كتاب المكاسب - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

كتاب المكاسب - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٧
ISBN: 964-5662-11-7
ISBN الدورة:
964-5662-17-6

الصفحات: ٤٠٩

مستحلّه ؛ مستنداً إلى كونه من الإعانة على الإثم ، ومنع من كون بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً من الإعانة (١) فإنّ تملّك المستحلّ للعصير منحصر فائدته عرفاً عنده في الانتفاع به حال النجاسة ، بخلاف تملّك العنب.

وكيف كان ، فلو ثبت تميّز موارد الإعانة من العرف فهو ، وإلاّ فالظاهر مدخليّة قصد المُعين.

الاستدلال على الحرمة في المسألة بوجوب دفع المنكر

نعم ، يمكن الاستدلال على حرمة بيع الشي‌ء ممّن يعلم أنّه يصرف المبيع في الحرام ، بأنّ دفع المنكر كرفعه واجب ، ولا يتمّ إلاّ بترك البيع ، فيجب. وإليه أشار المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله حيث استدلّ على حرمة بيع العنب في المسألة بعد عموم النهي عن الإعانة بأدلّة النهي عن المنكر (٢).

ما يشهد لهذا الاستدلال

ويشهد لهذا (٣) ما ورد من أنّه «لولا أنّ بني أُميّة وجدوا من يجبي لهم الصدقات ويشهد جماعتهم ما سلبونا (٤) حقّنا» (٥).

دلّ على مذمّة الناس في فعل ما لو تركوه ، لم يتحقّق المعصية من‌

__________________

(١) حاشية الإرشاد (مخطوط) : ٢٠٤.

(٢) مجمع الفائدة ٨ : ٤٩ ٥١.

(٣) كذا في «ف» ومصححة «م» ، وفي غيرهما : بهذا.

(٤) كذا في «ف» ، وفي سائر النسخ : ما سلبوا.

(٥) الوسائل ١٢ : ١٤٤ ، الباب ٤٧ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل ، وفيه : «لولا أنّ بني أُميّة وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفي‌ء ، ويقاتل عنهم ، ويشهد جماعتهم ، لما سلبونا حقّنا .. الحديث».

١٤١

بني أُميّة ، فدلّ على ثبوت الذمّ لكلّ ما لو ترك ، لم يتحقّق المعصية من الغير.

وهذا وإن دلّ بظاهره على حرمة بيع العنب ولو ممّن يعلم أنّه سيجعله خمراً مع عدم قصد ذلك حين الشراء إلاّ أنّه لم يقم دليل على وجوب تعجيز من يعلم أنّه سيهمّ بالمعصية ، وإنّما الثابت من النقل والعقل القاضي بوجوب اللطف وجوب ردع من همّ بها وأشرف عليها بحيث لولا الردع لفعلها أو استمرّ عليها.

توقّف هذا الاستدلال على علم البائع بعدم حصول المعصية لو لم يبعه

ثمّ إنّ الاستدلال المذكور إنّما يحسن مع علم البائع بأنّه لو لم يبعه لم يحصل المعصية ؛ لأنّه حينئذٍ قادر على الردع ، أمّا لو لم يعلم ذلك ، أو علم بأنّه يحصل منه المعصية بفعل الغير ، فلا يتحقّق الارتداع بترك البيع ، كمن يعلم عدم الانتهاء بنهيه عن المنكر.

وتوهّم أنّ البيع حرام على كلّ أحد فلا يسوغ لهذا الشخص فعله معتذراً بأنّه لو تركه لفعله غيره مدفوع بأنّ ذلك في ما كان محرّماً على كلّ واحد على سبيل الاستقلال ، فلا يجوز لواحد منهم الاعتذار بأنّ هذا الفعل واقع لا محالة ولو من غيري ، فلا ينفع تركي له.

