الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

فلما خرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حنين خرج معه أهل مكة ركبانا ومشاة ، حتى خرج معه النساء يمشين على غير دين نظارا ينظرون ويرجون الغنائم ، ولا يكرهون أن تكون الصدمة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

وحدث (١) أبو واقد الليثى قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حنين ونحن حديثوا عهد بالجاهلية ، وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة خضراء عظيمة يقال لها : ذات أنواط. يأتونها كل سنة فيعلقون عليها أسلحتهم ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوما ، قال : فرأينا ونحن نسير معه سدرة خضراء عظيمة فتنادينا من جنبات الطريق : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكبر! قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ، قالَ : إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف : ١٣٨] فإنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم» (٢).

وحدث (٣) جابر بن عبد الله قال : لما استقبلنا وادى حنين انحدرنا فى واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحدارا قال : وذلك فى عمامة الصبح ، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادى فكمنوا لنا فى شعابه وأحنائه ومضايقه ، قد أجمعوا وتهيئوا ، فو الله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد ، وانشمر الناس راجعين لا يلوى أحد على أحد.

وانحاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات اليمين ثم قال : «أيها الناس هلم إلى أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله» قال : فلا شيء! حملت الإبل بعضها على بعض وانطلق الناس ، إلا أنه قد بقى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته ، وفيمن ثبت معه من المهاجرين : أبو بكر وعمرو ومن أهل بيته على بن أبى طالب والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن عباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد وهو ابن أم أيمن قتل يومئذ (٤).

قال (٥) : ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء فى رأس رمح طويل

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٧٥).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٥ / ٢١٨) ، سنن الترمذى (٤ / ٢١٨٠).

(٣) انظر : السيرة (٤ / ٧٥).

(٤) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٣٧٦) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٧٩).

(٥) انظر : السيرة (٤ / ٧٦).

٥٢١

أمام هوازن وهم خلفه ، إذا أدرك طعن برمحه وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه ، فبينا ذلك الرجل يصنع ما يصنع إذا أهوى له على بن أبى طالب ورجل من الأنصار يريدانه قال : فيأتى على من خلفه فضرب عرقوبى الجمل فوقع على عجزه ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه فانجعف عن رحله.

قال ابن إسحاق (١) : فلما انهزم الناس ورأى من كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما فى أنفسهم من الضغن فقال أحدهم : لا تنتهى هزيمتهم دون البحر. وإن الأزلام لمعه فى كنانته. وصرخ آخر منهم : ألا بطل السحر اليوم! فقال له صفوان بن أمية وهو يومئذ مشرك فى المدة التي جعل له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اسكت فض الله فاك! فو الله لأن يربنى رجل من قريش أحب إلىّ من أن يربنى رجل من هوازن.

وقال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة أخو بنى عبد الدار ، وكان أبوه قتل يوم أحد ، قلت : اليوم أدرك ثأرى ، اليوم أقتل محمدا. قال : فأردت برسول الله لأقتله فأقبل شيء حتى تغشى فؤادى فلم أطق ذلك وعلمت أنى ممنوع منه (٢).

وذكر ابن أبى خيثمة حديث شيبة هذا ، قال : لما رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين أعرى ذكرت أبى وعمى قتلهما حمزة ، قلت : اليوم أدرك ثأرى فى محمد ، فجئته عن يمينه فإذا أنا العباس قائما عليه درع بيضاء ، قلت : عمه لن يخذله ، فجئته عن يساره فإذا أنا بأبى سفيان بن الحارث ، قلت : ابن عمه لن يخله ، فجئته من خلفه فدنوت ودنوت حتى لم يبق إلا أن أسور سورة بالسيف فرفع إلى شواظ من نار كأنه البرق فنكصت على عقبى القهقرى ، فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا شيبة ادنه». فدنوت فوضع يده على صدرى فاستخرج الله الشيطان من قلبى فرفعت إليه بصرى فلهو أحب إلى من سمعى وبصرى ، فقال لى : «يا شيبة قاتل الكفار» (٣). فقاتلت معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وحدث (٤) العباس بن عبد المطلب قال : إنى لمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها وكنت امرأ جسيما شديد الصوت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول حين رأى ما رأى من أمر الناس : «أين أيها الناس؟» فلم أر الناس يلوون على شيء ، فقال : «يا

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٧٦ ـ ٧٧).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ٧٧).

(٣) انظر الحديث فى : البداية والنهاية (٤ / ٣٣٣) ، الدر المنثور للسيوطى (٣ / ٢٢٦).

(٤) انظر : السيرة (٤ / ٧٨).

٥٢٢

عباس اصرخ : يا معشر الأنصار ، يا معشر أصحاب السمرة». قال : فأجابوا : لبيك لبيك. قال : فيذهب الرجل ليثنى بعيره ، فلا يقدر على ذلك ، فيأخذ درعه ، فيقذفها فى عنقه ، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلى سبيله فيؤم الصوت حتى ينتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا ، فكانت الدعوى أول ما كانت للأنصار ثم خلصت آخرا للخزرج ، وكانوا صبرا عند الحرب ، فأشرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم فقال : «الآن حمى الوطيس» (١).

قال جابر بن عبد الله فى حديثه : واجتلد الناس ، فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم!.

قال : والتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبى سفيان بن الحارث وكان حسن الإسلام وممن صبر يومئذ معه وهو آخذ بثغر بغلته فقال : «من هذا؟» قال : أنا ابن أمك يا رسول الله(٢).

وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما غشيه القتال يومئذ قام فى الركابين وهو على البغلة. ويقولون : نزل. فرفع يديه إلى الله يدعوه يقول : «اللهم إنى أنشدك ما وعدتنى ، اللهم لا ينبغى لهم أن يظهروا علينا». ونادى أصحابه فذمرهم : «يا أصحاب البيعة يوم الحديبية ، يا أصحاب سورة البقرة ، يا أنصار الله وأنصار رسوله ، يا بنى الخزرج». وقبض قبضة من الحصباء فحصب بها وجوه المشركين ونواحيهم كلها. وقال : «شاهت الوجوه»(٣).

فهزم الله أعداءه من كل ناحية حصبهم فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتبعهم المسلمون يقتلونهم وغنمهم الله نساءهم وذراريهم وشاههم وإبلهم ، وفر مالك بن عوف حتى دخل حصن الطائف فى ناس من أشراف قومه.

