كتاب المكاسب - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

كتاب المكاسب - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٧
ISBN: 964-5662-11-7
ISBN الدورة:
964-5662-17-6

الصفحات: ٤٠٩

بقي الكلام في أُمور :

الأوّل

حقيقة الغيبة

الغيبة : اسم مصدر ل «اغتاب» أو مصدر ل «غاب».

ففي المصباح : اغتابه ، إذا ذكره بما يكرهه من العيوب وهو حقّ ، والإسم : الغيبة (١).

وعن القاموس : غابه ، أي عابه وذكره بما فيه من السوء (٢).

وعن النهاية : أن يُذكر الإنسان في غيبته بسوء مما يكون فيه (٣).

والظاهر من الكل خصوصاً القاموس المفسِّر لها أولاً بالعيب أنّ المراد ذكره في مقام الانتقاص ، والمراد بالموصول (٤) هو نفس النقص الذي فيه.

والظاهر من «الكراهة» في عبارة المصباح كراهة وجوده ، ولكنّه غير مقصود قطعاً. فالمراد إمّا كراهة ظهوره ولو لم يكره وجوده كالميل إلى القبائح وإمّا كراهة ذكره بذلك العيب.

وعلى هذا التعريف دلّت جملة من الأخبار ، مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سأله أبو ذر عن الغيبة ـ : «أنّها ذكرك أخاك‌

__________________

(١) المصباح المنير : ٤٥٨ ، مادّة «غيب».

(٢) القاموس المحيط ١ : ١١٢ ، مادة «غيب».

(٣) النهاية لابن الأثير ٣ : ٣٩٩ ، مادة «غيب».

(٤) أي «ما» الموصولة في التعاريف المتقدّمة.

٣٢١

بما يكرهه» (١).

وفي نبويٍّ آخر ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره» (٢).

ما قاله في جامع في حقيقة الغيبة

ولذا قال في جامع المقاصد : أنّ حقيقة (٣) الغيبة على ما في الأخبار أن تقول في أخيك ما يكرهه (٤) مما هو فيه (٥).

والمراد ب «ما يكرهه» كما تقدم في عبارة المصباح ما يكره ظهوره ، سواء كره وجوده كالبرص والجذام ، أم لا ، كالميل إلى القبائح.

ويحتمل أن يراد بالموصول نفس الكلام الذي يذكر الشخص به ، ويكون كراهته إمّا لكونه إظهاراً للعيب ، وإمّا لكونه صادراً على جهة المذمّة والاستخفاف والاستهزاء وإن لم يكن العيب مما يكره إظهاره ؛ لكونه ظاهراً بنفسه ، وإمّا لكونه مشعراً بالذم وإن لم يقصد المتكلّم الذم به ، كالألقاب المشعرة بالذم.

قال في الصحاح : الغيبة أن يتكلّم خلف إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه (٦). وظاهره التكلم بكلام يغمّه لو سمعه.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٩٨ ، الباب ١٥١ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٩ ، وفيه : بما يكره.

(٢) تنبيه الخواطر : ١٢٦ ، وكشف الريبة : ٥٢.

(٣) في «ش» والمصدر : حد الغيبة.

(٤) في المصدر زيادة : لو سمعه.

(٥) جامع المقاصد ٤ : ٢٧.

(٦) الصحاح ١ : ١٩٦ ، مادة «غيب».

٣٢٢

كلام بعض ما قارب عصر المؤلّف

بل في كلام بعض من قارب عصرنا أنّ الإجماع والأخبار متطابقان على أنّ حقيقة الغيبة أن يذكر الغير بما يكره لو سمعه ، سواء كان بنقص في نفسه أو بدنه ، أو دينه أو دنياه ، أو في ما يتعلق به من الأشياء (١). وظاهره أيضاً إرادة الكلام المكروه.

ما أفاده الشهيد في كشف الريبة

وقال الشهيد الثاني في كشف الريبة : أنّ الغيبة ذكر الإنسان في حال غيبته بما يكره نسبته إليه مما يُعدّ نقصاً في العرف بقصد الانتقاص والذم (٢).

ويخرج على هذا التعريف ما إذا ذُكر الشخص بصفات ظاهرة يكون وجودها نقصاً مع عدم قصد انتقاصه بذلك ، مع أنّه داخل في التعريف عند الشهيد رحمه‌الله أيضاً ؛ حيث عدّ من الغيبة ذكر بعض الأشخاص بالصفات المعروف بها ، كالأعمش والأعور ، ونحوهما. وكذلك ذكر عيوب الجارية التي يراد شراؤها إذا لم يقصد من ذكرها إلاّ بيان الواقع ، وغير ذلك مما ذكره هو وغيره من المستثنيات.

ودعوى أنّ قصد الانتقاص يحصل بمجرد بيان النقائص ، موجبة لاستدراك ذكره بعد قوله : «مما يُعدّ نقصاً».

