كتاب المكاسب - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

كتاب المكاسب - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٧
ISBN: 964-5662-11-7
ISBN الدورة:
964-5662-17-6

الصفحات: ٤٠٩

المسألة الثالثة

جواز المعاوضة على العصير العنبي إذا غلى

الأقوى جواز المعاوضة على العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه وإن كان نجساً ؛  لعمومات البيع والتجارة الصادقة عليها ، بناءً على أنّه مال قابل للانتفاع به بعد طهارته بالنقص ، لأصالة بقاء ماليّته وعدم خروجه عنها بالنجاسة ، غاية الأمر أنّه مال معيوب قابل لزوال عيبه.

ولذا لو غصب عصيراً فأغلاه حتّى حرم ونجس لم يكن في حكم التالف ، بل وجب عليه ردّه ، ووجب عليه غرامة الثلثين وأُجرة العمل فيه حتّى يذهب الثلثان كما صرّح به في التذكرة (١) معلّلاً لغرامة الأُجرة بأنّه ردّه معيباً ويحتاج زوال العيب إلى خسارة ، والعيب من فعله ، فكانت الخسارة عليه.

نعم ، ناقشه في جامع المقاصد (٢) في الفرق بين هذا وبين ما لو غصبه عصيراً فصار خمراً ، حيث حكم فيه بوجوب غرامة مثل العصير ؛ لأنّ الماليّة قد فاتت تحت يده فكان عليه ضمانها كما لو تلفت.

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٣٨٧.

(٢) جامع المقاصد ٦ : ٢٩٢ ٢٩٣.

٦١

لكن لا يخفى الفرق الواضح بين العصير إذا غلى وبينه إذا صار خمراً ؛ فإنّ العصير بعد الغليان مال عرفاً وشرعاً ، والنجاسة إنّما تمنع من الماليّة إذا لم يقبل التطهير ، كالخمر فإنّها لا يزول نجاستها (١) إلاّ بزوال موضوعها ؛ بخلاف العصير ، فإنّه يزول نجاسته بنقصه ، نظير طهارة ماء البئر بالنزح.

عدم شمول «نجس العين» للعصير

وبالجملة ، فالنجاسة فيه وحرمة الشرب عرضيّة تعرضانه في حال متوسّط بين حالَتَي طهارته ، فحكمه حكم النجس بالعرض القابل للتطهير ، فلا يشمله قوله عليه‌السلام في رواية تحف العقول : «أو شي‌ء من وجوه النجس» (٢) ولا يدخل تحت قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا حرّم الله شيئاً حرّم ثمنه» (٣) ؛ لأنّ الظاهر منهما (٤) العنوانات النجسة والمحرّمة بقول مطلق ، لا ما تعرضانه في حالٍ دون حال ، فيقال : يحرم في حال كذا ، أو ينجس (٥) في حال كذا.

وبما ذكرنا يظهر عدم شمول معقد إجماع التذكرة (٦) على فساد بيع نجس العين للعصير ؛ لأنّ المراد بالعين هي الحقيقة ، والعصير ليس كذلك.

ويمكن أن ينسب جواز بيع العصير إلى كلّ مَن قيّد الأعيان النجسة المحرّم بيعها بعدم قابليّتها للتطهير ، ولم أجد مصرّحاً بالخلاف ،

__________________

(١) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : فإنّه لا يزول نجاسته.

(٢) تقدّمت في أوّل الكتاب.

(٣) المتقدّم في الصفحة : ١٣ و ٤٣ عن عوالي اللآلي وسنن الدارقطني.

(٤) في أكثر النسخ : منها.

(٥) في «ش» : وينجس.

(٦) التذكرة ١ : ٤٦٤.

٦٢

استظهار المنع من بيع العصير في مفتاح الكرامة

عدا ما في مفتاح الكرامة : من أنّ الظاهر المنع (١) ؛ للعمومات المتقدّمة وخصوص بعض الأخبار ، مثل قوله عليه‌السلام : «وإن غلى فلا يحلّ بيعه» (٢) ورواية أبي بصير (٣) : «إذا بعته قبل أن يكون خمراً وهو حلال فلا بأس» (٤) ومرسل ابن الهيثم : «إذا تغيّر عن حاله وغلى فلا خير فيه» (٥) ؛ بناءً على أنّ الخير المنفيّ يشمل البيع.

وفي الجميع نظر :

المناقشة في أدلّة المنع

أمّا في العمومات ، فلما تقدّم.