أمّا إذا وجب على جماعة شي‌ء واحد كحمل ثقيل مثلاً بحيث يراد منهم الاجتماع عليه (١) ، فإذا علم واحد من حال الباقي عدم القيام به والاتّفاق معه في إيجاد الفعل كان قيامه بنفسه بذلك الفعل لغواً ، فلا يجب ، وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ فإنّ عدم تحقّق المعصية من مشتري العنب موقوف على تحقّق ترك البيع من كلّ بائع ، فترك‌

__________________

(١) في «ف» زيادة : لعدم حصوله إلاّ باجتماعهم.

١٤٢

المجموع للبيع سبب واحد لترك المعصية ، كما أنّ بيع واحد منهم على البدل شرط لتحقّقها ، فإذا علم واحد منهم عدم اجتماع الباقي معه في تحصيل السبب والمفروض أنّ قيامه منفرداً لغو سقط وجوبه.

توجيه الخبر الدالّ على ذمّ أتباع بني اُميّة

وأمّا ما تقدّم من الخبر في أتباع بني أُميّة ، فالذمّ فيه إنّما هو على إعانتهم بالأُمور المذكورة في الرواية ، وسيأتي تحريم كون الرجل من أعوان الظلمة ، حتّى في المباحات التي لا دخل لها برئاستهم ، فضلاً عن مثل جباية الصدقات وحضور الجماعات وشبههما ممّا هو من أعظم المحرّمات.

المتلخّص ممّا ذكر

وقد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ فعل ما هو من قبيل الشرط لتحقّق المعصية من الغير من دون قصد توصّل الغير به إلى المعصية غير محرّم ؛ لعدم كونها (١) في العرف إعانة مطلقاً ، أو على التفصيل الذي احتملناه أخيراً (٢).

وأمّا ترك هذا الفعل ، فإن كان سبباً يعني علّة تامّة لعدم المعصية من الغير كما إذا انحصر العنب عنده وجب ؛ لوجوب الردع عن المعصية عقلاً ونقلاً ، وأمّا لو لم يكن سبباً ، بل كان السبب تركه منضمّاً إلى ترك غيره ، فإن علم أو ظنّ أو احتمل قيام الغير بالترك وجب قيامه به أيضاً ، وإن علم أو ظنّ عدم قيام الغير سقط عنه وجوب الترك ؛ لأنّ تركه بنفسه ليس برادع حتّى يجب.

__________________

(١) كذا في جميع النسخ ، ولعلّ تأنيث الضمير باعتبار الخبر.

(٢) وهو الذي أفاده بقوله : ثم إنّه يمكن التفصيل في شروط الحرام المعان عليها بين ما ينحصر فائدته عرفاً .. إلخ.

١٤٣

نعم ، هو جزء للرادع المركّب من مجموع تروك أرباب العنب (١) ، لكن يسقط وجوب الجزء إذا علم بعدم تحقّق الكلّ في الخارج.

الوجوه المتصوّرة في فعل ما هو شرط للحرام الصادر من الغير

فعلم ممّا ذكرناه في هذا المقام أنّ فعل ما هو شرط للحرام الصادر من الغير يقع على وجوه :

أحدها ـ أن يقع من الفاعل قصداً منه لتوصّل الغير به إلى الحرام ، وهذا لا إشكال في حرمته ؛ لكونه إعانة.

الثاني ـ أن يقع منه من دون قصد لحصول الحرام ، ولا لحصول ما هو مقدّمة له مثل تجارة التاجر بالنسبة إلى معصية العاشر ؛ فإنّه لم يقصد بها تسلّط العاشر عليه الذي هو شرط لأخذ العشر ـ ، وهذا لا إشكال في عدم حرمته.

الثالث ـ أن يقع منه بقصد حصول ما هو من مقدّمات حصول الحرام من (٢) الغير ، لا لحصول نفس الحرام منه.

وهذا قد يكون من دون قصد الغير التوصّل (٣) بذلك الشرط إلى الحرام ، كبيع العنب من الخمّار المقصود منه تملّكه للعنب الذي هو شرط لتخميره لا نفس التخمير مع عدم قصد الغير أيضاً التخمير حال الشراء ، وهذا أيضاً لا إشكال في عدم حرمته.

