كتاب المكاسب - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

كتاب المكاسب - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٧
ISBN: 964-5662-11-7
ISBN الدورة:
964-5662-17-6

الصفحات: ٤٠٩

وما ذكرنا هو ظاهر المحقّق الثاني ، حيث حكى عن الشهيد ، أنّه حكى عن العلاّمة : جواز الاستصباح بدهن الميتة ، ثم قال : «وهو بعيد ؛ لعموم النهي (١) عن الانتفاع بالميتة» (٢) ؛ فإنّ عدوله عن التعليل بعموم المنع عن الانتفاع بالنجس إلى ذكر خصوص الميتة يدلّ على عدم العموم في النجس.

وكيف كان ، فلا يبقى بملاحظة ما ذكرنا وثوق بنقل الإجماع المتقدّم عن شرح الإرشاد والتنقيح (٣) الجابر لرواية تحف العقول الناهية عن جميع التقلّب في النجس ، مع احتمال أن يراد من «جميع التقلّب» جميع أنواع التعاطي ، لا الاستعمالات ، ويراد من «إمساكه» : إمساكه للوجه المحرّم.

اختيار بعض الأساطين جواز الانتفاع بالنجس كالمتنجّس

ولعلّه للإحاطة بما ذكرنا اختار بعض الأساطين (٤) في شرحه على القواعد جواز الانتفاع بالنجس كالمتنجّس ، لكن مع تفصيل لا يرجع إلى مخالفة في محلّ الكلام.

فقال : ويجوز الانتفاع بالأعيان النجسة والمتنجّسة في غير ما ورد النصّ بمنعه ، كالميتة النجسة التي لا يجوز الانتفاع بها فيما يسمّى استعمالاً عرفاً ؛ للأخبار والإجماع ، وكذا الاستصباح بالدهن المتنجّس تحت الظلال ، وما دلّ على المنع من الانتفاع بالنجس والمتنجّس مخصوص‌

__________________

(١) في المصدر : لثبوت النهي.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ١٣.

(٣) راجع الصفحة : ٩٧.

(٤) هو الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس‌سره.

١٠١

أو منزّل على الانتفاع الدالّ على عدم الاكتراث بالدين وعدم المبالاة ، وأمّا من استعمله ليغسله فغير مشمول للأدلّة ويبقى على حكم الأصل (١) ، انتهى.

والتقييد ب «ما يسمّى استعمالاً» في كلامه رحمه‌الله لعلّه لإخراج مثل الإيقاد بالميتة ، وسدّ ساقية الماء بها ، وإطعامها لجوارح الطير ، ومراده سلب الاستعمال المضاف إلى الميتة عن هذه الأُمور ؛ لأنّ استعمال كلّ شي‌ء إعماله في العمل المقصود منه عرفاً ؛ فإنّ أيقاد الباب والسرير لا يسمّى استعمالاً لهما.

ما هو الانتفاع المنهي عنه في النصوص؟

لكن يشكل بأنّ المنهيّ عنه في النصوص «الانتفاع بالميتة» الشامل لغير الاستعمال المعهود المتعارف في الشي‌ء ؛ ولذا قيّد هو قدس‌سره «الانتفاع» بما يسمّى استعمالاً (٢).

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مثل هذه الاستعمالات لا تعدّ انتفاعاً ، تنزيلاً لها منزلة المعدوم ؛ ولذا يقال للشي‌ء : إنّه ممّا لا ينتفع به ، مع قابليّته للأُمور المذكورة.

فالمنهيّ عنه هو الانتفاع بالميتة بالمنافع المقصودة التي تعدّ (٣) غرضاً من تملّك الميتة لو لا كونها ميتة ، وإن كانت قد تملك لخصوص هذه‌

__________________

(١) شرح القواعد (مخطوط) : الورقة ٤.

(٢) ما أثبتناه مطابق ل «ش» وقد وردت العبارة في «ف» هكذا : ولذا قيده هو قدس‌سره بقوله : الانتفاع بما يسمى استعمالاً ، وفي «ن» و «خ» و «م» و «ص» و «ع» هكذا : ولذا قيده هو قدس‌سره الانتفاع بما يسمى استعمالاً.