أولى التعاريف بملاحظة الأخبار وكلمات الأصحاب

والأولى بملاحظة ما تقدم من الأخبار وكلمات الأصحاب بناءً على إرجاع «الكراهة» إلى الكلام المذكور به ، لا إلى الوصف ما تقدم من أنّ الغيبة أن يذكر الإنسان بكلام يسوؤه ، إمّا بإظهار عيبه المستور وإن لم يقصد انتقاصه ، وإمّا بانتقاصه بعيب غير مستور ،

__________________

(١) لم نقف على قائله.

(٢) كشف الريبة : ٥١.

٣٢٣

إمّا بقصد المتكلم ، أو بكون الكلام بنفسه منقّصاً له ، كما إذا اتصف الشخص بالألقاب المشعرة بالذم.

نعم ، لو أُرجعت «الكراهة» إلى الوصف الذي يُسند إلى الإنسان تعين إرادة كراهة ظهورها ، فيختص بالقسم الأوّل ، وهو ما كان إظهاراً لأمر مستور.

الأخبار الدالّة على اعتبار كون المقول مستوراً غير منكشف

ويؤيد هذا الاحتمال ، بل يعيّنه ، الأخبار المستفيضة الدالة على اعتبار كون المقول مستوراً غير منكشف ، مثل قوله عليه‌السلام في ما رواه العياشي بسنده عن ابن سنان : «الغيبة أن تقول في أخيك ما فيه ممّا قد ستره الله عليه» (١).

ورواية داود بن سرحان المروية في الكافي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الغيبة ، قال : هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل ، وتبثّ عليه أمراً قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حدّ» (٢).

ورواية أبان عن رجل لا يعلمه (٣) إلاّ يحيى الأزرق قال : قال لي أبو الحسن عليه‌السلام : «من ذكر رجلاً مِن خلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه ، ومن ذكره مِن خلفه بما هو فيه مما لا يعرفه‌

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٢٧٥ ، الحديث ٢٧٠ ، وعنه الوسائل ٨ : ٦٠٢ ، الباب ١٥٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٢٢ ، مع اختلاف.

(٢) الكافي ٢ : ٣٥٧ ، الحديث ٣ ، وعنه الوسائل ٨ : ٦٠٤ ، الباب ١٥٤ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث الأوّل.

(٣) في المصدر : لا نعلمه.

٣٢٤

الناس فقد اغتابه ، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته» (١).

وحسنة عبد الرحمن بن سيابة بابن هاشم قال ، قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه ، وأمّا الأمر الظاهر مثل الحدّة والعجلة فلا ، والبهتان أن تقول فيه ما ليس فيه» (٢).

وهذه الأخبار كما ترى صريحة في اعتبار كون الشي‌ء غير منكشف.

ويؤيد ذلك ما في الصحاح من أنّ الغيبة أن يتكلّم خلف إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه ، فإن كان صدقاً سُمّي غيبة ، وإن كان كذباً سُمّي بهتاناً (٣).

الملخّص من مجموع ما ورد في المقام

فإن أراد من «المستور» من حيث ذلك المقول وافق الأخبار ، وإن أراد مقابل المتجاهر احتمل الموافقة والمخالفة.

لو لم يكن المقول نقصا

والملخّص من مجموع ما ورد في المقام : أنّ الشي‌ء المقول إن لم يكن نقصاً ، فلا يكون ذكر الشخص حينئذٍ غيبة ، وإن اعتقد المقول فيه كونه نقصاً عليه ، نظير ما إذا نفى عنه الاجتهاد وليس ممن يكون ذلك نقصاً في حقه إلاّ أنّه معتقد باجتهاد نفسه. نعم ، قد يحرم هذا من وجه آخر.

كون المقول نقصاً مخفيّاً

وإن كان نقصاً شرعاً أو عرفاً بحسب حال المغتاب فإن كان مخفيّاً‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٦٠٤ ، الباب ١٥٤ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣.

(٢) الوسائل ٨ : ٦٠٤ ، الباب ١٥٤ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٢.

(٣) الصحاح ١ : ١٩٦ ، مادة «غيب».

٣٢٥

للسامع بحيث يستنكف عن ظهوره للناس ، وأراد القائل تنقيص المغتاب به ، فهو المتيقن من أفراد الغيبة. وإن لم يرد القائل التنقيص فالظاهر حرمته ؛ لكونه كشفاً لعورة المؤمن ، وقد تقدم الخبر : «من مشى في غيبة أخيه وكشف عورته» (١).

وفي صحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قلت [له (٢)] : عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ قال : نعم. قلت : تعني سِفلتيه (٣)؟ قال : ليس حيث تذهب إنّما هو (٤) إذاعة سرّه» (٥).

وفي رواية محمد بن فضيل (٦) عن أبي الحسن عليه‌السلام : «ولا تذيعنّ عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروّته ، فتكون من الذين قال الله عزّ وجلّ (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)» (٧).

