كتاب المكاسب - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

كتاب المكاسب - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٧
ISBN: 964-5662-11-7
ISBN الدورة:
964-5662-17-6

الصفحات: ٤٠٩

القسم الثاني

ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرّمة‌

وهو :

الوجوه المتصوّرة في قصد المنفعة المحرّمة

تارة على وجه يرجع إلى بذل المال في مقابل المنفعة المحرّمة ، كالمعاوضة على العنب مع التزامهما أن لا يتصرّف فيه إلاّ بالتخمير.

وأُخرى على وجه يكون الحرام هو الداعي إلى المعاوضة لا غير ، كالمعاوضة على العنب مع قصدهما تخميره.

والأوّل إمّا أن يكون الحرام مقصوداً لا غير ، كبيع العنب على أن يعمله خمراً (١) ، ونحو ذلك.

وإمّا أن يكون الحرام مقصوداً مع الحلال ، بحيث يكون بذل المال بإزائهما (٢) ، كبيع الجارية المغنّية بثمنٍ لوحظ فيه وقوع بعضه بإزاء‌

__________________

(١) في «ف» : أن يعمل خمراً.

(٢) في «ف» : بإزائها.

١٢١

صفة التغنّي.

فهنا مسائل ثلاث :

١٢٢

المسألة الاولى

بيع العنب على أن يُعمل خمراً ، والخشب على أن يُعمل صنماً

بيع العنب على أن يُعمل خمراً ، والخشب على أن يُعمل صنماً ، أو آلة لهو أو قمار ، وإجارة (١) المساكن ليباع أو يحرز فيها الخمر ، وكذا إجارة السفُن والحَمولة لحملها. ولا إشكال في فساد المعاملة فضلاً عن حرمته ولا خلاف فيه.

ويدلّ عليه مضافاً إلى كونها إعانة على الإثم ، وإلى أنّ الإلزام والالتزام بصرف المبيع في المنفعة المحرّمة الساقطة في نظر الشارع أكل وإيكال للمال بالباطل خبر جابر ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر ، قال : حرام أُجرته» (٢).

خبر جابر الدالّ على حرمة مؤاجرة البيت ليباع فيه الخمر

فإنّه إمّا مقيّد بما إذا استأجره لذلك ، أو يدلّ عليه بالفحوى ، بناءً على ما سيجي‌ء من حرمة العقد مع من يعلم أنّه يصرف المعقود عليه في الحرام.

__________________

(١) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : أو إجارة.

(٢) الوسائل ١٢ : ١٢٥ ، الباب ٣٩ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

١٢٣

مصحّحة ابن اُذينة الدّالة على الجواز

نعم ، في مصحّحة ابن أُذينة ، قال (١) : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يؤاجر سفينته أو دابّته لمن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنازير ، قال : لا بأس» (٢).

الجمع بين الخبرين

لكنّها محمولة على ما إذا اتّفق الحمل من دون أن يؤخذ ركناً أو شرطاً في العقد ؛ بناءً على أنّ خبر جابر نصّ في ما نحن فيه وظاهر في هذا ، عكس الصحيحة ، فيطرح (٣) ظاهر كلٍّ بنصِّ الآخر ، فتأمّل ، مع أنّه لو سلّم التعارض كفى العمومات المتقدّمة (٤).

وقد يستدلّ أيضاً في ما نحن فيه بالأخبار المسئول فيها عن جواز بيع الخشب ممّن يتّخذه صُلباناً أو صنماً ، مثل مكاتبة ابن أُذينة : «عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صُلباناً؟ قال : لا» (٥).

ورواية عمرو بن الحريث : «عن التوت أبيعه ممّن يصنع الصليب أو الصنم؟ قال : لا» (٦).

وفيه : أنّ حمل تلك الأخبار على صورة اشتراط البائع المسلم‌

__________________

(١) في المصدر : «قال : كتبت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله عن الرجل ..».

(٢) الوسائل ١٢ : ١٢٦ ، الباب ٣٩ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢.

(٣) كذا في «ف» ونسخة بدل «ش» ، وفي سائر النسخ : يطرح.

(٤) وهي رواية تحف العقول ، ورواية الفقه الرضوي ، ورواية دعائم الإسلام ، والنبويّ المشهور ، المتقدّمة كلّها في أوّل الكتاب.