وأمّا الأدلّة الخاصّة ، فهي مسوقة للنهي عن بيعه بعد الغليان نظير بيع الدبس والخلّ من غير اعتبار إعلام المكلّف ـ ، وفي الحقيقة هذا النهي كناية عن عدم جواز الانتفاع ما لم يذهب ثلثاه ، فلا يشمل بيعه بقصد التطهير مع إعلام المشتري ، نظير بيع الماء النجس.

وبالجملة ، فلو لم يكن إلاّ استصحاب ماليّته وجواز بيعه كفى.

ولم أعثر على من تعرّض للمسألة صريحاً ، عدا جماعة من المعاصرين (٦). نعم ، قال المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد في ذيل قول‌

__________________

(١) مفتاح الكرامة ٤ : ١٢.

(٢) الوسائل ١٢ : ١٦٩ ، الباب ٥٩ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٦.

(٣) كذا في «ش» ، وفي أكثر النسخ : أبي كهمس ، نعم راوي الحديث السابق هو أبو كهمس.

(٤) الوسائل ١٢ : ١٦٩ ، الباب ٥٩ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢.

(٥) الوسائل ١٧ : ٢٢٦ ، الباب ٢ من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث ٧.

(٦) منهم السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ١٢ ، وصاحب الجواهر في الجواهر ٢٢ : ٨ ، والمحقّق النراقي في المستند ٢ : ٣٣٢.

٦٣

المصنّف : «ولا بأس ببيع ما عرض له التنجيس مع قبوله (١) التطهير» ، بعد الاستشكال بلزوم عدم جواز بيع الأصباغ المتنجّسة بعدم قبولها التطهير ، ودفع ذلك بقبولها له بعد الجفاف (٢) ـ : ولو تنجّس العصير ونحوه فهل يجوز بيعه على مَن يستحلّه؟ فيه إشكال. ثمّ ذكر أنّ الأقوى العدم ؛ لعموم (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (٣) ، انتهى (٤).

والظاهر ، أنّه أراد بيع العصير للشرب من غير التثليث ، كما يظهر من ذكر المشتري والدليل ، فلا يظهر منه حكم بيعه على من يطهّره.

__________________

(١) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : قبولها ، وفي الإرشاد : مع قبول الطهارة.

(٢) في غير «ش» زيادة : قال.

(٣) المائدة : ٢.

(٤) حاشية الإرشاد (مخطوط) : ٢٠٤.

٦٤

المسألة الرابعة

يجوز المعاوضة على الدهن المتنجّس‌ على المعروف من مذهب الأصحاب.

جواز المعاوضة على الدهن المتنجّس

وجعل هذا من المستثنى عن بيع الأعيان النجسة مبنيّ على المنع من الانتفاع بالمتنجّس إلاّ ما خرج بالدليل ، أو على المنع من بيع المتنجّس وإن جاز الانتفاع به نفعاً مقصوداً محلّلاً ، وإلاّ كان الاستثناء منقطعاً من حيث إنّ المستثنى منه «ما ليس فيه منفعة محلّلة مقصودة من النجاسات والمتنجّسات» ، وقد تقدّم أنّ المنع عن بيع النجس فضلاً عن المتنجّس ليس إلاّ من حيث حرمة المنفعة المقصودة (١) ، فإذا فرض حلّها فلا مانع من البيع.

ويظهر من الشهيد الثاني في المسالك خلاف ذلك ، وأنّ جواز بيع الدهن للنصّ ، لا لجواز الانتفاع به ، وإلاّ لاطّرد الجواز في غير الدهن أيضاً (٢).

__________________

(١) في غير «ش» : المنفعة المحلّلة المقصودة.

(٢) المسالك ٣ : ١١٩.

٦٥

وأمّا حرمة الانتفاع بالمتنجّس إلاّ ما خرج بالدليل ، فسيجي‌ء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وكيف كان ، فلا إشكال في جواز بيع الدهن المذكور ، وعن جماعة (١) : الإجماع عليه في الجملة ، والأخبار به (٢) مستفيضة :

الأخبار المستفيضة الدّالة على الجواز

منها : الصحيح ، عن معاوية بن وهب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قلت له : جُرَذ مات في سمن أو زيت أو عسل؟ قال عليه‌السلام : أمّا السمن والعسل فيؤخذ الجُرَذ وما حوله ، والزيت يستصبح به» (٣).

وزاد في المحكيّ عن التهذيب : «أنّه يبيع ذلك الزيت ، ويبيّنه (٤) لمن اشتراه ليستصبح به» (٥).