ولا يقيّد إطلاق النهي بصورة قصد الشين والهدم من جهة الاستشهاد بآية حبّ شياع الفاحشة ، بل الظاهر أنّ المراد مجرّد فعل ما يوجب شياعها ؛ مع أنّه لا فائدة كثيرة في التنبيه على دخول القاصد‌

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ٣١٧.

(٢) من المصدر.

(٣) في الكافي (٢ : ٣٥٩) : سفليه ، وفي الوسائل : سفلته.

(٤) في الكافي : هي.

(٥) الوسائل ٨ : ٦٠٨ ، الباب ١٥٧ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث الأوّل.

(٦) في «ف» ، «خ» ، «م» ، «ن» و «ع» : ابن يعقل.

(٧) الوسائل ٨ : ٦٠٩ ، الباب ١٥٧ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٤ ، والآية من سورة النور : ١٩.

٣٢٦

لإشاعة الفاحشة في عموم الآية ، وإنّما يحسن التنبيه على أنّ قاصد السبب قاصد للمسبب وإن لم يقصده بعنوانه.

إذاعة ما يوجب مهانة المؤمن هل هي غيبة أم لا؟

وكيف كان ، فلا إشكال من حيث النقل والعقل في حرمة إذاعة ما يوجب مهانة المؤمن وسقوطه عن أعين الناس في الجملة ، وإنّما الكلام في أنّها غيبة أم لا؟

مقتضى الأخبار المتقدمة بأسرها ذلك ، خصوصاً المستفيضة الأخيرة (١) ؛ فإنّ التفصيل فيها بين الظاهر والخفي إنّما يكون مع عدم قصد القائل المذمة والانتقاص ، وأمّا مع قصده فلا فرق بينهما في الحرمة.

والمنفيّ في تلك الأخبار وإن كان تحقّق موضوع الغيبة دون الحكم بالحرمة ، إلاّ أنّ ظاهر سياقها نفي الحرمة فيما عداها (٢) ؛ أيضاً ، لكن مقتضى ظاهر التعريف المتقدم عن كاشف الريبة (٣) عدمه ؛ لأنّه اعتبر قصد الانتقاص والذم. إلاّ أن يراد اعتبار ذلك فيما يقع على وجهين ، دون ما لا يقع إلاّ على وجه واحد ؛ فإنّ قصد ما لا ينفك عن الانتقاص قصد له.

كون المقول نقصاً ظاهراً

وإن كان المقول نقصاً ظاهراً للسامع ، فإن لم يقصد القائل الذم ولم يكن الوصف من الأوصاف المشعرة بالذمّ نظير الألقاب المشعرة به ـ ، فالظاهر أنّه خارج عن الغيبة ؛ لعدم حصول كراهة للمقول فيه ،

__________________

(١) هي روايات ابن سنان ، وداود بن سرحان ، وأبان ، وعبد الرحمن ، المتقدمات في الصفحة : ٣٢٤ ٣٢٥.

(٢) عبارة «فيما عداها» مشطوب عليها في «ن».

(٣) تقدم في الصفحة : ٣٢٣.

٣٢٧

لا من حيث الإظهار ، ولا من حيث ذمّ المتكلم ، ولا من حيث الإشعار.

وإن كان من الأوصاف المشعرة بالذمّ أو قصد المتكلم التعيير والمذمّة بوجوده ، فلا إشكال في حرمة الثاني ، بل وكذا الأوّل ؛ لعموم ما دلّ على حرمة إيذاء المؤمن وإهانته (١) وحرمة التنابز بالألقاب (٢) وحرمة تعيير المؤمن على صدور معصية منه ، فضلاً عن غيرها ؛ ففي عدة من الأخبار : «من عيّر مؤمناً على معصية لم يمت حتى يرتكبه» (٣).

وإنّما الكلام في كونهما (٤) من الغيبة ؛ فإنّ ظاهر المستفيضة المتقدمة عدم كونهما منها.

وظاهر ما عداها من الأخبار المتقدمة (٥) ؛ بناءً على إرجاع «الكراهة» فيها إلى كراهة الكلام الذي يُذكر به الغير ، وكذلك كلام أهل اللغة عدا الصحاح على بعض احتمالاته ـ : كونهما غيبة.

والعمل بالمستفيضة لا يخلو عن قوّة ، وإن كان ظاهر الأكثر‌

__________________

(١) انظر الوسائل ٨ : ٥٨٧ ٥٨٨ ، الباب ١٤٥ و ١٤٦ من أبواب أحكام العشرة.

(٢) قال سبحانه وتعالى (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ ..) الحجرات : ١١ ، وأُنظر الوسائل ١٥ : ١٣٢ ، الباب ٣٠ من أبواب أحكام الأولاد.

(٣) انظر الوسائل ٨ : ٥٩٦ ، الباب ١٥١ من أبواب أحكام العشرة.

(٤) مرجع ضمير التثنية الكلام المشعر بالذم وإن لم يُقصد به ، وما قُصد به الذم وإن لم يشعر الكلام به ، وما في بعض النسخ : «كونها» بدل «كونهما» سهو ، وهكذا فيما يأتي.