(٣) في «ش» زيادة : عرفاً.

١٠٢

الأُمور ، كما قد يشترى اللحم لإطعام الطيور والسباع ، لكنّها أغراض شخصيّة ، كما قد يشترى الجلاّب لإطفاء النار ، والباب للإيقاد والتسخين به.

ما قاله العلّامة في النهاية

قال العلاّمة في النهاية في بيان أنّ الانتفاع ببول غير المأكول في الشرب للدواء منفعة جزئيّة لا يعتدّ بها قال : إذ كلّ شي‌ء من المحرّمات لا يخلو عن منفعة كالخمر للتخليل ، والعذرة للتسميد ، والميتة لأكل جوارح الطير ولم يعتبرها الشارع (١) ، انتهى.

عدم الاعتداد بالمنافع النادرة للتسامح العرفي

ثم إنّ الانتفاع المنفيّ في الميتة وإن كان مطلقاً في حيّز النفي ، إلاّ أنّ اختصاصه (٢) بما ادّعيناه من الأغراض المقصودة من الشي‌ء دون الفوائد المترتّبة عليه من دون أن تعدّ مقاصد ليس من جهة انصرافه (٣) إلى المقاصد حتّى يمنع انصراف المطلق في حيّز النفي ، بل من جهة التسامح والادّعاء العرفيّ تنزيلاً للموجود منزلة المعدوم فإنّه يقال للميتة مع وجود تلك الفوائد فيها : إنّها ممّا لا ينتفع به.

وممّا ذكرنا ظهر الحال في البول والعذرة والمنيّ ، فإنّها ممّا لا ينتفع بها ، وإن استفيد منها بعض الفوائد ، كالتسميد والإحراق كما هو سيرة بعض الجصّاصين من العرب كما يدلّ عليه وقوع السؤال في بعض الروايات عن الجصّ يوقد عليه العذرة وعظام الموتى ويجصّص به المسجد ، فقال الإمام عليه‌السلام : «إنّ الماء والنار قد طهّراه» (٤) ، بل في‌

__________________

(١) نهاية الإحكام ٢ : ٤٦٣.

(٢) كذا في «ش» ومصحّحة «ن» ، وفي سائر النسخ : اختصاصها.

(٣) كذا في «ش» ومصحّحة «ن» ، وفي سائر النسخ : انصرافها.

(٤) الوسائل ٢ : ١٠٩٩ ، الباب ٨١ من أبواب النجاسات ، الحديث الأوّل.

١٠٣

الرواية إشعار بالتقرير ، فتفطّن.

استبعاد ما ذكره بعض الأساطين

وأمّا ما ذكره من تنزيل ما دلّ على المنع عن الانتفاع بالنجس على ما يؤذن بعدم الاكتراث بالدين وعدم المبالاة لا من استعمله ليغسله ، فهو تنزيل بعيد.

تنزيل ما دلّ على المنع ، على الانتفاع الموجب للتلويث

نعم ، يمكن أن ينزّل على الانتفاع به على وجه الانتفاع بالطاهر ، بأن يستعمله على وجه يوجب تلويث بدنه وثيابه وسائر آلات الانتفاع كالصبغ بالدم وإن بنى على غسل الجميع عند الحاجة إلى ما يشترط فيه الطهارة ، وفي بعض الروايات إشارة إلى ذلك.

دلالة رواية الوشّاء على ذلك

ففي الكافي بسنده عن الوشّاء ، قال : «قلت (١) لأبي الحسن عليه‌السلام : جُعِلت فِداك إنّ أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها ، فقال : حرام ؛ هي ميتة ، فقلت : جعلت فداك فيستصبح (٢) بها؟ فقال : أما علمت أنّه يصيب اليد والثوب وهو حرام؟» (٣) بحملها على حرمة الاستعمال على وجه يوجب تلويث البدن والثياب.