ولعلّ الفرق بين الزيت وأخويه من جهة كونه مائعاً غالباً ، بخلاف السمن والعسل ، وفي رواية إسماعيل الآتية إشعار بذلك.

ومنها : الصحيح ، عن سعيد الأعرج (٦) ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في الفأرة والدابة تقع في الطعام والشراب فتموت فيه؟ قال : إن كان‌

__________________

(١) منهم : ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية) : ٥٢٤ ، والشيخ في الخلاف ٣ : ١٨٧ ، كتاب البيوع ، المسألة ٣١٢ ، وابن إدريس في السرائر ٢ : ٢٢٢.

(٢) به : ساقطة من أكثر النسخ.

(٣) الوسائل ١٢ : ٦٦ ، الباب ٦ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٤) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : وينبّه.

(٥) التهذيب ٩ : ٨٥ ، الحديث ٣٥٩ ، وفيه : تبيعه وتبيّنه.

(٦) كذا في جميع النسخ ، لكنّ الرواية عن الحلبي ، نعم الرواية التي تليها في الوسائل عن سعيد الأعرج.

٦٦

سمناً أو عسلاً أو زيتاً ، فإنّه ربّما يكون بعض هذا ، فإن كان الشتاء فانزع ما حوله وكله ، وإن كان الصيف فادفعه حتّى يسرج به» (١).

ومنها : ما عن أبي بصير في الموثّق «عن الفأرة تقع في السمن أو الزيت (٢) فتموت فيه؟ قال : إن كان جامداً فاطرحها وما حولها ويؤكل ما بقي ، وإن كان ذائباً فأسرج به وأعلمهم إذا بعته» (٣).

ومنها : رواية إسماعيل بن عبد الخالق ، قال : «سأله سعيد الأعرج السمّان وأنا حاضر عن السمن والزيت والعسل تقع فيه الفأرة فتموت [كيف يصنع به؟ (٤)] قال : أمّا الزيت فلا تبعه إلاّ لمن تبيّن له فيبتاع للسراج ، وأمّا الأكل فلا ، وأمّا السمن فإن كان ذائباً فكذلك ، وإن كان جامداً والفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها وما حولها ، ثمّ لا بأس به ، والعسل كذلك إن كان جامداً» (٥).

إذا عرفت هذا ، فالإشكال يقع في مواضع :

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٣٧٥ ، الباب ٤٣ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، الحديث ٤.

(٢) في «ص» : أو في الزيت.

(٣) الوسائل ١٢ : ٦٦ ، الباب ٦ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٣.

(٤) العبارة ساقطة من «خ» ، «م» ، «ف» ، «ن» ، «ع».

(٥) الوسائل ١٢ : ٦٦ ، الباب ٦ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٥.

٦٧

الأوّل :

هل أنّ صحّة البيع مشروطة باشتراط الاستصباح؟

أنّ صحّة بيع هذا الدهن هل هي (١) مشروطة باشتراط الاستصباح به صريحاً ، أو يكفي قصدهما لذلك ، أو لا يشترط أحدهما؟

ظاهر الحلّي في السرائر : الأوّل ؛ فإنّه بعد ذكر جواز الاستصباح بالأدهان المتنجّسة جُمَع (٢) قال : ويجوز بيعه بهذا الشرط عندنا (٣).

وظاهر المحكيّ عن الخلاف : الثاني ، حيث قال : جاز بيعه لمن يستصبح به تحت السماء ، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وقال أبو حنيفة : يجوز مطلقاً (٤) ، انتهى.

ونحوه مجرّداً عن دعوى الإجماع عبارة المبسوط ، وزاد : «أنّه لا يجوز بيعه إلاّ لذلك» (٥) وظاهره كفاية القصد ، وهو ظاهر غيره ممّن عبّر بقوله : «جاز بيعه للاستصباح» كما في الشرائع والقواعد (٦) وغيرهما (٧).

__________________

(١) وردت عبارة «هل هي» في «ش» فقط.

(٢) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : أجمع.

(٣) السرائر ٢ : ٢٢٢ و ٣ : ١٢٢.

(٤) الخلاف ٣ : ١٨٧ ، كتاب البيوع ، المسألة ٣١٢.

(٥) المبسوط ٢ : ١٦٧.

(٦) الشرائع ٢ : ٩ ، القواعد ١ : ١٢٠.