(٥) مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تعريف الغيبة : «ذكرك أخاك بما يكره» في النبويين المتقدمين في الصفحة : ٣٢١ ٣٢٢.

٣٢٨

خلافه ؛ فيكون ذكر الشخص بالعيوب الظاهرة الذي لا يفيد (١) السامع اطلاعاً لم يعلمه ، ولا يعلمه عادة من غير خبر مخبر ليس (٢) غيبة ، فلا يحرم إلاّ إذا ثبتت الحرمة من حيث المذمّة والتعيير ، أو من جهة كون نفس الاتصاف بتلك الصفة ممّا يستنكفه المغتاب ولو باعتبار بعض التعبيرات فيحرم من جهة الإيذاء والاستخفاف والذم والتعيير.

عدم الفرق في النقص بين أن يكون في بدنه اونسبه او خُلقه

[ثم الظاهر المصرّح به في بعض الروايات : عدم الفرق في ذلك على ما صرح به غير واحد (٣) بين ما كان نقصاناً (٤)] في بدنه أو نسبه أو خُلقه أو فعله أو قوله أو دينه أو دنياه ، حتى في ثوبه أو داره أو دابته ، أو غير ذلك. وقد روي عن مولانا الصادق عليه‌السلام الإشارة إلى ذلك بقوله : «وجوه الغيبة تقع بذكر عيب في الخلق والفعل والمعاملة والمذهب والجهل وأشباهه» (٥).

__________________

(١) كذا في «ش» ، وأمّا سائر النسخ ، ففي بعضها : «التي لا تفيد» وفي بعضها الآخر : «التي لا يفيد».

(٢) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : ليست.

(٣) منهم الشهيد الثاني في كشف الريبة : ٦٠ ، وصاحب الجواهر في الجواهر ٢٢ : ٦٤.

(٤) ما بين المعقوفتين لم يرد في «ف» ، إلاّ أنّ في الهامش بخط مغاير لخطّ النسخة ما مفاده : هنا سقط ، والمناسب للسياق ما يلي : «ثم لا فرق في حرمة ذكر الغيبة بين كون المقول في بدنه».

(٥) مستدرك الوسائل ٩ : ١١٨ ، الباب ١٣٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ١٩ ، وفيه : «ووجوه الغيبة تقع بذكر عيب في الخَلق والخُلق والعقل والفعل والمعاملة والمذهب والجهل وأشباهه».

٣٢٩

ما أفاده بعض في بيان وجوه النقص.

قيل (١) : أمّا البدن ، فكذكرك فيه العَمَش ، والحَوَل ، والعَوَر ، والقَرَع ، والقِصَر والطول ، والسواد والصفرة ، وجميع ما يتصور أن يوصف به مما يكرهه.

والنسب ، بأن (٢) يقول : أبوه فاسق أو خبيث أو خسيس أو إسكاف أو حائك ، أو نحو ذلك مما يكره.

وأمّا الخُلق ، فبأن يقول (٣) : إنّه سيّ‌ء الخُلق ، بخيل ، مراء (٤) متكبر ، شديد الغضب ، جبان ، ضعيف القلب ، ونحو ذلك.

وأمّا في أفعاله المتعلّقة بالدين ، فكقولك : سارق ، كذاب ، شارب ، خائن ، ظالم ، متهاون بالصلاة ، لا يحسن الركوع والسجود ، ولا يجتنب من النجاسات ، ليس بارّاً بوالديه ، لا يحرس نفسه من الغيبة والتعرض لإعراض الناس.

وأمّا أفعاله المتعلقة بالدنيا ، فكقولك : قليل الأدب ، متهاون بالناس ، لا يرى لأحد عليه حقاً ، كثير الكلام ، كثير الأكل ، نؤوم (٥) يجلس في غير موضعه.

__________________

(١) القائل هو الشيخ ورّام بن أبي فراس في مجموعته (تنبيه الخواطر : ١٢٥) والشهيد الثاني في كشف الريبة : ٦٠ ٦١.

(٢) في مصححة «ص» و «ش» : وأمّا النسب فبأن ..

(٣) في بعض النسخ : تقول.

(٤) مراء : بفتح الميم وتشديد الراء من المراء ، بمعنى المجادلة ، لا بضم الميم وتخفيف الراء [من] الرياء ؛ لأنّه من قبيل الأفعال والكلام .. بخلاف الأوّل ، فإنّه من الأخلاق (شرح الشهيدي : ٨٤).

(٥) نؤوم على وزن «فَعول» بمعنى : كثير النوم.

٣٣٠

وأمّا في ثوبه ، فكقولك : إنّه واسع الكُمّ ، طويل الذيل ، وَسِخ الثياب ، ونحو ذلك (١).

حرمة الاغتياب بغير اللسان من الفعل والاشارة

ثم إنّ ظاهر النص وإن كان منصرفاً إلى الذكر باللسان ، لكن المراد به حقيقة الذكر ، فهو مقابل الإغفال ، فكلّ ما يوجب التذكر للشخص من القول والفعل والإشارة وغيرها فهو ذكر له.

