كتاب المكاسب - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

كتاب المكاسب - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٧
ISBN: 964-5662-11-7
ISBN الدورة:
964-5662-17-6

الصفحات: ٤٠٩

وثانيهما أن يقال وحاصل ما قال ـ : حمل الأخبار المانعة على الفرد الشائع في ذلك الزمان ، قال : والشائع في ذلك الزمان الغناء على سبيل اللهو من الجواري وغيرهن في مجالس الفجور والخمور والعمل بالملاهي والتكلّم بالباطل وإسماعهن الرجال ، فحمل المفرد المعرف يعني لفظ «الغناء» على تلك الأفراد الشائعة في ذلك الزمان غير بعيد.

ثم ذكر رواية عليّ بن جعفر الآتية (١) ورواية «اقرأوا القرآن» المتقدمة ، وقوله : «ليست بالتي يدخل عليها الرجال» (٢) مؤيّداً لهذا الحمل. قال : إنّ فيه إشعاراً بأنّ منشأ المنع في الغناء هو بعض الأُمور المحرّمة المقترنة به كالالتهاء وغيره إلى أن قال ـ : إنّ في عدة من أخبار المنع عن الغناء إشعاراً بكونه لهواً باطلاً ، وصدق ذلك في القرآن والدعوات والأذكار المقروّة بالأصوات الطيبة المذكّرة المهيّجة للأشواق إلى العالم الأعلى محلّ تأمّل.

على أنّ التعارض واقع بين أخبار الغناء والأخبار الكثيرة المتواترة الدالّة على فضل قراءة القرآن والأدعية والأذكار (٣) مع عمومها لغة ، وكثرتها ، وموافقتها للأصل ، والنسبة بين الموضوعين عموم من وجه ، فإذاً لا ريب في تحريم الغناء على سبيل اللهو والاقتران (٤) بالملاهي ونحوهما.

__________________

(١) تأتي في الصفحة : ٣٠٤.

(٢) الآتية في الصفحة : ٣٠٥.

(٣) في «ص» زيادة : «بالصوت الحسن» والظاهر أنّها زيدت لاقتضاء السياق.

(٤) في «ن» ، «خ» ، «م» و «ع» : الإقران.

٣٠١

ثم إن ثبت إجماع في غيره ، وإلاّ بقي حكمه على الإباحة ، وطريق الاحتياط واضح (١) ، انتهى.

نقد ما أفاده صاحب الكفاية

أقول : لا يخفى أنّ الغناء على ما استفدنا من الأخبار ، بل فتاوى الأصحاب وقول أهل اللغة هو من الملاهي ، نظير ضرب الأوتار والنفخ في القصب والمزمار ، وقد تقدم التصريح بذلك في رواية الأعمش الواردة في الكبائر فلا يحتاج في حرمته إلى أن يقترن بالمحرمات الأُخر ، كما هو ظاهر بعض ما تقدم من المحدِّثَين المذكورَين (٢).

نعم ، لو فرض كون الغناء موضوعاً لمطلق الصوت الحسن كما يظهر من بعض ما تقدم في تفسير معنى التطريب (٣) توجّه ما ذكراه ، بل (٤) لا أظن أحداً يفتي بإطلاق حرمة الصوت الحسن.

عدم إفتاء بحرمة الصوت الحسن

والأخبار بمدح الصوت الحسن وأنّه من أجمل الجمال ، واستحباب القراءة والدعاء به ، وأنّه حلية القرآن ، واتصاف الأنبياء‌

__________________

(١) كفاية الأحكام : ٨٦ ، مع اختلاف كثير. قال الشهيدي في الشرح (٧١) : ينبغي نقل عبارة كفاية الأحكام بعين ألفاظها كي ترى أنّ المصنّف كيف غيّر في النقل فحصل من جهته ما تراه من الإغلاق والاضطراب ، حتى لا تغترّ في المنقول بعظم شأن الناقل ، بل تراجع إلى الكتاب المنقول منه ، كما أوصى بذلك كاشف اللثام في وصاياه ، ولعمري أنّه أجاد فيما أوصاه.

(٢) الكاشاني والسبزواري.

(٣) مثل ما تقدم عن الصحاح في الصفحة : ٢٩٤.

(٤) كذا في النسخ ، والمناسب : لكن لا أظنّ.

٣٠٢

الأخبار في مدح الصوت الحسن في غاية الكثرة

والأئمة صلوات الله عليهم [به (١)] في غاية الكثرة (٢) وقد جمعها في الكفاية بعد ما ذكر : أنّ غير واحد من الأخبار يدلّ على جواز الغناء في القرآن ، بل استحبابه ؛ بناءً على دلالة الروايات على استحباب حسن الصوت والتحزين والترجيع به ، والظاهر أنّ شيئاً منها لا يوجد بدون الغناء على ما استفيد من كلام أهل اللغة وغيرهم على ما فصّلناه في بعض رسائلنا (٣) ، انتهى.

وقد صرّح في شرح قوله عليه‌السلام : «أقروا القرآن بألحان العرب» أنّ اللحن هو الغناء (٤).