__________________

(١) ذكره الإمام أحمد فى مسنده (١٧٧٥) ، مسلم فى صحيحه (٣ / ١٣٩٨ ، ١٣٩٩ / ٧٦).

(٢) لم أقف على تخريجه فيما بين يدى من مصادر ، وقصة أبى سفيان بن الحارث أنه كان أخذ بزمام ناقة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجها البخاري فى صحيحه كتاب المغازى (٧ / ٤٣١٥) من طريق أبى إسحاق قال : سمعت البراء بن عازب ... وفيه : «فيفهم هوزان بالنبل والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بغلته البيضاء ، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطلب».

(٣) انظر الحديث فى : البداية والنهاية (٤ / ٣٣٠) ، المعجم الكبير للطبرانى (١٠ / ١٨٨) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ٨٢ ، ٨ / ٦١٩) ، دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ١٣١) ، فتح البارى لابن حجر (٧ / ٦١٩).

٥٢٣

وأسلم عند ذلك ناس كثير من أهل مكة وغيرهم حين رأوا نصر الله ورسوله وإعزاز دينه.

وحدث (١) جبير بن مطعم قال : لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم ، فنظرت فإذا نمل أسود مثبوت قد ملأ الوادى ولم أشك أنها الملائكة ، فلم تكن إلا هزيمة القوم (٢).

والتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ فرأى أم سليم بنت ملحان ، وكانت مع زوجها أبى طلحة وهى حازمة وسطها ببرد لها وإنها لحامل بعبد الله بن أبى طلحة ، ومعها جمل أبى طلحة قد خشيت أن يعزها فأدنت رأسه منها فأدخلت يدها فى خزامته مع الخطام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أم سليم؟» قالت : نعم ، بأبى أنت وأمى يا رسول الله ، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك فإنهم أهل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو يكفى الله يا أم سليم؟». وقال لها أبو طلحة : ما هذا الخنجر يا أم سليم؟ لخنجر رآه عندها. قالت : خنجر اتخذته إن دنا منى أحد من المشركين بعجته به. فقال أبو طلحة : ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم! (٣).

وحدث (٤) أنس : أن أبا طلحة استلب وحده يوم حنين عشرين رجلا (٥).

وقال أبو قتادة رأيت يوم حنين رجلين يقتتلان : مسلما ومشركا ، فإذا رجل من المشركين يريد أن يعين صاحبه المشرك على المسلم فأتيته فضربت يده فقطعتها واعتنقنى بيده الأخرى ، فو الله ما أرسلنى حتى وجدت ريح الدم.

ويروى : ريح الموت. فلو لا أن الدم نزفه لقتلنى ، فسقط فضربته فقتلته وأجهضنى عنه القتال. فلما وضعت الحرب أوزارها وفرغنا من القوم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قتل قتيلا فله سلبه. فقلت : يا رسول الله والله لقد قتلت قتيلا ذا سلب فأجهضنى عنه القتال

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٨١ ـ ٨٢).

(٢) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ١٤٦) ، تاريخ الطبرى (٢ / ١٦٩) ، تفسير ابن كثير (٤ / ٧٢).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح مسلم كتاب الجهاد باب غزوة النساء مع الرجال (٣ / ١٤٤٢ ، ١٤٤٣) ، سنن أبو داود (٢٧١٨) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ١٠٨ ، ١٠٩ ، ١٩٠ ، ٢٧٩ ، ٢٨٦).

(٤) انظر : السيرة (٤ / ٨١).

(٥) انظر الحديث فى : سنن الدارمى (٢ / ٢٤٨٤) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ١١٤ ، ١٢٣ ، ١٩٠ ، ٢٧٩) ، مستدرك الحاكم (٣ / ٣٥٣) ، ابن حبان (٧ / ٤٨١٨).

٥٢٤

فما أدرى من استلبه. فقال رجل من أهل مكة : صدق يا رسول الله فأرضه عنى من سلبه. فقال أبو بكر : لا والله لا ترضيه منه تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن دين الله تقاسمه سلبه! اردد عليه سلب قتيله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صدق اردد عليه سلبه.

قال أبو قتادة : فأخذته منه فبعته فاشتريت بثمنه مخرفا ، فإنه لأول مال اعتقدته (١).

ولما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف فى بنى مالك ، فقتل منهم سبعون رجلا تحت رايتهم ، فيهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة ومعه كانت راية بنى مالك.

وكانت قبله مع ذى الخمار ، فلما قتل أخذها عثمان فقاتل بها حتى قتل ، فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتله قال : «أبعده الله ، فإنه كان يبغض قريشا» (٢).

وكانت راية الأحلاف مع قارب بن الأسود ، فلما انهزم الناس هرب هو وقومه من الأحلاف فلم يقتل منهم غير رجلين يقال لأحدهما وهب وللآخر الجلاح ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بلغه قتل الجلاح : «قتل اليوم سيد شباب ثقيف ، إلا ما كان من ابن هنيدة» (٣). يعنى الحارث بن أويس.

ولما انهزم المشركون أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف وعسكر بعضهم بأوطاس وتوجه بعضهم نحو نخلة ، وتبعت خيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سلك فى نخلة من الناس ولم تتبع من سلك الثنايا ، فأدرك ربيعة بن رفيع وكان يقال له : ابن الدغنة ، وهى أمه غلبت على اسمه أدرك دريد بن الصمة فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة ، وذلك أنه كان فى شجار له ، فأناخ به فإذا شيخ كبير وإذا هو دريد ولا يعرفه الغلام ، فقال له دريد : ما ذا تريد بى؟ قال : أقتلك. قال : ومن أنت؟ قال : انا ربيعة بن رفيع السلمى. ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا فقال : بئس ما سلحتك أمك! خذ سيفى هذا من مؤخر الرحل ثم اضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ ، فإنى كذلك كنت أضرب الرجال ، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة فرب والله يوم قد منعت فيه نساءك.

فزعم بنو سليم أن ربيعة قال : لما ضربته فوقع تكشف فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القرطاس من ركوب الخيل أعراء. فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه فقالت : أما

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح مسلم (٣ / ١٣٧٠ ، ١٣٧١ ، ٤١) ، مسند الإمام أحمد (٥ / ٣٠٦).

(٢) انظر الحديث فى : مصنف عبد الرزاق (١١ / ١٩٩٠٤).

(٣) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٣٣٥).

