله والانقطاع إليه ، ومشهد التشرّف بتكليم الله تعالى يقتضي ترك الاشتغال بغيره ، وفناء كلّ حبّ وحبيب فيه ، ولذا أسرع موسى بعد ذلك إلى الذهاب إلى فرعون امتثالا لأمره وترك أهله على حالهم ، وهذا شأن ترفع فيه النفس الإنسانية إلى أعلى المراتب الروحانية والقدسية الملكوتية.

٣٦٨

وأمّا شأنه في حال يوصف بحسبه بحبّ الأهل والمال والولد ، ويشتغل بحبّهم وملازماته ، فهو أيضا شأن من شئونه ، ولكن ليس اشتغاله بالله كاشتغاله به في الشأن الأول ، فاشتغاله به في الأول يتحصّل له بغير واسطة ، وفي الثاني شغله به يتحقّق بواسطة غيره ، ويجوز في هذا المقام الجمع بين الحبّين.

وبعبارة اخرى نقول : فعليّة اشتغال القلب بمحبّة الله في مشهد من مشاهد القرب ومعراج الانس تنافي اشتغاله الفعلي بمحبّة غير الله والتوجّه به ، كما أنّ فعلية اشتغال القلب بحبّ النساء لا تجتمع مع الاشتغال الفعلي التام بحبّ الله تعالى. وإن شئت الشاهد لذلك فعليك بالرجوع إلى الأدعية ، ففي ذيل دعاء عرفة المنسوب : «أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سواك ، ولم يلجئوا إلى غيرك» هذا ، ولا يخفى عليك قصور عباراتنا عن بيان حقيقة هذه المنازل والمشاهد ، سيّما إذا كان النازل فيها وشاهدها الأنبياء والأولياء.

وثانيا : ما ذكره من أنّ المذموم حبّ يوجب مخالفة أمره تعالى ونهيه صحيح لا ريب فيه ، أي لا يترتّب على حبّ غيره إذا لم يؤدّ إلى مخالفة أوامره ونواهيه عقاب وذمّ مولوي ، والآية (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) (١) ناظرة إلى ذمّ هذا الحبّ المؤدّي إلى العصيان والمخالفة ، وأمّا غيره فلم يكلّف الله عباده بتركه وإن رغّبهم بالجهاد لترك بعض أنواعه كما رغّبهم إلى بعض أنواعه الاخرى ، إلّا أنّه لا ريب في أنّ شغل القلب بالله تعالى ، والانصراف من كلّ شيء إلى الله ، والانقطاع به ممدوح شرعا ، وكلّما كان ملازمة النفس بذكر الله تعالى ومداومته به

__________________

(١) التوبة : ٢٤.

٣٦٩

أقوى وأتمّ كان العبد إلى الله أقرب ، ولو كان جائزا في حكمة الله تعالى أن لا ينصرف عبده إلى غيره ممّا يتوقّف به نظام العالم ويدور مداره ابتلاء الخلق ، لكان اللازم على العبد أن لا ينصرف منه إلى غيره.

فعلى هذا نقول : إنّ حبّ الأهل والمال والولد ليس مذموما بالإطلاق ، إلّا أنّ الاشتغال التامّ بالله تعالى ، وشغل القلب بمحبّته في بعض الأحوال ، ومثل المقام الذي تشرّف به موسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ممدوح ، بل لازم من لوازم العبودية ومعرفة الربوبية ، وينبئ عن ذلك كلّه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لي مع الله وقت لا يسعه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل» (١) ، وقوله في الحديث القدسي : «أنا جليس من ذكرني» (٢) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من ذكر الله في السوق مخلصا عند غفلة الناس وشغلهم بما فيه كتب الله له ألف حسنة ، ويغفر الله له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر» (٣).

وثالثا : دعواه ـ أنّ جعل «نعليك» كناية واستعارة عن حبّ الأهل مجاز يحتاج إلى قرينة ، ولا قرينة فيها ـ أنّ الظاهر أنّ هذه الاستعارة كانت معهودة عند أهل اللسان ، بل وغيرهم من سائر الألسنة ، ولذلك حكي : أنّ أهل تعبير الرؤيا يعبّرون النعلين بالأهل ، وفقدانها بفقدان الأهل (٤) ، مضافا إلى أنّه يكفي في القرينة كون النعلين من اللباس ، وإطلاق اللباس

__________________

(١) انظر البحار : ج ١٨ ص ٣٦٠.