(٧) مثل عبارة التنقيح ٢ : ٧ ، ومجمع الفائدة ٨ : ٣١ ، وبمعناهما عبارة الشهيد في اللمعة : ١٠٨.

٦٨

تصريح جماعة بعدم اعتبار قصد الاستصباح

نعم ، ذكر المحقّق الثاني ما حاصله : أنّ التعليل راجع إلى الجواز ، يعني يجوز لأجل تحقّق فائدة الاستصباح بيعه (١).

وكيف كان ، فقد صرّح جماعة بعدم اعتبار قصد الاستصباح (٢).

اعتبار قصد الاستصباح إذا كان من المنافع النادرة

ويمكن أن يقال باعتبار قصد الاستصباح إذا كانت المنفعة المحلّلة منحصرة فيه ، وكان من منافعه النادرة التي لا تلاحظ في ماليّته ، كما في دهن اللوز والبنفسج وشبههما.

ووجهه : أنّ ماليّة الشي‌ء إنّما هي باعتبار منافعه المحلّلة المقصودة منه ، لا باعتبار مطلق الفوائد الغير الملحوظة في ماليّته ، ولا باعتبار الفوائد الملحوظة المحرّمة ، فإذا فرض أن لا فائدة في الشي‌ء محلّلة ملحوظة في ماليّته فلا يجوز بيعه ، لا على الإطلاق لأنّ الإطلاق ينصرف إلى كون الثمن بإزاء المنافع المقصودة منه ، والمفروض حرمتها ، فيكون أكلاً للمال بالباطل ولا على قصد الفائدة النادرة المحلّلة ؛ لأنّ قصد الفائدة النادرة لا يوجب كون الشي‌ء مالاً. ثمّ إذا فرض ورود النصّ الخاصّ على جواز بيعه كما فيما نحن فيه فلا بدّ من حمله على إرادة (٣) صورة قصد الفائدة النادرة ؛ لأنّ أكل المال حينئذٍ ليس بالباطل بحكم الشارع ، بخلاف صورة عدم القصد ؛ لأنّ المال في هذه الصورة مبذول في مقابل المطلق ، المنصرف إلى الفوائد المحرّمة ؛ فافهم.

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ١٣.

(٢) حكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٢٤ عن أُستاذه العلاّمة السيد بحر العلوم ، وأُنظر كفاية الأحكام : ٨٥ ، والحدائق ١٨ : ٩٠.

(٣) كلمة «إرادة» مشطوب عليها في «ن» ، ومحذوفة من «ش».

٦٩

وحينئذٍ فلو لم يعلم المتبايعان جواز الاستصباح بهذا الدهن وتعاملا من غير قصد إلى هذه الفائدة كانت المعاملة باطلة ؛ لأنّ المال مبذول مع الإطلاق في مقابل الشي‌ء باعتبار الفوائد المحرّمة.

نعم (١) ، لو علمنا عدم التفات المتعاملين إلى المنافع أصلاً ، أمكن صحّتها ؛ لأنّه مال واقعي شرعاً قابل لبذل المال بإزائه ، ولم يقصد به ما لا يصحّ (٢) بذل المال بإزائه من المنافع المحرّمة ، ومرجع هذا في الحقيقة إلى أنّه لا يشترط إلاّ عدم قصد المنافع المحرّمة ، فافهم.

عدم اعتبار قصد الاستصباح اذا كان من المنافع الغالبة أو المساوية

وأمّا فيما كان الاستصباح منفعة غالبة بحيث كان ماليّة الدهن باعتباره كالأدهان المعدّة للإسراج فلا يعتبر في صحّة بيعه قصده أصلاً ؛ لأنّ الشارع قد قرّر ماليّته العرفيّة بتجويز الاستصباح به وإن فرض حرمة سائر منافعه ، بناءً على أضعف الوجهين ، من وجوب الاقتصار في الانتفاع بالنجس على مورد النصّ.

وكذا إذا كان الاستصباح منفعة مقصودة (٣) مساوية (٤) لمنفعة الأكل المحرّم كالألية والزيت وعصارة السمسم فلا يعتبر قصد المنفعة المحلّلة فضلاً عن اشتراطه ؛ إذ يكفي في ماليّته وجود المنفعة المقصودة المحلّلة ، غاية الأمر كون حرمة منفعته الأُخرى المقصودة نقصاً فيه يوجب الخيار للجاهل.

__________________

(١) في «ف» ، «خ» ، «م» ، «ع» : ثم.

(٢) في «ش» : ما لم يصحّ.