٥٢٥

والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثا (١). وقالت عميرة بنت دريد ترثى أباها :

قالوا قتلنا دريدا قلت قد صدقوا

فظل دمعى على السربال ينحدر

لو لا الذي قهر الأقوام كلهم

رأت سليم وكعب كيف يأتمر (٢)

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعرى (٣) فأدرك بعض المنهزمة فناوشوه القتال ، فرمى بسهم فقتل ، فأخذ الراية أبو موسى الأشعرى (٤) ففتح الله عليه وهزمهم الله ، ويزعمون أن سلمة بن دريد هو الذي رمى أبا عامر.

وذكر ابن هشام (٥) عمن يثق به أن أبا عامر الأشعرى لقى يوم أوطاس عشرة أخوة من المشركين ، فحمل عليه أحدهم فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول : اللهم اشهد عليه ، فقتله أبو عامر ، ثم حمل عليه آخر ، فحمل عليه أبو عامر ، وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول : اللهم اشهد عليه ، فقتله أبو عامر ، ثم جعلوا يحملون عليه رجلا بعد رجل ، ويحمل أبو عامر ويقول ذلك ، حتى قتل تسعة وبقى العاشر ، فحمل على أبى عامر وحمل عليه أبو عامر ، وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول : اللهم اشهد عليه. فقال الرجل : اللهم لا تشهد على ، فكف عنه أبو عامر فأفلت ثم أسلم بعد فحسن إسلامه ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رآه قال : «هذا شريد أبى عامر» (٦) ورمى أبا عامر يومئذ ـ فيما ذكر ابن هشام ـ خوان من بنى جشم بن معاوية فأصاب أحدهما قلبه والأخر ركبته فقاتلاه ، وولى الناس أبو موسى الأشعرى فحمل عليهما فقتلهما.

وذكر ابن إسحاق (٧) أن القتل استحر فى بنى نصر بن رئاب ، فزعموا أن عبد الله

__________________

(١) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ١٤٥) ، تاريخ الطبرى (٢ / ١٧٠) ، الأصفهانى كتاب الأغانى (٩ / ١٥ ، ١٦).

(٢) ذكر فى السيرة بعد هذان البيتان بيت آخر هو :

إذن لصحبهم غبا وظاهرة

حيث استقرت نواهم جحفل دفر

انظر : السيرة (٤ / ٨٧).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣٠٩٢) ، الإصابة الترجمة رقم (١٠١٨٥) ، أسد الغابة الترجمة (٦٠٤٣).

(٤) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣٢٢٦) ، الإصابة الترجمة رقم (١٠٥٨٨) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٦٢٩٤).

(٥) انظر : السيرة (٤ / ٨٩ ـ ٩٠).

(٦) انظر الحديث فى : فتح البارى لابن حجر (٧ / ٦٣٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٣٣٨).

(٧) انظر : السيرة (٤ / ٨٧ ـ ٨٨).

٥٢٦

ابن قيس الذي يقال له : ابن العوراء ، وهو أحد بنى وهب بن رئاب ، قال : يا رسول الله ، هلكت بنو رئاب. فزعموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم اجبر مصيبتهم» (١).

وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة فوقف فى فوارس من قومه على ثنية من الطريق وقال لأصحابه : قفوا حتى يمضى ضعفاؤكم وتلحق اخراكم. فوقف هنالك حتى مضى من كان لحق بهم منهزمة الناس.

قال ابن هشام (٢) : وبلغنى أن خيلا طلعت ومالك وأصحابه على الثنية فقال لأصحابه : ما ذا ترون؟ قالوا : نرى قوما واضعى رماحهم بين آذان خيلهم طويلة بوادهم. فقال : هؤلاء بنو سليم ولا بأس عليكم منهم ، فلما أقبلوا سلكوا بطن الوادى ، ثم طلعت خيل اخرى تتبعها فقال لأصحابه : ما ذا ترون ، قالوا : نرى أقواما عارضى أرماحهم أغفالا (٣) على خيلهم. قال : هؤلاء الأوس والخزرج ولا بأس عليكم منهم ، فلما انتهوا إلى أصل الثنية سلكوا طريق بنى سليم ثم اطلع فارس فقال لأصحابه : ما ذا ترون؟ قالوا : نرى فارسا طويل الباد واضعا رمحه على عاتقه عاصبا رأسه بملاءة حمراء. فقال : هذا الزبير بن العوام وأحلف باللات ليخالطنكم فاثبتوا له. فلما انتهى الزبير إلى أصل الثنية أبصر القوم فصمد لهم فلم يزل يطاعنهم حتى أزاحهم عنها.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ : «إن قدرتم على بجاد ، رجل من بنى سعد بن بكر ، فلا يفلتنكم» ، وكان قد أحدث حدثا ، فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله ، وساقوا معه الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرضاعة ، فعنفوا عليها فى السياق فقالت للمسلمين : تعلموا والله أنى لأخت صاحبكم من الرضاعة. فلم يصدقوها حتى أتوا بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما انتهوا بها إليه قالت : يا رسول الله إنى أختك. قال : وما علامة ذلك؟ قالت عضة عضة عضضتنيها فى ظهرى وأنا متوركتك ، فعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العلامة فبسط لها رداءه فأجلسها عليه وخيرها ، فقال : إذا أحببت فعندى محبة مكرمة وإن أحببت أن أمتعك وترجعى إلى قومك فعلت ، قالت : بل تمتعنى وتردنى إلى قومى. فمتعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وردها إلى قومها. فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاما له يقال له : مكحول ، وجارية ، فزوجت أحدهما الآخر فلم يزل فيهم من نسلهما بقية (٤).

__________________

(١) انظر الحديث فى : الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ١٥٢) ، الإصابة لابن حجر (٤ / ١٢١).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ٨٨ ـ ٨٩).

(٣) أغفالا : جمع غفل ، وهو الذي لا علامة له ، يريد أنهم لم يتخذوا لأنفسهم علامة يعرفون بها.

(٤) انظر الحديث فى : تاريخ الطبرى (٢ / ١٧١) ، الإصابة لابن حجر (٨ / ١٢٣) ، الاستيعاب لابن ـ

٥٢٧

وأنزل الله تبارك وتعالى فى يوم حنين (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) [التوبة : ٢٥ ، ٢٦].