(٢) الوسائل : ج ١ ص ٢٢٠ نقلا عن الفقيه والتوحيد والعيون ، وفي ج ٤ ص ١١٧٧ نقلا عن الكافي.

(٣) الوسائل : ج ٤ ص ١١٩٠ نقلا عن عدّة الداعي.

(٤) راجع تعطير الأنام في تعبير المنام : ج ٢ ص ٣٠٦ ، وتفسير الأحلام لابن سيرين المطبوع بهامش تعطير الأنام : ج ٢ ص ٢٢٨.

٣٧٠

على الزوجة في (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) (١).

وأوضح من ذلك كلّه : أنّ السؤال في حديث سعد وقع عن تأويل الآية ، لاعن تفسيرها ، ولذا لا ينافي ذلك التأويل كون المراد بالنعلين غير ما يراد بها في العرف واللغة ، كما لا ينافي أيضا لو كان المراد من ظاهر الآية الأمر بنزع النعلين لأنّها كانت من جلد حمار ميّت وإن كان في هذا الاحتمال ما ذكرناه ممّا يردّ كونه المراد ، والله أعلم.

ورابعا : قد ظهر ممّا ذكرناه أنّه لا يلزم من كون المراد بنزع النعلين نزع حبّ الأهل أن يكون ذلك للدوام ، بل يصحّ ذلك ولو كان لعلّة حضوره في مشهد تكليم الربّ معه ، والتعليل يؤيّد ما ذكرناه من عدم منافاة بين الأمر بنزع حبّ الأهل في هذا المقام الشريف وبين ما ورد في الترغيب إلى حبّ الأهل. هذا.

ولا يخفى عليك أنّ بعد إمكان الجمع بين رواية سعد وغيره من الروايات لا يجوز القول بمخالفتها مع غيرها ، والاستشهاد بها لوضعها ، سامحنا الله وإيّاه ، ووفّقنا لسلوك الطريقة المستقيمة ، وهدانا إلى السليقة السليمة.

الثامن من المضامين التي استشهد بها لوضع حديث سعد : ما فيه من تفسير «كهيعص» مع أنّ الأخبار وردت بغير ذلك كلّها دالّة على أنّ «كهيعص» من أسماء الله تعالى.

وفيه : أوّلا : أنّ ذلك على سبيل التأويل ، وسائر الأخبار ورد على سبيل التفسير.

وثانيا : لا منافاة بين هذه الأخبار ، ولا دلالة لها على حصر المراد بما

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

٣٧١

فيها بعد ما كانت الحروف المقطّعة القرآنية من الرموز ، فيجوز أن يكون كلّ حرف منها رمزا للعلوم الكثيرة ، ومفتاحا لأبواب من المعارف والامور الغيبية ، وهذا نحو قوله عليه‌السلام : علّمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف باب من العلم ، فانفتح لي من كلّ باب ألف باب (١).

التاسع : تضمّنه أنّ اليهود كانوا يخبرون بظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يسلّط على العرب كتسلّط بخت نصّر على بني إسرائيل ، وأنّه كاذب ، مع أنّه خلاف القرآن ، فإنّه تضمّن أنّهم يوعدون أعداءهم به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه إذا ظهر ينتقم لهم منهم ، قال الله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) ، وورد : أنّ الأنصار بادروا بالإسلام لمّا سمعوا من اليهود فيه ، فقالوا : هذا النبي الذي كانت اليهود يخبروننا به.

أقول : هذا أيضا عجيب ، فإنّ ما يدلّ عليه حديث سعد : أنّ اليهود كانوا يقولون كذا وكذا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا يكذّبونه ، وتكذيبهم إيّاه قد ورد في القرآن المجيد لا مرية فيه ، ومن جملة ما يدلّ على إنكارهم وردّهم رسالته هذه الآية : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ ...) (٢) فأيّ منافاة بين كونهم مخبرين برسالته قبل دعوته وبعثته أو قبل ولادته ، وبين إنكارهم حسدا وعنادا للحقّ؟ والأنصار أيضا آمنوا بالحقّ لمّا سمعوا من اليهود قبل ذلك من البشارة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في التوراة مع أنّهم بعد ذلك لم يؤمنوا به وأنكروه ، إلّا القليل منهم كعبد الله بن سلام وغيره.

__________________

(١) راجع البحار : باب علمه عليه‌السلام وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علّمه ألف باب ج ٤٠ ص ١٢٧.