ومن ذلك المبالغة في تهجين المطلب الذي ذكره بعض المصنفين ، بحيث يفهم منها الإزراء بحال ذلك المصنف ؛ فإنّ قولك : «إنّ هذا المطلب بديهي البطلان» تعريض لصاحبه بأنّه لا يعرف البديهيات ، بخلاف ما إذا قيل : «إنّه مستلزم لما هو بديهيّ البطلان» ؛ لأنّ فيه تعريضاً بأنّ صاحبه لم ينتقل إلى الملازمة بين المطلب وبين ما هو بديهيّ البطلان ، ولعل الملازمة نظرية.

وقد وقع من بعض الأعلام بالنسبة إلى بعضهم ما لا بدّ له من الحمل والتوجيه ، أعوذ بالله من الغرور ، وإعجاب المرء بنفسه ، وحسده على غيره ، والاستيكال بالعلم.

ما روي في دواعي الغيبة

ثم إنّ دواعي الغيبة كثيرة ، روي عن مولانا الصادق عليه‌السلام التنبيه عليها إجمالاً بقوله عليه‌السلام : «أصل الغيبة تتنوّع بعشرة أنواع : شفاء غيظ ، ومساعدة قوم ، وتصديق خبر بلا كشف ، وتهمة ، وسوء ظنّ ، وحسد ، وسُخْرِية ، وتعجّب (٢) وتبرّم ، وتزيّن .. الخبر» (٣).

__________________

(١) إلى هنا ينتهي ما أورده الشهيد الثاني قدس‌سره في كشف الريبة : ٦١.

(٢) كذا في «ف» والمصدر ، وفي سائر النسخ : تعجيب.

(٣) مستدرك الوسائل ٩ : ١١٧ ، الباب ١٣٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ١٩.

٣٣١

خفاء الغيبة على النفس لحبٍّ أو بغض

ثم إنّ ذكر الشخص قد يتضح كونها غيبة ، وقد يخفى على النفس لحبّ أو بغض ، فيرى أنّه لم يغتب وقد وقع في أعظمها! ومن ذلك : أنّ الإنسان قد يغتم بسبب ما يُبتلى به أخوه في الدين لأجل أمر يرجع إلى نقص في فعله أو رأيه ، فيذكره المغتم في مقام التأسف عليه بما يكره ظهوره للغير ، مع أنّه كان يمكنه بيان حاله للغير على وجه لا يذكر اسمه ، ليكون قد أحرز ثواب الاغتمام على ما أصاب المؤمن ، لكن الشيطان يخدعه ويوقعه في ذكر الاسم.

هل يعتبر في الغيبة حضور مخاطب؟

بقي الكلام في أنّه هل يعتبر في الغيبة حضور مخاطب عند المغتاب ، أو يكفي ذكره عند نفسه؟ ظاهر الأكثر الدخول ، كما صرح به بعض المعاصرين (١).

نعم ، ربما يستثني من حكمها عند من استثنى ما لو علم اثنان صفة شخص فيذكر أحدهما بحضرة الآخر. وأمّا على ما قوّيناه من الرجوع في تعريف الغيبة إلى ما دلّت عليه المستفيضة المتقدمة من كونها «هتك ستر مستور» (٢) ، فلا يدخل ذلك في الغيبة.

حكم غيبة شخص مجهول

ومنه يظهر أيضاً أنّه لا يدخل فيها ما لو كان الغائب مجهولاً عند المخاطب مردداً بين أشخاص غير محصورة ، كما إذا قال : «جاءني اليوم رجل بخيل دني‌ء ذميم» ؛ فإنّ (٣) ظاهر تعريف الأكثر (٤) دخوله ،

__________________

(١) لم نقف عليه.

(٢) راجع الصفحة : ٣٢٤ و ٣٢٥.

(٣) كذا في النسخ ، والأنسب : لكن.

(٤) تعريف الأكثر هو : «أن يُذكر الإنسان بكلام يسوؤه» ، انظر الصفحة : ٣٢٢.

٣٣٢

وإن خرج عن الحكم ؛ بناءً على اعتبار التأثير عند السامع ، وظاهر المستفيضة المتقدمة عدم الدخول.

نعم ، لو قصد المذمّة والتعيير حرم من هذه الجهة ، فيجب على السامع نهي المتكلّم عنه ، إلاّ إذا احتمل أن يكون الشخص متجاهراً بالفسق ، فيحمل فعل المتكلّم على الصحة ، كما سيجي‌ء في مسألة الاستماع (١).

والظاهر أنّ الذم والتعيير لمجهول العين لا يجب الردع عنه ، مع كون الذم والتعيير في موقعهما ، بأن كان مستحقاً لهما ، وإن لم يستحق مواجهته بالذم أو ذكره عند غيره بالذم.