واستشهد من المسلمين يوم حنين من قريش ثم من بنى هاشم : أيمن بن عبيد (١) مولاهم. ومن بنى أسد بن عبد العزى يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب (٢) ، جمح به فرس يقال له الجناح فقتل.

ومن الأنصار : سراقة بن الحارث العجلانى (٣). ومن الأشعريين أبو عامر الأشعرى.

ثم جمعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبايا حنين وأموالها فأمر بها إلى الجعرانة فحبست بها حتى أدركها هنالك منصرفه عن الطائف على ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى.

وقال عباس بن مرداس السلمى (٤) فى يوم حنين (٥) :

عفا مجدل من أهله فمتالع

فمطلا أريك قد خلافا لمصانع

ديار لنا يا جمل إذ جل عيشنا

رخى وصرف الدهر للحى جامع

حبيبة ألوت بها غربة النوى

لبين فهل ماض من العيش راجع

فإن تبتغى الكفار غير ملومة

فإنى وزير للنبى وتابع

دعانا إليه خير وفد علمتم

خزيمة والمرار منهم وواسع

__________________

ـ عبد البر الترجمة رقم (١٨٧٠ ، ٤٠٠٣) ، أسد الغابة لابن الأثير (٧ / ١٦٦ ، ١٦٧).

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٣١) ، الإصابة الترجمة رقم (٣٩٤) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٥٣) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٤١) ، معرفة الصحابة (٢ / ٣٧٢).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٨٠٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٩٢٨٠) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥٥٥٢).

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٩١٦) ، الإصابة الترجمة رقم (٣١١٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٩٤٨).

(٤) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٣٨٧) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٥٢٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٨٠١) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢٩٥) ، تاريخ جرجان (٢٨١) ، تقريب التهذيب (١ / ٣٩٩) ، تهذيب التهذيب (٥ / ١٣٠) ، خلاصة تذهيب (٢ / ٣٧) ، تهذيب الكمال (٢ / ٦٦٠) ، الأعلام (٣ / ٢٦٧).

(٥) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ٩٥ ـ ٩٦).

٥٢٨

فجئنا بألف من سليم عليهم

لبوس لهم من نسج داود رائع

نبايعه بالأخشبين وإنما

يد الله بين الأخشبين نبايع

فجسنا مع المهدى مكة عنوة

بأسيافنا والنقع كاب وساطع

علانية والخيل يغشى متونها

حميم وآن من دم الجوف ناقع

ويوم حنين حين سارت هوازن

إلينا وضاقت بالنفوس الأضالع

صبرنا مع الضحاك لا يستفزنا

قراع الأعادى منهم والوقائع

أمام رسول الله يخفق فوقنا

لواء كخدروف السحابة لامع

عشية ضحاك بن سفيان معتص

بسيف رسول الله والموت كانع

نذود أخانا عن أخينا ولو نرى

مصالا لكنا الأقربين نتابع

ولكن دين الله دين محمد

رضينا به فيه الهدى والشرائع

أقام به بعد الضلالة أمرنا

وليس لأمر حمه الله دافع

وقال عباس أيضا (١) :

تقطع باقى وصل أم مؤمل

بعاقبة واستبدلت نية خلفا

وقد حلفت بالله لا تقطع النوى

فما صدقت فيه ولا برت الحلفا

خفافية بطن العقيق مصيفها

وتحتل فى البادين وجرة فالعرفا (٢)

فإن تتبع الكفار أم مؤمل

فقد زودت قلبى على نأيها شغفا

وسوف ينبيها الخبير بأننا

أبينا ولم نطلب سوى ربنا حلفا

وإنا مع الهادى النبيّ محمد

وفينا ولم نستوفها معشر ألفا

بفتيان صدق من سليم أعزة

أطاعوا فما يعصون من أمره حرفا

خفاف وذكوان وعوف تخالهم

مصاعب زافت فى طروقتها كلفا

كأن النسيج الشهب والبيض ملبس

أسودا تلاقت فى مراصدها غضفا (٣)

بنا عز دين الله غير تنحل

وزدنا على الحى الذي معه ضعفا

بمكة إذ جئنا كأن لواءنا

عقاب أرادت بعد تحليقها خطفا

على شخص الأبصار تحسب بينها

إذا هى جالت فى مواردها عزفا

__________________

(١) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ٩٦ ـ ٩٧).

(٢) خفافية : منسوبة إلى بنى خفاف وهم حى من سليم. مصيفها : المكان الذي تقيم فيه فى الصيف.

(٣) غضفا : الغضف : جمع أغضف وهو المسترخى الأذنين.

٥٢٩

غداة وطئنا المشركين ولم نجد

لأمر رسول الله عدلا ولا صرفا

بمعترك لا يسمع القوم وسطه

لنا [زجمة] (٤) إلا التذامر والنقفا

ببيض تطير الهام عن مستقرها

وتقطف أعناق الكماة بها قطفا

فكاين تركنا من قتيل ملحب

وأرملة تدعو على بعلها لهفا

رضا الله ننوى لا رضا الناس نبتغى

ولله ما يبدو جميعا وما يخفى

وقال عباس أيضا (١) :

ما بال عينك فيها عائر سهر

مثل الحماطة أغضى فوقها الشفر

عين تأوبها من شجوها أرق

فالماء يغمرها طورا وينحدر

كأنه نظم در عند ناظمه

تقطع السلك منه فهو منتثر

ما بعد منزل من ترجو مودته

ومن أتى دونه الصمان فالحفر

دع ما تقدم من عهد الشباب فقد

ولى الشباب وزار الشيب والزعر

واذكر بلاء سليم فى مواطنها

وفى سليم لأهل الفخر مفتخر

قوم هم نصروا الرحمن واتبعوا

دين الرسول وأمر الناس مشتجر

الضاربون جنود الشرك ضاحية

ببطن مكة والأرواح تبتدر

حتى رفعنا وقتلاهم كأنهم

نخل بظاهرة البطحاء منقعر

ونحن يوم حنين كان مشهدنا

للدين عزا وعند الله مدخر

إذ نركب الموت مخضرا بطائنه

والخيل ينجاب عنها ساطع كدر

تحت اللوامع والضحاك يقدمنا

كما مشى الليث فى غاباته الخدر

فى مأزق من مجر الحرب كلكلها

تكاد تأفل منه الشمس والقمر

وقد صبرنا بأوطاس أسنتنا

لله ننصر من شئنا وننتصر

حتى تأوب أقوام منازلهم

لو لا المليك ولو لا نحن ما صدروا

فما ترى معشرا قلوا ولا كثروا

إلا قد أصبح منا فيهم أثر

وقال عباس بن مرداس أيضا رضى الله عنه (٢) :

يا أيها الرجل الذي تهوى به

وجناء مجمرة المناسم عرمس

__________________

(٤) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل : «رحمة» ، والتصحيح من السيرة. وزجمة : تقول ما زجم فلان أى ما نطق بكلمة.