(٢) البقرة : ٨٩.

٣٧٢

إن قلت : إنّ الآية الكريمة إنّما تدلّ على أنّ اليهود كانوا قبل البعثة يستفتحون على الذين كفروا ، وكانوا يخبرون عن ظهور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويصدّقونه ، فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به ، والرواية قد دلّت على أنّهم يكذّبونه قبل ذلك.

قلت : ما دلّت عليه الرواية : أنّ المجالسين لهما كانوا يكذّبونه ، ولعلّ مجالستهما إيّاهم كانت للاستخبار عن حاله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومآل حاله ، وكانت بعد البعثة ، ولا رادّ لاحتمال أن يكون طائفة من اليهود كانوا يكذّبونه قبل ذلك تعصّبا ؛ لعلمهم بأنّه من العرب ومن ولد إسماعيل على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ، وبعد جواز الجمع بين ظاهر الآية والرواية بأحد الوجهين المقبولين عند العرف يرفع الإشكال ، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

العاشر : تضمّنه أنّ الرجلين كانا يجالسان اليهود ، ويستخبرانهم عن عواقب أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أنّهما لم يكونا أهل ذلك ، لا سيّما الثاني الذي كان جلفا جافا ، وحديث إسلامه معروف ، وأيّ مانع من أن يكون إسلامهما طوعا ويصيران أخيرا منافقين ، فكم من مؤمن صار كافرا فضلا عن أن يصير منافقا ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) ألم يكن إبليس ملكا (١) مقرّبا ثمّ صار رجيما لعينا؟ فأيّ استبعاد من أن يؤمن الرجلان طوعا ثمّ يكفران حسدا منهما بمقام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، واستنكافا عن طاعته كما كفر إبليس بسبب آدم عليه‌السلام؟ ألم يخبر الله تعالى بانتظار وقوع الارتداد من عامّة الامة في قوله عزوجل : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ

__________________

(١) وهذا مخالف لقوله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِ) ، فتأمّل.

٣٧٣

ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ)؟ (١).

أقول : سبحان الله! عجيب عجيب ، يا هذا! ما تقول ومع من تتكلّم وعلى من تردّ؟! (ما هكذا تورد يا سعد الإبل) على فرض صحّة سند الحديث ، بل وعلى البناء على ضعفه لا يجوز التكلّم فيه وردّه بهذا البيان الخارج عن حدّ الأدب ، فإذا يجوز أن يكون إسلامهما طوعا ويصيرا أخيرا من المنافقين لم لا يجوز أن يكون طمعا؟

وأي دلالة في قصّة إبليس على وجوب كون إيمانهما طوعا؟ ومن أين علمت أنّ إبليس الذي ظهر كفره عند أمره بالسجود لآدم لم يكن كافرا منافقا قبل ذلك؟

ومن أين تستدلّ بقوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) على أنّهما كانا مسلمين مؤمنين ثم ارتدّا بعد ذلك؟ ولم تفرّق بين الارتداد والنفاق ، فيجوز أن يكون الشخص منافقا لم يحكم عليه بالكفر والارتداد في الظاهر ، فإذا أظهر نفاقه وردّ وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وردّ ولاية ولي الأمر ارتدّ بذلك.

ومن أين قلت : إنّ الآية إخبار بانتظار وقوع الارتداد من الامة؟ ثم كيف تقول بانتظار وقوعه من عامّة الامة ولا تستثني أحدا منهم حتّى الذين لم يرتدّوا وعلم الله تعالى بأنّهم لا يرتدّون؟

كأنّك تتكلّم مع مثلك ، أو تريد أن تباحث مع الإمام بقول : لم ولا نسلم ، ما هذا أدب التسليم لله تعالى والنبي ولأوصيائه وخلفائه عليهم‌السلام.

الحادي عشر : ما أشار إليه بقوله : وتضمّن أنّه لم لم ينقض سعد

__________________

(١) الأخبار الدخيلة : ج ١ ص ١٠١.

٣٧٤

دعوى خصمه بإخراج النبي أبا بكر معه إلى الغار بأنّه لم لم يخرج باقي الأربعة معه لأنّهم صاروا أيضا خلفاء مثل أبي بكر مع أنّه لا ينقض دعواه ، فإنّ للخصم أن يقول : إنّي لم أقل أخرجه للخلافة المجرّدة ، بل لأنّه أسّس سلطنة المسلمين ، وشكّل دولة لهم ، وكم فرق بين الباني لبيت والجائي إلى بيت ممهّد.