(٣) في «ف» : موجودة.

(٤) في أكثر النسخ : متساوية.

٧٠

يشترط عدم اشتراط المنفعة المحرّمة

نعم ، يشترط عدم اشتراط المنفعة المحرّمة بأن يقول : بعتك بشرط أن تأكله ، وإلاّ فسد العقد بفساد الشرط.

بل يمكن الفساد وإن لم نقل بإفساد الشرط الفاسد ؛ لأنّ مرجع الاشتراط في هذا الفرض إلى تعيين المنفعة المحرّمة عليه ، فيكون أكل الثمن أكلاً بالباطل ؛ لأنّ حقيقة النفع العائد إلى المشتري بإزاء ثمنه هو النفع المحرّم ، فافهم.

بل يمكن القول بالبطلان بمجرّد القصد وإن لم يشترط في متن العقد.

وبالجملة ، فكلّ بيع قصد فيه منفعة محرّمة بحيث قصد أكل الثمن أو بعضه بإزاء المنفعة المحرّمة كان باطلاً ، كما يومي إلى ذلك ما ورد في تحريم شراء الجارية المغنّية وبيعها (١).

وصرّح في التذكرة بأنّ الجارية المغنّية إذا بيعت بأكثر ممّا يرغب فيها لو لا الغناء ، فالوجه التحريم (٢) ، انتهى.

خلوّ الأخبار عن اعتبار قصد الاستصباح

ثم إنّ الأخبار المتقدّمة خالية عن اعتبار قصد الاستصباح ؛ لأنّ موردها ممّا يكون الاستصباح فيه منفعة مقصودة منها كافية في ماليّتها العرفيّة.

وربّما يتوهّم من قوله عليه‌السلام في رواية الأعرج المتقدّمة : «فلا تبعه إلاّ لمن تبيّن له (٣) فيبتاع للسراج» (٤) اعتبار القصد ، ويدفعه : أنّ الابتياع‌

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٨٦ ، الباب ١٦ من أبواب ما يكتسب به.

(٢) التذكرة ١ : ٤٦٥.

(٣) في أكثر النسخ : تبيّنه لمن يشتريه.

(٤) تقدّمت في الصفحة : ٦٧ (رواية إسماعيل بن عبد الخالق).

٧١

للسراج إنّما جعل غاية للإعلام ، بمعنى أنّ المسلم إذا اطّلع على نجاسته فيشتريه للإسراج ، نظير قوله عليه‌السلام في رواية معاوية بن وهب : «يبيّنه (١) لمن اشتراه ليستصبح به» (٢).

__________________

(١) في غير «ش» : ينبّه.

(٢) تقدّمت في الصفحة : ٦٦ (الزيادة المحكيّة عن التهذيب).

٧٢

الثاني :

هل يجب الإعلام مطلقاً أو لا؟ وهل وجوبه نفسي أو شرطي؟

أنّ ظاهر بعض الأخبار (١) وجوب الإعلام ، فهل يجب مطلقاً أم لا؟ وهل وجوبه نفسي أو شرطي؟ بمعنى اعتبار اشتراطه في صحّة البيع.

الذي ينبغي أن يقال : إنّه لا إشكال في وجوب الإعلام إن قلنا باعتبار اشتراط الاستصباح في العقد ، أو تواطؤهما عليه من الخارج ، لتوقّف القصد على العلم بالنجاسة.

وأمّا إذا لم نقل باعتبار اشتراط الاستصباح في العقد ، فالظاهر وجوب الإعلام وجوباً نفسيّاً قبل العقد أو بعده ؛ لبعض الأخبار المتقدّمة.

وفي قوله عليه‌السلام : «يبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» (٢) إشارة إلى وجوب الإعلام لئلاّ يأكله ، فإنّ الغاية للإعلام ليس هو تحقّق الاستصباح ، إذ لا ترتّب بينهما شرعاً ولا عقلاً ولا عادةً ، بل الفائدة حصر الانتفاع فيه ، بمعنى عدم الانتفاع به في غيره ، ففيه إشارة إلى وجوب إعلام الجاهل بما يعطى إذا كان الانتفاع الغالب به محرّماً بحيث يعلم عادة وقوعه في الحرام لو لا الإعلام ، فكأنه قال : أعْلِمه لئلاّ يقع في الحرام الواقعي بتركك الإعلام.