وقد يكون مع قصد الغير التوصّل به إلى الحرام أعني التخمير حال شراء العنب ، وهذا أيضاً على وجهين :

__________________

(١) في «ف» زيادة : نعم هو جزء للتسبيب.

(٢) كذا في «ف» ، وفي سائر النسخ : عن.

(٣) في بعض النسخ : المتوصّل.

١٤٤

أحدهما أن يكون ترك هذا الفعل من الفاعل علّة تامّة لعدم تحقّق الحرام من الغير ، والأقوى هنا وجوب الترك وحرمة الفعل.

والثاني أن لا يكون كذلك ، بل يعلم عادة أو يظنّ بحصول الحرام من الغير من غير تأثير لترك ذلك الفعل ، والظاهر عدم وجوب الترك حينئذٍ ؛ بناءً على ما ذكرنا من اعتبار قصد الحرام في صدق الإعانة عليه مطلقاً ، أو على ما احتملناه من التفصيل (١).

الظاهر عدم فساد البيع في كلّ مورد حكم فيه بالحرمة لأجل الإعانة على الإثم

ثم كلّ مورد حكم فيه بحرمة البيع من هذه الموارد الخمسة ، فالظاهر عدم فساد البيع ؛ لتعلّق النهي بما هو خارج عن المعاملة ، أعني الإعانة على الإثم ، أو المسامحة في الردع عنه.

ويحتمل الفساد ؛ لإشعار قوله عليه‌السلام في رواية التحف المتقدّمة بعد قوله : «وكلّ بيع (٢) ملهوّ به ، وكلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير الله أو يقوى به الكفر والشرك في جميع وجوه المعاصي ، أو باب يوهن به الحقّ» : «فهو حرام محرّم بيعه وشراؤه وإمساكه .. إلخ» بناءً على أنّ التحريم مسوق لبيان الفساد في تلك الرواية ، كما لا يخفى.

لكن في الدلالة تأمّل ، ولو تمّت لثبت الفساد مع قصد المشتري خاصّة للحرام ؛ لأنّ الفساد لا يتبعّض.

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ١٤٠.

(٢) كذا في النسخ والمصدر ، إلاّ أنّه صُحّح في «ن» و «ش» ب «مبيع».

١٤٥
١٤٦

القسم الثالث

ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأناً‌

بمعنى أنّ من شأنه أن يقصد منه الحرام

حرمة بيع السلاح من أعداء الدين

وتحريم هذا مقصور على النصّ ، إذ لا يدخل ذلك تحت «الإعانة» ، خصوصاً مع عدم العلم بصرف الغير له في الحرام ، كبيع السلاح من أعداء الدين مع عدم قصد تقوّيهم ، بل وعدم العلم باستعمالهم لهذا المبيع (١) الخاصّ في حرب المسلمين ، إلاّ أنّ المعروف بين الأصحاب حرمته ، بل لا خلاف فيها (٢) ‌و الأخبار بها مستفيضة :

الأخبار الدّالة على الحرمة

منها : رواية الحضرمي ، قال : «دخلنا على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له حكم السرّاج : ما ترى في من يحمل إلى الشام من السروج وأداتها؟ قال : لا بأس ، أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنتم في هدنة ، فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السلاح‌

__________________

(١) في «ف» ، «م» ، «ش» : البيع.

(٢) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : فيه.

١٤٧

والسروج» (١).

ومنها : رواية هند السرّاج ،

قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أصلحك الله! إنّي كنت أحمل السلاح إلى أهل الشام فأبيعه منهم ، فلمّا عرّفني الله هذا الأمر ضقت بذلك وقلت : لا أحمل إلى أعداء الله ، فقال : احمل إليهم وبعهم ، فإنّ الله يدفع بهم عدوّنا وعدوّكم يعني الروم فإذا كان الحرب بيننا (٢) فمن حمل إلى عدوّنا سلاحاً يستعينون به علينا فهو مشرك» (٣).