(٥) الوسائل ١٢ : ١٢٧ ، الباب ٤١ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٦) الوسائل ١٢ : ١٢٧ ، الباب ٤١ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢ ، ولفظه هكذا : «عن التوت أبيعه يصنع للصليب والصنم؟ قال : لا».

١٢٤

على المشتري أو تواطئهما على التزام صرف المبيع في الصنم والصليب ، بعيد في الغاية.

والفرق بين مؤاجرة البيت لبيع الخمر فيه ، وبيع الخشب على أن يُعمل صليباً أو صنماً لا يكاد يخفى (١) ، فإنّ بيع الخمر في مكانٍ وصيرورته دُكّاناً لذلك منفعة عرفيّة يقع الإجارة عليها من المسلم كثيراً كما يؤجرون البيوت لسائر المحرّمات بخلاف جعل العنب خمراً والخشب صليباً ، فإنّه لا غرض للمسلم في ذلك غالباً يقصده في بيع عنبه أو خشبه ، فلا يحمل عليه موارد السؤال.

نعم ، لو قيل في المسألة الآتية بحرمة بيع الخشب ممّن يعلم أنّه يعمله صنماً لظاهر هذه الأخبار صحّ الاستدلال بفحواها على ما نحن فيه ، لكنّ ظاهر هذه الأخبار معارض بمثله أو بأصرح منه ، كما سيجي‌ء.

حرمة بيع كلّ ذي منفعة محلّلة على أن يُصرف في الحرام

ثمّ إنّه يلحق بما ذكر من بيع العنب والخشب على أن يعملا خمراً وصليباً (٢) بيع كلّ ذي منفعة محلّلة على أن يصرف في الحرام ؛ لأنّ حصر الانتفاع بالمبيع (٣) في الحرام يوجب كون أكل الثمن بإزائه أكلاً للمال بالباطل.

ثمّ إنّه لا فرق بين ذكر (٤) الشرط المذكور في متن العقد ، وبين‌

__________________

(١) في أكثر النسخ : يختفي.

(٢) في «ف» ، «خ» ، «ش» : أو صليباً.

(٣) كذا في مصحّحة «ن» و «ص» ، وفي سائر النسخ : بالبيع.

(٤) ورد في «ش» فقط.

١٢٥

التواطؤ عليه خارج العقد ووقوع العقد عليه ، ولو كان فرقٌ فإنّما هو في لزوم الشرط وعدمه ، لا فيما هو مناط الحكم هنا.

الأظهر فساد العقد المشروط فيه الحرام وإن لم نقل بإفساد الشرط الفاسد

ومن ذلك يظهر أنّه لا يبنى فساد هذا العقد على كون الشرط الفاسد مفسداً ، بل الأظهر فساده وإن لم نقل بإفساد الشرط الفاسد ؛ لما عرفت من رجوعه في الحقيقة إلى أكل المال في مقابل المنفعة المحرّمة.

وقد تقدّم الحكم بفساد المعاوضة على آلات المحرّم مع كون موادّها أموالاً مشتملة على منافع محلّلة ، مع أنّ الجزء أقبل للتفكيك بينه وبين الجزء الآخر من الشرط والمشروط ، وسيجي‌ء أيضاً في المسألة الآتية ما يؤيّد هذا أيضاً ، إن شاء الله.

١٢٦

المسألة الثانية

المعاوضة على الجارية المغنيّة

يحرم المعاوضة على الجارية المغنّية ، وكلّ عين مشتملة على صفة يُقصد منها الحرام‌ إذا قُصِد منها ذلك ، وقصد اعتبارها في البيع على وجه يكون دخيلاً في زيادة الثمن كالعبد الماهر في القمار أو اللهو والسرقة (١) ، إذا لوحظ فيه هذه الصفة وبُذل بإزائها شي‌ء من الثمن لا ما كان على وجه الداعي.

ويدلّ عليه أنّ بذل شي‌ء (٢) من الثمن بملاحظة الصفة المحرّمة أكل للمال بالباطل.