وأمّا حمل الحرام على النجس كما في كلام بعض (٤) فلا شاهد عليه.

__________________

(١) في «خ» و «م» و «ع» : قال : قال ، وفي المصدر : قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام ، فقلت له.

(٢) في المصدر : فنصطبح.

(٣) الكافي ٦ : ٢٥٥ ، الحديث ٣ ، والوسائل ١٦ : ٣٦٤ ، الباب ٣٢ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، الحديث الأوّل.

(٤) الجواهر ٥ : ٣١٥.

١٠٤

والرواية في نجس العين ، فلا ينتقض بجواز الاستصباح بالدهن المتنجّس ، لاحتمال كون مزاولة نجس العين مبغوضةً (١) للشارع ، كما يشير إليه قوله تعالى (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٢).

المنفعة المحلّلة للنجس قد تجعله مالاً عرفاً وقد لا تجعله

ثمّ إنّ منفعة النجس المحلّلة للأصل أو للنصّ قد تجعله (٣) مالاً عرفاً ، إلاّ أنّه منع الشرع عن بيعه ، كجلد الميتة إذا قلنا بجواز الاستقاء به لغير الوضوء كما هو مذهب جماعة (٤) مع القول بعدم جواز بيعه ؛ لظاهر الإجماعات المحكيّة (٥) ، وشعر الخنزير إذا جوّزنا استعماله اختياراً ، والكلاب الثلاثة إذا منعنا عن بيعها ، فمثل هذه أموال لا تجوز المعاوضة عليها ، ولا يبعد جواز هبتها ؛ لعدم المانع مع وجود المقتضي ، فتأمّل.

وقد لا تجعله مالاً عرفاً ؛ لعدم ثبوت المنفعة المقصودة منه له (٦) وإن ترتّب عليه الفوائد ، كالميتة التي يجوز إطعامها لجوارح الطير والإيقاد بها ، والعذرة للتسميد ، فإنّ الظاهر أنّها لا تعدّ أموالاً عرفاً ، كما اعترف به جامع المقاصد (٧) في شرح قول العلاّمة : «ويجوز اقتناء الأعيان النجسة‌

__________________

(١) كذا في «ش» ومصحّحة «ن» ، وفي سائر النسخ : مبغوضاً.

(٢) المدّثّر : ٥.

(٣) كذا في «ش» ومصحّحة «ن» ، وفي سائر النسخ : يجعلها.

(٤) كالشيخ في النهاية : ٥٨٧ ، والمحقّق في الشرائع ٣ : ٢٢٧ ، والعلاّمة في الإرشاد ٢ : ١١٣ ، والفاضل الآبي في كشف الرموز ٢ : ٣٧٤.

(٥) تقدّمت عن التذكرة والمنتهى والتنقيح ، في الصفحة : ٣١.

(٦) كذا في «ش» ومصحّحة «ن» ، وفي سائر النسخ : منها لها.

(٧) جامع المقاصد ٤ : ١٥.

١٠٥

لفائدة».

الظاهر ثبوت حقّ الاختصاص في الأعيان النجسة

والظاهر ثبوت حقّ الاختصاص في هذه الأُمور الناشئ إمّا عن الحيازة ، وإمّا عن كون أصلها مالاً للمالك ، كما لو مات حيوان له ، أو فسد لحم اشتراه للأكل على وجه خرج عن الماليّة.

والظاهر جواز المصالحة على هذا الحقّ بلا عوض ؛ بناءً على صحّة هذا الصلح ، بل ومع (١) العوض ؛ بناءً على أنّه لا يعدّ ثمناً لنفس العين حتّى يكون سحتاً بمقتضى الأخبار (٢).

ما أفاده العلّامة في التذكرة

قال في التذكرة : ويصحّ الوصيّة بما يحلّ الانتفاع به من النجاسات ، كالكلب المعلّم ، والزيت النجس لإشعاله تحت السماء ، والزبْل للانتفاع بإشعاله والتسميد به ، وجلد الميتة إن سوّغنا الانتفاع به والخمر المحترمة ؛ لثبوت الاختصاص فيها ، وانتقالها من يدٍ إلى يد بالإرث وغيره (٣) ، انتهى.