ظهور بعض كلمات المحقّق السبزواري والمحدّث الكاشاني في ما نسب إليهما

وبالجملة ، فنسبة الخلاف إليه في معنى الغناء أولى من نسبة التفصيل إليه ، بل ظاهر أكثر كلمات المحدّث الكاشاني أيضاً ذلك ؛ لأنّه في مقام نفي التحريم عن الصوت الحسن المذكِّر لأُمور الآخرة المُنسي لشهوات الدنيا.

نعم ، بعض كلماتهما ظاهرة في ما نسب إليهما من التفصيل في الصوت اللهوي الذي ليس هو عند التأمّل تفصيلاً ، بل قولاً بإطلاق‌

__________________

(١) به» من مصححة «ش» فقط.

(٢) قد أورد هذه الروايات الكليني قدس‌سره في الكافي ٢ : ٦١٤ ٦١٦ في باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ، وأورد بعضها في الوسائل ٤ : ٨٥٩ ، الباب ٢٤ من أبواب قراءة القرآن ؛ لكن لم نقف على خبر يدلّ على استحباب الدعاء بالصوت الحسن ، فراجع.

(٣) كفاية الأحكام : ٨٥.

(٤) لم نجد التصريح بذلك في كفاية الأحكام ، فراجع ، ويحتمل بعيداً قراءة «صرح» بصيغة المجهول.

٣٠٣

جواز الغناء وأنّه لا حرمة فيه أصلاً ، وإنّما الحرام ما يقترن به من المحرمات ، فهو على تقدير صدق نسبته إليهما في غاية الضعف لا شاهد له يقيد الإطلاقات الكثيرة المدّعى تواترها ، إلاّ بعض الروايات التي ذكراها (١) :

بعض الروايات التي يمكن أن تكون شاهد لما نسب إليهما

منها : ما عن الحميري بسند لم يُبعّد في الكفاية إلحاقه بالصحاح (٢) عن علي بن جعفر عن أخيه عليهما‌السلام قال : «سألته عن الغناء في الفطر والأضحى والفرح ، قال : لا بأس ما لم يُعص به» (٣).

والمراد به ظاهراً ما لم يصر الغناء سبباً للمعصية ولا مقدّمة للمعاصي المقارنة له.

وفي كتاب علي بن جعفر ، عن أخيه ، قال : «سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر والأضحى والفرح؟ قال : لا بأس ما لم يزمر به» (٤).

والظاهر أنّ المراد بقوله : «لم يُزمر به» (٥) أي لم يلعب (٦) معه بالمزمار ، أو ما لم يكن الغناء بالمزمار ونحوه من آلات الأغاني.

__________________

(١) ليس في النسخة التي بأيدينا من كفاية الأحكام أثر من الروايات التالية ، ولم نقف عليها في الوافي أيضاً في أبواب وجوه المكاسب.

(٢) لم تُذكر هذه الرواية في كفاية الأحكام ، فضلاً عن الكلام في سندها.

(٣) قرب الإسناد : ٢٩٤ ، الحديث ١١٥٨ ، وعنه في الوسائل ١٢ : ٨٥ ، الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٥.

(٤) مسائل علي بن جعفر : ١٥٦ ، الحديث ٢١٩.

(٥) كذا في «ف» ، وفي سائر النسخ : ما لم يزمر.

(٦) في «ش» : أي ما لم يزمر.

٣٠٤

ورواية أبي بصير ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام (١) عن كسب المغنّيات ، فقال : التي يدخل عليها الرجال حرام ، والتي تدعى إلى الأعراس لا بأس به ، وهو قول الله عزّ وجلّ (وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)» (٢).

وعن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال عليه‌السلام : أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس ، ليست بالتي يدخل عليها الرجال» (٣).

فإنّ ظاهر الثانية وصريح الاولى : أنّ حرمة الغناء منوط بما يقصد منه ، فإن كان المقصود إقامة مجلس اللهو حرم ، وإلاّ فلا.

وقوله عليه‌السلام في الرواية : «وهو قول الله» إشارة إلى ما ذكره من التفصيل ، ويظهر منه (٤) أنّ كلا الغنائين من لهو الحديث ، لكن يقصد بأحدهما إدخال الناس في المعاصي والإخراج عن سبيل الحق وطريق الطاعة ، دون الآخر.

توجيه الروايات

وأنت خبير بعدم مقاومة هذه الأخبار للإطلاقات ؛ لعدم ظهور يعتد به في دلالتها ، فإنّ الرواية الأُولى لعلي بن جعفر ظاهرة في تحقّق المعصية بنفس الغناء ، فيكون المراد بالغناء مطلق الصوت المشتمل على‌

__________________

(١) كذا في الوسائل أيضاً ، وفي «ص» والكافي (٥ : ١١٩ ، الحديث الأوّل) ، والتهذيب (٦ : ٣٥٨ ، الحديث ١٠٢٤) ، والاستبصار (٣ : ٦٢ ، الحديث ٢٠٧) : سألت أبا جعفر عليه‌السلام.