التفكيك بين القيد والمقيّد غير معروف عرفاً وغير واقع شرعاً

والتفكيك بين القيد والمقيّد بصحّة العقد في المقيّد وبطلانه في القيد بما قابلة من الثمن غير معروف عرفاً ، لأنّ القيد أمرٌ معنويٌّ لا يوزَّع عليه شي‌ء من المال وإن كان يبذل المال بملاحظة وجوده. وغير واقع شرعاً ، على ما اشتهر من أنّ الثمن لا يوزَّع على الشروط ، فتعيّن بطلان العقد رأساً.

__________________

(١) في مصحّحة «ن» : أو السرقة.

(٢) في «ش» : الشي‌ء.

١٢٧

وقد ورد النصّ بأنّ : «ثمن الجارية المغنّية سحت» (١) وأنّه : «قد يكون للرجل الجارية تُلهيه ؛ وما ثمنها إلاّ كثمن الكلب» (٢).

بيع الجارية المغنّية مع ملاحظة الصفة المحرّمة وعدمها

نعم ، لو لم تلاحظ الصفة أصلاً في كمّيّة الثمن ، فلا إشكال في الصحّة.

ولو لوحظت من حيث إنّها صفة كمال قد تصرف إلى المحلّل فيزيد لأجلها الثمن ، فإن كانت المنفعة المحلّلة لتلك الصفة ممّا يعتدّ بها ، فلا إشكال في الجواز.

وإن كانت نادرة بالنسبة إلى المنفعة المحرّمة ، ففي إلحاقها بالعين في عدم جواز بذل المال إلاّ لما اشتمل على منفعة محلّلة غير نادرة بالنسبة إلى المحرّمة ، وعدمه لأنّ المقابل بالمبذول هو الموصوف ، ولا ضير في زيادة ثمنه بملاحظة منفعة نادرة وجهان :

أقواهما : الثاني ، إذ لا يُعدّ أكلاً للمال بالباطل ، والنصّ بأنّ «ثمن المغنّية سحت» مبنيٌّ على الغالب.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٨٧ ، الباب ١٦ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ ، ولفظه : «إنّ ثمن الكلب والمغنّية سحت».

(٢) الوسائل ١٢ : ٨٨ ، الباب ١٦ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٦ ، باختلاف يسير في اللفظ.

١٢٨

المسألة الثالثة

بيع العنب ممّن يعمله خمراً بقصد أن يعمله خمراً

يحرم بيع العنب ممّن يعمله خمراً بقصد أن يعمله ، وكذا بيع الخشب بقصد أن يعمله صنماً أو صليباً ؛ لأنّ فيه إعانةً على الإثم والعدوان. ولا إشكال ولا خلاف في ذلك.

أمّا لو لم يقصد ذلك ، فالأكثر على عدم التحريم ، للأخبار المستفيضة :

الأخبار المجوّزة للبيع مع عدم القصد

منها : خبر ابن أُذينة ، قال : «كتبت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله عن رجل له كَرْمٌ (١) يبيع العنب (٢) ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً أو مسكراً؟ فقال عليه‌السلام : إنّما باعه حلالاً في الإبّان الذي يحلّ شربه أو أكله ، فلا بأس ببيعه» (٣).

__________________

(١) الكَرْم : العنب ، وأرض يحوطها حائط فيه أشجار ملتفّة لا يمكن زراعة أرضها. انظر محيط المحيط : ٧٧٧.

(٢) في المصدر : أيبيع العنب والتمر ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً أو سكراً.

(٣) الوسائل ١٢ : ١٦٩ ، الباب ٥٩ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٥.

١٢٩

ورواية أبي كَهْمَس ، قال (١) : «سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام إلى أن قال ـ : هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً» (٢).

إلى غير ذلك ممّا هو دونهما في الظهور.

الأخبار المانعة

وقد يعارض ذلك (٣) بمكاتبة ابن أُذينة : «عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صُلباناً ، قال : لا» (٤).

ورواية عمرو بن حريث : «عن التوت (٥) أبيعه ممّن يصنع الصليب أو الصنم؟ قال : لا» (٦).

الجمع بين الأخبار

وقد يجمع بينهما وبين الأخبار المجوّزة ، بحمل المانعة على صورة اشتراط جعل الخشب صليباً أو صنماً ، أو تواطؤهما عليه.

__________________

(١) من «ش» والمصدر.

(٢) الوسائل ١٢ : ١٧٠ ، الباب ٥٩ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٦.

(٣) في «ش» : تلك.