والظاهر أنّ مراده بغير الإرث : الصلح الناقل.

وأمّا اليد الحادثة بعد إعراض اليد الاولى فليس انتقالاً.

لكنّ الإنصاف : أنّ الحكم مشكل.

نعم ، لو بذل مالاً على أن يرفع يده عنها ليحوزها الباذل كان حسناً ، كما يبذل الرجل المال على أن يرفع اليد عمّا في تصرّفه من‌

__________________

(١) كذا في «ن» ، و «ش» ، وفي غيرهما : بل دفع العوض.

(٢) الوسائل ١٢ : ٦١ ، الباب ٥ من أبواب ما يكتسب به ، والحديث الأوّل من الباب ٤٠ منها.

(٣) التذكرة ٢ : ٤٧٩.

١٠٦

الأمكنة المشتركة ، كمكانه من المسجد والمدرسة والسوق.

ما ذكره بعض الأساطين

وذكر بعض الأساطين بعد إثبات حقّ الاختصاص ـ : أنّ دفع شي‌ء من المال لافتكاكه يشكّ في دخوله تحت الاكتساب المحظور ، فيبقى على أصالة الجواز (١).

اشتراط قصد الانتفاع في الحيازة الموجبة لحصول حق الاختصاص

ثمّ إنّه يشترط في الاختصاص بالحيازة قصد الحائز للانتفاع ؛ ولذا ذكروا : أنّه لو علم كون حيازة الشخص للماء والكلأ لمجرّد العبث ، لم يحصل له حقّ ، وحينئذٍ فيشكل الأمر في ما تعارف في بعض البلاد من جمع العذرات ، حتّى إذا صارت من الكثرة بحيث ينتفع بها في البساتين والزرع بُذِل له مال فأُخذت منه ، فإنّ الظاهر بل المقطوع أنّه لم يحزها للانتفاع بها ، وإنّما حازها لأخذ المال عليها ، ومن المعلوم : أنّ حلّ المال فرع ثبوت الاختصاص المتوقّف على قصد الانتفاع المعلوم انتفاؤه في المقام ، وكذا لو سبق إلى مكان من الأمكنة المذكورة من غير قصد الانتفاع منها بالسكنى.

نعم ، لو جمعها في مكانه المملوك ، فبذل له المال على أن يتصرّف في ذلك المكان بالدخول لأخذها ، كان حسناً.

كما أنّه لو قلنا بكفاية مجرّد قصد الحيازة في الاختصاص [وإن لم يقصد الانتفاع بعينه (٢)] وقلنا (٣) بجواز المعاوضة على حقّ الاختصاص كان أسهل.

__________________

(١) شرح القواعد (مخطوط) : الورقة ٤.

(٢) ما بين المعقوفتين ساقط من «ن» و «م».

(٣) في «ف» ، «خ» «ع» ، «ص» : أو قلنا.

١٠٧
١٠٨

النوع الثاني

ممّا يحرم التكسّب به

ما يحرم لتحريم ما يقصد به‌

وهو على أقسام‌

١٠٩
١١٠

القسم الأوّل

ما لا يقصد من وجوده على نحوه الخاصّ إلاّ الحرام‌

وهي أُمور‌

منها :

هياكل العبادة المبتدعة

كالصليب والصنم ـ

بلا خلافٍ ظاهر ، بل الظاهر الإجماع عليه.

ما يدلّ على حرمة الاكتساب بهياكل العبادة

ويدلّ عليه مواضع من رواية تحف العقول المتقدّمة (١) ـ ، مثل (٢) قوله عليه‌السلام : «وكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه» ، وقوله عليه‌السلام : «أو شي‌ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد» ، وقوله عليه‌السلام : «وكلّ منهيّ‌

__________________

(١) تقدّم في أوّل الكتاب.

(٢) في «خ» ، «م» ، «ع» ، «ص» : في مثل.