(١) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ٩٧ ـ ٩٨).

(٢) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ٩٨ ـ ٩٩).

٥٣٠

إما أتيت على النبيّ فقل له

حقا عليك إذا اطمأن المجلس

يا خير من ركب المطى ومن مشى

فوق التراب إذا تعد الأنفس

إنا وفينا بالذى عاهدتنا

والخيل تقدع بالكماة وتضرس

إذ سال من أفناء بهثة كلها

جمع تظل به المخارم ترجس

حتى صبحنا أهل مكة فيلقا

شهباء يقدمها الهمام الأشوس

من كل أغلب من سليم فوقه

بيضاء محكمة الدخال وقونس

وعلى حنين قد وفى من جمعنا

ألف أمد به الرسول عرندس

كانوا أمام المؤمنين دريئة

والشمس يومئذ عليها أشمس

نمضى ويحرسنا الإله بحفظه

والله ليس بضائع من يحرس

ولقد حبسنا بالمناقب محبسا

رضى الإله بهم فنعم المحبس

وغداة أوطاس شددنا شدة

كفت العدو وقيل منها يحبس

ندعو هوازن بالإخاءة بيننا

ثدى تمد به هوازن أيبس

حتى تركنا جمعهم وكأنه

عير تعاقبه السباع مفرس

وقال عباس بن مرداس أيضا (١) :

نصرنا رسول الله من غضب له

بألف كمى لا تعد حواسره

حملنا له فى عامل الرمح راية

يذود بها فى حومة الموت ناصره

ونحن خضبناها دما فهو لونها

غداة حنين يوم صفوان شاجره

وكنا على الإسلام ميمنة له

وكان لنا عقد اللواء وشاهره

وكنا له يوم الجنود بطانة

يشاورنا فى أمره ونشاوره

دعانا فسمانا الشعار مقدما

وكنا له عونا على من يناكره

جزى الله خيرا من نبى محمدا

وأيده بالنصر والله ناصره

غزوة الطائف (٢)

ولما قدم فل الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها ، وصنعوا الصنائع للقتال ، ولم

__________________

(١) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ٩٩).

(٢) راجع هذه الغزوة فى : المنتظم لابن الجوزى (٣ / ٣٤١) ، مغازى الواقدى (٣ / ٩٢٢) ، طبقات ابن سعد (٢ / ١ / ١١٤) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٨٢).

٥٣١

يشهد حنينا ولا الطائف عروة بن مسعود (١) ولا غيلان بن سلمة (٢) ، كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور.

ثم سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الطائف حين فرغ من حنين ، فقال كعب بن مالك حين أجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم السير إليها (٣) :

قضينا من تهامة كل ريب

وخيبر ثم أجممنا السيوفا

نخيرها ولو نطقت لقالت

قواطعهن دوسا أو ثقيفا

فلست لحاضن إن لم تروها

بساحة دار كم منا ألوفا

وننتزع العروش ببطن وج

وتصبح دوركم منكم خلوفا

ويأتيكم لنا سرعان خيل

يغادر خلفه جمعا كثيفا

إذا نزلوا بساحتكم سمعتم

لها مما أناخ بها رجيفا

بأيديهم قواضب مرهفات

يزرن المصطلين بها الحتوفا

كأمثال العقائق أخلصتها

قيون الهند لم تضرب كتيفا

تخال جدية الأبطال فيها

غداة الروع جاديا مدوفا

أجدهم أليس لهم نصيح

من الأقوام كان بنا عريفا

يخبرهم بأنا قد جمعنا

عتاق الخيل والنجب الطروفا

وأنا قد أتيناهم بزحف

يحيط بسور حصنهم صفوفا

رئيسهم النبيّ وكان صلبا

نقى القلب مصطبرا عزوفا

رشيد الأمر ذا حكم وعلم

وحلم لم يكن نزقا خفيفا

نطيع نبينا ونطيع ربا

هو الرحمن كان بنا رءوفا

فإن تلقوا إلينا السلم نقبل

ونجعلكم لنا عضدا وريفا

وإن تأبوا نجاهدكم ونصبر

ولا يك أمرنا رعشا ضعيفا

نجالد ما بقينا أو تنيبوا

إلى الإسلام إذعانا مضيفا

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٨٢٣) ، الإصابة الترجمة رقم (٥٥٤٢) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٣٨٠) ، الأعلام (٤ / ٢٢٧) ، الثقات (٣ / ٣١٣) ، التحفة اللطيفة (٣ / ١٨٧) ، تبصير المنتبه (٤ / ١٤٩٥) ، العبر (١ / ١٠).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٠٩٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٦٩٤٠) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤١٩٠).

(٣) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ١٠٦ ـ ١٠٨).

٥٣٢

نجاهد لا نبالى ما لقينا

أأهلكنا التلاد أم الطريفا

وكم من معشر ألبوا علينا

صميم الجذم منهم والحليفا

أتونا لا يرون لهم كفاء

فجدعنا المسامع والأنوفا

بكل مهند لين صقيل

نسوقهم بها سوقا عنيفا

لأمر الله والإسلام حتى

يقوم الدين معتدلا حنيفا

وتنسى اللات والعزى وود

ونسلبها القلائد والشنوفا

فأمسوا قد أقروا واطمأنوا

ومن لا يمتنع يقبل خسوفا

وسلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نخلة اليمانية ، وانتهى إلى بحرة الرغاة (١) فابتنى بها مسجدا فصلى فيه وأقاد فيها يومئذ بدم رجل من هذيل قتله رجل من بنى ليث فقتله به ، وهو أول دم أقيد به فى الإسلام ، وأمر فى طريقه بحصن مالك بن عوف فهدم.

ثم سلك فى طريق فسأل عن اسمها فقيل له : الضيقة. فقال : «بل هى اليسرى». ثم خرج منها حتى نزل تحت سدرة يقال لها : الصادرة قريبا من مال رجل من ثقيف ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إما أن تخرج ، وإما أن نخرب عليك حائطك» ، فأبى أن يخرج فأمر بإخرابه.