أقول : كان لسعد ولغيره ممّن يناظر مع هؤلاء أن يقول : إذا كان السبب لإخراجه معه علمه بأنّه يلي الخلافة من بعده ، فهو كان عالما بأنّ باقي الأربعة يلونها واحدا بعد واحد ، فيجب عليه إخراج الأربعة معه ، وإن كان السبب أنّه يكون كذا وكذا كان لسعد أن يجيبه بأنّه ما كان كذا ، وأنّ خلافته كما أخبر عنه عمر كانت فلتة وقى الله الامّة شرّها ، وأنّ غيره مثل عمر كان أدهى منه ، وما كان ما صدر منه بأقلّ ممّا صدر من أبي بكر على رأي القوم وزعمهم لو لم يكن بأكثر وأعظم ، وأمّا ما صدر من علي عليه‌السلام من بيان الشريعة وتفسير القرآن ، والمعارف الحقيقية ، وما نحتاج إليه في امورنا الدينية والدنيوية والاخروية ، وما علّم الامّة من علم تأويل القرآن ، والجهاد مع الناكثين والقاسطين والمارقين البغاة ، فلا يحصيها أحد إلّا الله تعالى.

وكأنّ الناقد رأى ذلك ، أي تأسيس سلطنة المسلمين وتشكيل دولتهم من أعمال أبي بكر ، ولذا رأى أنّه لا يمكن لسعد الجواب عنه ، ولم يلتفت إلى أنّه لم يكن وحده فيما كانوا بصدده من السلطة على المسلمين والاستيلاء عليهم ، بل كانوا حزبا وجماعة يعملون لذلك من عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يكن مقصدهم تأسيس الحكومة للمسلمين ، بل كان مقصدهم الاستيلاء على الامور وعلى السلطان ،

٣٧٥

ومنع أمير المؤمنين عليه‌السلام عن حقّه.

الثاني عشر : اشتمال حديث سعد بن عبد الله على موت أحمد بن إسحاق في حياة العسكري عليه‌السلام ، وبعثه عليه‌السلام خادمه المسمّى بكافور لتجهيزه ، مع أنّ بقاء أحمد بعده عليه‌السلام أمر قطعي اتّفاقي ... إلخ.

أقول : هذا أقوى ما تشبّث به لإثبات جعل الحديث ، ولا ننكر استصعاب الجواب عنه لو كان أحمد بن إسحاق المذكور في هذا الحديث هو أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري الحي بعد وفاة مولانا أبي محمد عليه‌السلام ، أمّا لو احتملنا أنّه غيره يرتفع الإشكال ، ولا دليل على كونهما واحدا وإن لم يكن دليل على كونهما متعدّدا لو لم نقل بأنّ نفس هذا الحديث دليل على التعدّد ، سيّما بعد ما كان مخرجه الصدوق الذي قد سمعت أنّه كان عارفا بالرجال سيّما مثل أحمد بن إسحاق الأشعري المعاصر لأبيه ، ولا ريب أنّه لو لم يكن عارفا بأحوال الرجال كان عارفا بمثله ، يعرفه معرفة تامّة ، وهو مع ذلك أخرج هذا الحديث محتجّا به في كتاب مثل «كمال الدين».

فلو كان أحمد بن إسحاق المذكور فيه هو هذا الذي توفّي في عصر الغيبة الصغرى دون عصر الإمام العسكري عليه‌السلام ، كيف لم يتفطّن به؟ لا يجوز ذلك ولا نقبله ، فيدور الأمر بين أن نقول : بعدم تفطّن مثل الصدوق ـ قدس سرّه ـ بهذا الأمر القطعي الاتفاقي المشهور والمعروف الذي لا يخفى على مثله ، أو أن نقول : بدسّ هذا الحديث في كماله وأنّه لم يخرجه فيه وزاد عليه بعض الوضّاعين كلّه أو ذيله الذي لم يخرجه صاحب «الدلائل» ، أو أن نقول : بتعدّد المسمّى بأحمد بن إسحاق.

٣٧٦

والمتعيّن الثالث كما لا يخفى ، ومجهولية حال المذكور في حديث سعد لا يدلّ على ضعفه ، بل يستظهر منه أنّ الصدوق كان يعرفه بأنّه كان خير أهل البلد. والحمد لله على الهداية.