(٢) الوسائل ١٢ : ٨٤ ، الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٣) الوسائل ١٢ : ٨٥ ، الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٣.

(٤) في شرح الشهيدي (٧٦) : يعني من قوله عليه‌السلام : «وهو قول الله».

٣٠٥

الترجيع ، وهو قد يكون مطرباً ملهياً فيحرم ، وقد لا ينتهي إلى ذلك الحد فلا يُعصى به.

ومنه يظهر توجيه الرواية الثانية لعليّ بن جعفر ، فإنّ معنى قوله : «لم يزمر به» لم يرجّع فيه ترجيع المزمار ، أو لم يقصد منه قصد المزمار ، أو أنّ المراد من «الزمْر» التغنّي على سبيل اللهو.

وأما رواية أبي بصير مع ضعفها سنداً بعلي بن أبي حمزة البطائني فلا تدلّ إلاّ على كون غناء المغنّية التي يدخل (١) عليها الرجال داخلاً في لهو الحديث في الآية ، وعدم دخول غناء التي تدعى إلى الأعراس فيه (٢) ، وهذا لا يدلّ على دخول ما لم يكن منهما (٣) في القسم المباح ، مع كونه من لهو الحديث قطعاً. فإذا فرضنا أنّ المغنّي يغنّي بإشعار باطلة ، فدخول هذا في الآية أقرب من خروجه.

وبالجملة ، فالمذكور في الرواية (٤) تقسيم غناء المغنّية باعتبار ما هو الغالب من أنّها تطلب (٥) للتغنّي ، إمّا في المجالس المختصة بالنساء كما في الأعراس ـ ، وإمّا للتغنّي في مجالس الرجال.

عدم رفع اليد عن إطلاق الحرمة لأجل إشعار بعض الروايات بالجواز

نعم ، الإنصاف أنّه لا يخلو (٦) من إشعار بكون المحرّم هو الذي يدخل فيه الرجال على المغنّيات ، لكن المنصف لا يرفع اليد عن‌

__________________

(١) في «ف» ، «خ» ، «م» ، و «ع» وظاهر «ن» : لم يدخل.

(٢) كذا في مصححة «ص» و «ن» ، وفي سائر النسخ : فيها.

(٣) في «خ» ، «م» ، «ع» ، «ص» و «ش» وظاهر «ن» : منها.

(٤) كذا في «ش» ومصححة «ص» ، وفي «ف» ، «ن» ، «خ» ، «م» و «ع» : الآية.

(٥) كذا في «ص» و «ش» ، وفي غيرهما : من أنّه يُطلب.

(٦) كذا في النسخ ، والمناسب : أنّها لا تخلو ، كما في مصححة «ص».

٣٠٦

الإطلاقات لأجل هذا الإشعار ، خصوصاً مع معارضته بما هو كالصريح في حرمة غناء المغنّية ولو لخصوص مولاها ، كما تقدم من قوله عليه‌السلام : «قد يكون للرجل الجارية تُلهيه ، وما ثمنها إلاّ ثمن الكلب» (١) ، فتأمّل.

وبالجملة ، فضعف هذا القول بعد ملاحظة النصوص أظهر من أن يحتاج إلى الإظهار. وما أبعد بين هذا وبين ما سيجي‌ء من فخر الدين (٢) من عدم تجويز الغناء بالأعراس (٣) ؛ لأنّ الروايتين وإن كانتا نصّين في الجواز ، إلاّ أنّهما لا تقاومان الأخبار المانعة ؛ لتواترها (٤).

وأما ما ذكره في الكفاية من تعارض أخبار المنع للأخبار الواردة في فضل قراءة القرآن (٥) فيظهر فساده عند التكلّم في التفصيل.

ما ظهر من بعض الطلبة : من منع صدق الغناء في المراثي

وأمّا الثاني وهو الاشتباه في الموضوع ـ: فهو ما ظهر مِن بعض مَن لا خبرة له من طلبة زماننا تقليداً لمن سبقه من أعياننا من منع صدق الغناء في المراثي ، وهو عجيب! فإنّه إن أراد أنّ الغناء مما يكون لمواد الألفاظ دخل فيه ، فهو تكذيب للعرف واللغة.

أمّا اللغة فقد عرفت ، وأمّا العرف فلأنه لا ريب أنّ مَن سمع من بعيد صوتاً مشتملاً على الإطراب المقتضي للرقص أو ضرب آلات‌

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ٢٩٠.

(٢) يجي‌ء في الصفحة : ٣١٤ عنه وعن جماعة من الأعلام ، فلا وجه لتخصيصه بالذكر ، اللهم إلاّ بملاحظة التعليل المذكور.

(٣) في مصححة «ص» : في الأعراس. وهو الأنسب.

(٤) التعليل من فخر الدين بتفاوت في العبارة ، انظر إيضاح الفوائد ١ : ٤٠٥.

(٥) لم نجد التصريح بالتعارض ، لكن يستفاد من مضمون كلامه ، انظر كفاية الأحكام : ٨٥ ٨٦.

٣٠٧

اللهو لا يتأمّل في إطلاق الغناء عليه إلى أن يعلم مواد الألفاظ.