ثم مضى حتى نزل قريبا من الطائف ، فضرب به عسكره ، فقتل ناس من أصحابه بالنبل ، وذلك أن العسكر اقترب من حائط الطائف ، فكانت النبل تنالهم ، ولم يقدر المسلمون على أن يدخلوا حائطهم ، أغلقوه دونهم.

فلما أصيب أولئك النفر من أصحابه بالنبل وضع عسكره عند مسجده الذي بالطائف اليوم فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة ، وقيل (٢) : بضع عشرة ليلة ومعه امرأتان من نسائه ، إحداهما أم سلمة ، فضرب لهما قبتين ، ثم صلى بينهما ، فلما أسلمت ثقيف بنى عمرو بن أمية بن وهب بن معتب بن مالك على مصلاه ذلك مسجدا ، وكانت فيه سارية فيما يزعمون لا تطلع الشمس عليها يوما من الدهر إلا سمع لها نقيض ، فحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقاتلهم قتالا شديدا ، وتراموا بالنبل (٣).

ورماهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمنجنيق فيما ذكر ابن هشام ، قال : وهو أول من رمى به فى الإسلام إذ ذاك (٤).

__________________

(١) بحرة الرغاء : هو موضع من أعمال الطائف قرب ليّة. انظر : معجم البلدان (١ / ٣٤٦).

(٢) هذا من كلام ابن هشام ، قال : ويقال : سبع عشرة ليلة. انظر : السيرة (٤ / ١٠٩).

(٣) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٤ / ٣٤٦) ، الطبرى فى تاريخه (٢ / ١٧٢).

(٤) انظر : السيرة (٤ / ١١٠) ، وذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٤ / ٣٤٨).

٥٣٣

حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف دخل نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت دبابة ثم رجعوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه ، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار ، فخرجوا من تحتها فرمتهم بالنبل فقتلوا منهم رجالا ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع أعتاب ثقيف فوقع الناس فيها يقطعون ، وتقدم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة إلى الطائف فناديا ثقيفا أن آمنونا حتى نكلمكم فآمنوهما. فدعوا نساء من نساء قريش وبنى كنانة منهن ابنة أبى سفيان ليخرجن إليهما وهما يخافان عليهن السباء فأبين ، فلما أبين قال لهما الأسود بن مسعوديا أبا سفيان ويا مغيرة ألا أدلكما على خير مما جئتما له؟ إن مال بنى الأسود حيث علمتما ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نازلا بينه وبين الطائف بواد يقال له العقيق ، إنه ليس بالطائف مال أبعد رشاء وأشد مئونة ولا أبعد عمارة من مال بنى الأسود ، وإن محمدا إن قطعه لم يعمر أبدا ، فكلماه فليأخذه لنفسه او ليدعه لله وللرحم ، فإن بيننا وبينه من القرابة ما لا يجهل.

فزعموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تركه لهم. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ذكر لأبى بكر الصديق رضى الله عنه وهو محاصر ثقيفا : «يا أبا بكر ، إنى رأيت إنى أهديت إلى قعبة مملوءة زبدا ، فنقرها ديك ، [فهراق] (١) ما فيها». فقال : ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأنا لا أرى ذلك» (٢).

ثم إن خويلة بنت حكيم السلمية (٣) ، امرأة عثمان بن مظعون قالت : يا رسول الله أعطنى إن فتح الله عليك الطائف حلى بادية بنت غيلان ، أو حلى الفارعة ابنة عقيل. وكانتا من أحلى نساء ثقيف. فذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها : «وإن كان لم يؤذن فى ثقيف يا خويلة؟» فخرجت خويلة ، فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب رضى الله عنه ، فدخل عمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ما حديث حدثتنيه خويلة ، زعمت أنك قلته؟ قال : «قد قلته». قال : أو ما أذن فيهم يا رسول الله؟ قال : «لا». قال : أفلا أؤذن بالرحيل؟ قال : «بلى» ، فأذن عمر بالرحيل (٤).

__________________

(١) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وما أوردناه من السيرة.

(٢) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٤ / ٣٥٠).

(٣) انظر ترجمتها فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣٣٥٥) ، الإصابة الترجمة رقم (١١١١٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٦٨٨٨) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ٢٦٤) ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (٣ / ٣٨٠).

(٤) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ١٦٨ ـ ١٦٩) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (٤ / ٣٥٠).

٥٣٤

فلما استقل الناس نادى سعيد بن عبيد : ألا إن الحى مقيم. يقول عيينة بن حصن(١): أجل ، والله مجدة كراما! فقال له رجل من المسلمين : قاتلك الله يا عيينة؟ أتمدح المشركين بالامتناع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد جئت تنصره؟ قال : إنى والله ما جئت لأقاتل ثقيفا معكم ، ولكنى أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب من ثقيف جارية أتطئها لها تلد لى رجلا فإن ثقيفا قوم مناكير.

ونزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى إقامته عليهم عبيد لهم فأسلموا فأعتقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أسلم أهل الطائف تكلم نفر منهم فى أولئك العبيد (٢) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ، أولئك عتقاء الله» (٣).

واستشهد بالطائف من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اثنا عشر رجلا ، سبعة من قريش وأربعة من الأنصار ورجل من بنى ليث (٤).

ثم انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الطائف حتى نزل الجعرانة وإليها كان قدم سبى هوازن وأموالهم (٥) ، وقال له رجل من أصحابه يوم ظعن عن ثقيف : يا رسول الله ، ادع عليهم فقال : «اللهم اهد ثقيفا وائت بهم» (٦).

ثم أتاه وفد هوازن بالجعرانة ، وقد أسلموا ، وكان معه من سبيهم ستة آلاف من الذرارى والنساء ومن الإبل والشاء ما لا يدرى ما عدته ، فقالوا : يا رسول الله إنا أهل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا من الله عليك ، وقام رجل منهم من سعد بن بكر يقال له : زهير ، يكنى بأبى صرد ، فقال : يا رسول الله ، إنما فى الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللائى كن يكفلنك ، ولو أنا ملحنا للحارث بن

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٠٧٨) ، الإصابة الترجمة رقم (٦١٦٦) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤١٦٦) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٤٣٢) ، الاستبصار (٩٤ ، ٩٥) ، العبر (١٢ ، ١٣) ، الثقات (٣ / ٣١٢).