أحاديث ثلاثة

ومن جملة ما ذكره في الأحاديث الموضوعة في الفصل الأول من الباب الثاني من ذلك الكتاب (الأخبار الدخيلة) أحاديث ثلاثة من الأحاديث المخرّجة في باب من شاهد مولانا القائم عليه‌السلام وفاز برؤيته :

أحدها : ما رواه الصدوق في كمال الدين : ص ٤٦٥ ـ ٤٧٠ قال :

حدّثنا علي بن موسى بن أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، قال : وجدت في كتاب أبي ـ رضي‌الله‌عنه ـ قال : حدّثنا محمّد بن أحمد الطوال ، عن أبيه ، عن الحسن بن علي الطبري ، عن أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن إبراهيم بن مهزيار ، قال : سمعت أبي يقول : سمعت جدّي علي بن إبراهيم بن مهزيار يقول : كنت نائما في مرقدي إذ رأيت في ما يرى النائم قائلا يقول لي : حجّ ، فإنّك تلقى صاحب زمانك. قال علي بن إبراهيم : فانتبهت وأنا فرح مسرور ، فما زلت في الصلاة حتّى انفجر عمود الصبح ، وفرغت من صلاتي وخرجت أسأل عن الحاجّ ، فوجدت فرقة تريد الخروج ، فبادرت مع أول من خرج ، فما زلت كذلك حتّى خرجوا وخرجت بخروجهم اريد

٣٧٧

الكوفة ، فلمّا وافيتها نزلت عن راحلتي وسلّمت متاعي إلى ثقات إخواني ، وخرجت أسأل عن آل أبي محمّد عليه‌السلام ، فما زلت كذلك فلم أجد أثرا ، ولا سمعت خبرا.

وخرجت في أوّل من خرج اريد المدينة ، فلمّا دخلتها لم أتمالك أن نزلت عن راحلتي وسلّمت رحلي إلى ثقات إخواني ، وخرجت أسأل عن الخبر وأقفو الأثر ، فلا خبرا سمعت ، ولا أثرا وجدت ، فلم أزل كذلك إلى أن نفر الناس إلى مكة ، وخرجت مع من خرج ، حتّى وافيت مكة ، ونزلت فاستوثقت من رحلي وخرجت أسأل عن آل أبي محمد عليه‌السلام ، فلم أسمع خبرا ولا وجدت أثرا ، فما زلت بين الإياس والرجاء متفكّرا في أمري ، وعائبا على نفسي ، وقد جنّ الليل ، فقلت : أرغب إلى أن يخلو لي وجه الكعبة لأطوف بها ، وأسأل الله عزوجل أن يعرّفني أملي فيها ، فبينما أنا كذلك وقد خلالي وجه الكعبة إذ قمت إلى الطواف ، فإذا أنا بفتى مليح الوجه ، طيّب الرائحة ، متّزر ببردة ، متّشح باخرى ، وقد عطف بردائه على عاتقه فرعته ، فالتفت إليّ فقال : ممّن الرجل؟ فقلت : من الأهواز ، فقال : أتعرف بها ابن الخصيب؟ فقلت : رحمه‌الله دعي فأجاب ، فقال : رحمه‌الله ، لقد كان بالنهار صائما وبالليل قائما وللقرآن تاليا ولنا مواليا ، فقال : أتعرف بها علي بن إبراهيم بن مهزيار؟ فقلت : أنا علي ، فقال : أهلا وسهلا بك يا أبا الحسن ، أتعرف الصريحين؟ قلت : نعم ، قال : ومن هما؟ قلت : محمد وموسى ، ثمّ قال : ما فعلت بالعلامة التي بينك وبين أبي محمد عليه‌السلام؟ فقلت : معي ، فقال : أخرجها إليّ ، فأخرجتها إليه خاتما حسنا ، على فصّه محمّد وعلي ، فلمّا رأى ذلك بكى [مليا ورنّ شجيّا ،

٣٧٨

فأقبل يبكي بكاء] طويلا وهو يقول : رحمك الله يا أبا محمّد ، فلقد كنت إماما عادلا ، ابن أئمّة وأبا إمام ، أسكنك الله الفردوس الأعلى مع آبائك عليهم‌السلام ، ثمّ قال : يا أبا الحسن ، صر إلى رحلك وكن على اهبة من كفايتك ، حتّى إذا ذهب الثلث من الليل وبقي الثلثان فالحق بنا ، فإنّك ترى مناك [إن شاء الله].