(٤) الوسائل ١٢ : ١٢٧ ، الباب ٤١ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٥) كذا في «ف» و «ع» ومصححة «خ» ونسخة بدل «م» و «ش» ، وفي «ن» و «ص» : التوز ، وأمّا في المصادر الحديثيّة ، ففي الكافي والتهذيب والوسائل : التوت ، وفي الوافي : التوز ؛ وقال المحدث الكاشاني في بيانه : «التوز بضمّ المثنّاة الفوقانيّة والزاي ـ : شجر يصنع به القوس» انظر الوافي ١٧ : ٢٧٦. وأمّا التوت فهو شجر يأكل ورقه دود القزّ ، وله ثمرٌ أبيض حلوٌ ، ومنه ما يثمر ثمراً حامضاً ثم يسْوَدّ فيحلو ، ويقال له : التوت الشامي ، ويقال لثمره : الفرصاد. محيط المحيط : ٧٥ ، مادة : «توت».

(٦) الوسائل ١٢ : ١٢٧ ، الباب ٤١ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢ ، ولفظه هكذا : «عن التوت أبيعه يصنع للصليب والصنم ..».

١٣٠

وفيه : أنّ هذا في غاية البعد ؛ إذ لا داعي للمسلم على اشتراط صناعة الخشب صنماً في متن بيعه أو في خارجه ، ثمّ يجي‌ء ويسأل الإمام عليه‌السلام عن جواز فعل هذا في المستقبل وحرمته! وهل يحتمل أن يريد الراوي بقوله : «أبيع التوت (١) ممّن يصنع الصنم والصليب» أبيعه مشترطاً عليه وملزماً في متن العقد أو قبله أن لا يتصرّف فيه إلاّ بجعله صنماً؟!

الأولى حمل الأخبار المانعة على الكراهة

فالأولى : حمل الأخبار المانعة على الكراهة ؛ لشهادة غير واحد من الأخبار على الكراهة (٢) كما أفتى به (٣) جماعة (٤) ويشهد له رواية الحلبي (٥) : «عن بيع العصير ممّن يصنعه خمراً ، قال : بَيْعه (٦) ممّن يطبخه أو يصنعه خلاّ أحبّ إليَّ ، ولا أرى به بأساً» (٧). وغيرها.

أو التزام الحرمة في بيع الخشب ممّن يعمله صليباً أو صنماً لظاهر تلك الأخبار ، والعمل في مسألة بيع العنب وشبهها على الأخبار المجوّزة.

__________________

(١) أشرنا إلى اختلاف النسخ فيه ، في الصفحة السابقة.

(٢) وردت هذه الفقرة في «ف» هكذا : «بشهادة غير واحد من الأخبار» ثمّ شطب عليها.

(٣) كذا ، والمناسب : بها.

(٤) منهم المحقّق في الشرائع ٢ : ١٠ ، والعلاّمة في الإرشاد ١ : ٣٥٧ وغيره ، والشهيد في اللمعة : ١٠٨ ، ونسبه في الجواهر ٢٢ : ٣١ إلى المشهور.

(٥) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : رفاعة ، والصواب ما أثبتناه.

(٦) في «ف» والتهذيب والوسائل : بعه.

(٧) الوسائل ١٢ : ١٧٠ ، الباب ٥٩ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٩ ، وفيه : ولا أرى بالأوّل بأساً.

١٣١

وهذا الجمع قول فصل لو لم يكن قولاً بالفصل.

وكيف كان ، فقد يستدلّ على حرمة البيع ممّن يعلم أنّه يصرف المبيع في الحرام بعموم النهي عن التعاون على الإثم والعدوان.

وقد يستشكل في صدق «الإعانة» ، بل يمنع ؛ حيث لم يقع القصد إلى وقوع الفعل من المُعان ؛ بناءً على أنّ الإعانة هي فعل بعض مقدّمات فعل الغير بقصد حصوله منه لا مطلقاً.

وأوّل من أشار إلى هذا ، المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد في هذه المسألة ؛ حيث إنّه بعد حكاية القول بالمنع مستنداً إلى الأخبار المانعة قال : «ويؤيّده قوله تعالى (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ) (١) ويشكل بلزوم عدم جواز بيع شي‌ء ممّا يعلم عادة التوصّل به إلى محرّم ، لو تمّ هذا الاستدلال ، فيمنع معاملة أكثر الناس. والجواب عن الآية : المنع من كون محلّ النزاع معاونة ، مع أنّ الأصل الإباحة ، وإنّما يظهر المعاونة مع بيعه لذلك» (٢) ، انتهى.