(٢) ذكر ابن إسحاق فى السيرة (٤ / ١١٢) ، إنه كان ممن تكلم فيهم الحارث بن كلدة.

(٣) انظر الحديث فى : تاريخ الطبرى (٤ / ٣٤٨) ، دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ١٥٩).

(٤) قد سمهم ابن إسحاق فى السيرة (٤ / ١١٣ ـ ١١٤).

(٥) راجع أمر أموال هوازن وسباياها فى : تاريخ الطبرى (٢ / ١٧٣) ، الكامل فى التاريخ (٢ / ٢٦٨) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ١٥٢ ، ١٥٣) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (٢ / ١٩٣).

(٦) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ٣٤٣) ، سنن الترمذى (٥ / ٣٩٤٢).

٥٣٥

أبى شمر أو للنعمان بن المنذر ، ثم نزلا منا بمثل ما نزلت به رجونا عطفه ، وعائدته علينا ، وأنت خير المكفولين. ثم أنشأ يقول :

امنن علينا رسول الله فى كرم

فإنك المرء نرجوه وننتظر

امنن على بيضة قد عاقها قدر

مفرق شملها فى دهرها غير

أبقت لنا الحرب هتافا على حزن

على قلوبهم الغماء والغمر

إن لم تداركهم نعماء تنشرها

يا أرجح الناس حلما حين يختبر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها

إذ فوك تملأه من محضها الدرر

إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها

وإذ يزينك ما تأتى وما تذر

لا تجعلنا كمن شالت نعامته

واستبق منه فإنا معشر زهر

إنا لنشكر للنعمى وقد كفرت

وعندنا بعد هذا اليوم مدخر

فألبس العفو من قد كنت ترضعه

من أمهاتك إن العفو يشتهر

إنا نؤمل عفوا منك تلبسه

هذى البرية أن تعفو وتنصر

فاعف عفا الله عما أنت راهبه

يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم»؟ فقالوا : يا رسول الله ، خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا ، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا فهو أحب إلينا. فقال لهم : «أما ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم وإذا أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا : إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين ، وبالمسلمين إلى رسول الله فى أبنائنا ونسائنا. فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم».

فلما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر قاموا فتكلموا بالذى أمرهم به ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم» ، فقال المهاجرون : وما كان لنا فهو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقالت الأنصار : ما كان لنا فهو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال الأقرع بن حابس (١) : أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيينة بن حصن : أما أنا وبنو فزارة فلا.

وقال عباس بن مرداس : أما أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم : بلى ما كان لنا فهو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال عباس : وهنتمونى؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما من تمسك منكم

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٦٩) ، الإصابة الترجمة رقم (٢٣١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٠٨) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢٦) ، الوافى بالوفيات (٩ / ٣٠٧) ، تهذيب تاريخ دمشق (٣ / ٨٩) ، تنقيح المقال (١٠٣٤) ، الثقات (٣ / ١٨) ، الجامع فى الرجال (٢٨١) ، التحفة اللطيفة (١ / ٣٣٧) ، جامع الرواة (١ / ١٠٧).

٥٣٦

بحقه من هذا السبى فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء أصيبه ، فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم» (١).

وكان عيينة بن حصن أخذ عجوزا من عجائزهم وقال حين أخذها : أرى عجوزا ، إنى لأحسب أن لها فى الحى نسبا وعسى أن يعظم فداؤها. فلما رد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم السبايا بست فرائض أبى أن يردها ، فقال له زهير أبو صرد : خذها عنك فو الله ما فوها ببارد ، ولا ثديها بناهد ، ولا بطنها بوالد ، ولا زوجها بواجد ، ولا درها بماكد ، فردها بست فرائض حين قال له زهير ما قال (٢).

وسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد هوازن : «ما فعل مالك بن عوف؟» فقالوا : هو بالطائف مع ثقيف. فقال لهم : «أخبروا مالكا أنه إن أتانى مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل». فأتى مالك بذلك فخاف ثقيفا أن يعلموا بما قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيحسبوه ، فأمر براحلته فهيئت له ، وأمر بفرس له فأتى به بالطائف ، فخرج ليلا على فرسه حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس فركبها فلحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأدركه بالجعرانة أو بمكة ، فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل وأسلم فحسن إسلامه (٣). وقال :

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله

فى الناس كلهم بمثل محمد

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى

ومتى تشأ يخبرك عما فى غد

وإذا الكتيبة عردت أنيابها

بالسمهرى وضرب كل مهند

فكأنه ليث على أشباله

وسط الهباءة خادر فى مرصد

فاستعمله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من أسلم من قومه فكان يقاتل بهم ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم فقال أبو محجن بن حبيب الثقفى (٤) :

__________________

(١) انظر الحديث فى : سنن أبى داود كتاب الجهاد (٢٦٩٤) ، السنن الكبرى للبيهقى (٦ / ٣٣٦ ، ٣٣٧) ، مسند الإمام أحمد (٢ / ١٨٤ ، ٢١٨) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٨٧ ، ١٨٨).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ١١٩) ، وذكر هناك زيادة بعد هذا وهى : «... فزعموا أن عيينة لقيه الأقرع بن حابس ، فشكا إليه ذلك ، فقال : إنك والله ما أخذتها ببيضاء غريرة ، ولا نصفا وثيرة». قلت : ذكره البيهقي فى دلائل النبوة (٥ / ١٩٣) ، الهيثمى فى المجمع (٦ / ١٨٨).

(٣) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ١٩٨) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٨٩).

(٤) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣١٩٣) ، الإصابة الترجمة رقم (١٠٥٠٧) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٦٢٢٨) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ٢٠٠).

٥٣٧

هابت الأعداء جانبنا

ثم تغزونا بنو سلمه

وأتانا مالك بهم

ناقضا للعهد والحرمه

ولما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من رد سبايا حنين إلى أهلها ركب واتبعه الناس يقولون : يا رسول الله ، اقسم علينا فيئنا. للإبل والغنم ، حتى ألجئوه إلى شجرة فاختطفت عنه رداءه فقال : «ردوا على ردائى أيها الناس ، فو الله إن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ، ثم ما ألفيتمونى بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا» (١).