وجوب اعلام الجاهل بما يعطى اذا كان الانتفاع الغالب به محرّماً

ويشير إلى هذه القاعدة كثير من الأخبار المتفرّقة الدالّة على حرمة تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع في المحرّمات ، مثل ما دلّ على‌

__________________

(١) مثل ما تقدّم من ذيل صحيحة معاوية بن وهب المروية في التهذيب ، وموثّقة أبي بصير ، ورواية إسماعيل بن عبد الخالق ، راجع الصفحة : ٦٦ ٦٧.

(٢) تقدّم في الصفحة : ٦٦.

٧٣

الأخبار الدّالة على حرمة تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع

أنّ مَن أفتى بغير علم لحقه وزر من عمل بفتياه (١) فإنّ إثبات الوزر للمباشر من جهة فعل القبيح الواقعي ، وحمله على المفتي من حيث التسبيب والتغرير.

ومثل قوله عليه‌السلام : «ما من إمام صلّى بقوم فيكون في صلاتهم تقصير ، إلاّ كان عليه أوزارهم» (٢) وفي رواية أُخرى : «فيكون في صلاته وصلاتهم تقصير ، إلاّ كان إثم ذلك عليه» (٣) وفي رواية أُخرى : «لا يضمن الإمام صلاتهم إلاّ أن يصلّي بهم جنباً» (٤).

ومثل رواية أبي بصير المتضمّنة لكراهة أن تسقى البهيمة أو تطعم ما لا يحلّ للمسلم أكله أو شربه (٥) ، فإنّ في كراهة ذلك في البهائم إشعاراً بحرمته بالنسبة إلى المكلّف.

ويؤيّده : أنّ أكل الحرام وشربه من القبيح ، ولو في حقّ الجاهل ؛ ولذا يكون الاحتياط فيه مطلوباً مع الشك ، إذ لو كان للعلم دخل في قبحه لم يحسن الاحتياط ، وحينئذٍ فيكون إعطاء النجس للجاهل المذكور إغراءً بالقبيح ، وهو قبيح عقلاً.

بل قد يقال بوجوب الإعلام وإن لم يكن منه تسبيب كما لو رأى نجساً في يده يريد أكله وهو الذي صرّح به العلاّمة رحمه‌الله في أجوبة‌

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٩ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٢) تحف العقول : ١٧٩.

(٣) بحار الأنوار ٨٨ : ٩٢.

(٤) الوسائل ٥ : ٤٣٤ ، الباب ٣٦ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٦.

(٥) الوسائل ١٧ : ٢٤٦ ، الباب ١٠ من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث ٥.

٧٤

المسائل المهنّائيّة ، حيث سأله السيّد المهنّا عمّن رأى في ثوب المصلّي نجاسة ، فأجاب بأنّه يجب الإعلام ، لوجوب النهي عن المنكر (١) ، لكنّ إثبات هذا مشكل.

والحاصل ، أنّ هنا أُموراً أربعة :

أقسام إلقاء الغير في الحرمة الواقعية

أحدها ـ أن يكون فعل الشخص علّة تامّة لوقوع الحرام في الخارج كما إذا أكره غيره على المحرّم ولا إشكال في حرمته وكون وزر الحرام عليه ، بل أشدّ ؛ لظلمة.

وثانيها ـ أن يكون فعله سبباً للحرام ، كمن قدّم إلى غيره محرّماً ، ومثله ما نحن فيه ، وقد ذكرنا أنّ الأقوى فيه التحريم ؛ لأنّ استناد الفعل إلى السبب أقوى ، فنسبة فعل الحرام إليه أولى ، ولذا يستقرّ الضمان على السبب ، دون المباشر الجاهل ، بل قيل : إنّه لا ضمان ابتداءً إلاّ عليه (٢).

الثالث ـ أن يكون شرطاً لصدور الحرام ، وهذا يكون على وجهين :

أحدهما أن يكون من قبيل إيجاد الداعي على المعصية ، إمّا لحصول الرغبة فيها كترغيب الشخص على المعصية ، وإمّا لحصول العناد من الشخص حتّى يقع في المعصية ، كسبّ آلهة الكفّار الموجب لإلقائهم في سبّ الحقّ عناداً ، أو سبّ آباء الناس الموقع لهم في سبّ أبيه ، والظاهر حرمة القسمين ، وقد ورد في ذلك عدّة من الأخبار (٣).

__________________

(١) أجوبة المسائل المهنّائيّة : ٤٨ ، المسألة ٥٣.

(٢) لم نقف عليه.