١١١

عنه ممّا يتقرّب به لغير الله» ، وقوله عليه‌السلام : «إنّما حرّم الله الصناعة التي هي حرام كلّها ممّا يجي‌ء منها (١) الفساد محضاً ، نظير المزامير والبَرابِط ، وكلّ ملهوٍّ به ، والصلبان والأصنام .. إلى أن قال : فحرام تعليمه وتعلّمه ، والعمل به ، وأخذ الأُجرة عليه ، وجميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات .. إلخ».

هذا كلّه ، مضافاً إلى أنّ أكلَ المال في مقابل هذه الأشياء أكلٌ له بالباطل ، وإلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» (٢) بناءً على أنّ تحريم هذه الأُمور تحريم لمنافعها الغالبة ، بل الدائمة ؛ فإنّ الصليب من حيث إنّه خشب بهذه الهيئة لا ينتفع به إلاّ في الحرام ، وليس بهذه الهيئة ممّا ينتفع به في المحلّل والمحرّم ، ولو فرض ذلك كان (٣) منفعة نادرة لا يقدح في تحريم العين بقول مطلق ، الذي هو المناط في تحريم الثمن.

جواز المعاوضة لو فرض هيئة خاصّة مشتركة بين هيكل العبادة وآلة اُخرى لعملٍ محلّل

نعم ، لو فرض هيئة خاصّة مشتركة بين هيكل العبادة وآلة اخرى لعمل محلّل بحيث لا تعدّ (٤) منفعة نادرة فالأقوى جواز البيع بقصد تلك المنفعة المحلّلة ، كما اعترف به في المسالك (٥).

__________________

(١) في «ش» : منه.

(٢) عوالي اللآلي ٢ : ١١٠ ، الحديث ٣٠١.

(٣) في «ن» ، «خ» ، «م» ، «ع» ، «ص» : كان ذلك.

(٤) في «ن» : لا يعدّ.

(٥) المسالك ٣ : ١٢٢ (اعترف به في مسألة آلات اللهو).

١١٢

توجيه القول بعدم الفرق بين قصد الجهة المحلّلة وغيرها

فما ذكره بعض الأساطين (١) من أنّ ظاهر الإجماع والأخبار : أنّه لا فرق بين قصد الجهة المحلّلة وغيرها ، فلعلّه محمول على الجهة المحلّلة التي لا دخل للهيئة فيها ، أو النادرة التي ممّا للهيئة دخل فيه.

نعم ، ذكر أيضاً وفاقاً لظاهر غيره ، بل الأكثر أنّه لا فرق بين قصد المادّة والهيئة.

تحقيق حول قصد المادة

أقول : إن أراد ب «قصد المادّة» كونها هي الباعثة على بذل المال بإزاء ذلك الشي‌ء وإن كان عنوان المبيع المبذول بإزائه الثمن هو ذلك الشي‌ء ، فما استظهره من الإجماع والأخبار حسن ؛ لأنّ بذل المال بإزاء هذا الجسم المتشكّل بالشكل الخاصّ من حيث كونه مالاً عرفاً بذل للمال على الباطل.

وإن أراد ب «قصد المادّة» كون المبيع هي المادّة ، سواء تعلّق البيع بها بالخصوص كأن يقول : بعتك خشب هذا الصنم أو في ضمن مجموع مركّب كما لو وزن له وزنة حطب فقال : بعتك ، فظهر فيه صنم أو صليب فالحكم ببطلان البيع في الأوّل وفي مقدار الصنم في الثاني مشكل ؛ لمنع شمول الأدلّة لمثل هذا الفرد ؛ لأنّ المتيقّن من الأدلّة المتقدّمة حرمة المعاوضة على هذه الأُمور نظير المعاوضة على غيره (٢) من الأموال العرفيّة ، وهو ملاحظة مطلق ما يتقوّم به ماليّة الشي‌ء من المادّة والهيئة والأوصاف.

والحاصل : أنّ الملحوظ في البيع قد يكون مادّة الشي‌ء من غير‌

__________________

(١) وهو الشيخ الكبير كاشف الغطاء في شرحه على القواعد (مخطوط) : ٧.