ثم قام إلى جنب بعير فأخذ وبرة من سنامه فرفعها ثم قال : «أيها الناس ، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخائط والمخيط ، فإن الغلول يكون على أهله عارا وشنارا ونارا يوم القيامة» ، فجاء رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال : يا رسول الله ، أخذت هذه الكبة أعمل بها برذعة بعير لى دبر. فقال : «أما نصيبى منها فلك». قال : أما إذا بلغت ذلك فلا حاجة لى بها. ثم طرحها من يده(٢).

ويروى (٣) أن عقيل بن أبى طالب دخل يوم حنين على امرأته فاطمة بنت شيبة وسيفه متلطخ دما فقالت : إنى قد عرفت أنك قد قاتلت فما ذا أصبت من غنائم المشركين؟ قال : دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك. فدفعها إليها فسمع منادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من أخذ شيئا فليرده حتى الخائط والمخيط. فرجع عقيل فقال : ما أرى إبرتك إلا قد ذهبت! وأخذها فألقاها فى الغنائم.

وأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤلفة قلوبهم ، وكانوا أشرافا من أشراف الناس ، يتألفهم ويتألف بهم قومهم ، فأعطى أبا سفيان بن حرب وابنه معاوية وحكيم بن حزام والحارث بن الحارث بن كلدة ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى وصوفان بن أمية ، وكل هؤلاء من أشراف قريش ، والأقرع بن حابس التميمى وعيينة بن حصن الفزارى ومالك بن عوف النصرى ، أعطى كل واحد من هؤلاء المسلمين من قريش وغيرهم مائة بعير ، وأعطى دون المائة رجالا من قريش منهم

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٦ / ٢٨٢١) ، مسند الإمام أحمد (٤ / ٨٤) ، مصنف عبد الرزاق (٥ / ٩٤٩٧).

(٢) انظر الحديث فى : السنن الكبرى للبيهقى (٩ / ١٠٢) ، موطأ مالك (٢ / ٤٥٧ ، ٤٥٨) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٥ / ٣٣٩).

(٣) انظر : السيرة (٤ / ١٢١).

٥٣٨

مخرمة بن نوفل وعمير بن وهب ، وأعطى سعيد بن يربوع المخزومى وعدى بن قيس السهمى خمسين خمسين ، وأعطى عباس بن مرداس أباعر فسخطها وقال يعاتب فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم :

وكانت نهابا تلافيتها

بكرى على المهر فى الأجرع

وإيقاظى القوم أن يرقدوا

إذا هجع الناس لم أهجع

فأصبح نهبى ونهب العبي

د بين عيينة والأقرع

وقد كنت فى الحرب ذا تدرأ

فلم أعط شيئا ولم أمنع

إلا أفائل أعطيتها

عديد قوائمه الأربع

وما كان حصن ولا حابس

يفوقان مرداس فى مجمع

وما كنت دون امرئ منهما

ومن تضع اليوم لا يرفع

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اذهبوا فاقطعوا عنى لسانه» (١) ، فأعطوه حتى رضى ، فكان ذلك قطع لسانه.

وذكر ابن هشام (٢) أن عباسا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت القائل :

فأصبح نهبى ونهب العبي

د بين الأقرع وعيينة»

فقال أبو بكر : بين عيينة والأقرع ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هما واحد». فقال أبو بكر : أشهد أنك كما قال الله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) [يس : ٦٩] (٣).

وذكر ابن عقبة ان عباسا لما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع لسانه فزع لها وقال : من لا يعرف أمر عباس يمثل به ، فأتى به إلى الغنائم فقيل له : خذ منها ما شئت ، فقال عباس : إنما أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقطع لسانى بالعطاء بعد أن تكلمت فتكرم أن يأخذ منها شيئا ، فبعث إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحلة فقبلها ولبسها.

وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائل من أصحابه : يا رسول الله ، أعطيت عيينة بن حصن والقرع بن حابس مائة مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمرى؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح مسلم (٢ / ٧٣٧ ، ٧٣٨) ، كشفا الخفاء للعجلونى (١ / ١٨٢ ، ٤٨٤).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ١٢٣).

(٣) انظر الحديث فى : تاريخ ابن كثير (٤ / ٣٦٠).

٥٣٩

«أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع ولكنى تألفتهما ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه» (١).

وجاء رجل من بنى تميم يقال له : ذو الخويصرة فوقف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يعطى الناس فقال : يا محمد ، قد رأيت ما صنعت فى هذا اليوم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أجل ، فكيف رأيت؟» قال : لم أرك عدلت. فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «ويحك! إذا لم يكن العدل عندى فعند من يكون؟» فقال عمر بن الخطاب : ألا نقتله؟ فقال : «لا ، دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون فى الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية ، ينظر فى النصل فلا يوجد شيء ، ثم فى القدح فلا يوجد شيء ، ثم فى الفوق فلا يوجد شيء ، سبق الفرث والدم» (٢).

ولما أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أعطى فى قريش وفى قبائل العرب ولم يعط الأنصار شيئا ، وجدوا فى أنفسهم حتى كثرت منهم القالة وحتى قال قائلهم : لقى والله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه.

وذكر ابن هشام (٣) أن حسان بن ثابت قال يعاتبه فى ذلك :

زاد الهموم فماء العين منحدر

سحا إذا حفلته عبرة درر

وجدا بشماء إذ شماء بهكنة

هيفاء لا ذنن فيها ولا خور

دع عنك شماء إذ كانت مودتها

نزرا وشر وصال الواصل النزر

وائت الرسول فقل يا خير مؤتمن

للمؤمنين إذا ما عدد البشر

علام تدعى سليم وهى نازحة

قدام قوم هم آووا وهم نصروا

سماهم الله أنصارا ينصرهم

دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا فى سبيل الله واعترفوا

للنائبات وما خافوا وما ضجروا

والناس إلب علينا فيك ليس لنا

إلا السيوف وأطراف القنا وزر

نجالد الناس لا نبقى على أحد

ولا نضيع ما توحى به السور

ولا تهز جناة الحرب نادينا

ونحن حين تلظى نارها سعر

كما رددنا ببدر دون ما طلبوا

أهل النفاق وفينا ينزل الظفر

__________________

(١) انظر الحديث فى : الطبقات الكبرى لابن سعد (٤ / ٢٤٦) ، حلية الأولياء لأبى نعيم (١ / ٣٥٣).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح مسلم (٢ / ٧٤٤ ، ٧٤٥ ، ١٤٨) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ٢٨٨).

(٣) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ١٢٦).

٥٤٠