ووافقه في اعتبار القصد في مفهوم الإعانة جماعة من متأخّري المتأخّرين ، كصاحب الكفاية (٣) وغيره (٤).

__________________

(١) المائدة : ٢.

(٢) حاشية الإرشاد (مخطوط) : ٢٠٥.

(٣) كفاية الأحكام : ٨٥.

(٤) لم نقف عليه ، وإن نسبه في المستند (٢ : ٣٣٦) إلى صريح الفاضلين : الأردبيلي والسبزواري ، لكنّا لم نجد التصريح بذلك في كلام الأردبيلي ، وسيأتي من المؤلّف قدس‌سره بعد نقل كلامه عن آيات أحكامه التصريح بأنّه لم يعلّق صدق الإعانة على القصد فقط ، انظر الصفحة : ١٣٦ ١٣٧.

١٣٢

زيادة بعض المعاصرين اعتبار وقوع المعان عليه في الخارج

هذا ، وربّما زاد بعض المعاصرين (١) على اعتبار القصد اعتبار وقوع المعان عليه في تحقّق مفهوم الإعانة في الخارج ، وتخيّل أنّه لو فعل فعلاً بقصد تحقّق الإثم الفلاني من الغير فلم يتحقّق منه ، لم يحرم من جهة صدق الإعانة ، بل من جهة قصدها ؛ بناءً على ما حرّره من حرمة الاشتغال بمقدّمات الحرام بقصد تحقّقه ، وأنّه لو تحقّق الفعل كان حراماً من جهة القصد إلى المحرّم ومن جهة الإعانة.

وفيه تأمّل ، فإنّ حقيقة الإعانة على الشي‌ء هو الفعل بقصد حصول الشي‌ء ، سواء حصل أم لا ، ومن اشتغل ببعض مقدّمات الحرام الصادر عن الغير بقصد التوصّل إليه ، فهو داخل في الإعانة على الإثم ، ولو تحقّق الحرام لم يتعدّد العقاب.

ظهور كلام الأكثر في عدم اعتبار القصد

وما أبعد ما بين ما ذكره المعاصر وبين ما يظهر من الأكثر من عدم اعتبار القصد!

فعن المبسوط : الاستدلال على وجوب بذل الطعام لمن يخاف تلفه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : آيسٌ من رحمة الله» (٢).

__________________

(١) هو المحقق النراقي ، انظر عوائد الأيّام : ٢٦.

(٢) المبسوط ٦ : ٢٨٥ ، وفيه : «لقوله عليه‌السلام : من أعان .. إلخ» ولا ظهور لكلامه في أنّ الحديث من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. نعم ، رواه ابن ماجة في سننه (٢ : ٨٧٤ ، كتاب الدّيات ، الحديث ٢٦٢٠) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورواه ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللآلي (٢ : ٣٣٣) في سياق ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٣٣

وقد استدلّ في التذكرة على حرمة بيع السلاح من أعداء الدين بأنّ فيه إعانة على الظلم (١).

واستدلّ المحقّق الثاني على حرمة بيع العصير المتنجّس ممّن يستحلّه بأنّ فيه إعانة على الإثم (٢).

وقد استدلّ المحقّق الأردبيلي على ما حكي عنه من القول بالحرمة في مسألتنا ـ : بأنّ فيه إعانة على الإثم (٣).

وقد قرّره على ذلك في الحدائق ، فقال : إنّه جيّد في حدّ ذاته لو سلم من المعارضة بأخبار الجواز (٤).

وفي الرياض بعد ذكر الأخبار السابقة الدالّة على الجواز قال : وهذه النصوص وإن كثرت واشتهرت وظهرت دلالتها بل ربّما كان بعضها صريحاً ، لكن في مقابلتها للأُصول والنصوص المعتضدة بالعقول إشكال (٥) ، انتهى.

والظاهر ، أنّ مراده ب «الأُصول» : قاعدة «حرمة الإعانة على الإثم» ، ومن «العقول» : حكم العقل بوجوب التوصّل إلى دفع المنكر مهما أمكن.