اختصاص الحرمة في الاخبار بصورة قيام الحرب

وصريح الروايتين اختصاص الحكم بصورة قيام الحرب بينهم وبين المسلمين بمعنى وجود المباينة في مقابل الهدنة ، وبهما يقيّد المطلقات جوازاً و (٤) منعاً ، مع إمكان دعوى ظهور بعضها في ذلك ، مثل مكاتبة الصيقل (٥) : «أشتري السيوف وأبيعها من السلطان أجائز لي بيعها؟ فكتب : لا بأس به» (٦).

[منها رواية عليّ بن جعفر]

ورواية عليّ بن جعفر ، عن أخيه عليه‌السلام قال : «سألته عن حمل‌

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٦٩ ، الباب ٨ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل ، مع تفاوتٍ يسير.

(٢) في الكافي والوسائل زيادة : «فلا تحملوا» ، لكنّها لم ترد في التهذيب. انظر الكافي ٥ : ١١٢ ، الحديث ٢ ، والتهذيب ٦ : ٣٥٤ ، الحديث ١٠٠٥.

(٣) الوسائل ١٢ : ٦٩ ، الباب ٨ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢.

(٤) كذا في «ف» ، وفي سائر النسخ : أو منعاً.

(٥) هذه الرواية مثالٌ لإطلاق الجواز ، ورواية علي بن جعفر ووصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثالان لإطلاق المنع.

(٦) الوسائل ١٢ : ٧٠ ، الباب ٨ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٥.

١٤٨

المسلمين إلى المشركين التجارة ، قال : إذا لم يحملوا سلاحاً فلا بأس» (١).

ومثله ما في وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : «يا عليّ ، كفر بالله العظيم من هذه الأُمّة عشرة (٢) أصناف وعدّ منها بائع السلاح من أهل الحرب» (٣).

نقد ما عن حواشي الشهيد

فما عن حواشي الشهيد من أنّ المنقول (٤) : «أنّ بيع السلاح حرام مطلقاً في حال الحرب والصلح والهدنة ، لأنّ فيه تقوية الكافر على المسلم ، فلا يجوز على كلّ حال» (٥) شبه الاجتهاد في مقابل النصّ ، مع ضعف دليله ، كما لا يخفى.

شمول الحكم لما إذا لم يقصد البائع المعونة

ثمّ إنّ ظاهر الروايات شمول الحكم لما إذا لم يقصد البائع المعونة والمساعدة أصلاً ، بل صريح مورد السؤال في روايتي الحكم وهند (٦) هو صورة عدم قصد ذلك ، فالقول باختصاص حرمة البيع (٧) بصورة قصد المساعدة كما يظهر من بعض العبائر (٨) ضعيف جدّاً.

وكذلك ظاهرها الشمول لما إذا لم يعلم باستعمال أهل الحرب‌

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٧٠ ، الباب ٨ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٦.

(٢) كذا في «ص» والمصدر ، وفي سائر النسخ : عشر.

(٣) الوسائل ١٢ : ٧١ ، الباب ٨ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٧.

(٤) عبارة «أنّ المنقول» لم ترد في «ش» ، ومشطوب عليها في «ن».

(٥) حكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٣٥ عن حواشي الشهيد على القواعد.

(٦) في النسخ : الهند. هذا وقد تقدّمتا في أوّل المسألة.

(٧) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : باختصاص البيع.

(٨) مثل عبارة المحقّق في المختصر النافع : ١١٦ ، والشهيد في الدروس ٣ : ١٦٦.

١٤٩

للمبيع في الحرب ، بل يكفي مظنّة ذلك بحسب غلبة ذلك مع قيام الحرب ، بحيث يصدق حصول التقوّي لهم بالبيع.