(٣) لم نقف على خبرٍ يدلّ على حرمة القسم الأوّل أي ترغيب الشخص على المعصية ـ ، وأمّا ما يدلّ على حرمة سبّ آلهة الكفّار فهناك عدّة أخبار وردت في تفسير قوله تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام : ١٠٨) انظر تفسير الصافي ٢ : ١٤٧ ، وبالنسبة إلى النهي عن سبّ آباء الناس المنتهى إلى السبّ المتقابل ، انظر تنبيه الخواطر : ١١٩.

٧٥

وثانيهما (١) أن يكون بإيجاد شرطٍ آخر غير الداعي ، كبيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً ، وسيأتي الكلام فيه.

الرابع ـ أن يكون من قبيل عدم المانع ، وهذا يكون تارةً مع الحرمة الفعليّة في حقّ الفاعل كسكوت الشخص عن المنع من المنكر ـ ، ولا إشكال في الحرمة بشرائط النهي عن المنكر ، وأُخرى مع عدم الحرمة الفعليّة بالنسبة إلى الفاعل ، كسكوت العالم عن إعلام الجاهل كما فيما نحن فيه فإنّ صدور الحرام منه مشروط بعدم إعلامه.

هل يجب دفع الحرام بترك السكوت؟

فهل يجب دفع (٢) الحرام بترك السكوت أم لا؟ فيه (٣) إشكال ، إلاّ إذا علمنا من الخارج وجوب دفع (٤) ذلك ؛ لكونه فساداً قد أُمر بدفعه كلّ من قدر عليه ، كما لو اطّلع على عدم إباحة دم من يريد الجاهل قتله ، أو عدم إباحة عرضه له ، أو لزم من سكوته ضرر ماليّ قد أُمرنا بدفعه عن كلّ أحد ؛ فإنّه يجب الإعلام والردع لو لم يرتدع بالإعلام ، بل الواجب هو الردع ولو بدون الإعلام ، ففي الحقيقة الإعلام بنفسه غير واجب.

__________________

(١) في غير «ش» : الثاني.

(٢) في النسخ : رفع.

(٣) في غير «ف» : وفيه.

(٤) في النسخ : رفع.

٧٦

وأمّا فيما تعلّق بغير الثلاثة من حقوق الله فوجوب دفع (١) مثل هذا الحرام مشكل ؛ لأنّ الظاهر من أدلّة النهي عن المنكر وجوب الردع عن المعصية ، فلا يدلّ على وجوب إعلام الجاهل بكون فعله معصية.

نعم ، وجب ذلك فيما إذا كان الجهل بالحكم ، لكنّه من حيث وجوب تبليغ التكاليف ليستمرّ التكليف إلى آخر الأبد بتبليغ الشاهد الغائب ، فالعالم في الحقيقة مبلّغ عن الله ليتمّ الحجّة على الجاهل ويتحقّق فيه قابليّة الإطاعة والمعصية.

الاستدلال على وجوب الاعلام بأنّ النجاسة عيب خفي ، والمناقشة فيه

ثمّ إنّ بعضهم (٢) استدلّ على وجوب الإعلام بأنّ النجاسة عيب خفيّ فيجب إظهارها.

وفيه مع أنّ وجوب الإعلام على القول به ليس مختصّاً بالمعاوضات ، بل يشمل مثل الإباحة والهبة من المجّانيّات ـ : أنّ كون النجاسة عيباً ليس إلاّ لكونه منكراً واقعيّاً وقبيحاً ، فإن ثبت ذلك حرم الإلقاء فيه مع قطع النظر عن مسألة وجوب إظهار العيب ، وإلاّ لم يكن عيباً ، فتأمّل.

__________________

(١) في النسخ : رفع.

(٢) هو المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة ٨ : ٣٦.

٧٧

الثالث :

هل يجب كون الاستصباح تحت السماء؟

المشهور بين الأصحاب وجوب كون الاستصباح تحت السماء ، بل في السرائر : أنّ الاستصباح به تحت الظلال محظور بغير خلاف (١).

وفي المبسوط : أنّه روى أصحابنا أنّه يستصبح به تحت السماء دون السقف (٢).

لكنّ الأخبار المتقدّمة (٣) على كثرتها وورودها في مقام البيان ساكتة عن هذا القيد ، ولا مقيّد لها من الخارج عدا ما يدّعى من مرسلة الشيخ المنجبرة بالشهرة المحقّقة والاتّفاق المحكيّ (٤).