(٢) كذا في النسخ ، وفي مصحّحة «ن» : غيرها.

١١٣

مدخليّة الشكل ، ألا ترى أنّه لو باعه وزنة (١) نحاس فظهر فيها آنية مكسورة ، لم يكن له (٢) خيار العيب ؛ لأنّ المبيع هي المادّة.

ودعوى أنّ المال هي المادّة بشرط عدم الهيئة ، مدفوعة بما صُرّح به من أنّه لو أتلف الغاصب لهذه (٣) الأُمور ضمن موادّها (٤).

وحمله على الإتلاف تدريجاً تمحّل (٥).

إذا كان لمكسورها قيمة وباعها صحيحة لتُكسر

وفي (٦) محكيّ التذكرة أنّه إذا كان لمكسورها قيمة وباعها صحيحة لتُكْسَر وكان المشتري ممّن يوثق بديانته ؛ فإنّه يجوز بيعها على الأقوى (٧) ، انتهى.

واختار ذلك صاحب الكفاية (٨) وصاحب الحدائق (٩) وصاحب‌

__________________

(١) الوزنة : مقدار لتحديد الوزن يختلف باختلاف البلدان ، ففي بعضها يقدّر بثلاثة أرطال ، وفي بعضها بخمسة أرطال. انظر محيط المحيط : ٩٦٨ ، مادّة «وزن».

(٢) في «خ» ، «م» ، «ع» ، «ص» و «ش» : لها.

(٣) اللام في كلمة «لهذه» مشطوب عليها في «ن».

(٤) مثل عبارة العلاّمة في القواعد : فإن أُحرقت ضمن قيمة الرضاض ، راجع القواعد ١ : ٢٠٣.

(٥) في «خ» ، «م» ، «ع» ، «ص» : محتمل.

(٦) في «ف» ، «ن» و «خ» : «وقال في».

(٧) حكاه عنها السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٣٢ ، لكنّا لم نقف في التذكرة إلاّ على ما يلي : «وإنْ عُدَّ مالاً فالأقوى عندي الجواز مع زوال الصفة المحرّمة» ، انظر التذكرة ١ : ٤٦٥.

(٨) كفاية الأحكام : ٨٥.

(٩) الحدائق ١٨ : ٢٠١.

١١٤

الرياض (١) نافياً عنه الريب (٢).

توجيه التقييد في كلام العلّامة

ولعلّ التقييد في كلام العلاّمة ب «كون المشتري ممّن يوثق بديانته» (٣) لئلاّ يدخل في باب المساعدة على المحرّم ؛ فإنّ دفع ما يقصد منه المعصية غالباً مع عدم وثوق بالمدفوع إليه تقوية لوجه من وجوه المعاصي ، فيكون باطلاً ، كما في رواية تحف العقول.

لكن فيه مضافاً إلى التأمّل في بطلان البيع لمجرّد الإعانة على الإثم ـ : أنّه يمكن الاستغناء عن هذا القيد (٤) بكسره قبل أن يقبضه إيّاه ، فإنّ الهيئة غير محترمة في هذه الأُمور ، كما صرّحوا به في باب الغصب (٥).

بل قد يقال بوجوب إتلافها فوراً ، ولا يبعد أن يثبت ؛ لوجوب حسم مادّة الفساد.

ما أفاده الثاني في جامع المقاصد

وفي جامع المقاصد بعد حكمه بالمنع عن بيع هذه الأشياء وإن‌

__________________

(١) الرياض ١ : ٤٩٩.

(٢) النافي للريب هو صاحب الحدائق ، لا صاحب الرياض كما هو ظاهر السياق.

(٣) لم نقف عليه في كلام العلاّمة ، كما أشرنا إليه آنفاً.

(٤) كذا في «ش» ، وفي مصحّحة «ن» : هذا الوثوق ، وفي سائر النسخ : هذا الوجوب.