ويؤيّد ما ذكروه من صدق الإعانة بدون القصد إطلاقها في غير واحد‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ٥٨٢.

(٢) حاشية الإرشاد (مخطوط) : ٢٠٤.

(٣) مجمع الفائدة ٨ : ٥١.

(٤) الحدائق ١٨ : ٢٠٥.

(٥) الرياض ١ : ٥٠٠.

١٣٤

من الأخبار :

إطلاق «الإعانة» في غير واحد من الأخبارعلى المجرّد عن القصد

ففي النبويّ المرويّ في الكافي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه» (١).

وفي العلويّ الوارد في الطين المرويّ أيضاً في الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «فإنْ أكلته ومُتّ فقد أعنت على نفسك» (٢).

ويدلّ عليه غير واحد ممّا ورد في أعوان الظلمة ، وسيأتي.

وحُكِي أنّه سئل بعض الأكابر (٣) ، وقيل له : «إنّي رجلٌ خيّاط أخيط للسلطان ثيابه فهل تراني داخلاً بذلك في أعوان الظلمة؟ فقال له : المُعين لهم من يبيعك الإبر والخيوط ، وأمّا أنت فمن الظلمة أنفسهم».

ما أفاده المحقق الأردبيلي حول مفهوم الإعانة

وقال المحقّق الأردبيلي في آيات أحكامه في الكلام على الآية : «الظاهر أنّ المراد الإعانة (٤) على المعاصي مع القصد ، أو على الوجه الذي يصدق أنّها إعانة مثل أن يطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم فيعطيه إيّاها ، أو يطلب القلم لكتابة ظلم فيعطيه إيّاه ،

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦٦ ، الحديث ٨ ، والوسائل ١٦ : ٣٩٣ ، الباب ٥٨ من أبواب الأطعمة والأشربة ، الحديث ٧.

(٢) الكافي ٦ : ٢٦٦ ، الحديث ٥ ، والوسائل ١٦ : ٣٩٣ ، الباب ٥٨ من أبواب الأطعمة والأشربة ، الحديث ٦ ، وفيهما : كنت قد أعنت على نفسك.

(٣) في شرح الشهيدي (٣٣) ما يلي : «أقول : في شرح النخبة لسبط الجزائري قدس‌سره عن البهائي قدس‌سره : أنّه عبد الله بن المبارك ، على ما نقله أبو حامد .. ، ثمّ نقل عبارته كما في المتن».

(٤) كذا في «ش» والمصدر : وفي سائر النسخ : بالإعانة.

١٣٥

ونحو ذلك ممّا يعدّ معونة عرفاً فلا يصدق على التاجر الذي يتّجر لتحصيل غرضه أنّه معاون للظالم العاشر في أخذ العشور ، ولا على الحاجّ الذي يؤخذ منه المال ظلماً ، وغير ذلك ممّا لا يحصى ، فلا يعلم صدقها على بيع العنب ممّن يعمله خمراً ، أو الخشب ممّن يعمله صنماً ؛ ولذا ورد في الروايات الصحيحة جوازه ، وعليه الأكثر ونحو ذلك ممّا لا يخفى (١)» ، انتهى كلامه رفع مقامه.

ولقد دقّق النظر حيث لم يعلّق صدق الإعانة على القصد ، ولا أطلق القول بصدقه (٢) بدونه ، بل علّقه بالقصد ، أو (٣) بالصدق العرفي وإن لم يكن قصد.

تفصيل الكلام في تحقيق المرام

لكن أقول : لا شكّ في أنّه إذا لم يكن مقصود الفاعل من الفعل وصول الغير إلى مقصده ولا إلى مقدّمة من مقدّماته بل يترتّب عليه الوصول من دون قصد الفاعل فلا يسمّى إعانة ، كما في تجارة التاجر بالنسبة إلى أخذ العشور ، ومسير الحاجّ بالنسبة إلى أخذ المال ظلماً.

وكذلك لا إشكال فيما إذا قصد الفاعل بفعله ودعاه إليه وصول (٤) الغير إلى مطلبه الخاصّ ، فإنّه يقال : إنّه أعانه على ذلك المطلب ، فإن كان عدواناً مع علم المُعين به ، صَدَق الإعانة على العدوان.