وإن أراد أنّ الكيفية التي يقرأ بها للمرثية لا يصدق عليها تعريف الغناء ، فهو تكذيب للحس.

القول باستثناء الغناء في المراثي نظير استثنائه في الأعراس

وأمّا الثالث وهو اختصاص الحرمة ببعض أفراد الموضوع ـ:  فقد حكى في جامع المقاصد قولاً لم يسمّ قائله باستثناء الغناء في المراثي نظير استثنائه في الأعراس ولم يذكر وجهه (١) ، وربّما وجّهه بعضٌ من متأخّري المتأخرين (٢) بعمومات (٣) أدلّة الإبكاء والرثاء ، وقد أخذ ذلك مما تقدم من صاحب الكفاية من الاستدلال بإطلاق أدلّة قراءة القرآن (٤).

المناقشة فيه بأنّ أدلّة المستحبّات لا تقاوم أدلّة المحرّمات

وفيه : أنّ أدلّة المستحبّات لا تقاوم أدلّة المحرمات ، خصوصاً التي تكون من مقدماتها ؛ فإنّ مرجع أدلّة الاستحباب إلى استحباب إيجاد الشي‌ء بسببه المباح ، لا بسببه المحرَّم ، ألا ترى أنّه لا يجوز إدخال السرور في قلب المؤمن وإجابته بالمحرمات ، كالزنا واللواط والغناء؟

والسرّ في ذلك أنّ دليل الاستحباب إنّما يدلّ على كون الفعل لو خلّي وطبعه خالياً عما يوجب لزوم أحد طرفيه ، فلا ينافي ذلك طروّ عنوان من الخارج يوجب لزوم فعله أو تركه كما إذا صار مقدمة لواجب ، أو صادفه عنوان محرم فأجابه المؤمن وإدخال السرور في‌

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٢٣.

(٢) مثل المحقق النراقي في المستند ٢ : ٦٤٤.

(٣) في «ف» ، «خ» ، «م» ، «ع» و «ص» : لعمومات.

(٤) في شرح الشهيدي (٧٧) : ليس في كفاية الأحكام من الاستدلال به أثر في كتابي التجارة والشهادة.

٣٠٨

قلبه ليس في نفسه شي‌ء ملزم لفعله أو تركه ، فإذا تحقق في ضمن الزنا فقد طرأ عليه عنوان ملزم لتركه ، كما أنّه إذا أمر به الوالد أو السيّد طرأ عليه عنوان ملزم لفعله.

والحاصل : أنّ جهات الأحكام الثلاثة أعني الإباحة والاستحباب والكراهة لا تزاحم جهة الوجوب أو الحرمة ، فالحكم لهما مع اجتماع جهتيهما مع إحدى الجهات الثلاث.

الاستشهاد بالنبوي

ويشهد بما ذكرنا من عدم تأدّي المستحبات في ضمن المحرّمات قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اقرأوا القرآن بألحان العرب ، وإيّاكم ولحون أهل الفسق (١) والكبائر ، وسيجي‌ء بعدي أقوام يرجّعون ترجيع الغناء والنوح والرهبانية ، لا يجوز تراقيهم ، قلوبهم مقلوبة ، وقلوب من يعجبه شأنهم» (٢).

قال في الصحاح : اللحن واحد الألحان واللحون ، ومنه الحديث : «اقرأوا القرآن بلحون العرب» ، وقد لحن في قراءته : إذا طرّب بها وغرّد ، وهو ألحن الناس إذا كان أحسنهم قراءة أو غناء ، انتهى (٣).

ما أفاده صاحب الحدائق حول كلمة «اللحن»

وصاحب الحدائق جعل اللحن في هذا الخبر بمعنى اللغة ، أي بلغة العرب (٤) وكأنّه أراد باللغة «اللهجة» ، وتخيّل أنّ إبقاءه على معناه يوجب ظهور الخبر في جواز الغناء في القرآن.

__________________

(١) في النسخ : الفسوق ، وصحّحناه على ما ورد في الصفحة : ٢٩٦ و ٣٠٥.

(٢) الوسائل ٤ : ٨٥٨ ، الباب ٢٤ من أبواب قراءة القرآن ، الحديث الأوّل ، مع تفاوتٍ يسير.

(٣) الصحاح ٦ : ٢١٩٣ ، مادّة «لحن».

(٤) الحدائق ١٨ : ١١٤.

٣٠٩

المناقشة في ما أفاده صاحب الحدائق

وفيه : ما تقدم من أنّ مطلق اللحن إذا لم يكن على سبيل اللهو ليس غناء ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وإيّاكم ولحون أهل الفسق» نهي عن الغناء في القرآن.

ثم إنّ في قوله : «لا يجوز تراقيهم» إشارة إلى أنّ مقصودهم ليس تدبّر معاني القرآن ، بل هو مجرّد الصوت المطرب.