(٥) صرّح به العلاّمة في التذكرة ٢ : ٣٧٩ وغيرها ، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد ٦ : ٢٤٧ ، والمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة ١٠ : ٥٢٩ ؛ كما أنّ مقتضى كلام الشيخ في مسألة غصب آنية الذهب والفضّة ذلك ، انظر المبسوط ٣ : ٦١.

١١٥

أمكن الانتفاع على حالها في غير محرّم (١) منفعة لا تقصد منها قال : ولا أثر لكون رضاضها الباقي بعد كسرها ممّا ينتفع به في المحلّل ويعدّ مالاً ، لأنّ بذل المال في مقابلها وهي على هيئتها بذل له في المحرّم ، الذي لا يعدّ مالاً عند الشارع. نعم ، لو باع رضاضها الباقي بعد كسرها قبل أن يكسرها وكان المشتري موثوقاً به وأنّه يكسرها أمكن القول بصحّة البيع ، ومثله باقي الأُمور المحرّمة كأواني النقدين والصنم (٢) ، انتهى.

ومنها :

آلات القمار بأنواعه‌

بلا خلافٍ ظاهراً ، ويدلّ عليه جميع ما تقدّم في هياكل العبادة.

ويقوى هنا أيضاً جواز بيع المادّة قبل تغيير الهيئة.

وفي المسالك : أنّه لو كان لمكسورها قيمة ، وباعها صحيحة لتكسر وكان المشتري ممّن يوثق بديانته ففي جواز بيعها وجهان ، وقوّى في التذكرة (٣) الجواز مع زوال الصفة ، وهو حسن ، والأكثر أطلقوا‌

__________________

(١) في «ف» ، «خ» ، «ش» : غير المحرّم.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ١٥.

(٣) التذكرة ١ : ٤٦٥.

١١٦

المنع (١) ، انتهى.

أقول : إن أراد ب «زوال الصفة» : زوال الهيئة ؛ فلا ينبغي الإشكال في الجواز ، ولا ينبغي جعله محلا للخلاف بين العلاّمة والأكثر.

ثمّ إنّ المراد بالقمار مطلق المراهنة بعوض ، فكلّ ما أُعدّ لها بحيث لا يقصد منه على ما فيه من الخصوصيّات غيرها حرمت المعاوضة عليه ، وأمّا المراهنة بغير عوض فيجي‌ء (٢) أنّه ليس بقمار على الظاهر.

نعم ، لو قلنا بحرمتها لحق الآلة المعدّة لها حكم آلات القمار ، مثل ما يعملونه شبه الكرة ، يسمّى عندنا «توپة» (٣) والصولجان.

ومنها :

آلات اللهو‌

على اختلاف أصنافها بلا خلاف ؛ لجميع ما تقدّم في المسألة السابقة. والكلام في بيع المادّة كما تقدّم.

وحيث إنّ المراد بآلات اللهو ما أُعدّ له ، توقّف على تعيين معنى‌

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٢٢.

(٢) ظاهر «ف» : فسيجي‌ء.

(٣) كذا في «ف» و «خ» ، وفي «ن» : الترسة التوبة (خ ل) ، وفي «م» و «ص» : الترسة ، وفي «ش» : الترثة التوبة (خ ل).

١١٧

اللهو وحرمة مطلق اللهو.

إلاّ أنّ المتيقّن (١) منه : ما كان من جنس المزامير وآلات الأغاني ، ومن جنس الطبول.

وسيأتي معنى اللهو وحكمه.

ومنها :

أواني الذهب والفضّة‌

إذا قلنا بتحريم اقتنائها وقصد (٢) المعاوضة على مجموع الهيئة والمادّة ، لا المادّة فقط.

ومنها :

الدراهم الخارجة المعمولة لأجل غشّ الناس‌

إذا لم يفرض على هيئتها الخاصّة منفعة محلّلة معتدّ بها ، مثل التزيّن ، أو الدفع إلى الظالم الذي يريد مقداراً من المال كالعَشّار‌

__________________

(١) كذا في «ش» ومصحّحة «ف» ، وفي «ن» و «م» و «ع» : المطلوب منه ، وفي «ص» : المطلوب منه ، المتيقّن (خ ل).