وإنّما الإشكال فيما إذا قصد الفاعل بفعله وصول الغير إلى مقدّمة‌

__________________

(١) زبدة البيان في أحكام القرآن : ٢٩٧.

(٢) كذا في «ن» و «ش» ، وفي غيرهما : لصدقه.

(٣) كذا في «ف» و «ش» ، وفي سائر النسخ : وبالصدق.

(٤) مفعول ل «قصد» وفاعل ل «دعا».

١٣٦

مشتركة بين المعصية وغيرها مع العلم بصرف الغير إيّاها إلى المعصية ، كما إذا باعه العنب ، فإنّ مقصود البائع تملّك المشتري له وانتفاعه به ، فهي (١) إعانة له بالنسبة إلى أصل تملّك العنب.

ولذا لو فرض ورود النهي عن معاونة هذا المشتري الخاصّ في جميع أُموره ، أو في خصوص تملّك العنب حرم بيع العنب عليه مطلقاً (٢).

فمسألة بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً نظير إعطاء السيف أو العصا لمن يريد قتلاً أو ضرباً ، حيث إنّ الغرض من الإعطاء هو ثبوته بيده والتمكّن منه ، كما أنّ الغرض من بيع العنب تملّكه له.

فكلّ من البيع والإعطاء بالنسبة إلى أصل تملّك الشخص واستقراره في يده إعانة.

إلاّ أنّ الإشكال في أنّ العلم بصرف ما حصل بإعانة البائع والمعطي في الحرام هل يوجب صدق الإعانة على الحرام أم لا؟

هل الإعانة على شرط الحرام إعانة على الحرام؟

فحاصل محلّ الكلام : هو أنّ الإعانة على شرط الحرام مع العلم بصرفه في الحرام هل هي إعانة على الحرام أم لا؟

فظهر الفرق بين بيع العنب وبين تجارة التاجر ومسير الحاجّ ، وأنّ الفرق بين إعطاء السوط للظالم وبين بيع العنب لا وجه له ، وأنّ إعطاء السوط إذا كان إعانة كما اعترف به فيما تقدّم من آيات الأحكام ـ

__________________

(١) تأنيث الضمير باعتبار الخبر.

(٢) في «ف» وهامش «خ» زيادة ما يلي : «لكن نعلم بصرف ما قصد بالبيع إلى الحرام وتخصيصه به».

١٣٧

كان بيع العنب كذلك ، كما اعترف به (١) في شرح الإرشاد (٢).

فإذا بنينا على أنّ شرط الحرام حرام مع فعله توصّلاً إلى الحرام كما جزم به بعض (٣) دخل ما نحن فيه في الإعانة على المحرّم ، فيكون بيع العنب إعانة على تملّك العنب المحرّم مع قصد التوصّل به إلى التخمير ، وإن لم يكن إعانة على نفس التخمير أو على شرب الخمر.

وإن شئت قلت : إنّ شراء العنب للتخمير حرام ، كغرس العنب لأجل ذلك ، فالبائع إنّما يعين على الشراء المحرّم.

بيع الطعام على من يرتكب المعاصي

نعم ، لو لم يعلم أنّ الشراء لأجل التخمير لم يحرم وإن علم أنّه سيخمّر العنب بإرادة جديدة منه. وكذا الكلام في بائع الطعام على من يرتكب المعاصي ، فإنّه لو علم إرادته من الطعام المبيع التقوّي به عند التملّك على المعصية ، حرم البيع منه. وأمّا العلم بأنّه يحصل من هذا الطعام قوّة على المعصية يتوصّل بها إليها فلا يوجب التحريم.

هذا ، ولكنّ الحكم بحرمة الإتيان بشرط الحرام توصّلاً إليه قد يمنع ، إلاّ من حيث صدق التجرّي ، والبيع ليس إعانة عليه ، وإن كان إعانة على الشراء ، إلاّ أنّه في نفسه ليس تجرّياً ، فإنّ التجرّي يحصل بالفعل المتلبّس بالقصد.

وتوهّم أنّ الفعل مقدّمة له فيحرم الإعانة ، مدفوع بأنّه لم يوجد قصد إلى التجرّي حتّى يحرم وإلاّ لزم التسلسل ، فافهم.