لا منافاة بين حرمة الغناء في القرآن وبين ما روي في الترجيع بالقرآن

وظهر مما ذكرنا أنّه لا تنافي بين حرمة الغناء في القرآن وما ورد من قوله صلوات الله عليه : «وَرَجّعْ بالقرآن صوتك ، فإنّ الله يحبّ الصوت الحسن» (١) فإنّ المراد بالترجيع ترديد الصوت في الحلق ، ومن المعلوم أنّ مجرّد ذلك لا يكون غناء إذا لم يكن على سبيل اللهو ، فالمقصود من الأمر بالترجيع أن لا يقرأ كقراءة عبائر الكتب عند المقابلة ، لكن مجرد الترجيع لا يكون غناء ؛ ولذا جعله نوعاً منه في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يرجّعون القرآن ترجيع الغناء».

وفي محكي شمس العلوم : أنّ الترجيع ترديد الصوت مثل ترجيع أهل الألحان والقراءة والغناء (٢) ، انتهى.

وبالجملة ، فلا تنافي بين الخبرين ، ولا بينهما وبين ما دلّ على حرمة الغناء حتى في القرآن ، كما تقدم زعمه من صاحب الكفاية تبعاً في بعض ما ذكره من عدم اللهو في قراءة القرآن وغيره لما ذكره‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٨٥٩ ، الباب ٢٤ أبواب قراءة القرآن ، الحديث ٥.

(٢) شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم في اللغة ثمانية عشر جزءاً ، كما في كشف الظنون ، وفي بغية الوعاة : في ثمانية أجزاء ، وهو لنشوان بن سعيد ابن نشوان اليمني الحميري ، المتوفّى سنة ٥٧٣ ، انظر الذريعة ١٤ : ٢٢٤.

٣١٠

ما ذكره المحقّق الأردبيلي في تأييد استثناء المراثي والمناقشة فيه

المحقق الأردبيلي رحمه‌الله ، حيث إنّه بعد ما وجّه استثناء المراثي وغيرها من الغناء ، بأنّه ما ثبت الإجماع إلاّ في غيرها ، والأخبار ليست بصحيحة صريحة في التحريم مطلقاً أيّد استثناء المراثي بأنّ البكاء والتفجّع مطلوب مرغوب ، وفيه ثواب عظيم ، والغناء معين على ذلك ، وأنّه متعارف دائماً في بلاد المسلمين من زمن المشايخ إلى زماننا هذا من غير نكير. ثمّ أيّده بجواز النياحة وجواز أخذ الأجر عليها ، والظاهر أنّها لا تكون إلاّ معه ، وبأنّ تحريم الغناء للطرب على الظاهر ، وليس في المراثي طرب ، بل ليس إلاّ الحزن (١) ، انتهى.

وأنت خبير بأنّ شيئاً مما ذكره لا ينفع في جواز الغناء على الوجه الذي ذكرناه.

منع كون الغناء معيناً على البكاء

أمّا كون الغناء معيناً على البكاء والتفجّع ، فهو ممنوع ؛ بناءً على ما عرفت من كون الغناء هو «الصوت اللهوي» ، بل وعلى ظاهر تعريف المشهور من «الترجيع المطرب» ؛ لأنّ الطرب الحاصل منه إن كان سروراً فهو منافٍ للتفجّع ، لا معين ، وإن كان حزناً فهو على ما هو المركوز في النفس الحيوانية من فقد المشتهيات النفسانية ، لا على ما أصاب سادات الزمان ، مع أنّه على تقدير الإعانة لا ينفع في جواز الشي‌ء كونه مقدمة لمستحب أو مباح ، بل لا بدّ من ملاحظة عموم (٢) دليل الحرمة له ، فإن كان فهو ، وإلاّ فيحكم بإباحته ، للأصل.

وعلى أيّ حال ، فلا يجوز التمسك في الإباحة بكونه مقدمة لغير حرام ؛

__________________

(١) مجمع الفائدة ٨ : ٦١ ٦٣.

(٢) كلمة «عموم» من «ش».

٣١١

لما عرفت.

توجيه كلام الاردبيلي في نفيه الطرب في المراثي

ثم إنّه يظهر من هذا وممّا (١) ذكر أخيراً من أنّ المراثي ليس فيها طرب أنّ نظره إلى المراثي المتعارفة لأهل الديانة التي لا يقصدونها إلاّ للتفجّع ، وكأنّه لم يحدث في عصره المراثي التي يكتفي بها أهل اللهو والمترفون من الرجال والنساء (٢) عن حضور مجالس اللهو وضرب العود والأوتار والتغنّي بالقصب والمزمار ، كما هو الشائع في زماننا الذي قد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنظيره في قوله : «يتّخذون القرآن مزامير» (٣) ، كما أنّ زيارة سيدنا ومولانا أبي عبد الله عليه‌السلام صار سفرها من أسفار اللهو والنزهة لكثير من المترَفين ، وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنظيره في سفر الحج ، وأنّه «يحج أغنياء أُمتي للنزهة ، والأوساط للتجارة ، والفقراء للسمعة» (٤) وكأن كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالكتاب العزيز وارد في موردٍ وجارٍ في نظيره.