لو كان المغتاب مردّداً بين أشخاص

هذا كلّه لو كان الغائب المذكور مشتبهاً على الإطلاق ، أمّا لو كان مردّداً بين أشخاص ، فإن كان بحيث لا يكره كلّهم ذكر واحد مبهم منهم كان كالمشتبه على الإطلاق ، كما لو قال : «جاءني عجميٌّ أو عربيٌّ كذا وكذا» إذا لم يكن بحيث يكون الذم راجعاً إلى العنوان ، كأن يكون في المثالين تعريض إلى ذمّ تمام العجم أو العرب.

وإن كان بحيث يكره كلّهم ذكر واحد مبهم منهم ، كأن يقول : «أحد ابني زيد ، أو أحد أخويه كذا وكذا» (٢) ففي كونه اغتياباً لكلٍّ منهما ؛ لذكرهما بما يكرهانه من التعريض ؛ لاحتمال كونه هو المعيوب ، وعدمه ؛

__________________

(١) سيجي‌ء في الصفحة ٣٥٩.

(٢) في غير نسخة «ش» زيادة ما يلي : «فإنّ ذكر كل واحد منهما على وجه يحتمل السامع توجّه النقص عليه مما يكرهه كل واحد. ولذا لو قال : أحد هذين الرجلين صدر منه القبيح الفلاني ، كان ذلك مكروهاً لكلّ منهما» ، لكن شُطب عليها في «ف» ، وأُشير في بعضها إلى كونها زائدة ، وفي بعضها الآخر عليها علامة (خ ل).

٣٣٣

لعدم تهتّك ستر المعيوب منهما ، كما لو قال : «أحد أهل البلد الفلاني كذا وكذا» وإن كان فرق بينهما من جهة كون ما نحن فيه محرَّماً من حيث الإساءة إلى المؤمن بتعريضه للاحتمال دون المثال ، أو كونه اغتياباً للمعيوب الواقعي منهما ، وإساءة بالنسبة إلى غيره ؛ لأنّه تهتّك بالنسبة إليه ؛ لأنّه إظهار في الجملة لعيبه بتقليل مشاركه في احتمال العيب فيكون الاطلاع عليه قريباً ، وأمّا الآخر فقد أساء بالنسبة إليه ، حيث عرّضه لاحتمال العيب ، وجوه (١) :

ما حكاه في جامع المقاصد عن بعض الفضلاء

قال في جامع المقاصد : ويوجد في كلام بعض الفضلاء أنّ من شرط الغيبة أن يكون متعلّقها محصوراً ، وإلاّ فلا تُعدّ غيبة ، فلو قال عن أهل بلدة غير محصورة ما لو قاله عن شخص واحد كان غيبة (٢) ، لم يحتسب غيبة (٣) ، انتهى.

نقد ما أفاده الفاضل المذكور

أقول : إن أراد أنّ ذمّ جمع غير محصور لا يُعدّ غيبة وإن قصد انتقاص كل منهم ، كما لو قال : «أهل هذه القرية ، أو هذه البلدة كلّهم كذا وكذا» ، فلا إشكال في كونه غيبة محرّمة ، ولا وجه لإخراجه عن موضوعها أو حكمها.

وإن أراد أنّ ذمّ المردد بين غير المحصور لا يُعدّ غيبة ، فلا بأس كما ذكرنا ـ ، ولذا ذكر بعض تبعاً لبعض الأساطين (٤) في مستثنيات‌

__________________

(١) من مصحّحة «ص» و «ش».

(٢) كذا في «خ» وظاهر «م» ، وفي سائر النسخ : غيبته.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٢٧.

(٤) صرّح به كاشف الغطاء قدس‌سره في شرحه على القواعد (مخطوط) : ٣٦ ، وفيه : «ومنها تعليق الذم بطائفةٍ أو أهل بلدةٍ أو قريةٍ مع قيام القرينة على عدم إرادة .. إلخ».

٣٣٤

الغيبة ما لو علّق الذمّ بطائفة أو أهل بلدة أو أهل قرية مع قيام القرينة على عدم إرادة الجميع ، كذمّ العرب أو العجم أو أهل الكوفة أو البصرة وبعض القرى (١) ، انتهى.

المدار في التحريم غير المدار في صدق الغيبة وبينهما عموم من وجه

ولو أراد الأغلب ، ففي كونه اغتياباً لكلٍّ منهم وعدمه ، ما تقدّم في المحصور.

وبالجملة ، فالمدار في التحريم غير المدار في صدق الغيبة ، وبينهما عموم من وجه.

__________________

(١) العبارة من الجواهر ٢٢ : ٦٥.

٣٣٥

الثاني

في كفارة الغيبة الماحية لها‌

ومقتضى كونها من حقوق الناس توقّف رفعها على إسقاط صاحبها.

ما يدلّ على كون الغيبة من حقوق الناس

أمّا كونها من حقوق الناس : فلأنه ظلم على المغتاب ، وللأخبار في أنّ «من حق المؤمن على المؤمن أن لا يغتابه» (١) وأنّ «حرمة عرض المسلم كحرمة دمه وماله» (٢).