جواز بيع ما يكنّ

وحينئذٍ فالحكم مخالف للأُصول ، صِيرَ إليه للأخبار المذكورة ، وعموم رواية تحف العقول المتقدّمة فيقتصر فيه على مورد الدليل ، وهو السلاح ، دون ما لا يصدق عليه ذلك كالمِجَنّ والدِّرْع والمِغْفَر وسائر ما يَكِنّ وفاقاً للنهاية (١) وظاهر السرائر (٢) وأكثر كتب العلاّمة (٣) والشهيدين (٤) والمحقّق الثاني (٥) ؛ للأصل ، وما استدلّ به في التذكرة (٦) من رواية محمد بن قيس ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفئتين من أهل الباطل تلتقيان ، أبيعهما السلاح؟ قال : بعهما ما يَكِنّهما : الدِّرْع والخُفَّيْن ونحوهما» (٧).

المناقشة في الجواز

ولكن يمكن أن يقال : إنّ ظاهر رواية تحف العقول إناطة الحكم على تقوّي الكفر ووهن الحقّ ، وظاهر قوله عليه‌السلام في رواية هند : «مَن‌

__________________

(١) النهاية : ٣٦٦.

(٢) السرائر ٢ : ٢١٦ ٢١٧.

(٣) التحرير ١ : ١٦٠ والقواعد ١ : ١٢٠ ونهاية الإحكام ٢ : ٤٦٧ وظاهر المنتهي ٢ : ١٠١١.

(٤) الدروس ٣ : ١٦٦ ، المسالك ٣ : ١٢٣ والروضة البهيّة ٣ : ٢١١.

(٥) جامع المقاصد ٤ : ١٧.

(٦) التذكرة ١ : ٥٨٧.

(٧) الوسائل ١٢ : ٧٠ ، الباب ٨ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٣ ، وفيه : الدرع والخفّين ونحو هذا.

١٥٠

حمل إلى عدوّنا سلاحاً يستعينون به علينا» (١) أنّ الحكم منوط بالاستعانة ، والكلّ موجود فيما يَكِنّ أيضاً ، كما لا يخفى.

مضافاً إلى فحوى رواية الحَكَم المانعة عن بيع السروج (٢) ، وحملها على السيوف السريجيّة لا يناسبه صدر الرواية ، مع كون الراوي سرّاجاً.

ردّ دلالة رواية محمّد بن قيس على الجواز

وأمّا رواية محمد بن قيس ، فلا دلالة لها على المطلوب ؛ لأنّ مدلولها بمقتضى أنّ التفصيل قاطع للشركة ـ : الجواز في ما يَكِنّ ، والتحريم في غيره ، مع كون الفئتين من أهل الباطل ، فلا بدّ من حملها على فريقين محقوني الدماء ، إذ لو كان كلاهما أو أحدهما مهدور الدم لم يكن وجه للمنع من بيع السلاح على صاحبه.

فالمقصود من بيع «ما يَكِنّ» منهما : تحفّظ كلٍّ منهما عن صاحبه وتترّسه بما يَكِنّ ، وهذا غير مقصود في ما نحن فيه ، بل تحفّظ أعداء الدين عن بأس المسلمين خلاف مقصود الشارع ، فالتعدّي عن مورد الرواية إلى ما نحن فيه يشبه القياس مع الفارق.

ولعلّه لما ذكر قيّد الشهيد فيما حكي عن حواشيه على القواعد (٣) إطلاق العلاّمة جواز بيع ما يكنّ (٤) بصورة الهدنة وعدم قيام الحرب.

هل يتعدّي الحكم إلى غير أعداء الدين

ثمّ إنّ مقتضى الاقتصار على مورد النصّ : عدم التعدّي إلى‌

__________________

(١) تقدّم ذكرها في الصفحة : ١٤٨.

(٢) تقدّم ذكرها في الصفحة : ١٤٧.

(٣) حكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٣٦.

(٤) القواعد ١ : ١٢٠.

١٥١

غير أعداء الدين كقُطّاع الطريق ، إلاّ أنّ المستفاد من رواية تحف العقول : إناطة الحكم بتقوّي الباطل ووهن الحقّ ، فلعلّه يشمل ذلك ، وفيه تأمّل.

ثم إنّ النهي (١) في هذه الأخبار لا يدلّ على الفساد ، فلا مستند له سوى ظاهر خبر تحف العقول الوارد في بيان المكاسب الصحيحة والفاسدة. والله العالم.