والذي أظن أنّ ما ذكرنا في معنى الغناء المحرّم من أنّه «الصوت اللهوي» أنّ (٥) هؤلاء (٦) وغيرهم غير مخالفين فيه ، وأمّا ما لم يكن‌

__________________

(١) كذا في «ف» ، وفي غيره : وما.

(٢) في أكثر النسخ زيادة : بها.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٧٨ ، الباب ٤٩ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٢٢ ، ولفظه : «يتعلّمون القرآن لغير الله فيتّخذونه مزامير».

(٤) نفس المصدر.

(٥) لا يخفى أنّ العبارة لا تخلو من إغلاق.

(٦) الكاشاني والسبزواري والأردبيلي.

٣١٢

على جهة (١) اللهو المناسب لسائر آلاته ، فلا دليل على تحريمه لو فرض شمول «الغناء» له ؛ لأنّ مطلقات الغناء منزَّلة على ما دلّ على إناطة الحكم فيه باللهو والباطل من الأخبار المتقدمة ، خصوصاً مع انصرافها في أنفسها كأخبار المغنّية إلى هذا الفرد.

بقي الكلام فيما استثناه المشهور من الغناء ، وهو أمران :

استثناء الحُداء من حرمة الغناء

أحدهما الحُداء بالضم كدعاء : صوت يرجَّع فيه للسير بالإبل. وفي الكفاية : أنّ المشهور استثناؤه (٢) وقد صرّح بذلك في شهادات الشرائع والقواعد ، وفي الدروس (٣).

وعلى تقدير كونه من الأصوات اللهوية كما يشهد به استثناؤهم إيّاه عن الغناء بعد أخذهم الإطراب في تعريفه فلم أجد ما يصلح لاستثنائه مع تواتر الأخبار بالتحريم ، عدا رواية نبوية ذكرها في المسالك (٤) من تقرير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعبد الله بن رواحة حيث حدا للإبل ، وكان حسن الصوت (٥). وفي دلالته وسنده ما لا يخفى.

استثناء غناء المغنّية في الاعراس

الثاني ـ غناء المغنّية في الأعراس إذا لم يكتنف بها (٦) محرّم آخر ـ  من التكلّم بالأباطيل ، واللعب بآلات الملاهي المحرّمة ، ودخول‌

__________________

(١) في «ف» : «وجه».

(٢) كفاية الأحكام : ٨٦.

(٣) الشرائع ٤ : ١٢٨ ، القواعد ٢ : ٢٣٦ ، الدروس ٢ : ١٢٦.

(٤) المسالك (الطبعة الحجرية) ٢ : ٣٢٣.

(٥) رواها البيهقي في سننه ١٠ : ٢٢٧ ، وفيه : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعبد الله ابن رواحة : «حرّك بالنوق» فاندفع يرتجز ، وكان عبد الله جيّد الحداء.

(٦) كذا في النسخ ، وفي مصححة «ص» : به. وهو المناسب.

٣١٣

الرجال على النساء والمشهور استثناؤه ؛ للخبرين المتقدمين عن أبي بصير في أجر المغنّية التي تزفّ العرائس (١) ، ونحوهما ثالث عنه أيضاً (٢) ، وإباحة الأجر لازمة لإباحة الفعل.

ودعوى : أنّ الأجر لمجرد الزفّ لا للغناء عنده ، مخالفة للظاهر.

لكن في سند الروايات «أبو بصير» وهو غير صحيح (٣) ، والشهرة على وجه توجب الانجبار غير ثابتة ؛ لأنّ المحكي عن المفيد رحمه‌الله (٤) والقاضي (٥) وظاهر الحلبي (٦) وصريح الحلي والتذكرة والإيضاح (٧) ، بل كل من لم يذكر الاستثناء بعد التعميم : المنع.

لكن الإنصاف ، أنّ سند الروايات وإن انتهت إلى «أبي بصير» إلاّ أنّه لا يخلو من وثوق ، فالعمل بها تبعاً للأكثر غير بعيد ، وإن كان الأحوط كما في الدروس (٨) الترك. والله العالم.

__________________

(١) تقدّما في الصفحة : ٣٠٥.

(٢) الوسائل ١٢ : ٨٤ ، الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢.

(٣) حكمه قدس‌سره بعدم صحة الروايات معلّلاً بأنّ في سندها «أبا بصير» فيه ما لا يخفى.

(٤) لم يصرح المفيد قدس‌سره بذلك ، بل هو ممن لم يذكر الاستثناء بعد التعميم ، انظر المقنعة : ٥٨٨.

(٥) عدّه في المكروهات ، انظر المهذب ١ : ٣٤٦.

(٦) الكافي في الفقه : ٢٨١.

(٧) السرائر ٢ : ٢٢٤ ، التذكرة ٢ : ٥٨١ ، إيضاح الفوائد ١ : ٤٠٥.

(٨) لم نقف عليه في الدروس ، ونسبه إليه السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٥٣ ، انظر الدروس ٣ : ١٦٢.