وأمّا توقّف رفعها على إبراء ذي الحقّ ، فللمستفيضة المعتضدة بالأصل‌

__________________

(١) مثل ما ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للمؤمن على المؤمن سبعة حقوق واجبة من الله عزّ وجلّ إلى أن قال ـ : وأن يحرم غيبته» انظر الوسائل ٨ : ٥٤٦ ، الباب ١٢٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ١٣ ، وما ورد عن الإمام الرضا عليه الصلاة والسلام لمّا سُئل ما حقُّ المؤمن على المؤمن ، قال : «من حقِّ المؤمن على المؤمن المودّة له في صدره إلى أن قال ولا يغتابه» انظر مستدرك الوسائل ٩ : ٤٥ ، الباب ١٠٥ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ١٦.

(٢) لم نقف على خبر يصرّح بأنّ «حرمة عرض المسلم كحرمة دمه» ، نعم ورد : «المؤمن حرام كلّه ، عرضه وماله ودمه» ، انظر مستدرك الوسائل ٩ : ١٣٦ ، الباب ١٣٨ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث الأوّل ، وورد أيضاً : «سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر ، وأكل لحمه معصية ، وحرمة ماله كحرمة دمه» ، انظر الوسائل ٨ : ٦١٠ ، الباب ١٥٨ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣ ، وكلا الخبرين خصوصاً الثاني منهما لا يدلاّن على المطلوب ، كما لا يخفى.

٣٣٦

الأخبار الدّالة على توقف رفعها على إبراء ذي الحقّ

منها : ما تقدّم من أنّ الغيبة لا تُغْفَر حتى يَغْفِر صاحبها (١) ، [وأنّها ناقلة للحسنات والسيئات (٢) (٣)].

ومنها : ما حكاه غير واحد عن الشيخ الكراجكي بسنده المتصل إلى علي بن الحسين ، عن أبيه (٤) عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للمؤمن على أخيه ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلاّ بأدائها ، أو العفو إلى أن قال ـ : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالبه به يوم القيامة ، فيقضى له عليه (٥)» (٦).

والنبويّ المحكي في السرائر وكشف الريبة : «من كانت لأخيه‌

__________________

(١) تقدم في الصفحة : ٣١٦.

(٢) راجع الصفحة : ٣١٧.

(٣) لم يرد في «ش» ، واستدرك في هامش «ف» ، وفي «ن» ، «خ» ، «م» و «ع» عليه علامة (خ ل).

(٤) في النسخ ما عدا «ش» زيادة : «عن آبائه». وهو سهو ، والسند كما في كنز الفوائد : حدثني الحسين بن محمد بن علي الصيرفي ، قال : حدثني أبو بكر محمد بن علي الجعابي ، قال : حدثنا أبو محمد القاسم بن محمد بن جعفر العلوي ، قال : حدّثني أبي ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام .. وسيأتي بهذا السند في الصفحة : ٣٦٥ أيضاً.

(٥) في النسخ : ويقضى له عليه ، وفي المصدر : فيقضى له وعليه ، وسوف يأتي معنى «يقضى له عليه» في الصفحتين : ٣٤٠ و ٣٦٦.

(٦) كنز الفوائد ١ : ٣٠٦ ، وعنه كشف الريبة : ١١٥ ، والوسائل ٨ : ٥٥٠ ، الباب ١٢٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٢٤.

٣٣٧

عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها من قبل أن يأتي يوم ليس هناك درهم ولا دينار ، فيؤخذ من حسناته ، فإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيّئات صاحبه فيتزايد (١) على سيّئاته» (٢).

وفي نبويٍّ آخر : «من اغتاب مسلماً أو مسلمةً لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة ، إلاّ أن يغفر له صاحبه» (٣).

وفي الدعاء التاسع والثلاثين من أدعية الصحيفة السجادية (٤) ودعاء يوم الاثنين من ملحقاتها (٥) ما يدلّ على هذا المعنى أيضاً.

عدم الفرق بين التمكّن من الاستبراء وتعذّره

ولا فرق في مقتضى الأصل والأخبار بين التمكّن من الوصول إلى صاحبه وتعذره ؛ لأنّ تعذّر البراءة لا يوجب سقوط الحق ، كما في غير هذا المقام.

لكن روى السكوني (٦) عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن‌

__________________

(١) كذا في النسخ ، وفي كشف الريبة : فتزيد.

(٢) السرائر ٢ : ٦٩ ، فيه قسم من صدر الحديث ، بلفظ : «من كانت عنده مظلمة من أخيه فليستحلله» ، وأورد تمامه في كشف الريبة : ١١٠ ، بتفاوت يسير.

(٣) مستدرك الوسائل ٩ : ١٢٢ ، الباب ١٣٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣٤.

(٤) حيث قال عليه‌السلام في الفقرة الرابعة من الدعاء ـ : «اللهم وأيّما عبد من عبيدك أدركه منّي درك أو مسّه من ناحيتي أذى .. إلخ».