(٢) في «خ» ، «م» ، «ع» ، «ص» : أو قصد.

١١٨

ما يدلّ على وجوب إتلاف الدراهم المغشوشة

ونحوه بناءً على جواز ذلك وعدم وجوب إتلاف مثل هذه الدراهم ولو بكسرها من باب دفع مادّة الفساد ، كما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام في رواية الجعفي مشيراً إلى درهمٍ ـ : «اكسر هذا ؛ فإنّه لا يَحِلُّ بيعه ولا إنفاقه» (١).

وفي رواية موسى بن بكير (٢) : «قَطَّعَه نصفين (٣) ثمّ قال : ألقه في البالوعة حتّى لا يباع شي‌ء فيه (٤) غشّ» (٥).

وتمام الكلام فيه في باب الصرْف إن شاء الله.

لو وقعت المعاوضة عليها جهلاً فتبين الحال

ولو وقعت المعاوضة عليها جهلاً فتبيّن الحال لمن صار (٦) إليه ، فإن وقع عنوان المعاوضة على الدرهم المنصرف إطلاقه إلى المسكوك بسكّة (٧) السلطان (٨) بطل البيع ، وإن وقعت المعاوضة على شخصه‌

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٤٧٣ ، الباب ١٠ من أبواب الصرف ، الحديث ٥ ، مع اختلاف يسير.

(٢) كذا في النسخ ، لكن في المصادر الحديثيّة : موسى بن بكر.

(٣) في مصحّحة «ص» : بنصفين.

(٤) كذا في ظاهر «ف» ونسخة بدل «ص» والمصدر ، وفي «ش» : لا يباع بشي‌ء فيه غشّ ، وفي سائر النسخ : حتى لا يباع بما فيه غشّ.

(٥) الوسائل ١٢ : ٢٠٩ ، الباب ٨٦ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٥ ، وإليك نصّه : «قال : كنّا عند أبي الحسن عليه‌السلام وإذا دنانير مصبوبة بين يديه ، فنظر إلى دينار فأخذه بيده ثمّ قطّعه بنصفين ، ثم قال لي : ألقه في البالوعة حتّى لا يباع شي‌ء فيه غشّ».

(٦) كذا في النسخ ، والمناسب : صارت.

(٧) كذا في «ف» ومصحّحة «ن» ، وفي سائر النسخ : سكّة.

(٨) وردت العبارة في «ف» هكذا : «فإن وقع عنوان المعاوضة على الدرهم المشكوك بسكة السلطان» ، وشطب على عبارة «المنصرف إطلاقه إلى».

١١٩

من دون عنوان ، فالظاهر صحّة البيع مع خيار العيب إن كانت المادّة مغشوشة ، وإن كان مجرّد تفاوت السكّة ، فهو خيار التدليس ، فتأمّل.

الفرق بين المعاوضة على الدراهم المغشوشة وآلات القمار

وهذا بخلاف ما تقدّم من الآلات ، فإنّ البيع الواقع عليها لا يمكن تصحيحه بإمضائه من جهة المادّة فقط واسترداد ما قابل الهيئة من الثمن المدفوع ، كما لو جمع بين الخَلّ والخمر ، لأنّ كلّ جزء من الخَلّ أو الخمر (١) مالٌ لا بدّ أن يقابل في المعاوضة بجزء من المال ، ففساد المعاملة باعتباره يوجب فساد مقابله من المال لا غير ، بخلاف المادّة والهيئة ، فإنّ الهيئة من قبيل القيد للمادّة جزء عقليّ لا خارجي تقابل بمال على حدة ، ففساد المعاملة باعتباره فساد لمعاملة المادّة حقيقة.

وهذا الكلام مطّرد في كلّ قيد فاسد بذل الثمن الخاصّ لداعي وجوده.

__________________

(١) كذا في «ف» ، وفي سائر النسخ : والخمر.

١٢٠