٣١٤

المسألة الرابعة عشر

حرمة الغيبة

الغيبة‌ حرام بالأدلّة الأربعة ، ويدلّ عليه من الكتاب قوله تعالى (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) (١) فجعل المؤمن أخاً ، وعرضه كلحمه ، والتفكّه به أكلاً ، وعدم شعوره بذلك بمنزلة حالة موته.

ما يدلّ على الحرمة من الكتاب

وقوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (٢) وقوله تعالى (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ) (٣) وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤).

ويدلّ عليه من الأخبار ما لا يحصى :

ما يدلّ على الحرمة من الاخبار

فمنها : ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدّة طرق : «أنّ الغيبة أشدّ من الزنا ، وأنّ الرجل يزني فيتوب ويتوب الله عليه ، وأنّ صاحب‌

__________________

(١) الحجرات : ١٢.

(٢) الهمزة : ١.

(٣) النساء : ١٤٨.

(٤) النور : ١٩.

٣١٥

الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه» (١).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه خطب يوماً فذكر الربا وعظّم شأنه ، فقال : «إنّ الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم (٢) من ستّة وثلاثين زِنية ، وإنّ أربى الربا عرض الرجل المسلم» (٣).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أربعين صباحاً ، إلاّ أن يغفر له صاحبه» (٤).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من اغتاب مؤمناً بما فيه لم يجمع الله بينهما في الجنة ، ومن اغتاب مؤمناً بما ليس فيه انقطعت العصمة بينهما ، وكان المغتاب خالداً في النار وبئس المصير» (٥).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كذب من زعم أنّه وُلِدَ من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة ، فاجتنب (٦) الغيبة فإنّها إدام كلاب النار» (٧).

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٩٨ ، الباب ١٥٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٩ ، مع اختلاف في العبارة ، ولعلّه قدس‌سره أراد النقل بالمعنى.

(٢) في تنبيه الخواطر : أعظم عند الله في الخطيئة.

(٣) تنبيه الخواطر : ١٢٤ ، ونقل ذيله المحدّث النوري في مستدرك الوسائل ٩ : ١١٩ ، الباب ١٣٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٢٥.

(٤) مستدرك الوسائل ٩ : ١٢٢ ، الباب ١٣٢ ، الحديث ٣٤ ، وفيه بدل «أربعين صباحاً» : «أربعين يوماً وليلة».

(٥) الوسائل ٨ : ٦٠٢ ، الباب ١٥٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٢٠.

(٦) في المصدر : اجتنبوا.

(٧) مستدرك الوسائل ٩ : ١٢١ ، الباب ١٣٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣١.

٣١٦

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مشى في غيبة أخيه (١) وكشف عورته كانت أوّل خطوة خطاها وضعها في جهنم» (٢).

وروى : «أنّ المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنة ، وإن لم يتب فهو أوّل من يدخل النار» (٣).

وعنه عليه‌السلام : «أنّ الغيبة حرام على كلّ مسلم .. وأنّ الغيبة لتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» (٤).

وأكل الحسنات إمّا أن يكون على وجه الإحباط ، أو لاضمحلال ثوابها في جنب عقابه ، أو لأنّها تنقل الحسنات إلى المغتاب ، كما في غير واحد من الأخبار.

ومنها النبوي : «يؤتى بأحدٍ يوم القيامة فيوقَف بين يدي الربّ عزّ وجلّ ، ويُدفع إليه كتابه ، فلا يرى حسناته فيه ، فيقول : إلهي ليس هذا كتابي لا أرى فيه حسناتي! فيقال له : إنّ ربك لا يضلّ ولا ينسى ، ذهب عملك باغتياب الناس ، ثم يؤتى بآخر ويُدفع إليه كتابه فيرى فيه طاعات كثيرة ، فيقول : إلهي ما هذا كتابي فإني ما عملت هذه الطاعات!

__________________

(١) في المصدر : في عيب أخيه.

(٢) الوسائل ٨ : ٦٠٢ ، الباب ١٥٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٢١.

(٣) البحار ٧٥ : ٢٥٧ ، ضمن الحديث ٤٨ ، عن مصباح الشريعة ، ورواه باختلاف في اللفظ المحدّث النوري في مستدرك الوسائل ٩ : ١٢٦ ، الباب ١٣٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٥٠ ، عن لبّ اللباب ، للقطب الراوندي.

(٤) البحار ٧٥ : ٢٥٧ ، الحديث ٤٨.

٣١٧

فيقال له : إنّ فلاناً اغتابك فدفع حسناته إليك .. الخبر (١)» (٢).

ومنها : ما ذكره كاشف الريبة رحمه‌الله من (٣) رواية عبد الله (٤) ابن سليمان النوفلي الطويلة عن الصادق عليه‌السلام ، وفيها : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أدنى الكفر أن يسمع الرجل من أخيه كلمة فيحفظها عليه يريد أن يفضحه بها ، أُولئك لا خلاق لهم» ، وحدّثني أبي ، عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام أنّه : «من قال في مؤمن ما رأته عيناه أو سمعت أُذناه مما يشينه ويهدم مروّته ، فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)» (٥).