(٥) وهو قوله عليه‌السلام : «فأيّما عبد من عبيدك أو أمة من إمائك كانت له قِبلي مظلمة .. إلى أن قال : أو غيبة اغتبته بها .. فقصرت يدي وضاق وسعي عن ردّها إليه والتحلّل منه .. إلخ».

(٦) كذا في النسخ ، وهو سهو ؛ لأنّ راوي الخبر هو «حفص بن عمر» كما في الكافي (٢ : ٣٥٧ ، الحديث ٤) ، أو «حفص بن عمير» كما في الوسائل ، وأمّا رواية السكوني فوردت في باب الظلم ، وسيذكرها المؤلّف قدس‌سره في الصفحة : ٣٤٠.

٣٣٨

النبوي المعارض للاطلاقات المتقدّمة

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ «كفارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته كلّما (١) ذكرته» (٢). ولو صح سنده أمكن تخصيص الإطلاقات المتقدمة به ، فيكون الاستغفار طريقاً أيضاً إلى البراءة. مع احتمال العدم أيضاً ؛ لأنّ كون الاستغفار كفارة لا يدلّ على البراءة ، فلعله كفارة للذنب من حيث كونه حقاً لله تعالى ، نظير كفارة قتل الخطأ التي لا توجب براءة القاتل ، إلاّ أن يدّعى ظهور السياق في البراءة.

ما أفاده في كشف الريبة في الجمع بين النبويّين المتعارضين

قال في كشف الريبة بعد ذكر النبويّين الأخيرين المتعارضين ـ : ويمكن الجمع بينهما بحمل الاستغفار له على من لم تبلغ غيبته المغتاب ، فينبغي له الاقتصار على الدعاء والاستغفار ؛ لأنّ في محالّته إثارةً للفتنة وجلباً للضغائن ، وفي حكم من لم تبلغه من لم يقدر على الوصول إليه لموت أو غيبة ، وحمل المحالّة على من يمكن التوصّل إليه مع بلوغه الغيبة (٣).

ما أفاده المؤلّف

أقول : إن صحّ النبويّ الأخير سنداً فلا مانع عن العمل به ، بجعله طريقاً إلى البراءة مطلقاً في مقابل الاستبراء ، وإلاّ تعيّن طرحه والرجوع إلى الأصل وإطلاق الأخبار المتقدمة ، وتعذر الاستبراء أو وجود المفسدة فيه لا يوجب وجود مبرئ آخر.

__________________

(١) في «ف» و «م» : كما.

(٢) الوسائل ٨ : ٦٠٥ ، الباب ١٥٥ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث الأوّل ، ونصّه : عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كفّارة الاغتياب؟ قال : تستغفر الله لمن اغتبته كلّما ذكرته».

(٣) كشف الريبة : ١١١.

٣٣٩

نعم ، أرسل بعض من قارب عصرنا (١) عن الصادق عليه‌السلام : «أنّك إن اغتبت فبلغ المغتاب فاستحلّ منه ، وإن لم يبلغه فاستغفر الله له».

وفي رواية السكوني المروية في الكافي في باب الظلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ظلم أحداً ففاته ، فليستغفر الله له ؛ فإنّه كفّارة له» (٢).

الأخبار الواردة في الباب كلّها غيرنقيّة السند

والإنصاف ، أنّ الأخبار الواردة في هذا الباب كلّها غير نقيّة السند ، وأصالة البراءة تقتضي عدم وجوب الاستحلال ولا الاستغفار ، وأصالة بقاء الحق الثابت للمغتاب (بالفتح) على المغتاب (بالكسر) تقتضي عدم الخروج منه إلاّ بالاستحلال خاصة ، لكن المثبت لكون الغيبة حقاً بمعنى وجوب البراءة منه ليس إلاّ الأخبار غير النقيّة السند ، مع أنّ السند لو كان نقيّاً كانت الدلالة ضعيفة ؛ لذكر حقوق أُخر في الروايات ، لا قائل بوجوب البراءة منها.

ومعنى القضاء يوم القيامة لذيها على من عليها : المعاملة معه معاملة من لم يراع حقوق المؤمن ، لا العقاب عليها ، كما لا يخفى على من لاحظ الحقوق الثلاثين المذكورة في رواية الكراجكي (٣).

__________________

(١) هو النراقي الكبير قدس‌سره أرسله في جامع السعادات ٢ : ٣١٤ ، وأورد العلاّمة المجلسي قدس‌سره هذا المرسل في البحار (٧٥ : ٢٥٧ ، الحديث ٤٨) عن مصباح الشريعة.

(٢) الكافي ٢ : ٣٣٤ ، الحديث ٢٠ ، وعنه الوسائل ١١ : ٣٤٣ ، الباب ٧٨ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٥.

(٣) انظر الصفحات : ٣٣٧ و ٣٦٥ ٣٦٦.

٣٤٠