__________________

(١) من «ش».

١٥٢

النوع الثالث

ممّا يحرم الاكتساب به

ما لا منفعةَ فيه محلّلةً معتدّاً بها عند العقلاء‌

١٥٣
١٥٤

النوع الثالث

ما لا منفعةَ فيه محلّلةً معتدّاً بها عند العقلاء

التحريم هنا وضعيٌّ

والتحريم في هذا القسم ليس إلاّ من حيث فساد المعاملة ، وعدم تملّك الثمن ، وليس كالاكتساب بالخمر والخنزير.

الدليل على الفساد

والدليل على الفساد في هذا القسم على ما صرّح به في الإيضاح (١) كون أكل المال بإزائه أكلاً بالباطل.

وفيه تأمّل ؛ لأنّ منافع كثير من الأشياء التي ذكروها في المقام تقابل عرفاً بمالٍ ولو قليلاً بحيث لا يكون بذل مقدار قليل من المال بإزائه (٢) سفهاً.

فالعمدة ما يستفاد من الفتاوي والنصوص (٣) من عدم اعتناء الشارع بالمنافع النادرة وكونها في نظره كالمعدومة.

عدم اعتناء الشارع بالمنافع النادرة

قال في المبسوط : إنّ الحيوان الطاهر على ضربين : ضرب ينتفع به ، والآخر لا ينتفع به إلى أن قال ـ : وإن كان ممّا لا ينتفع به‌

__________________

(١) إيضاح الفوائد ١ : ٤٠١.

(٢) كذا في النسخ ، والمناسب : بإزائها.

(٣) في «ف» : ما يستفاد من الشرع من الفتاوي والنصوص ـ : من عدم ..

١٥٥

فلا يجوز بيعه بلا خلاف ، مثل الأسد والذئب ، وسائر الحشرات ، مثل : الحيّات ، والعقارب ، والفأر ، والخَنافِس ، والجِعلان ، والحِدأَة ، والرخَمَة ، والنسْر ، وبُغاث الطير ، وكذلك الغِرْبان (١) ، انتهى.

وظاهر الغنية الإجماع على ذلك أيضاً (٢).

ويشعر به عبارة التذكرة ، حيث استدلّ على ذلك بخسّة تلك الأشياء ، وعدم نظر الشارع إلى مثلها في التقويم ، ولا يثبت يدٌ لأحدٍ عليها ، قال : ولا اعتبار بما ورد في الخواص من منافعها ؛ لأنّها لا تُعدّ مع ذلك مالاً ، وكذا عند الشافعي (٣) ، انتهى.

وظاهره اتفاقنا عليه.

وما ذكره من عدم جواز بيع ما لا يُعدّ مالاً ممّا لا إشكال فيه ، وإنّما الكلام فيما عدّوه من هذا.

تحسين ما قاله في محكيّ إيضاح النافع

قال في محكيّ إيضاح النافع ونعم ما قال ـ : جرت عادة الأصحاب بعنوان هذا الباب وذكر أشياء معيّنة على سبيل المثال ، فإن كان ذلك لأنّ عدم النفع مفروض فيها ، فلا نزاع ، وإن كان لأنّ ما مثّل به لا يصحّ بيعه لأنّه محكومٌ بعدم الانتفاع فالمنع متوجّه في أشياء كثيرة (٤) ، انتهى.

__________________

(١) المبسوط ٢ : ١٦٦.

(٢) الغنية (الجوامع الفقهية) : ٥٢٤.

(٣) التذكرة ١ : ٤٦٥.

(٤) إيضاح النافع للفاضل القطيفي (لا يوجد لدينا) ، لكن حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٤٠.

١٥٦

وبالجملة ، فكون الحيوان من المسوخ أو السباع أو الحشرات لا دليل على كونه كالنجاسة مانعاً.

جواز بيع ما يشتمل على منفعة مقصودة للعقلاء

فالمتعين فيما اشتمل منها على منفعة مقصودة للعقلاء جواز البيع.