ظاهر الاخبار كون الغيبة من الكبائر

ثم ظاهر هذه الأخبار كون الغيبة من الكبائر كما ذكره جماعة (٦) بل أشد من بعضها. وعُدّ في غير واحد من الأخبار من الكبائر الخيانة (٧) ، ويمكن إرجاع الغيبة إليها ، فأيّ خيانة أعظم‌

__________________

(١) كذا في النسخ ، والظاهر زيادة «الخبر» ؛ إذ الحديث مذكور بتمامه.

(٢) مستدرك الوسائل ٩ : ١٢١ ، الباب ١٣٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣٠ ، مع اختلاف في بعض الألفاظ.

(٣) كلمة «من» من «ن» و «ش».

(٤) في «ص» و «ش» : عن عبد الله.

(٥) كشف الريبة : ١٣٠ ، الحديث ١٠ من الخاتمة (ما كتبه الصادق عليه‌السلام إلى عبد الله النجاشي) ، وعنه في الوسائل ١٢ : ١٥٥ ، الباب ٤٩ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٦) منهم الشهيد الثاني في الروضة البهيّة ٣ : ١٢٩ ، وكشف الريبة : ٥٢ ؛ ونسبه السيد المجاهد في المناهل (٢٦١) إلى المقدس الأردبيلي أيضاً واستجوده.

(٧) الوسائل ١١ : ٢٦١ ٢٦٢ ، الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٣٣ و ٣٦.

٣١٨

من التفكّه بلحم الأخ على غفلة منه وعدم شعور؟

وكيف كان ، فما سمعناه من بعض من عاصرناه من الوسوسة في عدّها من الكبائر أظنها في غير المحل.

اختصاص حرمة الغيبة بالمؤمن

ثم إنّ ظاهر الأخبار اختصاص حرمة الغيبة بالمؤمن ، فيجوز اغتياب المخالف ، كما يجوز لعنه.

وتوهم عموم الآية كبعض الروايات (١) لمطلق المسلم ، مدفوع بما علم بضرورة المذهب من عدم احترامهم وعدم جريان أحكام الإسلام عليهم إلاّ قليلاً ممّا يتوقف استقامة نظم معاش المؤمنين عليه ، مثل عدم انفعال ما يلاقيهم بالرطوبة ، وحلّ ذبائحهم ومناكحتهم (٢) وحرمة دمائهم لحكمة دفع الفتنة ، ونسائهم (٣) ؛ لأنّ لكلّ قوم نكاحاً ، ونحو ذلك.

مع أنّ التمثيل المذكور في الآية مختص بمن ثبت اخوّته ، فلا يعمّ من وجب التبرّي عنه.

وكيف كان ، فلا إشكال في المسألة بعد ملاحظة الروايات الواردة في الغيبة ، وفي حكمة حرمتها ، وفي حال غير المؤمن في نظر الشارع.

شمول الأدلّة للصبيّ المميّز المتأثّر بالغيبة لو سمعها

ثم الظاهر دخول الصبيّ المميّز المتأثر بالغيبة لو سمعها ؛ لعموم بعض الروايات المتقدمة وغيرها الدالة على حرمة اغتياب الناس وأكل‌

__________________

(١) مثل النبويّين المتقدّمين : «مَن اغتاب مسلماً أو مسلمة ..» و «إنّ أربى الربا عرض الرجل المسلم» ونحوهما.

(٢) في «ف» : مناكحهم.

(٣) في «خ» ، «م» ، «ع» و «ص» : فسادهم.

٣١٩

لحومهم (١) مع صدق «الأخ» عليه ، كما يشهد به قوله تعالى (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) (٢) مضافاً إلى إمكان الاستدلال بالآية (٣) وإن كان الخطاب للمكلفين ؛ بناءً على عدّ أطفالهم منهم تغليباً ، وإمكان دعوى صدق «المؤمن» عليه مطلقاً أو في الجملة.

ولعله لما ذكرنا صرّح في كشف الريبة بعدم الفرق بين الصغير والكبير (٤) ، وظاهره الشمول لغير المميّز أيضاً.

حكم غيبة المجنون

ومنه يظهر حكم المجنون ، إلاّ أنّه صرّح بعض الأساطين (٥) باستثناء من لا عقل له ولا تمييز ؛ معلّلاً بالشك في دخوله تحت أدلّة الحرمة. ولعله من جهة أنّ الإطلاقات منصرفة إلى من يتأثر لو سمع ، وسيتّضح ذلك زيادة على ذلك.

__________________

(١) مثل قول الصادق عليه‌السلام : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يغتابه ولا يغشّه ولا يحرمه» ، وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «يا نوف! كذب من زعم أنّه ولد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة» ، انظر الوسائل ٨ : ٥٩٧ ٦٠٠ ، الباب ١٥٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٥ و ١٦.

(٢) البقرة : ٢٢٠.

(٣) وهي قوله تعالى (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ..) الحجرات : ١٢.

(٤) كشف الريبة : ١١١.

(٥) صرّح به كاشف الغطاء قدس‌سره في شرحه على القواعد (مخطوط) : ٣٦.

٣٢٠