قال ابن مهزيار : فصرت إلى رحلي اطيل التفكّر ، حتّى إذا هجم الوقت فقمت إلى رحلي وأصلحته ، وقدمت راحلتي وحملتها وصرت في متنها حتّى لحقت الشعب ، فإذا أنا بالفتى هناك يقول : أهلا وسهلا بك يا أبا الحسن ، طوبى لك فقد اذن لك ، فسار ، وسرت بسيره حتّى جاز بي عرفات ومنى ، وصرت في أسفل ذروة جبل الطائف ، فقال لي : يا أبا الحسن ، انزل وخذ في اهبة الصلاة ، فنزل ونزلت حتّى فرغ وفرغت ، ثمّ قال لي : خذ في صلاة الفجر وأوجز ، فأوجزت فيها وسلّم وعفّر وجهه في التراب ، ثم ركب وأمرني بالركوب فركبت ، ثم سار وسرت بسيره حتّى علا الذروة ، فقال : المح هل ترى شيئا؟ فلمحت فرأيت بقعة نزهة كثيرة العشب والكلاء ، فقلت : يا سيدي أرى بقعة نزهة كثيرة العشب والكلاء ، فقال لي : هل ترى في أعلاها شيئا؟ فلمحت فإذا أنا بكثيب من رمل فوق بيت من شعر يتوقّد نورا ، فقال لي : هل رأيت شيئا؟ فقلت : أرى كذا وكذا ، فقال لي : يا ابن مهزيار ، طب نفسا ، وقرّ عينا ، فإنّ هناك أمل كلّ مؤمّل ، ثم قال لي : انطلق بنا ، فسار وسرت حتّى صار في أسفل الذروة ، ثمّ قال : انزل ، فهاهنا يذلّ لك كلّ صعب ، فنزل ونزلت حتّى قال لي : يا ابن مهزيار ، خلّ عن زمام الراحلة ، فقلت : على من اخلفها وليس هاهنا أحد؟ فقال : إن هذا حرم لا يدخله

٣٧٩

إلّا وليّ ، ولا يخرج منه إلّا وليّ ، فخلّيت عن الراحلة ، فسار وسرت ، فلمّا دنا من الخباء سبقني وقال لي : قف هناك إلى أن يؤذن لك ، فما كان إلّا هنيئة فخرج إليّ وهو يقول : طوبى لك ، قد اعطيت سؤلك.

فدخلت عليه صلوات الله عليه وهو جالس على نمط عليه نطع أديم أحمر ، متّكئ على مورة أديم ، فسلّمت عليه وردّ عليّ السلام ، ولمحته فرأيت وجهه مثل فلقة قمر ، لا بالخرق ولا بالبزق ، ولا بالطويل الشامخ ، ولا بالقصير اللاصق ، ممدود القامة ، صلت الجبين ، أزجّ الحاجبين ، أدعج العينين ، أقنى الأنف ، سهل الخدّين ، على خدّه الأيمن خال ، فلمّا أن بصرت به حار عقلي في نعته وصفته ، فقال لي : يا ابن مهزيار ، كيف خلفت إخوانك في العراق؟ قلت : في ضنك عيش وهناة ، قد تواترت عليهم سيوف بني الشيصبان ، فقال : قاتلهم الله أنّى يؤفكون ، كأنّي بالقوم قد قتلوا في ديارهم ، وأخذهم أمر ربّهم ليلا ونهارا ، فقلت : متى يكون ذلك يا ابن رسول الله؟ قال : إذا حيل بينكم وبين سبيل الكعبة بأقوام لا خلاق لهم ، والله ورسوله منهم براء ، وظهرت الحمرة في السماء ثلاثا فيها أعمدة كأعمدة اللجين تتلألأ نورا ، ويخرج السروسيّ من إرمنية وأذربيجان يريد وراء الري الجبل الأسود المتلاحم بالجبل الأحمر ، لزيق جبل طالقان ، فيكون بينه وبين المروزي وقعة صيلمانية ، يشيب فيها الصغير ، ويهرم منها الكبير ، ويظهر القتل بينهما ، فعندها توقّعوا خروجه إلى الزوراء ، فلا يلبث بها حتّى يوافي باهات ، ثم يوافي واسط العراق ، فيقيم بها سنة أو دونها ، ثم يخرج إلى كوفان فيكون بينهم وقعة من النجف إلى الحيرة إلى الغري ، وقعة شديدة تذهل منها العقول ، فعندها يكون بوار الفئتين ، وعلى الله حصاد

٣٨٠