فكلّ ما جاز الوصية به لكونه مقصوداً بالانتفاع للعقلاء فينبغي جواز بيعه إلاّ ما دلّ الدليل على المنع فيه تعبداً.

وقد صرّح في التذكرة بجواز الوصية بمثل الفيل والأسد وغيرهما من المسوخ والمؤذيات ، وإن منعنا عن بيعها (١).

وظاهر هذا الكلام أنّ المنع من بيعها على القول به ، للتعبّد ، لا لعدم المالية.

نقد ما أفاده العلّامة في التذكرة

ثم إنّ ما تقدم منه قدس‌سره : «من أنّه لا اعتبار بما ورد في الخواص من منافعها ، لأنّها لا تعدّ مالاً مع ذلك» (٢) يشكل بأنّه إذا اطّلع العرف على خاصية في إحدى الحشرات معلومة بالتجربة أو غيرها فأيّ فرق بينها (٣) وبين نبات من الأدوية علم فيه تلك الخاصية؟ وحينئذ فعدم جواز بيعه (٤) وأخذ المال في مقابله (٥) بملاحظة تلك الخاصية يحتاج إلى دليل ؛ لأنّه حينئذ ليس أكلاً للمال بالباطل.

ويؤيد ذلك ما تقدّم في رواية التحف من أنّ «كلّ شي‌ء يكون لهم‌

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٤٧٩.

(٢) تقدّم آنفاً عن العلاّمة في التذكرة.

(٣) كذا في «ش» ومصححة «م» ، وفي سائر النسخ : بينه.

(٤) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : بيعها.

(٥) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : مقابلها.

١٥٧

فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك حلال بيعه .. إلخ».

تحسين ما قاله في الدروس

وقد أجاد في الدروس ، حيث قال : ما لا نفع فيه مقصوداً للعقلاء ، كالحشار وفضلات الإنسان (١).

وعن التنقيح : ما لا نفع فيه بوجه من الوجوه ، كالخَنافِس والديدان (٢).

النظر في منع العلّامة بيع ما ينتفع به نادراً

وممّا ذكرنا يظهر النظر في ما ذكره في التذكرة من الإشكال في جواز بيع العلق الذي ينتفع به لامتصاص الدم ، وديدان القزّ التي يصاد بها السمك. ثم استقرب المنع ، قال : لندور الانتفاع ، فيشبه (٣) ما لا منفعة فيه ؛ إذ كلّ شي‌ء فله نفع ما (٤) ، انتهى.

أقول : ولا مانع من التزام جواز بيع كلّ ما له نفع ما ، ولو فرض الشك في صدق المال على مثل هذه الأشياء المستلزم للشك في صدق البيع أمكن الحكم بصحة المعاوضة عليها ؛ لعمومات التجارة والصلح والعقود والهبة المعوّضة وغيرها ، وعدم المانع ؛ لأنّه ليس إلاّ «أكل المال بالباطل» والمفروض عدم تحققه هنا.

انعقاد الإجماع على عدم الاعتناء بالمنافع النادرة

فالعمدة في المسألة : الإجماع على عدم الاعتناء بالمنافع النادرة ، وهو الظاهر من التأمّل في الأخبار أيضاً ، مثل ما دلّ على تحريم بيع‌

__________________

(١) الدروس ٣ : ١٦٧.

(٢) التنقيح ٢ : ١٠.

(٣) كذا في «ع» و «ص» و «ش» ومصححة «م» ، وفي «ف» ، «ن» : فيشمله ، وفي «خ» و «م» : فيشمل ، وفي المصدر : فأشبه.

(٤) التذكرة ١ : ٤٦٥.

١٥٨

مقتضى التأمّل في الاخبار عدم الاعتناء بالمنافع النادرة

ما يحرم منفعته الغالبة مع اشتماله على منفعة نادرة محلَّلة مثل قوله عليه‌السلام : «لعن الله اليهود حُرِّمَت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها» (١) ؛ بناءً على أنّ للشحوم منفعة نادرة محلّلة على اليهود ؛ لأنّ ظاهر تحريمها عليهم تحريم أكلها ، أو سائر منافعها المتعارفة.