__________________

(١) شطب في «ف» على عبارة : «كما اعترف به» ، وكتب بدله : «بعد اختياره».

(٢) مجمع الفائدة ٨ : ٥٠.

(٣) مثل المولى النراقي في عوائد الأيّام : ٢٥.

١٣٨

نعم ، لو ورد النهي بالخصوص عن بعض شروط الحرام كالغرس للخمر دخل الإعانة عليه في الإعانة على الإثم ، كما أنّه لو استدللنا بفحوى ما دلّ على لعن الغارس (١) على حرمة التملّك للتخمير ، حرم الإعانة عليه أيضاً بالبيع.

بيان المتحصّل ممّا ذكر

فتحصّل ممّا ذكرناه أنّ قصد الغير لفعل الحرام معتبر قطعاً في حرمة فعل المُعين ، وأنّ محلّ الكلام هي الإعانة على شرط الحرام بقصد تحقّق الشرط دون المشروط ـ ، وأنّها هل تعدّ إعانة على المشروط ، فتحرم ، أم لا؟ فلا تحرم ما لم تثبت حرمة الشرط من غير جهة التجرّي ، وأنّ مجرّد بيع العنب ممّن يعلم أنّه سيجعله خمراً من دون العلم بقصده ذلك من الشراء ليس محرّماً أصلاً ، لا من جهة الشرط ولا من جهة المشروط.

ومن ذلك يعلم ما فيما تقدّم عن حاشية الإرشاد من أنّه لو كان بيع العنب ممّن يعمله خمراً إعانة ، لزم المنع عن معاملة أكثر الناس (٢).

محلّ الكلام فيما يعدّ شرطاً للمعصية الصادرة عن الغير

ثمّ إنّ محلّ الكلام في ما يعدّ شرطاً للمعصية الصادرة عن الغير ، فما تقدّم من المبسوط : من حرمة ترك بذل الطعام لخائف التلف مستنداً إلى قوله عليه‌السلام : «مَن أعان على قتل مسلم .. إلخ» (٣) محلّ تأمّل ، إلاّ أن يريد الفحوى.

ولذا استدلّ في المختلف بعد حكاية ذلك عن الشيخ بوجوب‌

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ١٦٥ ، الباب ٥٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ و ٥.

(٢) تقدّم في الصفحة : ١٣٢.

(٣) تقدّم في الصفحة : ١٣٣.

١٣٩

حفظ النفس مع القدرة وعدم الضرر (١).

ثمّ إنّه يمكن التفصيل في شروط الحرام المعان عليها (٢) :

التفصيل في شروط الحرام المعان عليها

بين ما ينحصر فائدته ومنفعته عرفاً في المشروط المحرّم ، كحصول العصا في يد الظالم المستعير لها (٣) من غيره لضرب أحد ، فإنّ ملكه للانتفاع بها (٤) في هذا الزمان ينحصر فائدته عرفاً في الضرب ، وكذا من استعار كأساً ليشرب الخمر فيه.

وبين ما لم يكن كذلك ، كتمليك (٥) الخمّار للعنب ، فإنّ منفعة التمليك (٦) وفائدته غير منحصرة عرفاً في الخمر حتّى عند الخمّار.

فيعدّ الأوّل عرفاً إعانة على المشروط المحرّم ، بخلاف الثاني.

ولعلّ من جعل بيع السلاح من أعداء الدين حال قيام الحرب من المساعدة على المحرّم ، وجوّز بيع العنب ممّن يعمله خمراً كالفاضلين في الشرائع والتذكرة (٧) وغيرهما (٨) نظر إلى ذلك.

وكذلك المحقّق الثاني ، حيث منع من بيع العصير المتنجّس على‌

__________________

(١) المختلف : ٦٨٦.

(٢) في «ش» : عليه.

(٣) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : له.

(٤) في جميع النسخ : به ، والصواب ما أثبتناه.

(٥) في مصحّحة «ن» : كتملّك.

(٦) في مصحّحة «ن» : التملّك.

(٧) الشرائع ٢ : ٩ ، ١٠ ، التذكرة ١ : ٥٨٢ ، لكنّهما لم يقيّدا بيع السلاح من أعداء الدين بحال قيام الحرب.

(٨) مثل السبزواري في كفاية الأحكام : ٨٥.

١٤٠