لكن لو سلّم الانجبار فغاية الأمر دورانه بين تقييد المطلقات المتقدّمة ، أو حمل الجملة الخبريّة على الاستحباب أو الإرشاد ؛ لئلاّ يتأثّر السقف بدخان النجس الذي هو نجس بناءً على ما ذكره الشيخ من دلالة المرسلة على نجاسة دخان النجس إذ قد لا يخلو من أجزاء لطيفة دهنيّة تتصاعد بواسطة الحرارة.

ولا ريب أنّ مخالفة الظاهر في المرسلة خصوصاً بالحمل على الإرشاد أولى ، خصوصاً مع ابتناء التقييد : إمّا على ما ذكره الشيخ من دلالة الرواية على نجاسة الدخان المخالفة للمشهور ـ ، وإمّا على كون‌

__________________

(١) السرائر ٣ : ١٢٢.

(٢) المبسوط ٦ : ٢٨٣.

(٣) تقدّمت في الصفحة : ٦٦ ٦٧.

(٤) تقدّم آنفاً عن السرائر.

٧٨

الحكم تعبّداً محضاً ، وهو في غاية البعد.

ولعلّه لذلك أفتى في المبسوط بالكراهة (١) مع روايته للمرسلة (٢).

انّ المسألة لا تخلو عن اشكال

والإنصاف ، أنّ المسألة لا تخلو عن إشكال ، من حيث ظاهر الروايات ، البعيدة عن التقييد لإبائها في أنفسها عنه وإباء المقيّد عنه ـ ، ومن حيث الشهرة المحقّقة والاتّفاق المنقول.

ولو رجع إلى أصالة البراءة حينئذٍ لم يكن إلاّ بعيداً عن الاحتياط وجرأةً على مخالفة المشهور.

تفصيل العلّامة في المختلف

ثمّ إنّ العلاّمة في المختلف فصّل بين ما إذا علم بتصاعد شي‌ء من أجزاء الدهن ، وما إذا لم يعلم (٣) ، فوافق المشهور في الأوّل ، وهو مبنيّ على ثبوت حرمة تنجيس السقف ، ولم يدلّ عليه دليل ، وإن كان ظاهر كلّ من حكم بكون الاستصباح تحت السماء تعبّداً ، لا لنجاسة الدخان معلّلاً بطهارة دخان النجس ـ : التسالم على حرمة التنجيس ، وإلاّ لكان الأولى تعليل التعبّد به ، لا بطهارة الدخان ، كما لا يخفى.

__________________

(١) المبسوط ٦ : ٢٨٣.

(٢) في «ش» : المرسلة.

(٣) المختلف : ٦٨٦.

٧٩

الرابع :

هل يجوز الانتفاع بالدهن المتنجّس في غير الاستصباح؟

هل يجوز الانتفاع بهذا الدهن في غير الاستصباح ، بأن يُعمل صابوناً أو يُطلى به الأجرب أو السفن؟ قولان مبنيّان على أنّ الأصل في المتنجّس جواز الانتفاع إلاّ ما خرج بالدليل كالأكل والشرب ، والاستصباح تحت الظلّ ـ ، أو أنّ القاعدة فيه المنع عن التصرّف إلاّ ما خرج بالدليل كالاستصباح تحت السماء ، وبيعه ليُعمل صابوناً على رواية ضعيفة تأتي (١).

كلمات الفقهاء في المسألة

والذي صرّح به في مفتاح الكرامة هو الثاني (٢) ، ووافقه بعض مشايخنا المعاصرين (٣) ، وهو ظاهر جماعة من القدماء ، كالشيخين والسيّدين والحلّي (٤) وغيرهم.

ما قاله السيّد في الانتصار

قال في الانتصار : وممّا انفردت به الإماميّة ، أنّ كلّ طعام عالجه أهل الكتاب ومن ثبت كفرهم بدليل قاطع لا يجوز أكله ولا الانتفاع به ، واختلف (٥) باقي الفقهاء في ذلك ، وقد دلّلنا على ذلك في كتاب الطهارة ، حيث دلّلنا على أنّ سؤر الكفّار نجس (٦).

__________________

(١) تأتي في الصفحة : ٩٢.

(٢) مفتاح الكرامة ٤ : ١٣ و ٢٤.

(٣) الجواهر ٢٢ : ١٥.

(٤) ستأتي الإشارة إلى مواضع كلامهم.

(٥) في المصدر : وقد خالف.

(٦) الانتصار : ١٩٣ ، وأُنظر أيضاً الصفحة : ١١ منه.

٨٠