فلولا أنّ النادر في نظر الشارع كالمعدوم لم يكن وجه للمنع عن البيع ، كما لم يمنع الشارع عن بيع ما له منفعة محلّلة مساوية للمحرمة في التعارف والاعتداد [إلاّ أن يقال : المنع فيها تعبّد ؛ للنجاسة ، لا من حيث عدم المنفعة المتعارفة ؛ فتأمّل (٢)].

وأوضح من ذلك قوله عليه‌السلام في رواية تحف العقول في ضابط ما يكتسب به : «وكلّ شي‌ءٍ يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك كلّه حلال بيعه وشراؤه .. إلخ» (٣) إذ لا يراد منه مجرد المنفعة وإلاّ لعَمَّ (٤) الأشياء كلَّها ، وقوله في آخره (٥) : «إنّما حرّم الله الصناعة التي يجي‌ء منها الفساد محضاً» نظير كذا وكذا إلى آخر ما ذكره فإنَّ كثيراً من الأمثلة المذكورة هناك لها منافع محلّلة ؛ فإنّ الأشربة المحرّمة كثيراً ما ينتفع بها في معالجة الدوابّ ، بل المرضى ، فجعلها ممّا يجي‌ء منه الفساد‌

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٣ : ٧٣ ، الباب ٦ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٨ ، عن عوالي اللآلي ودعائم الإسلام.

(٢) ما بين المعقوفتين لم يرد في «ش».

(٣) تحف العقول : ٣٣٣.

(٤) كذا في «ف» ، و «ش» ، وفي سائر النسخ : يعمّ.

(٥) في مصحّحة «ف» : آخرها.

١٥٩

محضاً باعتبار عدم الاعتناء بهذه المصالح ، لندرتها.

إلاّ أنّ الإشكال في تعيين المنفعة النادرة وتمييزها عن غيرها ، فالواجب الرجوع في مقام الشك إلى أدلّة التجارة (١) ونحوها (٢) ممّا ذكرنا.

جواز بيع السباع بناءً على وقوع التذكية عليها

ومنه يظهر أنّ الأقوى جواز بيع السباع بناءً على وقوع التذكية عليها للانتفاع البيّن بجلودها ، وقد نصّ في الرواية على بعضها (٣). وكذا شحومها وعظامها.

وأمّا لحومها : فالمصرّح به في التذكرة عدم الجواز معلَّلاً بندور المنفعة المحلّلة المقصودة منه ، كإطعام الكلاب المحترمة وجوارح الطير (٤).

جواز بيع الهرّة

ويظهر أيضاً جواز بيع الهرّة ، وهو المنصوص في غير واحد من الروايات (٥) ونسبه في موضع من التذكرة إلى علمائنا (٦) ، بخلاف القرد ؛ لأنّ المصلحة المقصودة منه وهو حفظ المتاع نادر.

__________________

(١) مثل قوله تعالى (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) النساء : ٢٨.

(٢) مثل عمومات الصلح والعقود والهبة المعوّضة.

(٣) أي على بعض هذه المنافع ، راجع الوسائل ٣ : ٢٥٦ ، الباب ٥ من أبواب لباس المصلّي.

(٤) لم نقف فيها إلاّ على العبارة التالية : «لحم المذكّى ممّا لا يؤكل لحمه لا يصحّ بيعه ؛ لعدم الانتفاع به في غير الأكل المحرم ، ولو فرض له نفعٌ ما فكذلك ؛ لعدم اعتباره في نظر الشرع» انظر التذكرة ١ : ٤٦٤.

(٥) الوسائل ١٢ : ٨٣ ، الباب ١٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٣ ، والمستدرك ١٣ : ٩٠ ، الباب ١٢ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٣ ، عن دعائم الإسلام.

(٦) التذكرة ١ : ٤٦٤.

١٦٠